|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (143) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (10) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76). فيه فوائد: الفائدة الأولى: في الآية دلالة أن الله لم يستجب لمجادلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في قوم لوط في صرف العذاب عنهم أو تأخيره؛ إذ إنهم ليسوا أهلًا لإجابة الدعاء فيهم لإجرامهم، وهذا دليل على أن صاحب المنزلة العظيمة عند الله ولو كانت النبوة والرسالة، بل الخُلَّة لا يملك من الأمر شيئًا؛ فإن الأمر كله لله، كما قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128). وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. فَأَنْزَلَ اللهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). وفي رواية له: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)". وقد تاب الله -عز وجل- على هؤلاء فأسلموا. وروى مسلم: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ)، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). وفي رواية الترمذي: (فَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِلإِسْلَامِ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح"). وعن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟!) فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (متفق عليه). فالأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ليسوا شركاء لله في أمره، بل الأمر كله له يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، فهو يعذب من يستحق العذاب ويرحم من يريد أن يمن عليه بفضله ورحمته، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دعا لعمه أن يغفر الله له، كما وعد فقال: (أَمَا وَاللهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) (متفق عليه)، وأنزل الله عليه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) (التوبة: 113-114). وقد سبق بيان ذلك. هذا كله من أعظم أدلة التوحيد، وهذا من الحِكَم البالغة في تقدير الله -تعالى- مثل هذا على أنبيائه ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (144) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (11) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76). الفائدة الثانية: قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) دليل على أن من استمر في العناد للشرع، والمخالفة لما جاءت به الرسل، وزادته الموعظة طغيانًا وجبروتًا؛ فالمشروع الإعراض عنه، والإعراض عن الدعاء له؛ لعدم أهليته لذلك. والمشروع هو الانشغال بغيره، وبغير ذلك من أنواع الطاعات، وقد قال الله -تعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) (النجم: 29-30)، وقال -تعالى- له أيضًا: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر: 94)، وقال -تعالى-: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ . وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 54-55). فينشغل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثله العلماء والدعاة مِن بعده، بتذكير مَن تنفعه الذكرى مِن المؤمنين، وتربيتهم على الدِّين، ولا يضيعوا عمرهم مع المعرضين المجرمين ممَّن ظهر إجرامُه وكفره، وعناده وتوليه. وأنواع العبودية كثيرة، ومن أعظمها: إعداد الطائفة المؤمنة والأفراد المؤمنين، ولو لم يكونوا وقت التربية والتعليم مِن ذوي الجاه والمنزلة؛ قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) (عبس: 1-12). الفائدة الثالثة: قال -تعالى-: (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) مع أن العذاب لم ينزل بعد بقوم لوط؛ ففي هذا دليل على أن ما وَعَد الله به من هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين، يقينٌ لا يجوز أن يشك فيه أحدٌ، فهو كأنه قد كان، وهذا هو السر في استعمال الفعل الماضي في أمر المستقبل؛ لأنه يقينٌ فكأنه قد وقع، فلا يستبطئه المؤمنون، كقوله -تعالى-: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل: 1)، ولو كان قد نزل لما كان هناك معنى لاستعجاله، ولكن (أَتَى) بمعنى سيأتيه، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 97-99). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)؛ دَلَّ على نفوذ أمر الله في قوم لوط، ومع ذلك فكان آخر يومٍ في دعوة لوط -عليه الصلاة والسلام- لهم قبل هلاكهم، هو اليوم العصيب على لوط -عليه السلام- في كمال المحنة والابتلاء؛ لتحصيل كمال الثواب والأجر العظيم عند الله، فأمر الله أتى، ووعد الله بنصر المؤمنين حق عليه -سبحانه- أحقه على نفسه، والابتلاء بشدة أذى الكفار وإجرامهم وإفسادهم، مع ذلك لا بد أن يكون، ولابد أن يقع؛ فاصبروا عباد الله، (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (145) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (1) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). إن مِن أعظم نعم الله على عبده المؤمن اجتباءه واصطفاءه، واختياره للمنازل العالية والمراتب السامية، وأعظم الاجتباء: الاصطفاء للنبوة والرسالة، وأعظم من ذلك: اجتباؤه بالخلة، وقد خص الله بها رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأباه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله عنه: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فدل ذلك على أن الخلة أعظم المنازل، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن إبراهيم في حديث الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)؛ للدلالة على علوِّ منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخلة فوق جميع الخلق. وشهود الاجتباء والاصطفاء نعمة فوق النعمة، ومِنَّة فوق المنة، وبها يؤخذ قلب العبد إلى الله حبًّا وشوقًا، ورجاءً ورغبة، وخوفًا أن ينزع منه الاجتباء والاختيار والاصطفاء، فيتعلق القلب بالله وحده دون من سواه، وقد قص الله علينا في سورة يوسف هذا الحوار بين يعقوب ويوسف -صلى الله عليهما وسلم-، وهذا الحوار في القرآن من نعم الله علينا؛ لنتعلم كيف تكون التربية المهيِّئة للصلاح والنبوة، ولنا فيها نصيب الصلاح لمن أراد سلوك الأنبياء، وربك يخلق ما يشاء ويختار. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات: "يقول -تعالى- مخبرًا عن قول يعقوب لولده يوسف -صلى الله عليهما وسلم-: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، كذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لنبوته، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ) وهو الخليل، (وَإِسْحَاقَ) ولده، وهو الذبيح في قولٍ، وليس بالرجيح -(قلتُ: دَلَّ القرآنُ على أن الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق؛ لأن الله -عز وجل- قال بعد ذكر قصة الذبح والفداء: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 112)، فكان التبشير بإسحاق بعد أن بذل إبراهيم ولده بكره إسماعيل لله -عز وجل-، وكذا قال -سبحانه- في البشارة بإسحاق: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71)، فيكون لإسحاق ولد هو يعقوب في حياة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ فدل ذلك على أنه لم يكن ليذبح صغيرًا؛ لأن البشارة كانت بولدٍ له، وهذا لا يحصل عند بلوغ السعي، فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-)-، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: هو أعلم حيث يجعل رسالاته" (انتهى من تفسير ابن كثير). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: هذه الجلسة التربوية الإيمانية الرائعة التي أثرت في يوسف -صلى الله عليه وسلم- عمره كله، وظل أثرها عبر السنين رغم الفراق الطويل، قصها الله علينا ليعلمنا كيف يغرس الإيمان والحب لله في القلب لتكون القدوة والأسوة للآباء والمربين في توجيه الأبناء والتلاميذ، فيخبر الله عن قول يعقوب ليوسف -عليهم الصلاة والسلام-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: كما اختارك وأراك سجود هذه الكواكب والشمس والقمر لك، فكذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لفضله. وشهود نعمة الله وفضله أصل سعادة العبد؛ إذ هذا هو أصل الشكر، وإنما يعمل الشيطان ليجعل الخلق غير شاكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين، فإذا شكر العبد ربه قطع الطريق على الشيطان فلم يجد إلى قلبه سبيلًا، وشهود الاختصاص بالرحمة والتفضيل من أعظم ما يأخذ بقلب العبد إلى ربه -سبحانه- حبًّا وشوقًا، ورجاءً وعبودية، فالحب ينبت على حافة شهود المنن، ومعرفة الأسماء الحسنة والصفات العلا وهذا قد تحقق في كلمات يعقوب لابنه يوسف -صلى الله عليهما وسلم- وأعظم نعمة واجتباء يمنُّ الله بها على عبده هي نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، ثم الاجتباء بالقرب الخاص والتفضيل على كثير من عبادة المؤمنين، وأعلى ذلك: الاجتباء بالنبوة والرسالة. وتأمل ما ذكر الله -سبحانه- لموسى -عليه السلام-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) (طه: 13)، وقوله: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) (طه: 36-37) إلى قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: 39)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41)؛ فلولا تثبيت الله لهذه القلوب الضعيفة لضعفت من شدة الفرح، والحب والشوق إلى الله حتى تذوب حبًّا وشوقًا. وتأمل قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، ماذا ينالنا نحن مِن إدراك قبس من النور الذي حلَّ في قلوب الأنبياء؟! وتأمل قول الله -تعالى- لعبادة المؤمنين: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164). وتأمل قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران: 73-74). وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) (الحج: 78)، فحين تستشعر أن الله هو الذي سماك مسلمًا من قبل ولادتك، ومَنَّ عليك من قبل وجودك، وسماك مسلمًا في القرآن "أشرف الكتب المنزلة على أشرف الرسل -صلى الله عليه وسلم-"، يكاد القلب يذوب حبًّا وشوقًا، ورجاءً لمزيد الفضل والرحمة منه -سبحانه-. والكون مليء بأدلة التفضيل بين الخلائق: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (الإسراء: 21)، وتأمل هذا في الدنيا يقود إلى وجود تفضيل أعظم في الآخرة: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21)، وشهود التفضيل بالدين أعظم سبب للحب، مع معرفة صفات الجمال والجلال لله -سبحانه وتعالى-. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (147) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (3) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الثالثة: في قول يعقوب -عليه السلام-: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)؛ ذَكَر يعقوب نفسه باسمه وليس بضمير المتكلم المعتاد في مثل هذا المقام، وتجد في ذلك التواضع لله، والاعتراف بفضله، وشهود الفضل عليه؛ لاجتباء أحدٍ من ذريته للنبوة والرسالة، وهذا فضل ونعمة على الأسرة كلها. وذكر اسم يعقوب الذي سُمِّي به في صغره دون ذكر إسرائيل الذي سُمِّي به في كبره بعد جهاده في الله، وتضحيته، وصبره وغلبته لنفسه (اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة يعتقدون أن اسم إسرائيل أنعم الله به على يعقوب بعد أن أمسك بالرب من حقويه وصرعه! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فهو عندهم إسراعئيل أي: الذي صرع الرب، وإنما معناه: عبد الله الذي صَرَع نفسه لله، أو مِن إسرا أي: الذي يسري بالليل، فهو الذي سار الى الله بعبادته، والله أعلى وأعلم. وقصة صرع الرب صرع يعقوب للرب موجودة في التوراة المحرَّفة)، وهذا والله أعلم تواضعًا لله -سبحانه وتعالى-. وقوله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): إن الإيمان بالأسماء والصفات أساس التوحيد والمعرفة، ونجد هنا التربية الإيمانية على التعلُّق بالأسماء والصفات، واستحضار أثرها، وذكر هنا ثلاثة أسماء لله -سبحانه وتعالى-: (الرب والعليم والحكيم). وذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد؛ ليرى في نفسه خصوصية التعلُّق، وشهود الإصلاح الخاص، فالرب هو الذي يرب مربوبه؛ أي: يصلحه ويقوم على شأنه، والله -سبحانه- يخص أنبياؤه ورسله، ثم أولياءه بأنواع من العناية والإصلاح، ويصبغ عليهم من النعم والفضل ما لا يسبغه على غيرهم، فإذا استشعر العبد ذلك؛ عظمت عنده النعمة، وتعلق قلبه بربه تعلقًا خاصًّا؛ حبًّا وشوقًا ورجاءً، يختلف عن تعلق سائر الخلق، فإن النعمة الدينية أعظم من النعمة الدنيوية: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). فامتن على رسوله -سبحانه وتعالى- بإنزال الكتاب والحكمة، وهي السنة، وما في الكتاب من الحكم، وامتن عليه بتعليمه ما لم يكن يعلم؛ فهذا فضل الله الأعظم. والرب أيضًا المالك لمربوبه، وإذا استشعر العبد أنه مملوك مختص بمزيد فضل مالكه مهيأ معدٌّ لأمر لم يهيأ له غيره من المماليك؛ ربأ بنفسه أن يضيعها، أو يرضى لها بأن يملكها غير مالكها بأن يملكها غير مالكها الحق، ولم يرضَ بعبودية غير ربِّه ومولاه. والرب أيضًا السيد الآمر الناهي المطاع، وفي هذا يشهد المؤمن أن أوامر ربه ونواهيه له هو، وهو المقصود بها قبل غيره ممَّن حوله، وأن طاعته هي المقصودة، وهذا يجعله أشد حرصًا على التزام الأمر واجتناب النهي، والمداومة على الطاعة. واسم العليم في هذا الموطن يقتضي شهود علمه بمن يصلح للاجتباء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بالشاكرين، وأعلم بكيفية تدبير أمر عبده المؤمن حتى يوصله إلى غايته المحمودة، وأعلم بما في قلوب عباده، فيقدر أمره الغالب بعلمه الأول الموصوف به أزلًا -سبحانه-. وإذا استحضر العبد أن الله -عز وجل- عليم بشأنه كله، وشأن مَن حوله؛ أحسن التفويض لله -سبحانه وتعالى-، وكفاه اطلاع الرب -عز وجل- عليه؛ ليستغني بذلك عن علم الناس بحاله، أو نظرهم إليه، وهذا أكمل في الإخلاص، وأكمل في تحقيق كمال الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه يكتفي بعلم الله عن علم البشر بحاله، أو ما هو عليه من خير، أو ما يفعله من الطاعات بينه وبين الله. واسمه الحكيم: بمعنى الذي لا يفعل، ولا يشرع شيئًا؛ إلا لحكمة وغاية محمودة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، وإذا اجتبى عبدًا وعلَّمه ومَنَّ عليه بما لا يمنُّ عليه غيره؛ فلأنه أهل لذلك، فهو أعلم بخلقه، ويفعل فيهم مقتضى الحكمة التي يستحق الحمد عليها، كما أن شرعه -عز وجل- كله حكمة، وأوامره الشرعية لعباده المؤمنين فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، وهذا كله يقتضي التسليم لشرعه، والرضا به سبحانه- وعنه ربًّا مدبِّرًا قادرًا، لا يتهمه في قضائه، ولا يعقب عليه في حكمه، وإن غابت عنه الحكمة في مبادئ الأمور، فليوقن بها، فما يخلو قضاؤه عنها أبدًا، وليصبر لأمره فسيرى العجب، وليواظب على الحمد والتفويض، والتوكل. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (148) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (4) كتبه/ ياسر برهامي فقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الرابعة: بيَّنا في المقال السابق: أن اسم الله الحكيم، هو بمعنى الذي لا يفعل ولا يَشْرع شيئًا إلا لحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، وكذلك له معنى آخر، وهو معنى المُحْكِم للأشياء؛ الذي أتقن صنع كل شيء، وتدبير كل شيء، وكلا المعنيين في قصة يوسف -عليه السلام- يظهر في تفاصيلها من آثارهما العجب! فتأمل حكمة الله في إلقاء يوسف في الجب، ثم بيعه رقيقًا، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كيف كان هذا في الحقيقة سببًا لعلوه وارتفاعه على إخوته الذين أرادوا إنزاله، فارتفع -بفضل الله-، وأرادوا إذلاله فعَزَّ بتقدير الله وحكمته! وانظر كيف كان السجن سببًا للمُلك، ولو لم يُبتلَ يوسف -صلى الله عليه وسلم- به لظلَّ في رقِّ العبودية، فكان الضيق سببًا للسعة؛ لحكمة الحكيم -سبحانه وتعالى-، وغير هذا كثير مما ورد في أثناء تفاصيل القصة. وتأمل كذلك إتقان التدبير والكيد منه -سبحانه-، وكيف كان الأمر في غاية الإحكام لينفذ أمره، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21). ولقد ظل يوسف -صلى الله عليه وسلم- متعلقًا بأسماء الله الحسنى التي عَلَّمها له أبوه عبر السنين، وظهر هذا جليًّا في نهاية القصة بعد السنين الطوال والفراق البعيد، فيقول لأبيه: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)، نفس الأسماء التي ألقاها على سمعه وقلبه أبوه الكريم في صغره، يكررها هو في كبره، بعد أن شهد آثارها العظيمة في التمكين له بعد أنواع الابتلاء؛ هذا يؤكد لنا أهمية التربية الإيمانية على فهم معاني الأسماء والصفات والتعلُّق بها؛ حتى لو كانت البيئة بعد ذلك غير مُعِينة على نفس التربية، بل حتى لو كانت البيئة فاسدة كالتي عاش فيها يوسف -صلى الله عليه وسلم- في مصر في قصر العزيز، كانت بيئة كافرة ماجنة لاهية، ومع ذلك بقي أثر التربية العظيمة. ولهذا لا يصح أن يُقَال: إن ما نبنيه في سنين يُهدَم بكيد الأعداء في يوم! هذا ليس صحيحًا، فإن البناء الراسخ لا تهدمه مكائد الأعداء، وتأمل في قصة أصحاب الأخدود، كيف كانت تربية غلام واحد سببًا لتغيير أمة بكاملها من الكفر إلى الإيمان، إلى الشهادة في سبيل الله! وتأمل في وصية لقمان لابنه كيف كان يعلِّمه أسماء الله الحسنى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). وتأمل كذلك الكلمات التي علَّمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). فبقيت -هذه الكلمات- في نفس ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن علَّمها لتلامذته في كبره؛ فهذا يُظهِر لك ضرورة هذه التربية، ومدى التقصير الذي يقع فيه الآباء والمربون إذا أهملوا هذا الجانب من جوانب التربية. فبالقطع واليقين إن طريقة علم الكلام بالتعريفات الرياضية والحدود الكلامية، هي أبعد الطرق وأظلمها؛ فهي تساعد على انحراف القلب وابتعاده عن فهم حقائق الإيمان، فليبتعد عنها الأب والمربي، وعليه بطريقة الكتاب والسنة والسَّلف الصالح -رضوان الله عليهم-؛ فإنها التي بها حياة القلوب، وبها صلاح العقيدة، وبها ثبات الإنسان في صغره وكبره، عند تعرضه للمحن، وهكذا كان يوسف -صلى الله عليه وسلم- كالجبل الشامخ، لا تثنيه الفتن؛ سواءً كانت الترغيب أو الترهيب، سواء كانت الشهوات أو الشبهات؛ ظل راسخًا على الإيمان الذي علَّمه له أبوه. ولله الحمد والمِنَّة. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (149) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (1) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). إن قضية تحقيق العبودية هي الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والمؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان وعرف قدر نعمة الإسلام وترك الشرك، يود أن لو حصل هذا الحق لجميع الناس؛ لأنه ناصح أمين للبشرية، محب للخير للناس، والمؤمنون خير الناس للناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولا شك أن حبَّ ذلك للأهل والأولاد والذرية، وذرياتهم، يكون مقدمًا في الاهتمام؛ لأنه أولًا مسئولية الآباء والأمهات في تربية وتنشئة أولادهم وذرياتهم على الإسلام؛ ولأنه ثانيًا يجمع الحب الشرعي في الله ولله، والحب الفطري الذي فَطَر الله الناس عليه للآباء والأمهات، والأزواج والزوجات، والأولاد والذريات، وهو عند عامة الناس يدفع الواحد منهم إلى ما يسميه: "تأمين الحياة الكريمة" لذريته، ويعنون به رَغَد العيش، وسعة المال، ووجود الجاه والوظيفة العالية في الناس؛ حتى ولو كان على غير الدِّين! أما عند المؤمن فإن ذلك يدفعه إلى توريثهم الدين والإيمان، وحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ورسله جميعًا، والبقاء على الإسلام إلى الممات؛ تحقيقًا للنجاة في الدنيا وفي الآخرة، قال -تعالى-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 131-133). وقال -تعالى- عن عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). قال غير واحد من السلف: "يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم إلى الإسلام"، وقال الحسن: "المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله". وعن جبير بن نفير قال: "جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أشدِّ حالة بُعث عليها نبيٌّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرَّق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرًا، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرَّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية" (تفسير الطبري). فتوريث الدين مهمة عظيمة لا بد أن نحافظ عليها قدر إمكاننا، والذرية كذلك الذين حصلت لهم وراثة الدين يعلمون قدر نعمة الله سبحانه بذلك؛ خاصة عند مقارنة ما هم عليه من فضل الله ونعمته، وبين ملل الشرك والكفر التي عليها أكثر الناس، فتعظم نعمة الله عند ذلك، ولقد كان إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على هذه المسألة، فدعا ربَّه ضمن ما دعاه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 39-41). وسأل الله -تعالى- أن يجعل من ذريته الأئمة، قال -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). وقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 127-128). ولقد كانت بشارة الله -عز وجل- لإبراهيم وإسحاق بعد أن بَذَل ولده للذبح، وفداه الله بذبح عظيم بعد أن بذل ولده بكره ووحيده إسماعيل -عليه السلام-، للذبح لله -عز وجل-، فقال -تعالى-: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (الصافات: 112-113). وقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 84-87). وقال -سبحانه-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 72-73). وكان يوسف -صلى الله عليه وسلم- مشاهدًا لعظم نعمة الله عليه بذلك، فذكرها في مقام الشكر لله، والامتنان له بذلك، ودعوة الناس إلى الحق وإلى الخير، فقال لصاحبيه في السجن كما قال الله -تعالى-: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ . يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 37-40). فلنقرأ تفسيرها ثم لنتدبر ما فيها من الفوائد في المقال القادم -إن شاء الله-.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (150) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا) الآيات: "يخبرهما يوسف -صلى الله عليه وسلم- أنهما مهما رأيا في نومهما من حلم، فإنه عارف بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال مجاهد: يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما. وكذا قال السدي. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما أدري لعل يوسف -عليه السلام- كان يعتاف وهو كذلك؛ لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال: إذا جاء الطعام حلوًا أو مرًّا اعتاف عند ذلك. ثم قال ابن عباس: إنما عُلِّم فَعَلَّم . وهذا أثر غريب. (قلتُ: العيافة: زجر الطير لمعرفة الأمور الغيبية، وهي من أفعال الكهنة ونحوهم، ولا يجوز أن يُنسَب ذلك إلى الأنبياء، والإسناد ضعيف جدًّا إلى ابن عباس، فلا يصح)، ثم قال: وهذا إنما هو من تعليم الله إياي؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابًا ولا عقابًا في المَعَاد. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) يقول: هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهكذا يكون حال مَن سلك طريق الهدى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين؛ فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلمه، ويجعله إمامًا يقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد. (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) هذا التوحيد، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) أي: أوحاه إلينا، وأمرنا به. (وَعَلَى النَّاسِ) إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار . وروى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبًا، ويقول: والله فمَن شاء لاعنَّاه عند الحجر، ما ذكر الله جدًّا ولا جدة، قال الله تعالى -يعني إخبارًا عن يوسف-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) (قلتُ: المقصود في ذلك في المواريث، وأن الجد يحجب الأخوة؛ لأنه أب، فكما يحجب الأب الإخوة فكذلك الجد، وهو الصحيح من أقوال العلماء). في الآيات فوائد: الأولى: في قول يوسف -صلى الله علي وسلم-: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، أي: هذا بتعليم الله إياي، لم اكتسبه من قِبَل نفسي؛ ففيه نسبة النعمة إلى مسبغها على العبد، فهذا أثر من آثار التربية الإيمانية التي تلقاها يوسف في صغره؛ حيث علَّمه أبوه أن النعمة من الله -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) (يوسف: 6)، وتأمل كيف ذكر ربه باسم الربوبية مضاف إلى ضمير المتكلم (رَبِّي)؛ لأنها نعمة خاصة، وتعليم خاص، وإصلاح خاص بمنِّه وكرمه -سبحانه-، ثم علَّل هذه النعمة الخاصة والتعليم بأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. وهذا التعليل: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ) يدل السامع على أن هذه النعمة والفضل لها سبب من اكتساب العدل والعلم، وهو أيضًا مِن فضل الله -عز وجل-، وهي دعوة واضحة مع تلطف؛ لكي يتركوا الملة الباطلة التي هم عليها وقومهم مِن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر. وهذا التلطف في البداية يمنع نفرة النفوس في أول وهله؛ فهو يريد هدم الباطل في قلوبهم، ولو قال لهم: أنتم على ملة باطلة لا تؤمنون بالله وباليوم الآخر، فربما كان سببًا لنفرتهم، فأخبرهم عن نفسه فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وسوف يصرِّح لهم بعد لحظة بأنهم يعبدون الآلهة الباطلة، ولكن بدأ بهذا الأسلوب الرائع اللطيف الذي لا تنفر منه النفوس، وفي نفس الوقت يكون مبيِّنًا واضحًا في إبطال الباطل دون مجاملة ولا مداهنة. ومثل هذا الأسلوب تلحظه في قصة مؤمن آل ياسين حيث قال لقومه: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يس: 22-24). فهذا بلا شك أهون عليهم، وأخف مِن أن يقول: أنتم في ضلال مبين؛ فالداعي إلى الله حين يذكر مسائل الإيمان بما في ذلك الكفر بالطاغوت على لسان نفسه، وفي وصف حاله، وما يجد من النعم بسبب ذلك؛ فإنه بذلك يدخل إلى النفوس من أقصر طريق وألين أسلوب مع نصاعة الحق، ووضوح البيان. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (152) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (4) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). الفائدة الرابعة: في قوله -تعالى-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي): اعتزاز بالآباء الكرماء الأشراف، الذين أنعم الله بهم عليه وعلى الناس، وهذا بلا فخر، بل مع نسبة الفضل إلى الله وشكره على نعمته، كما قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ). فالتوحيد والنبوات أعظم نعمة وفضل ينعم الله به على الخلق؛ فالله -عز وجل- حين فَرَض علينا عبادته وحرَّم علينا الشرك به، أنعم علينا أعظم نعمة؛ حرَّرنا من العبادة للعبيد، وأعتقنا من التزام الرق لمن له شكل ونديد، وحين وفقنا للعمل بهذا الذي افترض علينا من توحيده وعدم الشرك به؛ فقد أتم علينا النعمة التي كان ابتداؤها منه بلا سببٍ منا، وعصمنا من السجود لغيره، وقد خذل أمثالنا في الأبدان والأسماع والأبصار والأفئدة؛ الذين ما أغنت عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء؛ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعبدوا الشياطين من دون الله، وسوَّلت لهم نفوسهم وعقولهم وشياطينهم عبادة الأشجار والأحجار المنحوتة -التي هم نحتوها-، أو الأشخاص من البشر والجن والملائكة، بل ما هو أدنى وأدنى من عبادة العجول والأبقار، والجعارين، والحيات، والفئران، والحشرات، والصلبان، وكل ما يخطر بالبال، وما لا يخطر! وهم في ذلك تامة عقولهم في معاشهم ودنياهم، وتدبير مصالح أولادهم وأموالهم؛ ربما صنعوا الصواريخ والقنابل الذرية وهم يركعون للبقرة، ولها يسجدون! وربما جيَّشوا الجيوش، وجنَّدوا الجنود، وملكوا الأرضين، وصعدوا في الفضاء وهم يعبدون صليبًا يعتقدون موت الإله عليه، وبصق الناس عليه، ودق المسامير في يديه، وهو يصرخ بصوت عظيم: "إلهي إلهي لما تركتني!"، فلا يجد مَن يجيبه، كما ذكروا ذلك في أناجيلهم! عجبًا والله لهذه العقول، وتبًّا لهذه الأفكار! إذا تأمل الإنسان عقائد العالَم عَلِم فضل الله عليه بالتوحيد ونبذ الشرك، وكان أحرص شيء على شكر هذه النعمة بالثبات عليها والدعوة إليها، ومحاولة إخراج الناس من ظلمات الجاهلية، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)؛ فاللهم أتمم نعمك علينا بتثبيتنا على الإسلام حتى تتوفانا مسلمين. وأكثر الناس لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل ودعوتهم إلى التوحيد، بل (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ . وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم: 28-30). وفي قول يوسف -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) بيان أن المشرك لا يؤمن بالله حتى لو أقرَّ بوجوده -سبحانه-، ولو أقر ببعض صفاته -عز وجل-؛ ذلك أنه قال عن القوم الكافرين في أول كلامه: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (يوسف: 37)، ثم قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، فالشرك ينافي أصل الإيمان؛ سواء كان الشرك في الربوبية بأن يعتقد مع الله أو من دون الله خالقًا أو رازقًا، أو مدبِّرًا، أو مالكًا، أو سيدًا آمرًا ناهيًا مشرعًا للناس. ويا للأسف! قد صار يوجد في المسلمين مَن يعتقد أن الله جعل بعض صفات الربوبية في بعض أنبيائه وأوليائه، وأن ذلك هو من المعجزات والكرامات، وليس كذلك؛ فإن الله -سبحانه- لا شريك له في ربوبيته، وأما ما يحتج به أهل الضلال من أن عيسى -عليه السلام- يخلق الطير؛ فهذا ليس بصحيح، وإنما معنى قوله -تعالى-: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (آل عمران: 49): أنه يشكِّلها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه -عز وجل- في وعيد المصورين: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً) (متفق عليه)، فعيسى -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يجعل الطين طيرًا، وإنما نفخ فيه بأمر الله، فجعلها الله -عز وجل- كذلك. وكيف يستقيم ذلك مع قول الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (الزخرف: 87)، وقوله -تعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)؟! أفتكون عقيدة المشركين في الربوبية أسلم من عقيدة هؤلاء المبتدعين؟! والله، لقد كفروا بنعمة الله بالتوحيد حين اعتقدوا أن الله يجعل صفات الربوبية لأوليائهم، وكذلك اعتقادهم في الأولياء أنهم قادرون على قبض الأرواح وعلى ردِّها، وعلى شطب الأرزاق ومحوها؛ فإن ذلك من أنواع الشرك في الربوبية التي يكفر مَن قال بها بنعمة الله بالتوحيد. وكذا مَن يقولون بوجود مَن يشرِّع مِن دون الله -سبحانه وتعالى-، ويضعون القوانين الوضعية، ويلتزمون بها معتقدين أنها أنسب للناس في هذه الأزمان من شريعة الله -سبحانه وتعالى-؛ فهذا من أقبح الشرك في الربوبية. وكذلك الشرك في الألوهية بصرف العبادة مِن: ركوع، أو سجود، أو دعاء، أو استعاذة، أو استغاثة، أو ذبح أو نذر، أو حب عبادة وهو خوف مع ذلٍّ وانقياد، أو خوف عبادة وهو خوف سري يدعو إلى طاعة باطنة، ويتقرَّب بهذا الخوف إلى مَن يخاف، أو حَلِف، أو غير ذلك؛ فهذا أيضًا من الشرك الذي يكفر به مَن كفر بنعمة الله -سبحانه وتعالى-. وكذلك الشرك في الأسماء والصفات: بأن يعتقد للمخلوقين صفة الخالق -عز وجل-: كالسمع المحيط، والعلم بالغيب، والقدرة التامة، والبصر المحيط، أو ينفي صفات الرب -سبحانه وتعالى-، ويشبهه بالجمادات أو المعدومات؛ فكل أنواع الشرك تنافي الإيمان بالله -عز وجل-. وكذلك مَن وصف الرب بصفات النقص: كمَن زعم أن بعض عباده غلبه وصرعه -كما زعموا أن يعقوب عليه السلام سُمِّي إسرائيل من أجل ذلك؛ أي: لأنه الذي صرع الرب كما يعتقد اليهود-، وكذلك مَن ينسبون له التعب، ومَن ينسبون له الصاحبة والولد، ومن ينسبون له الجهل، وعدم القدرة؛ كل ذلك من الشرك في الأسماء والصفات، وكل ذلك ينافي الإيمان بالله؛ إذ إن كثيرًا مِن الناس يظن أن الإيمان هو اعتقاد وجود الله حتى لو عبد غيره وأشرك به! وهذا في الحقيقة قول غلاة الجهمية والمرجئة، وهو مِن أفسد الاعتقاد.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (153) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (5) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). الفائدة الخامسة: في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) تأكيد لنفي الشرك في قوله: (مِنْ شَيْءٍ)، فشيء نكرة في سياق النفي، فتعم كل الأشياء التي تعبد من دون الله مِن حجر أو شجر، أو قبر أو وثن، أو إنس، أو جن وشياطين، أو مَلَك، أو شمس أو قمر أو كوكب، أو غير ذلك، وأكَّد هذا بـ(مِنْ)؛ حتى لا يتطرق إلى الجملة احتمال التخصيص بأي نوع من أنواع التخصيص لأي شيء في الوجود سوى الله -سبحانه-. وفي قول يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) دليل على أن الجد أب في الميراث، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يجعل الجد أبًا في الميراث فيحجب به الإخوة، ويقول: "مَن شاء لاعنتُه عند الحجر؛ ما ذكر الله جَدًّا ولا جدة، قال الله -تعالى- يعني إخبارًا عن يوسف: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)" (رواه ابن أبي حاتم). وفي رواية عنه: "ألا يتقي الله زيد -يعني زيد بن ثابت- يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا"، فما جعل الله -عز وجل- الأجداد إلا آباءً. وفي ذكر يوسف لأجداده -عليهم السلام- بلفظ الآباء لطيفة جميلة، وهي: الشعور بالقرب منهم، فشعور الإنسان بأبيه حبًّا وتعلقًا أكبر من شعوره بأجداده، خصوصًا إذا تباعد الزمن، فلربما لا يكون لأجداده الأبعدين تعلقًا على الإطلاق في القلب إلا مجرد حمل الاسم، ودعوة صالحة؛ إذ ندر في الناس مَن يرعى حق القرابة البعيدة إلا إذا كان في الجد من الصفات الحسنة والمنازل العالية من العلم والتقوى، والعبادة والجهاد، ما يظل الحفيد ذاكرًا لجده، كما يذكر آل البيت في زماننا جدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ للشرف العظيم، والفضيلة التي لا تضاهيها فضيلة. أما إذا ذكره بلفظ الأبِ؛ فكأن الفارق الزمني قد طوي، وشعر بالقرب الشديد، والحب والمتابعة عن قرب، ومثل هذا المعنى تجده في قول الله -تعالى- للمؤمنين: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)؛ فهو حث على متابعة الإسلام؛ لأنه دين إبراهيم، وهو أبو المؤمنين الذي يحبونه أعظم الحب؛ فكيف يخالفون ملته؟! وتأمل كيف كان تعلُّق أبي طالب بأبيه عبد المطلب، وتركه للإسلام وإبائه أن يقول: "لا إله إلا الله"؛ لقول أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟!"، مع علمه بصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أحسن الدين، ولكن قال: "يا ابن أخي ملة الأشياخ". وإذا استشعر الإنسان الأبوة كان أحرص شيء على اتباع ملة الحق التي كانوا عليها، وكان ذلك أعظم وأعظم في الاتباع. وتجد قريبًا من هذا المعنى في قول الناس يوم القيامة في أمر الشفاعة: "اذهبوا إلى أبيكم آدم"، ولم يقولوا: جدكم أو جد جدكم، وكذا قول آدم: "اذهبوا إلى أبيكم بعد أبيكم، اذهبوا إلى نوح"؛ ففرق كبير بين أن نقول: جدنا الأعلى البعيد آدم أو نوح، وبين أن نقول: أبونا آدم وأبونا نوح -عليهما السلام-. فشرف لنا كبير أن يكونوا آباءنا، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) (رواه البخاري)، وقوله: (وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبيِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه مسلم)، تلمس فيه حبًّا وتقديرًا، يختلف كثيرًا عما لو قيل: إن حفيدي هذا، أو سميتُه باسم: جدي. وقول أبي هريرة عن هاجر: "تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ" (متفق عليه)، في خطابه للعرب من نسل إسماعيل -عليه السلام- بدل جدتكم، فيه نفس المعنى. والله أعلم. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (154) دعوة غيَّرت وجه الأرض كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). هناك نقاط فاصلة في تاريخ البشرية تمثِّل سرجًا منيرة، تبيِّن لهم طريقهم إلى الله، وتعرفهم بدايتهم وبداية العالم، ونهايتهم ونهاية العالم، وعواقب فئاتهم وطوائفهم، ومن هذه النقاط المضيئة: تكوين مكة المكرمة التي صارت بعد آلاف السنين مِن تأسيسها وتعميرها مصدرًا لأعظم نورٍ وَصَل إلى أهل الأرض عبر الزمان ببعثة السراج المنير -عليه الصلاة والسلام-، ونزول الوحي بالكتاب المنير الذي أضاء للبشرية حقائق الوجود، وأحيا قلوب مَن آمن به مِن الموت الذي كانوا فيه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام: 122). فكان أعظم تغيير في حياة البشر إلى أفضل نظام للحياة في الدنيا والآخرة بعد الجاهلية والظلم الذي كانت فيه، وإذا تأملنا بداية نشأة هذه البلدة؛ لوجدنا معجزة باهرة، ودعوة مستجابة غيَّر الله بها وجه الأرض والزمان؛ فهي أرض جَبَليَّة لا تصلح للزراعة، ولا ماء فيها، ولا مقومات للحياة نهائيًّا؛ فإذا بها تصبح أشد بقعة في الكرة الأرضية ازدحامًا بالحياة؛ حياة الأبدان وحياة القلوب، فلا توجد بقعة في العالم تزدحم بهذه الأعداد الهائلة من البشر طوال أيام السنة؛ إضافة إلى أيام المواسم: كالحج وشهر رمضان المبارك، التي تشهد بالفعل أعظم ازدحام في العالم، يشارك فيه بشر مؤمنون من كل قارات الأرض، وحياة القلوب بالإيمان والقرب من الله، وكثرة التعبد له بأنواع الطواف والقيام، والركوع والسجود والاعتكاف، في بيته الحرام، وغير ذلك من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، وأنواع الأذكار التي علمناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- النصيب الأكبر في تأسيس مكة وتعميرها بعد أن كانت لا أنيس بها ولا أحد؛ فأتى بولده إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- وأمه هاجر -رضي الله عنها- وتركهما إلى الله -سبحانه- الكافي مَن توكل عليه -سبحانه وتعالى-؛ لتأتي مقومات الحياة إليهما بقدرة الله -عز وجل-، سبحانه وحده لا شريك له، ثم بهذه الدعوات التي مَنَّ الله علينا بتعليمنا إياها بذكرها في القرآن كان بداية تعمير مكة، ثم استمرار ذلك بهذه الدعوات. ولنذكر تفسير هذه الآيات وفوائدها؛ عسى الله أن ينوِّر بها قلوبنا. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يَذْكُرُ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ، آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67)، وَقَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97)، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضًا فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولًا. (قلتُ: وقد مضى ذلك بيِّنًا في أول المقالات). وقوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ)، ينبغي لكل داعٍ أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتُتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه بَرِيءٌ ممَّن عبدها، ورد أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كما قال عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك. قال عبد الله بن وهب -وذكر سنده عن عبد الله بن عمر-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قول إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) الآية، وقول عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم رفع يديه، ثم قال: "اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي"، وبكى فقال الله: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل، -عليه السلام-، فسأله، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. (رواه الطبري في تفسيره)". وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 16 ( الأعضاء 0 والزوار 16) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |