الرثاء في شعر باشراحيل - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 743 - عددالزوار : 202560 )           »          ابن عمي يتحرش بي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          وسواس يتعلق بالذات الإلهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وسوسة لا تضر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الوسواس القهري وحادثة على الطريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          زوجي شاذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          هل هذا الوسواس يخرج من الملة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          هل يجوز ترديد الوسواس الكفري؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          اضطراب الفتشية الجنسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          زوجتي ومقاطع الشذوذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 29-07-2021, 03:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,781
الدولة : Egypt
افتراضي الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (1)
محيي الدين صالح


الرثاء في شعر باشراحيل "دراسة أدبية"


مقدمة الدراسة




يَمتاز الأدبُ العربي بكَثْرة الرَّوافد وغزارَتِها، وفي الوقت نفسِه بصفاء المتوارث منه ونقائه، برغم تدفُّقه عَبْرَ مئات السنين، حتى وإن شابَه أو اعتراه ما يكدِّره، فمن اليسيرِ نقده وإظهاره وتفنيده.



وما دام الشعرُ ديوانَ العرب - كان كذلك وما زال - فإنَّ الدراساتِ التي تصبُّ حول الإبداعات الشعرية ينبغي أن تَحرصَ تمامًا على العُمق الإنساني، ويَجب عدمُ تسطيح الدَّوافع التي جعلتِ المبدعَ يتفاعل مع أمورٍ بعَيْنِها، ويُعرِض عن أمور... أو أن يُجيدَ إجادةً تامَّة في جوانبَ من إبداعاتِه، رُبَّما لا يصل إلى مُستواها في الجوانب الأخرى.



ونظريَّة (مفتاح الشخصية) التي أورثها لنا الأديبُ العملاق: عباس العقاد، من خلال عبقرِيَّاته الخالدة - أرى ألاَّ نُهملها كلما أردنا الغوصَ في أعماقِ الرِّجال، الذين ألقت بِهِم أقدارُهم في دائرة الضَّوء عُرْضَةً للتناوُل والتمحيص طوعًا أو كرهًا.



وإذا كان حديثُ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((المرءُ بأصغريه: قلبه، ولسانه))، وعلى اعتبارِ أنَّ (اللسان هو ترجمان القلب)، كما جاء في الأثر، فإنَّ صُعوبةَ مُتابعة القلب وما حوى باعتباره في منطقةِ شبه المغيبات - يَجعلنا نُقيمُ لحصائدِ الألسنة اعتبارًا ووَزنًا، ونقدره حَقَّ قدره، ونُحاول ذلك ما أمكن، خاصَّة إذا كان صاحبُ هذا اللسان مِمَّن نحسبهم على خير في صدق روايتهم ورُؤاهم.



وعندما يكون الكلامُ عن أولئك الذين لا يَرْتجي منهم المتحدثُ أو الكاتب نَفْعًا، ولا يَخْشى منهم ضَرَرًا، فإنَّ المشاعِرَ تتدفق منه أو عنه بصِدْقٍ وعفوية، خاليةً من التملُّق والنِّفاق، وهذه هي حالُ الرِّثاء في الشُّعر العربي في أكثرِ حالاتِه، وليس معنى ذلك أنَّ الكلامَ عن الأحياء مرذولٌ جُملةً وتفصيلاً، ولكنَّ الموازين النَّقْدِيَّة ترجح بكفة المراثي عند المقارنة، فتكون أصدقَ قيلاً، وأفصح تأويلاً لمن أراد أن يدرس النصَّ الإبداعِيَّ من كلِّ جوانبه، إضافةً إلى صاحب النص وإيحاءاتِه وتلميحاتِه بجانب تصريحاته.



وهذا هو السببُ الذي جعلني أميلُ إلى دراسةِ المراثي في شعر عبدالله باشراحيل، من بين إبداعاتِه الكثيرة في كُلِّ الأغراض الشِّعْرِيَّة قديمها وحديثها، وثَمَّة سببٌ آخر لهذا التوجُّه الأدبي عندي، وهو أنَّ الوجدانِيَّات المتناثرة في كلِّ قصائده تَمتاز بشفافية الرِّثاء ومُفرداته ونفحاته، ورُبَّما آلامه وأحزانه.



أمَّا لماذا باشراحيل بالذَّات، في هذا العصر الذي كاد يَئِنُّ من كثرة الشُّعراء؟ فهذا لا تفسيرَ له عندي، إلا أنْ أعزُوَه إلى تقارُب الاهتمامات والانفعالات الوجدانية بيني وبينه كشعراءَ من جيلٍ واحد، رَغْمَ التباعُد المكاني بين وادي النيل (موطني)، وجزيرة العرب (موطن باشراحيل)، ورُبَّما يُعزى هذا الأمر إلى قولِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الأرواح جنود مُجَنَّدَة، فما تعارف منها ائتلف...)).



وباشراحيل لا يكتفي برثاءِ الأحباب الذين رحلوا عنه، بل يَرثي البلادَ، والقيمَ، والآمالَ، والمعاني، والفضائلَ، وكل غائب يفتقده، كما أنَّه يرثي الزمانَ أحيانًا، ولا يستنكف من أنْ يرثيَ نفسَه إنْ لَزِم، واتجاهات الرِّثاء عنده تستحقُّ التأمُّل، ولا أقول التوقُّف عند كل جزئية، والعاطفة الصادقة والحس الديني عند الشاعر لهما حضورٌ قويٌّ يَجعلك تحترم أطروحاتِه ورُؤاه.



أمَّا الشخصياتُ التي يَرثيها باشراحيل، وتوجُّهاتُهم الفكرية أو الأدبية، ومكانتُهم في المجتمع، فذلك أمرٌ له مدلولٌ راقٍ، ويَجب توضيحُه في تفصيلٍ مُناسب، وكذلك هناك أثرُ البيئة، والتنوُّع الأسلوبي، وخصوصية المضامين، والقاموس اللُّغوي، والبحور المُنتقاة، والقوافي المناسبة لجوِّ القصيدة... فكُلُّ هذه جوانبُ لا نَمُرُّ عليها مُرُورَ الكرام، خاصَّة أنَّنا أمام شاعر جعل (الوفاء) حجرَ الزَّاوية في كلِّ إبداعاته، وتعلَّق قلبُه بكُلِّ مَن رأى أنَّه يتصف بالوفاء، وفي ذلك يقول:



إِنَّ الْوَفَاءَ رِدَائِي كَيْفَ أَخْلَعُهُ

وَقَدْ كَفَانِي وَإِنْ ذَمُّوا وَإِنْ مَدَحُوا [1]








وأنا في هذه الدراسة لست ذامًّا ولا مادحًا، ولكنَّها جولة أدبية بين القوافي أجوس خلالَها، وأغوص فيها إلى الأعماق، عبر خيالاته، وبواسطة كلماته المجدولة؛ لأستخرجَ ما قد يخفى على مَن لا يُجيدون الغوص، فأقدمها لهم زادًا في رحلتهم نحو دُروب الأدب العربي.



هذا، وقد اطَّلعت على ثلاثِ دراسات في شعر باشراحيل اتَّسمت بالموضوعية والجدية والحيدة: الأولى للدكتورة/ إيمان بقاعي، بعنوان: "الالتزام الإنساني في شعر باشراحيل" 300 صفحة، ركَّزت فيها الكاتبة على الوطن عند الشاعر، أمَّا الدكتور/ محمد بن مريسي الحارثي، فقدَّم دراستَه بعنوان: "جدلية الواقع والتخيُّل"، وأشار فيها إلى لوعة الرِّثاء عند باشراحيل، وحِدَّة العاطفة وقُوتِها، ورَكَّز خلالَها على رثائه لأبيه ولعمته، وعَرَّج على بعضِ النماذج الأخرى، إلاَّ أنَّ الدراسة شَمِلت كل قصائد ديوان "قناديل الريح".



أمَّا الأستاذة/ غريد الشيخ، فقدمت دراسة مستفيضة بعنوان: "الدلالات الفنية والإنسانية في شعر باشراحيل" في أكثرَ من أربعمائة صفحة، طافت - بل حلقت - في آفاق الشاعر، وحطت عند كل مرفأ من مرافئه، وحلَّلت كلَّ الجوانب الإبداعية عنده، إلا أن الرثاء عند باشراحيل لم يستهلكْ من هذه الدراسة الشائقة سوى (اثنتي عشرة صفحة) فقط؛ رُبَّما لأنَّ الكاتبة كانت تدور في آفاقٍ شاسعة بين قصائدَ مُتنوعةٍ كثيرة جدًّا من إبداعات باشراحيل.



ومن المؤكد أنَّ هناك دراساتٍ أخرى في شعر باشراحيل لم أطلع عليها... كما أنَّ هناك دواوين أخرى للشاعر لم تصل إلَيَّ، وبرغم ذلك، فإنَّ ما بين يديَّ من إبداعاتٍ ودراسات أعتبرها كافيةً لتسويغ ما ذهبتُ إليه من ضرورةِ الدِّراسة المتخصصة، أو المخصصة للرثاء عند باشراحيل.



وإذا سَلَّمنا بالمقولة التي ترى أنَّ "الرجُل صندوقٌ مُغلق، لا يُعرَف ما بداخله إلاَّ إذا تكلَّم، أو تحرَّك، أو تصرَّف"، فإنَّ باشراحيل في قصائده المتنوِّعة تكلم، وتحرك، وتصرف، فأصبح كتابًا مَفتوحًا يقرؤه الجميع، وكلٌّ يتفاعل مع الأُطروحات التي يجد فيها مبتغاه، أو توافق هواه.



ومن خلال الرُّؤى المكثفة في الأغراض الشعرية المتنوعة، يتَّضِح أنَّ باشراحيل إنسانٌ مرهف الحس إلى مدًى بعيد، وفي الوقت نفسه شديدُ الاعتداد بالنفس، مع ما يبدو من تبايُن بين الصِّفَتين، وفي نظرته للأمور فإنَّه يغوص إلى الأعماقِ؛ ليقفَ بقُرَّائه عند بعضِ الجوانب الخافية في أثناءِ الأمر، فلا يكتفي بمدلولاتِ السَّرْدِ للحدث، ولا بظواهر المعاني، وهذا التوجُّه عنده مؤصَّل أكثر ما يكون في قصائد الرثاء، والشواهد على ذلك كثيرةٌ، عرضت بعضَها في فصل (الرمزية في الرثاء) بقليلٍ من التفصيل، وأيضًا في فصل (الرثاء وإسقاطات الألم).



ولم يتحفَّظ باشراحيل في عرض مكنوناته من مشاعر ومَخاوف، حتى الهواجس التي راودته بسبب غيابِ رُموز فكرية عن الساحة الإسلامية، لم يُحاول أنْ يحجمها أو يصادِرَها، فهو صريح مع النفس ومع الآخرين، والبُعد الذَّاتي عنده ينال حظَّه كاملاً، كما في رثائه لوالده أو عمته، فهو يوفيهما حَقَّهما بأسلوبٍ يَشي بمدى التقارُب الذي كان بينهما في عَصرٍ ذهل فيه ذوو الأرحام، وتاهوا في معترك الحياة، مع أنَّ باشراحيل ربَّما لا يقصد ذلك؛ حيث لم يصرح به "تأدبًا".



وجدير بالذِّكر أنَّ باشراحيل لم يصدر ديوانًا خاصًّا بالمراثي، ولكنَّها قصائد متفرِّقة في مجموعة دواوينه، وهذه المجموعة حوَتْ كلَّ الأغراض الشِّعرية، التي أبْحر من خلالها إلى مَرافئ القُرَّاء، أما ديوان "قلائد الشمس" الذي صدر عام 2002م، فقد خصَّصه كلَّه لقصيدة مطوَّلة يوجِّهها إلى مُثقَّفي أمريكا مُترجمة إلى الإنجليزية والفَرَنسِيَّة، والقصيدة بترجمتَيْهما بين دفتي الديوان، إذًا هي رسالة عبر القوافي تُخاطب الوجدانِيَّات، التي يظن باشراحيل أنَّها قد تتجاوب معه من الأحياء الذين يشاركوننا في التفاعُل مع الأطروحات الأدبيَّة، ومِنْ ثَمَّ لا مكان لأيِّ معانٍ رثائيَّة في هذا الدِّيوان، أمَّا ديوان "وحشة الروح"، إضافةً إلى مجموعة "الأعمال الشعرية" التي تحوي مجموعة من الدواوين التي صدرت في أوقاتٍ مُتفرِّقة خلال رحلته الشعرية، فهي التي تَتناثر فيها كلُّ معاني الرثاء التي تنضح بها وجدانيَّات باشراحيل، سواء كانت قصائد رثاء أم قصائد أخرى.



وكأنَّ "باشراحيل" لم يكتفِ بقصائد الرثاء، فقام بإهداء ديوان "وحشة الروح" بما نصه: "إلى شهداء الأمة... من ثورة الجزائر إلى انتفاضة فلسطين"، كما أَهدَى الدواوين الأخرى إلى ذاتِ الرُّموز التي يُكِنُّ لها كلَّ الحب والتقدير (الوالدين، والوطن، والأحباب)، وصاغَ بعض الإهداءات نَثْرًا، وبعضها نظمها شعرًا، وهذا الأسلوب المتنوع في الإهداء دليلٌ على تغلب مَلَكة الشعر على الشاعر.



وبالنسبة لقصائد الرثاء، نجد ثلاثَ عشرة قصيدة في ديوان "قناديل الريح"، وقصيدتين في ديوان "وحشة الروح"، وقصيدة واحدة في كلٍّ من ديوان "الهوى قدري" وديوان "الخوف"، بإجمالي سبع عشرة قصيدة، إضافةً إلى بعض الرثائيَّات المبثوثة بين طيَّات قصائد أخرى، أمَّا الشخصيات التي يرثيها باشراحيل، فإنَّها صاحبة مكانة في قلبه بعيدًا عن المجاملات أو الرسْمِيَّات، وهذا واضح في صفاتِهم، ومواقفهم، وتوجُّهاتهم الفكرية والأدبية، وصلاتهم بالشاعر.



ولو تحدَّثنا عن الأعمال الشعرية بلُغة أهل الرواية ونقادها، فإنَّ أبطالَ باشراحيل وشخوصه كثيرةٌ جدًّا، وأنا أعتبر أنَّ كثرة الشخوص في العمل الشعري لا يعيبه، ولكنَّه يوضح اتِّساعَ دائرة المبدع، وعلاقاته الوجدانيَّة، وتفاعلاته الاجتماعيَّة.



ولعدم معرفتي ببعض الشخصيَّات التي رثاها باشراحيل، فقد استعنت بالأستاذ/ صلاح رشيد؛ لإلقاء حزمة ضوء على هذه الشخصيات ومآثرهم؛ للوقوف على مدى صدق التجربة الشعورية عند الشاعر، وذلك عند صياغة الفصل الخامس من هذه الدراسة تحت عنوان: "شخصيات الشاعر في الرثاء".



أمَّا "الرثاء" كمصطلح في الأدب العربي، فإنه تبلور عبر مراحلَ عديدة، بَدءًا من العصر الجاهلي، مرورًا بالعصور الإسلامية المتعاقبة وحتى الآن، وسيأتي تفصيلٌ لذلك في التمهيد، مقرونًا ببعض الشواهد والأسانيد.



وإذا سلَّمنا أنَّ من فنون البلاغة والبيان ما يقال عنه "مدح في صورة ذم، أو ذم في صورة مدح"، فهل يُمكن أن نطبقَ النظريةَ نفسَها على الأغراض الشعرية؟ فنقول: إنَّ قصائد الرثاء رُبَّما تأتي في طيَّات الأغراض الأخرى أو العكس؟



أطرح هذا التساؤل؛ لأنَّ قصائدَ باشراحيل المتنوعة نجد فيها الرثاءَ قاسمًا مُشتركًا بنسبة ولو قليلة، وكان الرثاء هو (الغائب الحاضر) في كثيرٍ من القصائد التي صِيغَت في أغراض شعرية أخرى، وهذا قد يُسْتَشَفُّ من حساسِيَّته المفرطة في علاقاتِه ووجدانِيَّاته ومشاعره نحو الآخَرين، كما أنَّ ذلك يوحي به التداخُل غير المذموم بين الأغراض الشعرية عند باشراحيل، الذي يُذكِّرنا بالشعر العربي الأصيل في أزهى عُصورِه، سواء كان الشعر الجاهلي أم الإسلامي.



ولقد استَطاع باشراحيل من خِلال كلماته المجنَّحة، وقوافيه المحكمة أنْ يفرضَ نفسه على وجدانياتي، كما فرضها من قبل على السَّاحة الأدبية العربية، وإذا أردت أن أقدمَ عنه موجزًا في هذه الدراسة على سبيل التذكير وليس التعريف، فهو:

الأديب الشاعر الدكتور/ عبدالله محمد صالح باشراحيل، من شعراء المملكة العربية السعودية المعروفين والمتميزين، رئيس مجلس إدارة مستشفى محمد صالح باشراحيل بالمملكة.



عضو في كثير من الهيئات والاتحادات والرَّوابط الأدبية والاجتماعية والإنمائية والعلمية في كثيرٍ من أقطار العالم العربي، وعضو مؤسِّس لمؤسسة الفكر العربي.



أنشأ جائزةً سنوية لتشجيع وإثراء حركة الإبداع العربي، وذلك باسم: "جائزة باشراحيل للإبداع الثقافي".



له أكثر من اثني عشر ديوانَ شعر، (جمع بعض هذه الدواوين في مجلدين كبيرين)، كما أصدر بعض الدراسات الأدبية والمقالات النقدية المتنوعة.



قدَّم أعمالَه للقراء كثيرٌ من الشعراء العرب الكبار، كما كتب عنه كثيرٌ من الدارسين والباحثين.



ترجم بعضَ أشعاره إلى اللغة الفرنسية واللغة اليونانية.



وسواء كان الرد على التساؤل الذي طرحته من قبل عن تداخُل الأغراض الشعرية بالإيجاب أو بالنفي، فإنَّني سأسلك بكم طريقًا في بحور باشراحيل حسب قناعاتي النَّقدية (لا أخاف دَرَكًا ولا أخشى)؛ لأن كثرةَ الأودية التي تمرُّ خلالها دروب المبدع باشراحيل لا تُغني عن وادٍ مؤصل أثير لديه، وهذا الوادي يحطُّ باشراحيل عنده رحالَه كلما غدا أو راح بين أغراضه المتنوِّعة، ومن أراد أن يرتويَ من عذب منهله "فليتبعني وراء هذا الوادي".






تمهيد



"المرثية والرثاء في اللغة والاصطلاح":

يرتبط المدلولُ اللغوي للمرثية والرثاء بالميت والبكاء، وهما في الأصل مصدر للفعل (رثى)، فيقال: رثيت الميت رثيًا ورثاءً ومرثاة ومرثية، ويدلُّ "رثى" في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق؛ يقول ابن فارس: إنَّ اجتماع الراء والثاء والحرف المعتل أصلي في الثلاثي يدلُّ على رقة وإشفاق، يقال: رثيت لفلان؛ أي: رققت، وجاء في اللسان: رثى له؛ أي: رقَّ له... وتوجع، ويقال: ما يرثي فلان لي؛ أي: ما يتوجع ولا يبالي[2].



والمرثية والرثاء في اللغة: بكاء الميت، وتَعداد مَحاسنه، فيقال: رثى فلان فلانًا يرثيه رثيًا ومرثية، إذا بكاه بعد موته، ورثوت الميت أيضًا إذا بكيته وعدَّدت محاسنه.



وينطوي الرثاء في دلالة أخرى على النُّواح، فكان يقال للنَّائحة: إنَّها تترثى[3]، ورثاء المرأة: النياحة، والمرأة الرثاء، والرثاية: النَّوَّاحة، فالرثاء هو: النواح.



ولا نجد ذكرًا للشعر في مدلولهما عند اللغويين المتقدِّمين، أمثال الخليل وابن دريد والأزهري، لكنَّا نراه بدأ بالظهور عند الجوهري، ويتابعه بعد ذلك بقيَّة اللُّغويين؛ يقول الجوهري: "رثيت الميتَ مرثية، ورثوته أيضًا: بكيته، وعددت مَحاسنه، (وكذلك إذا نظمت فيه شعرًا)"[4]، إضافةً من الجوهري على القدماء تلك العبارة الأخيرة، كما أنَّ ابن فارس يضيف أيضًا عبارة: "ومن الباب قولهم: رُثِي الميت بشعر"[5].



ولعلَّ هذا الاستدراكَ جاء نتيجةً للحركة النقدية، التي برزت في القرنين الثاني والثالث للهجرة، وأسهمت في تَخصيص مدلول الرِّثاء بالموضوع الشعري؛ أي: إنَّ للرثاء مدلولاً واسعًا هو التوجُّع والإشفاق، أخَذ يتخصص أكثر بالشِّعر وموضوعاته.



وقد أخَذ مدلولُ المرثية يرتبط بالقصيدة، أو القطعة الشِّعرية من خلال ارتباطه بالعدد، فيقال: "رثيت الميت بشعر: قلت فيه مَرْثِيَّة، وقد ورَد جمع المرثية على "مراثي"، ولم يرد جمع للرثاء"[6].



أمَّا الرثاء، فقد بَقِيَ على دلالته العامَّة، وهي البُكاء على الميت، والإشفاق عليه، ونظم الشعر فيه، فالمرثية إذًا هي القصيدةُ أو القطعةُ الشعرية، أمَّا الرثاء فهو الإشفاق والحزن، وهو أمر معنوي.



ولم نجد لدى النقَّاد القدامى تحديدًا وتَمييزًا اصطلاحيًّا واضحًا لمفهوم (المرثية) و(الرثاء)، لكنَّنا يُمكن أن نستشفَّ من خلال الاستعمال الأدبي لهما من قبل النقَّاد أنَّ المقصودَ بالمرثية هو القصيدة، وأنَّ الرثاء هو الموضوع الشعري، فلقد اهتمَّ النقادُ القدماء بالمرثية بوصفها قصيدةً شعريَّة، فاختاروا أجودَها، وجعلوا لأصحابها طبقةً بين طبقات الشعراء، وأشاروا إلى الضَّعيف منها، وبيَّنوا أسبابَ هذا الضعف، كما أنَّهم استَجادوا عددًا من مقدماتِها، وعابوا الأخرى، وتحدَّثوا عن الأساليب والمعاني والأوزان اللاَّئقة بها، واهتمُّوا كذلك بالرثاء بوصْفه موضوعًا شعريًّا بين الموضوعات الشعريَّة الأخرى، وتَحدثوا عن درجة الحزن وعلاقتها بالرثاء، وعن طبيعة المرثي ودَوْره في التأثير على موضوع الرثاء، وعلى معاني الحزن العامة[7].



إنَّ المدلول اللغويَّ للرثاء الذي تَعارَف عليه القدماء، أصبح بمرور الزمن يمثِّل المدلول الاصطلاحي له، وهكذا يرى مؤلفُ كتاب "المراثي الشعرية" أنَّ مصطلح الرثاء في الدراسات المعاصرة يعني بكاء الميت وتَعداد مَحاسنه بالشعر والنثر، أو هو موضوع أدبي يقوم في بنيته الأساسِيَّة على الحزن على الميت.



وعلى هذا، تكون المرثية هي الأثرَ الأدبي الذي يتَّخذ الرثاء موضوعًا له.



ولما للتأبين من علاقة بالرِّثاء؛ نشير هنا إلى معنى التأبين، فقد جاء تحت مادة أبن: وأبَّن الرجل تأبينًا، وأبَّنه: مدحه بعد موته وبكاه، وقال شمر: التأبين: الثناءُ على الرجل في الموت والحياة[8].



وجاء أيضًا: وندب الميت؛ أي: بكى عليه وعدَّد محاسنه، يندبه ندبًا، والاسم النُّدبة بالضم، وندب الميت بعد موته من غير أن يقيد ببكاء، وأن تذكر النائحةُ الميتَ بأحسن أوصافه وأقواله[9].



وكما نلاحظ، فهذه الألفاظ وإن تباينت طبيعةُ حروفها، فإنَّ معانيها في مُعظمها واحدة، تطلق ويراد بها تَعداد شمائل المرثي وتأبينه، وإظهار اللوعة والأسى والتحسُّر على رحيله عن الحياة، تَحسُّرًا يَملؤه التفجُّع الصادق، النابع من قلب الراثي الوفي لمن يؤبنه.



ولا غروَ في هذا، فالرِّثاء غرض قديم وجديد أيضًا؛ لأنه متعلق بوجدان الإنسان، والإنسان الحساس غير مقفرِ الوجدان ولا جافِي الطبع، والأحزان تفجر في الإنسان ينابيعَ ثَرَّة من الفن الصادق.



والرثاء يعدُّ من أصدقِ الأغراض الشعرية؛ لأنَّه يخلو من الطمع والحاجة إلى المكافأة، بل ينبع من الإخلاصِ والصدق، إنه لمحة وفاء تشرق في الرُّوح، وتنهمر مع الدموع، وتنساب من الشفاه نشيدًا مثخنًا بالجراح موسومًا بالصدق[10].



إذًا الرثاء في الحقيقة: فنُّ تصوير العواطف الملتهبة والقلوب المكلومة، والنفس البشرية إذا كُلِمَت، نَفَّست عمَّا بداخلها من حزن على فقيدها، الذي كان يملأ عليها الدنيا.



وقد راجَ هذا الفن رواجًا عظيمًا في شعرنا العربي؛ لأنَّه وثيقُ الصلة بنهاية المخلوق في هذه الحياة.



"الرثاء: فلسفة بكاء الذَّات باستدعاء مواقف الراحلين، وتمثل ما بعد الحياة الدنيا، والتحسُّر هو التحسُّر نفسه على فَقْدِ الفرص السانحة للاستعداد من خلال تأمُّل مواكب الآفلين"[11].



ولذا كان الرثاء مُقترنًا بالموت، وليس هناك أمة لم تعرفه؛ وعلى ذلك فهو موجود عند كل الأمم، وفي كل العصور، كذلك هو الفن الذي لم يخلُ منه ديوان شاعر ولا شاعرة، حتى اشتهر بعضُ الشعراء والشواعر به، وعُدَّ علامةً بارزة في أشعارهم، أمثال: الخنساء، وجليلة بنت مرة، وليلى الأخيلية، وغيرهن كثير من الرِّجال والنساء، وقد سجَّل مُؤرخو الأدب على مَرِّ العصور تراثًا أدبيًّا ضخمًا من هذا الفن، فأضافوا إلى التراث الإنساني تراثًا تليدًا وطريفًا أثرى الصفحات الأدبية بكمٍّ هائل من القصائد، بل من عيونها.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 460.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 459.16 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.37%)]