فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 25 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الوهن الذي أصاب الأمــة جعلهــا تخشى قوة الأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          التراجم: نماذج من المستشرقين المنصِّرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الاستشراق والتنصير مدى العلاقة بين ظاهرتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 35 )           »          وسواس بسبب صدمة في الطفولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أريد التخلص من الأفكار السلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          وهم الخيانة الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          مشكلة بطء الاستيعاب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          ارتعاش اليدين عند الغضب والتوتر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          قلة التركيز والنسيان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          راقبت أصدقائي واكتشفت شذوذهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #241  
قديم 25-01-2023, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 241)

من صــ 311 الى صـ 325



(ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)
قال الشيخ الإمام العالم مفتي الأنام المجتهد الفقيه الإمام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني - رحمه الله ورضي عنه -:
قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... }.
هذا الخطاب يقتضي: أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل. والمسح. وهو الوضوء. وذهبت طائفة: إلى أن هذا عام مخصوص.
وذهبت طائفة: إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضئا وكلا القولين ضعيف. فأما الأولون: فإن منهم من قال: المراد بهذا: القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم. قالوا: الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا وعلى المتغوط بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} وعلى لامس النساء بقوله: {أو لامستم النساء} وهذا هو الحدث المعتاد. وهو الموجب للوضوء عندهم. ومن هؤلاء من قال: فيها تقديم وتأخير. تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فيقال: أما تناولها للقائم من النوم المعتاد: فظاهر لفظها يتناوله.

وأما كونها مختصة به بحيث لا تتناول من كان مستيقظا وقام إلى الصلاة - فهذا ضعيف. بل هي متناولة لهذا لفظا ومعنى. وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة: لا من نوم:
كالعصر والمغرب والعشاء. وكذلك الظهر في الشتاء؛ لكن الفجر يقومون إليها من نوم. وكذلك الظهر في القائلة. والآية تعم هذا كله. لكن قد يقال: إذا أمرت الآية القائم من النوم - لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره - فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى. فتكون - على هذا - دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه.
وإن قيل: إن اللفظ عام يتناول هذا بطريق العموم اللفظي. فهذان قولان متوجهان. والآية على القولين عامة. وتعم أيضا القيام إلى النافلة بالليل والنهار والقيام إلى صلاة الجنازة كما سنبينه إن شاء الله. فمتى كانت عامة لهذا كله: فلا وجه لتخصيصها. وقالت طائفة: تقدير الكلام: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم. فإن المتوضئ ليس عليه وضوء. وكل هذا عن الشافعي رحمه الله. ويوجبه الشافعي في التيمم فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا.

فإن كان قد قال هذا: كان له قولان. ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف؛ لاتفاقهم على الحكم. فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقا على الإضمار كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي.
قال: وللعلماء في المراد بالآية قولان. أحدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء. وهذا قول سعد بن أبي وقاص وأبي موسى وابن عباس رضي الله عنهم والفقهاء. قال: والثاني أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثا كان أو غير محدث. وهذا مروي عن عكرمة وابن سيرين. ونقل عنهم: أن هذا الحكم غير منسوخ. ونقل عن جماعة من العلماء: أن ذلك كان واجبا بالسنة. وهو ما روى بريدة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد. وقال: عمدا فعلته يا عمر}. قلت: أما الحكم - وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى - فهذا قول عامة السلف والخلف: والخلاف في ذلك شاذ. وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى فإنه قد ثبت بالتواتر {أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعا جمع بهم بين الصلاتين} وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله. ولما سلم من الظهر. صلى بهم العصر ولم يحدث وضوءا لا هو ولا أحد ولا أمر الناس بإحداث وضوء ولا نقل ذلك أحد وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقا.
وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس؟ فيه نزاع. وفيه عن أحمد رحمه الله روايتان. وكذلك أيضا لما قدم مزدلفة: {صلى بهم المغرب والعشاء جمعا} من غير تجديد وضوء للعشاء. وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة. وأقام لكل صلاة إقامة. وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم. كلها تقتضي: أنه هو صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى لم يحدثوا لها وضوءا.
وكذلك هو صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم {أنه كان يتوضأ لصلاة الليل. فيصلي به الفجر} مع أنه كان ينام حتى يغط. ويقول {تنام عيناي ولا ينام قلبي} فهذا أمر من أصح ما يكون أنه: كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة. فكيف يقال: إنه كان يتوضأ لكل صلاة؟. وقد ثبت عنه في الصحيح {أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر. ثم قدم عليه وفد عبد القيس. فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر ولم يحدث وضوءا}.
وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة. وتارة النافلة ثم الفريضة وتارة فريضة ثم فريضة. كل ذلك بوضوء واحد. وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة. وكان المسلمون على عهده يتوضئون ثم يصلون ما لم يحدثوا كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف -: أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة.
فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل.
وأما القول بوجوبه: فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولإجماع الصحابة.
والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه. وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا والكذب على علي كثير مشهور: أكثر منه على غيره. وأحمد بن حنبل رحمه الله - مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين - أنكر أن يكون في هذا نزاع. وقال أحمد بن القاسم: سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه.
ما ظننت أن أحدا أنكر هذا. وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قلت: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث} وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة. ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين مع أنه كان أحيانا يصلي صلوات بوضوء واحد. كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: {صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه. فقال له عمر: إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن صنعته؟ قال: عمدا صنعته يا عمر}. والقرآن أيضا يدل على أنه لا يجب على المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه: أحدها: أنه سبحانه قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} فقد أمر من جاء من الغائط ولم يجد الماء: أن يتيمم الصعيد الطيب. فدل على أن المجيء من الغائط يوجب التيمم. فلو كان الوضوء واجبا على من جاء من الغائط ومن لم يجئ فإن التيمم أولى بالوجوب. فإن كثيرا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة. وعلى هذا فلا تأثير للمجيء من الغائط. فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم وإن لم يجئ من الغائط.

ولو جاء من الغائط ولم يقم إلى الصلاة: لا يجب عليه وضوء ولا تيمم فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثا على قول هؤلاء. الوجه الثاني: أنه سبحانه خاطب المؤمنين. لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم وكل بني آدم محدث. والأصل فيهم: الحدث الأصغر. فإن أحدهم من حين كان طفلا قد اعتاد ذلك فلا يزال محدثا بخلاف الجنابة. فإنها إنما تعرض لهم عند البلوغ. والأصل فيهم: عدم الجنابة كما أن الأصل فيهم: عدم الطهارة الصغرى؛ فلهذا قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فأمرهم بالطهارة الصغرى مطلقا.

لأن الأصل: أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضئوا. ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وليس منهم جنب إلا من أجنب. فلهذا فرق سبحانه بين هذا وهذا. الثالث: أن يقال: الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة. فدل على أن القيام هو السبب الموجب للوضوء. وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبا حينئذ وجوبا مضيقا. فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك: فقد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كما قال: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة. وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره. فإذا سعى إليها قبل النداء: فقد سابق إلى الخيرات وسعى قبل تضييق الوقت. فهل يقول عاقل: إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء؟. وكذلك الوضوء: إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال أو للمغرب قبل غروب الشمس أو للفجر قبل طلوعه وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت. فمن قال: إن عليه أن يعيد الوضوء فهو بمنزلة من يقول: إن عليه أن يعيد السعي إذا أتى الجمعة قبل النداء. والمسلمون على عهد نبيهم كانوا يتوضئون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب.
وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد. فهؤلاء لو لم يتوضئوا قبل المغرب: لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعا لبعد المواضع. وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوضأ بعد الغروب ولا من حضر عنده في المسجد ولا كان يأمر أحدا بتجديد الوضوء بعد المغرب. وهذا كله معلوم مقطوع به. وما أعرف في هذا خلافا ثابتا عن الصحابة: أن من توضأ قبل الوقت عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت. ولا يستحب أيضا لمثل هذا تجديد وضوء. وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول: هل يستحب له التجديد؟ وأما من لم يصل به: فلا يستحب له إعادة الوضوء؛ بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت.

فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كالساعي إلى الجمعة قبل النداء وكمن قضى الدين قبل حلوله؛ ولهذا قال الشافعي وغيره: إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة؛ لأنها تلك الصلاة بعينها سابق إليها قبل وقتها. وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة. ومن أوجبها قاسه على الحج وبينهما فرق. كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهذا الذي ذكرناه في الوضوء: هو بعينه في التيمم. ولهذا كان قول العلماء: إن التيمم كالوضوء فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء.

وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وغيرها؛ كما هو قول ابن عباس. وهو مذهب كثير من العلماء: أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين عن أحمد. والقول الآخر - وهو التيمم لكل صلاة - هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد. وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه. فالآية محكمة ولله الحمد. وهي على ما دلت عليه من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء. فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه وسارع إلى الخيرات كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء. فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص ولا تدل على وجوب الوضوء مرتين. بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة وهو الذي عليه جماعة المسلمين وهو وجوب الوضوء على المصلي. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط}
وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول}. وهذا يوافق الآية الكريمة. فإنه يدل على أنه لا بد من الطهور ومن كان على وضوء فهو على طهور وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثا.

كما قال: {لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ} وهو إذا توضأ ثم أحدث: فقد دلت الآية على أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة وإذا كان قد توضأ فقد فعل ما أمر به. كقوله: لا تصل إلا بوضوء. أو لا تصل حتى تتوضأ ونحو ذلك. مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة الشامل لأنواعها وأعيانها. ليس مأمورا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر. ولا في اللفظ ما يدل على ذلك. لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس كمن أسلم فتوضأ قبل الزوال أو الغروب أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت. بخلاف الوجه الذي قبله. فإنه يتناول هذا كله.

فصل:
وقوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} يقتضي وجوب الوضوء على كل مصل مرة بعد مرة فهو يقتضي التكرار وهذا متفق عليه بين المسلمين في الطهارة. وقال دلت عليه السنة المتواترة بل هو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يأمرنا بالوضوء لصلاة واحدة. بل أمر بأن يتوضأ كلما صلى: ولو صلى صلاة بوضوء وأراد أن يصلي سائر الصلوات بغير وضوء: استتيب فإن تاب وإلا قتل. لكن المقصود هنا: دلالة الآية عليه وذلك من لفظ " الصلاة " فإن " الصلاة " هنا اسم جنس. ليس المراد صلاة واحدة. فقد أمر إذا قام إلى جنس الصلاة أن يتوضأ. والجنس يتناول جميع ما يصليه من الصلوات في جميع عمره.
فإن قيل: هذا يقتضي عموم الجنس فمن أين التكرار؟ فإذا قام إلى أي صلاة توضأ لكن من أين أنه إذا قام إليها يوما آخر يتوضأ؟ قيل: لأنه في هذا اليوم الثاني قائم إلى الصلاة. فهو مأمور بالوضوء إذا قام إلى مسمى الصلاة؛ فحيث وجد قيام إلى مسمى الصلاة فهو مأمور بالوضوء متى وجد ذلك. فعليه الوضوء. وهو كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} فالمراد: جنس الدلوك فهو مأمور بإقامة الصلاة له.

وكذلك قوله: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} فهو متناول لكل طلوع وغروب وليس المراد طلوعا واحدا فكأنه قال: قبل كل طلوع لها وقبل كل غروب. وأقم الصلاة عند كل دلوك وكل صلاة يقوم إليها متوضئا لها. وقد تنازع الناس في الأمر المطلق: هل يقتضي التكرار؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يقتضيه كقول طائفة منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل. وقيل: لا يقتضيه كقول كثير منهم أبو الخطاب. وقيل: إن كان معلقا بسبب اقتضى التكرار. وهذا هو المنصوص عن أحمد كآية الطهارة والصلاة.
فإن قيل: فهذا لا يتكرر في الطلاق والعتق المعلق. قيل: لأن عتق الشخص الواحد لا يتكرر. وكذلك الطلاق المعلق نفسه لا يتكرر. بل الطلقة الثانية حكمها غير حكم الأولى. وهو محدود بثلاث. ولكن إذا قال الناذر: لله علي إن رزقني الله ولدا أن أعتق عنه وإذا أعطاني مالا أن أزكيه أو أتصدق بعشره: تكرر. وبسط هذا له موضع آخر.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #242  
قديم 25-01-2023, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 242)

من صــ 326 الى صـ 340


فصل:
قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الآية.
هذا مما أشكل على بعض الناس. فقال طائفة من الناس: " أو " بمعنى الواو وجعلوا التقدير: وجاء أحد منكم من الغائط. ولامستم النساء. قالوا: لأن من مقتضى " أو " أن يكون كل من المرض والسفر موجبا للتيمم؛ كالغائط والملامسة. وهذا مخالف لمعنى الآية
فإن " أو " ضد الواو: والواو: للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه.
وأما معنى: " أو " فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه بل يقتضي إثبات أحدهما. لكن قد يكون ذلك مع إباحة الآخر كقوله: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ وتعلم الفقه أو النحو؛ ومنه خصال الكفارة يخير بينها ولو فعل الجميع جاز. وقد يكون مع الحصر؛ يقال للمريض: كل هذا أو هذا. وكذلك في الخبر: هي لإثبات أحدهما إما مع عدم علم المخاطب. وهو الشك أو مع علمه وهو الإيهام كقوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} لكن المعنى الذي أراده: هو الأصح وهو أن خطابه بالتيمم: للمريض والمسافر وإن كان قد جاء من الغائط أو جامع. ولا ينبغي - على قولهم - أن يكون المراد: أن لا يباح التيمم إلا مع هذين. بل التقدير: بالاحتلام أو حدث بلا غائط فالتيمم هنا أولى وهو سبحانه لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء أمرهم إذا كانوا جنبا: أن يطهروا وفيهم المحدث بغير الغائط كالقائم من النوم والذي خرجت منه الريح. ومنهم الجنب بغير جماع بل باحتلام. فالآية عمت كل محدث وكل جنب. فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} {فتيمموا} فأباح التيمم للمحدث والجنب إذا كان مريضا أو على سفر ولم يجد ماء. والتيمم رخصة. فقد يظن الظان: أنها لا تباح إلا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع. فإن التيمم مع ذلك والصلاة معه: مما تستعظمه النفوس وتهابه. فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقا. وكثير من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم إذ كان جعل التراب طهورا كالماء: هو مما فضل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته.
ومن لم يستحكم إيمانه: لا يستجيز ذلك. فبين الله سبحانه: أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط وتغليظ الجنابة بالجماع. والتقدير: وإن كنتم مرضى أو مسافرين أو كان - مع ذلك - جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ليس المقصود: أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر. فإنه إذا جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء وليسوا مرضى ولا مسافرين. فقد بين ذلك بقوله {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} وبقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فدلت الآية على وجوب الوضوء والغسل على الصحيح والمقيم.
وأيضا فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع: يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة دون ما هو أخف من ذلك من خروج الريح ومن الاحتلام. فإن الريح كالنوم والاحتلام يكون في المنام. فهناك يحصل الحدث والجنابة والإنسان نائم. فإذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل فإذا حصل ذلك وهو يقظان: فهو أولى بالوجوب. لأن النائم رفع عنه القلم بخلاف اليقظان. ولكن دلت الآية على أن الطهارة تجب وإن حصل الحدث والجنابة بغير اختياره كحدث النائم واحتلامه.

وإذا دلت على وجوب طهارة الماء في الحال فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته: أولى. وهذا بخلاف التيمم. فإنه لا يلزم إذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح: أن يبيحه لمن أحدث باختياره فقال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} ليبين جواز التيمم لهذين. وإن حصل حدثهما في اليقظة وبفعلهما وإن كان غليظا. ولو كانت " أو " بمعنى الواو: كان تقدير الكلام: أن التيمم لا يباح إلا بوجود الشرطين - المرض والسفر - مع المجيء من الغائط والاحتلام. فيلزم من هذا أن لا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط كحدث النائم ومن خرجت منه الريح.

فإن الحكم إذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما. وهذا ليس مرادا قطعا بل هو ضد الحق؛ لأنه إذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى. فتبين أن معنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا. وإن كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء.
كما يقال: وإن كنت مريضا أو مسافرا. والتقدير: وإن كنتم أيها القائمون إلى الصلاة - وأنتم مرضى أو مسافرين - قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء؛ ولهذا قال من قال: إنها خطاب للقائمين من النوم: إن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فإنه سبحانه ذكر أولا فعلهم بقوله: {إذا قمتم} {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الثلاثة أفعال. وقوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} حال لهم. أي كنتم على هذه الحال. كقوله: وإن كنتم على حال العجز عن استعمال الماء - إما لعدمه أو لخوف الضرر باستعماله - فتيمموا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم. أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ولكن الذي رجحناه: أن قوله: {إذا قمتم} عام: إما لفظا ومعنى. وإما معنى.
وعلى هذا فالمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة فتوضئوا أو اغتسلوا إن كنتم جنبا وإن كنتم مرضى أو مسافرين أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث - جئتم من الغائط أو لامستم النساء - إذ التقدير: وإن كنتم مرضى أو مسافرين وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم - مع القيام إلى الصلاة والمرض أو السفر - هذين الأمرين المجيء من الغائط والجماع. فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين. فالقيام موجب للطهارة والعذر مبيح وهذا القيام. فإذا قمتم وجب التيمم إن كان قياما مجردا. أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ولكن من الناس من يعطف قوله {أو جاء} {أو لامستم} على قوله {إذا قمتم} والتقدير: وإذا قمتم أو جاء أو لامستم. وهذا مخالف لنظم الآية.
فإن نظمها يقتضي أن هذا داخل في جزاء الشرط. وقوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} فإن الذي قاله قريب من جهة المعنى. ولكن التقدير: وإن كنتم إذا قمتم إلى الصلاة مرضى أو على سفر أو كان مع ذلك: جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فهو تقسيم من مفرد ومركب. يقول: إن كنتم مرضى أو على سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام من النوم أو القعود المعتاد. أو كنتم - مع هذا -: قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} خطاب لمن قيل لهم: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالمعنى يا أيها القائم إلى الصلاة توضأ. وإن كنت جنبا فاغتسل.

وإن كنت مريضا أو مسافرا تيمم. أو كنت مع هذا وهذا مع قيامك إلى الصلاة وأنت محدث أو جنب. ومع مرضك وسفرك قد جئت من الغائط أو لامست النساء: فتيمم إن كنت معذورا. وإيضاح هذا: أنه من باب عطف الخاص على العام الذي يخص بالذكر لامتيازه. وتخصيصه يقتضي ذلك. ومثل هذا يقال: إنه داخل في العام ثم ذكر بخصوصه. ويقال: بل ذكره خاصا يمنع دخوله في العام. وهذا يجيء في العطف بأو وأما بالواو: فمثل قوله تعالى {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم} الآية ومن هذا قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ونحو ذلك.

وأما في " أو " ففي مثل قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} وقوله: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} وقوله {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} فإن الجنف هو الميل عن الحق وإن كان عامدا.
قال عامة المفسرين " الجنف " الخطأ و " الإثم " العمد. قال أبو سليمان الدمشقي: الجنف: الخروج عن الحق. وقد يسمى " المخطئ العامد " إلا أن المفسرين علقوا " الجنف " على المخطئ و " الإثم " على العامد. ومثله قوله: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} فإن " الكفور " هو الآثم أيضا. لكنه عطف خاص على عام. وقد قيل: هما وصفان لموصوف واحد وهو أبلغ. فإن عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كقوله: {الذي خلق فسوى} {والذي قدر فهدى} وقوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} وقوله: {قد أفلح المؤمنون} {الذين هم في صلاتهم خاشعون} {والذين هم عن اللغو معرضون} {والذين هم للزكاة فاعلون} {والذين هم لفروجهم حافظون} ونظائر هذا كثيرة. قال ابن زيد: الآثم المذنب الظالم والكفور.
هذا كله واحد. قال ابن عطية: هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي. قال: واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور من المشركين. وقال أبو عبيدة وغيره: ليس فيها تخيير " أو " بمعنى الواو. وكذلك قال طائفة: منهم البغوي وابن الجوزي. وقال المهدوي: أي لا تطع من أثم أو كفر. ودخول " أو " يوجب أن لا تطيع كل واحد منهما على انفراده. ولو قال: ولا تطع منهما آثما أو كفورا لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين. وقد يقال: إن " الكفور " هو الجاحد للحق وإن كان مجتهدا مخطئا. فيكون هذا أعم من وجه وهذا أعم من وجه التمسك (1).
وقوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} من هذا الباب. فإنه خاطب المؤمنين. فقال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وهذا يتناول المحدثين كما تقدم. ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ثم قال " وإن كنتم - مع الحدث والجنابة - مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا "وهذا يتناول كل محدث سواء كان قد جاء من الغائط أو لم يجئ كالمستيقظ من نومه. والمستيقظ إذا خرجت منه الريح. ويتناول كل جنب سواء كانت جنابته باحتلام أو جماع.
فقال " وإن كنتم محدثون - جنب مرضى أو على سفر - أو جاء أحد منكم من الغائط " وهذا نوع خاص من الحدث {أو لامستم النساء} وهذا نوع خاص من الجنابة. ثم قد يقال: " لفظ الجنب " يتناول النوعين وخص المجامع بالذكر وكذلك " القائم إلى الصلاة " يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك لكن خص الجائي بالذكر كما في قوله: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} فالآثم هو المتعمد وتخصيصه بالذكر - وإن كان دخل - ليبين حكمه بخصوصه ولئلا يظن خروجه عن اللفظ العام. وإن كان لم يدخل فهو نوع آخر. والتقدير: إن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا. وهذا معنى الآية.
فصل:
وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} ذكر الحدث الأصغر. فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضي فيه الحاجة. وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة وهي الغائط. وهو كقولك: جاء من المرحاض. وجاء من الكنيف ونحو ذلك. هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط. والريح يخرج معهما. وقد تنازع الفقهاء: هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءا من الغائط. فلا يكون على هذا نوعا آخر؟ أو هي لا تستصحب جزءا من الغائط. بل هي نفسها تنقض. ونقضها متفق عليه بين المسلمين.
وقد دل عليه القرآن في قوله: {إذا قمتم} سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقا. فإن القيام من النوم: مراد على كل تقدير. وهو إنما نقض بخروج الريح. هذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف: أن النوم نفسه ليس بناقض ولكنه مظنة خروج الريح. وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره. وهو قول ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ ويقول: تنام عيناي ولا ينام قلبي}. فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح: لنقض كسائر النواقض.
وأيضا قد ثبت في الصحيحين " أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى تخفق رءوسهم. ثم يصلون ولا يتوضئون وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ". وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا. ثم رقدنا ثم استيقظنا. ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم}.

ولمسلم عنه قال {مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة. فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه - ولا ندري أي شيء شغله من أهله أو غير ذلك - فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة. ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى}. ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت {اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى. فقال: إنه لوقتها؛ لولا أن أشق على أمتي}. ففي هذه الأحاديث الصحيحة: أنهم ناموا وقال في بعضها " إنهم رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا " وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة وقد طال انتظارهم وناموا. ولم يستفصل أحدا لا سئل ولا سأل الناس: هل رأيتم رؤيا؟ أو هل مكن أحدكم مقعدته؟ أو هل كان أحدكم مستندا؟ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض؟ فلو كان الحكم يختلف لسألهم. وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل - مع كثرة الجمع - يقع هذا كله. وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: {اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب: نام النساء والصبيان.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم. وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس}. وقد خرج البخاري هذا الحديث في " باب خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس " وفي " باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم " وخرجه في " باب وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة " وقال فيه {إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم}.
وهذا يبين أن قول عمر " نام النساء والصبيان " يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة. وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أي نوم كان لم ينتقض وضوءه. فإن النوم ليس بناقض. وإنما الناقض: الحدث فإذا نام النوم المعتاد الذي يختاره الناس في العادة - كنوم الليل والقائلة - فهذا يخرج منه الريح في العادة وهو لا يدري إذا خرجت فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها: قام دليلها مقامها. وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة.
وأما النوم الذي يشك فيه: هل حصل معه ريح أم لا؟ فلا ينقض الوضوء. لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك. وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل. وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم. فإن قوله: {العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء} قد روي في السنن من حديث علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما وقد ضعفه غير واحد. وبتقدير صحته: فإنما فيه {إذا نامت العينان استطلق الوكاء} وهذا يفهم منه: أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء. ثم نفس الاستطلاق لا ينقض. وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق. وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضوءه. وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال {أمرنا أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة. لكن من غائط أو بول أو نوم} فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم. ولكن فيه: أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور. وهو يتناول النوم الذي ينقض. ليس فيه: أن كل نوم ينقض الوضوء.
هذا إذا كان لفظ " النوم " من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف إذا كان من كلام الراوي؟ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودا أو قياما في الصلاة أو غيرها فينعس أحدهم وينام ولم يأمر أحدا بالوضوء في مثل هذا. أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس: فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح وقد لا يخرج: فلا ينقض على أصل الجمهور. الذين يقولون: إذا شك هل ينقض أو لا ينقض؟ أنه لا ينقض. بناء على يقين الطهارة.
فصل:

وهو سبحانه أمرنا بالطهارتين الصغرى والكبرى وبالتيمم عن كل منهما فقال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} فأمر بالوضوء. ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فأمر بالتطهر من الجنابة كما قال في المحيض: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} وقال في سورة النساء: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} وهذا يبين أن التطهر هو الاغتسال. والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة. والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر كما قال جمهور العلماء. والمشهور في مذهب أحمد: أن عليه نية رفع الحدث الأصغر وكذلك ليس عليه فعل الوضوء ولا ترتيب ولا موالاة عند الجمهور. وهو ظاهر مذهب أحمد. وقيل: لا يرتفع الحدث الأصغر إلا بهما. وقيل: لا يرتفع حتى يتوضأ. روي ذلك عن أحمد.
__________
Q (1) بياض في الأصل





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #243  
قديم 25-01-2023, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 243)

من صــ 341 الى صـ 355


والقرآن يقتضي: أن الاغتسال كاف. وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر بل صار الأصغر جزءا من الأكبر. كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية واللواتي غسلن ابنته: {اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر.
وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها}. فجعل غسل مواضع الوضوء جزءا من الغسل لكنه يقدم كما تقدم الميامن. وكذلك الذين نقلوا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت {أنه كان يتوضأ ثم يفيض الماء على شعره ثم على سائر بدنه} ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين وكان لا يتوضأ بعد الغسل. فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء ولا ينويان وضوءا بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى. وقوله: {فاطهروا} أراد به الاغتسال. فدل على أن قوله في الحيض {حتى يطهرن فإذا تطهرن} أراد به الاغتسال كما قاله الجمهور: مالك والشافعي وأحمد. وأن من قال: هو غسل الفرج. كما قاله داود فهو ضعيف.

فصل:
قال الله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}. فقوله {فلم تجدوا ماء} يتعلق بقوله {على سفر} لا بالمرض. والمريض يتيمم وإن وجد الماء. والمسافر إنما يتيمم إذا لم يجد الماء. ذكر سبحانه وتعالى النوعين الغالبين: الذي يتضرر باستعمال الماء والذي لا يجده. وقوله {على سفر} يعم السفر الطويل والقصير كما قاله الجمهور. وقوله: {وإن كنتم مرضى} كقوله في آية الخوف: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} وقوله في الإحرام: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه}
وفي الصيام {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} ولم يوقت الله تعالى وقتا في المرض. والذي عليه الجمهور: أنه لا يشترط فيه خوف الهلاك. بل من كان الوضوء يزيد مرضه أو يؤخر برأه يتيمم. وكذلك في الصيام والإحرام. ومن يتضرر بالماء لبرد فهو كالمريض عند الجمهور. لكن الله ذكر الضرر العام وهو المرض. بخلاف البرد. فإنه إنما يكون في بعض البلاد لبعض الناس الذين لا يقدرون على الماء الحار. وكذلك ذكر المسافر الذي لا يجد الماء ولم يذكر الحاضر. فإن عدمه في الحضر نادر. لكن قد يحبس الرجل وليس عنده إلا ما يكفيه لشربه. كما أن المسافر قد لا يكون معه إلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابه. فهذا عند الجمهور عادم الماء فيتيمم.
فصل:

وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء}. ذكر أعظم ما يوجب الوضوء وهو قضاء الحاجة. وأغلظ ما يوجب الغسل وهو ملامسة النساء. وأمر كلا منهما إذا كان مريضا أو مسافرا لا يجد الماء: أن يتيمم. وهذا هو مذهب جمهور الخلف والسلف. وقد ثبت تيمم الجنب في أحاديث صحاح وحسان كحديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما. وهو في الصحيحين. وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه وهو في البخاري. وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وصاحب الشجة رضي الله عنهم. وهو في السنن.

فهاتان آيتان من كتاب الله وخمسة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عرفت مناظرة ابن مسعود في ذلك لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. ولهذا نظائر كثيرة عن الصحابة. إذا عرفتها تعرف دلالة الكتاب والسنة عن الرجل العظيم القدر تحقيقا لقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ولا يرد هذا النزاع إلا إلى الله والرسول المعصوم المبلغ عن الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده.
فصل:
ونذكر هذا على قوله: {أو لامستم النساء}.
المراد به: الجماع. كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من العرب. وهو يروى عن علي رضي الله عنه وغيره. وهو الصحيح في معنى الآية. وليس في نقض الوضوء من مس النساء لا كتاب ولا سنة. وقد كان المسلمون دائما يمسون نساءهم. وما نقل مسلم واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحدا بالوضوء من مس النساء. وقول من قال: إنه أراد ما دون الجماع وإنه ينقض الوضوء. فقد روي عن ابن عمر والحسن " باليد " وهو قول جماعة من السلف في المس بشهوة والوضوء منه حسن مستحب لإطفاء الشهوة كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه.
وأما وجوبه: فلا.

وأما المس المجرد عن الشهوة: فما أعلم للنقض به أصلا عن السلف. وقوله تعالى {أو لامستم النساء} لم يذكر في القرآن الوضوء منه بل إنما ذكر التيمم بعد أن أمر المحدث القائم للصلاة: بالوضوء. وأمر الجنب بالاغتسال فذكر الطهارة بالصعيد الطيب ولا بد أن يبين النوعين. وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} بيان لتيمم هذا. وقوله: {أو لامستم النساء} لم يذكر واحدا منهما لبيان طهارة الماء. إذا كان قد عرف أصل هذا. فقوله {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالآية ليس فيها إلا أن اللامس إذا لم يجد الماء يتيمم. فكيف يكون هذا من الحدث الأصغر؟ يأمر من مس المرأة أن يتيمم وهو لم يأمره أن يتوضأ. فكيف يأمر بالتيمم من لم يأمره بالوضوء؟ وهو إنما أمر بالتيمم من أمره بالوضوء والاغتسال. ونظير هذا يطول. ومن تدبر الآية قطع بأن هذا هو المراد.

فصل:
ودلت الآية على أن المسافر: يجامع أهله وإن لم يجد الماء ولا يكره له ذلك كما قاله الله في الآية. وكما دلت عليه الأحاديث. حديث أبي ذر وغيره.
فصل:
وقوله: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دليل على أن التيمم مطهر كالماء سواء. وكذلك ثبت في صحيح السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين. فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير} رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود والنسائي. وفي الصحيح عنه: قال {جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا}. وهو - صلى الله عليه وسلم - جعل التراب طهورا في طهارة الحدث وطهارة الجنب. كما قال في حديث أبي سعيد {إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن كان بهما أذى - أو خبث - فليدلكهما بالتراب.
فإن التراب لهما طهور} وقال في حديث أم سلمة {ذيل المرأة يطهره ما بعده}. فدل على أن التيمم مطهر يجعل صاحبه طاهرا كما يجعل الماء مستعمله في الطهارة طاهرا إن لم يكن جنبا ولا محدثا. فمن قال: إن المتيمم جنب أو محدث فقد خالف الكتاب والسنة. بل هو متطهر. وقوله في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه {أصليت بأصحابك وأنت جنب}؟ " استفهام. أي هل فعلت ذلك؟ فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله بل تيمم لخوفه: أن يقتله البرد. فسكت عنه وضحك. ولم يقل شيئا.
فإن قيل: إن هذا إنكار عليه: أنه صلى مع الجنابة. فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز. فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ما هو منكر فلما أخبره: أنه صلى بالتيمم. دل على أنه لم يصل وهو جنب. فالحديث حجة على من احتج به وجعل المتيمم جنبا ومحدثا. والله يقول: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر. والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة. فكيف يكون جنبا غير متطهر؟ لكنها طهارة بدل. فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة وتطهر بالماء حينئذ. لأن البول المتقدم جعله محدثا.
والصعيد جعله مطهرا إلى أن يجد الماء. فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم لا أن الحدث كان مستمرا. ثم من قال: التيمم مبيح لا رافع فإن نزاعه لفظي. فإنه إن قال: إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث وإنه ليس بطهور فهو يخالف النصوص. والجنابة محرمة للصلاة. فيمتنع أن يجتمع المبيح والمحرم على سبيل التمام فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين. والمتيمم غير ممنوع من الصلاة. فالمنع ارتفع بالاتفاق وحكم الجنابة المنع. فإذا قيل بوجوده بدون مقتضاها - وهو المنع - فهذا نزاع لفظي.
فصل:
وفي الآية دلالة على أن المتخلي لا يجب عليه غسل فرجه بالماء إنما يجب الماء في طهارة الحدث بسبيله على أن إزالة النجو والخبث لا يتعين لها الماء فإنه على ذلك تدل النصوص؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها تارة بالماء وتارة بغير الماء كما قد بسط في مواضع.
إذ المقصود هنا: التنبيه على ما دلت عليه الآية. فإن قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} نص في أنه عند عدم الماء يصلي وإن تغوط. بلا غسل. وقد ثبت في السنة {أنه يكفيه ثلاثة أحجار} وأما مع العذر: فإنه قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وهذا يتناول كل قائم وهو يتناول من جاء من الغائط كما يتناول من خرجت منه الريح.
فلو كان غسل الفرجين بالماء واجبا على القائم إلى الصلاة: لكان واجبا كوجوب غسل الأعضاء الأربعة. والقرآن يدل على أنه لا يجب عليه إلا ما ذكره من الغسل والمسح وهو يدل على أن المتوضئ والمتيمم متطهر. والفرجان جاءت السنة بالاكتفاء فيهما بالاستجمار. وقوله تعالى {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} يدل على أن الاستنجاء مستحب يحبه الله لا أنه واجب. بل لما كان غير هؤلاء من المسلمين لا يستنجون بالماء - ولم يذمهم على ذلك بل أقرهم. ولكن خص هؤلاء بالمدح - دل على جواز ما فعله غير هؤلاء. وأن فعل هؤلاء أفضل وأنه مما فضل الله به الناس بعضهم على بعض.
باب الوضوء
سئل - رحمه الله -:
عن مسح الرأس في الوضوء: من العلماء من أوجب جميع الرأس ومنهم من أوجب ربع الرأس ومنهم من قال: بعض شعره يجزئ: فما ينبغي أن يكون الصحيح من ذلك؟ بينوا لنا ذلك.
فأجاب:
الحمد لله، اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الذين نقلوا وضوءه لم ينقل عنه أحد منهم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه وما يذكره بعض الفقهاء - كالقدوري في أول مختصره وغيره - أنه توضأ ومسح على ناصيته: إنما هو بعض الحديث الذي في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عام تبوك ومسح على ناصيته}. ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب مالك وأحمد.
وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصحيح فإن القرآن ليس فيه ما يدل على جواز مسح بعض الرأس فإن قوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} نظير قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} لفظ المسح في الآيتين وحرف الباء في الآيتين: فإذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه بدل عن الوضوء وهو مسح بالتراب لا يشرع فيه تكرار: فكيف تدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل والمسح فيه بالماء المشروع فيه التكرار؟ هذا لا يقوله من يعقل ما يقول.
ومن ظن أن من قال بإجزاء البعض لأن الباء للتبعيض أو دالة على القدر المشترك: فهو خطأ أخطأه على الأئمة وعلى اللغة وعلى دلالة القرآن. والباء للإلصاق وهي لا تدخل إلا لفائدة: فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدرا زائدا كما في قوله: {عينا يشرب بها عباد الله} فإنه لو قيل: يشرب منها لم تدل على الري فضمن يشرب معنى يروى فقيل: {يشرب بها} فأفاد ذلك أنه شرب يحصل معه الري. وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى بتعديته - كقوله: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}
وأما الذين أوجبوا الاستيعاب - كمالك وأحمد في المشهور من مذهبهما - فحجتهم ظاهر القرآن. وإذا سلم لهم منازعوهم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم: كان في مسح الوضوء أولى وأحرى لفظا ومعنى ولا يقال: التيمم وجب فيه الاستيعاب لأنه بدل عن غسل الوجه واستيعابه واجب؛ لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه؛ ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين وأيضا للسنة المستفيضة من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث المغيرة بن شعبة فعند أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك وإذا مسح عنده بناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه ذلك عنده بلا ريب.
وأما مالك فلا جواب له عن الحديث إلا أن يحمله على أنه كان معذورا لا يمكنه كشف الرأس فتيمم على العمامة للعذر. ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع وأجزأه بدون العذر عند الثلاثة ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة.
وتنازعوا في مسحه ثلاثا: هل يستحب؟ فمذهب الجمهور أنه لا يستحب كمالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #244  
قديم 25-01-2023, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 244)

من صــ 356 الى صـ 370


(فصل في أن غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا منقول عمله بذلك وأمره به كقوله في الحديث الصحيح من وجوه متعددة؛ كحديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعائشة: {ويل للأعقاب من النار} وفي بعض ألفاظه: {ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار}. فمن توضأ كما تتوضأ المبتدعة - فلم يغسل باطن قدميه ولا عقبه بل مسح ظهرهما - فالويل لعقبه وباطن قدميه من النار. وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ونقل عنه المسح على القدمين في موضع الحاجة مثل أن يكون في قدميه نعلان يشق نزعهما.
وأما مسح القدمين مع ظهورهما جميعا فلم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مخالف للكتاب والسنة. أما مخالفته للسنة فظاهر متواتر.
وأما مخالفته للقرآن فلأن قوله تعالى {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فيه قراءتان مشهورتان: النصب والخفض. فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم.
ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس؛ لأوجه:
أحدها: أن الذين قرءوا ذلك من السلف قالوا: عاد الأمر إلى الغسل.
الثاني: أنه لو كان عطفا على الرءوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو؛ فقال تعالى: {وامسحوا برءوسكم} وقال: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ولم يقرأ القراء المعروفون في آية التيمم وأيديكم بالنصب كما قرءوا في آية الوضوء فلو كان عطفا لكان الموضعان سواء؛ وذلك أن قوله: {وامسحوا برءوسكم} وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} يقتضي إلصاق الممسوح؛ لأن الباء للإلصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة. وإذا قيل: امسح رأسك ورجلك: لم يقتض إيصال الماء إلى العضو. وهذا يبين أن الباء حرف جاء لمعنى لا زائدة كما يظنه بعض الناس وهذا خلاف قوله:معاوي إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو ما قبله.
الثالث: أنه لو كان عطفا على المحل لقرئ في آية التيمم فامسحوا بوجوهكم وامسحوا أيديكم: فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارح بأنه قد دلت عليه فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه بالنصب؛ لأن اللفظين سواء فلما اتفقوا على الجر في آية التيمم مع إمكان العطف على المحل لو كان صوابا: علم أن العطف على اللفظ ولم يكن في آية التيمم منصوب معطوف على اللفظ كما في آية الوضوء.

الرابع: أنه قال: {وأرجلكم إلى الكعبين} ولم يقل: إلى الكعاب فلو قدر أن العطف على المحل كالقول الآخر؛ وأن التقدير أن في كل رجلين كعبين؛ وفي كل رجل كعب واحد: لقيل: إلى الكعب كما قيل: {إلى المرافق} لما كان في كل يد مرفق وحينئذ فالكعبان هما العظمات الناتئان في جانبي الساق؛ ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يرى المسح على الرجلين فإذا كان الله تبارك وتعالى إنما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين؛والماسح يمسح إلى مجمع القدم والساق: علم أنه مخالف للقرآن.
الوجه الخامس: أن القراءتين كالآيتين والترتيب في الوضوء: إما واجب؛ وإما مستحب مؤكد الاستحباب فإذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير: دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء.
الوجه السادس: أن السنة تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وهي قد جاءت بالغسل. الوجه السابع: أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة؛ فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفف الشطر الثاني؛ وذلك لأنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا.
وأما القراءة الأخرى - وهي قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض - فهي لا تخالف السنة المتواترة؛ إذ القراءتان كالآيتين والسنة الثابتة لا تخالف كتاب الله بل توافقه وتصدقه؛ ولكن تفسره وتبينه لمن قصر فهمه عن فهم القرآن؛ فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس وفيه مواضع ذكرت مجملة تفسرها السنة وتبينها.
والمسح اسم جنس يدل على إلصاق الممسوح به بالممسوح ولا يدل لفظه على جريانه لا بنفي ولا إثبات.
قال أبو زيد الأنصاري وغيره: العرب تقول: تمسحت للصلاة. فتسمي الوضوء كله مسحا ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاما تحته نوعان: خصوا أحد نوعيه باسم خاص. وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر كما في لفظ الدابة فإنه عام للإنسان وغيره من الدواب لكن للإنسان اسم يخصه فصاروا يطلقونه على غيره. وكذلك لفظ الحيوان؛ ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم؛ لكن للوارث بفرض أو تعصيب اسم يخصه. وكذلك لفظ المؤمن يتناول من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ ومن آمن بالجبت والطاغوت: فصار لهذا النوع اسم يخصه وهو الكافر وأبقي اسم الإيمان مختصا بالأول.

وكذلك لفظ البشارة ونظائر ذلك كثيرة. ثم إنه مع القرينة تارة ومع الإطلاق أخرى يستعمل اللفظ العام في معنيين: كما إذا أوصى لذوي رحمه؛ فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء. فقوله تعالى في آية الوضوء: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم يقتضي إيجاب مسمى المسح بينهما وكل واحد من المسح الخاص الخالي عن الإسالة؛ والمسح الذي معه إسالة: يسمى مسحا؛ فاقتضت الآية القدر المشترك في الموضعين ولم يكن في لفظ الآية ما يمنع كون الرجل يكون المسح بها هو المسح الذي معه إسالة ودل على ذلك قوله: {إلى الكعبين} فأمر بمسحهما إلى الكعبين.

وأيضا فإن المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل فهما نوعان: للمسح العام الذي هو إيصال الماء ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفى بأحد اللفظين كقولهم:
علفتها تبنا وماء باردا
والماء سقي لا علف وقوله:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد. ومنه قوله تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون} {بأكواب وأباريق وكأس} إلى قوله: وحور عين فكذلك اكتفى بذكر أحد اللفظين وإن كان مراده الغسل ودل عليه قوله: {إلى الكعبين} والقراءة الأخرى مع السنة المتواترة. ومن يقول: يمسحان بلا إسالة: يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين كما أنه مخالف للسنة المتواترة وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة وإنما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة. وذكر المسح بالرجل مما يشعر بأن الرجل يمسح بها بخلاف الوجه واليد فإنه لا يمسح بهما بحال ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين ما لم يجئ مثله في الوجه واليد ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين. ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل والرجل إذا كانت ظاهرة وجب غسلها وإذا كانت في الخف كان حكمها كما بينته السنة. كما في آية الفرائض فإن السنة بينت حال الوارث إذا كان عبدا أو كافرا أو قاتلا. ونظائره متعددة. والله سبحانه أعلم.
وسئل:
عن لمس النساء هل ينقض الوضوء أم لا؟.
فأجاب:

الحمد لله، أما نقض الوضوء بلمس النساء فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال: طرفان ووسط. أضعفها: أنه ينقض اللمس وإن لم يكن لشهوة إذا كان الملموس مظنة للشهوة. وهو قول الشافعي؛ تمسكا بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} وفي القراءة الأخرى: أو لمستم.
القول الثاني: أن اللمس لا ينقض بحال وإن كان لشهوة. كقول أبي حنيفة وغيره. وكلا القولين يذكر رواية عن أحمد؛ لكن ظاهر مذهبه كمذهب مالك والفقهاء السبعة: أن اللمس إن كان لشهوة نقض وإلا فلا. وليس في المسألة قول متوجه إلا هذا القول أو الذي قبله. فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار. وليس مع قائله نص ولا قياس.

فإن كان اللمس في قوله تعالى {أو لمستم النساء} إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك - كما قاله ابن عمر وغيره -: فقد علم أنه حيث ذكر مثل ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة مثل قوله في آية الاعتكاف: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة. وكذلك المحرم - الذي هو أشد - لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم. وكذلك قوله: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} وقوله: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} فإنه لو مسها مسيسا خاليا من غير شهوة لم يجب به عدة ولا يستقر به مهر؛ ولا تنتشر به حرمة المصاهرة: باتفاق العلماء بخلاف ما لو مس المرأة لشهوة ولم يخل بها ولم يطأها: ففي استقرار المهر بذلك نزاع معروف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره. فمن زعم أن قوله: {أو لمستم النساء} يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن بل وعن لغة الناس في عرفهم فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم.
وأيضا فإنه لا يقول: إن الحكم معلق بلمس النساء مطلقا؛ بل بصنف من النساء وهو ما كان مظنة الشهوة. فأما مس من لا يكون مظنة - كذوات المحارم والصغيرة - فلا ينقض بها. فقد ترك ما ادعاه من الظاهر واشترط شرطا لا أصل له بنص ولا قياس؛ فإن الأصول المنصوصة تفرق بين اللمس لشهوة واللمس لغير شهوة لا تفرق بين أن يكون الملموس مظنة الشهوة أو لا يكون وهذا هو المس المؤثر في العبادات كلها؛ كالإحرام والاعتكاف والصيام وغير ذلك وإذا كان هذا القول لا يدل عليه ظاهر اللفظ ولا القياس: لم يكن له أصل في الشرع.
وأما من علق النقض بالشهوة فالظاهر المعروف في مثل ذلك دليل له؛ وقياس أصول الشريعة دليل. ومن لم يجعل اللمس ناقضا بحال فإنه يجعل اللمس إنما أريد به الجماع؛ كما في قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} ونظائره كثيرة. وفي السنن: أن النبي {قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ؛} لكن تكلم فيه.
وأيضا فمن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى ولا يزال الرجل يمس امرأته؛ فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي بينه لأمته؛ ولكان مشهورا بين الصحابة ولم ينقل أحد أن أحدا من الصحابة كان يتوضأ بمجرد ملاقاة يده لامرأته أو غيرها ولا نقل أحد في ذلك حديثا عن النبي: فعلم أن ذلك قول باطل. والله أعلم.
وسئل:
عن مس النساء: هل ينقض الوضوء أم لا؟.
فأجاب:
فيه ثلاثة أقوال للفقهاء: أحدها: أنه لا ينقض بحال. كقول أبي حنيفة وغيره.
والثاني: أنه إن كان له شهوة نقض وإلا فلا. وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة. والثالث: ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة. وهو قول الشافعي وغيره. وعن أحمد بن حنبل ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة لكن المشهور عنه قول مالك. والصحيح في المسألة أحد قولين؛ إما الأول وهو عدم النقض مطلقا؛ وإما القول الثاني وهو النقض إذا كان بشهوة.
وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة ولا روى أحد عن النبي أنه أمر المسلمين أن يتوضئوا من ذلك؛ مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال؛ فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئا وتأخذه بيدها وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به فلو كان الوضوء من ذلك واجبا لكان النبي يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشيع ذلك ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحدا من المسلمين بشيء من ذلك - مع عموم البلوى به - علم أن ذلك غير واجب وأيضا فلو أمرهم بذلك لكانوا ينقلونه ويأمرون به. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بالوضوء من مجرد المس العاري عن شهوة بل تنازع الصحابة في قوله تعالى {أو لامستم النساء} فكان ابن عباس وطائفة يقولون: الجماع ويقولون: الله حيي كريم يكني بما يشاء عما شاء. وهذا أصح القولين. وقد تنازع عبد الله بن عمر والعرب وعطاء بن أبي رباح والموالي هل المراد به الجماع أو ما دونه؟ فقالت العرب: هو الجماع.
وقالت: الموالي هو ما دونه. وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب وخطأ الموالي. وكان ابن عمر يقول: قبلة الرجل امرأته ومسها بيده من الملامسة وهذا قول مالك وغيره من أهل المدينة. ومن الناس من يقول: إن هذا قول ابن عمر وابن مسعود؛ لكونهما كانا لا يريان التيمم للجنب؛ فيتأولان الآية على نقض الوضوء. ولكن قد صرح في الآية أن الجنب يتيمم. وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود بالآية فلم يجبه ابن مسعود بشيء وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه: فعلم أن ذلك كان من عدم استحضاره لموجب الآية.
ومعلوم أن الصحابة الأكابر الذين أدركوا النبي لو كانوا يتوضؤون من مس نسائهم مطلقا؛ ولو كان النبي أمرهم بذلك: لكان هذا مما يعلمه بعض الصغار؛ كابن عمر وابن عباس وبعض التابعين فإذا لم ينقل ذلك صاحب ولا تابع: كان ذلك دليلا على أن ذلك لم يكن معروفا بينهم وإنما تكلم القوم في تفسير الآية والآية إن كان المراد بها الجماع فلا كلام وإن كان أريد بها ما هو أعم من الجماع فيقال: حيث ذكر الله تعالى في كتابه مس النساء ومباشرتهن ونحو ذلك: فلا يريد به إلا ما كان على وجه الشهوة واللذة وأما اللمس العاري عن ذلك فلا يعلق الله به حكما من الأحكام أصلا وهذا كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي {: أنه كان يدني رأسه إلى عائشة رضي الله عنها فترجله وهو معتكف} ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها ومسها له.
وأيضا فالإحرام أشد من الاعتكاف ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك ولم يجب عليه دم. وهذا الوجه يستدل به من وجهين: من جهة ظاهر الخطاب؛ ومن جهة المعنى والاعتبار؛ فإن خطاب الله تعالى في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك: لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلا ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء والنزاع فيها متأخر؛ فيكون ما أجمعوا عليه قاضيا على ما تنازع فيه متأخروهم.

وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئا من الأحكام ولا جعله موجبا لأمر ولا منهيا عنه في عبادة ولا اعتكاف ولا إحرام؛ ولا صلاة ولا صيام؛ ولا غير ذلك ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة؛ ولا يثبت شيئا غير ذلك بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سببا لإيجاب شيء ولا تحريم شيء.
وإذا كان كذلك كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفا للأصول الشرعية المستقرة مخالفا للمنقول عن الصحابة وكان قولا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة؛ بل المعلوم من السنة مخالفته بل هذا أضعف ممن جعل المني نجسا فإن القول بنجاسة المني ضعيف فإذا كان النبي لم يأمر أحدا بغسل ما يصيب بدنه أو ثيابه من المني مع كثرة ما كان يصيب الناس من ذلك في حياته؛ وقد أمر الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من الدم مع أن ذلك قليل بالنسبة لإصابة المني للرجال؛ ولو كان ذلك واجبا لبينه بل كان يغسل ويمسح تقذرا كما كانت عائشة رضي الله عنها تارة تغسله وتارة تفركه من ثوبه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #245  
قديم 25-01-2023, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 245)

من صــ 371 الى صـ 385

وكان سعد بن أبي وقاص وابن عباس يقولان: أمطه عنك ولو بإذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وكانت عمرة تغسله من ثوبه فإن كان في اعتقاده نجاسة المني فهذا نزاع بين الصحابة والسنة تفصل بينهم. فإذا كانت نجاسة المني ضعيفة في السنة لكون النبي لم يأمر بذلك لعموم البلوى به لكن هذا أضعف لكون الصحابة لم يحك أحد منهم مجرد اللمس العاري عن الشهوة ناقضا وإنما تنازعوا في اللمس المعتاد للشهوة كالقبلة والغمز باليد ونحو ذلك.
وأيضا فإيجاب الوضوء من جنس اللمس كمس النساء ومس الذكر إن لم يعلل بكونه مظنة تحريك الشهوة وإلا كان مخالفا للأصول فأما إذا علل بتحريك الشهوة كان مناسبا للأصول وهنا للفقهاء طريقان: أحدهما: قول من يقول: إن ذلك مظنة خروج الناقض فأقيمت المظنة مقام الحقيقة. وهذا قول ضعيف؛ فإن المظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية وكانت المظنة تفضي إليها غالبا؛ وكلاهما معدوم؛ فإن الخارج لو خرج لعلم به الرجل.
وأيضا فإن مس الذكر لا يوجب خروج شيء في العادة أصلا؛ فإن المني إنما يخرج بالاستمناء وذلك يوجب الغسل والمذي يخرج عقيب تفكر ونظر ومس المرأة لا الذكر؛ فإذا كانوا لا يوجبون الوضوء بالنظر الذي هو أشد إفضاء إلى خروج المني: فبمس الذكر أولى.
والقول الثاني: أن يقال: اللمس سبب تحريك الشهوة كما في مس المرأة وتحريك الشهوة يتوضأ منه كما يتوضأ من الغضب وأكل لحم الإبل؛ لما في ذلك من أثر الشيطان الذي يطفأ بالوضوء؛ ولهذا قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة: إنما يتوضأ إذا انتشر انتشارا شديدا. وكذلك قال طائفة من أصحاب مالك: يتوضأ إذا انتشر لكن هذا الوضوء من اللمس: هل هو واجب أو مستحب؟ فيه نزاع بين الفقهاء ليس هذا موضع ذكره؛ فإن مسألة الذكر لها موضع أخر. وإنما المقصود هنا مسألة مس النساء.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن قول النبي صلى الله عليه وسلم {إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء} وهذه صفة المصلين فبم يعرف غيرهم من المكلفين التاركين والصبيان؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذا الحديث دليل على أنه إنما يعرف من كان أغر محجلا وهم الذين يتوضؤون للصلاة.
وأما الأطفال فهم تبع للرجل.
وأما من لم يتوضأ قط ولم يصل: فإنه دليل على أنه لا يعرف يوم القيامة.
فصل في قوله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
والتيمم في اللغة: هو القصد ومنه قوله تعالى {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} وقوله: {ولا آمين البيت الحرام} ومنه قول امرئ القيس:
تيممت الماء الذي دون ضارج ... يميل عليها الظل عرمضها طامي
لكن لما قال الله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} كان التيمم المأمور به: هو تيمم الصعيد الطيب للتمسح به فصار لفظ التيمم إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى هذا التيمم الخاص وقد يراد بلفظ التيمم نفس مسح اليدين والوجه فسمي المقصود بالتيمم تيمما.

وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة} وهذا لفظ البخاري.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون}.

ولمسلم أيضا عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء}. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت: وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم}. وقوله تعالى {فتيمموا صعيدا طيبا} نكرة في سياق الإثبات كقوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وقوله: {فتحرير رقبة} وقوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} وقوله: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} وهذه تسمى مطلقة وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فيدل ذلك على أنه يتيمم أي صعيد طيب اتفق.
والطيب هو الطاهر والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع وفيما سواه نزاع سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} قد اتفق القراء السبعة على قراءة أيديكم بالإسكان؛ بخلاف قوله في الوضوء: {وأرجلكم} فإن بعض السبعة قرءوا: {وأرجلكم} بالنصب قالوا: إنها معطوفة على المغسول تقديره: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين كذلك.
قال علي بن أبي طالب وغيره من السلف قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ علي الحسن والحسين: وأرجلكم إلى الكعبين بالخفض فسمع ذلك علي بن أبي طالب. وكان يقضي بين الناس فقال: وأرجلكم يعني بالنصب وقال هذا من المقدم المؤخر في الكلام. وكذلك ابن عباس قرأها بالنصب وقال عاد الأمر إلى الغسل ولا يجوز أن يكون ذلك عطفا على المحل كما يظنه بعض الناس كقول بعض الشعراء:
معاوي إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فإنما يسوغ في حرف التأكيد مثل المباني.
وأما حروف المعاني فلا يجوز ذلك فيها والباء هنا للإلصاق ليست للتوكيد ولهذا لم يقرأ القراء هنا وأيديكم كما قرءوا هناك وأرجلكم؛ لأنه لو قال: فامسحوا وجوهكم وأيديكم أو امسحوا بها لكان يكتفى بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس وهو خلاف الإجماع فلما كانت الباء للإلصاق دل على أنه لا بد من إلصاق الممسوح به فدل ذلك على استعمال الطهور ولهذا كانت هذه الباء لا تدل على التبعيض عند أحد من السلف وأئمة العربية. ولا قال الشافعي إن التبعيض يستفاد من الباء؛ بل أنكر إمام الحرمين وغيره من أصحابه ذلك وحكموا كلام أئمة العربية في إنكار ذلك ولكن من قال بذلك استند إلى دلالة أخرى.

وقوله تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دلت هذه الآية على أن التراب طهور كما صرحت بذلك السنة الصحيحة في قول النبي صلى الله عليه وسلم {وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا} وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير} رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. والترمذي وهذا لفظه.

وقال: حديث حسن صحيح. وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى إلى أن يجد الماء فإذا وجد الماء فعليه استعماله وكذلك تيمم الجنب: ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف إلى أنه يتيمم إذا عدم الماء في السفر إلى أن يجد الماء فإذا وجده كان عليه استعماله وقد روي عن عمر وابن مسعود إنكار تيمم الجنب وروي عنهما الرجوع عن ذلك وهو قول أكثر الصحابة: كعلي وعمار وابن عباس وأبي ذر وغيرهم. وقد دل عليه آيات من كتاب الله وخمسة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. منها: حديث عمار بن ياسر وعمران بن حصين كلاهما في الصحيحين ومنها: حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي ومنها: حديث عمرو بن العاص وحديث الذي شج فأفتوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم {قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} ففي الصحيح عن عمر أنه قال: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم قال: أصابتني جنابة: ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك} رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين عن عمار بن ياسر قال: {بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه} وهذا لفظ مسلم.
فصل:
وأما الصعيد: ففيه أقوال فقيل: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض وإن لم يعلق بيده؛ كالزرنيخ والنور والجص وكالصخرة الملساء فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به. وهو قول أبي حنيفة. ومحمد يوافقه؛ لكن بشرط أن يكون معبرا لقوله: (منه. وقيل يجوز بالأرض وبما اتصل بها حتى بالشجر كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر والمدر وهو قول مالك وله في الثلج روايتان: إحداهما: يجوز التيمم به وهو قول الأوزاعي والثوري. وقيل يجوز بالتراب والرمل وهو أحد قولي أبي يوسف وأحمد في إحدى الروايتين وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب. وقيل: لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وسئل:
هل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟.
فأجاب:
يقوم التيمم مقام الطهارة بالماء. فما يبيحه الاغتسال والوضوء من الممنوعات يبيحه التيمم.
وسئل أيضا - رحمه الله -:
عن رجل قد أصابته جنابة وهو في بستان ولم يكن عنده إلا ماء بارد ويخاف الضرر على نفسه باستعماله والحمام بعيد منه؛ بحيث إذا وصل إلى الحمام واغتسل خرج الوقت. فهل إذا تيمم للجنابة وتوضأ وصلى في الوقت يلزمه إعادة؟ وهل يأثم بذلك؟ أو يأثم إذا تيمم؟. وهل التيمم يقوم مقام الماء؛ فيجوز له التيمم لنافلة ويصلي بها فريضة أو يصلي فريضتين في وقتين بتيمم واحد؟.

فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، يجب على كل مسلم أن يصلي الصلوات الخمس في مواقيتها وليس لأحد قط أن يؤخر الصلاة عن وقتها لا لعذر ولا لغير عذر. لكن العذر يبيح له شيئين: يبيح له ترك ما يعجز عنه ويبيح له الجمع بين الصلاتين. فما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه. قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. {ولا نكلف نفسا إلا وسعها}. وقال - لما ذكر آية الطهارة -: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} الآية. وقد روي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.

وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم}. فالمريض يصلي على حسب حاله. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: {صل قائما. فإن لم تستطع فقاعدا. فإن لم تستطع فعلى جنب}. وسقط عنه ما يعجز عنه من قيام وقعود أو تكميل الركوع والسجود. ويفعل ما يقدر عليه. فإن قدر على الطهارة بالماء تطهر وإذا عجز عن ذلك لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله تيمم. وصلى ولا إعادة عليه لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء وكذلك لا إعادة إذا صلى بالتيمم باتفاقهم ولو كان في بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها صلى بها ولا إعادة عليه أيضا عند عامة العلماء. ولو لم يجد إلا ثوبا نجسا فقيل يصلي عريانا وقيل يصلي ويعيد وقيل يصلي في الثوب النجس ولا يعيد وهو أصح أقوال العلماء. وكذلك المسافر إذا لم يقدر على استعمال الماء صلى بالتيمم. وقيل: يعيد في الحضر وقيل: يعيد في السفر وقيل: لا إعادة عليه لا في الحضر ولا في السفر. وهو أصح أقوال العلماء.
فالصحيح من أقوالهم أنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب الاستطاعة وإنما يعيد من ترك واجبا يقدر عليه. مثل من تركه لنسيانه أو نومه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء من قدمه يعيد الوضوء والصلاة. وما ترك لجهله بالواجب مثل من كان يصلي بلا طمأنينة ولا يعلم أنها واجبة فهذا قد اختلفوا فيه: هل عليه الإعادة بعد خروج الوقت أو لا؟ على قولين معروفين.
وهما قولان في مذهب أحمد وغيره والصحيح أن مثل هذا لا إعادة عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: {اذهب فصل فإنك لم تصل - مرتين أو ثلاثا - فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا: فعلمني ما يجزيني في صلاتي} فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بالطمأنينة. ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك الوقت مع قوله: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا: ولكن أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق. فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته مع كونه قد ترك بعض واجباته لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه
. وكذلك لم يأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يقضي ما تركه من الصلاة: لأجل الجنابة. لأنه لم يكن يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم. وكذلك المستحاضة قالت له: إني أستحاض حيضة شديدة منكرة تمنعني الصوم والصلاة فأمرها أن تتوضأ لكل صلاة ولم يأمرها بقضاء ما تركته. وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة فهؤلاء كانوا جهالا بالوجوب فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال الجهل كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال كفره وجاهليته؛ بخلاف من كان قد علم الوجوب وترك الواجب نسيانا. فهذا أمره به إذا ذكره. وأمر النائم من حين يستيقظ فإنه حين النوم لم يكن مأمورا بالصلاة فلهذا كان النائم إذا استيقظ قرب طلوع الشمس يتوضأ ويغتسل وإن طلعت الشمس عند جمهور العلماء: كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك بخلاف من كان مستيقظا والوقت واسع مثل الذي يكون نائما في بستان أو قرية والماء بارد يضره والحمام بعيد منه إن خرج إليه ذهب الوقت فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة بعد خروج الوقت.
وكذلك لو كان في المصر وقد تعذر عليه دخول الحمام: إما لكونه لم يفتح أو لبعدها عنه أو لكونه ليس معه ما يعطي الحمامي أجرته ونحو ذلك فإنه يصلي بالتيمم لأن الصلاة بالتيمم فرض إذا عجز عن الماء لعدم أو لخوف الضرر باستعماله ولا إعادة على أحد من هؤلاء ففي كثير من الضرر لا إعادة عليه باتفاق المسلمين: كالمريض والمسافر. وبعض الضرر تنازع فيه العلماء. والصحيح أنه لا إعادة على أحد صلى بحسب استطاعته كما أمر.
فصل:
وأما التيمم لكل صلاة ولوقت كل صلاة ولا يصلي الفرض بالتيمم للنافلة؛ لأن التيمم طهارة ضرورية والحكم المقدر بالضرورة مقدر بقدرها. فلا يتيمم قبل الوقت ولا يبقى بعده. وهو مبيح للصلاة لا رافع للحدث؛ لأنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله من غير تجدد حدث فعلم أن الحدث كان باقيا وإنما أبيح للضرورة.

فلا يستبيح إلا ما نواه. فهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقيل: بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقا يستبيح به كما يستباح بالماء ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده. وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة. وهذا قول كثير من أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية. وقال أحمد: هذا هو القياس.
وهذا القول هو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن الله جعل التيمم مطهرا كما جعل الماء مطهرا. فقال تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} الآية. فأخبر تعالى أنه يريد أن يطهرنا بالتراب كما يطهرنا بالماء. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {فضلنا على الناس بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأحلت لنا الغنائم ولم تحل لأحد قبلي.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #246  
قديم 25-01-2023, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 246)

من صــ 386 الى صـ 400

وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وفي لفظ فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى الناس عامة}
وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها لنا طهورا}. فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله جعل الأرض لأمته طهورا كما جعل الماء طهورا.
وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدته الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير} قال الترمذي حديث حسن صحيح.
فأخبر أن الله جعل الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين. فمن قال إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة. وإذا كان مطهرا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث فالتيمم رافع للحدث مطهر لصاحبه لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء فإنه بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء متعذرا كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها وكان ملك صاحبها ملكا موقتا إلى ظهور المالك فإنه كان بدلا عن المالك فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها.
وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار. فيحتاج أن نعتبره بنظير وأما ما شرعه الله ورسوله فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نطلب لذلك نظيرا مع أن الاعتبار يوافق النص. كما قال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء. وعلى هذا القول الصحيح يتيمم قبل الوقت إن شاء ويصلي ما لم يحدث أو يقدر على استعمال الماء وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة.

ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين ويقضي به الفائت. وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت. ولا حجة في شيء منها ولو ثبتت. وقول القائل: إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة. قيل له: نعم والإنسان محتاج أن لا يزال على طهارة فيتطهر قبل الوقت؛ فإنه محتاج إلى زيادة الثواب؛ ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام في الحضر وقال: {إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر} فدل على أن التيمم يكون مستحبا تارة وواجبا أخرى. أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبا عليه أن يتيمم وإن كان شرطا للصلاة والتيمم قبل الوقت مستحب كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب.

وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه وقد أصابته جنابة والماء بارد يضره فإذا تيمم وصلى التطوع وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرا من تفويت ذلك. فقول القائل: إنه حكم مقيد بالضرورة.
فيقدر بقدرها. إن أراد به أن لا يفعل إلا عند تعذر الماء فهو مسلم. وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبا فقد غلط. فإن هذا خلاف السنة وخلاف إجماع المسلمين بل يتيمم للواجب ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع وقراءة القرآن المستحبة ومس المصحف المستحب. والله قد جعله طهورا للمسلمين عند عدم الماء فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا. كما فعله طائفة من الناس. أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم. ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ولا يجب فيه ترتيب؛ بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين وعلى هذا دلت السنة. وبسط هذه المسائل في موضع آخر. والله أعلم.
فصل:
كل من جاز له الصلاة بالتيمم: من جنب أو محدث جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة ويمس المصحف ويصلي بالتيمم النافلة والفريضة ويرقي بالقرآن وغير ذلك.
فإن الصلاة أعظم من القراءة فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله. وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل فتوضأ وتيمم عن الغسل جاز وإن تيمم ولم يتوضأ ففيه قولان. قيل: يجزيه عن الغسل وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: لا يجزيه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل. وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته جاز وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز.
وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: يجوز لهذا ولهذا. وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: لا يجوز للجنب ويجوز للحائض. إما مطلقا أو إذا خافت النسيان. وهو مذهب مالك. وقول في مذهب أحمد وغيره. فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر {لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا} رواه أبو داود وغيره.

وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة؛ بخلاف روايته عن الشاميين ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ينهاهن عن قراءة القرآن. كما لم يكن ينهاهن عن الذكر والدعاء بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد فيكبرون بتكبير المسلمين. وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: تلبي وهي حائض وكذلك بمزدلفة ومنى وغير ذلك من المشاعر.

وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك: لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر. ولهذا ذكر العلماء ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك. لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب. فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه؛ لأجل العذر. وإن كانت عدتها أغلظ فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك.
وإن قيل: إنه نهى الجنب لأن الجنب يمكنه أن يتطهر ويقرأ بخلاف الحائض؛ تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة وليست القراءة كالصلاة فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص واتفاق الأئمة. والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك بل {كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض} وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم أيضا: {يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان} فتجوز القراءة قائما وقاعدا وماشيا ومضطجعا. وراكبا.
(ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
المقصود: أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل وكل شر فهو داخل في الظلم. ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء وعلى كل أحد والظلم محرما في كل شيء ولكل أحد فلا يحل ظلم أحد أصلا سواء كان مسلما أو كافرا أو كان ظالما بل الظلم إنما يباح أو يجب فيه العدل عليه أيضا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن}
أي: لا يحملنكم شنآن أي: بغض قوم - وهم الكفار - على عدم العدل؛ {قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} وقال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. وقد دل على هذا قوله في الحديث: " {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا} " فإن هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحد أحدا وأمر العالم في الشريعة مبني على هذا وهو العدل في الدماء والأموال؛ والأبضاع والأنساب؛ والأعراض. ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك ومقابلة العادي بمثل فعله.

لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرا أو متعسرا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان ويقال: هذا أمثل؛ وهذا أشبه. وهذه الطريقة المثلى لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر؛ إذ ذاك معجوز عنه ولهذا قال تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها}
فذكر أنه لم يكلف نفسا إلا وسعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه فقال تعالى: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}.

ولهذا كان القصاص مشروعا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عظم.
وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل فإذا كان الجنف واقعا في الاستيفاء عدل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قود إلا بالسيف في العنق قال: لأن القتل بغير السيف وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط ونحو ذلك أشد إيلاما؛ لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل؛ فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
[فصل: رفض دعواهم وجوب التمسك بدينهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم]
قالوا وهذا وغيره أوجب لنا التمسك بديننا وأن لا نهمل ما معنا ولا نرفض مذهبنا ولا نتبع غير السيد المسيح كلمة الله وروحه وحوارييه الذين أرسلهم إلينا.
والجواب أنهم احتجوا بحجتين باطلتين:
إحداهما: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل إليهم بل إلى العرب وقد تبين أن الاحتجاج بها من أعظم الكذب والافتراء على محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يقل قط إني لم أرسل إلى أهل الكتاب ولا قال قط إني لم أرسل إلا إلى العرب بل نصوصه المتواترة عنه وأفعاله تبين أنه مرسل إلى جميع أهل الأرض أميهم وكتابيهم.
والحجة الثانية: قولهم: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على دين النصارى بعد التبديل والنسخ وهي أيضا أعظم كذبا عليه من التي قبلها كيف يثني عليهم وهو يكفرهم في غير موضع من كتابه ويأمر بجهادهم وقتالهم ويذم المتخلفين عن جهادهم غاية الذم ويصف من لم ير طاعته في قتالهم بالنفاق والكفر ويذكر أنه يدخل جهنم وهذا كله يخبر به عن الله ويذكره تبليغا لرسالة ربه وإنما يضاف إليه ; لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتدأه.
كما قال - تعالى -: {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 40] (40) {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} [الحاقة: 41] (41) {ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} [الحاقة: 42] (42) {تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 43] (43) {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} [الحاقة: 44] (44) {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 45] (45) {ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة: 46] (46) {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47] (47) {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48] (48) {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} [الحاقة: 49] (49) {وإنه لحسرة على الكافرين} [الحاقة: 50] (50) {وإنه لحق اليقين} [الحاقة: 51] (51) {فسبح باسم ربك العظيم} [الحاقة: 52]
وأما ثناء الله ورسوله على المسيح وأمه وعلى من اتبعه وكان على دينه الذي لم يبدل فهذا حق وهو لا ينافي وجوب اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - على من بعث إليه فلو قدر أن شريعة المسيح لم تبدل وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على كل من اتبعها وقال مع ذلك إن الله أرسلني إليكم لم يكن ذلك متناقضا وإذا كفر من لم يؤمن به لم يناقض ذلك ثناؤه عليهم قبل أن يكذبوه.
فكيف وهو إنما مدح من اتبع دينا لم يبدل؟ وأما الذين بدلوا دين المسيح فلم يمدحهم بل ذمهم كما قال {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14] وقد قدمنا أن النصارى كفروا كما كفرت اليهود: كفروا بتبديلهم ما في الكتاب الأول وكفروا بتكذيبهم بالكتاب الثاني.
وأما من لم يبدل الكتاب أو أدرك محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به فهؤلاء مؤمنون ومما يبين ذلك أن تعظيم المسيح للتوراة واتباعه لها وعمله بشرائعها أعظم من تعظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنجيل ومع هذا فلم يكن ذلك مسقطا عن اليهود وجوب اتباعهم للمسيح فكيف يكون تعظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنجيل مسقطا عن النصارى وجوب اتباعه.
[فصل: بيان أن عامة دين النصارى ليس مأخوذا عن المسيح]
وهذا الذي قد ذكره هذا البترك " سعيد بن البطريق " المعظم عند النصارى، المحب لهم، المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم، معظما لدينهم، مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه، وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه، مثل ما ذكره من ظهور الصليب، ومن مناظرة " أريوس " وغير ذلك، فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر. ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر. ويذكر أن " أريوس " لم يقل قط: إن المسيح خالق.
ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره، فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى، ليس مأخوذا عن المسيح، بل هو مما ابتدعه طائفة منهم، وخالفهم في ذلك آخرون، وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14]
والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك، أن أول ملك أظهر دين النصارى هو " قسطنطين "، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -، فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين.

وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح، وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله، وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير، مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا، وكذلك الختان، وكذلك تعظيم الصليب.
وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن " قسطنطين " رأى صورة صليب كواكب.
ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة، فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه، وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم، وعبدوا الأوثان، فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه.

وكذلك الإزار الذي رآه من رآه، والصوت الذي سمعه، هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله، بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه؟ مع أن هذا الذي ذكروه عن " بطرس " رئيس الحواريين، ليس فيه تحليل كل ما حرم، بل قال: (ما طهره الله فلا تنجسه) وما نجسه الله في التوراة، فقد نجسه ولم يطهره، إلا أن ينسخه المسيح. والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما، كما يظنون.
والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة، وإنما أحل بعض ما حرم عليهم، ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى، كما قال تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]
وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه، ويصدق قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} [المائدة: 14]
وحينئذ فقول هؤلاء: (من خالفنا لعناه) كلام لا فائدة فيه، فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة.
فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل، وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذينءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].
وقد تقدم ما ذكره " سعيد بن البطريق " من أخبارهم، أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون، فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه، كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء، كما كان بالإسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه " ميكائيل " فجعلها النصارى كنيسة باسم " ميكائيل الملك " وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له.

وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه، أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب، كالشمس والزهرة وغير ذلك.
فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة، أو بعض الأنبياء ولهذا قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 79 - 80].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #247  
قديم 25-01-2023, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 247)

من صــ 401 الى صـ 415

وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا - أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56 - 57].
وقد حصل بما ذكرناه الجواب عن قولهم: (وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به).
وعرف أن هذا قول من أقوال النصارى، وأن لهم أقوالا أخر تناقض هذا.
وكل فريق منهم يكفر الآخر، إذ كانوا ليسوا على مقالة تلقوها عن المسيح والحواريين، بل هي مقالات ابتدعها من ابتدعها منهم، فضلوا بها وأضلوا، كما قال تعالى: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]
فذكر سبحانه أنهم أضلوا من قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والنصارى أمة يلزمهم الضلال الذي أصله الجهل.
ولا يوجد قط من هو نصراني باطنا وظاهرا، إلا وهو ضال جاهل بمعبوده وبأصل دينه، لا يعرف من يعبد ولا بماذا يعبد، مع اجتهاد من يجتهد منهم في العبادة والزهد، ومكارم الأخلاق.
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)
الرد علي المسألة السادسة
ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك، وقد كان حريصا علي هدي أمته؟.
فنقول: هذا السؤال مبني علي الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة، وطلب الهدي في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات، الذين قال الله فيهم {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 19]، وقال تعالى {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19]، وقال تعالى {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53].
وقد تقدم التنبيه علي منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله، وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات، سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته، أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعني، كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم، وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما ذكرنا، وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل.
وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص علي كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر، وقال تعالى {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115]، وقال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3]، وقال تعالى {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]، وقال تعالى {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54]،وقال {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9]، وقال تعالى {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما} [النساء: 66 - 68]، وقال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [المائدة: 15 - 16].

و «قال أبو ذر لقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما».
وفي صحيح مسلم: «أن بعض المشركين قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل».
و «قال صلى الله عليه وسلم تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» وقال

«ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه» وقال «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه شرا لهم».
وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة، فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء.
وذلك يكون بشيئين: أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة.
والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين، فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]، وقال تعالي {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، وقال {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: 59 - 61].
ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة علي حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا إثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعني أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه.
وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون علي مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها.
وهذان الصفتان يشبهان ما ذكره الله في قوله {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77) ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)} [البقرة: 75 - 79].
فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة علي ما أصله هو من البدع الباطلة، وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن، ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دينا، وقال: إنه من عند الله، مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين، وهذا معني الكتاب والسنة، وهذا
قول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده علي الأعيان أو الكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله، وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة، كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام، وفي أهل الأهواء تفصيلا، مثل كثير من المنتسبين إلي الفقهاء مع شعبة من حال الأهواء.
وهذه الأمور المذكورة في الجواب مبسوطة في موضع آخر.
نهاية الإجابة علي السؤال والله أعلم.

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فقد قال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] في الموضعين.

وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171].
وقال - تعالى -: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم.
كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله
وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم: ثالث ثلاثة بالآب والابن وروح القدس.
والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية، فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الآب والابن وروح القدس، فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح أنه الله وتقول أنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم: نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق.
[إبطال دعوى النصارى إلهية المسيح عليه السلام]
وقولهم إنه إله بلاهوته ورسول بناسوته كلام باطل من وجوه.
منها أن الذي كان يكلم الناس إما أن يكون هو الله أو هو رسول الله، فإن كان هو الله بطل كونه رسول الله وإن كان رسول الله بطل كونه هو الله.
ولهذا لما كان الذي كلم موسى - عليه السلام - من الشجرة هو الله لم تنطق الكتب بأنه رسول الله، وهذا وارد بأي وجه فسروا الاتحاد، فإنه من المعلوم أن الناس كانوا يسمعون من المسيح كلاما بصوته المعروف وصوته لم يختلف ولا حاله عند الكلام تغيرت كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حل فيه الجني وإذا فارقه الجني، فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس بل اختلف حال المصروع وحال كلامه وسمع منه من الكلام ما يعلم يقينا أنه لا يعرفه وغاب عقله بحيث يظهر ذلك للحاضرين واختلف صوته ونغمته فكيف بمن يكون رب العالمين هو الحال فيه المتحد به المتكلم بكلامه.
فإنه لا بد أن يكون بين كلامه وصوته وكلام سائر البشر وصوتهم من الفرق أعظم من الفرق الذي بين المصروع وغير المصروع بما لا نسبة بينهما.
يبين هذا أن موسى لما سمع كلامه سمع صوتا خارقا للعادة مخالفا لما يعهد من الأصوات ورأى من الآيات الخارقة والعجائب ما يبين أن ذلك الذي سمعه لا يقدر على التكلم به إلا الله وأما المسيح فلم يكن بين كلامه وصوته مع طول عمره وكلام سائر الناس فرق يدل على أنه نبي فضلا عن أن يدل على أنه إله وإنما علم أنه نبي بأدلة منفصلة ولم يكن حاله يختلف مع أنهم يقولون: أن الاتحاد ملازم له من حين خلق ناسوته في بطن أمه مريم وإلى الأبد لا يفارق اللاهوت لذلك الناسوت أبدا وحينئذ فمن المعلوم أن خطابه للناس إن كان خطاب رب العالمين لم يكن هو رسوله وإن كان خطاب رسوله لم يكن ذلك صوت رب العالمين.
الوجه الثاني: أن خطابه خطاب رسول ونبي كما ثبت ذلك عنه في عامة المواضع.
الثالث: أن مصير الشيئين شيئا واحدا مع بقائهما على حالهما بدون الاستحالة، والاختلاط ممتنع في صريح العقل وإنما المعقول مع الاتحاد أن يستحيلا ويختلطا كالماء مع الخمر واللبن، فإنهما إذا صار شيئا واحدا استحالا واختلطا.
الرابع: أنه مع الاتحاد يصير الشيئان شيئا واحدا فيكون الإله هو الرسول، والرسول هو الإله؛ إذ هذا هو هذا، وإن كان الإله غير الرسول فهما شيئان ومهما مثلوا به قولهم كتشبيههم ذلك بالنار في الحديد والروح في البدن، فإنه يدل على فساد قولهم:، فإن الحديد متى طرق أو وضع في الماء كان ذلك مصيبا للنار وكذلك البدن إذا جاع أو صلب وتألم كان ذلك الألم مصيبا للروح فيلزم أن يكون رب العالمين قد أصابه ألم الجوع والعطش وكذلك الضرب والصلب على قولهم وهذا شر من قول اليهود: أنه فقير وأنه بخيل وأنه مسه اللغوب.
[فصل: المسلمون لم يصدقوا نبوة أحد من هؤلاء إلا مع نبوة محمد صلى الله عليه وسلم]
وإن كان مقصودهم الاحتجاج بذلك على المسلمين قيل لهم: أولا هذه حجة جدلية فما مستندكم فيما بينكم وبين الله في تصديق شخص وتكذيب آخر مع أن دلالة الصدق فيهما واحدة بل هي في الذي كذبتموه أظهر، فإن كانت حقا لزم تصديق من كذبتموه وفسد دينكم وإن كانت باطلة بطل استدلالكم بها على دينكم فثبت أنهم مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يستقيم لهم الاستدلال بكلام أحد من الأنبياء - عليهم السلام.

وقيل لهم ثانيا: المسلمون إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بما دلهم على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن محمد صادقا لم يعرفوا صدق هؤلاء فيبطل دليلكم وإن كان صادقا بطل دين النصارى فيبطل دليل صحته فثبت بطلان دليلهم على كل تقدير.
وقيل لهم ثالثا: المسلمون لم يصدقوا نبوة أحد من هؤلاء إلا مع نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن قيل أنهم عرفوا ذلك بطريق آخر، فإن الدليل الذي يدل على صدق واحد منهم يدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فلا يمكنهم تصديق نبي مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم.

وقيل لهم رابعا: هم إنما يصدقون موسى وعيسى اللذين بشرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن كانا قد بشرا به فثبتت نبوته وإن لم يكونا بشرا به فهم لا يؤمنون إلا بالمبشرين به وبالتوراة والإنجيل اللذين هو مكتوب فيهما.
فإن قدر عدم ذلك فهم لا يسلمون وجود موسى وعيسى وتوراة وإنجيل منزلين من الله ليس فيهما ذكره - صلى الله عليه وسلم.
وإن قالوا: نحن صدقنا هؤلاء الأنبياء بلا علم لنا بصدقهم وطريق يدل على صدقهم ; لأن هذا دين آبائنا وجدناهم يعظمون هؤلاء ويقولون هم أنبياء فاتبعنا آباءنا في ذلك من غير علم وهذا هو الواقع من أكثرهم قيل فإذا كان هذا قولكم في الأنبياء وفيما شهدوا به إن كانوا شهدوا فيلزم أن لا يكونوا عالمين به بل متبعين فيه لآبائهم بغير علم بطريق الأولى وبهذا يحصل المقصود وهو أن ما أنتم عليه من اعتقاد دين النصرانية لا علم لكم ولا دليل لكم على صحته بل أنتم فيه متبعون لآبائكم كاتباع اليهود والمشركين لآبائهم.
ولا ريب أن هذا حال النصارى ولهذا سماهم الله ضلالا في قوله: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]
وقال - تعالى -: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم} [الكهف: 4] وقال - تعالى -: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم} [النساء: 157] وقال - تعالى -: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} [الشورى: 14].
ولهذا كان النصارى معروفين بالجهل والضلال كما أن اليهود معروفون بالظلم والقسوة والعناد فتبين بما ذكرناه أنه لا يمكنهم مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - في كلمة واحدة الاحتجاج بقول واحد من الأنبياء على شيء من دينهم ولا دين غيرهم.
[فصل: نقض قولهم إن اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف ولهذا تجسمت كلمة الله الخالقة بعيسى]
قالوا: وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، حسب ما جاء في هذا الكتاب بقوله:
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51].
وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - روح القدس - وغيرها، فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف، تظهر في غير كثيف كلا.
ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.
والجواب من طرق:
أحدها: أنه يقال: هذا الذي ذكروه، وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق، وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت - هو أمر ممتنع في صريح العقل، وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول، فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع، فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع، فالرسل منزهون عن الإخبار عنه.

الطريق الثاني: أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم، والنصارى يقولون: هو إله تام وإنسان تام.
الطريق الثالث: الكلام فيما ذكروه.
فأما الطريق الأول فمن وجوه:
أحدها: أن يقال: المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط، وإن شئت قلت: المتحد به، إما الكلام مع الذات، وإما الكلام بدون الذات، فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس، وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #248  
قديم 25-01-2023, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 248)

من صــ 416 الى صـ 430
وهذا باطل باتفاق النصارى، وسائر أهل الملل، وباتفاق الكتب الإلهية، وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله.
وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة، والصفة لا تقوم بغير موصوفها، والصفة ليست إلها خالقا، والمسيح عندهم إله خالق، فبطل قولهم على التقديرين، وإن قالوا: المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، وإن قالوا: الصفة فقط، فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف، والصفة لا تخلق ولا ترزق، وليست الإله، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف، والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه.

وأما كونه هو الأب فقط، وهو الذات المجردة عن الصفات، فهذا أشد استحالة، وليس فيهم من يقول بهذا.
الوجه الثاني: أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين، وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد، فليس ذلك باتحاد.
وإن قيل: صارا جوهرا واحدا، كما يقول من يقول منهم: إنهما صارا كالنار مع الحديدة، أو اللبن مع الماء، فهذا يستلزم استحالة كل منهما، وانقلاب صفة كل منهما، بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا، والنار مع الحديدة، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه.

والقول الثاني: أنه متكلم حقيقة، لكن كلامه مخلوق، خلقه في غيره، وهو قول المعتزلة وغيرهم، والقول الآخر للجهمية.
وعلى هذين القولين، فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح، أو يحل به، والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق، وكثير من أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، من يقول بهذا وهذا.
وأما القول الأول، وهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجمهورها، وقول كثير من سلف أهل الكتاب، وجمهورهم - فإما أن يقال: الكلام قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته، أو قديم العين، وإما أن يقال: ليس بقديم، بل هو حادث، والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث.
وأما القائلون بقدم العين، فهم يقولون: الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث، وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا.
ولهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا، وهذه صفات له لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.
ومنهم من قال: هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان.
والقول الثالث: إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته، قالوا: وهو حادث، ويمتنع أن يكون قديما، لامتناع كون المقدور المراد قديما، وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث، فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم، وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء، كما للحادث المعنى ابتداء، وما لم يسبق الحوادث كان معه أو بعده، فيكون حادثا، فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل، وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد.
وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته، فهو القول المأثور عن أئمة السلف، وهو قول أكثر أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن الفلاسفة، وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع.
والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة، كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين، فإنه - على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة - إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل، وإما كلمات لها ابتداء، وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها، وليس هو كلمات كثيرة، بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية: القرآن والتوراة، إنه يخلق الأشياء بكلماته.
قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح:
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
وقال أيضا:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
وقال: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون - ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 34 - 35].
وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع، بقوله:
{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
وفي التوراة: ليكن يوم الأحد، ليكن كذا ليكن كذا.
وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا، وإما خمسة معان، وإما حروف وأصوات هي شيء واحد؛ فكلهم يقولون: إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه، ولا يتصور أن يكون خالقا، ولا للكلام مشيئة، ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم، ولا يتحد بغير المتكلم، بل جمهورهم يقولون: إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم.

ومن قال بالحلول منهم فلا يقول: إن الحال جوهر، ولا إله خالق، فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ، ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها، ولم يخف عليهم فساد قول النصارى.
وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون، كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ، هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول، ولكن لم يقولوا: إن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق، فيتناقضون تناقضا ظاهرا، مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء، وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى.

الوجه الرابع: أن يقال: لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض، ولا هي تغفر الذنوب، وتجزي الناس بأعمالهم، سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته، فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ويا قدرة الله توبي علي، ويا كلام الله ارحمني، ولا يقول: يا توراة الله أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني، وإنما يدعو الله سبحانه، وهو سبحانه متصف بصفات الكمال، فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام؟
فإن المسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب، والمسيح ليس هو الأب عندهم، بل الابن، فضلوا في قولهم من جهات:
منها: جعل الأقانيم ثلاثة، وصفات الله لا تختص بثلاثة.
ومنها: جعل الصفة خالقة، والصفة لا تخلق.
ومنها: جعلهم المسيح نفس الكلمة، والمسيح خلق بالكلمة، فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك، وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وخلقوا من ماء الأبوين: الأب والأم.
والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله: كن فكان، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
فإن آدم عليه السلام خلق من تراب وماء، فصار طينا، ثم أيبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلا يرتضع، ثم يكبر شيئا بعد شيء، وآدم عليه السلام حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه، ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد،، بل خلق شيئا فشيئا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة.
وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: كن فكان، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم، وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان، فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن، وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح.
الطريق الثاني: أن ما ذكروه حجة عليهم، فإن الله إذا لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، فالمسيح عيسى ابن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا.
وقوله تعالى:
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51].
يعم كل بشر: المسيح وغيره.
وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى.
فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت، وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب.

الوجه الثالث: أن قوله.
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51].
يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى، فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم، كما أنه كلم موسى ولم يره موسى، بل سأل الرؤية فقال:
{قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: 143].
قيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا، وعندهم في التوراة: إن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش،وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال: إن الله لم يره أحد قط. وهذا معروف عندهم، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر، وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون: إن الرب احتجب بحجاب بشري، وهو الجسد الذي ولدته مريم، فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه، والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر.
يبين هذا الوجه الرابع: وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم، فإن جاز أن يتحد به، ويحل فيه، ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة، جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة، وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى، وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن.
فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى، والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به، ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء، والنار والحديد، أو كالروح والبدن؟
الوجه الخامس: أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من اتحاده به، وحلوله فيه، وأولى بالإمكان، فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله، ومنعها على ألسن رسله: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به؟
الوجه السادس: أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع، لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى، فإن القدرة شاملة، والمقتضى - وهو وجود الله وحاجة الخلق - موجودة، ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد، ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد، ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين، لكن لهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - قولان، والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ محمدا أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، يعني نفسه».
الوجه السابع: قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها - فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا.
فيقال لهم: ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل، فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده، أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك - فليس هذا مما نحن فيه، وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر، فهذا محل النزاع، فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك؟
الوجه الثامن: أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل، ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر، ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه، وإنما يدعي ذلك الكذابون، كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، ويدعي الإلهية، فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم مسيح الهدى، فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل، ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين.
ولهذا لما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسيح الدجال، وقال: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به» وذكر النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم، تبين كذبه:
أحدها: قوله: مكتوب بين عينيه كافر، " ك ف ر " يقرؤه كل مؤمن: قارئ وغير قارئ الثاني: قوله: «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت» فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين، فعلم أن الله لا يتحد ببشر.

الثالث: قوله: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة.
لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك - ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين، فإن كثيرا من الناس، بل أكثرهم، تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه، وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح، وصدقوا أيضا من ادعى الحلول والاتحاد في بعض المشايخ، أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #249  
قديم 25-01-2023, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 249)

من صــ 431 الى صـ 445

وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا: دلائل كون الدجال ليس هو الله - ظاهرة، فكيف يحتج النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»؟ وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال، وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة، وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وظنوا أن موسى نسيه.
والنصارى مع كثرتهم يقولون: إن المسيح هو الله. وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت، حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد، وهو أن يكون الموحد هو الموحد، وينشدون:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد
فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله، وهو يقول: أنا الله، وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل: أنا الله، كالمسيح، وسائر الأنبياء والصالحين.
الوجه التاسع: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا، فيقال لهم: كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح، أهي كلام الله الذي هو صفته، أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها؟ فإن قلتم: الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان:
إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح، كما أنزله على غيره من الرسل، فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان، ونطق به القرآن.
وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره، فهو باطل مع أن هذا لا ينفع النصارى، فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض، وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم، وابن مريم وخالق مريم، ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته.
وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان، فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين، كما قال تعالى:
{الله نور السماوات والأرض} [النور: 35] إلى قوله: {كوكب دري} [النور: 35] الآية.
وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، وكما تجلى لإبراهيم، كما ذكره في التوراة، فهذا لا يختص بالمسيح، بل هو لغيره كما هو له.
وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح، أو في غيره فهذا محل النزاع، فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه؟ مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون: هذا غير واقع، بل هو ممتنع.

الوجه العاشر: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا - كلام باطل.
فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف، فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام، وتتلقى كلام الله من الله، وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام، فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى:
{أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51]

والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة، وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية، وأحيانا في الصورة البشرية، فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف، ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء، ويحل فيه، لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر.
الوجه الحادي عشر: أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا، فإن المسيح كان له بدن وروح، كما لسائر البشر، واتحد به عندهم اللاهوت، فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت، وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح، وكثيف وهو البدن، لم يظهر في كثيف فقط، ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف، وهو الروح - لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف.
الوجه الثاني عشر: أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن، وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح، وما تتألم به الروح يتألم به البدن، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا، وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت، أمنعمة أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن، فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك.
الوجه الثالث عشر: أن قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا.
تركيب فاسد لا دلالة فيه، وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف، ولا يظهر في غيره حتى يقال: فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف، وإلا فإذا قيل: إنه لا يحل لا في لطيف، ولا كثيف، أو قيل إنه يحل فيهما - بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف، وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا، ولا دلوا على مقدماتها بدليل، فلا أتوا بصورة الدليل، ولا مادته،، بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم.
ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن، بل هذه دعوى مجردة، فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم، ولا تظهر في أبدان البهائم، بل ولا في الجن، والملائكة تتصور في صورة الآدميين، وكذلك الجن، والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان، فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف، ولا يحل في اللطيف؟
والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت.
الوجه الرابع عشر: أنهم قالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة، ثم قالوا: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف، فتارة يجعلونها خالقة، وتارة يجعلونها مخلوقا بها، ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به، والمخلوق به ليس هو الخالق، فإن كانت الكلمة خالقة، فهي خلقت الأشياء، ولم تخلق الأشياء بها، وإن كانت الأشياء خلقت بها، فلم تخلق الأشياء، بل خلقت الأشياء بها، ولو قالوا: إن الأشياء خلقت بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون، لكان هذا حقا، لكنهم يجعلونها خالقة، مع قولهم بما يناقض ذلك.

الوجه الخامس عشر: أن يقال لهم: إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء - فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب، كما كلم موسى، وبإرسال ملك، كما أرسل الملائكة - إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده، أو ليس كافيا، بل لا بد من حلوله نفسه في بشر، فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق، وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء، كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم، يبين هذا:

الوجه السادس عشر: وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح، وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه، فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف، وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى، وسائر من كلمه المسيح، فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى، مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل، فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل، أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى، فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك، إما لامتناع ذلك، وإما لأن عزته وحكمته أعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك، علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى.
الوجه السابع عشر: أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى، وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود، وعوام النصارى.
[فصل: تفنيد مراد النصارى بظهور الله في عيسى]
قالوا: ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.
فيقال: إن ادعيتم ظهوره في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وذلك بظهور نوره ومعرفته، وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك، من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به، فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا، وهذا أيضا قد يسمى حلولا، وعندهم أن الله يحل في الصالحين، وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية، كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور، يقول داود عليه السلام في مناجاته لربه:
وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد، ويبتهجون، وتحل فيهم ويفتخرون. فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين، فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به، وليس المراد بهذا - باتفاقهم واتفاق المسلمين - أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر، ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد، والماء واللبن،ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد،، بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته، ومحبته وذكره وعبادته، ونوره وهداه.
وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي، كما قال تعالى:
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84].
وقال تعالى:
{وهو الله في السماوات وفي الأرض} [الأنعام: 3].
{وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} [الروم: 27].
فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض.
ومن هذا الباب «ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قال: يقول الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه»، فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه، وكذلك قوله في الحديث الصحيح:
«عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده».
فقال: لوجدتني عنده ولم يقل: لوجدتني إياه، وهو عنده أي في قلبه، والذي في قلبه المثال العلمي.
«وقال تعالى: عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي»، ولم يقل لوجدتني قد أكلته.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: من «عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
وفي رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته.
وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام، أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود، وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك، كأشباه النصارى.
والحديث حجة على الفريقين، فإنه قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، فأثبت ثلاثة: وليا له، وعدوا يعادي وليه، وميز بين نفسه وبين وليه، وعدو وليه، فقال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب»، ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي، فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه، بأنه معاد لله.
ثم قال تعالى:
«وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه»، ففرق بين العبد المتقرب، والرب المتقرب إليه، ثم قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.
ثم قال: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة: هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره، وهو كل شيء، أو في كل شيء قبل التقرب وبعده، وعند الخاص وأهل الحلول صار هو، وهو كالنار والحديد والماء واللبن، لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل.
ثم قال تعالى:

«فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»، وعلى قول هؤلاء - الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، والرسول إنما قال: فبي، ثم قال: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، فجعل العبد سائلا مستعيذا، والرب مسئولا مستعاذا به، وهذا يناقض الاتحاد، وقوله: فبي يسمع مثل قوله: ما تحركت بي شفتاه، يريد به المثال العلمي.
وقول الله: فيكون الله في قلبه أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته، وهو المثل العلمي، فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.
والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا، فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي، وما زلت بين عيني، ومنه قول القائل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقول الآخر:
ومن عجبي أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ومثل هذا كثير مع علم العقلاء أن نفس المحبوب المعظم هو في نفسه ليست ذاته في عين محبه ولا في قلبه، ولكن قد يشتبه هذا بهذا حتى يظن الغالطون أن نفس المحبوب المعبود في ذات المحب العابد.
ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل، فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا، ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم، وبين حلول ذاته، وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة، فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته، وبمحبوبه عن محبته، وبمشهوده عن شهادته، وبمعروفه عن معرفته، فيفنى من لم يكن عن شهود العبد، لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده، ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، وفي هذا تذكر حكاية، وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه، لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله، فظن أنه هو نفس المحبوب، وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه.
فهذا الظن لاتحاد الذات أو لحلولها ظن غالط وقع فيه كثير من الناس، فالذين قالوا: إن المسيح أو غيره من البشر هو الله، أو إن الله حال فيه قد يكون غلطهم من هذا الجنس، لما سمعوا كلاما يقتضي أن الله في ذات الشخص، وجعلوا فعل هذا فعل هذا، ظنوا ذاك اتحاد الذات وحلولها.
وإنما المراد أن معرفة الله فيه، واتحاد المأمور به والمنهي عنه والموالي والمعادي، كقوله تعالى:
{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10].
وقوله:
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
وليس ذلك لأن الرسول هو الله، ولا لأن نفسه حال في الرسول،، بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما ينهى الله عنه، ويحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله.

فمن بايعه على السمع والطاعة، فإنما بايع الله على السمع والطاعة، ومن أطاعه فإنما أطاع الله.
وكذلك المسيح وسائر الرسل؛ إنما يأمرون بما يأمر الله به، وينهون عما ينهى الله عنه ويوالون أولياء الله، ويعادون أعداء الله، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن صدقهم فقبل منهم ما أخبروا به، فقد قبل عن الله، ومن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم وحاربهم فقد عادى الله وحارب الله، ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح، وقد يعبر به عن معنى فاسد.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #250  
قديم 25-01-2023, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,634
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 250)

من صــ 446 الى صـ 460


وكذلك حلول كلامه في القلوب، ولذلك كره أحمد بن حنبل الكلام في لفظ حلول القرآن في القلوب، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.
ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو، وله وجود في المعلوم والأذهان، ووجود في اللفظ واللسان، ووجود في الخط والبيان، ووجود عيني شخصي، وعلمي ولفظي، ورسمي، وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها، وهي الشمس التي في السماء، ثم يتصور بالقلب الشمس، ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس، ويكتب بالقلم الشمس.
والمقصود بالكتابة مطابقة اللفظ، وباللفظ مطابقة العلم، وبالعلم مطابقة المعلوم، فإذا رأى الإنسان في كتاب خط الشمس، أو سمع قائلا يذكر قال: هذه الشمس قد جعلها الله سراجا وهاجا، وهذه الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، فهو يشير إلى ما سمعه من اللفظ ورآه من الخط، وليس مراده نفس اللفظ والخط، فإن ذلك ليس هو الشمس التي تطلع وتغرب، وإنما مراده ما يقصد بالخط واللفظ ويراد بهما، وهو المدلول المطابق لهما، وكذلك قد يرى اسم الله مكتوبا في كتاب، ومعه اسم صنم، فيقول: آمنت بهذا، وكفرت بهذا، ومراده أنه مؤمن بالله كافر بالصنم، فيشير إلى اسمه المكتوب ومراده المسمى بهذا الاسم، وكذلك إذا سمع من يذكر أسماء الله الحسنى قال: هذا رب العالمين، ومراده: المسمى بتلك الأسماء، ومن هذا «قول أنس بن مالك: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر».
ومراده بهذه الأسماء الخط لهذا وهذا وهذا، لا اللفظ ولا المسمى.
ومما يشبه هذا ما يرى في المرآة أو الماء، مثل أن يرى الشمس أو غيرها في ماء أو مرآة، فيشار إلى المرئي فيقال: هذا الشمس، وهذا وجهي أو وجه فلان، وليس مراده أن نفس الشمس أو وجهه أو وجه فلان حل في الماء أو المرآة، ولكن لما كان المقصود بتلك الرؤية هو الشمس وهو الوجه - ذكره، ثم قد يقال: رآه رؤية مقيدة في الماء، أو المرآة، وقد يقال: رآه بواسطة الماء والمرآة، وقد يقال: رأى مثاله وخياله المحاكي له، ولكن المقصود بالرؤية هو نفسه، ومثل هذا كثير.

ومعلوم أن ما في القلوب من المثال العلمي المطابق للمعلوم أقرب إليه من اللفظ، واللفظ أقرب من الخط، فإذا كان قد يشار إلى اللفظ والخط، والمراد هو نفسه، وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته، بل به ظهر وعرف، فلأن يشار إلى ما في القلب، ويراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلى للقلب، وصار نوره في القلب - بطريق الأولى.
والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل، ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم بها، كما يقولون لمن يعرف علم غيره، أو لمن يأمر بأمره، ويخبر بخبره، هذا فلان، فإذا كان مطلوبهم علم عالم أو طاعة أمير، فجاء نائبه القائم مقامه في ذلك، قالوا: هذا فلان، أي المطلوب منه هو مع هذا، فالاتحاد المقصود بهما يعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر.
كما يقال: عكرمة هو ابن عباس، وأبو يوسف هو أبو حنيفة، ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي.

«وقوله تعالى فيما حكاه عن رسوله: عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي جعت فلم تطعمني»، ويشبهه قوله:
{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10].
فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين، في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.
، بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد، ويراد به معنى صحيح، كما يقال فلان وفلان بينهما اتحاد، إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان، ويواليان ويعاديان، فلما اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال هما متحدان، وبينهما اتحاد، ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر، كاتحاد النار والحديد، والماء واللبن، أو النفس والبدن، وكذلك لفظ الحلول، والسكنى، والتخلل وغير ذلك، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
والمتخلل مسلك الروح منه هو محبته له وشعوره به، ونحو ذلك، لا نفس ذاته، وكذلك قول الآخر:
ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره

والساكن في القلب هو مثاله العلمي ومحبته ومعرفته، فتسكن في القلب معرفته ومحبته لا عين ذاته، وكذلك قول الآخر:
إذا سكن الغدير على صفاء ... وجنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي ... يرى في صفوها الله العظيم
وقد يقال: فلان ما في قلبه إلا الله، وما عنده إلا الله، يراد بذلك: إلا ذكره ومعرفته ومحبته وخشيته وطاعته، وما يشبه ذلك، أي ليس في قلبه ما في قلب غيره من المخلوقين، بل ما في قلبه إلا الله وحده، ويقال: فلان ما عنده إلا فلان، إذا كان يلهج بذكره، ويفضله على غيره.

وهذا باب واسع، مع علم المتكلم والمستمع أن ذات فلان لم تحل في هذا، فضلا عن أن تتحد به، وهو كما يقال عن المرآة إذا لم تقابل إلا الشمس: ما فيها إلا الشمس، أي لم يظهر فيها غير الشمس.
وأيضا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة، وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره، وعندهم في النبوات أن الله حل في غير المسيح من الصالحين، وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه، بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري، وسويداء قلبي، ونحو ذلك، وإنما حل فيه مثاله العلمي، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المكان إذا خلا ممن يعرف الله ويعبده لم يكن هناك ذكر الله ولا حلت فيه عبادته ومعرفته، فإذا صار في المكان من يعرف الله ويعبده ويذكره ظهر فيه ذكره والإيمان به وحل فيه الإيمان بالله وعبادته وذكره، وهو بيت الله عز وجل فيقال: إن الله فيه، وهو حال فيه.
كما يقال: إن الله في قلوب العارفين، وحال فيهم، والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته، ونحو ذلك، وقد تقدم شواهد ذلك، فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين، أي نوره ومعرفته، وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد - قيل: إن الله في المسجد، وحال فيه، بهذا المعنى، كما يقال: الله في قلب فلان وفلان، ما عنده إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده».
ومما يزيد ذلك إيضاحا ما يراه النائم من بعض الأشخاص في منامه، فيخاطبه ويأمره وينهاه ويخبره بأمور كثيرة، وهو يقول: رأيت فلانا في منامي فقال لي: كذا، وقلت له: كذا، وفعل كذا، وفعلت كذا، ويذكر أنواعا من الأقوال والأفعال.
وقد يكون فيها علوم وحكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة، وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيا، وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه فضلا عن أن يكون شاعرا بأنه قال أو فعل، وقد يقص الرائي عليه رؤياه، ويقول له الرائي: يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي: كذا، وأمرتني بكذا، ونهيتني عن كذا، والمرئي لا يعرف ذلك، ولا يشعر به، لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو المثال العلمي المطابق للعيني، كما يرى الرائي في المرآة أو الماء الشخص الموجود في الخارج، فهو المقصود، وبعض المرئيين في المنام قد يدري بأنه رئي في المنام ويكاشف بذلك الرائي كما قد يكاشفه بأمور أخرى، لا لأنه نفسه حل فيه.
والرؤيا إذا كانت صادقة كان ذلك القول والعمل مناسبا لحال المرئي، مما هو عادته يقوله ويفعله بنفسه، فمثل للرائي مثاله قائلا له وفاعلا؛ ليعلم أنه نفسه يقوله ويفعله فينتفع بذلك الرائي، كما يحكى للإنسان قول غيره وعمله ليعرف بذلك نفس القول والعمل المحكي، فإن كثيرا من الأشياء لا يعرفه الناس أو أكثرهم إلا بالمثل المضروب له، إما في اليقظة وإما في المنام، مع العلم بأن عين هذا ليس عين هذا،ومن توهم أنه إذا رأى شخصا في منامه بأن ذاته نفسها حلت فيه دل على جهله؛ فإن المرئي كثيرا ما يكون حيا وهو لا يشعر بمن رآه، ذلك لا روحه تشعر ولا جسمه، فلا يتوهم أن ذات روحه تمثلت في صورته الجسمية للنائم، بل الممثل في نفس الرائي مثال مطابق له وجسمه وروحه حيث هما.

ثم الرؤيا قد تكون من الله، فتكون حقا، وقد تكون من الشيطان، كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة، والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس، يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان، كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا، ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم، وإنما هو شيطان تصور في صورته، وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين، ويقول: أنا فلان، وإنما هو شيطان.

وقد يقوم شيخ من الشيوخ، ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه، وهو جني تصور في صورته، وهذا يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام، وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له: أنا الخليل، أو أنا موسى، أو أنا المسيح، أو محمد، أو أنا فلان لبعض الصحابة، أو الحواريين، ويراه طائرا في الهواء، وإنما يكون ذلك من الشياطين، ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي»، فرؤيته في المنام حق، وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو، ولا أحد من الموتى، مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء، إما عند قبره وإما عند غير قبره.
وقد يرى القبر انشق، وخرج منه صورة إنسان، فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره، أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر، وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي، فإن الروح ليست مما تكون تحت التراب وينشق عنها التراب، فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن، فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب، والبدن لم ينشق عنه التراب، وإنما ذلك تخييل من الشيطان، وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين، وأهل الكتاب والمشركين.
ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين، ويكون من إضلال الشياطين، كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب، مثل الفرقان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان وغير ذلك.
[فصل: الرد على قولهم ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره]
وإذا أردتم بقولكم: ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره - فهذه دعوى مجردة من غير دليل متقدم ولا متأخر، وكون الإنسان أجل ما خلقه الله - لو كان مناسبا لحلوله فيه - أمر لا يختص به المسيح، بل قد قام الدليل على أن غير عيسى عليه السلام أفضل منه مثل إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذان اتخذهما الله خليلين، وليس فوق الخلة مرتبة، فلو كان يحل في أجل ما خلقه الله من الإنسان لكونه أجل مخلوقاته لحل في أجل هذا النوع، وهو الخليل، ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وليس معهم قط حجة على أن الجسد المأخوذ من مريم إذا لم يتحد باللاهوت على أصلهم - أنه أفضل من الخليل وموسى.
وإذا قالوا: إنه لم يعمل خطيئة، فيحيى بن زكريا لم يعمل خطيئة، ومن عمل خطيئة وتاب منها فقد يصير بالتوبة أفضل مما كان قبل الخطيئة، وأفضل ممن لم يعمل تلك الخطيئة، والخليل وموسى أفضل من يحيى الذي يسمونه يوحنا المعمداني.
وأما قولهم: ولهذا خاطب الخلق، فالذي خاطب الخلق هو عيسى ابن مريم، وإنما سمع الناس صوته لم يسمعوا غير صوته، والجني إذا حل في الإنسان وتكلم على لسانه يظهر للسامعين أن هذا الصوت ليس هو صوت الآدمي، ويتكلم بكلام يعلم الحاضرون أنه ليس كلام الآدمي.
والمسيح عليه السلام لم يكن يسمع منه إلا ما يسمع من مثله من الرسل، ولو كان المتكلم على لسان الناسوت هو جنيا أو ملكا لظهر ذلك، وعرف أنه ليس هو البشر، فكيف إذا كان المتكلم هو رب العالمين؟ فإن هذا لو كان حقا لظهر ظهورا أعظم من ظهور كلام الملك والجني على لسان البشر بكثير كثير.
وأما ما شاهدوه من معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام، فقد شاهدوا من غيره ما هو مثلها وأعظم منها، وقد أحيا غيره الميت وأخبره بالغيوب أكثر منه، ومعجزات موسى أعظم من معجزاته أو أكثر، وظهور المعجزات على يديه يدل على نبوته ورسالته، كما دلت المعجزات على نبوة غيره، ورسالتهم، لا تدل على الإلهية.
والدجال لما ادعى الإلهية لم يكن ما يظهر على يديه من الخوارق دليلا عليها، لأن دعوى الإلهية ممتنعة، فلا يكون في ظهور العجائب ما يدل على الأمر الممتنع.
[فصل: الرد على تشبيه النصارى حلول كلمة الله في الناسوت بالكتابة في القرطاس]
قال سعيد بن البطريق: ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس، فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت، ولا يفارقها العقل الذي ولدها ; لأن العقل بالكلمة يعرف ; لأنها فيه، والكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه، وكلها في نفسها وفي الروح، وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت به فيقال: هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم، لا حجة لكم، وذلك يظهر بوجوه.
أحدها: أن يقال: إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت، مثل كتابة الكلام في القرطاس، فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله، كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن، وغير ذلك، فإن هذا كله كلام الله، وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل الملل، بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس، وقد قال تعالى في القرآن: {بل هو قرآن مجيد - في لوح محفوظ} [البروج: 21 - 22].
وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم - في كتاب مكنون - لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 77 - 79]. وقال: {يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة} [البينة: 2] وقال: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس: 11] وقال تعالى: {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور: 1]
وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا، فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا، وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين.
ولو قال قائل: يا كلام الله اغفر لي وارحمني، أو يا توراة،أو يا إنجيل، أو يا قرآن اغفر لي وارحمني، كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء.
وأنتم تقولون: المسيح إله خالق، وهو يدعى ويعبد، فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس؟
الثاني: أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم، يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم.
وعند بعضهم، هو عرض مخلوق، يخلقه في غيره.
فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها، ليس جوهرا قائما بنفسه.
والمسيح - عندكم - لاهوته جوهر قائم بنفسه، وهو إله حق من إله حق وهو - عندكم - إله تام وإنسان تام.
فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها؟
الثالث: قولكم: (إن كلمة الإنسان مولودة من عقله)، لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا.
وأنتم تقولون: إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل الدهور وتقولون - مع هذا -: هي إله.
وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل، فهي بدعة وضلالة في الشرع، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له، ولا قال: إن صفته متولدة منه. ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق، لا لصفة الله القديمة، فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء.

الرابع: قولكم: (مولودة من عقله)، إن أردتم (بعقله) العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا، أو نفسا ناطقة، فتلك إنما تقوم بها المعاني، وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه.
وإن أردتم (بعقله) مصدر عقل يعقل عقلا، فالمصدر عرض قائم بالعقل، وهو عرض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح.
وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان، فهو أيضا عرض.
الخامس: أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا، أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء، ولا أمة من الأمم، ولا في لغة من اللغات.
وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا: إذا كان كلام الإنسان متولدا منه، فكلام الله متولد منه.
ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه، ولا أنه ابنه، ولا أن علمه تولد منه، ولا أنه ابنه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 272.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 266.91 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (2.14%)]