تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 34 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 234 - عددالزوار : 27961 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4478 - عددالزوار : 983714 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4014 - عددالزوار : 502377 )           »          عيد أضحى مبارك ، كل عام وانتم بخير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 124 )           »          سفرة إفطار عيد الأضحى.. كبدة مشوية بخطوات سهلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 95 )           »          9 نصائح لمطبخ نظيف خلال عزومات عيد الأضحى.. التهوية أساسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 92 )           »          فتياتنا وبناء الذات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 80 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          ابن أبي الدنيا وكتابه “العيال” (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك 1445هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #331  
قديم 05-01-2023, 03:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2403 الى صـ 2410
الحلقة (331)



[ ص: 2403 ] (فالهاء) ضمير (الدرس) لا مفعول؛ لأن (يدرس) قد تعدى إلى (القرآن). وقيل: من سكن الهاء جعلها هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف. أفاده أبو البقاء.

وأما قول الواحدي: الذين أثبتوا الهاء راموا موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط، فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل، لأثبتوا - فقد قال الخفاجي: إنه مما لا ينبغي ذكره؛ لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط. فمن قاله فقد وهم.

قل لا أسألكم عليه أجرا أي: على القرآن أو التبليغ. فإن مساق الكلام يدل عليهما، وإن لم يجر ذكرهما إن هو إلا ذكرى للعالمين أي: عظة وتذكير لهم ليرشدوا من العمى إلى الهدى.

تنبيهان:

الأول: فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى جميع الخلق، من الجن والإنس. وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق.

الثاني: قال الخفاجي: قيل: الآية تدل على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. قال: وللفقهاء فيه كلام. انتهى.

[ ص: 2404 ] وعكس بعض مفسري الزيدية حيث قال: في هذا إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم؛ لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة. انتهى.

أقول: إن الآية على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجرا، كي لا يثقل عليهم الامتثال. وأما ما استفادة الحل والتحريم منها، ففيه خفاء. والقائل بالأول يقول: المعنى: لا أسألكم جعلا تعففا. أي: وإن حل لي أخذه. وبالثاني: لا أسألكم عليه أجرا لأني حظرت من ذلك.

قال ابن القيم: أما الهدية للمفتي، ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت، فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها. وإن كانت بسبب الفتوى، فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له، لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء. وأما أخذ الرزق من بيت المال، فإن كان محتاجا إليه، جاز له ذلك. وإن كان غنيا عنه، ففيه وجهان: وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة، وعامل اليتيم. فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام، فله الأخذ. ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ. وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي، بل القاضي أولى بالمنع. وأما أخذ الأجرة فلا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه، كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة. أو سئل عن حلال أو حرام؟ فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعا، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه، انتهى.

وفي حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به» - أخرجه الإمام أحمد برجال الصحيح. وأخرجه أيضا البزار. وله شواهد.

[ ص: 2405 ] وأخرج أحمد والترمذي - وحسنه - عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به» . وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أبي بن كعب قال: علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوسا من نار.

وهناك أحاديث أخر، ومنها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم.

وأما أخذ الأجرة على التلاوة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود في قصة اللديغ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا، كتاب الله، أصبتم اقتسموا، واضربوا لي معكم سهما» .

[ ص: 2406 ] قال العلامة الشوكاني: حديث: (أحق ما أخذتم عليه أجرا) عام يصدق على التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة. لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء، لأجل كونه قارئا، ونحو ذلك. فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم. وبعض أفراد العام فيه، أدلة خاصة تدل على جوازه، كما دل العام على ذلك. فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها. قال: هكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام، والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن. أي: لأنه يصار إليه عند تعذر الجمع، وقد أمكن، فكان الأحق. والله الموفق.
ولما بين تعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين، تأثره ببيان كفرهم بذلك، على وجه سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة، فقال سبحانه:

[ ص: 2407 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[91] وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون

وما قدروا الله حق قدره أي: ما عظموه حق تعظيمه و: حق نصب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر. أي: قدره الحق، فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء أي: حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلا، حيث قيل في جواب سلبهم العام، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم:

قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا حال من الضمير في: به أو من: الكتاب وهدى للناس أي: ضياء من ظلمة الجهالة، وبيانا يفرق بين الحق والباطل تجعلونه قراطيس تبدونها يجزئونه أوراقا يبدونها للناس مما ينتخبونه. أي: فكيف ينكر إنزال شيء، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان. والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته، والحال بعده - لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر وتخفون كثيرا معطوف على (تبدونها)، والعائد محذوف. أي: كثيرا منها. أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب. أي: وهم يخفون كثيرا. أي: ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، المعترف لديهم بحقيته. وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.

وعلمتم أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف [ ص: 2408 ] التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني قل الله أي: أنزله الله، أو الله أنزله. أمره بأنه يجيب عنهم، إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيها على أنهم بهتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.

ثم بعد التبليغ وإلزام الحجة: ذرهم في خوضهم أي: في باطلهم: يلعبون أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضررا، مع تضييع الزمان.

تنبيه:

في هذه الآية قولان:

الأول: أنها مكية النزول تبعا للسورة، وأن القائل ذلك هم المشركون، وإلزامهم إنزال التوراة، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة، وهذا هو الظاهر.

قال ابن كثير: قال ابن عباس، ومجاهد وعبد بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش، واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأصح؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر كما قال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وكقوله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا وكذا قالوا هنا: ما أنـزل الله على بشر من شيء فألزموا بإنزال [ ص: 2409 ] الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيبا لقولهم، وإيقافا على عنادهم. ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجله، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى، وعلى هذا القول، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة. وعلى قراءة الخطاب، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين. وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجي - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية، تعريضا لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان، وعدم الإسناد إلى برهان. ثم القول بأن الخطاب في: علمتم لمؤمني قريش. لا يقتضيه السياق ولا السباق، وفيه تفكيك للنظم الجليل، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. بل الخطاب فيه كسابقه، والمراد بتعليمهم، وهم مشركون، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، من فرائد الوحي وفوائده، مما لا يرتاب في تنزيلها، كما أوضحناه قبل.

القول الثاني: إن هذه الآية مدنية النزول. ولا يرد أن هذه السورة مكية، ومناظرات اليهود كانت في المدينة؛ لأن كثيرا من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم: (هذه السورة مكية) أي: إلا ما استثني مما ألحق بها، كما أوضحه السيوطي في "الإتقان" وساق له شواهد. وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة، فتذكر!.

ثم القائلون بأنها مدنية، منهم من قال: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص، أو في مالك بن الصيف. أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزلت.

[ ص: 2410 ] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلا - قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين - وكان حبرا سمينا -؟ فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه: ويحك! ولا على موسى؟ فأنزل الله: وما قدروا الله حق قدره الآية. قال البغوي: وفي القصة أن مالك بن الصيف، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة، عتبوا عليه، وقالوا: أليس الله أنزل التوراة على موسى، فلم قلت: ما أنزل الله من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: أغضبني محمد، فقلت ذلك! فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق! فنزعوه عن الحبرية. وبعد الوقوف على ذلك، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديا متظاهرا بذلك، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء؛ لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظا، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عنادا ومكابرة، توصلا لدفع ما يريده. وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حد يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده، إغاظة لخصمه على زعمه. وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس، مما لا تغتفر، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله: وما قدروا الله حق قدره .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #332  
قديم 05-01-2023, 03:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2411 الى صـ 2418
الحلقة (332)




قال العلامة البقاعي: لأن من نسب ملكا تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه، وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم. فكيف إذا كانت تلك النسبة كذبا؟ وإنما أسند إلى الكل - والقائل بعضهم - لأنهم لم يردوا على قائله، ولم [ ص: 2411 ] يعاجلوه بالأخذ على يده، تهويلا للأمر، وبيانا لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها، ويتعرف أمورها، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته، فقال مشيرا إلى اليهود قائلو ذلك. ملزما لهم بالاعتراف بالكذب، أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخا لهم، ناعيا عليهم سوء جهلهم، وعظيم بهتهم، وشدة وقاحتهم، وعدم حيائهم: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ؟ أي: قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة، غير ناظرين في عاقبتها، وما يلزم منها، توبيخا لهم، وتوقيفا على شنيع جهلهم: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه: تجعلونه قراطيس أي: أوراقا مفرقة، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم تبدونها للناس أي: تظهرونها للناس وتخفون كثيرا أي: منها مما تريدون به تبديل الدين. هذا على قراءة الفوقانية. وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحى من ذكره، فكيف بفعله. وقوله: وعلمتم أي: أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى: ما لم تعلموا أنتم أي: أيها اليهود من أهل هذا الزمان: ولا آباؤكم أي: الأقدمون. انتهى كلام البقاعي رحمه الله تعالى. وفي قوله: (وإنما أسند إلى الكل..) إلى آخره، نظر؛ لأن إسناده ليس إليهم؛ لأنهم رضوا به؛ لأن القصة السالفة تدل على خلافه. وللبقاعي رحمه الله وجه آخر في الآية. قال: ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام، وإنزال التوراة عليه. انتهى. وهو قريب وجيه جدا.

وبالجملة، فالآية الكريمة متصادقة مع الأوجه المذكورة، وتتنزل في التأويل، على ما بينا في كل تنزيلا لا شائبة معه لإشكال ما. وقد استصعب الرازي تأويلها، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثمام، بعد النظر فيما بينا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا.

[ ص: 2412 ] لطائف:

الأولى: قال أبو السعود رحمه الله: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن أيضا؛ فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعا، لما فيها من الشواهد الناطقة به.

الثانية: قال أيضا في قوله تعالى: تجعلونه قراطيس أي: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة، بحذف الجار، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة. وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة.

الثالثة: في قوله تعالى: تبدونها وتخفون كثيرا دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به. قاله بعض الزيدية.
ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة، بين تنزيل ما يصدقها بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[92] وهذا كتاب أنـزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون

وهذا يعني: القرآن كتاب أنـزلناه مبارك أي: كثير المنافع والفوائد، لاشتماله على منافع الدارين، وعلوم الأولين والآخرين، وما لا يتناهى من الفوائد.

قال الرازي: العلوم إما نظرية، وإما عملية. فالأولى أشرفها. وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه. ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب.

وأما الثانية: فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلوب، وهو المسمى [ ص: 2413 ] بطهارة الأخلاق، وتزكية النفس. ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب. ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه، والمتمسك به، يحصل له عز الدنيا، وسعادة الآخرة. انتهى. قال الخفاجي: وقد شوهد ذلك في كل عصر.

مصدق الذي بين يديه أي: من التوراة أو من الكتب التي أنزلت قبله، في إثبات التوحيد، والأمر به، ونفي الشرك، والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.

ولتنذر أم القرى يعني: مكة. سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا، وغيرها كالتبع لها، كما يتبع الفرع الأصل. وفي ذكرها بهذا الاسم، المنبئ عما ذكر، إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة. ومن حولها من أطراف الأرض، شرقا وغربا. كما قال في الآية الأخرى: لأنذركم به ومن بلغ وقوله: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وقال: تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وقال تعالى: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

[ ص: 2414 ] وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر منهن: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .

والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر، حتى يؤمن بالنبي والكتاب (والضمير يحتملها) ويحافظ على الصلاة. والمراد بها إما الطاعة مجازا، أو حقيقتها، وتخصيصها لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان، وأعظمها خطرا.

قال الرازي: ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم [ ص: 2415 ] أي: صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال عليه الصلاة والسلام: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» . فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام. انتهى.

أقول: الحديث المذكور رواه الطبراني في أوسط معاجمه عن أنس وصحح. وتمامه: «فقد كفر جهرا» . كما في الجامع الصغير.

أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق، قال في هذه الآية: أي: يحافظون على مواقيتها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[93] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: اختلق إفكا، فجعل له شركاء أو ولدا، أو أحكاما في الحل والحرمة، كعمرو بن لحي وأشباهه، ممن جعل قوله قول الله.

أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ممن ادعى النبوة كذبا، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة.

قال البقاعي: هذا تهديد على سبيل الإجمال، كعادة القرآن الجميل، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك، كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما، ثم قال: رأيت في كتاب "غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود" لابن يحيى المغربي الذي كان من علمائهم في حدود [ ص: 2416 ] سنة 560 ثم هداه الله للإسلام فبين فضائحهم: إن الربانيين منهم زعموا أن الله يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات. ثم قال: إن الربانيين أكثرهم عددا، يزعمون أن الله يخاطبهم في كل مسألة بالصواب، وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم في الأمم. انتهى.

ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله أي: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول، كالنضر بن الحارث. وهذا كقوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا

قال المهايمي: أي: ومن أنكر إعجاز القرآن حتى قال: سأنـزل مثل ما أنـزل الله مع أنه قد عرف إعجازه، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله، فكأنه ادعى الإلهية لنفسه، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة. فيعلم ما للظالمين فيها، المبين بقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت أي: شدائده وسكراته وكرباته والملائكة باسطو أيديهم أي: بالضرب والعذاب، كقوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم

أخرجوا أنفسكم أي: قائلين لهم: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم، تغليظا وتوبيخا وتعنيفا عليهم. وقد جنح بعضهم إلى أن ما ذكر من مجاز التمثيل. أي: فشبه فعل الملائكة في قبض أرواحهم، بفعل الغريم الذي يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف في استيفاء حقه من غير إمهال. وفي "الكشف" أنه كناية عن ذلك، ولا بسط ولا قول حقيقة. قال الناصر في "الانتصاف": ولا حاجة إلى ذلك. والظاهر أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة، على الصور المحكية. وإذا أمكن البقاء على الحقيقة، فلا معدل عنها. انتهى.

[ ص: 2417 ] وقال الحافظ ابن كثير: إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم انتهى.

أقول: مما يؤيد الحقيقة آية: ولو ترى إذ يتوفى المتقدمة، فإنها صريحة، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل.

قال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية حال الكافر عند القبض، وعذاب القبر. واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعوانا من الملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم.

اليوم أي: وقت الإماتة، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له تجزون عذاب الهون أي: الهوان الشديد بما كنتم تقولون على الله غير الحق كالتحريف ودعوى النبوة الكاذبة. وهو جراءة على الله متضمنة للاستهانة به - قاله المهايمي - وكنتم عن آياته تستكبرون حتى قال بعضكم: سأنزل مثل ما أنزل الله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون

ولقد جئتمونا أي: للحساب والجزاء: فرادى أي: منفردين عن الأموال والأولاد، وما أثرتموه من الدنيا. أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم. و (فرادى) جمع فريد، كأسير وأسارى.

[ ص: 2418 ] كما خلقناكم أول مرة أي: مشبهين ابتداء خلقكم، حفاة عراة غرلا (يعني قلفا).

روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين

ورويا أيضا عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون حفاة عراة غرلا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #333  
قديم 05-01-2023, 03:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2419 الى صـ 2426
الحلقة (333)



وروى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عز وجل: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فقالت: يا رسول الله! واسوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون [ ص: 2419 ] جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض» .

وتركتم ما خولناكم ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم والخول: وراء ظهوركم يعني: في الدنيا، ولم تحملوا منه نقيرا. كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد في الآخرة.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ وزاد في رواية: وما سوى بذلك فهو ذاهب وتاركه للناس.

وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء أي: لله في الربوبية، واستحقاق العبادة.

لقد تقطع بينكم قرئ بالرفع. أي: شملكم؛ فإن البين من الأضداد، يستعمل للوصل والفصل. وبالنصب على إضمار الفاعل، لدلالة ما قبله عليه. أي: تقطع الأمر، أو الاشتراك، أو وصلكم بينكم. أو على إقامته مقام موصوفه. والأصل: لقد تقطع ما بينكم، وقد قرئ به. أي: تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات.

وضل عنكم ما كنتم تزعمون أي: ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام، كقوله تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقال تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ ص: 2420 ] وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا والآيات في هذا كثيرة جدا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون

إن الله فالق الحب والنوى شروع في بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته، وعلمه وحكمته، إثر تقرير شأن توحيده تعالى، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها. ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، ولتعريف خطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى: أن الذي يستحق العبادة دون غيره، هو الله الذي فلق الحب عن النبات، والنواة عن النخلة.

وفي معنى (فالق) قولان:

أحدهما: أنه بمعنى خالق. وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه. وبه قال الضحاك ومقاتل. قال الواحدي: ذهبوا ب (فالق) مذهب (فاطر). وأنكر الطبري هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء)، بمعنى خلق. ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه. وكذا المجد في القاموس.

قال الرازي: (الفطر) هو الشق، وكذلك (الفلق). فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوما محضا، ونفيا صرفا. والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها، [ ص: 2421 ] ولا انفلاق، ولا انشقاق. فإذا أخرجه المبدع الموجود من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه. وأخرج الحدث من ذلك الشق. فهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمبدع.

والقول الثاني: وهو قول الأكثرين: أن الفلق هو الشق. وفي معناه وجهان:

أحدهما: مروي عن ابن عباس قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. وهو قول الحسن والسدي وابن زيد. قال الزجاج: يشق الحبة اليابسة، والنواة عن اليابسة، فيخرج منها ورقا أخضر.

الوجه الثاني: وهو قول مجاهد: أنه الشقان اللذان في الحب والنوى.

وضعف بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة.

و (الحب): ما ليس له نوى، كالحنطة والشعير والأرز.

و (النوى): جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما.

قال الإمام الرازي: إذا عرفت ذلك، فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة، أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا، ومن أسفلها شقا آخر، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض، المسماة بعروق الشجرة. وتصير تلك الحبة والنواة سببا لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض. ثم إن ههنا.

عجائب:

فإحداها - أن طبيعة الشجرة، إن كانت تقتضي الهوي في عمق الأرض، فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان، مع أن الحس والعقل [ ص: 2422 ] يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى - علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع.

وثانيها: أن باطن الأرض جرم كثيف صلب، لا تنفذ المسلة القوية فيه، ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه. ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة، لصارت كالماء، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة. فحصول هذه القوى الشديدة، لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة، لابد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم.

وثالثها: أنه يتولد من تلك النواة شجرة، ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة، وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة، وفي تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش. ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها، ويتولد على الأغصان الأوراق أولا، ثم الأزهار والأنوار ثانيا، ثم الفاكهة ثالثا. ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر: مثل الجوز، فإن قشره الأعلى هو ذلك الأخضر، وتحته ذلك القشر الذي يشبه الخشب، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف، وهو أيضا كالقشر، وعلى جرم لطيف، وهو الدهن. وهو المقصود الأصلي. فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها، مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة، والطبائع الأربع - يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر، لا بتدبير الطبائع والعناصر.

ورابعها: أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترنج: قشره حار يابس، ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس، وبزره حار يابس. وكذلك العنب: قشره [ ص: 2423 ] وعجمه بارد يابس، وماؤه ولحمه حار رطب. فتولد هذه الطبائع المتضادة، والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة - لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار.

وخامسها: أنك تجد الفواكه مختلفة، فبعضها يكون اللب في الداخل، والقشرة في الخارج، كما في الجوز واللوز. وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج، وتكون الخشبة في الداخل، كالخوخ والمشمش. وبعضها يكون النواة لها لب، كما في نوى المشمش والخوخ. وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر. وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوبا، كالتين. فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه. وأيضا هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر. فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكم، علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل. وأيضا فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى. ومنفعة أخرى. وأيضا تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان، وسما لحيوان آخر، فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال، مع اتحاد الطبائع، وتأثيرات الكواكب، يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم.

وسادسها: أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة، وجدت خطا واحدا مستقيما في وسطها، كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان. وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة، يمنة ويسرة، في بدن الإنسان، ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار، بسبب الصغر - فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة، وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى، ولا يزال يبقى على هذا المنهج، حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر. الخالق تعالى إنما فعل ذلك، حتى أن القوى الجاذبة [ ص: 2424 ] المركوزة في جرم تلك الورقة، تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة، عملت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل، وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل، ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان، علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل. ولما عرفت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان، علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل. ثم إنه تعالى خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غداء ودواء للإنسان بحسب جسده، والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة، واعرف كيفية تلك العروق والأوتار فيها، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها، حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية، كما قال: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة. فهذا كلام مختصر في تفسير قوله تعالى: إن الله فالق الحب والنوى ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له. ونسأل الله التوفيق والهداية. انتهى كلام الرازي رحمه الله تعالى.

يخرج الحي من الميت كالحيوان من النطفة، والنبات الغض الطري من الحب اليابس ومخرج الميت كالنطفة والحب: من الحي كالحيوان والنبات.

[ ص: 2425 ] ذلكم الله أي: الفالق للحب والنوى، والمخرج الحي من الميت وعكسه، هو الله، القادر العظيم الشأن، المستحق للعبادة وحده.

فأنى تؤفكون أي: تصرفون عنه إلى غيره.

قال الرازي: والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان، فحصول المثل عن المثل، يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم، والمدبر العليم.

تنبيه:

ذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن قوله تعالى: ومخرج الميت عطف على: فالق لا على: يخرج الحي ؛ لأنه بيان لفالق الحب والنوى، وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه، كقوله: صافات ويقبضن . والصحيح أنه معطوف على: يخرج الحي من الميت واشتماله على زيادة فيه، لا يضر ذلك بكونه بيانا. كما أن: مخرج الميت من الحي بيان مع شموله للحيوان والنبات. وفيه من البديع التبديل، كقوله تعالى: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل

[ ص: 2426 ] قال في "الانتصاف": وقد وردا جميعا بصيغة الفعل كثيرا في قوله: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون وقوله: أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فعطف أحد القسمين على الآخر، كثيرا دليل على أنهما توأمان مقترنان، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى: فالق الحب والنوى فالوجه - والله أعلم - أن يقال: كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله: فالق الحب و: فالق الإصباح و: وجعل الليل و: ومخرج الميت من الحي إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده، وهو قوله: يخرج الحي من الميت إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت، واستحضاره في ذهن السامع. وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائها الفعل المضارع دون اسم الفاعل [ ص: 2427 ] والماضي. وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة فعدل عن الماضي المطابق لقوله: أنزل لهذا المعنى، ومنه ما في قوله:


بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش
فخرت صريعا لليدين وللجران




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #334  
قديم 05-01-2023, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2428 الى صـ 2436
الحلقة (334)



[ ص: 2428 ] فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته، واستحضارها لذهن السامع. ومنه: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة فعدل عن (مسبحات) وإن كان مطابقا ل: محشورة لهذا السبب - والله أعلم -. ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما يكون العناية به أقوى. ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه. وهو أيضا أول الحالين، والنظر أول ما يبدأ فيه. ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي بان عنه، فكان الأول جديرا بالتصديق والتأكيد في النفس، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر; حسب ترتيبهما في الواقع. وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع، فكل واحد منهما يقدر بالآخر، فلا جناح في عطفه عليه - والله أعلم - انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[96] فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم

وقوله تعالى: فالق الإصباح خبر آخر ل (إن)، أو لمبتدأ محذوف. و (الإصباح) مصدر سمي به الصبح. قال امرؤ القيس:


ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل


[ ص: 2429 ] أي: شاقه عن ظلمة الليل: وجعل الليل سكنا أي: صير الظلام يسكن إليه، ويطمئن به، استرواحا من تعب النهار. أو يسكن فيه الخلق، أي: يقروا ويهدؤا (من السكون) - وهو الأظهر لقوله: لتسكنوا فيه - وقرئ (وجاعل الليل).

والشمس والقمر حسبانا أي: على أدوار مختلفة، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات. كما ذكره في سورة يونس في قوله: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب

ذلك أي: التسيير بالحساب المعلوم: تقدير العزيز العليم أي: الغالب على أمره العليم بتدبيرهما، ومراعاة الحكمة في شأنهما.

[ ص: 2430 ] تنبيهات:

الأول: قال الرازي: قوله تعالى: فالق الإصباح الآية. نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته. فالنوع المتقدم كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان. والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية. وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. ثم قرر الحجة من وجوه عديدة، وأجاد رحمه الله.

الثاني: قرئ: (الأصباح) بفتح الهمزة، على أنه جمع صبح، كقفل وأقفال.

الثالث: في "البحر الكبير": أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما؛ لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام التي تتركب منها الشهور والسنون، فمن هنا دخلت - انتهى.

الرابع: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة (حم السجدة) قال: وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم انتهى.

وفي (العزة) معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، لا يتيسر لهما إلا ما أريد [ ص: 2431 ] بهما، كما قال: والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ومعنى القدرة الكاملة أيضا.

قال الرازي: العزيز إشارة إلى كمال قدرته، و: العليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه: أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيأتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة. وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. والله أعلم.

الخامس: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: حسبانا قال: يعني عدد الأيام والشهور والسنين. وقال قتادة: يدوران في حساب. قال السيوطي: فالآية أصل في الحساب والميقات. انتهى.
ثم بين تعالى نعمته في الكواكب، إثر بيان نعمته في النيرين إعلاما بكمال قدرته وحكمته ورحمته بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[97] وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون

وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي: [ ص: 2432 ] في ظلمات الليل في طرق البر والبحر: قد فصلنا الآيات أي: بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر. لقوم يعلمون أي: وجه الاستدلال بها. وإنما خلقت للاستدلال المتأثر بالعمل بموجبها، ألا وهو الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه واستحقاقه العبادة وحده.

تنبيهان

الأول: ذكر تعالى في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء، وكونها رجوما للشياطين. قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر. نقله ابن كثير.

أقول: مراده اعتقاد مناف للعقد الصحيح لا اعتقاد حكم وإسرار غير الثلاث فيها إذ فوائد المكونات غير محصور. وذكر حكمة في مكون لا ينفي ما عداها - فافهم.

الثاني: قال السيوطي في "الإكليل": هذه الآية أصل في الميقات، وأدلة العقليات،
ثم بين تعالى نوعا آخر من نعمه، وأدلة قدرته الباهرة بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[98] وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون

وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يعني: آدم عليه السلام: فمستقر ومستودع قرئ: مستقر بفتح القاف وكسرها، وأما: مستودع فبفتح الدال لا غير. وهما على الأول، إما مصدران، أي: فلكم استقرار واستيداع، أو اسما مكان، أي: موضع استقرار واستيداع. والاستقرار إما في الأصلاب، أو فوق الأرض، لقوله تعالى: [ ص: 2433 ] ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين أو في الأرحام، لقوله تعالى: ونقر في الأرحام أو الاستيداع في الأرحام، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، لا من قبل شخص آخر، وفي الرحم من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، كأن الرجل أودعها ما كان عنده، أو في الأصلاب، أو تحت الأرض، أو فوقها، فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله:


وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع


ونقل الرازي عن الأصم أن المستقر من خلق من النفس الأولى، ودخل الدنيا واستقر فيها. والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وجعل الأصفهاني (المستقر) كناية عن الذكر، و (المستودع) كناية عن الأنثى. قال: إنما عبر عن الذكر ب (المستقر) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه، وإنما تستقر هناك. وعبر عن الأنثى ب (المستودع) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة. والله أعلم.

[ ص: 2434 ] وعلى قراءة (مستقر) بكسر القاف اسم فاعل، أي: فمنكم قار، ومنكم مستودع، ووجه كون الأول معلوما. والثاني مجهولا، كون الاستقرار صادرا منا دون الاستيداع.

قال الرازي: مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول: الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع. والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم. ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم

قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: (يعلمون) مع ذكر النجوم، و (يفقهون) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا. فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر، مطابقا له. انتهى - وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة، ومن قال: إنه الفهم مطلقا، وليس بأبلغ من العلم - قال: إنه تفنن، حذرا من صورة التكرير.

قال الناصر في "الانتصاف": جواب الزمخشري صناعي، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت، ولا سبيل إلى الحقيقة.

قال: والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالفة، تحسينا للنظم، واتساقا في البلاغة، ويحتمل [ ص: 2435 ] وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم، والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله، ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها، أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة، وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر، ولا يتجاوزها. فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وأحواله، وعدم النظر فيها والتفكر، أبشع من جهله بالأمور الخارجية عنه، كالنجوم والأفلاك، ومقادير سيرها وتقلبها. فلما كان الفقه أدنى درجات العلم، إذ هو عبارة عن الفهم، نفي من أبشع القبيلين جهلا، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة، فخص به أسوأ الفريقين حالا. و (يفقهون) ههنا مضارع فقه الشيء - بكسر القاف - إذا فهمه، ولو أدنى فهم. وليس من (فقه) بضم القاف؛ لأن تلك درجة عالية، ومعناه صار فقيها - قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن (فقه) أنزل من (علم) -. وفي حديث سلمان أنه قال وقد سألته امرأة جاءته: فقهت أي: فهمت، كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل: فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قول: فلان لا يعلم شيئا. وكأن معنى قولك: (لا يفقه شيئا) ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: (لا يعلم شيئا) فغايته نفي حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم، لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر [ ص: 2436 ] في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا. وقولنا، في أدراج الكلام: (إنه نفى العلم عن أحد الفريقين، ونفى الفقه عن الآخر) يعني: بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة، والتفقه فيها بقوم. فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل، وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول. انتهى. وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز، وإبراز محاسنه ولطائفه.
ثم بين تعالى حجة كبرى على كمال قدرته، ومنة أخرى من جسيم نعمته بقوله:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #335  
قديم 05-01-2023, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2437 الى صـ 2446
الحلقة (335)







القول في تأويل قوله تعالى:

[99] وهو الذي أنـزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون

وهو الذي أنـزل من السماء ماء أي: من السحاب، لقوله تعالى: أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنـزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون وسمي السحاب سماء؛ لأن العرب تسمي كل ما علا سماء.

فأخرجنا به التفت إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله؛ أي: فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته: نبات كل شيء أي: صنف من أصناف [ ص: 2437 ] النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى: يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل

فأخرجنا منه أي: من النبات، يعني أصوله: خضرا أي: شيئا غضا أخصر. يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة نخرج منه صفة ل (خضرا) وصيغة المضارع، لاستحضار الصورة، لما فيها من الغرابة، أي: نخرج من ذلك الخضر: حبا متراكبا أي: متراكما بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز.

قال الرازي: ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.

ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر، إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات بقوله سبحانه: ومن النخل من طلعها قنوان دانية الطلع: أول ما يبدو من ثمر النخيل كالكيزان يكون فيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقا (بكسر العين وسكون الذال المعجمة بعدها) - وهو القنو، أي: العرجون، بما فيه من الشماريخ، وجمعه قنوان - (مثلث القاف) وهو ومثناه سواء، لا يفرق بينهما إلا الإعراب.

قال الزمخشري: قنوان، رفع الابتداء، و (من النخل) خبره، و (من طلعها) بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان، انتهى. وجوز أن يكون (من النخل) عطفا على (منه) وما بعده مبتدأ وخبر. أي: وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان دانية، أي: ملتفة، يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، وإنما اقتصر على [ ص: 2438 ] ذكرها لدلالتها على مقابلها، أعني البعيدة، كقوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر ولزيادة النعمة فيها: وجنات من أعناب عطف على (نبات كل شيء) أي: وأخرجنا به جنات، أو على (خضرا). وقال الطيبي: الأظهر أن يكون عطفا على (حبا) لأن قوله: (نبات كل شيء) مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي، كأنه قال: فأخرجنا بالنامي نبات كل شيء ينبت كل صنف من أصناف النامي، والنامي: الحب والنوى وشبههما. وقوله: فأخرجنا منه خضرا إلخ تفصيل لذلك النبات. أي: أخرجنا منه خضرا بسبب الماء، فيكون بدلا من (فأخرجنا) الأول، بدل اشتمال. ومن ههنا يقع التفصيل، فبعض يخرج منه السنابل ذات حبوب متكاثرة، وبعض يخرج منه ذات قنوان دانية، وبعض يخرج منه وبعض آخر جنات معروشات... إلخ.

والزيتون والرمان العطف فيه كما تقدم: مشتبها وغير متشابه حال من (الزيتون)، اكتفى به عن حال ما بعده. أو من (الرمان) لقربه. والمحذوف حال الأول.

قال الزمخشري: يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا. وقرئ: (متشابها وغير متشابه). والمعنى: بعضه متشابها، وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها، وحكمة منشئها ومبدعها.

انظروا إلى ثمره إذا أثمر أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، كيف يكون ضئيلا ضعيفا، لا يكاد ينتفع به. وينعه أي: وإلى حال ينعه ونضجه، كيف يعود شيئا جامعا لمنافع وملاذ. أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستبصار واستدلال، على قدرة مقدره ومدبره وناقله، على وفق الرحمة والحكمة، من حال إلى حال، فإن فيه آيات عظيمة دالة على ذلك، كما قال:

[ ص: 2439 ] إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون أي: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، أو هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم. قال بعضهم: القوم كانوا ينكرون البعث، فاحتج عليهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال، وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها، وإخراج أنواع النبات والثمار منها، وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى. فبين أنه تعالى كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء، ثم إنبات الأجساد كالنبات، ثم جعلها خضرة بالحياة، ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة، وإفادة أمور زائدة، وتفريعها، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة، غير متشابهة في اللذة، جزاء عليها، والله أعلم.

لطيفة:

قال الرازي: اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر؛ لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة. وإنما قدم النخل على سائر الفواكه؛ لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات. ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: «فإنها خلقت من بقية طينة آدم» . وإنما ذكر العنب عقيب النخل؛ لأن العنب أشرف أنواع الفواكه؛ وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال. فأول ما يظهر على الشجر، يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم، لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه. ثم بعده يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق، نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة. ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر [ ص: 2440 ] وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات. وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه (جوارشنات) عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة. فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه.

وأما الزيتون فهو أيضا كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل أيضا عنه دهن كثير، عظيم النفع في الأكل، وفي سائر وجوه الاستعمال.

وأما الرمان فحاله عجيب جدا؛ وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه. أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات. وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه، ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين. فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.

واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي. انتهى.

أقول: حديث «أكرموا عمتكم النخلة» المذكور، رواه أبو يعلى وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه، كما في الجامع الصغير، ورمز عليه بالضعف.
ولما ذكر تعالى هذه البراهين، من دلائل العالم العلوي والسفلي، على عظيم قدرته، وباهر حكمته، ووافر نعمته، واستحقاقه للألوهية وحده - عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه بقوله سبحانه:

[ ص: 2441 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[100] وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون

وجعلوا لله شركاء الجن أي: جعلوهم شركاء له في العبادة. فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن، وأمرهم بذلك. كقوله: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا وكقوله تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الآية.. وقال إبراهيم لأبيه: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا وكقوله: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم وتقول الملائكة يوم القيامة: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون

[ ص: 2442 ] وخلقهم حال من فاعل: جعلوا ، مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان، باعتبار علمهم بمضمونها. أي: وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن: (وليس من يخلق كمن لا يخلق) وقيل: الضمير للشركاء. أي: والحال أنه تعالى خلق الجن، فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟ كقول إبراهيم: قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون أي: وإذا كان هو المستقل بالخالقية، وجب أن يفرد بالعبادة، وحده لا شريك له.

تنبيه:

ما ذكرناه من معنى قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان، هو ما قرره ابن كثير، وأيده بالنظائر المتقدمة، ونقل عن الحسن، فتكون الكناية لمشركي العرب. وقيل: المراد بالجن الملائكة، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله. وكلا الأمرين موجب للشريك. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الألوهية. وتسمية الملائكة (جنا) حقيقة، لشمول لفظ الجن لهم. وقيل: استعارة. أي: عبدوا ما هو كالجن، فيكون مخلوقا مستترا عن الأعين.

وذهب بعض السلف - منهم الكلبي - إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين: أحدهما خالق الخير وكل نافع. وثانيهما خالق الشر وكل ضار. ونقله ابن الجوزي عن ابن السائب. وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه، وأنه قال: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله وإبليس أخوان. فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات; وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.

قال الرازي: وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية، وذلك؛ [ ص: 2443 ] لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في هذه الآيات المتقدمة.

وقوى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وإنما وصف بكونه من الجن؛ لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة والروحانيون مستترة من العيون، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها.

قال الفخر: هذا مذهب المجوس. وإنما قال ابن عباس: هذا قول الزنادقة؛ لأن المجوس يلقبون بالزنادقة؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى ب (الزند)، والمنسوب إليه يسمى (زندي)، ثم عرب فقيل: (زنديق)، ثم جمع فقيل: (زنادقة). واعلم أن المجوس قالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من (يزدان)، وجميع ما فيه من الشرور فهو من (أهرمن) (وهو المسمى بإبليس في شرعنا) ثم اختلفوا؛ فالأكثرون منهم على أن (أهرمن) محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة. والأقلون منهم قالوا: إنه قديم أزلي. وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم، فخيرات هذا العالم من الله تعالى، وشروره من إبليس. فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وإنما جمع حينئذ في الآية، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون.

ثم قال الرازي: وقوله تعالى: وخلقهم إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكا، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم، بل هو محدث. إذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث فله خالق وموجد، وما ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى. ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد. وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا: لا بد من إلهين، فسقط قولهم. انتهى ملخصا.

[ ص: 2444 ] وقوله تعالى: وخرقوا له أي: اختلقوا وافتروا له: بنين كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير: وبنات كقول بعض العرب في الملائكة.

قال الزمخشري: يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى. وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها. كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله! ويجوز أن يكون من (خرق الثوب) إذا شقه: أي: اشتقوا له بنين وبنات. وقرئ: "وخرقوا" بالتشديد للتكثير لقوله (بنين وبنات).

بغير علم أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة، من غير فكر وروية، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره. وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى. وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به، وقام عليه الدليل.

ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله: سبحانه وتعالى عما يصفون من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد.
ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترؤوا عليه بوجوه أربعة. بدأ منها بقوله

القول في تأويل قوله تعالى:

[101] بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم

بديع السماوات والأرض أي: مبدعهما بلا مثال سبق. وقيل: بمعنى عديم النظير فيهما. قال أبو السعود: والأول هو الوجه. والمعنى: أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي، بلا مادة، فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال بالمرة.

والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟

[ ص: 2445 ] أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة أي: من أين وكيف يكون له ولد - كما زعموا - والحال أنه ليس له على زعمهم أيضا صاحبة يكون الولد منها؟ ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة، وإن أمكن وجوده بلا والد. وأيضا، الولد لا يحصل إلا بين متجانسين، ولا مجانس له تعالى.

وقوله تعالى: أنى يكون له ولد جملة مستأنفة، لتقرير تنزهه عنه، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة.

وقوله تعالى: وخلق كل شيء جملة أخرى مستأنفة، لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال ثانية مقررة لها. أي: أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا له تعالى: فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟ أفاده أبو السعود.

وهو بكل شيء عليم أي: مبالغ في العلم أزلا وأبدا. جملة مستأنفة أيضا، مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة، ببطلان مقالتهم الشنعاء. أي: أنه سبحانه لذاته عالم بكل المعلومات، فلو كان له ولد، فلا بد أن يتصف بصفاته، ومنها عموم العلم، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع.
[ ص: 2446 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[102] ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل

ذلكم أي: الموصوف بما سبق، البعيد رتبته عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة، إذ هو: الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه أي: بالإيمان به وحده، فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده وهو على كل شيء وكيل أي: رقيب وحفيظ، يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[103] لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير

قوله تعالى: لا تدركه الأبصار جملة مستأنفة، إما مؤكدة لقوله تعالى: وهو على كل شيء وكيل ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وإما هي مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة وهي أبصار أهل الدنيا، لجلاله وكبريائه وعظمته، فأنى يصح أن ينسب إلى عليائه تلك العظيمة؟ وذلك لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعدادا لرؤيته المقدسة.

قال العارف الجليل الشيخ الأكبر قدس سره في "فتوحاته": سبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار، إلا لمن أمده الله بالقوة، بخلاف نشأة الآخرة لقوتها. وسبب رؤيته تعالى في المنام كون النوم أخا الموت. وفي الحديث: إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا. فما نفى الشرع إلا رؤية الله في الدنيا يقظة. انتهى.

وقال بعضهم: إن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه تعالى؛ لأن هذه الأحداق مادامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها، وتغيرت أحوالها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #336  
قديم 05-01-2023, 03:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2447 الى صـ 2457
الحلقة (336)






وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2447 ] «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .

قال ابن كثير: وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى! إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده. وقال تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

أقول: كون المنفي من الإدراك في هذه الآية هو الإدراك الدنيوي خاصة، لا يحتاج إلى حجة ولا برهان. ومن فهم من بعض الفرق، كالمعتزلة، من هذه الآية أن المنفي هو الإدراك في النشأتين، فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة. أما الكتاب فمثل قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وأما السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في [ ص: 2448 ] رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا» ، ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب .

قال ابن كثير: تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصاة وفي روضات الجنات» . انتهى.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا. إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال ابن كثير: كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤيا في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية. انتهى.

فعن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فقالت: لقد قف شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث: من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه [ ص: 2449 ] فقد كذب. ثم قرأت: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ومن حدثك أنه كتم فقد كذب. ثم قرأت: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجه الشيخان والترمذي.

وخالفها ابن عباس. فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده. والمسألة تذكر مبسوطة في أول سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية، بل معرفة الكنه أو الإحاطة.

قال ابن كثير: قال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك. فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة؛ فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى.

وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية؛ وهو الإحاطة. قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال تعالى: ولا يحيطون به علما

[ ص: 2450 ] وفي صحيح مسلم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. انتهى.

وقال النسفي: تشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب؛ لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده، وما يستحيل عليه الحدود والجهات، يستحيل إدراكه، لا رؤيته، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم، ونفي الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود، لا يقتضي نفي العلم به، فكذا هذا. على أن مورد الآية، وهو التمدح، يوجب ثبوت الرؤية، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته. لا تمدح فيه؛ لأن كل ما لا يرى لا يدرك، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم. انتهى.

وقد جود العلامة العضد في "المواقف" البحث في هذه الآية، ونقل شبه المنكرين فيها، وأجاب عنها. ونحن، لنفاسته، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدس سره، وبعض حواشيه، ونصه:

الأولى: من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى: لا تدركه الأبصار

1 - والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية. فمعنى قولك: أدركته ببصري، معنى رأيته. لا فرق إلا في اللفظ. أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر، [ ص: 2451 ] فلا يجوز: رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه. فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة، في جميع الأوقات؛ لأن قولك: فلان تدركه الأبصار، لا يفيد عموم الأوقات، فلا بد أن يفيده ما يقابله، فلا يراه شيء من الأبصار، لا في الدنيا، ولا في الآخرة لما ذكرنا.

2 - ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى، فإنه ذكره في أثناء المدائح: وما كان من الصفات عدمه مدحا، كان وجوده نقصا، يجب تنزيه الله عنه، فظهر أنه يمتنع رؤيته، وإنما قلنا: (من الصفات) احترازا عن (الأفعال)، كالعفو والانتقام، فإن الأول فضل، والثاني عدل، وكلاهما كمال. والجواب:

أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه:

الأول: أن الإدراك هو الرؤية، على نعت الإحاطة بجوانب المرئي، إذ حقيقته النيل والوصول، و (إنا لمدركون) أي: ملحقون، و (أدركت الثمرة) أي: وصلت إلى حد النضج و (أدرك الغلام) أي: بلغ. ثم نقل إلى الرؤية المحيطة، لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة، أخص مطلقا من الرؤية المطلقة. فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه، لامتناع الإحاطة، نفي المطلقة عنه. وقوله: (لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر) ممنوع، بل يصح أن يقال: رأيته وما أدركه بصري. أي: لم يحط به من جوانبه، وإن لم يصح عكسه.

الثاني: أن (تدركه الأبصار) موجبة كلية؛ لأن موضوعها جمع محلى باللام الاستغراقية. وقد دخل عليها النفي فرفعها. ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية. وبالجملة فيحتمل قوله: لا تدركه الأبصار إسناد النفي إلى الكل، بأن يلاحظ أولا دخول النفي، ثم ورود العموم عليه، فيكون سالبة كلية. ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا، ثم ورود النفي عليه، فيكون سالبة جزئية. ومع احتمال المعنى الثاني، لم يبق فيه حجة لكم علينا؛ [ ص: 2452 ] لأن أبصار الكفار لا تدركه، إجماعا. هذا ما نقوله: لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق، وإلا عكسنا القضية، فادعينا أن الآية حجة لنا وقلنا: لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوة الجزئية، فالمعنى: لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا لا علينا. انتهى - لكن هذا إنما يستقيم إذا كانت المهملة مرادفة للجزئية. وكونها في قوتها لا يفيد المرادفة. ولهذا اعترض عليه بأن الجنس في حيز النفي يفيد العموم اتفاقا، نحو: ما جاءني الرجل. وإنما الاحتمال لعموم السلب، وسلب العموم عند قصد الاستغراق، فكيف تعكس القضية على تقدير حمل اللام على الجنس؟ ولو ثبت المرادفة لا ندفع الاعتراض، إذ تصير الآية حينئذ حجة لنا إلزامية، حيث يرجع قيد البعضية إلى النفي، كما أرجع المعتدل قيد العموم، على تقدير الاستغراق، إليه. فتأمل! كذا في حواشي الحلبي والشرواني.

الثالث: من تلك الوجوه أنها - أي: الآية - وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام، فإنها لا تعم في الأزمان؛ فإنها سالبة مطلقة لا دائمة، ونحن نقول بموجبه، حيث لا يرى في الدنيا.

قال العلامة حسن حلبي: وما استدل به الخصم سابقا على أنها دائمة، من أن إيجابها لا يفيد عموم الأوقات، فلا بد أن يفيد ما يقابله – فجوابه: أنه إنما يتم إذا كان التقابل بينهما تقابل التناقض، وهو ممنوع. فإن القضية الموجبة والسالبة، الغير الموجهتين، لم توضعا في العربية لمعنيين متناقضين، بل لهما محامل يحملهما المستعمل حسب ما يريده.

الرابع: منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه، ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه، لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية، نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا، كما هو العادة، فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقا. وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو قوله: تمدح الباري بأنه لا يرى، فنقول: هذا مدعاكم، فأين الدليل عليه؟ إن قلت: أشير فيما [ ص: 2453 ] تقدم إلى دليله بأنه ذكر في أثناء المدائح، والمذكور بينهما يجب أن يكون مدحا - قلت: ذلك الدليل إنما يدل على التمدح بنفي المبصرية، لا بنفي الرؤية، والفرق قد سبق في الجواب الأول. انتهى.

وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح، لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية؛ لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه؛ إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى، حيث لم يكن له ذلك، وإنما المدح في عدم الرؤية للمتمنع المتعزز بحجاب الكبرياء، كما في الشاهد. انتهى.

وناقش الخيالي قولهم: (لا مدح للمعدوم) بأن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص؛ أعني: العدم، فإن أصل الممادح والكمالات هو الوجود، وقد عرا عنه. كما أن الأصوات والروائح لا تمدح بمنع إمكان رؤيتها، لكونها مقرونة بسمات النقص.

قال: والحق أن امتناع الشيء لا يمتنع التمدح بنفيه؛ إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك، ونفي اتخاذ الولد في القرآن، مع امتناعهما في حقه تعالى. انتهى.

ووافقه حسن حلبي في "حواشي شرح المواقف"، لكنه أجاب بأن المدح بجهة لا يقتضي الكمال من جهات أخر، وكذا النقصان من جهة لا ينافي المدح بغيرها. انتهى.

وأجاب قره خليل بوجوه:

الأول: أن مراد ذلك المستدل هو الإلزام على المعتزلة، لا تحقيق الاستدلال على جواز الرؤية.

الثاني: أن مبنى كلامه على العرف واللغة، فإن أهلها إذا أرادوا مدح شيء يقولون: هذا الشيء مما لا تدركه الأبصار، أو مما لا تراه العيون، مع أنها مما تدركه عادة. فهذا القول منهم يدل على إمكان رؤية ذلك الشيء عادة، بل على وقوعها أيضا. بخلاف الأصوات والروائح ونحوها، فإنها ليست مما تدركه الأبصار عادة، فلا يحسن مدحها بعدم إدراك [ ص: 2454 ] الأبصار، أو بعدم رؤيتها. نعم! إذا أرادوا مدح الأصوات يقولون: لم تسمعها أذن، وإذا أرادوا مدح الروائح يقولون: لم يشمها أنف.

الثالث: إنا قلنا: إن نفي الرؤية في مقام المدح يدل على إمكان الرؤية، ولم نقل إن نفي كل شيء في مقام المدح يدل على إمكان ذلك الشيء، حتى يرد علينا النقض بنفي الشريك، أو بنفي اتخاذ الولد في مقام المدح، مع أن إمكان المنفي في صورة النقض نقص ينافي الألوهية، وإمكان المنفي فيما نحن بصدده ليس نقصا، بل هو كمال. انتهى.

قال حسن حلبي: إن قيل: يلزم على ثبوت التمدح بنفي الرؤية، تعززا وتمنعا، أن لا يزول؛ لأن زوال ما به التمدح نقص، فيلزم أن لا يرى في الآخرة. والجواب: أن ذلك فيما يرجع إلى الصفات. والتمدح بنفي الرؤية يرجع إلى التمدح بخلق ضدها، وهو من قبيل الأفعال، كما أن خلق الرؤية أيضا منها. انتهى.

وقد بيناه أولا، وسيأتي لذلك تتمة شافية إن شاء الله تعالى عند قوله سبحانه: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة مما هو أعظم حجة، وأوضح برهانا، والله الموفق.

وقوله تعالى: وهو يدرك الأبصار أي: يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، لا يخفى عليه شيء منها وهو اللطيف أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة الخبير أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها. وجوز أن تكون الجملة تعليلا لما قبلها، على طريقة اللف، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير. قيل: فيكون: اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف، فشبه به الخفي عن الإدراك. وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم؛ لأن الجسمية يلزمها الكثافة، وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق، الذي يجل عن إدراك البصائر، فضلا عن الإبصار، ويعز عن شعور الأسرار، فضلا عن الأفكار، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال، [ ص: 2455 ] وينزه عن حلول الألوان والأشكال. فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة - كذا حققه البهائي في "شرح الأسماء الحسنى". وقول الخفاجي: (اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة)، لا يظهر له مناسبة هنا - مدفوع بملاحظة أن قوله تعالى: لا تدركه الأبصار ذكر للتخويف، كما أسلفنا، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته، جريا على سنن الترغيب والترهيب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[104] قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ

وقوله تعالى: قد جاءكم بصائر من ربكم أي: الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة. جمع (بصيرة)، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء، والعلم به. وجوز أن يكون المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، جمع (بصيرة) وهو النور الذي يستبصر به القلب، كما أن البصر نور تستبصر به العين.

فمن أبصر أي: الحق بتلك البصائر وآمن به: فلنفسه أي: فلنفسه أبصر؛ لأن نفعه لها ومن عمي أي: ضل عن الحق. والتعبير عنه ب (العمى) للتقبيح له، والتنفير عنه: فعليها أي: فعلى نفسه عمي، وإياها ضر بالعمى وما أنا عليكم بحفيظ أي: برقيب يرقبكم، ويحفظكم عن الضلال، بل أنا منذر، والله يحفظ أعمالكم، ويجازيكم عليها.
[ ص: 2456 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[105] وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون

وكذلك نصرف الآيات أي: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، لتكمل الحجة على المخالفين وليقولوا في ردها: درست أي: قرأت على غيرك، وتعلمت منه. وحفظت بالدرس أخبار من مضى. كقولهم: فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة، إذا أكثر قراءته وذلله للحفظ. قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن (درست) يعني: تعلمت من يسار وخير، وكانا عبدين من سبي الروم. ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله! وقال الفراء: معناه تعلمت من اليهود. كذا في "اللباب".

وقرئ: "دارست" بالألف وفتح التاء. أي: دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية. كقولهم: إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه

ويقرأ: "درست" بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء. أي: مضت وقدمت وتكررت على الأسماع، كما قالوا: أساطير الأولين . وهذه القراءات الثلاث [ ص: 2457 ] متواترة. وقرئ في الشواذ: "درست" ماضيا مجهولا. أي: تليت وعفيت تلك الآيات. وقرئ: "درست" مشددا معلوما. وتشديده للتكثير أو للتعدية. أي: درست غيرك الكتب. وقرئ مشددا مجهولا. وقرئ: "دورست" بضم الراء، والإسناد للآيات مبالغة في محوه أو تلاوته؛ لأن (فعل) المضموم للطبائع والغرائز. وقرأ أبي رضي الله عنه: (درس) وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو الكتاب، إن كان بمعنى انمحى. و (درسن) بنون الإناث مخففا ومشددا. وقرئ: (دارسات) بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات درس أو دروس، ك: عيشة راضية . وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي: هي دارسات.

ولنبينه أي: القرآن، وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما. أو الآيات، لأنها في معنى القرآن. لقوم يعلمون أي: الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #337  
قديم 05-01-2023, 04:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2458 الى صـ 2468
الحلقة (337)




[ ص: 2458 ] تنبيهان:

الأول: قيل: اللام الثانية حقيقية، والأولى لام العاقبة والصيرورة. أي: لتصير عاقبة أمرهم، إلى أن يقولوا: درست، كهي في قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة. فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: درست. ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات، كما حصل التبيين، فشبه به.

قال الخفاجي: وجوز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره؛ لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء، وهداية السعداء. قال تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وقال الرازي: حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز. وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز. وإن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: ولنبينه لقوم يعلمون يعني: إنا ما بيناه إلا لهؤلاء. فأما الذين لا يعلمون، فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بيانا لهم ثبت جعله ضلالا لهم. انتهى.

وقيل: هذه اللام لام الأمر، ويؤيده أنه قرئ بسكونها، كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات، وليقولوا هم ما يقولون، فإنه لا احتفال بهم، ولا اعتداد بقولهم. وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم.

[ ص: 2459 ] وفيه نظر؛ لأن ما بعده يأباه، إذ اللام في (لنبينه) نص في أنها لام كي. وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة، فلا دليل فيه، لاحتمال أنها خففت لإجرائها مجرى كبد، وكونها معترضة. و (لنبينه) متعلق بمقدر معطوف على ما قبله، وإن صححه لا يخرجه عن كونه خلاف الظاهر. كذا في "العناية".

الثاني: قال الشريف قدس سره: أفعاله تعالى يتفرع عليها حكم ومصالح متقنة هي ثمراتها، وإن لم تكن عللا غائية لها، حيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها. ومن أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل والغرض الراجع منفعته إلى العباد، وادعى أنه مذهب الفقهاء والمحدثين.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن حقيقة التعليل والغرض عند أهل السنة بيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل. وأما تفسيره بالباعث الذي لولاه لم يقدم الفاعل على الفعل، أو عدم اشتراط ذلك، فهو من تحقيقات المتكلمين، لا تعلق له باللغة. وأما عند أهل اللغة فهو حقيقة في ذلك مطلقا، والفرق بينها وبين لام العاقبة، أن لام العاقبة ما تدخل على ما يترتب على الفعل وليس مصلحة. وهل يشترط فيها أن يظنه المتكلم غير مترتب أم لا، حتى يكون في كلامه تعالى من غير حكاية أم لا، فيه خلاف. كذا في "العناية".
ولما حكى تعالى عن المشركين قدحهم في تصريف الآيات، أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه، تقوية لقلبه، وإزالة لما يحزنه، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[106] اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين

اتبع ما أوحي إليك من ربك أي: من تبليغ الرسالة، التي هي الآيات المصرفة، مبالغة في إلزام الحجة. وقوله: لا إله إلا هو اعتراض أكد به إيجاب [ ص: 2460 ] الاتباع، أو حال مؤكدة من: ربك ، بمعنى: منفردا في الألوهية وأعرض عن المشركين قال أبو مسلم: أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار، وترك الموعظة. وقال المهايمي: أي: لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر. فإنه تعالى أراد بقاءهم على الشرك والعمى، لاقتضاء استعدادهم ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[107] ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل

ولو شاء الله ما أشركوا أي: مع استعدادهم، ولكن جرت سنته برعاية الاستعدادات وما جعلناك عليهم حفيظا أي: هم وإن كان لهم الاستعداد للإيمان في فطرتهم، وقد أبطلوه، فأنت وإن كنت داعيا إلى إصلاح الاستعداد الفطري، وما جعلناك متوليا عليهم، تحفظ مصالحهم، حتى تكون مصلحا لاستعدادهم الفطري.

وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم، أو تغيرهم من استعدادهم إلى آخر، بل هو مفوض إلى الله تعالى، يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعي لهم من غير تغيير له، بل هو مفوض إلى اختيارهم. أفاده المهايمي.

تنبيهان:

الأول: في قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر، لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه، مع توجهه إليه، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه، لعدم صرف اختياره الجزئي نحو الإيمان، وإصراره على الكفر. والزمخشري يفسره بمشيئة إكراه وقسر؛ لأن عندهم مشيئة الاختيار حاصلة البتة. قال النحرير: وهذه عكازته في دفع مذهب أهل السنة.

[ ص: 2461 ] الثاني: قال القاشاني في تفسير قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا أي: كل ما يقع، فإنما يقع بمشيئة الله، ولا شك أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك، وأسباب ذلك، من تعليم الآباء والعادات وغيرها، أيضا واقعة بإرادة من الله، وإلا لم تقع. فإن آمنوا بذلك فبهداية الله، وإلا فهون على نفسك، فما جعلناك تحفظهم عن الضلال، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان. ولا ينافي هذا ما قال في تعييرهم فيما بعد بقوله: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا لأنهم قالوا ذلك عنادا ودفعا للإيمان بذلك التعلل، لا اعتقادا. فقولهم ذلك، وإن كان صدقا في نفس الأمر، لكنهم كانوا به كاذبين، مكذبين للرسول، إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين أيضا بإرادة الله، وكذا كل دين، فلم يعادوا أحدا. ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين، بل كانوا موحدين. لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد، وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم، فلذلك عيرهم به، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر. فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله، وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق، لم يرد إيمانهم الآن؛ إذ ليس كل منهم مطبوع القلب، بدليل إيمان من آمن منهم، فلم لا يجوز أن يكون بعضهم كانوا مستعدين للإيمان والتوحيد، واحتجوا بالعادة، وما وجدوا من آبائهم فأشركوا، ثم إذا سمعوا الإنذار، وشاهدوا آيات التوحيد، اشتاقوا إلى الحق، وارتفع حجابهم فوحدوا. فلذلك وبخهم على قولهم، وطلب منهم الحجة على أن الله أرادهم بذلك دائما، وأنذرهم بوعيد من كان قبلهم، لعل من كان فيه أدنى استعداد، إذا انقطع عن حجته، وسمع وعيد من قبله من المنكرين، ارتفع حجابه، ولان قلبه فآمن، ويكون ذلك توفيقا له، ولطفا في شأنه، فإن عالم الحكمة يبتنى على الأسباب. وأما من كان من الأشقياء [ ص: 2462 ] المردودين، المختوم على قلوبهم، فلا يرفع لذلك رأسا، ولا يلقي إليه سمعا. انتهى.
وليكن هذا على بال منك، فالمقام دقيق جدا، وسيأتي بيانه في الآية الآتية إن شاء الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون

ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم أي: لا تذكروا آلهتهم، التي يعبدونها، بما فيها من القبائح؛ لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع.

روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فنهوا عنه لذلك. وقال الزجاج: نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون. انتهى.

ف: الذين يدعون عبارة عن الآلهة، والعائد مقدر، والتعبير ب: الذين على زعمهم أنهم من أولي العلم، أو بناء على أن سب آلهتهم سب لهم، كما يقال: ضرب الدابة صفع لراكبها. فإن قيل: إنهم كانوا يقرون بالله وعظمته، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء عنده، فكيف يسبونه؟ قلنا: لا يفعلون ذلك صريحا، بل يفضي كلامهم إلى ذلك، كشتمهم له ولمن يأمر بذلك مثلا. وقد فسر: بغير علم بهذا، وهو حسن جدا. أو أن الغيظ والغضب ربما حملهم على سب الله صريحا. ألا ترى المسلم قد تحمله شدة غضبه بالكفر؟!

و: عدوا مصدر، أي: ظلما وعدوانا، يقال: عدا عليه عدوا، ك (ضربا)، و (عدوا) ك (عتو)، و (عداء) ك (عزاء)، و (عدوانا) ك (سبحان) إذا تعدى [ ص: 2463 ] وتجاوز، وهو مفعول مطلق ل (تسبوا) من معناه؛ لأن السب عدوان. أو مفعول له، أو حال مؤكدة مثل: بغير علم - كذا في العناية -.

تنبيه:

قال ابن الفرس في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم، أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن، لم يجز أن يسبوا ولا دينهم. قال: وهي أصل في قاعدة سد الذرائع.

قال السيوطي: وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى. وكذا كل فعل مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه.

وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن الحسن يصير قبيحا إذا كان يحصل بفعله مفسدة. قال الحاكم: نهوا عن سب الأصنام لوجهين:

أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها.

والثاني: أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى.

قال: والذي يجب علينا بيان بغضها، وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق العبادة، وهذا ليس بسب. ولهذا قال أمير المؤمنين (يوم صفين): لا تسبوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم. انتهى.

وقال الزمخشري: فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة. كالنهي عن المنكر، هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر. فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا [ ص: 2464 ] جنازة، فرأى محمد نساء، فرجع. فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية، لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجال الجنازة طاعة، وليس بسبب لحضور النساء، فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أو لم يحضروا. بخلاف سب الآلهة. وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله، حتى نبه عليه الحسن. انتهى.

ومنه قال بعض مفسري الزيدية: واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة، سواء فعل الحسن أم لا، لم يسقط الواجب، ولا يقبح الحسن. انتهى.

وكذا قال الخفاجي: إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة، وكانت سببا لها، وجب تركها. بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية، لا يمكن دفعها. وكثيرا ما يشتبهان ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن للفرق بينهما. انتهى.

قال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة، مع ذلك، إلى شتمها.

كذلك زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال: عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم أي: بالبعث بعد الموت فينبئهم أي: يخبرهم: بما كانوا يعملون في الدنيا. وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه. تنبيهات:

الأول: ذهب أهل السنة إلى ظاهر الآية، من أن المزين للكافر الكفر، وللمؤمن الإيمان، هو الله تعالى؛ وذلك لأن صدور الفعل من العبد يتوقف على حصول الداعي، ولا بد أن يكون ذلك الداعي بخلق الله تعالى. وقد بسط الرازي ذلك، وساق تأويلات المعتزلة الركيكة، فانظره!

الثاني: في قوله تعالى: فينبئهم إلخ وعيد الجزاء والعذاب. كقول الرجل لمن يتوعده: سأخبرك بما فعلت.

[ ص: 2465 ] الثالث: فيه نكتة سرية، مبنية على حكمة أبية، وهي أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض، فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقة التي بها يظهر في النشأة الآخرة. فإن المعاصي سموم قاتلة، قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، كما نطقت به هذه الآية الكريمة، وكذا الطاعات، فإنها مع كونها أحسن الأحاسن، قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة وتستحبها الطغاة. وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقة المنكرة الهائلة، فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا؟ فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها، لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي. فليتدبر! - أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[109] وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون

وأقسموا بالله جهد أيمانهم مصدر في موضع الحال. أي: أقسموا به تعالى جاهدين في أيمانهم، باذلين في توثيقها طاقتهم: لئن جاءتهم آية أي: خارق كما اقترحوا. ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله أي: أمرها في حكمه وقضائه خاصة، يتصرف بها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة، لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته، حتى يمكنني أن أتصدى لاستنزالها بالاستدعاء. وهذا سد لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه، ببيان صعوبة منالها، وعلو شأنها . أفاده أبو السعود.

[ ص: 2466 ] وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون قرئ: "إنها" بالكسر على الاستئناف، والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: وما يدريكم إيمانهم؟ ثم أخبرهم بما علم منهم إخبارا ابتدائيا. أو هو جواب سؤال، كأنه قيل: لم وبخوا؟ فقيل: لأنها إذا جاءت لا يؤمنون! أو هو مبني على قوله: وما يشعركم فإنه أبرز في معرض المحتمل، كأنه سأل عنه سؤال شاك، ثم علل بقوله ل: أنها إذا جاءت لا يؤمنون جزما بالطرف الخالف، وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني، لطيف المسلك، هذا على أن الخطاب للمؤمنين؛ إذ كانوا يتمنون مجيء الآية طمعا في إيمانهم. وقيل: هو للمشركين، لقراءة: "لا تؤمنون"، فيكون فيه التفات. وقرئ: أنها بالفتح، وعليه فقيل: مقتضى حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين، حذف (لا). وتوضيح ذلك بالمثال أنه إذا قيل لك: أكرم زيدا يكافئك، قلت في إنكاره: ما أدراك أني إذا أكرمته يكافئني؟! فإن قيل: لا تكرمه فإنه لا يكافئك، قلت في إنكار: ما أدراك أنه لا يكافئني؟! تريد: وأنا أعلم منه المكافأة. فمقتضى حسن ظن المؤمنين بالمشركين أن يقال: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، فإثبات (لا) يعكس المعنى، إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفى.

وقد وجه الفتح بستة وجوه:

منها - جعل (لا) صلة، كقوله: ما منعك ألا تسجد ، وقوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي: يرجعون. وضعف الزجاج هذا الوجه، بأن ما كان لغوا يكون كذلك على جميع التقديرات، وليس كذلك هنا، فإن (لا) [ ص: 2467 ] على قراءة الكسر ليست بصلة. وأجاب الفارسي بأنه لم لا يجوز أن يكون لغوا على أحد التقديرين، ومفيدا على التقدير الثاني؟ انتهى.

ومنها - جعل: "أن" بمعنى (لعل). قال الخليل: تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي: لعلك. فكأنه تعالى قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الواحدي: "أن" بمعنى (لعل) كثير في كلامهم، قال الشاعر:


أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا


وقال عدي بن حاتم:


أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد


ويؤيده أن (يشعركم) و (يدريكم) بمعنى. وكثيرا ما تأتي (لعل) بعد فعل الدراية. نحو: وما يدريك لعله يزكى وفي مصحف أبي: "وما أدراك لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون".

ومنها - جعل: "أن" بمعنى هل.

ومنها - جعل الكلام جواب قسم محذوف بناء على أن: "إن" في جواب القسم يجوز فتحها. والذي ارتضاه الزمخشري وتبعه المحققون حمل الكلام على ظاهره، وأن الاستفهام [ ص: 2468 ] في معنى النفي، والإخبار بعدم العلم لا إنكار عليهم. والمعنى: وما يدريكم أن الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون ذلك.

قال في" الانتصاف ": لما جاءت الآية تفهم، ببادئ، أن الله تعالى علم الإيمان منهم، وأنكر على المؤمنين نفيهم له، والواقع على خلاف ذلك. اختلف العلماء (وساق نحو ما قدمنا في الوجوه) ثم قال: وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها، من غير حذف ولا تأويل. فقال قوله السالف. ونحن نوضح اطراده في المثال المتقدم، ليتضح بوجهيه في الآية، فنقول: إذا حرمت زيدا لعلمك بعدم مكافأته، فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة، فلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم بما أحطت به علما. فإن أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه يكافئ؟ وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافئ قلت: وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعني: ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته، وأنت لا تخبر أمره خبري. فكذلك الآية إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى، وهو عدم إيمان هؤلاء. فاستقام دخول (لا) وتعين، وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار. انتهى.

وفي نفي السبب، وهو الإشعار، مبالغة في نفي المسبب، وهو الشعور.

قال الخفاجي: وفي نفي المسبب بهذا الطريق مبالغة ليست في نفيها بدونها؛ لأن في الكناية إثبات الشيء ببينة. وفيه تعريض بأن الله عالم بعدم إيمانهم، على تقدير مجيء الآية المقترحة لهم، وتنبيه على أنه تعالى لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون. فعدم الإنزال لعدم الإيمان. و (يشعركم وينصركم) ونحوه، قرئ بضم خالص وسكون واختلاس.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #338  
قديم 05-01-2023, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2469 الى صـ 2480
الحلقة (338)




[ ص: 2469 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[110] ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون

ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عطف على (لا يؤمنون)، داخل في حكم (ما يشعركم)، مقيد بما قيد به. أي: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه. وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، لكن لا مع توجهها إليه، واستعدادها لقبوله، بل لكمال نبوها عنه، وإعراضها بالكلية. ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم، إشعارا بأصالتهم في الكفر، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. أفاده أبو السعود.

كما لم يؤمنوا به أي: بما جاء من الآيات: أول مرة أي: قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها ونذرهم أي: ندعهم: في طغيانهم يعمهون أي: يترددون متحيرين، لا نهديهم هداية المؤمنين.

قال أبو السعود (ونذرهم) عطف على (يؤمنون)، داخل في حكم الاستفهام الإنكاري، مقيد به، مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار، ومعرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره، بأن يقلب الله سبحانه مشاعرهم عن الحق، مع توجههم إليه، واستعدادهم له بطريق الإجبار، بل بأن يخليهم وشأنهم، بعد ما علم فساد استعدادهم، وفرط نفورهم عن الحق، وعدم تأثير اللطف فيهم أصلا، ويطبع على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادهم، كما أشرنا إليه. انتهى.

وفي "اللباب": في الآية دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأن [ ص: 2470 ] القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه، فيقيم ما شاء منها، ويزيغ ما أراد منها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك» . انتهى.
ثم بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[111] ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون

ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة أي: ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة، بل نزلنا إليهم الملائكة، كما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة .

وكلمهم الموتى كما قالوا: فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين : وحشرنا أي: جمعنا: عليهم كل شيء من الحيوانات والنباتات والجمادات قبلا أي: كفلاء بصحة ما بشروا به وأنذروا: ما كانوا ليؤمنوا لغلوهم في التمرد والطغيان إلا أن يشاء الله أي: إيمانهم فيؤمنوا ولكن أكثرهم يجهلون أي: [ ص: 2471 ] إنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.

قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس، وإقرار باللسان، وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا يكون إلا بالجنان، كما قال تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم

تنبيهان:

الأول: يقرأ (قبلا) بضم القاف والباء، وفيه وجهان: أحدهما: هو جمع قبيل بمعنى الكفيل، مثل قليب وقلب; والآخر: أنه مفرد، كقبل الإنسان ودبره. وعلى كلا الوجهين هو حال من كل. ويقرأ بالضم وسكون الباء على تخفيف الضمة يقرأ بكسر القاف وفتح الباء، وانتصابه على الظرفية. كقولهم: لي قبل فلان حق. أو على الحالية، وهو مصدر، أي: ومشاهدة.

الثاني: في قوله تعالى: إلا أن يشاء الله حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى، حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة، وحملة شريعتها على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية، على مشيئة القسر والاضطرار. وإنما يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء. وأما وهو القدوة والمتبوع، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه، فإلى النار، وما بعد الحق إلا الضلال.
ثم سلى تعالى نبيه عما كان يقاسيه من قومه، بتأسيه بمن سبقه من الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه:

[ ص: 2472 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[112] وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن أي: مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك، حيث جعلنا لك عدوا يضادونك ولا يؤمنون، جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا من مردة الإنس والجن، فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك، كما قال تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.

يوحي أي: يلقي ويوسوس: بعضهم إلى بعض زخرف القول أي: المموه منه، المزين ظاهره، الباطل باطنه غرورا أي: للضعفاء؛ لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب، وكذا الغابرين، ليقهرهم بمقتضى استعدادهم. وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بفعل الله سبحانه وتعالى، وخلقه.

قال المهايمي: لتظهر الحجج بمجادلتهم، وترتفع شبهاتهم، ولئلا يقال إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس، أو يتواسوا عليهم.

ولو شاء ربك ما فعلوه أي: ما فعلوا ذلك، يعني: معاداة الأنبياء، وإيحاء الزخارف. وهو أيضا دليل على المعتزلة. فذرهم وما يفترون أي: من الكفر، فسوف يعلمون.
ثم عطف على قوله: غرورا علة ثانية للإيحاء بقوله تعالى:

[ ص: 2473 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[113] ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون

ولتصغى إليه أي: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليغرهم به، ولتميل إليه: أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لمساعدته لهم على أهوائهم وليرضوه أي: لأنفسهم بعد ما مالت إليه قلوبهم وليقترفوا أي: وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له ما هم مقترفون أي: من الآثام.

قال القاشاني: فتقوى غوايتهم، ويتظاهرون، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغيانا وتعديا على النبي، فتزداد قوة كماله، وتهيج أيضا بسببه دواعي المؤمنين، والذين في استعدادهم مناسبة للنبي، فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي، ونصرهم إياه، فتظهر عليهم كمالاتهم.

لطيفة:

إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة، دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها، وهم بها كافرون، إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم؛ فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها، وبأحوال ما فيها، لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاما، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادئ الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات، التي من جملتها مزخرفات الأقاويل، ومموهات الأباطيل. وأما المؤمنون بها، فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال، ناظرين إلى عواقب الأمور، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات، لعلمهم ببطلانها، ووخامة عاقبتها . أفاده أبو السعود.
[ ص: 2474 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[114] أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين

وقوله تعالى: أفغير الله أبتغي حكما على تقدير القول، كما في نظائره، أي: قل لهم: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل. والمعنى: أطلب معبودا؛ لأنه كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم - وهذا عندي أظهر - ثم رأيت في "تنوير المقباس" الاقتصار عليه، حيث قال: أبتغي حكما أعبد ربا. وأما كون الآية واردة على قولهم: (اجعل بيننا وبينك حكما) فلا يصح؛ لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك.

وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب أي: القرآن المعجز مفصلا أي: مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية، لا تدرون ما تأتون وما تذرون.

وفي الآية مسائل:

الأولى: قال في "الإكليل": استدل الخوارج بقوله تعالى: أفغير الله أبتغي حكما على إنكارهم التحكيم. قال: وهو مردود، فإن التحكيم المنكر أن يريد حكما يحكم بغير ما حكم الله تعالى. انتهى.

قلت: هذا مبني على الوجه الأول، وقد عرفت أن الأظهر الوجه الثاني، فلا استدلال، ولا رد.

الثانية: قالوا: الحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، لما أنه لا يطلق إلى إلا على العادل، وعلى من تكرر منه الحكم، بخلاف الحاكم.

[ ص: 2475 ] الثالثة: في الآية تنبيه على أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين، مغن عن غيره، ببيانه وتفصيله.

والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم. وهذا تقرير لكونه منزلا من عند الله ببيان أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته ونزوله من عنده تعالى.

فلا تكونن من الممترين أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى: ولا تكونن من المشركين

قال ابن كثير: هذا كقوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال: وهذا شرط، والشرط لا يقتضى وقوعه. ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أشك ولا أسأل» . انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[115] وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم

وتمت كلمة ربك وقرئ: (كلمات ربك) أي: بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده: صدقا في الأخبار والمواعيد: وعدلا في الأقضية والأحكام.

[ ص: 2476 ] وقال القاشاني: أي: تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم، وكفر من كفر، ومحبة من أحب، وعداوة من عادى، قضاء مبرما، وحكما صادقا، مطابقا لما يقع، عادلا بمناسبة كل قول وكل كمال وحال، لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له. انتهى.

لا مبدل لكلماته أي: لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل. أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا، كما فعل بالتوراة. على أن المراد بها القرآن فيكون ضمانا لها منه تعالى بالحفظ، كقوله: وإنا له لحافظون

وقال القاشاني: أي: لا مبدل لأحكامه الأزلية. انتهى.

قال السيوطي في "الإكليل": يستدل به من قال إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل، وإنما بدلوا المعنى؛ لأن كلمات الله لا تبدل. انتهى - وهو رواية عن ابن عباس - أخرجها البخاري في آخر صحيحه. وبسط المقام في ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وتقدم لنا في سورة البقرة شذرة من هذا البحث، فجدد به عهدا.

وهو السميع لما يظهرون من الأقوال: العليم أي: بما يخفون.
ثم حذر تعالى من الركون إليهم والعمل بآثارهم بقوله:

[ ص: 2477 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[116] وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

وإن تطع أكثر من في الأرض أي: من الناس، وهو الكفار: يضلوك عن سبيل الله أي: عن الطريق الموصل إليه، بتزيينهم زخارفهم عليك، ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى، كما قال: إن يتبعون إلا الظن وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، فهم يقلدونهم: وإن هم إلا يخرصون يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر. و (إن) فيه وفيما قبله نافية. والخرص: الحزر والتخمين، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء، وأصله القول بالظن، وقول ما لا يستيقن ويتحقق. قاله الأزهري.
القول في تأويل قوله تعالى:

[117] إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين تقرير لمضمون الشرطية، وما بعدها. وتأكيد لما يفيده من التحذير. أي: هو أعلم بالفريقين، فاحذر أن تكون من الأولين. أفاده أبو السعود.

تنبيه:

قال الرازي: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن، بسبب كونهم متبعين للظن. والشيء الذي يجعله الله تعالى موجبا لذم الكفار، لا بد وأن يكون في المعنى في أقصى مراتب الذم. والعلم بالقياس يوجب اتباع الظن، فوجب كونه مذموما محرما. لا يقال: لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة، كان العمل له عملا بدليل مقطوع، لا بدليل مظنون. لأنا نقول: هذا مدفوع من وجوه:

[ ص: 2478 ] الأول: أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليا، وإما أن يكون سمعيا، والأول باطل؛ لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز، لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه. والثاني أيضا باطل؛ لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعا لو كان متوترا، أو كانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر، سوى هذا المعنى الواحد. ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة. فحيث لم يوجد ذلك. علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود.

الثاني: هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن. وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين: الأول: أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا. والثاني: أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف. فهذان المقامان، إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته. وإن كان مجموعهما، أو كان أحدهما ظنيا، فحينئذ لا يتم العلم بهذا القياس إلا بمتابعة الظن، وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظن مذمومة. والجواب: لم لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة، وهو مثل اعتقاد الكفار. أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنا، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[118] فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين

وقوله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ وذلك أنهم خاصموا المسلمين فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه - أخرجه النسائي عن ابن عباس - [ ص: 2479 ] فنزلت الآية. والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه، لرفعه تنجيس الموت إياه المانع من الأكل، لا مما ذكر عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه.

إن كنتم بآياته مؤمنين فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله سبحانه، واجتناب ما حرمه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[119] وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين

قوله تعالى: وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب. أي: وأي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله، وما يمنعكم عنه؟: وقد فصل لكم ما حرم عليكم أي: بينه ووضحه.

قال بعض المفسرين: يعني في آية المائدة في قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة الآية.. ورد بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والأنعام مكية. فالصواب أن التفصيل إما [ ص: 2480 ] في قوله تعالى بعد هذه الآية: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية.. فإنه ذكر بعد بيسير، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد، وإما على لسان الرسول، ثم أنزل بعد ذلك في القرآن. و (فصل) و (حرم) قرئ كل منهما معلوما ومجهولا. ومعنى الآية: لا مانع لكم من أكل ما ذكر، وقد بين لكم المحرم أكله، وهذا ليس منه.

إلا ما اضطررتم إليه أي: مما حرم عليكم. أي: إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة، فيباح لكم.

وإن كثيرا ليضلون قرئ بفتح الياء وضمها: بأهوائهم بغير علم أي: يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم، من غير تعلق بشريعة.

إن ربك هو أعلم بالمعتدين أي: المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام.

تنبيه:

قال الرازي: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام؛ لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام. انتهى.

وقال بعض الزيدية: في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة، ولكن اتباع الهوى.
ولما بين تعالى أنه فصل المحرمات، أتبعه بما يوجب تركها بالكلية، فقال سبحانه:



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #339  
قديم 05-01-2023, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2481 الى صـ 2492
الحلقة (339)




[ ص: 2481 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[120] وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون

وذروا ظاهر الإثم أي: سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح: وباطنه أي: ما يسر منه بالقلب كالعقائد الفاسدة، والعزائم الباطلة. أو ما يعلن من الذنوب وما يسر منها، ويستتر فيه.

قال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه مع الخليلة والصدائق والأخدان. ولا يخفى أن اللفظ عام في كل محرم، ولذا قال قتادة: أي: سره وعلانيته، قليله وكثيره، وصغيره وكبيره. كقوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن

إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون أي: يكتسبون. قال الشهاب: الاقتراف في اللغة الاكتساب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب. ولذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف وقد يرد في الخير كقوله تعالى: ومن يقترف حسنة نـزد له فيها حسنا انتهى.

وقد روى مسلم وغيره عن نواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2482 ] «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس» .
قال الحاكم: في الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب، كما يؤاخذ بأفعال الجوارح. أي: على التفسير الأول فيها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[121] ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون

ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي: عند ذبحه. أي: بأن ذكر عليه اسم غيره، يعني: ذبح لغيره تعالى: وإنه لفسق والفسق ما أهل لغير الله به، كما في الآية الآتية آخر السورة. قال المهايمي: وإنه لفسق أي: خروج عن الحسن إلى القبح، بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره وإن الشياطين ليوحون أي: يوسوسون إلى أوليائهم أي: من الكفار ليجادلوكم أي: في تحليل الميتة وإن أطعتموهم أي: في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل إنكم لمشركون أي: لهم مع الله، فيما يختص به من التحليل والتحريم.

تنبيهات:

الأول: روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله تعالى، فأنزل الله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين إلى قوله: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . أخرجه أصحاب السنن.

وفي رواية لأبي داود في قوله تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ ص: 2483 ] قال: يقولون: ما ذبح الله - فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا؟ فأنزل الله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم

وعند النسائي قال: خاصمهم المشركون، فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ - كذا في تيسير الوصول.

الثاني: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح فقيل: باسم الله، بهذا اللفظ الكريم. وقيل بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن، وسائر أسمائه الحسنى، لقوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ولقوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها

الثالث: ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، لقوله تعالى بعد: أو فسقا أهل لغير الله به ومراعاة النظائر في القرآن أولى ما يلتمس به المراد.

وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، [ ص: 2484 ] وذبائح المجوس. وقد حاول بعضهم أن يقويه فجعل الواو في قوله: وإنه لفسق حالية، لقبح عطف الخبر على الإنشاء. قال: والمعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقا. والفسق مجمل يفسره قوله: أهل لغير الله به فيكون النهي مخصوصا بما أهل لغير الله به، فيبقى ما عداه حلالا، إما بالمفهوم، أو بعموم دليل الحل، أو بحكم الأصل. واعترض على هذا الحمل بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة، مع أنه سبب النزول، وبأن التأكيد ب (إن) و (اللام) ينفي كون الجملة حالية؛ لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه البتة، والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا (على ما بين في المعاني)، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقا، فلا يحسن: (وإنه لفسق) بل (وهو فسق) وأجيب عن الأول بأنه دخل بقوله: وإنه لفسق : ما أهل به لغير الله وبقوله: وإن الشياطين ... إلخ الميتة، فيتحقق أن هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب، أو مات حتف أنفه. وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال لغير الله، كان التأكيد مناسبا، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق، والمشركون ينكرونه. كذا في "العناية".

ومما يقويه أيضا قوله تعالى: وإنه لفسق على أن المراد به الخروج عن طاعة الله تعالى، وهو وجه ثان فيه، وقوله تعالى: إنكم لمشركون فإن من أكل الميتة، أو ما ذبح على النصب فسق، ومع الاستحلال يكفر، بخلاف ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه، فإن آكله لا يفسق ولا يكفر إجماعا - أشار له الرازي - وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمدا أو سهوا.

وقد روى أبو داود في "مراسيله" عن الصلت السدوسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكره، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» .

قال الحافظ ابن كثير: وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله، فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله تعالى» .

[ ص: 2485 ] واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر - رواه البخاري والنسائي - قال: فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها. وكذا قال الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة، لأنها لو كانت شرطا لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه: (سموا أنتم)، كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم. ومما يدل أيضا قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فأباح الأكل من ذبائحهم، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا. هذا، وقد تمسك بظاهر الآية قوم فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما، عمدا تركت التسمية أو نسيانا. واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية الصيد: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، [ ص: 2486 ] كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل» ، وهما في الصحيحين.

[ ص: 2487 ] وحديث رافع بن خديج: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه» - في الصحيحين أيضا -. وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه» . رواه مسلم.

[ ص: 2488 ] وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا، فليذبح باسم الله» - أخرجاه.

قالوا: ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه، عند من يقول بالمفهوم. والشرط أقوى من الوصف.

واحتجوا أيضا بحديث عائشة المتقدم سموا عليه أنتم وكلوا . قالوا: إن القوم فهموا أن التسمية لا بد منها، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك، لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عن الأكل، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح، إن لم تكن وجدت. أي: فتسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أذكروا اسم الله عليه [ ص: 2489 ] أم لا، إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمى. قالوا: ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين؛ لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية. انتهى.

وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول; بأن الأمر في حديث عدي وأبي ثعلبة محمول على التنزيه، من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية، فعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح، فرضه ومندوبه؛ لئلا يوافقا شبهة في ذلك، وليأخذا بأكمل الأمور. وأما الذين سألوا عن تلك الذبائح، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم، فعرفهم بأصل الحل فيه.

وقال ابن التين: يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النووي.

وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم، فلا تكلف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها.

وقال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضا. فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح، دل على أنها سنة؛ لأن السنة لا تنوب عن فرض. انتهى.

وذهب بعض من اشترط التسمية في الحل إلى جواز أكل ما تركت عليه سهوا لا عمدا. واحتج بما رواه البيهقي عن ابن عباس مرفوعا: «المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله وليأكله» . قال الحافظ ابن كثير: ورفعه خطأ والصواب وقفه على ابن عباس، من قوله نص عليه البيهقي. واحتج أيضا بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو [ ص: 2490 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .

ورواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا بلفظ: «رفع عن أمتي الخطأ...» . الحديث.

وروى ابن عدي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم» . قال ابن كثير: وإسناده ضعيف.

وقد علمت الأظهر في تأويل الآية أولا. والله أعلم.

الرابع: قال ابن جرير: اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عنيت به. وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم.

وروي عن الحسن البصري وعكرمة أنه تعالى نسخ من هذه الآية واستثنى قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أيضا أنه تعالى نسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب.

قال ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه.

قال ابن كثير: وهذا الذي قاله صحيح. ومن أطلق من السلف النسخ ههنا، فإنما أراد التخصيص. انتهى.

وقد قدمنا في المقدمة أنه علم من استقراء كلام الصحابة والتابعين أنهم كانوا يستعلمون النسخ بإزاء المعنى اللغوي، الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى. إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غيره، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا، أو تخصيص عام، وغير ذلك مما أسلفنا، فتذكر!

[ ص: 2491 ] الخامس: قال الزجاج: في قوله تعالى: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى، فهو مشرك. وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى. وهذا هو الشرك. انتهى.

وقال ابن كثير: إنكم لمشركون أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك. كقوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية. وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما عبدوهم. قال: إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم. فذاك عبادتهم إياهم. انتهى.

السادس: قال الكعبي: الآية حجة على أن (الإيمان) اسم لجميع الطاعات، وإن كان معناه في اللغة التصديق، كما جعل تعالى (الشرك) اسما لكل ما كان مخالفا لله تعالى، وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله شريكا، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين، في إباحة الميتة، شركا.

[ ص: 2492 ] وتعقبه الرازي; بأنه لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط. انتهى.
ثم ضرب تعالى مثلا للمؤمن والكافر، لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين، إثر تحذيرهم عنها، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[122] أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها مثل به من هداه الله بعد الضلالة، وبصره بنور الحجج والآيات، يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل، والمهتدي والضال، بمن كان ميتا فأعطاه الحياة، وما يتبعها من القوى المدركة والمحركة. ومن بقي على الضلالة، بالخابط في الظلمات، لا ينفك منها، ولا يتخلص، فهو متحير على الدوام كذلك أي: مثل ذلك التزيين البليغ: زين للكافرين ما كانوا يعملون أي: من فنون الكفر والمعاصي، ولذا جادلوا بها الحق، وأصروا عليها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #340  
قديم 05-01-2023, 04:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2493 الى صـ 2505
الحلقة (340)




القول في تأويل قوله تعالى:

[123] وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون

وقوله تعالى: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل، وستر الحق - جعلنا في كل قرية، أرسلنا إليها الرسل، أكابرها المجرمين، متصفين بصفات [ ص: 2493 ] المذكورين، مزينا لهم أعمالهم، مصرين على الباطل، مجادلين به الحق، ليفعلوا المكر فيها على أتباعهم بالتلبيس، ليتركوا متابعة الرسل.

قال ابن كثير: المراد ب (المكر) ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، كقوله تعالى إخبارا عن قوم نوح: ومكروا مكرا كبارا وكقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا الآية.

وقال الزمخشري: خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، والماكرون بالناس، كقوله: أمرنا مترفيها

وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون أي: ما يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيق بهم، كما قال تعالى: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقال: [ ص: 2494 ] ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون قال الزمخشري: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[124] وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون

وإذا جاءتهم آية أي: برهان وحجة قاطعة: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله أي: من الوحي والمعجزات المصدقة له. كقوله تعالى: وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا الآية.

وقوله سبحانه: بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة

الله أعلم حيث يجعل رسالته كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، فيليق للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيره انكشافه له، لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم.

وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل. واصطفى من بني إسماعيل، بني [ ص: 2495 ] كنانة. واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم» . وانفرد بإخراجه مسلم أيضا.

وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا» .

سيصيب الذين أجرموا صغار أي: ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم: عند الله أي: يوم القيامة، جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته ورسالته، واعتراضهم عليه في تخصيصه بالرسالة غيرهم وعذاب شديد يعني: في الآخرة بما كانوا يمكرون في الدنيا إضرارا بالأنبياء.

قال ابن كثير: لما كان المكر غالبا، إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحليل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة، جزاء وفاقا. ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» .

[ ص: 2496 ] والحكمة في هذا، أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[125] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون

فمن يرد الله أن يهديه أي: للتوحيد: يشرح أي: يوسع: صدره للإسلام بتصقيله بنور الهداية، فيقبل نور الحق، كما قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم

[ ص: 2497 ] روى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم. قال ابن كثير: وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا.

ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا أي: شديد الضيق، فلا يتسع للاعتقادات الصائبة في الله، والأمور الأخروية.

قال أبو البقاء: حرجا (بكسر الراء) صفة ل (ضيقا)، أو مفعول ثالث، كما جاز في المبتدأ أن تخبر عنه بعدة أخبار. أو يكون الجميع في موضع خبر واحد (حلو حامض). وعلى كل تقدير، هو مؤكد للمعنى. يقرأ بفتح الراء، على أنه مصدر. أي: ذا حرج. وقيل: هو جمع حرجة، مثل قصبة وقصب، والهاء فيه للمبالغة. انتهى.

وقوله تعالى: كأنما يصعد في السماء أي: يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض، فشبه، للمبالغة في ضيق صدره، بمن يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقيل: معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق، وتباعدا في الهرب منه. وأصل (يصعد) يتصعد من (الصعود).

كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون في الاعتقادات والأخلاق. والرجس ما استقذر من العمل، وسمي بذلك مبالغة في ذمه.
[ ص: 2498 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[126] وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون

وهذا أي: البيان الذي جاء به القرآن، أو طريق التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله. صراط ربك أي: طريقه الذي ارتضاه: مستقيما لا ميل فيه إلى إفراط وتفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال. أو لا اعوجاج فيه إلى النظر إلى الغير والشرك به.

قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون أي: المعارف والحقائق التي هي مركزة في استعداهم، فيهتدوا بها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[127] لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون

لهم دار السلام أي: السلامة من المكاره، وهو الجنة، لكونهم في مقام القرب: عند ربهم وهو وليهم يتولاهم بمحبته، ويجعلهم في أمانة. بما كانوا يعملون أي: بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[128] ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم

ويوم يحشرهم جميعا أي: اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم، وتنذرهم به، يوم نحشرهم جميعا، يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

[ ص: 2499 ] يا معشر الجن أي: نقول: يا معشر الجن! يعني: الشياطين. قال المهايمي: خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم وإضلالهم. أو منهم، بأن جعلتموهم أتباعكم، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية، واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستكم لهم بالمعاصي، فحشروا معكم. وهذا بطريق التوبيخ والتقريع. وقال أولياؤهم أي: الذين أطاعوهم وتولوهم: من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعلمت الإنس. أي: فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة، على اللذات الغائبة: وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي: بالموت، أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة، وأسوأ عيش.

قال أبو السعود: قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين، واتباع الهوى، وتكذيب البعث، وإظهارا للندامة عليها، وتحسرا على حالهم، واستسلاما لربهم. ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين، للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.

قال النار مثواكم أي: منزلكم، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين.

خالدين فيها إلا ما شاء الله قال القاشاني: أي: إلا وقت مشيئته أن تخفف، أو ينجى منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركا راسخا في اعتقاده.

وقال المهايمي: أي: إلا وقت مشيئته أن ينقلكم منها إلى الزمهرير، انتقالكم من شهوة إلى أخرى.

وقال الزمخشري: أي: يخلدون في عذاب النار، الأبد كله، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم. أو يكون من قول [ ص: 2500 ] الموتور الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت. وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد. فيكون قوله: (إلا إذا شئت) من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع. انتهى.

قال الخفاجي: لما كان الخطاب للكفرة، وهم لا يخرجون من النار؛ لأن ما قبله بيان حالهم، فيبعد جعله شاملا للعصاة، ليصح الاستثناء باعتباره، مع أن استعمال (ما) للعقلاء قليل - وجهوه بأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير، أو المبالغة في الخلود، بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله، وهو مما لا يكون مع إبرازه في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم. و (ما) مصدرية وقتية. أو إن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول. ورد الأول بأن فيه صرف النار من معناها العلمي، وهو دار العذاب، إلى اللغوي. وأجيب عنه بأنه لا بأس بالصرف إذا دعت إليه ضرورة. وقيل عليه: إن المعترض لا يسلم الضرورة، لإمكان غير ذلك التأويل. مع أن قوله: مثواكم يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر. ورد الأخير أبو حيان بأن في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج، والمخرج منه، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فمعناه: إلا زيدا ما قام. ولا يصح أن يكون المعنى: إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا، معناه: إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل، ولا يصح أن يكون المعنى: إلا زيدا فإني ما ضربته قبل، إلا إذا كان استثناء منقطعا، فإنه يسوغ، كقوله: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى . فإنهم ذاقوها. ولك أن تقول: إن القائل بل يلتزم انقطاعه، كما في الآية التي ذكرها، ولا محذور فيه، مع ورود مثله في القرآن، وفيه نظر. وقيل: إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد، والأبد لا يقتضي الدخول. انتهى.

وقال الناصر في "الانتصاف": قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعيا، فمن ثم [ ص: 2501 ] اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية، وفي أختها في سورة هود. فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة؛ لأنهم لا يخلدون. وقد علمت بعده.

ثم قال: وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، أي: مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء. وفائدته إظهار القدرة، والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك.

وذهب الزجاج إلى وجه لطيف، إنما يظهر بالبسط فقال: المراد - والله أعلم - إلا ما يشاء من زيادة العذاب. ولم يبين وجه الاستثناء. والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب - والعياذ بالله - على درجات متفاوتة، كأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية، وتنتهي إلى أقصى النهاية، حتى تكاد لبلوغها الغاية، ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة، تعد ليس من جنس العذاب، وخارجة عنه. والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد، كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل ب (رب) و (قد)، وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:


لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم للمنتهى ومن السرور بكاء


[ ص: 2502 ] فكأن هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب، ونهاية الشدة، فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير. وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط.

وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده. انتهى.

وفي الآية تأويلات أخر:

منها: ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي، وأن (ما) بمعنى (من).

[ ص: 2503 ] ومنها: أنهم يفتح لهم أبواب الجنة، ويخرجون من النار، فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. وهو معنى قوله: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . قال الشريف المرتضى في "الدرر": فإن قيل: أي فائدة في هذا الفعل، وما وجه الحكمة فيه؟ قلنا: وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أغلظ على نفوسهم، وأعظم في مكروههم، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه، واشتد حرصه على ذلك، ثم حيل بينه وبين الفرج، ورد إلى المكروه، يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه. كذا في "العناية".

ومنها: إن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أي: إلا وقت مشيئته فناءها، وزوال عذابها.

قال السيوطي في "الدر المنثور": أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار، كقدر رمل عالج، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن أيضا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم. انتهى. وقد انتصر لهذا القول جماعة. قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، كله حق مسلم لا نزاع فيه. وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس، وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. وقد بسط البحث في ذلك وجوده الإمام ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح"، ومع كونه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما، وذكر له خمسة وعشرين دليلا، لم يصححه، حيث قال: أما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا [ ص: 2504 ] تبيد، فمما يعلم بالاضطرار، ولم يقل بفنائها أحد. ومن قال به - كالجهمية - فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب وليس له في ذلك سلف. وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والأصح عدم فنائها أيضا. انتهى.

وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا المقام في آية هود.

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه. لا ينزلهم جنة ولا نارا.

إن ربك حكيم فلا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة عليم أي: بمن يعذب بكفره، فيدوم عذابه. أو بسيئات أعماله، فيعذب على حسبها، ثم ينجو منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[129] وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون

وكذلك نولي بعض الظالمين أي: من الإنس: بعضا أي: نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال، كما فعل الشياطين وغواة الإنس بما كانوا يكسبون أي: بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي.

قال الرازي:

لأن الجنسية علة الضم. فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية.

[ ص: 2505 ] تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل": الآية معنى حديث: «كما تكونون يولى عليكم» ، أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي بكرة. انتهى.

وأسند في "الجامع الصغير" تخريجه إلى الديلمي في "الفردوس (عن أبي بكرة وإلى البيهقي، عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا - ورمز له بالضعف -.

وأسند في "الدر المنثور" عن منصور بن الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم.

وأخرج نحوه عن مالك بن دينار وكعب والحسن.

قال أبو الليث السمرقندي في "تفسيره": ويقال في معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضا فيهلكه أو يذله. قال: وهذا كلام لتهديد الظالم، لكي يمتنع عن ظلمه. ويدخل في الآية جميع من يظلم: من راع في رعيته، وتاجر في تجارته، وسارق، وغيرهم.

قال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم، فقف وانظر فيه متعجبا. انتهى.

وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
ثم بين تعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة، إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم، واعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بالكفر، وأنهم لم يعذبوا إلا بالحجة، فقال تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 332.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 326.41 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.76%)]