تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 45 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1135 - عددالزوار : 129921 )           »          الصلاة مع المنفرد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الاكتفاء بقراءة سورة الإخلاص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أصول العقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الإسلام يبيح مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم وحمايتهم من أي اعتداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          تحريم الاعتماد على الأسباب وحدها مع أمر الشرع بفعلها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3097 - عددالزوار : 370019 )           »          وليس من الضروري كذلك! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          مساواة صحيح البخاري بالقرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          محرومون من خيرات الحرمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-05-2024, 12:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4031 الى صـ 4045
الحلقة (440)


القول في تأويل قوله تعالى:

[17] وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله [ ص: 4031 ] من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

وترى الشمس إذا طلعت أي: صعدت عند طلوعها: تزاور أي: تميل: عن كهفهم أي: بابه: ذات اليمين أي: يمين الكهف: وإذا غربت أي: هبطت للغروب: تقرضهم ذات الشمال أي: تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال: وهم في فجوة منه أي: سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب : تقرضهم من القرض بمعنى القطع. أي: قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد- مردود، بأنه لم يسمع له ثلاثي.

وفي (الروض الآنف) تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل: تتجاوزهم شيئا. من (القرض) وهو القطع أي: تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى: ذلك من آيات الله أي: إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه، لتبقى أبدانهم، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين: من يهد الله أي: إلى الحق بالتوفيق له: فهو المهتد ومن يضلل أي: يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه: فلن تجد له وليا أي: ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال: مرشدا أي: يهديه إلى ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

[ ص: 4032 ] وتحسبهم أيقاظا وهم رقود خطاب لكل أحد. أي: تظنهم، يا مخاطب، أيقاظا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت. قال ابن كثير : ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر:


ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم


و: أيقاظا جمع يقظ ويقظان. و: رقود جمع راقد. وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود، لأن فاعلا لا يجمع على فعول - مردود بما نص عليه النحاة كما صرح به في (المفضل) و (التسهيل).

ونقلبهم أي: في رقدتهم: ذات اليمين وذات الشمال أي: لئلا تتلف الأرض أجسادهم: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد أي: بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، قال ابن كثير : وهذا فائدة صحبة الأخيار . فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل أنه كان كلب صيد لهم وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب. ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض، حفظهم عن الأعداء بكلب، ليهابوهم مع هيبة ذاتية لهم. كما قال تعالى: لو اطلعت عليهم أي: فنظرت إليهم، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب: لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا أي: خوفا يملأ صدرك، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك -كما قال ابن كثير : لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى:
[ ص: 4033 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[19] وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا .

وكذلك بعثناهم أي: وكما أنمناهم تلك النومة، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، ادكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير : وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى: ليتساءلوا بينهم أي: ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به. أفاده الزمخشري .

وبه يتبين أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة، لحظ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته: قال قائل منهم كم لبثتم أي: رقدتم. اعترافا بجهل نفسه أو طلبا للعلم من غيره، وإن لم يظهر كونه على اليقين: قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال ابن كثير : كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا: أو بعض يوم. وقال المهايمي : فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يوما، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالولي يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري : جواب مبني على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب . وأنه لا يكون كذبا. وإن جاز أن يكون خطأ.

قالوا ربكم أعلم بما لبثتم إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. [ ص: 4034 ] كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه أي: المأخوذة للتزود. و(الورق) الفضة: إلى المدينة أي: التي فررتم عنها: فلينظر أيها أزكى طعاما أي: أطيب فليأتكم برزق منه وليتلطف أي: في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم: ولا يشعرن بكم أحدا
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

إنهم إن يظهروا عليكم يطلعوا على مكانكم: يرجموكم أي: يقتلوكم بالحجارة: أو يعيدوكم في ملتهم أي: يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف: ولن تفلحوا إذا أبدا أي: إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشاني : ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم - ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.

لطائف:

الأولى: قال الزمخشري : فإن قلت: كيف وصلوا قولهم فابعثوا بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.

ورأى المهايمي أن قولهم: فابعثوا من تتمة حديث المدة. قصد به تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله: ربكم أعلم بما لبثتم قالوا: هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم [ ص: 4035 ] بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به، فيفضي إلى الهلاك.

الثانية: قال في (الإكليل): قوله تعالى: فابعثوا الآية، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك.

قال الكيا : وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة . وإن تفاوتوا في الأكل.

الثالثة: دل قوله تعالى عنهم: فلينظر أيها أزكى طعاما على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن ، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبا الاعتناء بجودته وتزكيته، كما فصل في قوانين الصحة.

الرابعة: قال الرازي: (الرجم) بمعنى القتل، كثير في التنزيل كقوله: ولولا رهطك لرجمناك وقوله: أن ترجمون وأصله الرمي، أي: بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

وكذلك أعثرنا عليهم أي: كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد: ليعلموا [ ص: 4036 ] أن وعد الله حق أي: ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث: وأن الساعة أي: الموعود فيها بالبعث: لا ريب فيها إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم، بقوله سبحانه: إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا أي: على باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم، و (إذ) على ما يظهر لي، ظرف لــ (أذكر) مقدرا. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم، وجعله ظرفا لـ: أعثرنا أو لغيره مما ذكروا ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.

وقوله تعالى: فقالوا تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى: ربهم أعلم بهم جملة معترضة. إما من الله ردا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم. كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيهم إليه تعالى: قال الذين غلبوا على أمرهم أي: من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة: لنتخذن عليهم مسجدا أي: نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.

تنبيه:

قال ابن كثير : حكي في القائلين ذلك قولان

أحدهما: أنهم المسلمون منهم.

والثاني: أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » يحذر ما فعلوا. انتهى.

[ ص: 4037 ] وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي والولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال فيهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه (الصارم المنكى) بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره. فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.

وهذا المعنى بعينه، ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور. وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج . ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشاده للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.

[ ص: 4038 ] ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيما. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظم مخلوقا بما يكرهه ذلك المعظم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلو مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح . بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبي صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه. فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم. وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد ! يا سيدنا! وابن سيدنا! وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل » . وقال صلى الله عليه وسلم: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله » وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما وهو مريض. وقال: « إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم. [ ص: 4039 ] يقومون على ملوكهم » وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلو مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[22] سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا .

سيقولون أي: الخائضون في قصتهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة:ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون أي: بعض آخر منهم: خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب أي: رميا وتلفظا بالذي غاب عنهم. يعني ظنا خاليا عن اليقين. قال ابن كثير : كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد: ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه: قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل أي: ممن أطلعه الله عليه: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي: لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف، إلا جدالا ظاهرا لينا غير متعمق فيه. وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي، وتفويض العلم إلى الله سبحانه، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم، في الرد عليهم كما قال: وجادلهم بالتي هي أحسن فإن الأمر [ ص: 4040 ] في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. قيل: المماراة المجادلة. وقيل بالفرق. فالمجادلة المحاجة مطلقا. والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي: تردد، لأنها من (مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها للحليب: ولا تستفت فيهم منهم أحدا أي: لا تسأل أحدا منهم عن نبئهم. لأن السؤال إما للاسترشاد، أو للتعنت والمحاورة. ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجما بالغيب. من غير استناد إلى كلام معصوم. والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده، ينافي مكارم الأخلاق. والمعنى: جاءك الحق الذي لا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال.

تنبيهات:

الأول: ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هو الحق. لأنه لم يوصف بكونه رجما بالغيب كما وصف الأولان.

ولتخصيصه بالواو في قوله: وثامنهم وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وأنه لا عدد وراءه. كما قال ابن عباس : حين وقعت الواو انقطعت العدة. وأقول: لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير. فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه. وفي إعادته إخلال بالبلاغة. ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت. فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز. كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء. لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية. فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله، فلا يكون من الإيماء في شيء. وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية -بعيد غاية البعد، وتكلف ظاهر، وإغراب في القول.

ثم قيل: إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية. لجواز كونها حالا من النكرة، لأن اقترانها بالواو مسوغ. ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ المحذوف. لأنه يجوز في مثله إيراد الواو [ ص: 4041 ] وتركها. على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى: قل ربي أعلم بعدتهم فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها، برهانا ظاهرا على أنهم لم يهتدوا لعدتهم، وإرشادا إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام، رد العلم إليه تعالى.

وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بين وبرهان نير. وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به، وإلا وقفنا. وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده: ما يعلمهم إلا قليل فإن فيه دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه. وهو إما نبي، أو من كان في مدتهم، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم. وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسد من جهالة شأنهم.

وبالجملة، فالنظم الكريم، بأسلوبه هذا، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل. كانوا سبعة -فهو من الموقوف عليه. ولو رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم. فروي عنه أنهم ثمانية، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه. وروي عنه سبعة. وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه. ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي أنه قال: إن كان - ابن عباس - قد عرفه ببيان الرسول، صح. وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف. انتهى. هذا ما ظهر لي الآن.

وبعد كتابتي لما تقدم بمدة، وقفت على نبئهم في (طبقات الشهداء المسيحيين) وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم. فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به، مما قوي عنده من إشارة الآية، كما ذكره أولئك الأكثرون، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم. ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه. وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله. حيث قال في (قاعدة له في التفسير): اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام -مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة [ ص: 4042 ] أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث. فدل على صحته. إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما. ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته. فيقال في مثل هذا: قل ربي أعلم بعدتهم فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه. فبهذا قال: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل. ويذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص. إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. انتهى كلامه رحمه الله، وهو الفصل في هذا المقام.

الثاني: قال الرازي : ذكروا في فائدة الواو في قوله: وثامنهم وجوها:

الأول: ما ذكروه أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وقد عرفت ما فيه.

وثانيها: أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد. وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف، فقالوا: وثمانية. فجاء هذا الكلام على هذا القانون. قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله: والناهون عن المنكر لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة. وقوله: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله: ثيبات وأبكارا لأن قوله: وأبكارا هو العدد الثامن مما تقدم. والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه.

[ ص: 4043 ] قال القفال: وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ولم يذكر الواو في النعت الثامن. انتهى.

وقال في (الانتصاف): الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق. لا كمن يقول إنها واو الثمانية. فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم. ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة: وفتحت أبوابها قالوا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك: والناهون عن المنكر وهو الثامن من قوله: التائبون وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي: الآمرون بالمعروف لما بينهما من التناسب والربط. ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما؟ كقوله: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكقوله: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وربما عد بعضهم من ذلك، الواو في قوله: ثيبات وأبكارا لأنه وجدها مع الثامن. وهذا غلط فاحش. فإن هذه واو التقسيم. ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا لم يستد الكلام. فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة، واردة لغير ما زعمه هؤلاء. والله الموفق... انتهى.

الثالث: حكي في (الإكليل) عن مجاهد في قوله تعالى: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا إلا بما أظهرنا لك. ومثله قول السدي: إلا بما أوحي إليك. وإن فيه تحريم الجدل بغير علم وبلا حجة ظاهرة .
وقوله تعالى:

[ ص: 4044 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[23] ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [24] إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا .

ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت في هذه الآية وجوه من المعاني. منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول، فتكون قائلا بمشيئته، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن. لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي: إعلامه به. ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل، إني فاعل ذلك غدا إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله، فتكون فاعلا بمشيئته. ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى. ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتا له. لأنه: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه.

وقوله تعالى: إلا أن يشاء الله أي: أن تقول ذلك القول البات نسيانا فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره. ولذا قال: واذكر ربك إذا نسيت وعلى هذه الوجوه كلها فـ: " لا تقولن " نهي معطوف على النهيين قبله. قال الجاحظ في كتاب (الحيوان): إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول: إن شاء الله، ليبقي عادة للمتألي، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني، وعلى أن يكون عبده ذاكرا لله. لأنه عبد مدبر، ومقلب ميسر، ومصرف مسخر.

وبقي وجه آخر: وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول. والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله. كقوله تعالى: [ ص: 4045 ] وما تشاءون إلا أن يشاء الله وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في (الانتصاف) وفي المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان هم بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية، وعزم على أمر في غد المحاورة به.

ولعله الاستفتاء عنهم. فلما نهى عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى، ليدخل فيه ما كان قاله دخولا أوليا. أي: ما قلته وعزمت على فعله كان بمشيئة الله، إذ شاء الله أن تقوله. فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم، ولاحق الأمر بذكره تعالى إذا نسي، أي: نسي ما وصي به. وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه.

فدعوى الناصر في (الانتصاف) أنه ليس هو الغرض، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقرونا بمشيئته تعالى- قصر للآية على أحد معانيها، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها. وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية: وما تشاءون إلا أن يشاء الله والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا أي: خيرا ومنفعة. والإشارة للنبأ المتحاور فيه.

تنبيهات:

الأول: روي أنه صلوات الله عليه سئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين، فقال: « أجيبكم عنها غدا » ولم يستثن. فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما، ثم نزلت: ولا تقولن الآية . وقد زيف هذه الرواية القاضي -كما حكاه الرازي - من أوجه. والحق له. لأنها من مرويات ابن إسحاق مجهول. كما ساقه عنه ابن كثير وغيره، والله أعلم.

الثاني: يشير قوله تعالى: وقل عسى أن يهديني ربي الآية، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه، وابتغاء الرشاد فيه، حتى يتكلف لفتوى أهل [ ص: 4046 ] الكتاب فيه. العزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-07-2024, 07:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4061 الى صـ 4075
الحلقة (442)






وقوله تعالى:

[ ص: 4061 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[39] ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا [40] فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا [41] أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله أي: هلا قلت عند دخولها ذلك. قال الزمخشري : يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل، على أنها خبر مبتدأ محذوف. تقديره (الأمر ما شاء الله) أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى (أي شيء شاء الله كان) ونظيرها في حذف الجواب (لو) في قوله: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال والمعنى: هلا قلت عند دخولها، والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل خير فيها، إنما حصل بمشيئة الله وفضله. وأن أمرها بيده. إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها. وقلت: لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها، إنما هو بمعونته وتأييده. إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده، إلا بالله تعالى. والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة، وإسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر، بقوله: إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني أي: في الدنيا أيضا: خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا أي: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية: من السماء فتصبح صعيدا زلقا أي: ترابا أملس لا تثبت فيها قدم، لملاستها [ ص: 4062 ] أو يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن: يصبح ماؤها غورا أي: غائرا في الأرض: فلن تستطيع له طلبا أي: حيلة تدركه بها، بالحفر أو بغيره.

تنبيه:

كل من قوله تعالى: إن ترن وقوله: أن يؤتيني رسم بدون ياء. لأنها من ياءات الزوائد. وأما في النطق، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[42] وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا

وأحيط بثمره أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشري : أحيط به عبارة عن إهلاكه. وأصله من (من أحاط به العدو) لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى: إلا أن يحاط بكم

ومثله قولهم: أتى عليه إذا أهلكه. من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم. يعني أنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن (أتى عليهم) بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها أي: فعير نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشري : تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر . لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن. كما كني عن ذلك بعض الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدي تعديته بــ(على) كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي: في عمارتها. فيكون ظرفا لغوا. ويجوز كونه ظرفا مستقرا متعلقه خاص، وهو حال. أي: متحسرا. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه [ ص: 4063 ] -كما قال الراغب- الغم على ما فات: وهي خاوية على عروشها أي: ساقطة عليها. و(العروش) جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه الشيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيدا زلقا: ويقول عطف على (يقلب): يا ليتني لم أشرك بربي أحدا أي: من الأوثان. وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا .

ولم تكن له فئة أي: منعة وقوم: ينصرونه من دون الله أي: يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه: وما كان منتصرا أي: ممتنعا بنفسه وقوته عن انتقام الله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

هنالك الولاية لله الحق أي: قي ذلك المقام وتلك الحالة التي وقع فيها الإهلاك. (الولاية) بفتح الواو أي: النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره. فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: ولم تكن له فئة ينصرونه لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدق قوله: فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء ويعضده قوله تعالى: هو خير ثوابا وخير عقبا أي: لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ ((الولاية)) بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي: هنالك [ ص: 4064 ] السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر. يعني أن: يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعا مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين

وكقوله إخبارا عن فرعون: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين أو (هنالك) إشارة إلى الآخرة. أي: في تلك الدار الولاية لله. كقوله: لمن الملك اليوم ويناسبه قوله: هو خير ثوابا وخير عقبا و(هنالك) على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم و(الولاية) مبتدأ مؤخر. والوقف على (منتصرا). وجوز بعضهم كون هنالك معمولا لــ (منتصرا) وإن الوقف عليه. أي: على (هنالك) وإن (الولاية لله) جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة. أي: وما كان منتصرا في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.

وأقول: هذا الثاني ركيك جدا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربية. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه. و(الحق) قرئ بالرفع صفة (للولاية) وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر. وبالجر صفة للفظ الجلالة. (عقبا) قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعشر والعشر.

تنبيه:

يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه [ ص: 4065 ] كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعارا للحال الغريبة، بتقدير (اضرب) مثلا، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة ، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق. مصداقا لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى: وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا

ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا، ويختالون به بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا .

واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي: اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها: كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض أي: فالتف بسببه وتكاثف، حتى خالط بعضه بعضا، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة: فأصبح أي: بعد ذلك الزهو: هشيما أي: جافا يابسا مكسورا: تذروه الرياح أي: تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النمو. ثم يزولون زوال النبات: وكان الله على كل شيء مقتدرا أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المثل وأبدعها، ضرب كثيرا في التنزيل، كقوله تعالى في سورة [ ص: 4066 ] يونس: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام وفي الزمر: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه الآية. وفي الحديد: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته الآية.
ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا، بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[46] المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا

المال والبنون زينة الحياة الدنيا وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله: والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي، لا يزول ولا يحول.

لطائف:

1 - تقديم (المال) على (البنين) لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد. ولكون الحاجة إليه أمس. ولأنه زينة بدونهم، من غير عكس.

[ ص: 4067 ] 2 - إفراد (الزينة) مع أنها مسندة إلى الاثنين، لما أنها مصدر في الأصل. أطلق على المفعول مبالغة. كأنها نفس الزينة. وإضافتها إلى الحياة اختصاصية، لأن زينتها مختصة بها.

3 - إخراج بقاء الأعمال وصلاحها، مخرج الصفات المفروغ عنها، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة، لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة: ما عندكم ينفد وما عند الله باق للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه. بل لفظ (الباقيات) اسم لها لا وصف. ولذلك لم يذكر الموصوف. وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريتها.

4 - تكرير (خير) للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة.كذا يستفاد من أبي السعود ، مع زيادة.

5 - وقع في كلام السلف تفسير (الباقيات الصالحات) بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق، وقوله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) والكلام الطيب، وبغيرهما، مما روي مرفوعا وموقوفا. والمرفوع من ذلك كله لم يخرج في الصحيحين. وكله على طريق التمثيل. وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده.

ثم أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة، التي هي الوعد الحق والفيصل الصدق، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .

ويوم نسير الجبال أي: اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو. كما [ ص: 4068 ] ينبئ عنه قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثا: وترى الأرض بارزة لبروز ما تحت الجبال، أي: ظهوره، بنسفها وبروز ما عداه بزوال الجبال والكثب. حتى تبدو للعيان سطحا مستويا، لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك: وحشرناهم أي: جمعناهم إلى موقف الحساب: فلم نغادر أي: نترك: منهم أحدا أي: لا صغيرا ولا كبيرا. كما قال: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم وقال: ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .

وعرضوا على ربك صفا أي: مصطفين مترتبين في المواقف، لا يحجب بعضهم بعضا كل في رتبته، قاله القاشاني .

وقال أبو السعود : (صفا) أي: غير متفرقين ولا مختلطين. فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده.

قال الزمخشري : شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، مصطفين ظاهرين. يرى جماعتهم كما يرى كل واحد. لا يحجب أحد أحدا: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة أي: بلا مال ولا بنين. أو لقد بعثناكم كما أنشأناكم. والكلام على إضمار القول. أي: وقلنا. تقريعا للمنكرين للمعاد، وتوبيخا لهم على رؤوس الأشهاد: بل زعمتم أي: بإنكاركم البعث: ألن نجعل لكم موعدا أي: وقتا لإنجاز ما وعدناكم من البعث [ ص: 4069 ] والنشور والحساب والجزاء. فلم يعملوا لذلك أصلا، بل عملوا ما يزدادون به افتضاحا. و(بل) للخروج من قصة إلى أخرى. فالإضراب انتقالي، لا إبطالي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .

ووضع الكتاب أي: صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق: فترى المجرمين مشفقين أي: خائفين أن يفتضحوا: مما فيه أي: من أعمالهم السيئة المسطرة: ويقولون يا ويلتنا أي: هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمارنا. قال القاشاني : يدعون الهلكة التي هلكوا بها، من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أي: أي شأن حصل له، فلا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه. والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي، وعده مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.

قال البقاعي عليه الرحمة إن لام الجر رسمت مفصولة (يعني: في الرسم العثماني)، إشارة إلى أنهم لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة. وهذا من لطائفه رحمه الله ووجدوا ما عملوا حاضرا أي: مكتوبا في الصحف تفصيلا، من خير وشر. كما قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية. وقال: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر

ولا يظلم ربك أحدا أي: فيكتب عليه ما لم يعمله، أو يزيد في عقابه. ثم أشار [ ص: 4070 ] تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان ، وإيثاره على الرحمن. والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق. فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن أي: العتاة المردة الشياطين: ففسق عن أمر ربه أي: خرج عن طاعته: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو أي: فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي، وهم لكم عدو يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتباعه وإطاعته. ولهذا قال تعالى: بئس للظالمين أي: الواضعين الشيء في غير موضعه: بدلا بئس البدل من الله إبليس، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير : وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين، السعداء والأشقياء، في سورة يس: وامتازوا اليوم أيها المجرمون إلى قوله: أفلم تكونوا تعقلون وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .

ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق [ ص: 4071 ] إبليس وذريته، للاتخاذ المذكور في أنفسهم، بعد بيان الصوارف عن ذلك، من خباثة المحتد والفسق والعداوة. أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض، حين خلقتهما: ولا خلق أنفسهم أي: وما أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم. ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر- أبلغ. إذ من لم يشهد فأنى يستعان به؟ فأنى يصح جعله شريكا؟ ولذلك قال سبحانه: وما كنت متخذ المضلين عضدا أي: وما كنت متخذهم أعوانا لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير أي: وإذا لم يكونوا عضدا في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟ واستحقاق العبادة من توابع الخالقية. والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير، وهم المضلون، فلا يكونون أربابا. إنما وضع (المضلين) موضع الضمير، ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال، وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء. ونحو هذه الآية قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[52] ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا .

ويوم يقول أي: الحق تعالى: نادوا شركائي الذين زعمتم أي: في دار الدنيا، أنهم شركاء لينقذوكم مما أنتم فيه. يقال لهم ذلك على رؤوس الأشهاد تقريعا وتوبيخا لهم: فدعوهم أي: فنادوهم للإعانة، لبقاء اعتقاد شركهم: فلم يستجيبوا لهم أي: فلم [ ص: 4072 ] يعينوهم، لعجزهم عن الجواب، فضلا عن الإعانة. وفي إيراده، مع ظهوره، تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به: وجعلنا بينهم أي: بين الكفار وآلهتهم: موبقا أي: مهلكا يشتركون فيه، وهو النار. أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك. كقول عمر رضي الله عنه: (لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا) ، ويؤيد هذا قوله تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا قال ابن كثير : وأما إن جعل الضمير في قوله: " بينهم " عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون وقال: يومئذ يصدعون وقال تعالى: وامتازوا اليوم أيها المجرمون وقال تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم إلى قوله: وضل عنهم ما كانوا يفترون
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

ورأى المجرمون النار أي: جهنم المحيطة بأنواع الهلاك ووضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم، وذما لهم بذلك: فظنوا أنهم مواقعوها أي: أيقنوا بأنهم واقعون فيها: ولم يجدوا عنها مصرفا أي: معدلا ينصرفون إليه. إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
[ ص: 4073 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[54] ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا .

ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل أي: نوعنا في هذا القرآن الجامع للمهمات وأنواع السعادات، لمصلحة الناس ومنفعتهم، من كل مثل، ينبه على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا أي: مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[55] وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

وما منع الناس أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم: أن يؤمنوا أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك: إذ جاءهم الهدى أي: القرآن والحق الواضح النير: ويستغفروا ربهم أي: عن المعاصي السالفة: إلا أن تأتيهم سنة الأولين أي: طلب إتيانها، أو انتظار إتيانها، وهي عذاب الاستئصال: أو يأتيهم العذاب قبلا أي: يرونه عيانا ومواجهة، وهو عذاب الآخرة. أو أعم. والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أو (قبلا) بمعنى: أنواعا متنوعة جمع (قبيل) وقرئ بفتحتين أي: مستقبلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[56] وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا [ ص: 4074 ] بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .

وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين أي: وما نرسلهم، قبل إنزال العذاب، إلا لتبشر من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى: ويجادل الذين كفروا بالباطل كاقتراح الآيات: ليدحضوا به الحق أي: ليزيلوا بالجدال، الحق الثابت عن مقره. وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها. فاستعير من زلل القدم المحسوس، لإزالة الحق المعقول.

قال الشهاب ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره. ثم أنشد لنفسه:


أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج


واتخذوا آياتي وما أنذروا أي: وإنذارهم. أو والذي أنذروا به من العقاب: هزوا أي: استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب. وصف بالمصدر مبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .

ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها كناية عن عدم تدبرها والاتعاظ بها، بأبلغ أسلوب: ونسي ما قدمت يداه أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به، إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه أي: جعلنا عليها حجبا وأغطية كثيرة، كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله: وفي آذانهم وقرا أي: وجعلنا فيها ثقلا يمنعهم من [ ص: 4075 ] استماعه. والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم، بأنهم مطبوع على قلوبهم. وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا أي: فلا يكون منهم اهتداء البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .

وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا الآيات في هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وقوله: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم و: " ربك " مبتدأ و: الغفور خبره وتقديم الوصف بالمغفرة على الرحمة، لأنه أهم بحسب الحال. إذ المقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم، بعد استيجابهم لها. كما يعرب عنه قوله عز وجل: لو يؤاخذهم بما كسبوا والموعد المذكور هو يوم بدر . أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات. أو يوم القيامة. والكل لاحق بهم. و(الموئل) الملجأ والمنجى. أي: ليس لهم عنه محيص ولا مفر. وقوله تعالى:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-07-2024, 07:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4073 الى صـ 4090
الحلقة (443)




القول في تأويل قوله تعالى:

[59] وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

وتلك القرى أي: قرى عاد وثمود وأضرابهم: أهلكناهم لما ظلموا [ ص: 4076 ] بالكفر والطغيان: وجعلنا لمهلكهم موعدا أي: وقتا معينا لا محيد لهم عنه. وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد، ليتنبهوا لذلك، ولا يغتروا بتأخر العذاب. ثم أشار تعالى إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة، ما لا يخفى على متبصر. كما ستقف على شذرات من ذلك. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا .

وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه، لا أبرح، أي: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين. فأجد فيه الخضر. أو أسير زمانا طويلا إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلب.

قال المهايمي : أي: اذكر للذين إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا، لتكبرهم عليك، إنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه. ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم. لأنها هداية في الظاهر والباطن. وهداية الخضر إنما هي في الباطن. ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق، واحتاج إليه موسى . و(الفتى) الشاب. قال الشهاب : العرب تسمي الخادم فتى، لأن الغالب استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام ومحبا له، وذا غيرة على كرامته. ولذلك اختصه موسى رفيقا له وخادما. وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل. وفتح عليه تعالى بيت المقدس ونصره على الجبارين.
وقوله تعالى:

[ ص: 4077 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[61] فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا .

فلما بلغا مجمع بينهما أي: البحرين: نسيا حوتهما أي: خبر حوتهما، وتفقد أمره، وكانا تزوداه.

فاتخذ سبيله أي: طريقه: في البحر سربا أي: مثل السرب في الأرض، واضح المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[62] فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .

فلما جاوزا أي: مجمع بينهما، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت: قال لفتاه آتنا غداءنا أي: ما نتغدى به: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا أي: تعبا ومشقة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[63] قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا .

قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت أي: خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما، أولا، إما بمعنى نسيان طلبه، والذهول عن تفقده، لعدم الحاجة إليه. وإما للتغليب، بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده. فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من المالح: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره أي: لك. و(أن أذكره) بدل من الهاء في (أنسانيه) أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان. وقد قرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلا، [ ص: 4078 ] والباقون بكسرها: واتخذ سبيله في البحر عجبا أي: أمرا عجيبا، إذ صار الماء عليه سربا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا .

قال أي: موسى: ذلك أي: المكان الذي اتخذ فيه سبيله هربا: ما كنا نبغ أي: نطلب فيه الخضر. لأنه أمارة المطلوب. وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين، وصلا لا وقفا. وبإثباتها في الحالين. وبحذفها كذلك: فارتدا على آثارهما أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامهما يتبعانها: قصصا أي: اتباعا لئلا يفوتهما الموضع ثانيا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

فوجدا أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، فوجدا: عبدا من عبادنا التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر . وسنتكلم على جملة من نبئه، بعونه تعالى، بعد تمام القصة: آتيناه رحمة من عندنا أي: آتيناه رحمة لدنية، اختصصناه بها: وعلمناه من لدنا علما أي: علما جليلا آثرناه. وهو علم لدني يكون بتأييد رباني. وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدني في آخر هذا النبأ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا .

قال له موسى هل أتبعك أي: أصحبك: على أن تعلمني مما علمت أي: من لدن ربك: رشدا أي: علما ذا رشد. أي: هدى وإصابة خير.

قال القاضي: وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب. فاستجهل نفسه، واستأذن [ ص: 4079 ] أن يكون تابعا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أي: وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67 - 68] قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .

قال إنك لن تستطيع معي صبرا أي: بوجه من الوجوه. ثم علل معتذرا بقوله وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا أي: من أمور ستراها. إن صحبتني، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا .

قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا أي: لا أخالفك في شيء.

قال الزمخشري : رجا موسى عليه السلام، لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر. فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله. علما منه بشدة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. هذا مع علمه أن النبي المعصوم، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين. وأنه لا بد، لما يستسمج ظاهره، من باطن حسن جميل. فكيف إذا لم يعلم؟ انتهى.
[ ص: 4080 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[70] قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا .

قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولم تعلم وجه صحته، حتى أبتدئك ببيانه. وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا .

فانطلقا أي: على ساحل البحر يطلبان سفينة: حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا أي: عظيما من إتلاف السفينة وقتل الجماعة الكثيرة بغير ذنب، وكفران نعمة الحمل بغير نول.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا .

قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ذكره الخضر بما تقدم من الشرط.

يعني هذا الصنيع فعلته قصدا. وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها. لأنك لم تحط بها خبرا إذ لها سر لا تعلمه أنت.
القول في تأويل قوله تعالى:

[73] قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا .

قال أي: موسى : لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط. فإن المؤاخذة به تفضي [ ص: 4081 ] إلى العسر. والمراد التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ولا ترهقني من أمري عسرا أي: لا تحمل علي من أمري، في تحصيل العلم منك، عسرا، لئلا يلجئني إلى تركه. أي: لا تعسر علي متابعتك، بل يسرها علي، بالإغضاء وترك المناقشة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[74] فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا .

فانطلقا أي: بعد أن خرجا من السفينة إلى الساحل: حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس أي: أنها لم تقتل نفسا فتقتل. بل هي زكية طاهرة من موجبات القتل: لقد جئت شيئا نكرا أي: منكرا. أو أنكر من الأول. لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسد، وهذا لا سبيل إلى تداركه بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا .

قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا تأكيد في التذكار بالشرط الأول. ونكتة زيادة: لك هو -كما قال الزمخشري : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. كما لو أتى إنسان بما نهيته عنه، فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في تعنيفه. قال في (المثل السائر): وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[76] قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا .

قال أي: موسى : إن سألتك عن شيء بعدها أي: بعد هذه المرة: فلا تصاحبني [ ص: 4082 ] قد بلغت من لدني عذرا أي وجدت من جهتي عذرا. إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة، فخالفتك ثلاث مرات، بمقتضى طبع الاستعجال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا .

فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية اختلف في تسميتها.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين. ولا يوثق بشيء منه: استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما أي: امتنعوا من أن يطعموهما الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم. وقرئ: ((يضيفوهما)) من الإضافة. يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيفه: أنزله ليطعمه في منزله، على وجه الإكرام: فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض أي: ينهدم بقرب. من (انقض الطائر) إذا أسرع سقوطه. والإرادة مستعارة للمداناة والمشارفة. لما فيهما من الميل. استعارة تصريحية أو مكنية وتخييلية، أو هي مجاز لغوي مرسل بعلاقة سبب الإرادة، لقرب الوقوع.

وقد أوسع الزمخشري ، عليه الرحمة من الشواهد على مثل هذا المجاز. فانظره: فأقامه أي: عمره وأصلحه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي: لو طلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به. ففيه لوم على ترك الأجرة، مع مسيس الحاجة إليها .
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .

قال هذا فراق بيني وبينك الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فلا تصاحبني أو إلى الاعتراض الثالث. أو إلى الوقت الحاضر سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه [ ص: 4083 ] صبرا أي: بمآل ما لم تصبر على ظاهره، وبعاقبته. وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز. قال أبو السعود : وفي جعل صلة الموصول. عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر، دون أن يقال (بتأويل ما فعلت) أو (بتأويل ما رأيت) ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتاب. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى ، وما كان أنكر ظاهره. وقد أظهر الله الخضر ، عليه السلام، على باطنه. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا .

أما السفينة أي: التي خرقتها: فكانت لمساكين يعملون في البحر أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر، لنقل الناس من ساحل إلى آخر: فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا أي: إنما خرقتها لأعيبها. لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، يأخذ كل سفينة سليمة جيدة، غصبا. فأردت أن أعيبها لأرده عنها، لعيبها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[80] وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا [81] فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما .

وأما الغلام أي: الذي قتلته: فكان أبواه مؤمنين فخشينا أي: لو تركناه: أن يرهقهما طغيانا وكفرا أي: ينزل بهما طغيانه وكفره ويلحقه بهما. لكونه طبع على ذلك. فيخشى أن يعديهما بدائه.

فأردنا أي: بقتله: أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة أي: طهارة عن الكفر والطغيان: وأقرب رحما أي: رحمة بأبويه، وبرا.
[ ص: 4084 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .

وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما أي: قوتهما بالعقل وكمال الرأي: ويستخرجا كنـزهما ليتصرفا فيه: رحمة من ربك أي: تفضل بها عليهما.

و(رحمة) مفعول له. أو مصدر مؤكد لــ(أراد) فإن إرادة الخير رحمة: وما فعلته أي ما رأيت مني: عن أمري أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى: ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا أي: من الأمور التي رأيتها. أي: مآله وعاقبته. قال أبو السعود : (ذلك) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة. و: تسطع مخفف (تستطع) بحذف التاء.

تنبيهات:

في بعض ما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام واللطائف والفوائد الساميات:

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآيات أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر . واستحباب الرحلة في طلب العلم. واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل . ونسبة النسيان، ونحوه من الأمور المكروهة، إلى الشيطان ، مجازا وتأدبا عن نسبتهما إلى الله تعالى. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة . واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه . وتقديم المشيئة في الأمر ، واشتراط المتبوع على التابع . وأنه يلزم الوفاء بالشروط. وأن النسيان غير مؤاخذ به . [ ص: 4085 ] وأن (للثلاث) اعتبارا في التكرار ونحوه. وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة . وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام. وجواز أخذ الأجر على الأعمال . وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها، أو شيء لا يكفيه . وأن الغصب حرام . وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير، أو تعييبه، لوقاية باقيه ، كمال المودع واليتيم. وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف . وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه . وأنه تجب عمارة ما يخاف منه، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب . وأنه يجوز دفن المال في الأرض . انتهى.

وقال البيضاوي: ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه. ولا يبادر إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه. وأن يداوم على التعلم، ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقال. وأن ينبه المجرم على جرمه، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره، ثم يهاجر عنه. انتهى.

ومن فوائد الآية -كما في (فتح الباري)- استحباب الحرص على لقاء العلماء وتجشم المشاق في ذلك . وإطلاق (الفتى) على التابع واستخدام الحر. وطواعية الخادم لمخدومه. وعذر الناسي. وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه. ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور. ومنها أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب. وفيها جواز طلب القوت . وطلب الضيافة. وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية.

وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه ، وإن كان الكل بتقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة: فأردت أن أعيبها وعن الجدار: فأراد ربك ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: « والخير بيديك والشر ليس إليك » . انتهى.

ومن فوائدها إطلاق (القرية) على (المدينة) لقوله: أهل قرية ثم قوله: لغلامين يتيمين في المدينة

[ ص: 4086 ] الثاني: ذكر الناصر في (الانتصاف): شذرات من لطائف بعض الآي المذكورة فنأثرها عنه.

قال عليه الرحمة: ورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم ينصب، ولم يقل: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له. فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه. وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، أن ييسرها، ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة. وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته، بونا بينا، والله أعلم وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إذا قص عليهم القصة. فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها، عاجلا وآجلا. والله أعلم.

ثم قال عليه الرحمة: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار، الالتهاب والحمية للحق، أنه قال حين خرق السفينة: أخرقتها لتغرق أهلها ولم يقل: (لتغرقنا) فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد. وتلك حالة الغرق. فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم. صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه.

ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشري : فإن قلت قوله: فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدم عليه؟ قلت: النية به التأخير. وإنما قدم للعناية. ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. فكان بمنزلة قولك: (زيد ظني مقيم).

فقال عليه الرحمة: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين. ثم بين مناسبة هذا [ ص: 4087 ] السبب للمسبب، بذكر عادة الملك في غصب السفن. وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد. فلا يحتاج إلى جعله مقدما، والنية تأخيره. والله أعلم.

ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي، والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: فأردت أن أعيبها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " فخشينا أن يرهقهما " ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد (ثم عبت) فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: (أمرنا بكذا أو دبرنا كذا) وإنما يعنون: (أمر الملك ودبر) ويدل على ذلك قوله في الثالثة: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب، ولم تأت على نمط واحد مكرر، يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة. فسبحان اللطيف الخبير.

الثالث: قال الخفاجي: في إعادة لفظ (الأهل) هنا، يعني في قوله تعالى: استطعما أهلها إثر قوله: أتيا أهل قرية سؤال مشهور. وقد نظمه الصلاح الصفدي سائلا عنه السبكي في قصيدة منها:


رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره
بإيجاز ألفاظ وبسط معاني ولكنني في (الكهف) أبصرت آية
بها الفكر، في طول الزمان عناني وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد
نرى (استطعماهم) مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر
مكان ضمير؟ إن ذاك لشان


يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل استطعماها لأنه صفة القرية. [ ص: 4088 ] أو (استطعماهم) لأنه صفة (أهل) فلا بد من وجه. وقد أجابوا عنه بأجوبة مطولة نظما ونثرا. والذي تحرر فيه أنه ذكر (الأهل) أولا ولم يحذف إيجازا، سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: واسأل القرية لأن الإتيان ينسب للمكان. نحو (أتيت عرفات) ولمن فيه نحو (أتيت بغداد) فلو لم يذكر كان فيه التباس مخل. فليس ما هنا نظير تلك الآية لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. وأما الأهل الثاني فأعيد لأنه غير الأول. وليست كل معرفة أعيدت عينا كما بينوه. لأن المراد به بعضهم. إذ سؤالهم فردا فردا مستبعد. فلو لم يذكر، فهم غير المراد. أما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر. وأما لو قيل (استطعماها) فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب، كما أثبتوه في محله. وأما إتيان جميع القرية فهو حقيقة في الوصول إلى بعض منها. كما يقال: (زيد في البلد) أو (في الدار) وقيل: إن الأهل أعيد للتأكيد كقوله:


ليت الغراب غداة ينعب بيننا كان الغراب مقطع الأوداج


أو لكراهة اجتماع ضميرين متصلين، لبشاعته واستطالته، وثمة أجوبة أخرى.

الرابع: أبدى بعضهم سرا للتعبير أولا (بتستطع) ثم أخيرا (بتسطع) بحذف التاء قال: لما أن فسر الخضر لموسى ، وبين له تأويل ما لم يصبر معه، ووضحه وأزال المشكل، قال (تسطع) بحذف التاء. وقيل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا. فقال: سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف. كما قال: فما اسطاعوا أن يظهروه وهو الصعود إلى أعلاه وما استطاعوا له نقبا وهو أشق من ذلك. [ ص: 4089 ] فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى. انتهى.

وقال الشهاب: وإنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير منه. وأما كونه للإشارة إلى أنه خف على موسى صلى الله عليه وسلم ما لقيه ببيان سببه- فيبعد أنه في الحكاية، لا المحكي. انتهى.

وما ألطف قول الشهاب في مثله: هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك.

الخامس: قال الإمام السبكي رحمه الله: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافرا، مخصوص به. لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن، وخلاف الظاهر الموافق للحكمة. فلا إشكال فيه. وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين . ولو فرضنا أن الله أطلع بعض أوليائه، كما أطلع الخضر عليه السلام، لم يجز له ذلك، وما ورد عن ابن عباس (لما كتب إليه نجدة الحروري: كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان، ما علمه عالم موسى، فلك أن تقتل (فإنما قصد به ابن عباس المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا، لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام. وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز. لأنه لا تقتضيه الشريعة. وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي . وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعا مستقلا به. وهو نبي. وليس في شريعة موسى أيضا، ولذا أنكره. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما ، فصحيح. لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع. فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة ، قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك. وإنما فعل الخضر ذلك لإطلاع الله تعالى عليه.

[ ص: 4090 ] وقال ابن بطال : قول الخضر: (وأما الغلام فكان كافرا) هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ. واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله. ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.

أقول: مفاد الآية، أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب. ولذا قال: (بغير نفس)، لا لكونه صغيرا لم يبلغ الحنث. لأن الآية لا تفيده. وقد يكون كبيرا. فقد قال اللغويون: الغلام الطار الشاب، أو من حين يولد إلى أن يشب، والكهل أيضا. ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبكي لأن غلاما بعث بعدي. إلخ، نعم ربما يشعر بصغره حديث البخاري : وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما فذبحه قال موسى : أقتلت نفسا لم تعمل بالحنث. ولكن لا نص فيه، فتأمل.

السادس: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية، هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة. وذهب نوف البكالي -تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس بموسى بن عمران كما في البخاري . ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير ، عند (النسائي) قال: كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا عباس! إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منسا. أي: ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت: نعم. قال: كذب نوف. وفي رواية البخاري: كذب عدو الله. وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من تصديق مقالته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-07-2024, 07:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4091 الى صـ 4105
الحلقة (444)




[ ص: 4091 ] قال الرازي: كان ليوسف ولدان إفراثيم. ومنسا. فولد إفراثيم نون وولد نون يوشع صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته. وأما ولد منسا، قيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم. والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار، وموسى بن منسا معه. هذا هو قول جمهور اليهود. واحتج القفال على صحة القول بأنه موسى صاحب التوراة أنه لم يذكر في القرآن وهو المراد. فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه. ولو كان المراد غيره لوجب تعريفه بصفة تميزه وتزيل الاشتباه عنه، والله أعلم. انتهى.

وأما ابن عباس فكان سنده في ذلك، كما في البخاري، ما حدثه به أبي بن كعب ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم; أن موسى سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا. أو حدثته نفسه بذلك. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، لئلا يحتم على ما لا علم له به. وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة، فيكون المراد بفتاه يوشع. وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقا في خدمته، والغيرة على كرامته، والحب له. ولذا صار خليفته بعده، وفتح عليه بيت المقدس ونصر على الجبارين، كما هو معروف.

السابع: قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى: عبدا من عبادنا هو الخضر. قالوا: سمي بذلك لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت. وقد صح عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى . فقال ابن عباس : هو خضر ، فمر أبي بن كعب . فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه. فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى. عبدنا خضر. [ ص: 4092 ] فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت فارجع فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا.وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه » .

الثامن: اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبيا وفي طول عمره وبقاء حياته على أقوال كثيرة. فمن قائل بأنه ابن آدم لصلبه أو ابن قابيل أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وقد احتج من قال إنه نبي بقوله تعالى: وما فعلته عن أمري لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله. والأصل عدم الواسطة. وقيل: كان وليا. وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصديقية فهو مقام برزخي، له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية. وقيل: إنه ملك من الملائكة. وأما تعميره فيروى عن ابن عباس أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال .

قال النووي في (التهذيب) قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا. وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة، أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.

وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات.

وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : وأما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء. ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء، إلا مع موسى . وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء، باتفاق أهل النقل. وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه. كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟ انتهى كلامه ملخصا.

وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة، واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري [ ص: 4093 ] وجامع الترمذي . ولكن لم يثبت ذلك مرفوعا.

وقال أبو حيان في (تفسيره): الجمهور على أن الخضر مات. وبه قال ابن أبي الفضل المرسي. لأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه.

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي » . وبذلك جزم ابن المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي. وممن جزم بأنه غير موجود الآن، أبو يعلى الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي ، وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزي. واستدل على ذلك بأدلة. منها قوله تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد قال أبو الحسين بن المناوي : بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا! فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية. والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم. وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة. وخبر رياح كالريح. وما عدا ذلك من الأخبار، كلها واهية الصدر والأعجاز. لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالا، أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد

قال صاحب (فتح البيان): والحق ما ذكرناه عن البخاري وأضرابه في ذلك. ولا حجة في قول أحد كائنا من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم، حتى يعتمد عليه ويصار إليه. وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، وطول التعمير لأحد من البشر. وهما قاضيان على غيرهما ولا يقضي غيرهما عليهما. ومن قال إنه نبي أو مرسل أو حي باق، لم يأت بحجة نيرة ولا سلطان مبين. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. انتهى.

[ ص: 4094 ] وقال تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه، في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد، ما مثاله: وفيه كثير من الجن وهم رجال الغيب الذين يرون أحيانا في هذه البقاع قال تعالى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا

وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جني رأوه. وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال (إنني) وكان ذلك جنيا لبس على المسلمين الذين رأوه. وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات. ولو كان حيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه. فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمدا، أن يؤمن به ويجاهد معه . كما قال الله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق على أمته; لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا، من أن يلبس الشيطان عليهم. ولكن لبس على كثير من بعدهم. فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي ويقول: أنا الخضر. وإنما هو الشيطان. كما أن كثيرا من الناس يرى ميته خرج، وجاء إليه، وكلمه في أمور، وقضاء حوائج، فيظنه الميت نفسه. وإنما هو شيطان. تصور بصور. انتهى.

التاسع: دل قوله تعالى: وعلمناه من لدنا علما على أن من العلم علما غيبيا وهو المسمى بالعلم اللدني. فالآية أصل فيه. وقد ألف حجة الإسلام الغزالي ، عليه الرحمة، رسالة في إثبات هذا العلم. رد على من أنكر وجوده. وذكر عليه الرحمة أولا طرفا من مراتب العلوم الظاهرية المعروفة. ثم جود الكلام في إثباته. ولا بأس بإيراد شذرة مما قرره فيه. قال [ ص: 4095 ] قدس سره. اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين : أحدهما من التعليم الإنساني والثاني من التعليم الرباني. أما الطريق الأول، وهو التعليم الإنساني، فطريق معهود مسلوك محسوس. ويكون على وجهين:

أحدهما: من خارج وهو التحصيل بالتعلم.

والآخر: من داخل وهو الاشتغال بالتفكر. والتفكر في الباطن بمنزلة التعليم في الظاهر. فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي. والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي. والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العقلاء والعلماء. والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة. كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر، أو في قلب المعدن. والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء الذي بالقوة إلى الفعل. والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل. فنفس المتعلم تتشبه بنفس العالم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم بالإفادة كالزارع. والمتعلم بالاستفادة كالأرض. والعلم الذي هو بالقوة كالبذر. والذي هو بالفعل، كالنبات. وإذا كملت نفس المتعلم يكون كالشجر المثمر أو كالجوهر الظاهر من قعر البحر. وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم في طول المدة. ويحمل التعب في طلب الفائدة، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلم، فإن نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكر ساعة، ما لا تجد نفس الجاهل بتعلم سنة. فإذن بعض الناس يحصلون العلم بالتعلم وبعضهم بالتفكر. ثم قال قدس سره: والطريق الثاني وهو التعليم الرباني. وذلك على وجهين: إلقاء الوحي وهو النفس إذا كملت بذاتها تزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل. وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها. وتتمسك بجود مبدعها. وتعتمد على إفادته وفيض نوره. فالله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا، وينظر إليها نظرا إلهيا، ويتخذ منها لوحا، ومن النفس الكلي قلما وينقش فيها علومه. ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس القدسي كالمتعلم. فتحصل جميع العلوم لتلك النفس وتنتقش فيها جميع الصور [ ص: 4096 ] من غير تعلم وتفكر.

ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وعلمك ما لم تكن تعلم فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق. لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام. فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم. حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات. آدم لما جاء، ما كان عالما. لأنه ما تعلم ولا رأى معلما. فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء أو صغر حالهم عند آدم وقل علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز: قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فقال تعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر. فتقرر الأمر عند العقلاء; أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة. صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله خاتم النبيين، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: « أدبني ربي فأحسن تأديبي » وقال لقومه: « أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله » وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى، لأنه حصل عن التعليم الرباني، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني فقال تعالى: علمه شديد القوى

[ ص: 4097 ] والوجه الثاني: هو الإلهام. والإلهام تنبيه النفس الكلي للنفس الجزئي على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده. والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي. والإلهام هو تعريضه. والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا. والذي عن الإلهام يسمى علما لدنيا. والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكلي الأولي الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليهما السلام. وقد تبين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى البارئ تعالى من النفس الكلي. والنفس الكلي أعز وأشرف من سائر المخلوقات. فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء. فكما أن النفس دون العقل، فالوحي دون النبي. وكذلك الإلهام دون الوحي. فهو ضعيف بنسبة الوحي، قوي بإضافة الرؤيا. والإلهام علم الأنبياء والأولياء. فإن علم الوحي خاص بالرسل موقوف عليهم. كما كان لآدم وموسى وإبراهيم ومحمد وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم. وفرق بين الرسالة والنبوة. فالنبوة هي قبول النفس القدسي حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول. والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والمتابعين. وربما يتفق القبول لنفس من النفوس، ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب. والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما حصل للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى فقال: وعلمناه من لدنا علما

ثم قال عليه الرحمة: فإذا أراد الله بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس الكلي الذي هو اللوح. فيظهر فيها أسرار بعض المكونات. وينتقش فيها معاني تلك المكونات. فيعبر النفس عنها كما يشاء إلى من يشاء من عباده.

[ ص: 4098 ] وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدني. وما لم تبلغ النفس هذه الرتبة لا يكون حكيما. لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : و: يؤتي الحكمة من يشاء من عباده: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب وهم الواصلون مرتبة العلم اللدني، المستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعلم. فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا، ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.

ثم قال عليه الرحمة: اعلم أن العلم اللدني هو سريان نور الإلهام. والإلهام يكون بعد التسوية. كما قال تعالى: ونفس وما سواها والتسوية تصحيح النفس والرجوع إلى فطرتها. وهذا الرجوع يكون على ثلاثة أوجه:

أحدها: تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.

والثاني: الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة فقال: « من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم » .

والثالث: التفكر. فإن النفس، إذا تعلمت وارتاضت بالعلم والعمل، ثم أخذت تتفكر بمعلوماتها، بشرط التفكر، ينفتح عليه باب الغيب. كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التجارة، ينفتح عليه أبواب الربح. وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران. فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا. كما قال صلى الله عليه وسلم: « تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة » انتهى ملخصا.

وفي خلال كلامه عليه الرحمة، جمل من إشارات الصوفية وعباراتهم. ولا يأباها العقل [ ص: 4099 ] السليم ولا قواعد العلم الظاهر. لأنها في هذه المثابة بدرجة الاعتدال والتوسط. كذلك كان مشربه قدس الله سره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[83] ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا .

ويسألونك عن ذي القرنين وهو الإسكندر الكبير المقدوني وسنذكر وجه تلقيبه بذلك: قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي: نبأ مذكورا معجزا، أنزله الله علي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا .

إنا مكنا له في الأرض أي: بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة وآتيناه من كل شيء سببا أي: طريقا موصلا إليه. والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] فأتبع سببا [86] حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا .

فأتبع سببا قرئ بقطع الهمزة وسكون التاء. وقرئ بهمزة الوصل وتشديد التاء. فقيل هما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد. وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين. والتقدير: فأتبع سببا سببا آخر. أو فأتبع أمره سببا كقوله: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة

[ ص: 4100 ] وقال أبو عبيدة: (اتبع) بالوصل في السير (وأتبع) بالقطع معناه اللحاق كقوله: فأتبعه شهاب ثاقب وقال يونس : (أتبع) بالقطع للجد الحثيث في الطلب وبالوصل مجرد الانتقال. والفاء في قوله: فأتبع فاء الفصيحة. أي: فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله، لقوله: حتى إذا بلغ مغرب الشمس أي: أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض: وجدها تغرب في عين حمئة أي: ذات حمأة وهو الطين الأسود، وقرئ (حامية) أي: حارة. وقد تكون جامعة للوصفين و(وجد) يكون بمعنى رأى لما ذكره الراغب: ووجد عندها قوما أي: أمة. ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره بهم، وحكمه فيهم وجعل له الخيرة في شأنهم، بقوله: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب أي: بالقتل وغيره: وإما أن تتخذ فيهم حسنا بالعفو.
ثم بين تعالى عدله وإنصافه، ليحتذى حذوه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[87] قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا .

قال أما من ظلم أي: بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال: فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه أي: في الآخرة: فيعذبه عذابا نكرا أي: منكرا لم يعهد مثله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[88] وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا .

وأما من آمن وعمل صالحا فله أي: في الدارين: جزاء الحسنى يقرأ بالرفع [ ص: 4101 ] والإضافة. وهو مبتدأ، أو مرفوع بالظرف أي: فله جزاء الخصلة الحسنى. يقرأ بالرفع والتنوين و: " الحسنى " بدل أو خبر مبتدأ محذوف. ويقرأ بالنصب والتنوين. أي: فله الحسنى جزاء. فهو مصدر في موضع الحال. أي: مجزيا بها. أو هو مصدر على المعنى. أي: يجزي بها جزاء أو تمييز. ويقرأ بالنصب من غير تنوين. وهو مثل المنون إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. أفاده أبو البقاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] ثم أتبع سببا [90] حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا .

ثم أتبع سببا أي: طريقا راجعا من مغرب الشمس، موصلا إلى مشرقها. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا أي: من المباني والجبال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[91] كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا .

كذلك أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم، كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم. أو صفة مصدر محذوف لـ (وجد) أي: وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة. أو معمول (بلغ) أي: بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله. أو صفة (قوم) أي: على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس، في الكفر والحكم: وقد أحطنا بما لديه خبرا أي: علما. نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه. لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم [ ص: 4102 ] وتقطعت بهم الأرض. وفي التذييل بهذا، إشارة إلى كثرة ما لديه من العدد والعدد، بحيث لا يحيط بها إلا علمه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[92] ثم أتبع سببا [93] حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا .

ثم أتبع سببا أي: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب.

حتى إذا بلغ بين السدين قرئ بفتح السين وضمها. أي: بين الجبلين اللذين سد ما بينهما: وجد من دونهما قوما أي: من ورائهما أمة من الناس: لا يكادون يفقهون قولا لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا [95] قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما .

قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض أي: في أرضنا بالقتل والإضرار: فهل نجعل لك خرجا أي: جعلا نخرجه من أموالنا. وقرئ ((خراجا)) وهو بمعناه: على أن تجعل بيننا وبينهم سدا أي: حاجزا يمنع خروجهم علينا.

قال ما مكني فيه ربي خير أي ما جعلني فيه مكينا من المال والملك، أجل مما تريدون بذله. فلا حاجة بي إليه: فأعينوني بقوة أي: بعملة وصناع وآلات: أجعل بينكم وبينهم ردما أي: حاجزا حصينا. وأصل معنى الردم سد الثلمة بالحجارة ونحوها.
[ ص: 4103 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا [97] فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [98] قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

آتوني زبر الحديد أي: ناولوني قطعه: حتى إذا ساوى بين الصدفين أي: بين جانبي الجبلين: قال انفخوا أي: في الأكوار والحديد: حتى إذا جعله أي: المنفوخ فيه: نارا أي: كالنار بالإحماء: قال آتوني أفرغ عليه قطرا أي: نحاسا مذابا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد.

فما اسطاعوا أن يظهروه أي: يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته: وما استطاعوا له نقبا لثخنه وصلابته.

قال هذا أي: السد: رحمة من ربي على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم: فإذا جاء وعد ربي بدحره وخرابه: جعله دكاء بالمد أي: أرضا مستوية، وقرئ ((دكا)) أي: مدكوكا مسوا بالأرض وكان وعد ربي حقا أي: كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .

تنبيهات:

الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير.

[ ص: 4104 ] فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض . ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا. لما له من خفي الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.

ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر، فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.

ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق . وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.

ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.

وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجهه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.

ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال ، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله: قال أما من ظلم إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.

[ ص: 4105 ] ومنها: أن على الملك، إذا اشتكي إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.

ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته ، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته. كما تأبى الإسكندر تفضلا وتكرما.

ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام . كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم: ما مكني فيه ربي خير كقول سليمان : فما آتاني الله خير مما آتاكم وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.

ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقا في العمل ونصحا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.

ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطا لمهمتهم وتجرئة لهم وترويحا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم العمال الأتعاب. ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: آتوني أفرغ عليه قطرا

ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال: هذا رحمة من ربي

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-07-2024, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4106 الى صـ 4120
الحلقة (445)





[ ص: 4106 ] ومنها الإعلام بالدور الأخروي، وانقضاء هذا الدور الأولي، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي. ولذا قال: فإذا جاء وعد ربي

ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار . فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليا حسن سجاياه وسمو مزاياه. من الشجاعة وعلو الهمة والعفة والعدل. ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين. والإحسان إلى النوع البشري، ولا سيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة، وحشية فاسدة.

ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمما متباينة. كما كان يرمي إليه سعي الإسكندر. فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد. وقد حكي أنه كان يجيش من كل أمة استولى عليها، جيشا عرمرما، يضيفه إلى جيشه المكدوني اليوناني. ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم، لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.

ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد. يقضي على المرء أن يعيش أولا طفلا مرضعا. لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له. وعرضة لأسقام تذيقه الآلام، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئا من هذا النظام. فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه، إلى ما خلق لأجله، ترعرع إنسانا عظيما ظافرا بمنتهى أمله.

التنبيه الثاني: في ذي القرنين . اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فيلبس، وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في الكلام على الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما [ ص: 4107 ] قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين.

فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدوني، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له.

وكان أرسطاطاليس وزيره. وكان مشركا يعبد الأصنام. انتهى. كلامه.

وفيه نظر. فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا. وأما دعوى أنه كان مشركا يعبد الأصنام، فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين، لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس. وقد جاء في ترجمته -كما في طبقات الأطباء وغيرها- أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك. فلما أحس بذلك شخص عن أثينا. لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون. فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم. وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام. وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها. فثوروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله. فأودعه السجن ليكفهم عنه. ثم لم يرض المشركون إلا بقتله. فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كما في (طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة) فالوثنية، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه. كالنجاشي ملك الحبشة. فإنه جاهر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى. وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله. فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس -أستاذ [ ص: 4108 ] سقراط - يقول ببقاء النفس وكونها، فيما بعد، في ثواب أو عقاب. على رأي الحكماء الإلهيين. فتأمل قوله (على رأي الحكماء الإلهيين) يتحقق ما ذكرناه.

وأما قول الفخر الرازي : إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويا. وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق. وذلك مما لا سبيل إليه فلا يخفى دفع هذا اللزوم. فإن من كان تابعا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه. إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه. وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدا. أفلا يمكن أن يكون حرا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق. ومن آتاه الله من الملك ما آتاه، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. هذا على فرض أن متبوعه مذموم. وقد عرفت أن متبوعه أعني: أرسطاطاليس ، كان موحدا. وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه. على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بهما كمالا. وللرازي فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم، وهذه منها. وإن صبغها -سامحه الله- في هذا الأسلوب. عرف ذلك من عرف.

التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين . فقيل لأنه طاف قرني الدنيا. يعني جانبيها شرقها وغربها. أو لأنه كان له قرنان أي: ضفيرتان. أو لأنه ملك الروم وفارس.

قال الزمخشري : ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه.

أقول: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان. لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها. والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود، [ ص: 4109 ] الذين هم السائلون. وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: (فإذا أنا بكبش واقف عند النهر. وله قرنان)، ثم قوله: (وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها. وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه)، قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان. والتيس رمز إلى مملكة اليونان. وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير . وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد من الغارات المتواصلة. قوله: (خرج من المغرب) إشارة إلى خروجه من مكدونية التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره. وتعقبه إلى داخل مملكته. والقصد أن هذا اللقب (ذو القرنين) شهير وليس من أوضاع العرب خاصة. كما زعمه بعضهم. بل هو معروف عند العبرانيين أيضا. وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب. وأقرتهم عليها.

التنبيه الرابع: قال الرازي : اختلفوا في ذي القرنين. هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال: إنه كان نبيا. واحتجوا عليه بوجوه:

الأول: قوله: إنا مكنا له في الأرض والأولى حمله على التمكين في الدين. والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.

الثاني: قوله: وآتيناه من كل شيء سببا ومن جملة الأشياء النبوة.

فمقتضى العموم في قوله: وآتيناه من كل شيء سببا هو أنه تعالى آتاه من النبوة سببا.

الثالث: قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبيا.

ومنهم من قال إنه عبد صالح وما كان نبيا. انتهى.

ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين على أنه تعالى تكلم معه [ ص: 4110 ] من غير واسطة. وذلك يدل على أنه كان نبيا. وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء- فهو عدول عن الظاهر. انتهى.

ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص. وأما تعمق الجري وراء العمومات، لاستفادة مثل ذلك، فغير مقنع.

وأما قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم. لا أنه قول مشافهة. وإلا لو كان ذلك لكان مخيرا منه تعالى وملقنا ما يفعل بهم. فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة. لأنا نقول به، ما لم يمنع منه مانع، من نحو ما ذكرناه. وللتنزيل الكريم أسلوب خاص، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين ذهابا في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع، ومن الإلهام، لكان قريبا. فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام. ويطلق الصوفية على مثله الوارد. وجاء في الحديث تسمية صاحبه محدثا. وإطلاق النبوة عليه، وإن كان محظورا في الإسلام، إلا أنه كان معروفا قبله في العباد الأخيار.

التنبيه الخامس: حكي في قوله تعالى: ويسألونك عن ذي القرنين قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم. ورجح الأول من وجهتين:

أولهما: أن للإسكندر عند اليهود شأنا وقدرا. وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس ، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة. فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسر وأحسن إلى اليهود. وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.

[ ص: 4111 ] ثانيهما: أن عنوان ( ذو القرنين ) من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم.

التنبيه السادس: قالوا المراد بـ (العين الحمئة) البحر المحيط. وتسميته عينا لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى، كقطرة. وإن عظم عندنا. قالوا: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر. وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه. وهي لا تفارق فلكها.

وللإمام ابن حزم عليه الرحمة رأي آخر في الآية. ذكره في كتاب (الملل) في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول: (رأيتك في البحر)، تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر. وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل. ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان- مرئي مشاهد. ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك. وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس. يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف. وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم (عين) البتة. لا سيما أن تكون (عينا حمئة) حامية. وباللغة العربية خوطبنا. فلما تيقنا أنها (عين) بإخبار الله عز وجل، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، علمنا يقينا أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة. وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك. وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس، ليس يشغل من الأرض إلا مساحة جسمه فقط. قائما، أو قاعدا أو مضطجعا. ومن هذه صفته، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض، بمقدار مكان المغارب كلها، لو كان مغيبها في عين من الأرض. كما يظن أهل الجهل. ولا بد من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض، ومن نشر من أنشازها، ما يمنع الخط من التمادي، إلا أن يقول قائل: إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمى البحر في اللغة (عينا حمئة) ولا حامية. وقد أخبر [ ص: 4112 ] الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك. وأنها إنما هي من الفلك سراج. وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض فلو غابت في عين من الأرض، كما يظن أهل الجهل، أو في البحر، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك، وهذا هو الباطل. فصح يقينا، بلا شك، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب. لا سيما مع ما قام البرهان عليه، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض . وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى: وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس. انتهى كلام ابن حزم .

التنبيه السابع: قال الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان . وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.

وحكى محمد بن جرير الطبري في (تاريخه) أن صاحب أذربيجان ، أيام فتحها، وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر. فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.

وذكر ابن خرداد في كتاب (المسالك والممالك) أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه. فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه. فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد، مشدود بالنحاس المذاب، وعليه باب مقفل. ثم إن ذلك الإنسان، لما حاول الرجوع، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.

قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى كلام الرازي.

وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) جزء أول صحيفة (120) في تفنيد دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض ، ما مثاله. فإن قيل: ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج . ولا يدرى مكانه ولا مكانهم. قلنا: مكانه معروف في أقصى الشمال [ ص: 4113 ] في آخر المعمورة منه. وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى. وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد أرسطاطاليس في كتابه في (الحيوان) عند كلامه على الغرانيق. وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى (جغرافيا) وذكر طول بلادهم وعرضها. وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه. ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره. وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس. فهيهات خبر من خبر. وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد. فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه، لما ضر ذلك خبرنا شيئا. لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية. بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل. واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل، أو مجاهل. لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره. وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل. فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر. ونعوذ بالله من البلاء. انتهى كلام ابن حزم .

قال بعض المحققين: اعلم أنه كثيرا ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال. وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره. ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. أما قوله تعالى: قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه. لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله. ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا [ ص: 4114 ] السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة، لحظة واحدة أمام قدرة الله. بل يدكها جمعاء دكا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم. فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان، وكان هذا السد موجودا، دكه الله دكا، وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى. كالزلازل إذا قدم عهده. وكالثورات البركانية كما قلنا. وليس في الآية ما ينافي ذلك. وأما قوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ (الفتح) مجازا شائع في اللغة. ومنه قولك (فتحوا البلاد) وقوله تعالى: فتحنا عليهم أبواب كل شيء فليس للأشياء أبواب. وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم. بل هم من كل حدب ينسلون، والغالب أن المراد بخروجهم هذا، خروج المغول التتار، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض، بعد أن انتشروا فيها، من الإفساد والنهب والقتل والسبي. والراجح أن السد كان موجودا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا ، بين مدينتي دربند وخوزار . فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بــ(السد) وبه موضع يسمى (باب الحديد) وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب (بجبل قاف) وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم. ويظنون أنه في نهاية الأرض. وذلك بحسب ما عرفوه منها. ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج. انتهى.

وجاء في (صفوة الاعتبار) أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس ، هو [ ص: 4115 ] سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين . فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما. وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما. وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدما. بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية، من المغول والقبائل الشمالية. والسور الآن خراب في جهات كثيرة. فإن كان هو المراد بالسد في الآية. لزم حمل الصفات المذكورة فيه، من كونه من زبر الحديد، ومفرغا عليه النحاس، على بقاع من ذلك السور. والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور. كما تؤول صفات يأجوج ومأجوج، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية. ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة. ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع. وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم، هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك. كما في عهد جنكزخان ، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا، والله أعلم. انتهى.

وجاء في الجغرافية العمومية، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا ، بلاد القوقاسيين أي: أهالي كوه قاف، أي: جبل قاف: إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم، وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية. فالمجاز الأول وهو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم. ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء. وأما الأبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنهم مجاز دربند . على امتداد بحر الخزر .

ثم قال: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي (كوه قاف) تقتضي أن هذا الجبل كان مسدودا بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين وهذا السد العظيم تارة يعزى لإسكندر ، وتارة لأنو شروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن، ترى لمن يروم ذلك.

التنبيه الثامن: قال أبو البقاء : يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، لم ينصرفا للعجمة [ ص: 4116 ] والتعريف. ويجوز همزهما وترك همزهما. وقيل: هما عربيان فـ(يأجوج ) يفعول مثل يربوع. و(مأجوج ) مفعول مثل معقول. وكلاهما من (أج الظليم) إذا أسرع. أو من (أجت النار) إذا التهبت. ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث أي: للقبيلة كمجوس. فالكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. وعلى العجمة، لا يتأتى تصريفه. ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيا، كما في (تذكرة أبي علي).

قال الرازي: واختلفوا في أنهما من أي: الأقوام؟ فقيل: إنهما من الترك. وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة، انتهى.

وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز ، المعروف عند العرب بجبل قاف، في إقليم داغستان، قبيلتان. تسمى إحداهما (آقوق)، والثانية (ماقوق) فعربهما العرب بـ(يأجوج ومأجوج ) وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.

التنبيه التاسع: توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج . وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات. ومن ذلك حديث « إن يأجوج أمة ومأجوج أمة. كل أمة أربعمائة ألف أمة. لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه. كل قد حمل السلاح إلخ » رواه ابن عدي في (الضعفاء) عن حذيفة مرفوعا. وقال: موضوع منكر، ومحمد بن إسحاق العكاشي كذاب يضع، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

وقال الحافظ ابن جرير ههنا، عن وهب بن منبه، أثرا طويلا عجيبا، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له. وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم. وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم.

[ ص: 4117 ] وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها. انتهى.

فجزى الله البخاري أحسن الجزاء، على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار. ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: (أن راوي الضعاف غاش آثم مضل ) وبالله المستعان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[99] وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا .

وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا أي: نفخ فيه للبعث في النشأة الثانية. فجمعناهم للجزاء والحساب جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه.

قال إمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله الناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق، فإذا هم قيام ينظرون. وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم. أي: لأنه من عالم الغيب، أي: الأمور المغيبة عنا، التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[100] وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا .

وعرضنا جهنم أي: أظهرناها وأبرزناها: يومئذ أي: يوم إذ جمعنا الخلائق كافة: للكافرين أي: منهم. حيث جعلناهم بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا: عرضا أي: فظيعا هائلا لا يقادر قدره. قال أبو السعود : وتخصيص العرض بهم، مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة، لأن ذلك لأجلهم خاصة. وفي عرضها وإراءتهم ما فيها [ ص: 4118 ] من العذاب والنكال، قبل دخولها، مزيد غضب عليهم ونكاية. لكونه أبلغ في تعجيل الهم والحزن. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[101] الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا .

الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا تمثيل لتعاميهم عن الآيات الدالة على توحيده، أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها. ولتصامهم عن الحق واتباع الهدى. وقوله تعالى: وكانوا لا يستطيعون سمعا أبلغ من وكانوا صما لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به. وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع. أفاده الزمخشري . وفي توصيفهم بالجملتين نكتة أخرى، بها تعلم أنه لا يستغنى بالثانية عن الأولى، كما زعم، وذلك -كما حققه الشهاب- إن قوله تعالى: لا يستطيعون سمعا لما أفاد أنهم كفاقدي حاسة السمع، ومن هو كذلك إنما يعرف الذكر بإشارة أو كتابة أو نحوهما، مما يدرك بالنظر، وذكر أن أعينهم محجوبة عن النظر فيما يدل عليه أيضا. فهم لا سبيل لهم إلى معرفة ذكره أصلا. وهذا من البلاغة بمكان.

قال أبو السعود : والموصول يعني: (الذين) نعت للكافرين، أو بدل أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة، وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم. فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم في الدنيا من الآيات، وإعراضهم عنها، مع كونها أسبابا منجية عما ابتلوا به في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[102] أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نـزلا .

أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء هذا رجوع إلى [ ص: 4119 ] طليعة السورة في قوله تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا فهو من باب رد العجز على الصدر المقرر في البديع، جيء بالاستفهام الإنكاري، إنكارا لما وقع منهم وتوبيخا لهم. ومفعول (حسب) الثاني محذوف. أي: أفحسبوا اتخاذهم نافعا لهم؟: كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا كما قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم إنا أعتدنا أي: هيأنا: جهنم للكافرين نـزلا أي: شيئا يتمتعون به عند ورودهم. و (النزل) ما يقام للنزيل أي: الضعيف. وفيه استعارة تهكمية. إذ جعل ما يعذبون به في جهنم كالزقوم والغسلين، ضيافة لهم.

وقال أبو السعود : وفيه تخطئة لهم في حسبانهم، وتهكم بهم. حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء، من قبيل إعتاد العتاد، وإعداد الزاد، ليوم المعاد. فكأنه قيل: إنا أعتدنا لهم، مكان ما أعدوا لأنفسهم، من العدة والذخر، جهنم عدة. وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له. أي: لأن الضيف لا يستقر في منزل الضيافة. وينتقل إلى ما هو إهناء له في دار إقامته. فكان تنبيها على أنهم سيذوقون ما هو أشد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[103] قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا [104] الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [105] أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [106] ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .

قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا [ ص: 4120 ] أي: ضاع وبطل: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم أي: التي جاءت بالعمل بها رسلهم: ولقائه أي: بالبعث والحساب والجزاء: فحبطت أعمالهم لكفرهم المذكور: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا أي: فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا، لأن مداره الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة.

ذلك أي: الأمر ذلك. وقوله: جزاؤهم جهنم جملة مبينة له، أو ذلك مبتدأ، والجملة خبره، والعائد محذوف. أي: جزاؤهم به. أو جزاؤهم خبر وجهنم عطف بيان له: بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا أي: مهزوءا بهما. وذلك موجب لشدة المقت والغضب والنكال.
ثم بين ما لمقابلهم من الحسنى بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[107] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نـزلا [108] خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نـزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا أي: تحولا، لبلوغهم الكمال في نعيمها. فلا شوق لهم فيما وراءها. وفيه تنبيه على شدة رغبتهم فيها، وحبهم لها. مع أنه قد يتوهم، فيمن هو مقيم في مكان دائما، أنه يسأمه أو يمله. فأخبر أنهم، مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم متحولا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-07-2024, 07:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4121 الى صـ 4135
الحلقة (446)






القول في تأويل قوله تعالى:

[109] قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .

قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي أي: لكتابتها: لنفد البحر أي: مع [ ص: 4121 ] كثرته ولم يبق منه شيء: قبل أن تنفد كلمات ربي أي: لكونها غير متناهية، فلا تنفد نفاد المتناهي.

قال أبو السعود : وفي إضافة (الكلمات) إلى اسم الرب، المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى. وإظهار (البحر) و(الكلمات) في موضع الإضمار، لزيادة التقرير. وقوله تعالى: ولو جئنا بمثله مددا أي: بمثل البحر عونا وزيادة، لنفد أيضا.

قال أبو السعود : كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله، مع زيادة مبالغة وتأكيد، وهذا كقوله تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم

تنبيه:

دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء. وأن كلماته لا نهاية لها. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء. وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهاشمية والكرامية وأصحاب أبي معاذ. وطوائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم. فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كمال لا صفة نقص. ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة. فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته. بل كلامه مخلوق [ ص: 4122 ] منفصل عنه. والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة، ولا يكون بمشيئته. والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. مبتدعة مبنية على أصل واحد. وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل. والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب. والصواب في هذا الباب وغيره، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها؟ أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته . ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال، باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات، باطلة. هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان.

وقال أيضا في قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية: كلمات الله لا نهاية لها. وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل. فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له. فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[110] قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .

قل أي: لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي: خصصت بالوحي وتميزت عنكم به فمن كان يرجو [ ص: 4123 ] لقاء ربه أي: يخاف المصير إليه، أو يأمل لقاءه ورؤيته، أو جزاءه الصالح وثوابه: فليعمل عملا صالحا أي: في نفسه، لائقا بذلك المرجو، وهو ما كان موافقا لشرع الله: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي: من خلقه إشراكا جليا. كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. ولا إشراكا خفيا. كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به أجرا من المدح وتحصيل المال والجاه.

قال أبو السعود : وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين، مع التعرض لعنوان الربوبية، لزيادة التقرير، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي، ووجوب الامتثال فعلا وتركا.

ودلت الآية -كما قال ابن كثير - على أن للعمل المتقبل ركنين : كونه موافقا شرع الله المنزل، ومخلصا أريد به وجهه تعالى، لا يخلط به غيره. وتسمية الرياء شركا أصغر ، ثبت في السنة، وصح فيها حبوط العمل بالرياء. ودخول الرياء في الآية، باعتبار عموم معناها، وإن كان السياق في الشرك الجلي، للخطاب مع الجاحدين. والله تعالى هو الموفق والمعين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

19- سُورَةُ مَرْيَمَ


سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايمي : لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله ، وطلب بها إشراق نوره، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت، وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة، وآية وإن منكم إلا واردها

وقد روى محمد بن إسحاق ، في السيرة، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.

[ ص: 4125 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[1] كهيعص [2] ذكر رحمت ربك عبده زكريا [3] إذ نادى ربه نداء خفيا .

كهيعص سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف، المبتدأ بها. وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف. أي: هذا: كهيعص أي: مسمى به، وقوله تعالى: ذكر رحمت ربك عبده زكريا مبتدأ خبره محذوف. أي: فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي: هذا المتلو ذكرها و(زكريا) والد يحيى عليهما السلام. بدل من (عبده) أو عطف بيان له. قال المهايمي : أي: ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته. فأعطاه ولدا كاملا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيها من تقدمه. وذكرها لنا كبير هبة لنا، في تعريف مقام النبوة، وقدرة الله وعنايته بصفوته.

إذ نادى ربه نداء خفيا ظرف لـ (رحمة) أو بدل اشتمال من ( زكريا ) والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء، وهو إخفاؤه، لكونه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله:
[ ص: 4126 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[4] قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا .

قال رب إني وهن العظم مني أي: ضعف. قال الزمخشري : وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ: وهن بكسر الهاء وضمها: واشتعل الرأس شيبا قال الزمخشري : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ -باشتعال النار. ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا . فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في (اشتعل) بتشبيه انتشار المبيض في المسود باشتعال النار، كما قال ابن دريد في (مقصورته):


إما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا واشتعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جزل الغضا


والثانية مكنية. بتشبيه الشيب، في بياضه وإنارته، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل: إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار، في بياضه وانتشاره: ولم أكن بدعائك رب شقيا أي: ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت لم أعود منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة، إثر تمهيد ما يستدعي [ ص: 4127 ] الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعدما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا. لا يكاد يخيبه أبدا. لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره.

تنبيه:

استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحب فيه . فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله خفيا ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: واشتعل الرأس شيبا ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: ولم أكن إلخ كما قدمنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[5] وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا [6] يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .

وإني خفت الموالي من ورائي أي: الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ العباد، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين: وكانت امرأتي عاقرا أي: لا تلد من حين شبابها: فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب أي: هب لي ولدا، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثا، لي ولآل يعقوب، في العلم والنبوة. وفي قوله: من لدنك إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة. لعدم صلاحية زوجه للحمل. وتنويه به لكونه مضافا إلى الله تعالى، وصادرا من عنده. و(آل يعقوب) أولاده الأنبياء، عليهم السلام واجعله رب رضيا أي: مرضيا عندك قولا وفعلا.
ثم بين تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه:

[ ص: 4128 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[7] يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا .

يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا أي: مثلا وشبيها. وعن ابن عباس: لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص، ولم يهم بمعصية قط.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8] قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا .

قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا أي: حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل: إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر:


ومن العناء رياضة الهرم


قال الراغب .
القول في تأويل قوله تعالى:

[9] قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .

قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي: من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر، ثم وجدت.

قال الزمخشري : فإن قلت: لم طلب أولا، وهو وامرأته على صفة العتي والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا، ويرتدع المبطلون. وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا، كان في منهاج واحد، هو أن الله غني عن الأسباب . انتهى.

[ ص: 4129 ] وقال أبو السعود : إنما قال عليه السلام، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران، استعظاما لقدرة الله تعالى، وتعجيبا منها، واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة، لا استبعادا له. وقيل: كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. أي: أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل: كذلك. أي: يكون الولد وأنتما كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[10] قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

قال رب اجعل لي آية أي: علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل، ليطمئن قلبي: قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي: لا تقدر على تكليمهم، حال كونك سويا، بلا مرض في بدنك، ولا في لسانك.

لطيفة:

إنما ذكر الليالي هنا، و(الأيام) في آل عمران، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها.

والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء بـ(الليالي) هنا وبـ(الأيام) ثم، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيهم قمرية، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها، في التاريخ، كما ذكره النحاة، فأعطي السابق للسابق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

فخرج على قومه من المحراب أي: مصلاه أو غرفته: فأوحى إليهم أي: أشار إليهم رمزا: أن سبحوا بكرة وعشيا أي: صلوا لله طرفي النهار،
وقوله تعالى:

[ ص: 4130 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[12] يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا .

يا يحيى استئناف، طوى قلبه جمل كثيرة، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشر به، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا. فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي: قلنا يا يحيى : خذ الكتاب بقوة أي: تعلم التوراة والعلم بجد وحرص واجتهاد وآتيناه الحكم صبيا أي: الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير، وهو صبي،
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[13] وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا [14] وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا .

وحنانا من لدنا أي: وآتيناه حنانا: وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي: رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانا من الله عليه: وزكاة أي: طهارة من الذنوب، وعصمة بليغة منها: وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا أي: متكبرا عاقا لهما، أو عاصيا لربه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[15] وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

وسلام عليه أي: من الله: يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا أي: ليستقبل النعيم الأبدي. و(السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. [ ص: 4131 ] وفي ذكر الأحوال الثلاث، زيادة في العناية به، صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا .

واذكر في الكتاب أي: القرآن: مريم أي: نبأها: إذ انتبذت أي: اعتزلت وانفردت: من أهلها مكانا شرقيا أي: شرقي بيت المقدس. لئلا يشغلوها عن العبادة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17] فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا .

فاتخذت من دونهم حجابا أي: لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق: فأرسلنا إليها روحنا أي: جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا، لغاية كماله، لينفخ فيها: فتمثل لها أي: فتصور لرؤيتها: بشرا سويا أي: سوي الخلق، كامل الصورة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .

قالت إني أعوذ بالرحمن منك أي: أعتصم به منك. إنما خافته لانفرادها في خلوتها، وظنها أنه يريدها على نفسها. وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه: إن كنت تقيا أي: تتقي الله تعالى، وتبالي بالاستعاذة به. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه. أي: فإني عائذة به. أو فلا تتعرض لي. وإنما ذكرته بالله تعالى، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل . فخوفته أولا بالله عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[19] قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .

قال إنما أنا رسول أي: لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت. فإني رسول ربك [ ص: 4132 ] الذي استعذت به، بعثني إليك: لأهب لك غلاما زكيا أي: لأكون سببا في هبته. و(الزكي): الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا .

قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا أي: تعجبت من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ، أي: على أي صفة يوجد مني، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور؟.

قال الزمخشري : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: من قبل أن تمسوهن أو لامستم النساء والزنى ليس كذلك. إنما يقال فيه فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. وإنما اقتصر في سورة آل عمران على قوله: ولم يمسسني بشر، لكون هذه السورة متقدمة النزول عليها. فهي محل التفصيل. بخلاف تلك. فلذا حسن الاكتفاء فيها. وقيل: جعل المس ثم، كناية عنهما، على سبيل التغليب. و(البغي) الفاجرة التي تبغي الرجال. ووزنه (فعول) ولذا لم تلحقه التاء، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإن كان بمعنى فاعل كصبور. أو فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .

قال أي: الملك: كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس أي: [ ص: 4133 ] برهانا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه: ورحمة منا أي: عليك بهذه الكرامة، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده. وقوله: وكان أمرا مقضيا من تتمة كلام جبريل لمريم . يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه. وأنه كنى به عن النفخ في فرجها. كما قال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
القول في تأويل قوله تعالى:

[22] فحملته فانتبذت به مكانا قصيا .

فحملته فانتبذت به مكانا قصيا أي: لما صارت حاملا به، اعتزلت بسببه مكانا بعيدا من قومها، فرارا من القالة. وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها، عن الله تعالى، ما قال، مما تقدم استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله.

فدنا منها فنفخ في جيب درعها. فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بإذن الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[23] فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .

فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة أي: فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع [ ص: 4134 ] لتعتمد عليه وتستتر به. و(أجاء) -قال الزمخشري - منقول من (جاء) إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. وقرئ (المخاض) بكسر الميم وكلاهما مصدر (مخضت المرأة) إذا تحرك الولد في بطنها للخروج: قالت يا ليتني مت قبل هذا أي: الحمل: وكنت نسيا منسيا أي: شيئا تافها، شأنه أن ينسى ولا يعتد به. منسيا لا يخطر على بال أحد. وهو نعت للمبالغة. وإنما قالت ذلك، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام -قال الزمخشري - لأنه مقام دحض، قلما تثبت عليه الأقدام، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به- عيبا يعاب به ويعنف بسببه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .

فناداها من تحتها أي: من مكان أسفل منها، تحت أكمة، وهو جبريل. وقيل: هو عيسى ، وقرئ (من) بفتح الميم موصولة: ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا أي: سيدا نبيلا رفيعا، وقيل: نهرا يسري.
القول في تأويل قوله تعالى:

[25] وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .

وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا أي: حضر أوان اجتنائه. قال الزمخشري : فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان [ ص: 4135 ] الناس أنها من أهل العصمة، والبعد من الريبة، وأمن مثلها، مما قرفوها به، بمعزل. وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات، خارقة لما ألفوا واعتادوا حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26] فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا .

فكلي واشربي وقري عينا أي: بالكمال والولد المبارك، الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية. قال الزمخشري : أي: جمعنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله: فكلي واشربي وقري عينا أي: وطيبي نفسا ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك: فإما ترين من البشر أحدا أي: من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك: فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا أي: لا تكلميهم في أمرك شيئا. ولا تماديهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها، فقوله: صوما وقوله: فلن أكلم إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[27] فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا .

فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي: عظيما منكرا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-07-2024, 08:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ مَرْيَمَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4136 الى صـ 4150
الحلقة (447)




[ ص: 4136 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[28] يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا .

يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فريا. وهارون هو النبي الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى المشابه كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا .

فأشارت إليه قالوا منكرين لجوابها: كيف نكلم من كان في المهد صبيا ولم يعهد تكليم عاقل لصبي في المهد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[30] قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا [31] وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا .

قال إني عبد الله أنطقه الله بذلك. أولا تحقيقا للحق في شأنه وتنزيها لله تعالى عن الولد، ردا على من يزعم ربوبيته ونبوته: آتاني الكتاب أي: الإنجيل: وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت أي: كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقويم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو جعل الآتي، لا محالة، كأنه وجد: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا أي: أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.
[ ص: 4137 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [33] والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [34] ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون [35] ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [36] وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .

وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا أي: مستكبرا عن طاعته وأمره.

والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك أي: الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة: عيسى ابن مريم أي: لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني. حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه: قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي: ومن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟

وهذا كقوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه: وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي: قويم. من اتبعه رشد وهدي. ومن خالفه ضل وغوى.

[ ص: 4138 ] تنبيهات في فوائد هذه القصة:

الأول: لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدا زكيا طاهرا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وههنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. ومريم هي بنت عمران . من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.

الثاني: استدل بقوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها: يا ليتني مت قبل هذا على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى: وهزي إليك بجذع النخلة على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:


ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه
إليها، ولكن كل شيء له سبب


في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى: فأشارت إليه بعد: فلن أكلم اليوم إنسيا على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري ، قال: [ ص: 4139 ] ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى: ما كان أبوك امرأ سوء معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش .

الثالث: نقل الرازي عن القاضي في قوله تعالى: والسلام علي إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال.

الرابع: قال القاشاني : وإنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مر أن الوحي قريب من المنامات الصادقة ، لهذء القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا قلبا والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن مني الذكر في تكون الولد، بمنزلة الأنفحة في الجبن. ومني الأنثى بمنزلة اللبن ، أي: العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى. لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى. والمنعقدة في مني الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا [ ص: 4140 ] كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى، وكان مزاج كبدها حارا، كان المني المنفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى. فإذا اجتمعا في الرحم، كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمد الروحاني، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.

ثم قال في قوله تعالى: وكان أمرا مقضيا في اللوح مقدرا في الأزل. وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس. لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده كما قال: لأهب لك غلاما زكيا واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.

الخامس: التمثل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.

قال إمام الحرمين : تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه. لم يعده إليه بعد.

وجزم ابن عبد السلام : بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها [ ص: 4141 ] موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.

وقال البلقيني : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصلي. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. الظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.

ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه. فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع. وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.

السادس: قال بعضهم: أصل كلمة ( عيسى ): يسوع. فحرفه اليهود إلى (عيسو) تهكما فحوله العرب إلى ( عيسى ) تشبها باسم موسى . ولبدل الواو بالألف سبب مبني على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم .

فاختلف الأحزاب من بينهم أي: اختلف قول أهل الكتاب في عيسى ، بعد بيان أمره [ ص: 4142 ] ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنه: فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي: الحضور أو (الشهادة). وهذا معنى قول الزمخشري: أي: في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.

وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله: كبرت كلمة تخرج من أفواههم وفيه وعيد لهم وتهديد شديد. وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب بالحق لما جاءه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[38] أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين .

أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى: ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا الآية، أي: يقولون ذلك حين لا يجدي عنهم شيئا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى: لكن الظالمون اليوم أي: في الدنيا: في ضلال مبين [ ص: 4143 ] لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشري : أوقع الظاهر أعني (الظالمين) موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.

تنبيه:

إنما أول التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد أفاده الشهاب .

وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق . فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا. مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغني له أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات [ ص: 4144 ] ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقي الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[39] وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون [40] إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون .

وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر أي: فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه: وهم في غفلة أي: وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة: وهم لا يؤمنون أي: لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلو عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيده الخالص، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا [42] إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا .

واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه: نبيا إذ قال لأبيه أي: متلطفا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا أي: فلا يدفع ضرا ولا يجلب نفعا.

قال أبو السعود : ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه [ ص: 4145 ] أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا، قادرا على النفع والضر، مطيقا بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا .

يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك أي: وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل: فاتبعني أهدك صراطا سويا أي: معتدلا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايمي : أي: وإن كان حق الابن اتباع الأب في العرف ، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.

قال الزمخشري : ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا. فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.
[ ص: 4146 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[44] يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا .

يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ثلث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسول له، وقوله: إن الشيطان إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود .
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا .

يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن لكونك عصيته وواليت عدوه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان: فتكون للشيطان وليا أي: مقارنا له ومشاركا معه في عذابه.

قال الزمخشري : ربع عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب فذكر الخوف والمس ونكر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب. وصدر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: يا أبت توسلا إليه واستعطافا.
وقوله تعالى:

[ ص: 4147 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[46] قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا .

قال أي: أبوه مصرا على عناده لفرط غلوه في الضلال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ، لأنه كان أهم عنده. وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة، على ضرب من التعجب. كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلا عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.

وقوله: لئن لم تنته لأرجمنك تهديد متناه. أي: لئن لم تنته عن القول فيها، وعن نصحك، لأرجمنك بالحجارة: واهجرني مليا أي: تباعد عني زمانا طويلا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .

قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا أي: مبالغا في اللطف بي. وفي جوابه بقوله عليه السلام: سلام عليك مقابلة السيئة بالحسنة. كما قال تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي: لا أصيبك بمكروه بعد. ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال: واغفر لأبي قال الزمخشري : وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟

وفي (الإكليل): استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام .

[ ص: 4148 ] وقال ابن كثير : قد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام. وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك. حتى أنزل الله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله إلى قوله: إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به.
ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين إلى قوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم وقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .

وأعتزلكم أي: أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة: وما تدعون من دون الله أي: من أصنامكم.

قال الزمخشري : المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « الدعاء هو العبادة » . ويدل عليه قوله تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله [ ص: 4149 ] وأدعو ربي أي: أعبده وحده: عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا أي: خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم، مع التواضع لله بكلمة: عسى ، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا .

فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وذلك بالمهاجرة إلى الشام : وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا أي: جعلنا له بنين وحفدة، أنبياء قرت عينه بهم في حياته بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة.
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[50] ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا .

ووهبنا لهم من رحمتنا أي: ما عرف فيهم من النبوة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة: وجعلنا لهم لسان صدق عليا أي: ثناء حسنا. عبر باللسان عما يوجد باللسان. كما عبر بـ(اليد) عما يطلق باليد وهي العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم، وأن مجاهدتهم لا تخفى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا [52] وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا .

واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا بكسر اللام أي: أخلص العبادة [ ص: 4150 ] عن الشرك وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي: أخلصه الله، أي: اصطفاه، كما قال: إني اصطفيتك على الناس وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن أي: من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها: وقربناه نجيا أي: مناجيا، أي: كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .

ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ليشد أزره في أداء الرسالة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-07-2024, 08:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ مَرْيَمَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4151 الى صـ 4165
الحلقة (448)






القول في تأويل قوله تعالى:

[54] واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا [55] وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا .

واذكر في الكتاب إسماعيل وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلا. وقوله: إنه كان صادق الوعد تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه بقية الأنبياء، تشريفا له وإكراما. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به حيث قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقا، كما صرحت به الأخبار وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة أي: كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم. ولأنهم أولى من سائر الناس: وأنذر عشيرتك [ ص: 4151 ] الأقربين وأمر أهلك بالصلاة قوا أنفسكم وأهليكم نارا ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الديني أولى. أفاده الزمخشري . وكان عند ربه مرضيا أي: لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[56] واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا [57] ورفعناه مكانا عليا .

واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. فالعلو معنوي. أو رفعه بجسده حيا إلى السماء. قال الشهاب: قيل: والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه، كقوله:


وكن في مكان إذا ما سقطت تقوم ورجلاك في عافية


انتهى. ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين عن أنس في حديث المعراج; أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة. وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات. ويسمى في التوراة إيليا . ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم.
وقوله تعالى:

[ ص: 4152 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[58] أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا .

أولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. وما فيه من معنى البعد، للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وقوله تعالى: الذين أنعم الله عليهم أي: بفنون النعم الدينية والدنيوية: من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا أي: هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة. مع ما لهم من علو الرتبة. وسمو الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة .

قال ابن كثير : أجمع العلماء على مشروعية السجود ههنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد. وقال: هذا السجود فأين البكي .
ولما ذكر تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم، وما سينالهم، بقوله سبحانه:

[ ص: 4153 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[59] فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا .

فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وقرئ (الصلوات) بالجمع أي: المتضمنة للسجود والأذكار، المستدعية للبكاء. وإذا أضاعوها، فهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد: واتبعوا الشهوات أي: فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر: فسوف يلقون غيا أي: شرا. قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد . قال المرقش :


فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما


أي من يفعل خيرا، يحمد الناس أمره. ومن يفعل الشر لا يعدم اللوائم على فعله. وقيل: أراد الشاعر بالخير المال. وبالغي الفقر أي: ومن يفتقر. ومنه القائل:


والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي. ولأم المخطئ الهبل


أي الثكل. ويجوز أن يكون المعنى جزاء غي. كقوله تعالى: يلق أثاما أي: شرا وعقابا. فأطلق عليه كما أطلق الغي على مجازاته المسببة عنه، مجازا أو: غيا ضلالا عن طريق الجنة. فهو بمعناه المشهور.
[ ص: 4154 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[60] إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا [61] جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا .

إلا من تاب أي: عن ترك الصلوات واتباع الشهوات: وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب متعلق بمضمر العائد إلى الجنات. أو من عباده أي: وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب. أي: غائبة عنهم غير حاضرة. أو غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار. أو بمضمر هو سبب للوعد أي: وعدها إياهم بسبب إيمانهم، أفاده أبو السعود : إنه كان وعده مأتيا أي: لا يخلفه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[62] لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [63] تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا .

لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما أي: لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته. وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. قال الزمخشري رحمه الله: فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه . حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: وإذا مروا باللغو مروا كراما وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا.

[ ص: 4155 ] ومعنى: إلا سلاما أي: تسليما. تسليم الملائكة عليهم، أو بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع كما قال: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وهم المتصفون بشعب الإيمان، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن. ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم السلام ما قص، مثبتا له، وعقبه بما أحدثه الخلف، وذكر جزاءهم -عقبه بحكاية نزول جبريل عليه السلام، ردا لما زعمه المشركون من أنه كان يقلوه فلا يزوره، تسلية له صلى الله عليه وسلم، وإعلاما بأن الحال ليس على ما زعمه هؤلاء الخلف. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا .

وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا أي: ينسى شيئا ما، بل لا يفيض علما ولا ينزل ملكا إلا لحكمة يستعد لها الحال، أي: فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك. وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق، مضافا إلى ضميره عليه السلام، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم، ما لا يخفى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا .

رب السماوات والأرض وما بينهما أي: من التوابع والنجميات والسحب وغير ذلك. [ ص: 4156 ] قال بعض علماء الفلك: الآية تدل على أن السماوات أكثر من سبع. وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة، من أن السماوات عني بها الكواكب، والأرض كوكب منها. قال أبو السعود : الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى. فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان. وهو خبر محذوف. أو بدل من (ربك) فاعبده واصطبر لعبادته أي: اثبت لها على الدوام. وقوله: هل تعلم له سميا أي: مثلا وكفؤا، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه، فيفيض عليك مطلوبك. والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده. أي: إذا صح أن لا مثل له، ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بد من التسليم لأمره والقيام بعبادته، والاصطبار على مشاقها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا .

ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أأخرج بعد ما لبثت في القبر مدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .

أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا أي: قبل جعله ترابا ونطفة. وكان عدما صرفا لا وجود له في الأعيان. فلا تبعد إعادته.

قال أبو السعود : وفي الإظهار موضع الإضمار، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنخية بالقلع عن القول المذكور. وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان. أي: ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب، وأنعم عليه بخلق السماوات والأرض وما بينهما، ليعرف المنعم فيشكره، ويعبده فيجازى على فعله.
[ ص: 4157 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[68] فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .

فوربك لنحشرنهم والشياطين أي: لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق: ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا جمع جاث. من جثا إذا قعد على ركبتيه. وذلك لهول المطلع. فلا يستطيعون قياما. كقوله تعالى: وترى كل أمة جاثية
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا .

ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا أي: لنخرجن إلى النار، من كل فرقة، الذي هو أشد على الرحمن، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل عتيا أي: جراءة، بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .

ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وهم المنتزعون. فإنهم أولى الشيع. إذ ضلوا، لأجل لذات الدنيا وشهواتها. فصاروا أولى بالصلي بها. فيخصون بعذاب مضاعف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا .

وإن منكم إلا واردها أي: ليس أحد منكم، من بر وفاجر، إلا وهو يردها كان على ربك حتما مقضيا أي: حكما جزما مقطوعا به.
[ ص: 4158 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[72] ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

ثم أي: بعد الورود والإحضار للتعريف: ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا أي: لا يمكنهم التجاوز عنها.

قال الزمخشري : فيه دليل على أن المراد بالورود، الجثو حواليها. وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة، بعد تجاثيهم. وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[73] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا .

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما أي: موضعا ومكانا: وأحسن نديا أي: مجتمعا للقوم، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظا من الدنيا، لكونهم أحسن منازل وأرفع دورا وأعمر ناديا وأكثر طارقا وواردا، أي: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق؟ كما قال تعالى مخبرا عنهم: وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وقال قوم نوح: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون وقال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

وكذلك رد عليهم شبهتهم بقوله سبحانه:
[ ص: 4159 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[74] وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا .

وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا أي: متاعا: ورئيا أي: منظرا وهيئة من عظم الجاه، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئا. كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرقين:كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم و: ورئيا فعل بمعنى مفعول كالطحن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا .

قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا أي: من كان مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور. وهم المذكورون قبل، ومن شاكلهم فليمدد له الرحمن أي: يمد له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال. وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير. كما ينبئ عنه قوله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال. أي: فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، إما بعذاب يصيبه، وإما الساعة بغتة. وقد بين سبحانه غاية المد بقوله: حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا أي: فئة وأنصارا.
[ ص: 4160 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[76] ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .

ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات أي: الأعمال التي تبقى فوائدها: خير عند ربك ثوابا وخير مردا أي: مرجعا. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا .

أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين أي: في الآخرة: مالا وولدا أي: انظر إلى هذا القائل المجترئ على الغيب ما أكفره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا .

أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا أي: بذلك، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [80] ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

كلا سنكتب ما يقول أي: نحفظه عليه للمؤاخذة به: ونمد له من العذاب مدا بمضاعفته له، جزاء لاستهزائه.

ونرثه ما يقول أي: ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد، [ ص: 4161 ] فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه: ويأتينا فردا أي: في الحشر، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنيه وتأليه.

وقد روى البخاري : عن خباب رضي الله عنه، قال: كنت قينا -حدادا- في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت، ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس : فضرب الله مثله في القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[81] واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا .

واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا أي: ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل، وشفعاء عنده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[82] كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .

كلا أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا: سيكفرون بعبادتهم أي: ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة: ويكونون عليهم ضدا أي: يريدون إهلاكهم، إذا أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك، كما قال تعالى: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك [ ص: 4162 ] فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون قيل: المراد بالآلهة من عبد من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل: الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل: الأعم منهما، وهو الأظهر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[83] ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين أي: بأن سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم: تؤزهم أزا أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي، بالتسويلات وتحبيب الشهوات، تهيجا شديدا.

قال الزمخشري : الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسول لهم. فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

فلا تعجل عليهم أي: بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. و(الفاء) للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهي عنه، محوجة إلى النهي. يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى: إنما نعد لهم عدا تعليل لموجب النهي، ببيان اقتراب هلاكهم. أي: إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، ونحوه قوله تعالى: ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار

[ ص: 4163 ] قال الشهاب: العد كناية عن القلة. وقلته لتقضيه وفنائه، كما قال المأمون (ما كان ذا عدد، ليس له مدد، فما أسرع ما نفد) ولا ينافي هذا ما مر أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي: يطول. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل:


إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى
يعد عليه اللفظ والنفس
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا .

يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي: وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم، المزور والزائر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[86] ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا .

ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا أي: عطاشا. وفي ذكرهم بالسوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم. كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورد: الذهاب إلى الماء، ويطلق على الذاهبين إليه. وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[87] لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا .

لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا الضمير لأصنامهم المتقدم ذكرها في قوله: واتخذوا من دون الله آلهة رد على عابديهم في دعواهم [ ص: 4164 ] أنهم شفعاؤهم عند الله. واتخاذ العهد هو الإيمان والعمل الصالح. أي: لكن من آمن وعمل صالحا فإنه يشفع للعصاة على ما وعد الله تعالى. وجوز أن يكون العهد بمعنى الإذن والأمر. يقال: أخذت الإذن في كذا واتخذته بمعنى. من باب عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به. أي: لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة، المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ونحو هذه الآية قوله تعالى: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوة له، مهولا لأمرها. وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابنا أو بنتا له، تعالى وتقدس- عطف قصته على قصته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[88] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا [89] لقد جئتم شيئا إدا .

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا أي: عظيما منكرا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل.
ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه:

[ ص: 4165 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[90] تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا [91] أن دعوا للرحمن ولدا [92] وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [93] إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا .

تكاد السماوات يتفطرن منه أي: يتشققن: وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن أي: لأن: دعوا للرحمن ولدا وذلك لغيرتها على المقام الرباني الأحدي أن ينسب له ما ينزه عنه ويعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما تكون من الحي الذي له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء، وهو سبحانه تنزه عن ذلك، كما قال: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا أي: مملوكا له يأوي إليه بالعبودية والذل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] لقد أحصاهم وعدهم عدا [95] وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .

لقد أحصاهم وعدهم أي: حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا أي: منفردا مجردا من الأتباع والأنصار، وعمن زعم أنه له من الشفعاء. فإنهم منهم برآء.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-07-2024, 08:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4166 الى صـ 4180
الحلقة (449)






ولما فصل مساوئ الكفرة، تأثره بمحاسن البررة، فقال سبحانه:

[ ص: 4166 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا .

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي: يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم : معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال: والود والمحبة سواء. آتيت فلانا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم: وددت لو كان كذا. أي: أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي: محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم : وهذا القول الثاني أولى لوجوه:

أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟

وثانيها: أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين؟

وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازي التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[97] فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .

فإنما يسرناه بلسانك أي: سهلنا هذا القرآن بلغتك: لتبشر به المتقين أي: الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، بالجنة: وتنذر به قوما لدا أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش . فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق واللدد شدة الخصومة. والباء في قوله: بلسانك بمعنى على. أي: على لغتك. أو ضمن (التيسير) معنى (الإنزال) أي: يسرنا القرآن، منزلين له بلغتك، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه.

قال الزمخشري : هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال: بلغ هذا المنزل، أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه إلخ، أي: فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.

[ ص: 4167 ] وقال الرازي : بين به بهذا، عظيم موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم، وقد ذكرهم بأبلغ وصف شيء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.

ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[98] وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .

وكم أهلكنا قبلهم من قرن أي: قوم لد، مثل هؤلاء، إهلاكا عظيما: هل تحس منهم من أحد أي: تشعر به وتراه: أو تسمع لهم ركزا أي: صوتا خفيا.

والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يتداركوا بالتوبة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

20- سُورَةُ طَهَ


وهي مكية. وقيل: إلا قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون الآية. وقوله: ولا تمدن عينيك الآية، وآياتها مائة وخمس وثلاثون.

[ ص: 4169 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] طه [2] ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [3] إلا تذكرة لمن يخشى .

طه قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيم رحمه الله على نكتة أخرى في (الكافية الشافية) بقوله:


وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ ــرفها ترى سرا عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى
في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخبارا به عنها. وفي
هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها
لا غيرها، والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ
أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضا ومع حم مع
يس وافهم مقتضى الفرقان


ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا و(الشقاء) في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.

وقوله تعالى: إلا تذكرة لمن يخشى أي: تذكيرا له. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية [ ص: 4170 ] في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: فلا يكن في صدرك حرج ، فلعلك باخع نفسك على آثارهم ، ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، وهذه الآية من هذا الباب أيضا.

وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة ، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[4] تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [5] الرحمن على العرش استوى .

تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: على العرش استوى أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير . وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازا عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلا.

وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا.

قال ابن كثير : والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث; من أن العرش جرم حقيقي موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام.
[ ص: 4171 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[6] له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى .

له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى .

وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8] الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .

الله أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[9 - 10] وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى .

وهل أتاك حديث موسى من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر [ ص: 4172 ] التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبي لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: وإن تجهر بالقول إلخ لقوله بعد: وسع كل شيء علما أولهما معا. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصدا بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضل الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا، كما قصه تعالى بقوله: إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا أي: أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه: لعلي آتيكم منها بقبس أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: أو أجد على النار هدى أي: هاديا يدلني على الطريق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] فلما أتاها نودي يا موسى [12] إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى .

فلما أتاها أي: النار: نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك (وطوى): اسم للوادي.
[ ص: 4173 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[13] وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [14] إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [15] إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى .

وأنا اخترتك أي: اصطفيتك للنبوة: فاستمع لما يوحى أي: للذي يوحى. أو للوحي. ثم بينه بقوله: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني أي: خصني بالعبادة: وأقم الصلاة لذكري أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود : خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: لذكري أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون ذاكرا لي غير ناس. انتهى.

ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره . بقوله: إن الساعة آتية أي: واقعة لا محالة: أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بـ(آتية). ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي (كاد) معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه:

أحدها: أن (كاد) منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: عسى أن يكون قريبا أي: هو قريب.

ثانيها: قال أبو مسلم : (أكاد) بمعنى أريد كقوله: كذلك كدنا ليوسف

[ ص: 4174 ] ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد)، أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب : تفسير (أكاد) بـ(أريد) هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في (المحتسب) عن الأخفش . واستدلوا عليه بقوله:


كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى


بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة.

ثالثها: أن (أكاد) صلة في الكلام. قال زيد الخيل :


سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس


رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إجمالا ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى .

فلا يصدنك عنها أي: عن تصديق الساعة: من لا يؤمن بها واتبع هواه أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: فتردى أي: فتهلك.

قال الزمخشري : يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطم على الكفرة، ولا هم أشد له نكيرا من البعث. فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى [ ص: 4175 ] واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[17] وما تلك بيمينك يا موسى [18] قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى .

وما تلك بيمينك يا موسى شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: قال هي عصاي أتوكأ عليها أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة: وأهش بها على غنمي أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: ولي فيها مآرب أخرى أي: حاجات أخر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[19] قال ألقها يا موسى [20] فألقاها فإذا هي حية تسعى [21] قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى .

قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك.
[ ص: 4176 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[22] واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى [23] لنريك من آياتنا الكبرى .

واضمم يدك إلى جناحك أي: إبطك: تخرج بيضاء أي: نيرة: من غير سوء أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري ; أن قوله تعالى: من غير سوء كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجاجة. فكان جديرا بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحر للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى، آية أخرى أي: معجزة أخرى غير العصا: لنريك من آياتنا الكبرى متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولا بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] اذهب إلى فرعون إنه طغى .

اذهب إلى فرعون تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود .

وقوله تعالى: إنه طغى أي: جاوز الحد في التكبر والعتو، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات.
[ ص: 4177 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[25] قال رب اشرح لي صدري [26] ويسر لي أمري [27] واحلل عقدة من لساني [28] يفقهوا قولي .

قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمردا وكفرا، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يمد بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا وقول فرعون : ولا يكاد يبين ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ، ليكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] واجعل لي وزيرا من أهلي [30] هارون أخي [31] اشدد به أزري .

واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري أي: قو به ظهري.
[ ص: 4178 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وأشركه في أمري [33] كي نسبحك كثيرا [34] ونذكرك كثيرا [35] إنك كنت بنا بصيرا .

وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون -لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر: إنك كنت بنا بصيرا أي: عالما بأحوالنا، وبأن المدعو به مما يفيدنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [37] ولقد مننا عليك مرة أخرى .

قال قد أوتيت سؤلك يا موسى أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: ولقد مننا عليك مرة أخرى كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود .

وقوله تعالى: مرة أخرى أي: في وقت آخر.
[ ص: 4179 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[38] إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى [39] أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني .

إذ أوحينا أي: ألقينا بطريق الإلهام: إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت أي: الصندوق: فاقذفيه في اليم أي: البحر، متوكلة على خالقه: فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي لدعواه الألوهية: وعدو له لدعوته إلى نبذ ما يدعيه.

قال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته -أن لا تخطئ جرية اليم، الوصول به إلى الساحل، وإلقاءه إليه- سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: فليلقه اليم بالساحل أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: وألقيت عليك محبة مني أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون : ولتصنع على عيني أي: ولتربى بيد العدو على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: و(على) بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى .

إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله أي: يضمن حضانته ورضاعته.

[ ص: 4180 ] فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: وحرمنا عليه المراضع فجاءت أخته فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فجاءت بأمه كما قال: فرجعناك إلى أمك أي: مع كونك بيد العدو: كي تقر عينها أي: برؤيتك: ولا تحزن أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.

ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: وقتلت نفسا أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: فنجيناك من الغم أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين . وقال له ذلك الرجل الصالح: لا تخف نجوت من القوم الظالمين وفتناك فتونا أي: ابتليناك ابتلاء. على أن (الفتون) مصدر كالشكور، أو ضروبا من الفتن على أنه جمع (فتنة) أي: فجعلنا لك فرجا ومخرجا منها. وهو إجمال لما سبق ذكره.

فلبثت سنين في أهل مدين أي: معزز الجانب مكفي المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيهم عليه السلام: ثم جئت على قدر يا موسى أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة،جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري; أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء.

قال أبو السعود : وقوله تعالى: يا موسى تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-07-2024, 08:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,808
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4181 الى صـ 4195
الحلقة (450)






وقوله تعالى:

[ ص: 4181 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[41] واصطنعتك لنفسي [42] اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .

واصطنعتك لنفسي تذكير لقوله تعالى: وأنا اخترتك وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه، و(الاصطناع) افتعال من (الصنع) بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلانا لنفسه، أي: جعله محلا لإكرامه باختياره وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود : والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وفتناك ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ (النفس) اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى (الاصطناع) و(الاستخلاص). ثم بين ما هو المقصود بـ(الاصطناع) بقوله سبحانه: اذهب أنت وأخوك بآياتي أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: ولا تنيا في ذكري أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] اذهبا إلى فرعون إنه طغى [44] فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى .

اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بين ذلك في قوله تعالى: فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى وبمثل ذلك [ ص: 4182 ] أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد -مع علمه بأنه لا يؤمن- إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [46] قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى .

قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أي: يبادرنا بالعقوبة: أو أن يطغى أي: يزداد طغيانا بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري . وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، بابا من حسن الأدب، وتحاشيا عن التفوه بالعظيمة: قال لا تخافا أي: من فرطه وطغيانه: إنني معكما أي: بالحفظ والنصرة: أسمع وأرى أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميما لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تم الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدو.
[ ص: 4183 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[47] فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى .

فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: ولا تعذبهم أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: قد جئناك بآية من ربك أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: والسلام على من اتبع الهدى أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يخفى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .

إنا قد أوحي إلينا أي: من ربنا: أن العذاب على من كذب أي: بآياته تعالى: وتولى أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] قال فمن ربكما يا موسى [50] قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .

قال أي: فرعون: فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. [ ص: 4184 ] وهذه الآية في معناها كآية: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وآية: وهديناه النجدين
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] قال فما بال القرون الأولى [52] قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .

قال أي: فرعون: فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح بابا للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: في كتاب تمثيلا لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علما ثابتا لا يتغير، بمن علم شيئا وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلا، فيكون قوله: لا يضل ربي ولا ينسى ترشيحا للتمثيل، واحتراسا أيضا. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه.

فـ(الكتاب) على هذا بمعناه اللغوي. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ.
وقوله تعالى:

[ ص: 4185 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[53] الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى .

الذي جعل لكم الأرض مهدا أي: فراشا: وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى أي: أصنافا من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع.

لطيفة:

جعل الزمخشري قوله تعالى: فأخرجنا من باب الالتفات. وناقشه الناصر; بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا إلى قوله: فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون من باب قول خواص الملك: (أمرنا وعمرنا) وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتا أيضا. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله: ولا ينسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر وهو; أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه، أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى . فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر.
وقوله تعالى:

[ ص: 4186 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[54] كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [55] منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى .

كلوا وارعوا أنعامكم حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول: إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها أي: من الأرض: خلقناكم أي: خلقنا أصلكم وهو آدم . أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: وفيها نعيدكم أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: ومنها نخرجكم تارة أخرى أي: بردهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، بقوله سبحانه:
لقول في تأويل قوله تعالى:

[56] ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [57] قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى .

ولقد أريناه آياتنا كلها أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى أي: مستويا واضحا يجمعنا.
[ ص: 4187 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[59] قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [60] فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى .

قال موعدكم يوم الزينة وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: وأن يحشر الناس ضحى أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفا لا سترة فيه: فتولى فرعون أي انصرف عن المجلس: فجمع كيده أي: ما يكيد به موسى ، من السحرة وأدواتهم: ثم أتى أي: الموعد ومعه ما جمعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[61] قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى [62] فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى [63] قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى .

قال لهم موسى أي: مقدما لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: فيسحتكم أي: يستأصلكم: بعذاب أي: هائل لغضبه عليكم: وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا أي: بطريق التناجي والإسرار: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى أي: بمذهبكم [ ص: 4188 ] الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، بجعله عبدا لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: المثلى تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون.

لطيفة:

في قوله تعالى: إن هذان لساحران قراءات:

الأولى: " إن هذين لساحران " بتشديد النون من (إن) و(هذين) بالياء وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على السنن المشهور في عمل (إن).

الثانية: إن هذان لساحران بتحفيف إن وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى (إلا) و(إن) قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله:


أمس أبان ذليلا بعد عزته وما أبان لمن أعلاج سودان


والثالثة: إن هذان لساحران بتشديد (إن) و(هذان) بالألف. وخرجت على أوجه:

أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون. قال قائلهم:


تزود منا بين أذناه طعنة


[ ص: 4189 ] وقال آخر:


إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها


وثانيها: إن (إن) بمعنى (نعم) حكاه المبرد . واستدل بقول الراجز:


يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياني وأمهنه
وقل لهن: إن أن إنه أقسم بالله لتفعلنه


وقول عبد الله بن قيس الرقيات :


ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه


ورد على المبرد أبو علي الفارسي ، بأنه لم يتقدم ما يجاب بـ(نعم) وأجاب الشمني، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمني. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محط الجواب قوله: فأجمعوا كيدكم إلخ، وما قبله توطئة. وقد رد في (المغني) هذا التخريج; بأن مجيء (نعم) شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدماميني ; بأن سيبويه والحذاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: لساحران لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع (إن) التي بمعنى (نعم) لشبهها بالمؤكدة لفظا.

وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة.

[ ص: 4190 ] وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو (هذا) جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيا، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين:

أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: إحدى ابنتي هاتين مع أن هاتين تثنية (هاتا) وهو مبني.

والثاني: أن (الذي) مبني وقد قالوا في تثنيته اللذين في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: ربنا أرنا اللذين أضلانا وأجاب الأول; بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة (ابنتي) قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: إن هذان لساحران أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في " هذان " للألف في " ساحران " . وأجاب عن الثاني بالفرق بين (اللذان) وهذان بأن اللذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه (بالزيدان) وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قال رحمه الله: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إن هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه.

أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟.

والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟.

[ ص: 4191 ] والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.

والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش . ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: " عتى حين " ، على لغة هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين ملخصا.

هذا حاصل ما في (المغني) و (الشذور) و (حواشيهما) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى .

فأجمعوا كيدكم تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود . وقوله تعالى: ثم ائتوا صفا أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: وقد أفلح أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: اليوم من استعلى أي: علا وغلب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى [66] قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .

قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا [ ص: 4192 ] فإذا حبالهم وعصيهم أي: التي ألقوها: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى أي: حيات تسعى على بطونها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] فأوجس في نفسه خيفة موسى [68] قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى [69] وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .

فأوجس أي: أحس: في نفسه خيفة موسى وذلك لما جبل عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حية: قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا أي: تلتقطه بفمها: إنما صنعوا كيد ساحر في مقابلة آية ربانية: ولا يفلح الساحر حيث أتى أي: لا يفوز بمطلوبه، أي مكان جاء لدفع الحق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى [71] قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى .

فألقي السحرة سجدا أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فألقي السحرة سجدا، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: قالوا آمنا برب هارون [ ص: 4193 ] وموسى قال أي فرعون: آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي: من جانبين متخالفين: ولأصلبنكم في جذوع النخل أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفا من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوبا، قاله المهايمي . وضعفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: آمنتم له أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .

قالوا لن نؤثرك أي: نختارك بالإيمان والاتباع: على ما جاءنا أي: من الله على يد موسى : من البينات والذي فطرنا أي: وعلى الذي خلقنا. واختيار هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه وتعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: آمنتم له وقيل هو قسم محذوف الجواب: فاقض ما أنت قاض أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: " لأقطعن " إلخ: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة.
[ ص: 4194 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[73] إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى أي: ثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[74] إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .

إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها أي: فينقضي عذابه: ولا يحيا أي: حياة طيبة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا .

ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[76] جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى .

جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.

لطائف:

من (الكشاف) و (حواشيه للناصر).

الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له [ ص: 4195 ] وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى -صلوات الله عليه- اختيار إلقائهم، أولا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعد، قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم.

الثانية: جوز في إيثار قوله تعالى: ما في يمينك على: " عصاك " وجهان:

أحدها: أن يكون تعظيما لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها.

وثانيهما: أن يكون تصغيرا لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأولى. لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟

ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 512.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 506.26 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.15%)]