تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 51 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14556 - عددالزوار : 766360 )           »          منهاج السنة النبوية ( لابن تيمية الحراني )**** متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 419 - عددالزوار : 124315 )           »          جمع الصلوات بسبب المرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الزكـاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          نصيحة للمتأخرين عن صلاة الفجر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 54 - عددالزوار : 35899 )           »          ديننا.. يتجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          دروس من قصص القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 6537 )           »          الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 3514 )           »          يُسر الإسلام وسماحته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #501  
قديم 30-12-2024, 08:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4870 الى صـ 4880
الحلقة (501)






الثالث- قال الإمام ابن حزم في (الفصل) يرد على من استدل بمثل هذه الآية على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء، ما مثاله: وأما قوله تعالى: وتخفي في نفسك ما الله مبديه الآية. فقد أنفنا من ذلك; إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به، وأن ما كان أراده زواج، مباح له فعله، ومباح له تركه، ومباح له طيه، ومباح له إظهاره، وإنما خشي النبي صلى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا ويظنوا ظنا، فيهلكوا; كما قال عليه السلام للأنصاريين: « إنها صفية » فاستعظما ذلك، فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم « أنه إنما يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا » . وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم، بظن يظنونه به عليه السلام، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب. وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه، لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها، انتهى.

الرابع - للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية. رأيت نقلها هنا تعزيزا لما سلف، وإيقافا من أسرار الآية على نخب ما وصف. قال رحمه الله: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش ، وهي بنت عمته -صلى الله عليه وسلم- أميمة بنت عبد المطلب ، وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية: وما كان لمؤمن إلخ، فلما نزلت الآية قالا: رضينا يا رسول الله. فأنكحها إياه. وساق عنه إليها مهرها ستين درهما، وخمارا، وملحفة، ودرعا، وإزارا، وخمسين مدا من طعام، وثلاثين صاعا من تمر. كذا يروى.

فنحن من جهة، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر، حتى أنه اختارها لمولاه زوجة، مع إبائها وإباء أخيها، وعد إباءها هذا عصيانا، ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن، فكأنه أرغمها على زواجه، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك، ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه، ونضرة جدته، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب، ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة، ولكنه لم يرغبها لنفسه، ورغبها لمولاه، فكيف يمتد نظره إليها، ويصيب قلبه سهم حبها، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية؟ لم يعرف فيما يغلب على مألوف البشر، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب، إلى أن تبلغ حد العشق، خصوصا إذا كان عشيره منذ صغره. بل المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض، متى تعود بعضهم النظر إلى بعض، من بداية السن إلى أن يبلغ حدا منه يجول فيه نظر الشهوة. فكيف يظن أو يتوهم أن النبي الذي يقول الله له: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا يخالف مألوف العادة، ثم يخالف أمر الله في ذلك؟ أم كيف بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة، يغلب عليه سلطانه شهوة في بنت عمته، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده؟.

ومن جهة أخرى ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرؤوف الرحيم، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة، وتفسد به شؤون المعيشة. فما كان له -وهو سيد المصلحين- أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين.

لا ريب أننا نجد من ذلك هاديا إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، كان أمرا تدين به العرب، وتعده أصلا يرجع إليه في الشرف والحسب، وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن، ويجرون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن، حتى في الميراث وحرمة النسب، وهي عقيدة جاهلية رديئة، أراد الله محوها بالإسلام، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجرى من أحكامه إلا ما له أساس صحيح; لهذا أنزل الله: وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ثم قال: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله إلخ فهذا العدل الإلهي، أن لا ينال حق الابن إلا من يكون ابنا.

أما المتبنى واللصيق فلا يكون له حق إلا حق المولى والأخ في الدين، فحرم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعي لمن تبناه، وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئا من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا، وشدد الأمر حتى قال: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر: هذا ابني. أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك، لا عن قصد التبني. ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة، كما كان معروفا من قبل، مضت سنة الله في خلقه، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة، لا يسهل عليها التفصي منه، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه من رق الشهوات، وجعل همته فوق المألوفات. فلا يطبيه -أي: يستميله- إلا الحق، ولا يحكم عليه إلف، ولا يغلبه عرف. ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يختصه الله بالتأسي به; لهذا كان الأمر إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه، أو أحل شيئا كانت الجاهلية تحرمه، بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهي عنه، والإتيان بضده، وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به، حتى يكون قدوة حسنة، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخف وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس ، حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم.

على هذا السنن الإلهي كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زينب ، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم; كما دل عليه قوله تعالى: وتخشى الناس إلخ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم، على سنته، إلى خرق العادة بنفسه، وما كان ينبغي له، ولا من مقتضى الحكمة، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه، أن يتزوج، ثم يأمره بالطلاق، ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته، ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة، وتمكن الاشمئزاز من النفوس، ما لا يخفى على أحد. فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه; لتسقط العادة بالفعل، كما ألغى حكمها بالقول الفصل; لهذا أرغم النبي صلى الله عليه وسلم زينب أن تتزوج بزيد، وهو مولاه وصفية، والنبي يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع، وتنفيذ حكم إلهي.

وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يلن إباؤها الأول، ولم يسلس قيادها، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها، وبأنها أكرم منه عرقا وأصرح منه حرية; لأنه لم يجر عليها رق كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة، وهو عليه السلام مع علو مقامه يغلبه الحياء فيتئد ويتمكث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل، فكان يقول لزيد : "أمسك عليك زوجك واتق الله"، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضه العيش معها، ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمزق حجاب تلك العادة، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقا دون مخالفتها كما قال: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا وأكد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية. هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة.

ثم قال: وأما ما رووه من أن النبي مر ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب ، فوقع منها في قلبه شيء، فقال: سبحان مقلب القلوب! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد، فوقع في قلبه أن يطلقها إلخ، ما حكوه- فقد قال الإمام أبو بكر بن العربي إنه لا يصح. وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية، لم يقدروا مقام النبوة حق قدره، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها. وأطال في ذلك، وأذكر من كلامه ما يؤيد ذكرنا في شأن هذه الروايات.

قال، بعد الكلام في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية، وبعد أن جاء الإسلام: وقد مهدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد، وإنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه يعني بالإسلام: وأنعمت عليه فأعتقته: أمسك عليك زوجك إلى قوله: وكان أمر الله وأن رسول الله لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له: زيد ابن محمد. فأنزل الله: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله يعني أنه أعدل عند الله. قال القاضي: وما وراء هذه الآية غير معتبر. فأما قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها، فوقعت في قلبه، فباطل. فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه، إلا إذا كان لها زوج؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره، فلم تخطر بباله. فكيف يتجدد هوى لم يكن! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال سبحانه وتعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه والنساء أفتن الزهرات، وأنشر الرياحين، فيخالف هذا في المطلقات، فكيف في المنكوحات المحبوسات؟.

سبحان الله! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات، وقد علموا أن الله لم يدع لنبيه أن يعرض عن ابن أم مكتوم ، ويتصدى لصناديد قريش طمعا في إسلامهم، حتى عاتبه على ذلك في قوله: عبس وتولى }، إلى آخر الآيات، مع أنه لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعده في نفسه خيرا للدين، ولم يكن رغبة في جاه، ولا شرها إلى مال، ولا طموحا إلى لذة.

فلو صحت الرواية التي زعموها في شأن زينب ، لكان العتاب على تلك التسبيحة، بمسمع من زينب ، ثم على الزواج بعد الطلاق، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام وما كان محمد صلى الله عليه وسلم في علو مقامه ورفعة منزلته من النبوة، لتطمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه، ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها، ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها، وما كان رب محمد يعلل شهوته، ويرفه من هواه فيما يخالف أمره، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا، ومن زهرتها النساء. تسامى قدر محمد عن ذلك، وتعالى شأن ربه عن هذا علوا كبيرا.


ثم قال الإمام رحمه الله: أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدى أحد الأساتذة الأميركانيين، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه فقال الأميركي: حتى زينب زوجة زيد بن حارثة ، يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة، ويعرض بعشقه صلى الله عليه وسلم لزينب على ما زعموا، فقال له صاحبي: سبحان الله! إنكم تشتغلون بعلوم السماوات والأرض، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم، مع أنكم، في المشهور عنكم، من أشد الناس ولعا بالبحث في الأديان، إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابنا له، ليبين للناس بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابنا، فإن كان المسيح قد دعي في لسان الإنجيل بـ (الابن) فليس هذا على الحقيقة، وإنما (الابن) الحقيقي من ولد من أبيه ولادة صحيحة، إن في ذلك لذكرى للعالمين. والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

الخامس -روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : « اذهب فاذكرها علي » . فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها. فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب ! أبشري. أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، أطعمنا عليها الخبز واللحم.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك: وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه، وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها; هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل، يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى. انتهى. أي: فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى. فاختار لها ما شرفها به وأسمى مكانتها، عناية منه ورحمة للأمة أيضا.

السادس- روى ابن جرير عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام.

وروى البخاري بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سمـاوات. قال ابن القيم في (زاد المعاد): ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته، وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب .

وكانت أولا عند زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه، فلما طلقها زوجه الله إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه. انتهى.

السابع- قالوا: لا ينقض عموم قوله تعالى: من رجالكم بكونه صلى الله عليه وسلم أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم; لأنهم لم يبلغوا الحلم، ولو بلغوا لكانوا رجالا له، صلى الله عليه وسلم، لا لهم. انتهى.

وهذا من التعمق في البحث، وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة.

قال ابن كثير : لم يعش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر، حتى بلغ الحلم; فإنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، فماتوا صغارا، وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا، وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، رضي الله عنهن أجمعين، فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر. انتهى.

ثم أمر تعالى بكثرة ذكره، والعناية بشكره لما من به من هدايته، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته، بقوله سبحانه:


[41 - 42] يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا .

يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله أي: بما هو أهله من صنوف التحميد والتمجيد: ذكرا كثيرا أي: يعم الأوقات والأحوال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها. فقال تعالى: "فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم"، وقال: "اذكروا الله ذكرا كثيرا"، أي: بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال: "وسبحوه بكرة وأصيلا" أي: في أول النهار وآخره، ليسري أثر التسبيح فيهما بقية النهار والليل; لأن ذكره وتسبيحه، يفيدان تنوير القلوب وقت خلوها عن الأشغال.

قال الزمخشري : والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته، عما لا يجوز من الصفات والأفعال، ومثال فضله على غيره من الأذكار، فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه، من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره، تكثير الطاعات والإقبال على العبادات; فإن كل طاعة وكل خير، من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا; وهي الصلاة في جميع أوقاتها; لفضل الصلاة على غيرها، أو صلاة الفجر والعشاءين; لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. وقوله تعالى:


[43] هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما .

هو الذي يصلي عليكم وملائكته استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين; فإن صلاته تعالى عليهم، مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين، مما يوجب عليهم المداولة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه. أفاده أبو السعود.

وقال ابن كثير : هذا تهييج إلى الذكر; أي: أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم; كقوله عز وجل: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون انتهى.

والصلاة: الرحمة والعطف. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر، والتوفر على الصلاة والطاعة: ليخرجكم من الظلمات أي: ظلمة الكفر والمعاصي والشبهات ومساوئ العادات: إلى النور أي: نور الإيمان والسنة والطاعة، ومحاسن الأخلاق: وكان بالمؤمنين رحيما أي: حيث لم يتركهم يتخبطون في عمياء الضلالة والجهالة، بل أنار لهم السبل وأوضح لهم المعالم. وذكر الملائكة تنويها بشأنهم وشأن المؤمنين، وأن للملأ الأعلى عناية وعطفا وترحما، بالاستغفار والدعاء والثناء على الجميل; كقوله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات الآية.


[44 - 46] تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .

تحيتهم يوم يلقونه سلام أي: يحيون يوم لقائه، بالموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة بسلام; تبشيرا بالسلامة من كل مكروه وآفة، والإضافة إما من إضافة المصدر إلى المفعول، والمحيي لهم، إما الله جل جلاله، لقوله: سلام قولا من رب رحيم تعظيما لهم وتفضلا منه عليهم، كما تفضل عليهم بصنوف الإكرام، وإما الملائكة لآية: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار أو من إضافة المصدر لفاعله; أي: تحية بعضهم بعضا بالسلام، وقد يستدل له بآية: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وأعد لهم أجرا كريما يعني الجنة وما حوته، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #502  
قديم 30-12-2024, 08:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4881 الى صـ 4890
الحلقة (502)





يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا أي: على من بعثت [ ص: 4881 ] إليهم بالبلاغ: ومبشرا أي: بالثواب لمن آمن: ونذيرا أي: من النار لمن كفر: وداعيا إلى الله إلى دينه وطاعته والإقرار بوحدانيته: بإذنه أي: بأمره ووحيه: وسراجا منيرا أي: يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدى بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[47 - 49] وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا .

وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا أي: ثوابا عظيما وأجرا جزيلا: ولا تطع الكافرين والمنافقين أي: فيما يرجفون به، ويعيبون من جاهليتهم وعوائدهم، بإلانة الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق: ودع أذاهم أي: إيصال الضرر إليهم، مجازاة لفعلهم. بل اعف واصفح. أو معناه: دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم. فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول، وإلى المفعول على الثاني: وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا أي: موكولا إليه، وكفيلا فيما وعدك من النصر، ودحر ذوي الكفر.

يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات أي: تزوجتموهن: ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن أي: تجامعوهن: فما لكم عليهن من عدة تعتدونها أي: تستوفون عددها من إحصاء أقراء، ولا أشهر تحصونها عليهن: فمتعوهن أي: أعطوهن ما يستمتعن به من عرض [ ص: 4882 ] أو عين مال: وسرحوهن أي: خلوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم; إذ ليس لكم عليهن عدة: سراحا جميلا أي: من غير ضرار ولا منع حق.

تنبيه:

قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة:

منها إطلاق النكاح على العقد وحده. وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منه، وقد اختلفوا في النكاح; هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن، إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية; فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن

وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: المؤمنات خرج مخرج الغالب; إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك، بالاتفاق.

وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المسيب والحسن البصري وزين العابدين، وجماعة من السلف بهذه الآية، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لقوله تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن بعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله. وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف، وأيده ما روي مرفوعا « لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك » رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لا طلاق قبل النكاح » . [ ص: 4883 ] وقوله تعالى: فما لكم عليهن من عدة تعتدونها هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها. فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى زوجها; فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا، وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضا.

وقوله تعالى: فمتعوهن المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها. قال تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم وقال عز وجل: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين

وعن ابن عباس : إن كان سمى لها صداقا، فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقا، فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل. انتهى.

وعليه، فالآية في المفوضية التي لم يسم لها. وقيل: الآية عامة. وعليه، فقيل الأمر للوجوب، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضا. ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء.

لطيفة:

قال الرازي: وجه تعلق الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى في هذه السورة، ذكر مكارم الأخلاق، وأدب نبيه على ما ذكرناه. لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل، فكلما ذكر للنبي مكرمة، وعلمه أدبا، ذكر للمؤمنين ما يناسبه. فكما بدأ الله في تأديب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله، بقوله: يا أيها النبي اتق الله وثنى بما يتعلق بجانب العامة بقوله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا كذلك بدأ [ ص: 4884 ] في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله، فقال: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم، كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم، فقال بعد هذا: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي وبقوله: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما .

يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي: مهورهن فإنها أجور الأبضاع. وإيتاؤها، إما إعطاؤها معجلة، أو تسميتها في العقد. وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره.

قال ابن كثير : كان النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشا، وهو نصف أوقية فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، [ ص: 4885 ] وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها، رضي الله عنهن. انتهى.

وتقييد الإحلال له عليه الصلاة والسلام بإعطاء المهور، ليس لتوقف الحل عليه، ضرورة أنه يصح العقد بلا تسمية. ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه. بل لإيثار الأفضل والأولى له عليه الصلاة والسلام، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية، في قوله تعالى: وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها.

قال ابن كثير : أي: وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام، وكانتا من السراري، رضي الله عنهما: وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك أي: من مكة، إلى المدينة، والتقييد لبيان الأفضل كما تقدم، ولهم في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، عدة أوجه. فيها اللطيف والضعيف، وعندي أن الإفراد والجمع تابع لمقتضى السبك، والنظم ورقة التعبير، ورشاقة التأدية; كما يدريه من يذوق طعم بلاغة القول، ويشرب من عين فصاحته، فالإفراد فيهما هنا أرق وأعذب من الجمع، كما أن في آية: بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أمتن وأبلغ من الإفراد، ولكل مقام مقال، ولكل مجال حال: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها أي: يتزوجها ويرغب في قبول هبة نفسها بدون مهر، وقد سمى من الواهبات ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم رضي الله عنهن.

[ ص: 4886 ] وفي البخاري عن عائشة قالت: كنت أغار في اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء الآية -قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

وعن ابن عباس ، أنه لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له; أي: أنه لم يقبل ذلك وإن كان مباحا له; لأنه مردود إلى إرادته. والله أعلم.

قال ابن القيم: وأما من خطبها صلى الله عليه وسلم ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس. وقال بعضهم: هن ثلاثون امرأة. وأهل العلم بالسيرة وأحواله صلى الله عليه وسلم، لا يعرفون هذا بل ينكرونه.

قال أبو السعود: وإيراده عليه الصلاة والسلام في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات، للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه السلام حسب اختصاصها به كما ينطبق به قوله تعالى: خالصة لك أي: خلص لك إحلالها خالصة أي: خلوصا، فهي مصدر مؤكد، أو صفته أي: هبة خالصة: من دون المؤمنين أي: فإنهم لا تحل لهم الموهوبة إلا بولي ومهر، خوف أن يستسري النساء وينتشر الفحش بدعوى ذلك. قال قتادة : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل، بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا ما فرضنا عليهم أي: على المؤمنين: في أزواجهم أي: في حلها من الولي والشهود والمسمى: وما ملكت أيمانهم أي: في حلها من توسيع الأمر فيها.

وقال السيوطي في (الإكليل): فسر بالاستبراء، وليس له في القرآن ذكر إلا ها هنا.

لكيلا يكون عليك حرج أي: ضيق. واللام متعلقة بـ: خالصة أو بفعل يفهم [ ص: 4887 ] مما قبله; أي: قد علمنا ما فرضنا عليهم، وأسقطناه عنك لرفع الحرج عنك والضيق، فيما اقتضته الحكمة والعناية بك: وكان الله غفورا رحيما أي: يغفر ما يعسر التحرز عنه، ويرحم فيما يوسع في مواقع الحرج.
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما .

ترجي بهمز وغير همز; أي: تترك وتؤخر: من تشاء منهن أي: من هؤلاء النساء اللاتي أحللناهن لك، فلا تتزوج بهن: وتؤوي إليك من تشاء أي: تضم من تشاء منهن بالتزويج: ومن ابتغيت ممن عزلت أي: اخترت تزوجها بعد إرجائها: فلا جناح عليك أي: في أن تضمها إليك. ومن رأي بعضهم أن الضمير في: "منهن" يعود إلى الواهبات. قال الشعبي : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم: فدخل ببعض وأرجأ بعضهن، لم ينكحن بعده، منهن أم شريك ، واستؤنس بحديث عائشة عند أحمد أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فلما أنزل الله: ترجي من تشاء منهن الآية قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. ورواه البخاري أيضا كما تقدم. وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق. وعن قتادة : أنها في القسم، وأن له أن يقسم لمن شاء، ويدعه لمن شاء، مع هذا فلم يكن صلى الله عليه وسلم يدع القسم. وقد احتج بالآية من ذهب إلى [ ص: 4888 ] أن القسم لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم. والتحقيق أن الآية عامة في ذلك كله، وأن ما روي مما ذكر، فمن باب الاكتفاء من العام على بعض أفراده، أو من رأي ذهب إليه قائله. وقوله تعالى: ذلك أي: ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك، ورفع الحرج عنك فيه: أدنى أن تقر أعينهن أي: تطيب أنفسهن، إن علمن أن ذلك من الله تعالى: ولا يحزن لمخالفة الإرجاء: ويرضين بما آتيتهن كلهن أي: لأنه حكم، كلهن فيه سواء، فإن سويت بينهن وجدن ذلك تفضيلا، وإلا علمن أنه بحكم الله تعالى، فتطمئن به نفوسهن: والله يعلم ما في قلوبكم أي: من الميل إلى البعض منهن دون البعض بالمحبة: وكان الله عليما أي: بذات الصدور: حليما أي: ذا حلم عن عباده فيعفو ويغفر. وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: « اللهم! هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» . يعني القلب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[52] لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا .

[ ص: 4889 ] لا يحل لك النساء من بعد أي: من بعد النساء اللاتي نص إحلالهن لك في الآية قبل. وانظر إلى تكريمه تعالى لنبيه صلوات الله عليه حيث لم يقل له: وحرم عليك ما وراء ذلك. كما خاطب المؤمنين بنظيره، لتعلم كيف تتفاوت الناس بالخطاب تفاوتهم في رفيع الدرجات.

ولم أر أحدا نبه على ذلك، فاحرص عليه فيه، وفي أمثاله.

قال مجاهد في الآية: أي: لا يحل لك يهودية ولا نصرانية ولا كافرة: ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك أي: فلك التسري بهن وإن كن كتابيات أو مشركات; لأنه ليس لهن ما للحرائر: وكان الله على كل شيء رقيبا أي: حيث أحل ما أحل، وحظر ما حظر للنبي وللأمة، في بيان لا خفاء معه، وحكمة لا حيف معها. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية هو حظر نكاح ما بعد التسع اللاتي عنده صلى الله عليه وسلم، وأن التسع نصابه كالأربع لغيره، وأن ذلك جزاء لاختيارهن إياه لما خيرهن; كما تقدم في الآية، ثم قالوا إنه تعالى رفع الحرج عنه في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، لكنه لم يفعله إتماما للمنة عليهن. ومنهم من قال إنها محكمة. وكل ذلك لا برهان معه، وتفكيك للمعنى، وغفلة عن سر تكريمه صلوات الله عليه بمقصود الخطاب، وقد وهم في هذا المعنى زياد -رجل من الأنصار- فرده أبي رضي الله عنه، إلى صواب المعنى; وذلك فيما رواه عبد الله بن أحمد وابن جرير أن زيادا قال لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قوله تعالى: لا يحل لك النساء من بعد فقال له: إنما أحل الله له ضربا من النساء. فقال تعالى: يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك -إلى قوله-: إن وهبت نفسها للنبي ثم قيل له: لا يحل لك النساء من بعد

[ ص: 4890 ] وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، بقوله تعالى: لا يحل لك النساء من بعد الآية. فحرم كل ذات دين غير الإسلام.

والمطلع على ما كتبوه هنا، يأخذه العجب من البعد عن مقصدها. فالحمد لله على إلهام الحق وتعليمه.

تنبيه:

قال في (لباب التأويل): في قوله تعالى: ولو أعجبك حسنهن دليل على جواز النظر من الرجل التي يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل » . أخرجه أبو داود .

وروى مسلم عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا » . قال الحميدي : يعني هو الصغر.

وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « هل نظرت إليها؟ » قلت: لا. قال: « فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما » . أخرجه الترمذي وحسنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #503  
قديم 30-12-2024, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4891 الى صـ 4900
الحلقة (503)





[ ص: 4891 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[53] يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما .

يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه هذا خطاب لبعض الصحب، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام. و: "إلى" متعلق بـ: "يؤذن" بتضمين معنى الدعاء، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة، وإن تحقق إذن; كما يشعر به قوله تعالى: غير ناظرين إناه أي: غير منتظرين وقته، وإدراكه.

قال ابن كثير : أي: لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل على تحريم التطفل; وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا في ذم الطفيليين، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. انتهى.

وأقول: قد يكون معنى قوله: غير ناظرين إناه نهيا لهم أن يدخلوا -مع كونهم مأذونا لهم ومدعوين- قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه، عجلة وانتظارا لنضج الطعام. [ ص: 4892 ] فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة، إلا ضيق صدر الداعي وأهله، وشغل وقته وتوليد حديث، وتكلفا لكلام لا ضرورة له، وإطاقة زمن الحجاب على نسائه، وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت، ولذلك قال تعالى: ولكن إذا دعيتم فادخلوا أي: إذا دعيتم إلى الدخول، في وقته، فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده. فـ: "لكن" استدراك من النهي عن الدخول، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر، وإفادة شرط مهم، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حينا ووقتا يجب أن يراعى زمنه، وهذا المنهي عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين، ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم والسنة المطهرة; وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات، مما يغم نفس الداعي وأهله، ويذهب لهم جانبا من عزيز وقتهم عبثا إلا في سماع حديثهم البارد، وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا، فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة، وحكم مهم، وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدر، وحينئذ فكلمة: (غير)، حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه، وهو أن يكون وقت الدعوة، لا قبله. والتقدير: (إلا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه). ولذا قيل: إنها آية الثقلاء. إذا علمت هذا، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية، وهو: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ومن قوله: ولكن إذا دعيتم فادخلوا لا من قوله: غير ناظرين إناه لأنه في معنى خاص، وهو ما ذكرناه، والله أعلم.

فائدة:

(الإني): مصدر. يقال أنى الشيء يأنى أنيا بالفتح. و (أنى): مفتوحا مقصورا.

و (إنى): بالكسر مقصورا، أي: حان وأدرك. قال عمرو بن حسان :


تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام


ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى: فإذا طعمتم فانتشروا أي: تفرقوا ولا [ ص: 4893 ] تمكثوا: ولا مستأنسين لحديث أي: لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على (ناظرين)، أو مقدر بفعل; أي: لا تمكثوا مستأنسين: إن ذلكم أي: المنهي عنه في الآية: كان يؤذي النبي أي: لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه: فيستحيي منكم أي: من الإشارة إليكم بالانتشار: والله لا يستحيي من الحق يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحيي، فأمركم به. ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه. وقرئ: "لا يستحي" بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء: وإذا سألتموهن الضمير لنساء النبي، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام: متاعا أي: شيئا يتمتع به: فاسألوهن من وراء حجاب أي: ستر: ذلكم أي: ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب: أطهر لقلوبكم وقلوبهن أي: من الخواطر الشيطانية، في الميل إليهن وإليكم; يعني ويجب التطهر عنه، لما فيه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم; ولذا قال: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله أي: أن تفعلوا فعلا يتأذى به في حياته: ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أي: من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل: أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما أي: أمرا عظيما وخطبا هائلا، لا يقادر قدره; لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلى الله عليه وسلم.

قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإيجاب حرمته حيا وميتا، ما لا يخفى; ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[54] إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما .

إن تبدوا شيئا أي: مما لا خير فيه، كنكاحهن على ألسنتكم، على ما روي عن بعض الجفاة: أو تخفوه أي: في نفوسكم: فإن الله كان بكل شيء عليما أي: فيجازيكم [ ص: 4894 ] بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد.

قال ابن كثير : أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده; لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين، واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته; هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين. مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله: من بعده أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره، والحالة هذه نزاعا، والله أعلم. انتهى.

تنبيه:

في (الإكليل): هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين، بعد أن كان النساء لا يحتجبن، وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن، وفيها تحريم أذى النبي صلى الله عليه وسلم بسائر وجوه الأذى. انتهى.

وقال ابن كثير : هذه آية الحجاب; وفيها أحكام، وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه، كما روى البخاري عنه أنه قال: « يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! » فأنزل الله آية الحجاب.

وكان يقول لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين. وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، في قول قتادة والواقدي وغيرهما. وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط، أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم.

[ ص: 4895 ] وروى البخاري عن أنس قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية.

ورواه مسلم أيضا والنسائي .

وعن أنس أيضا قال: بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو. فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحدا أدعوه. قال: « ارفعوا طعامكم » . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: « السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته » . قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. كيف وجدت أهلك؟ يا رسول الله! بارك الله لك.

فتقرى حجر نسائه كلهن. يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون -وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء- فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة . فما أدري آخبرته أو أخبر، أن القوم خرجوا. فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة، والأخرى خارجة ، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.
انفرد به البخاري ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي ; كما بسطه ابن كثير . [ ص: 4896 ] قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف، في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في (الموطأ) أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يستر شخصها. انتهى.

وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء ، لما ذكر له طواف عائشة : أقبل الحجاب أو بعده؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى.

ومما يؤيده ما رواه البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها. فرآها عمر بن الخطاب . فقال: يا سودة ! أما والله! ما تخفين علينا. فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.

قال الكرماني: فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء -أي: من البخاري - أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.

[ ص: 4897 ] قال ابن حجر: قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.

والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعا للمشقة، ورفعا للحرج، انتهى بحروفه. وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين، مع أن الأمس به شرح الصحيح، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف، فآثرنا توسيع الكلام لتدقيق المقام. زادنا الله من فضله علما، إنه هو العليم العلام.

ثم يبين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[55] لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا .

لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن أي: لا حرج ولا إثم عليهن، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمين. قال الطبري : وعني بـ: (إخوانهن وأبناء إخوانهن); وإخوتهن، وأبناء إخوتهن، وخرج معهم جمع ذلك، مخرج جمع فتى إذا جمع: (فتيان)، فكذلك جمع أخ إذا جمع: (إخوان)، وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع (فتية).

[ ص: 4898 ] تنبيهات:

الأول- قيل: إنما لم يذكر العم والخال، لأنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمي العم أيضا أبا في قوله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة; لما أنهن عمات لأبناء الإخوة، وخالات لأبناء الأخوات. وقيل: لأنه كره ترك الاحتجاب منهما; مخافة أن يصفاهن لأبنائهما.

وهو رأي عكرمة والشعبي ، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبي أنه قال لهما: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.

قال الشهاب: لكنه قيل عليه، إن هذه العلة، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما وهما يجوز لهما التزوج بها، جار في النساء كلهن، ممن لم يكن أمهات محارم. فينبغي التعويل على الأول. انتهى.

والتحقيق في رده ما رواه البخاري في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس، بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس [ ص: 4899 ] استأذن. فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « وما منعك أن تأذني؟ عمك » . قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، لكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: « ائذني له فإنه عمك، تربت يمينك » .

قال عروة : فلذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب. انتهى. فبقوله صلى الله عليه وسلم: « ائذني له فإنه عمك » مع قوله في الحديث الآخر « العم صنو الأب » يرد على عكرمة والشعبي .

الثاني- قيل: أريد بقوله تعالى: ولا نسائهن المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات. وإنما قال: ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن.

الثالث- استدل بعموم قوله تعالى: ولا ما ملكت أيمانهن من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها. وذهب قوم إلى أنه كالأجانب. والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور.

الرابع- قال السيوطي في (الإكليل): استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها، على تحريم نظرهما إليهن، فكانا لا يدخلان عليهن: واتقين الله أي: أن تتعدين ما حد لكن، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء. وقال الرازي: أي: واتقينه عند المماليك. قال: ففيه دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله تعالى: "إن الله كان على كل شيء شهيدا" أي: فهو [ ص: 4900 ] شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككن الحجاب لمن أبيح لكن تركه، وغير ذلك من أموركن، فاحذرن أن تلقينه، وهو شاهد عليكن بمعصيته، وخلاف أمره، ونهيه، فتهلكن. قال الرازي: هذا التذليل في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فقال: إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[56] إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما .

إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما قال الرازي: لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان، وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما، كمل بيان حرمته، وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين: حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله: لا تدخلوا بيوت النبي وحالة يكون في ملأ. والملأ إما الملأ الأعلى، وإما الملأ الأدنى، أما في الملأ الأعلى فهو محترم; فإن الله وملائكته يصلون عليه. وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما انتهى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #504  
قديم 30-12-2024, 08:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4901 الى صـ 4910
الحلقة (504)




وقد روى البخاري عن أبي العالية قال: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة. وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس : يصلون يبركون; أي: يدعون له بالبركة. فيوافق قول [ ص: 4901 ] أبي العالية ، لكنه أخص منه. وبالجملة، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر، وقد أطنب الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام) في مبحث معنى الصلاة، وأطال فأطاب. فلينظر.

وفي البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أنه قيل: يا رسول الله! أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: « قولوا: اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد » .

وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه، عن أبي مسعود البدري ، أنهم قالوا: يا رسول الله! أما السلام فقد عرفناه. فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: « قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد » . وذكره. ورواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة بمثله.

ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير. فإن تركه لم تصح صلاته، ووافقه الإمام أحمد في رواية. وقال به إسحاق بن راهويه ، والإمام ابن المواز المالكي وغيرهم، كما بسطه ابن القيم في (جلاء الأفهام) وابن كثير في (التفسير) وقد تقصيا، عليهما الرحمة، أيضا الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها، فأوسعا. فليرجع إليهما.

تنبيهات:

الأول- تدل الآية على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا; لأن الأصل في الأمر للوجوب. فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس. [ ص: 4902 ] وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة، ثم هي مستحبة في كل حال. وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر. وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب. قال ابن كثير : وهذا قول غريب; فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة; فمنها واجب، ومنها مستحب على ما نبينه:

فمنه بعد النداء للصلاة، لحديث « إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي » الحديث.

ومنه عند دخول المسجد; لحديث كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال: « اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك » . وإذا خرج صلى على محمد وسلم. ثم قال: « اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك » .

ومنه الصلاة، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها، وتجب في الثاني.

ومنه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية، لقول أبي أمامة : من السنة ذلك. وهذا من الصحابي في حكم المرفوع، على الصحيح.

ومنه ختم الدعاء، فيستحب الصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن آكد ذلك دعاء القنوت.

ومنه يوم الجمعة، وليلتها، فيستحب الإكثار منها فيهما، ومنه في خطبة يوم الجمعة، يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها. وهو مذهب الشافعي وأحمد .

ومنه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لحديث « ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام » تفرد به أبو داود ، وصححه النووي في (الأذكار). وعن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم. فإن صلاتكم تبلغني .

قال ابن كثير : فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة، فنهاهم. وقد [ ص: 4903 ] روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر. فقال: يا هذا! ما أنت ورجل بالأندلس، ومنه إلا سواء; أي: الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وقد استحب أهل الكتاب أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه. وقد روي في حديث « من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له، ما دام اسمي في ذلك الكتاب » .

قال الحافظ ابن كثير : وليس هذا الحديث بصحيح. بل عده الحافظ الذهبي موضوعا. وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، كثيرا اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة. قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا.

الثاني- الصلاة على غير الأنبياء، إن كانت على سبيل التبعية، كنحو: اللهم صل على محمد وآله وأزواجه، فهذا جائز إجماعا، وأما استقلالا فجوزه قوم لآية: هو الذي يصلي عليكم وملائكته وآية: أولئك عليهم صلوات من ربهم وآية: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ولحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: « اللهم! صل عليهم » . فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: « اللهم! صل على آل أبي أوفى » .

وكرهه قوم، لكون صيغة الصلاة صارت شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم. فلا يقال: قال عمر صلى الله عليه، كما لا يقال: قال محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا; لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل، وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم.

وقال ابن حجر: إن ذلك وقع من الشارع، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. انتهى.

[ ص: 4904 ] وقد يقال: كفى في المروي المأثور المتقدم إذنا. والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب. على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر، ولا حظر هنا. فتدبر.

وأما السلام، فقال الجويني: هو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام. وسواء في هذا الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم، أو السلام عليك أو عليكم، وقد غلب -كما قال ابن كثير - على كثير من النساخ للكتب، أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال: عليه السلام. من دون سائر الصحابة. قال: والتسوية بينهم في ذلك أولى. انتهى.

والخطب سهل. ومن رأى المروي في هذا الباب، علم أن الأمر أوسع من أن يحرج فيه، على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف، وفيه بحث في الأصول.

الثالث- قال النووي: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فليجمع بين الصلاة والتسليم. فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: (صلى الله عليه). فقط. ولا: (عليه السلام). فقط.

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليما.

انتهى.

الرابع- قال الرازي: إذا صلى الله وملائكته عليه، فأي حاجة إلى صلاتنا؟ نقول: الصلاة عليه ليس لحاجته إليها، وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه، كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه، ولا حاجة له إليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه منا، رحمة بنا، ليثيبنا عليه; ولهذا جاء في الحديث « من صلى علي مرة، صلى الله عليه بها عشرا » . انتهى.

وكان سبق لي، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه، ما مثله: ويسن يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم; ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته، [ ص: 4905 ] والمنة باقتفاء هديه، وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، ما ذاق عارف سر شريعته، وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته.

الخامس- قال الرازي: ذكر: "تسليما" للتأكيد ليكمل السلام عليه، ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد; لأنها كانت مؤكدة بقوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي انتهى.

وقيل: إنه من الاحتباك. فحذف: (عليه)، من أحدهما. و(المصدر)، من الآخر.

قال القاضي: قيل معنى: وسلموا تسليما أي: انقادوا لأوامره. فالسلام من التسليم والانقياد.

السادس- قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان: التحية والانقياد. فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم. والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهم، دفعا للإيهام. والعلم عند الله. انتهى.

وقال الشهاب: قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته، نكتة سرية; وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه. فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، والأذية إنما هي من البشر، وقد صدرت منهم، فناسب التخصيص بهم والتأكيد. انتهى. ولما أمر تعالى بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي الثناء عليه وتمجيده وتعظيمه، بين وعيد من لا يرعاها، بأن يجرؤ على ضدها بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا .

[ ص: 4906 ] إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا أي: ينالون فيه الهوان والخزي. والمقصود من الآية الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى إنما هو لتعظيمه، ببيان قربه، وكونه حبيبه، حتى كأن ما يؤذيه يؤذيه; كما أن من يطيعه يطيع الله. وقد روى الطبري عن ابن عباس أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم، حين اتخذ صفية بنت حيي . وهذا في الحقيقة من أفراد ما تشمله الآية. بل لو قيل أنها عني بها من خاض في مسألة زينب ، لكان أقرب، لتقارب الآيات في الباب الواحد، وتناسقها كسلسلة واحدة، في تلك المسألة التي كانت المقصود الأعظم من السورة بتمامها، كما لا يخفى على من تدبرها.

وبالجملة، فاللفظ عام في كل ما يصاب به صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه، فيدخل المقصود من التنزيل دخولا أوليا. وعلى هذا، فالأذية على حقيقتها. وقيل المراد بأذية الله ورسوله، ارتكاب ما لا يرضيانه، مجازا مرسلا; لأنه سبب، أو لازم له، وإن كان بالنسبة إلى غيره، فإنه كان في العلاقة، وذكر الله ورسوله على ظاهره. ومن جوز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين، كاستعمال اللفظ المشترك في معنييه، أو في حقيقته ومجازه، فسر الأذية بالمعنيين باعتبار المعمولين، فتكون بالنسبة إليه تعالى، ارتكاب ما يكره مجازا، وإلى الرسول على ظاهره. فإن تعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل، فيجيء فيه الجمع بين المعنيين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا .

والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات أي: بقول أو فعل: بغير ما اكتسبوا أي: بغير جناية يستحقون بها الأذية: فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا أي: ظاهرا بينا.

[ ص: 4907 ] قال الزمخشري : أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات; لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه.

تنبيه:

في (الإكليل): في هذه الآية تحريم أذى المسلم، إلا بوجه شرعي، كالمعاقبة على ذنب، ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء، كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته، وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره، إذا اشتمل على إيذاء. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعا « أربى الربا عند الله، استحلال عرض امرئ مسلم » ثم قرأ هذه الآية. وأخرج عن قتادة في هذه الآية: إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له. وقد زعموا أن عمر بن الخطاب قرأها ذات يوم، فأفزعه ذلك، حتى ذهب إلى أبي بن كعب ، فدخل عليه فقال: يا أبا المنذر ! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع: والذين يؤذون المؤمنين الآية. والله! إني لأعاقبهم وأضربهم. فقال له: إنك لست منهم. إنما أنت مؤدب، إنما أنت معلم. انتهى.

قال الزمخشري : وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف؟ وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمة، لما فيه من الروعة عند كر الحول. فرحمه الله ورضي عنه.

ولما بين تعالى سوء حال المؤذين، زجرا لهم عن الإيذاء، أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم، بما يدفع إيذاءهم في الجملة من الستر والتميز، عن مواقع الإيذاء، بقوله سبحانه:
[ ص: 4908 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[59] يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما .

يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن جمع (جلباب)، كسرداب، وهو الرداء فوق الخمار، تتغطى به المرأة، وهو معنى قول بعضهم: جلبابها ملاءتها تشتمل بها. وقيل هو الخمار. قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه:


تمشي النسور إليه وهي لاهية مشي العذارى، عليهن الجلاليب


وقال آخر يصف الشيب:


حتى اكتسى الراس قناعا أشهبا أكره جلباب لمن تجلببا


وقال الزمخشري : الجلباب ثوب واسع، أوسع من الخمار، ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، ثم قال: ومعنى: يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة. وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه [ ص: 4909 ] ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين أي: أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. ثم قال الزمخشري : فإن قلت: ما معنى (من)، في: من جلابيبهن قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:

أحدهما- أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب. والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.

والثاني- أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، لتتقنع حتى تتميز من الأمة. انتهى.

ومن الآثار في الآية، ما رواه الطبري عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان، من السكينة. وعليهن أكسية سود يلبسنها. وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري : هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب; لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات.

تنبيهات:

الأول- قال ابن كثير : روي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة، وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى: ونساء المؤمنين انتهى.

الثاني- قال السبكي في (طبقاته): استنبط أحمد بن عيسى، من فقهاء الشافعية، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات، من تغيير لباسهم وعمائمهم، أمر حسن. وإن لم يفعله السلف; لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم. انتهى.

[ ص: 4910 ] الثالث- قال الشهاب: قوله تعالى: يدنين يحتمل أن يكون مقول القول. وهو خبر بمعنى الأمر، أو جواب الأمر، على حد: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة انتهى: وكان الله غفورا أي: لما سلف منهن من التفريط: رحيما أي: بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[60 - 61] لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا .

لئن لم ينته المنافقون أي: عن نفاقهم: والذين في قلوبهم مرض أي: ضعف إيمان، عن مراودة النساء بالفجور: والمرجفون في المدينة أي: بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها، كمجيء عدو وانهزام سرية، وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين، وأصله التحريك، من (الرجفة)، وهي الزلزلة، يسمى به الخبر المفترى، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، أو لاضطراب قلوب المؤمنين به: لنغرينك بهم أي: لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء: ثم لا يجاورونك فيها أي: في المدينة من قوة بأسك عليهم: إلا قليلا أي: زمنا قليلا ريثما يستعدون للرحلة: ملعونين أينما ثقفوا أي: مبغضين لله وللخلق، لا يستريحون بالخروج، للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا أخذوا وقتلوا تقتيلا أي: أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم، ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع، بقوله:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #505  
قديم 30-12-2024, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4911 الى صـ 4920
الحلقة (505)





القول في تأويل قوله تعالى:

[62] سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا .

سنة الله في الذين خلوا من قبل أي: في المفترين والمؤذين الذين مضوا، إذا [ ص: 4911 ] تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا، أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم ولن تجد لسنة الله تبديلا أي: لأنه لا يبدلها، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.

تنبيهات:

الأول- قال الشهاب: إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين، قوم مخصوصون، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات، على حد: (إلى الملك القرم وابن الهمام). أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات.

فعلى الأول، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين، وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض، كما مر في البقرة. والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم، لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل; فإنه لم يقع للمنافقين.

وعلى الثاني، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين، كأهل الفجور، والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة، وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم، وهم اليهود. انتهى.

الثاني- ذكروا أن معنى قوله تعالى: أخذوا وقتلوا تقتيلا أنهم إذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ. بل أينما يكونون، يطلبون ويؤخذون ويقتلون، وعليه فالجملة خبرية. وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائية كقوله: عليهم دائرة السوء وقوله: ويل لكل همزة لمزة كأنه قيل: أخذهم الله. أي: أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشده. ولم أر أحدا تعرض له، وقد أفاد ابن عطية ، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء; لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته، أي: لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير.

الثالث- في (الإكليل): في الآية تحريم الأذى بالإرجاف، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي [ ص: 4912 ] في قوله: والذين في قلوبهم مرض هم قوم كانوا يجلسون على الطريق، يكابرون المرأة مكابرة. فنزلت فيهم الآية إلى قوله: أخذوا وقتلوا تقتيلا قال: هذا حكم في القرآن، ليس يعمل به، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم. انتهى.

وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية، كما قدمنا، على أن للحاكم أن يفعل ذلك، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة، على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب، كما بسط ذلك النجم الطوفي في (رسالته) وأيدناه بما علقناه عليها.

الرابع- كتب الناصر في (الانتصاف) على قول الكشاف في قوله: إلا قليلا أي: زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم، ما مثاله: فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر، على حسب الاجتهاد. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[63] يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا .

يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا أي: يسألونك عن وقت قيامها. وكان المشركون في مكة يسألونه صلى الله عليه وسلم، عنها استعجالا على سبيل الهزء، وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم; لأن هذه السورة مدنية، وقد أرشده تعالى أن يرد علمها إليه لاستئثاره تعالى به، فلم يطلع نبيا ولا ملكا، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين وإسكاتا للممتحنين.

لطيفة:

تذكير (قريبا) باعتبار موصوفه الخبر; أي: شيئا قريبا، أو لأن الساعة في معنى اليوم [ ص: 4913 ] أو الوقت، أو أن (قريبا) ظرف منصوب على الظرفية، فإن (قريبا) و(بعيدا): يكونان ظرفين، فليس صفة مشتقة، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث.

قال أبو السعود: والإظهار في حيز الإضمار، للتهويل وزيادة التقرير، وتأكيد استقلال الجملة; يعني أن قوله: وما يدريك خطاب مستقل له عليه السلام، غير داخل تحت الأمر، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق، مرجوة المجيء عن قريب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64 - 66] إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا .

إن الله لعن الكافرين أي: أبعدهم من رحمته: وأعد لهم سعيرا أي: نارا شديدة الاتقاد في الآخرة: خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا أي: حافظا يتولاهم: ولا نصيرا أي: يخلصهم: يوم تقلب وجوههم في النار أي: تصرف من جهة إلى جهة، تشبيه بقطعة لحم في قدر تغلي، ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو المعنى: من حال إلى حال، فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره.

قال الزمخشري : وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف: (يقولون)، أو (اذكر)، أو (لا يجدون)، أو (خالدين)، أو (نصيرا): يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا أي: فكنا ننجو من هذا العذاب.

[ ص: 4914 ] [67-69] وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها

وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه: فأضلونا السبيلا أي: بما زينوه لنا. قال الزمخشري : وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف: ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي: مثلي العذاب الذي آتيتناه; لأنهم ضلوا وأضلوا: والعنهم لعنا كبيرا أي: لعنا هو أشد اللعن وأعظمه.

وقرئ: (كثيرا)، تكثيرا لأعداد اللعائن: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلى الله عليه وسلم، من استحقاقه اللعنة في الدارين، تعريضا بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب ، التي سيقت السورة لأجلها، ختمها أيضا بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام، بتنقيصه تارة، وقلة الأدب معه طورا، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة، كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم، مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته، فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم، ورماهم بأفانين العقوبات، ولحقتهم المخازي، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم، ونزه مقامه عن تنقيصهم، بأن حقق فضله، وأسمى منزلته، وآتاه الوجاهة -وهي العظمة والقرب- عنده.

وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 4915 ] ولحقهم الدمار، وشرح لنبيه صدره، ورفع له ذكره، وأعلى منزلته، وفخم وجاهته، ما تعاقبت الأدوار، ويقرب من هذه الآية، في المعنى والإشارة، قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وفيهما كلتيهما تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بتأسيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما، وكثيرا ما كان يقول صلى الله عليه وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره: « رحمة الله على موسى; لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر » .

وقد روى المفسرون ههنا آثارا، أحسنها ما أخرجه البزار عن أنس مرفوعا: « كان موسى رجلا حييا، وأنه أتى الماء ليغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، وكان لا يكاد تبدو عورته، فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة; يعنون أنه لا يضع ثيابه، فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل، فنظروا إلىموسى كأحسن الرجال -أو كما قال- » . فذلك قوله: فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ورواه البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة أيضا.

قال الرازي وحديث إيذاء موسى مختلف فيه; -أي: لكثرة الروايات فيه- مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم: فاذهب أنت وربك فقاتلا وقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وقولهم: لن نصبر على طعام واحد إلى غير ذلك. فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم. انتهى.

[ ص: 4916 ] وقال ابن كثير : يحتمل أن يكون كل ما روي مرادا، وأن يكون معه غيره. انتهى; أي: لعموم المعمول المحذوف، وما بيناه أولا، هو الأقرب. والله أعلم.

تنبيهات:

الأول (الوجيه) لغة: بمعنى السيد، كالوجه، يقال: هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه; أي: أشرافه، وبمعنى ذي الجاه- والجاه القدر والمنزلة، مقلوب عن (وجه)، فلما أخرت (الواو) إلى موضع (العين)، وصارت جوها، قلبت (الواو) ألفا. فصارت (جاها)، وكذا في القاموس وشرحه.

الثاني- قال الزمخشري : (وجيها); أي: ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقال ابن جرير : أي: كان موسى عند الله مشفعا فيما يسأل، ذا وجه ومنزلة عنده، بطاعته إياه، أي: مقبولا ومجابا فيما يطلب لقومه من الله تعالى، عناية منه تعالى وتفضيلا.

الثالث- اتخذ العامة، وكثير من المتعالمين، وصف الوجاهة للأنبياء ذريعة للطلب والرغبة منهم، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل، ولا يصدق على المعنى اللغوي بوجه ما، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فتيا، أبان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة، وذلك أنه سئل، رحمه الله، عمن يتوسل بالأنبياء، والأولياء، معتقدا أن النبي أو الولي يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحاكم ، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام.

فقال امرؤ: إن هذا مخل بالعقيدة، وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال، وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وإنه لا يدعى معه [ ص: 4917 ] أحد سواه، كما قال تعالى: فلا تدعوا مع الله أحدا وإن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر، وأعظم الناس جاها ومحبة، وأقربهم إليه، ليس له من الأمر شيء، ولا يملك للناس ضرا ولا نفعا ولا رشدا ولا غيره، كما في نص القرآن.

وإنما هو مبلغ عن الله تعالى، ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته، وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضار إلا ما هدى الله الناس إليه، ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا باتباعه والاقتداء به، يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم، كقوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه إلى غير ذلك من الآيات. وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة، لأدافع بذلك من أساء بي الظن.

فأجاب رحمه الله، بعد البسملة والحوقلة: اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح، ولا يشوبه شوب من الخطأ، وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أن يعتقده; فإن الأساس الذي ينبت عليه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد، كما قال الله تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد و: "الصمد" هو الذي يقصد في الحاجات، ويتوجه إليه المربون في معونتهم على ما يطلبون، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم، والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر، كما هو معروف عند أهل اللغة، فلا صمد إلا هو.

وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: وإذا سألك عبادي عني فإني [ ص: 4918 ] قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان وقد قال الشيخ محي الدين بن العربي، شيخ الصوفية، في صفحة 226 من الجزء الرابع من (فتوحاته) عند الكلام على هذه الآية: إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه. بل لله الحجة البالغة، فلا يتوسل إليه بغيره; فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه، وقد أخبرنا الله أنه قريب، وخبره صدق. انتهى ملخصا.

على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات، ويسلكون طرقا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس. ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين. فأي حالة تدعوهم إلى ذلك؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل، ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه (بدعة) في الدين وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به، كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيما لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، أو الأنبياء أو الأولياء، مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عندما جاءوا به، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم. وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظن هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم، وتنظيم المدائح وعزوها إليهم، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم، واختراع شؤون لهم مع الله، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح.

هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن; لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت، وليس يخطر بالبال أن جبارا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله. فكيف بالأنبياء والصديقين؟

إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل، مفهومه العرفي هو السلطة. وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه، ويقال فلان خلص فلانا [ ص: 4919 ] من عقوبة الذنب بجاهه، لدى الأمير أو الوزير مثلا، فزعم زاعم أن لفلان جاها عند الله بهذا المعنى، إشراك جلي لا خفي، وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغوي، وهو المنزلة والقدر، على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها; لأنها ليست شيئا ينفع. وإنما يكون لذلك معنى، لو أولت بصفة من صفات الله، كالاجتباء والاصطفاء، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه، وإن كان (الآلوسي) بنى تجويز التوسل بجاه النبي خاصة على ذلك التأويل. وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهال، وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة، وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة؟

يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها. وهي ما رواه الترمذي بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: « إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك » . قال: فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: « اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه في » . قال الترمذي وهو حديث حسن صحيح غريب.

ونقول أولا: قد وصف الحديث بالغريب، وهو ما رواه واحد، ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك، ولا وجه لابتعادهم عن العمل به، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي; كما قال عمر رضي الله عنه، في حديث الاستسقاء: إنا كنا نتوسل [ ص: 4920 ] إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا، قال ذلك، رضي الله عنه، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول (كنا نستسقي بنبيك)، وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه، بل ويكون من الأعلى للأدنى، كما ورد في الحديث، وليس فيه ما يخشى منه، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حي، كلاهما عبد يسأل الله تعالى، والشريك في الدعاء شريك في العبودية، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون: سبحان ربك رب العزة عما يصفون

ثم المسألة داخلة في باب العقائد، لا في باب الأعمال، ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال: هل يجوز أن نعتقد بأن واحدا سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين، وقد نعاها عليهم في قوله: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله سورة يونس، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة: وإياك نستعين فلا استعانة إلا به، وقد صرح الكتاب بأن أحدا لا يملك للناس من الله نفعا ولا ضرا، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بينا.

ثم البرهان العقلي يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام، وأمثالهم في التحول عن إرادتهم، بما يتخذه أهل الجاه عندهم، لتنزهه جل شأنه عن ذلك، ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة، ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا انتهى كلامه رحمه الله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #506  
قديم 30-12-2024, 09:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4921 الى صـ 4936
الحلقة (506)





[ ص: 4921 ] ثم راجعت (اقتضاء الصراط المستقيم) للإمام العلم تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه. فرأيته ذكر نحوا من ذلك، وعبارته: فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها، تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته، ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره، وقول عمر رضي الله عنه: (إنا كنا، إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا). معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به، إنا نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا: « إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض » فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه، لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس ، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به، أعظم من العباس ، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم; فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى; فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره. فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله « أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة » أي: بدعائه وشفاعته; كما قال عمر : كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ: (التوجه)، و(التوسل) في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال: (يا محمد! يا رسول الله! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم! فشفعه في). فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: (يا محمد! يا نبي الله!). هذا وأمثاله نداء. يطلب به استحضار المنادى في القلب، [ ص: 4922 ] فيخاطب المشهود بالقلب; كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط فسببه من لم يفهم مقصد الصحابة، يراد به التشبث به (في الأصل التسبب به) لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكونه الداعي محببا له، مطيعا لأمره، مقتديا به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل، لا شيء منه ولا شيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا .

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أي: في كل ما تأتون وما تذرون، لا سيما في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم: وقولوا أي: في كل شأن من الشؤون: قولا سديدا أي: قويما حقا صوابا. قال القاشاني: السداد: في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال; لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات، وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة، كأنه جنس برأسه، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما .

[ ص: 4923 ] يصلح لكم أعمالكم أي: بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم; لأنه لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلا. وبه يصلح كل عمل: ويغفر لكم ذنوبكم أي: ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل; فإن الحسنات يذهبن السيئات: ومن يطع الله ورسوله أي: في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات: فقد فاز فوزا عظيما أي: في الدارين. وقال القاشاني: أي: فاز بالتحلية والاتصاف بالصفات الإلهية، وهو الفوز العظيم.

تنبيه:

قال الزمخشري : المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول، والبعث على أن يسد قولهم في كل باب; لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله، وهذه الآية مقررة للتي قبلها; بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى.

ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره، مرادا آخر، وهو نهيهم أيضا عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما إلا أن الذي يراعى أولا، هو ما كان التنزيل لأجله، وذلك ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .

إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن [ ص: 4924 ] منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا قال أبو السعود: لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية، وصعوبة أمرها بطريقة التمثيل- مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها، صدر عنهم بعد القبول والالتزام. وعبر عنه بـ: (الأمانة); تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيا بحسن الطاعة والانقياد. وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها، بالعرض عليهن، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها -وعن عدم استعدادهن لقبولها، بالإباء والإشفاق منها، لتهويل أمرها وتربية فخامتها- وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية، التي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة.

والمعنى: أن تلك الأمانة في عظم الشأن، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام، التي هي مثل في القوة والشدة، مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك، لأبين قبولها وأشفقن منها، ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق، روما لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه.

وقوله تعالى: وحملها الإنسان أي: عند عرضها عليه، إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق -أي: تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة- وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري، أو عن اعترافه بقوله: (بلى). وقوله تعالى: إنه كان ظلوما جهولا اعتراض وسط بين الحمل وغايته، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله- أي: أنه كان مفرطا في الظلم، مبالغا في الجهل; أي: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلا، وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل:
[ ص: 4925 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[73] ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما .

ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات أي: حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة، على أن اللام للعاقبة; فإن التعذيب -وإن لم يكن غرضا له من الحمل- لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها، أبرز في معرض الغرض- أي: كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة، وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى: ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده; أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة، وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات، قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة، والالتفات إلى الاسم الجليل، أولا; لتهويل الخطب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار، ثانيا; لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه: وكان الله غفورا رحيما أي: مبالغا في المغفرة والرحمة، حيث تاب عليهم، وغفر لهم فرطاتهم، وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصا، مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه; لتجويده الكلام، وإجادته في المقام، وهكذا عادتنا في كل مجود، أن ننقله ولا نتصرف فيه.

بقي في الآية لطائف نشير إليها:

الأولى- فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين، وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة [ ص: 4926 ] إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.

وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعم الطبيعة والاختيارية; لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء، وبعرضها: استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره -وبحملها، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبين الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها، حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال: قالتا أتينا طائعين وخانها الإنسان حيث لم يأت -وهو حيوان عاقل صالح للتكيف- بما أمرناه به; إنه كان ظلوما جهولا، وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله، كما يقال: (ركبته الديون). وقرره الزمخشري بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك: (فلان حامل للأمانة ومحتمل لها); تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها; لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها، وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: (ركبته الديون)، و(لي عليه حق). فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها، ومنه قولهم: أبغض حق أخيك; لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى: فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان فأبين إلا أن يؤدينها، وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه، وهو أداؤها. انتهى ملخصا.

الثانية- نقل ابن كثير آثارا عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيا، وأنه قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن: يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر، ليس بنا قوة، ولكنا لك مطيعين. قال الشراح: ولا بعد، أن يخلق الله فيها فهما لخطابه، وأنه كان على سبيل التخيير لها; ولذا عبر بالعرض، لا تكليفا حتى يلزم عصيانها. انتهى.

[ ص: 4927 ] قال الإمام ابن حزم في (الفصل) في الرد على من جعل للجمادات تمييزا، ما مثاله: وأما عرضه تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإباية كل واحد منها، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك، وهذا نص قوله: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق، وأن له مبدأ لا يشبهه البتة، فأراد معرفة كيف كان، فقد دخل في قوله تعالى: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم

إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة، إلا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها، فلما أبتها وأشفقت منها، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة، وأسقط عنها تكليف الأمانة.

قال: هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.

وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز، كما بينه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) وسبقه الزمخشري حيث قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم، ومن ذلك قولهم: (لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال أسوي العوج). وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.

الثالثة- قال الرازي: إن قال قائل: لم قدم التعذيب على التوبة- في آخر الآية؟ نقول: لما سمي التكليف أمانة، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة، فكان التعذيب على الخيانة كاللازم، والأجر على الحفظ إحسان، والعدل قبل الإحسان.

الرابعة- ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث:

منها عن أبي هريرة مرفوعا: « أد الأمانة [ ص: 4928 ] إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك » . رواه أبو داود والترمذي ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: « أربع، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة » . رواه الإمام أحمد والطبراني ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمن سأل عن الساعة: « إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة » . قال: كيف إضاعتها؟ يا رسول الله! قال: « إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة » .

الخامسة- قال ابن كثير : روى عبد الله بن المبارك في كتاب (الزهد) أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة : « من حلف بالأمانة فليس منا » ، تفرد به أبو داود . أي: لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام، كما تقرر في موضعه. والله أعلم.

السادسة- سبق لي أن كتبت في الآية شيئا، في منتصف ربيع الأول سنة 1324، في قرية ضمت حفلة من أهل العلم. فسأل بعض الناس عن تفسير الآية، ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه.

أردت إثباته هنا تعزيزا للمقام، ونصه: في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع (رد العجز على الصدر) ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص [ ص: 4929 ] مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق، أبان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا، وذلك في قوله تعالى: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة، بين الله تعالى في خاتمة السورة، شأن الأمانة، وعظم خطرها، وأنها عند الله بمكان عظيم; وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقا، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به، وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشد أزرها، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب، يتخذ عهود الله هزؤا ولعبا، فيخذل من وثق به، ويمالئ العدو عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به، وما أفظع ما ارتكب وما أعظم جريمته!.

وجلي أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها، وما ذكر بعض من آثارها، ففي أي مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار، فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة، وكان من آثارها السيئ في المدينة وأهلها ما كان- وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره، والإنسان هنا، المعني به جنس المنافق الذي قص من نبئه ما قص، والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد، ظلما لنفسه وجهلا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه، وبالعذاب الذي سيلقاه، وبكون هذا الأمر أمرا ربانيا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل.

والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها بهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كل من خطر تحملها، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن، مع أنهن أقوى أجساما، وأعظم ثباتا، وأصبر على [ ص: 4930 ] طوارئ الحدثان، تخوفا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها، وإن الإنسان، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال، فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وحقا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة; فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب، أسلوب انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن، هل كان بإيداع عقل فيهن أو لا؟ وفي تعيين زمانه، وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن، وفي معنى لوم الإنسان، ورميه بالظلم والجهل، بعد ما عرضت عليه، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك- كله فلسفة لفظية، ولدها عشاق الظواهر والألفاظ، الولعون في الغلو بمفرداتها، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه- ولن يجدوا إليه سبيلا ما دام هذا سبيلهم- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #507  
قديم 30-12-2024, 09:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ سَبَأٍ
المجلد الرابع عشر
صـ 4937 الى صـ 4948
الحلقة (507)




34- سُورَةُ سَبَأٍ


سميت بها لتضمن قصتها آية تدل على نعيم الجنة في السعة وعدم الكلفة والخلو عن الآفة ، وتبدلها بالنقم، لمن كفر بالمنعم.. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.

قاله المهايمي . وهي مكية. واستثني منها ويرى الذين أوتوا العلم الآية.

وروى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ألا أقاتل من أدبر من قومي؟ الحديث. وفيه: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله! وما سبأ ؟ الحديث.

قال ابن الحصار : هذا يدل على أن هذه القصة مدنية. لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.

قال: ويحتمل أن يكون قوله (وأنزل) حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته.

أفاده في (الإتقان) وآيها أربع وخمسون.

بسم الله الرحمن الرحيم



[ 1 ] الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير .

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا، وتصرفا بما شاء: وله الحمد في الآخرة أي: في النشأة الآخرة. قال الشهاب : السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره .

وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله: { الذي } إلخ، أنه محمود على نعم الدنيا، ولما قيد الثاني بكونه في الآخرة، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى: أنه المحمود على نعم الدنيا فيها، وعلى نعم الآخرة فيها . أو هو من باب الاحتباك، وأصله: الحمد لله إلخ. في الدنيا، وله ما في الآخرة والحمد فيها، فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة.

وقوله تعالى: وله الحمد معطوف على الصلة، أو اعتراض، إن كانت جملة: { يعلم } حالية: وهو الحكيم أي: الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته : الخبير أي: بخلقه وأعمالهم وسرائرهم، ثم ذكر مما يحيط به علما قوله:


[ 2 ] يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور .

يعلم ما يلج في الأرض أي: من الأمطار، والمياه، والكنوز، والدفائن، والأموات: وما يخرج منها أي: من الشجر، والنبات، وماء العيون، والغلة، والدواب: [ ص: 4938 ] وما ينـزل من السماء أي: من الأمطار، والثلوج، والبرد، والصواعق، والأرزاق، والملائكة، والمقادير: وما يعرج فيها أي: من الملائكة، وأعمال العباد: وهو الرحيم الغفور أي: لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.


[ 3 ] وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .

وقال الذين كفروا يعني مشركي مكة : لا تأتينا الساعة أي: ساعة الجزاء ، إنكارا لها: قل بلى وربي لتأتينكم أي: الساعة. رد لكلامهم وتأكيد لما نفوه، باليمين بالله عز وجل: عالم الغيب بالجر صفة، والرفع خبر محذوف، وقرئ ) علام (، بالجر. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد; لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به ، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته، لما أنه في حكم الاستشهاد على الأمر، لاسيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى; فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب، إذا قيل عالم الغيب: لا يعزب أي: لا يغيب بضم الزاي وكسرها: عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين أي: فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، وإن تناهى في الصغر ، فالعظام وأجزاء البدن، وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة; لسعة علمه وعظم قدرته، جل شأنه.

لطائف:

الأولى - عامة القراء على رفع: { أصغر } و: { أكبر } وفيه وجهان:

أحدهما: الابتداء [ ص: 4939 ] والخبر: { إلا في كتاب } والثاني النسق على: { مثقال } . وعلى هذا فيكون قوله: إلا في كتاب تأكيدا للنفي في: لا يعزب كأنه قال: لكنه في كتاب مبين، ويكون في محل الحال.

وقرأ بعض السلف بفتح الراءين، وفيه وجهان: أحدهما – أن { لا } هي لا التبرئة، بني اسمها معها. والخبر قوله: إلا في كتاب والثاني - النسق على: { ذرة } لامتناعه من الصرف.

الثانية - يشير قوله تعالى: ولا أصغر من ذلك إلى أن: { مثقال } لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضا.

الثالثة - قال الكرخي : فإن قيل فأي حاجة إلى ذكر ( الأكبر); فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، فأعلم أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك; فإن الأكبر مكتوب فيه أيضا. وقوله تعالى:


[ 4 ] ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم .

ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات علة لقوله تعالى: لتأتينكم وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء : أولئك لهم مغفرة ورزق كريم أي: عيش هنيء في الآخرة.


[ 5 ] والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم .

والذين سعوا في آياتنا أي: بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك معاجزين أي: مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل: أولئك لهم عذاب من رجز وهو أسوأ العذاب و: { من } للبيان: أليم بالرفع صفة عذاب، [ ص: 4940 ] وبالجر صفة لـ: رجز، قراءتان. وقد جوز في قوله: { والذين سعوا } أن يكون مبتدءا، وجملة: { أولئك } إلخ خبره وأن يعطف على: { الذين } قبله. أي: ويجزي الذين سعوا. ويكون جملة: { أولئك } التي بعده مستأنفة، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدهم بالسعي، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم، والجد البليغ، ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به.


[ 6 - 8 ] ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد .

ويرى أي: يعلم: الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد أي: دينه وشرعه: وقال الذين كفروا أي: من قريش : هل ندلكم على رجل يعنون النبي صلى الله عليه وسلم: ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أي: فرقتم كل تفريق، بحيث صرتم ترابا ورفاتا: إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أي: فيما قاله: أم به جنة أي: جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله: بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أي: المتناهي أمره; فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد، ونبذ الهوى والفساد، فيرمي الداعي بالفرية والجنون، لمغرق في الجهالة ، ومبعد أي بعد في الضلالة، ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب، بقوله سبحانه:
[ ص: 4941 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 9 ] أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب .

أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . أفاده الزمخشري .

(والكسف ): بسكون السين، بمعنى القطع، إما جمع كسفة، أو فعل بمعنى مفعول، أو مخفف من المصدر، وقرأ حفص : كسفا بالفتح: إن في ذلك أي: النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله: لآية أي: دلالة واضحة: لكل عبد منيب أي: راجع إلى ربه مطيع له، فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم ، كما قال تعالى:

أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وقال تعالى: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل ، والملك، وسعة السلطان، ووفرة الجند، وكثرة العدد، والعدد، ببركة إنابتهما، وقيامهما بشكر الرب تعالى، عدة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك، وتذكيرا بقدرته على كل شيء، فقال تعالى:


[ 10 - 11 ] ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير .

ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه أي: رجعي معه التسبيح و: يا جبال بدل من: { فضلا } أو من: { آتينا } بتقدير (قولنا)، أو (قلنا) يا جبال أوبي معه: والطير بالرفع والنصب، عطفا على لفظ الجبال ومحلها، وجوز انتصابه مفعولا معه، وأن يعطف على: { فضلا } بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري : فإن قلت أي فرق بين هذا النظم، وبين أن يقال: وآتينا داود منا فضلا، تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما ! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم اطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى.

وألنا له الحديد أن اعمل سابغات أي: دروعا واسعات: وقدر في السرد أي: اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها: واعملوا صالحا أي: وقلنا له ولأهله ذلك: إني بما تعملون بصير أي: فأجازيكم به.


[ 12 ] ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير .

ولسليمان أي: وسخرنا له: الريح غدوها شهر ورواحها شهر أي: جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك ، والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض. ويطلق بمعنى [ ص: 4943 ] النصرة والدلالة والغلبة والقوة، كما في القاموس: وأسلنا له عين القطر أي: النحاس المذاب; أي: أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه: ومن الجن أي: الشياطين الأقوياء: من يعمل بين يديه أي: من رفيع المباني، وإشادة القصور وغيرها: بإذن ربه أي: بأمره تعالى: ومن يزغ أي: يعدل: منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير أي: النار، ثم فصل ما ذكر من عملهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور .

يعملون له ما يشاء من محاريب أي: مساكن ومجالس شريفة، أو مساجد: وتماثيل أي: صور ونقوش منوعة على الجدر، والسقوف، والأعمدة. جمع ( تمثال)، وهو كل ما صور على مثل صورة غيره من حيوان، وغير حيوان، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.

قال السيوطي في ("الإكليل"): قال ابن الفرس : احتجت به فرقة في جواز التصوير، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا : وجفان كالجواب أي: وصحاف كالجوابي، وهي الحياض الكبار، و (الجفان): جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة، ما يوضع فيه الطعام مطلقا. وقيل الجفنة أعظم القصاع، ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة، ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة، ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين، ثم الصحيفة: وقدور راسيات أي: ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها: اعملوا آل داود شكرا أي: قيل لهم: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف، كما أن فيه وجوب الشكر، وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان; لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، وداود عليه السلام قد يدخل هنا في (آله); فإن آل الرجل قد يعمه: وقليل من عبادي الشكور أي: المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، أكثر أوقاته.
[ ص: 4944 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .

فلما قضينا عليه أي: على سليمان : الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض وهي الأرضة: تأكل منسأته أي: عصاه التي ينسأ بها، أي: يطرد ويؤخر: فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي: الشديد من الجري على رسمه لهم، والدأب عليه، لظنهم إياه حيا.

ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه، إثر بيان أحوال الشاكرين لها، ما فيه عظة واعتبار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور .

لقد كان لسبإ اسم لأبي قبيلة. وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها: في مسكنهم أي: في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها: (مأرب) ، كمنزل من بلاد الأزد، في آخر جبال حضرموت ، وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة، فإنها مدينة بلقيس ، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل. وقرئ: { مساكنهم } : آية على قدرته تعالى ومجازاته المسيء: جنتان عن يمين وشمال أي: جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها، أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله. قيل لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي: بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.

ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به ، بقوله سبحانه: بلدة طيبة أي: لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها: ورب غفور أي: لمن شكره.
[ ص: 4945 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل .

فأعرضوا أي: عن الشكر: فأرسلنا عليهم سيل العرم أي: سيل الأمر العرم، أي: الصعب والمطر الشديد - أو الوادي - أو السكر الذي يحبس الماء - أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها، وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم، واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى: وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط أي: ثمر مر، أو بشع لا يؤكل: وأثل شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له: وشيء من سدر قليل وهو شجر النبق; أي: قلة لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا تبديل النعم بالنقم، لمن لم يشكر النعم ، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور .

ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور أي: بشكر النعم، أو باتباع الرسل، وتكذيب الحق، والعدول إلى أهل الباطل، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة، والغبطة، والعيش الهني، والبلاد الآمنة، والقرى المتواصلة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين .

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها أي: بالزروع والثمار، وحسن العمران، وهي [ ص: 4946 ] قرى بصنعاء ، كما قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومالك ، وغيرهم: قرى ظاهرة أي: متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها; فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم: وقدرنا فيها السير أي: جعلنا بين قراها مقادير متساوية، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة، ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدو ونحوه: سيروا فيها ليالي وأياما آمنين أي: لا تخافون في الليل أو النهار، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد، فلا ترون إلا الأمن، والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبي ونحوه، أو بلسان الحال، كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به، فالأمر للإباحة. وفي: (في)، إشعار بشدة القرب، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .

فقالوا أي: بلسان الحال، والميل إلى المهالك الشيطانية: ربنا باعد بين أسفارنا أي: فاستعدوا لضلالهم وكفرهم، لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطي والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه، وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة: وظلموا أنفسهم أي: حتى حل بهم ما حل: فجعلناهم أحاديث أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني: ومزقناهم كل ممزق أي: فرقناهم كل تفريق، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا. يقولون: تفرقوا أيادي سبا، وذهبوا أيدي سبا. بألف مقصورة.

قال الأزهري : العرب لا تهمز سبئا في هذا الموضع; لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزا، والذهاب معلوم، والأيادي جمع أيد، والأيدي جمع يد، وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد [ ص: 4947 ] . قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي: متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. و(اليد) الطريق. يقال: أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة: (ذهبوا أيدي سبا); أي: فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.

قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيا على السكون. وفي (" زهر الأكم، في الأمثال والحكم)" أن سبا كانت أخصب بلاد الله، كما قال تعالى: جنتان عن يمين وشمال قيل كانت مسافة شهر للراكب المجد، يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء، فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه، وكانت في بدء الأمر تركبها السيول، فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم، فاتخذوا سدا في بدء جريان الماء، ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات، فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته، وأرسل عليهم السيل فمزقهم كل ممزق، وأباد خضراءهم، وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان ، وخزاعة ببطن مر ، والأوس والخزرج بيثرب ، وآل جفنة بأرض الشام ، وآل جذيمة الأبرش بالعراق .

وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس ، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: « بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان » . قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة .

روى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم ». فقاتل بمقبل قومك مدبرهم. فلما وليت دعاني فقال: « لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام » [ ص: 4948 ] فقلت: يا رسول الله ! أرأيت سبئا؟ أواد هو، أو جبل، أو ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: « لا، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة، فتيامن ستة، وتشاءم أربعة; تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار - الذين يقال لهم بجيلة - وخثعم . وتشاءم لخم ، وحذام ، وعاملة ، وغسان » .

قال ابن كثير : حديث حسن، وإن كان فيه أبو حباب الكلبي ، وقد تكلموا فيه.

ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب (" القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم") عن تميم الداري ، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ؟ فذكر مثله .

وقال ابن كثير : فقوي هذا الحديث وحسن.

وذكر علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وإنما سمي سبئا لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له الرائش; لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا، وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم، وقال في ذلك شعرا:


سيملك بعدنا ملك عظيم نبي لا يرخص في الحرام ويملك بعده منهم ملوك
يدينوه القياد بكل رامي ويملك بعدهم منا ملوك
يصير الملك فينا بانقسام ويملك بعد قحطان نبي
تقي متحنث خير الأنام يسمى أحمدا يا ليت أني
أعمر بعد مبعثه بعام فأعضده وأحبوه بنصري
بكل مدجج وبكل رام متى يظهر فكونوا ناصريه
ومن يلقه يبلغه سلامي
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #508  
قديم 30-12-2024, 09:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ سَبَأٍ
المجلد الرابع عشر
صـ 4949 الى صـ 4959
الحلقة (508)





ذكر ذلك الهمداني في كتاب (" الإكليل"). واختلفوا في قحطان . فقيل: إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح . وقيل: من سلالة عابر وهو هود عليه السلام. وقيل: إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري في كتاب (" الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواه") [ ص: 4949 ] . قال ابن كثير : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في سبأ : كان رجلا من العرب يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث، كان من سلالة الخليل عليه السلام، وليس هذا بالمشهور عندهم. والله أعلم.

ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون فقال: « ارموا، بني إسماعيل ! فإن أباكم كان راميا » . وأسلم قبيلة من الأنصار . والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن . من سبأ ، نزلت يثرب ، لما تفرقت، كما مر. (ثم قال): ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: « ولد له عشرة » أي: كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه. بل منهم من بينه وبينه، الأبوان والثلاثة، والأقل والأكثر. كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب.

إن في ذلك أي: فيما ذكر من قصتهم، وما حل بهم من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام: لآيات أي: لعبرا عظيمة: لكل صبار شكور أي: شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام، والشكر على النعم، قال الأعشى من قصيدة:


ففي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ن منه على شرب طفل فطم
القول في تأويل قوله تعالى:

[ ص: 4950 ] [ 20 - 21 ] ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ .

ولقد صدق عليهم إبليس ظنه قال الزمخشري : قرئ: صدق، بالتشديد والتخفيف، ورفع لفظ (إبليس)، ونصب (الظن). فمن شدد، فعلى: (حقق عليهم ظنه، ووجده ظنه صادقا); أي: صدق بمعنى حقق مجازا; لأنه ظن شيئا فوقع فحققه.

وقوله: أو وجده ظنه صادقا. فإن العرب تقول صدقك ظنك. والمعنى أن إبليس كان يسول له ظنه شيئا فيهم، فلما وقع جعل كأنه صدقه. ا هـ شهاب.

ومن خفف فعلى: (صدق في ظنه، أو صدق يظن ظنا). نحو فعلته جهدك; أي: فـ: (ظنه)، منصوب على الظرفية بنزع الخافض، وأصله: (في ظنه); أي: وجد ظنه مصيبا في الواقع، فـ: (صدق)، حينئذ بمعنى أصاب، مجازا. أو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر. كفعلته جهدك، أي: وأنت تجهد جهدك. فالمصدر وعامله في موقع الحال. ا هـ شهاب.

وبنصب إبليس ورفع (الظن)، فمن شدد فعلى: (وجد ظنه صادقا). ومن خفف، فعلى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواؤهم ) برفع: ( إغواؤهم) على الفاعلية، أو نصبه على الحذف والإيصال، وفاعله وضمير الظن; أي: خيل له إغواءهم. ا هـ شهاب. يقولون: صدقك ظنك.

وبالتخفيف ورفعهما، أي: على إبدال الظن من إبليس، بدل اشتمال. ا هـ شهاب. على: صدق عليهم ظن إبليس. انتهى.

وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات، أو ببني آدم حينما رأى ما ركب فيهم من الشهوة والغضب.

فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أي: ما كان له عليهم من تسليط واستيلاء [ ص: 4951 ] بالوسوسة والاستغواء، إلا لغرض صحيح وحكمة بينة، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل التسليط بالعلم. والمراد ما تعلق به العلم. قاله الزمخشري . يعني أن العلم المستقبل المعلل به هنا، ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس. بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب.

فالمعنى ما سلطناه عليهم إلا ليبرز من كمون الغيب ما علمناه، فتظهر الحكمة فيه بتحقق ما أردناه من الجزاء أو لازمه، وهو ظهور المعلوم.

ويجوز أن يكون المعنى: لنجزي على الإيمان وضده. كذا في(" العناية"): وربك على كل شيء حفيظ أي: رقيب قائم على أحواله وأوامره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير : قل أي: للمشركين، إظهارا لبطلان ما هم عليه، وتبكيتا لهم: ادعوا الذين زعمتم أي: زعمتموهم آلهة: من دون الله لا يملكون مثقال ذرة أي: من خير، وشر، ونفع، وضر: في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك أي: شركة، لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا: وما له منهم من ظهير أي: معين يعينه على تدبير خلقه، قال الزمخشري : يريد أنهم على هذه القصة من العجز، والبعد عن أحوال الربوبية. فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى، ويرجوا كما يرجى؟
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير .

ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أي: من المستأهلين لمقام الشفاعة [ ص: 4952 ] . كالنبيين والملائكة. وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله: حتى إذا فزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة، في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك: قالوا أي: سائلا بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم قالوا الحق أي: قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى : وهو العلي الكبير أي: ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.

قال ابن كثير : هذا أيضا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي. فسمع أهل السماوات كلامه، أرعدوا من الهيبة، حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود رضي الله عنه، ومسروق ، وغيرهما.

قال الزمخشري : فإن قلت: بم اتصل قوله تعالى: حتى إذا فزع عن قلوبهم ولأي شيء وقعت حتى غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص، ومثل هذه الحال دل عليه قوله عز وجل: رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا أي: وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال، عظمة وسموا من ذي الجلال، فأنى ينالها جماد لا يعقل، لا سيما وهو عدو للكبير المتعال، فتبين كذبهم فيهم أنهم شفعاء، وحرمانهم من مقامها، بأجلى بيان وأفصح مقال.

وفي الآية تأويل آخر، وهو أن معنى قوله تعالى: حتى إذا فزع عن قلوبهم أي: عن قلوب المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا. قال مجاهد : حتى إذا فزع عن قلوبهم أي: كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن : أي: كشف عما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [ ص: 4953 ] : هذا عند الموت، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار. واختار ابن جرير القول الأول، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة.

قال ابن كثير : وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه; لصحة الأحاديث فيه والآثار، أي: ولورود ما يؤيده في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وذلك في قوله تعالى: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون نعم، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل، ما وجد إليها سبيل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .

قل من يرزقكم من السماوات والأرض أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما. وقوله: قل الله أي: الذي تعترفون بأنه هو الخالق، كما قال تعالى: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله أي: فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم.

وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين أي: وإن أحد الفريقين من الموحدين الرازق من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال.

[ ص: 4954 ] قال الزمخشري : وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف، قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ، دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب.

ومنه بيت حسان :



أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء


انتهى.

قال الناصر : وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد، واستعاده الخاطر، كأني بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم، وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله، والله الموفق. انتهى.

قال الشهاب : وهذا فن من فنون البلاغة يسمى (الكلام المنصف). وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب. ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعا لقوله: { وإنا } و: أو في ضلال راجعا لـ: { إياكم } كان العطف بالواو لا بأو، وكونها بمعنى الواو كما في قوله:


سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه


[ ص: 4955 ] بعيد جدا. إلا أنه قيل: لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد. وإيثار (على)، في الهدى، و (في) في مقابله، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال، أو الراكب على جواد، وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون .

قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون أي: قل لهؤلاء المشركين: لا تسئلون عما أجرمنا من جرم، وركبنا من إثم، ولا نسئل نحن عما تعملون من عمل.

قال ابن كثير : معناه التبري منهم. أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده، ولإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن براء منكم وأنتم براء منا. كما قال تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون وقوله: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد السورة . انتهى .

وما ذكره معنى دقيق، قل من يتفطن له، أسميه التفسير بالأشباه والنظائر ، وهو حمل آية موجزة أو مجملة على آية تشبهها مطولة أو مبينة، ولا يدرك هذا إلا الراسخ في فن التأويل، الولع بتدبر التنزيل، ومن لطائف الآية ما ذكره الزمخشري والمنتصف، من أن هذا القول أدخل في الإنصاف من الأول، حيث أسند الإجرام إلى النفس، وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين، وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر. فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات، التزاما للإنصاف، وزيادة على ذلك، أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي، الذي يعطي تحقيق المعنى، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطي ذلك. والله أعلم.
[ ص: 4956 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم .

قل يجمع بيننا ربنا أي: يوم القيامة في صعيد واحد ثم يفتح بيننا بالحق أي: يقضي بالعدل; لأن أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال، فيتبين يومئذ المهتدي منا من الضال، ويجزي كلا بعمله، كما قال تعالى: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ولهذا قال سبحانه: وهو الفتاح العليم أي: الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه ; لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم .

قل أروني الذين ألحقتم به شركاء أي: جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها له عدلا، قال أبو السعود : أريد بأمرهم بإراءة الأصنام، مع كونها بمرأى منه عليه الصلاة والسلام. إظهار خطئهم العظيم وإطلاعهم على بطلان رأيهم; أي: أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة ، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم.

وقد جوز المعرب في ( رأى) هنا أن تكون علمية متعدية بهمزة النقل، إلى ثلاثة مفاعيل: ياء المتكلم والموصول وشركاءه. وعائد الموصول محذوف; أي: ألحقتموهم. وأن تكون بصرية تعدت بالنقل لاثنين: ياء المتكلم والموصول، (وشركاء) حال. ولا ضعف [ ص: 4957 ] في هذا كما قاله ابن عطية . بل فيه توبيخ لهم، إذ لم يرد حقيقته; لأنه كان يراهم ويعلمهم، فهو مجاز وتمثيل. والمعنى: ما زعمتموه شريكا إذا برز للعيون، وهو خشب وحجر، تمت فضيحتكم. وقوله تعالى: كلا ردع لهم عن المشاركة، بعد إبطال المقايسة: بل هو الله العزيز الحكيم أي: الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة. فأين شركاؤهم التي هي أخس الأشياء وأذلها، من هذه الرتبة العالية. والضمير إما لله عز وعلا، أو لشأن. قاله أبو السعود .القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: وما أرسلناك إلا إرسالة عامة لجميع الخلائق من المكلفين ، تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، كقوله تبارك وتعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا

ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغي والضلال كقوله عز وجل: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله

قال ابن عباس - فيما رواه ابن أبي حاتم - إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء، وعلى الأنبياء. قالوا: يا ابن عباس ! فبم فضله الله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه: إن الله تعالى قال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ ص: 4958 ] ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك إلا كافة للناس فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس .

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في" الصحيحين" رفعه عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسير شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة » ، وفي" الصحيح" أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بعثت إلى الأحمر والأسود » ، قال مجاهد : يعني الجن والإنس. وقال غيره: يعني العرب والعجم. والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته ، هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا، وأي زمان وجدوا، مما لم يتفق في شرع قبله قط، ولهذا ختمت النبوات بنبوته صلى الله عليه وسلم، كما تقرر في موضعه.القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 - 30 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون .

[ ص: 4959 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون يعنون بالوعد المنذر به استهزاء، كقوله تعالى: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق وقوله: وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين .

وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه وهو ما نزل قبل القرآن من كتبه تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول أي: يتجاذبون أطراف المحادثة، ويتراجعونها بينهم، ثم أبدل من: { يرجع } قوله: يقول الذين استضعفوا وهم الأتباع: للذين استكبروا وهم قادتهم وسادتهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين .

قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة، والبراهين، والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #509  
قديم 30-12-2024, 09:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ سَبَأٍ
المجلد الرابع عشر
صـ 4960 الى صـ 4970
الحلقة (509)





[ ص: 4960 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون .

وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار أي: مكركم فيهما وإغراؤكم وتمنيتكم لنا: إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا أي: نظراء وآلهة معه وأسروا أي: الجميع من السادة والأتباع: الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم: هل يجزون إلا ما كانوا يعملون أي: بأعمالهم كل بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 - 35 ] وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين .

وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين أي: زعما أنه أكرمهم الله بذلك في الدنيا، فلا يعذبهم في الآخرة على تقدير وقوعها، وتوهما بأنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم. وقد أبطل الله تعالى حسبانهم ذلك بقوله:
[ ص: 4961 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي: يضيق عليه حسب ما اقتضته حكمته ومشيئته في عباده، من يحب ومن لا يحب، وهو أعلم بمقتضياته وشؤونه، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعذاب، اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، ولذا قال: ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك. فيزعمون أن مدار البسط الكرامة، والتضييق الهوان. ويجهلون أن مناط الفوز والقرب منه تعالى، إنما هو الكمالات النفسية، وذلك بصدق الإيمان وحسن الاتباع. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون .

وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى أي: بالمزية التي تقربكم قربة. فـ: { زلفى } محلها النصب: إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف أي: الثواب المضاعف: بما عملوا وهم في الغرفات آمنون أي: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن نظائر الآية قوله تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقوله سبحانه: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون

[ ص: 4962 ] وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » .
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون .

والذين يسعون في آياتنا أي: بالصد عنها والطعن فيها: معاجزين أي: قاصدين المعاجزة والمغالبة والقهر: أولئك في العذاب محضرون أي: في عذاب جهنم محضرون يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين .

قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه أي: يعوضه، فإن ينابيع خزائنه لا تنضب، وسحائب أرزاقه سحاء الليل والنهار: وهو خير الرازقين أي: أعلاهم; لأنه خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق ، روى أبو يعلى عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض; يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق » . ثم تلا هذه الآية: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وقال مجاهد : لا يتأولن أحدكم هذه الآية: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.
[ ص: 4963 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 - 41 ] ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون .

ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون قال الزمخشري : هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر إياك أعني واسمعي يا جارة). ونحوه قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير. والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم، وهوانهم ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزجرا لمن اقتص عليه. انتهى.

وتخصيص الملائكة، لأنهم أشرف الأنداد عند مشركي العرب، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله، لزعمهم أن الأوثان على صور الهياكل العلوية المقربة، فتكون شفعاء لهم. وقوله تعالى: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون أي: أبإذنكم كان ذلك. كما قال تعالى: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل وكما يقول تعالى لعيسى عليه السلام: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك وهكذا تقول [ ص: 4964 ] الملائكة: سبحانك أي: تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله: أنت ولينا من دونهم أي: أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فنبرء إليك منهم. بينوا بإثبات موالاة الله، ومعاداة الكفار ، براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم. وقولهم: بل كانوا يعبدون الجن أي: الشياطين، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم. والضمير الأول في قولهم: أكثرهم بهم مؤمنون للإنس أو للمشركين، والأكثر بمعنى الكل، والثاني للجن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 42 ] فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون .

فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا أي: لأن الأمر كله فيه لله; لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. قال أبو السعود : وهذا من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة، يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد، إظهارا لعجزهم، وقصورهم عند عبدتهم، وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية: ونقول للذين ظلموا وهم المشركون: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ثم بين جملة أخرى من كفرانهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا [ ص: 4965 ] يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا أي: القرآن الكريم: إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير .

وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير أي: ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما من الله عليهم بذلك كذبوه، وجحدوه، وعاندوه. ثم هددهم سبحانه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 45 ] وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير .

وكذب الذين من قبلهم أي: من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا: وما بلغوا أي: هؤلاء: معشار ما آتيناهم يعني أولئك، من المال، وبسطة الملك، والعمران، والمدنية: فكذبوا رسلي فكيف كان نكير أي: عقابي، ونكالي، وانتقامي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46 ] قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد .

قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله أي: بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق، وقد فسرها بقوله: أن تقوموا لله مثنى وفرادى أي: قياما خالصا لله بلا محاباة [ ص: 4966 ] ، ولا مراءاة، اثنين اثنين، وواحدا واحدا: ثم تتفكروا أي: في أمره صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى، والإصلاح، وتهذيب الأخلاق، ورفع النفس عن عبادة ما هو أحط منها من الأوثان، إلى عبادة فاطر الأرض والسماوات، واتباع الأحسن، ونبذ التقاليد، وإنزال الرؤساء إلى مصاف المرؤوسين رغبة في الإخاء والمساواة، إلى غير ذلك من محاسن الإسلام، وخصائصه المعروفة في الكتب المؤلفة في ذلك.

وقوله تعالى: ما بصاحبكم من جنة أي: جنون. مستأنف منبه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كاف في ترجح صدقه، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير، وخطب عظيم من غير تحقيق وثوق ببرهان. فيفتضح على رؤوس الأشهاد، ويلقي نفسه إلى الهلاك، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة؟ وجوز كون الجملة معلقا عنها; لقول ابن مالك : إن ( تفكر) يعلق حملا على أفعال القلوب، والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بـ: (صاحبهم); للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بقوة العقل، ورزانة الحلم وسداد القول والفعل إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد وهو عذاب الآخرة والمآل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 47 - 49 ] قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد .

قل ما سألتكم من أجر فهو لكم أي: أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة فهو لكم. والمراد نفي السؤال رأسا، وإمحاض النصح كناية، لأن ما يسأله السائل، يكون له، فجعله للمسؤول عنه; كناية عن أنه لا يسأل أصلا. و (" ما") على هذا شرطية. وجوز كونها [ ص: 4967 ] موصولة مرادا بها ما سألهم: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وقوله: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وقرباه عليه السلام قرباهم. وجوز أيضا كونها نافية. وقوله: فهو لكم جواب شرط مقدر; أي: فإذا لم أسألكم فهو لكم: إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق أي: يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه، أو يرمي به في أقطار الآفاق، فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق: علام الغيوب قل جاء الحق أي: ظهر، وهو الإسلام ومحاسنه : وما يبدئ الباطل وما يعيد كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره، مأخوذ من هلاك الحي، فإنه ما دام موجودا، إما أن يبدئ فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. ثم شاع في كل ما ذهب، وإن لم يبق له أثر، وإن يكن ذا روح. وجوز كون ( ما) استفهامية منتصبة بما بعده; أي: أي شيء يقدر عليه.

تنبيه:

في" الإكليل": في الآية استحباب هذا القول عند إزالة المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50 ] قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب .

قل إن ضللت أي: عن الطريق الحق: فإنما أضل على نفسي أي: لأن وبال ذلك عائد عليها، أو على ذاتي، لا على غيري: وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي أي: من الرشاد والحق المبين: إنه سميع قريب فإن قيل: مقتضى المقابلة مع الجملة قبلها، أن يقال: (وإن اهتديت فإنما أهتدي لها) [ ص: 4968 ] . فلم عدل عنها إلى ما ذكر؟ قيل: إن المقابلة تكون باللفظ وتكون بالمعنى. وما هنا من الثاني، بيانه أن النفس كل ما عليها فهو بها، أي: كل ما هو وبال عليها، وضار لها، فهو بسببها، ومنها; لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما هو لها مما ينفعها، فبهداية ربها وتوفيقه إياها.

وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسند ذلك إلى نفسه; لأن (الرسول) إذا دخل في عمومه، مع علو محله وسداد طريقته، كان غيره أولى به. أشار لهذا، الفاضل ابن الأثير في (" المثل السائر").
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51 ] ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب .

ولو ترى إذ فزعوا أي: هؤلاء المكذبون عند الموت أو البعث أو ظهور الحق وسلطانه، ودخولهم تحت أسره: فلا فوت أي: لهم، بهرب أو التجاء; إذ لا وزر لهم ولا ملجأ: وأخذوا من مكان قريب أي: من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو ظفر بهم بسهولة بعد تعذره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52 ] وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد .

وقالوا آمنا به أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو القرآن: وأنى لهم التناوش من مكان بعيد أي: ومن أين لهم تناول الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، لأنهم صاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء، لا دار الابتلاء ، أو: لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم، أي: (على تفسير: إذ فزعوا بظهور الحق عليهم في حياتهم، منه) قال الزمخشري : التناوش والتناول، أخوان، إلا أن التناوش، تناول سهل لشيء قريب [ ص: 4969 ] ، يقال: ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال تناوشوا في الحرب. ناش بعضهم بعضا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع، تناولا سهلا لا تعب فيه. انتهى. أي: ففيه استعارة تمثيلية; شبه إيمانهم حيث لا يقبل، بمن كان عنده شيء يمكن أخذه، فلما بعد عنه فرسخا، مد يده لتناوله. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 53 ] وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد .

وقد كفروا به من قبل حال، أو معطوف، أو مستأنف. والأول أقرب ويقذفون بالغيب من مكان بعيد أي: يرجمون بالظن فيتكلمون بما لم ينشأ عن تحقيق من أقوالهم الباطلة ; كقولهم: ساحر، وشاعر، ومجنون، وما نحن بمبعوثين، ونحو ذلك. فكله مقذوف من جهة بعيدة، لا قرب لمصداقها بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 54 ] وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب .

وحيل بينهم وبين ما يشتهون أي: من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النار ، أو من أن يدال لهم الأمر; لأنه جاء نصر الله والفتح: كما فعل بأشياعهم من قبل أي: بأشباههم من كفرة الأمم: إنهم كانوا في شك مريب من (أرابه)، أوقعه في ريبة وتهمة. فالهمزة للتعدية. أو من: (أراب الرجل)، أي: صار ذا ريبة، وهو مجاز، إما بتشبيه الشك بإنسان، على أنه استعارة مكنية وتخييلية، أو على أنه إسناد مجازي، أسند فيه ما لصاحب الشك، للشك، للمبالغة. أفاده الشهاب .

[ ص: 4970 ] تنبيه:

في )" الإكليل"( قال ابن الفرس : احتج بهذه الآية بعض المفسرين، على أن الشاك كافر. ورد بها على من زعم أنه ليس بكافر، وأن الله لا يعذب على الشك. انتهى.

وعن قتادة : إياكم والشك والريبة; فإن من مات على شك بعث عليه، ومن مات على يقين بعث عليه .

أحيانا الله وبعثنا على اليقين; إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #510  
قديم 30-12-2024, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ فَاطِرٍ
المجلد الرابع عشر
صـ 4971 الى صـ 4980
الحلقة (510)





سُورَةُ فَاطِرٍ

سميت بذلك لما جاء فيها من خلق الملائكة، وجعلهم ذوي أجنحة متنوعة في العدد ، الدال على عجيب صنعه تعالى وباهر قدرته.

وقال المهايمي : سميت بها لاشتمالها على بيان تفصيل رسالتهم، من جهة أخذهم الفيض عن الله، وإيصاله إلى خلقه، من جهة أو جهتين أو ثلاث أو أكثر.

ليشعر أن الرسالة العامة لهم، إذا كانت كذلك، فكيف الرسالة الخاصة؟ مثل إنزال القرآن. فيجوز أن يكون له جهات كثيرة.

وقد روي أنه كان لجبريل ستمائة جناح . انتهى.

وتسمى هذه السورة سورة (فاطر) لذكر هذا الاسم الجليل والنعت الجميل في طليعتها. وهذه السورة ختام السور المفتتحة بالحمد، التي فصلت فيها النعم الأربع، التي هي مجامع النعم. لأن نعم الله تعالى قسمان: عاجلة وآجلة . والعاجلة وجود وبقاء، والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى. كما بينه الرازي .

[ ص: 4972 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 1 - 2 ] الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم .

الحمد لله فاطر السماوات والأرض أي: مبتدئها ومبدعها من غير سبق مثل ومادة : جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع أي: ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد ، حسب تفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون، أو يسرعون بها.

وفي الصحيح: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة أسري به، وله ستمائة جناح » . ولهذا قال سبحانه: يزيد في الخلق ما يشاء أي: يزيد في خلق الأجنحة وغيره ما يشاء، مما تقتضيه حكمته: إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة أي: نعمة سماوية كانت أو أرضية: فلا ممسك لها أي: لا أحد يقدر على إمساكها: وما يمسك فلا مرسل له من بعده أي: من بعد إمساكه: وهو العزيز الغالب على كل ما يشاء: الحكيم أي: في أمره وصنعه.
[ ص: 4973 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 3 ] يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون .

يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم أي: لتستدلوا بها على وحدته في ألوهيته; لأنه المنفرد بإرسالها وحده ، ولا يصح لمن انفرد بالإنعام أن يشرك معه غيره; لأنه كفران له موجب لغضبه. وهذا ما أشار له بقوله تعالى: هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض أي: المطر والنبات: لا إله إلا هو فأنى تؤفكون أي: تصرفون عن التوحيد الواجب - لأنه مقتضى شكر النعم - إلى الشرك والكفر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 4 ] وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور .

وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور فيجازي المكذب وشيعته بالخزي وظهور الحق عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 5 ] يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور .

يا أيها الناس إن وعد الله حق أي: ما وعد به من جزائه بالثواب إن صدقتم في الاتباع، وبالعقاب، إن عصيتم: فلا تغرنكم الحياة الدنيا أي: بأن يذهلكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها، عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله: ولا يغرنكم بالله الغرور أي: الشيطان، وقرئ بالضم.
[ ص: 4974 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 ] إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير .

إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير أي: باتباع الهوى والركون إلى الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 - 8 ] الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون .

الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا أي فمن حسن له عمله السيئ, بأن غلب هواه على عقله، حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والقبيح حسنا , كمن لم يزين له ,بل فعرف الحق وميز الحسن من السيئ ؟ فحذف الجواب لدلالة قوله: فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء أي الإيمان واتباع الحق وجوز أن يكون تقديره: أفمن زين له سوء عمله , ذهبت نفسك عليهم حسرة , بقوله تعالى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أي فلا تهلك نفسك حزنا على ضلالهم وعدم اتباعهم لك إن الله عليم بما يصنعون أي فيجازيهم عليه .
[ ص: 4975 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 9 ] والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور .

والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور أي: مثل إحياء الموات، إحياء الأموات ، وكثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، ليعتبر المرتاب في هذا، فإنه من أظهر الآيات وأوضحها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور .

من كان يريد العزة أي: الشرف والرفعة: فلله العزة جميعا أي: فليطلبها من عنده، باتباع شريعته، وموالاة أنبيائه ورسله، والتأسي بهم في الصلاح والإصلاح، والصبر والثبات، واطراح كل ملامة رغبة في الحق وعملا بالصدق. وهذا كآية: الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وكآية: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين إليه يصعد الكلم الطيب وهو الداعي إلى الحق والإصلاح، والمنبه على سبل الضلال والفساد: والعمل الصالح يرفعه أي: يرفع الكلم العمل الصالح ، على أن يكون المستكن للكلم، إشارة إلى أن العمل لا يقبل إلا بالكلم المؤثر في إبلاغ دعوة الخير. والضمير المستتر للعمل، والبارز للكلم; أي: يكون العمل [ ص: 4976 ] الصالح موجبا لرفعها وقبولها لأنه يحققها ويصدقها، كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت والذين يمكرون السيئات أي: الأعمال السيئة المفسدة لصلاح الأمة وقيام عمرانها: لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور أي: يضمحل; لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير .

والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا أي: ذكرانا وإناثا، لطفا منه ورحمة: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر أي: من أحد، وإنما سمي معمرا لما يؤول إليه; أي: وما يمد في عمر أحد: ولا ينقص من عمره إلا في كتاب وهو علمه تعالى الذي سبق، ببلوغ أصله إليه: إن ذلك على الله يسير أي: الحفظ والزيادة أو النقص سهل; لشمول علمه وعموم قدرته.

لطيفة:

الضمير في عمره)، للمعمر قبله. باعتبار الأصل المحول عنه; لأن الأصل: (وما يعمر من أحد) كما ذكرنا، أو هو على التسامح المعروف فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، كقولهم: (له علي درهم ونصفه); أي: نصف درهم آخر. أو للمنقوص من عمره لا للمعمر، كما في الوجه السابق، وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور، كما قيل: (وبضدها تتبين الأشياء). فيعود [ ص: 4977 ] الضمير على ما علم من السياق. وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك، ومحصله، كما ذكره الشهاب ، أنه اختلف في معنى: معمر فقيل: المزاد عمره; بدليل ما يقابله من قوله: ينقص إلخ. وقيل: من يجعل له عمر. وهل هو واحد أو شخصان؟ فعلى الثاني هو شخص واحد. قالوا مثلا: يكتب عمره مائة ثم يكتب تحته مضى يوم، مضى يومان، وهكذا. فكتابة الأصل هي التعمير، والكتابة بعد ذلك هو النقص. كما قيل:


حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منها انتقصت به جزءا


والضمير في: (عمره)، حينئذ راجع إلى المذكور، والمعمر هو الذي جعل الله له عمرا طال أو قصر، وعلى القول الأول هو شخصان. والمعمر الذي يزيد في عمره. والضمير حينئذ راجع إلى (معمر آخر); إذ لا يكون المزيد من عمره منقوصا من عمره. وهذا قول الفراء ، وبعض النحويين، وهو استخدام، أو شبيه به. انتهى.

ثم أشار تعالى لآيات أخرى من آيات قدرته ووحدانيته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .

وما يستوي البحران هذا عذب فرات أي: شديد العذوبة: سائغ شرابه وهذا ملح أجاج أي: قوي الملوحة: ومن كل تأكلون لحما طريا يعني السمك: وتستخرجون حلية تلبسونها أي: زينة تتحلون بها. كما قال تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وترى الفلك فيه مواخر أي: تمخر الماء وتشقه بجريها: لتبتغوا من فضله أي: بالتنقل فيها: ولعلكم تشكرون
[ ص: 4978 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير .

يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يعني مدة دوره، أو منتهاه، أو يوم القيامة: ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير أي: فأنى يستأهلون العبادة. (والقطمير): لفافة النواة، وهو مثل في القلة والحقارة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير .

إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأنهم جماد: ولو سمعوا أي: على الفرض: ما استجابوا لكم أي: لعدم قدرتهم على النفع: ويوم القيامة يكفرون بشرككم أي: يقرون ببطلانه، وأن لا أمر لهم فيه: ولا ينبئك مثل خبير أي: لا يخبرك بالأمر مخبر، مثل خبير عظيم أخبرك به، وهو الحق سبحانه; فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين . والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدعون لهم من الإلهية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد .

يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله أي: رحمته، وعنايته، ولطفه، وإمداده في كل [ ص: 4979 ] لمحة ونفس، وسر وصل الآية بما قبلها من التهكم بالأنداد، لتذكيرهم الالتجاء إليه تعالى، والتضرع والابتهال إذا مسهم الضر ، وأخذت البأساء بمخانقهم، فإنهم يشعرون من أنفسهم دافعا إلى سؤاله لا مرد له. وحاثا إلى اللجأ إليه لا صاد عنه، كما بين في غير آية، مما يدل على أنه تعالى هو الحقيق بالعبادة، لغناه المطلق، كما قال: والله هو الغني الحميد أي: المحمود لنعمه التي لا تحصى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 - 17 ] إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز .

أي: بممتنع. قال الزمخشري : وهذا غضب عليهم، لاتخاذهم له أندادا، وكفرهم بآيه، ومعاصيهم، كما قال: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير .

ولا تزر وازرة وزر أخرى أي: لا تحمل نفس آثمة: وزر أخرى أي: إثم نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس ; كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي، والجار بالجار، ولا يرد آية: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم لأنها في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم، ما فيها شيء من وزر غيرهم.

[ ص: 4980 ] وإن تدع مثقلة أي: نفس أثقلتها الأوزار: إلى حملها أي: إلى حمل بعض أوزارها ليخفف عنها: لا يحمل منه شيء أي: لم تجب ولم تغث بحمل شيء: ولو كان أي: المدعو المفهوم من الدعوة: ذا قربى أي: ذا قرابة من الداعي، من أب أو ولد أو أخ، وهذا قطع لأطماع انتفاعهم بقرابتهم، وغنائهم عنهم، وأنه لا تملك نفس لنفس شيئا، وأن كل امرئ بما كسب رهين ، ثم بين من يتعظ ويتذكر; فقال سبحانه: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى أي: تطهر من أوضار الأوزار: فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] وما يستوي الأعمى والبصير .

وما يستوي الأعمى والبصير مثل للكافر والمؤمن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] ولا الظلمات ولا النور .

ولا الظلمات ولا النور مثل للحق والباطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] ولا الظل ولا الحرور .

ولا الظل ولا الحرور مثل للثواب والعقاب و: الحرور الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 11 ( الأعضاء 0 والزوار 11)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 473.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 467.93 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.23%)]