تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 54 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4933 - عددالزوار : 2016709 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4506 - عددالزوار : 1295808 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 629 - عددالزوار : 114923 )           »          المخدرات دمار للعقول والمجتمعات كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          القلقاس: خضار لذيذ بفوائد عديدة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          10 أسباب للدوخة والغثيان عند النساء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الدعم النفسي لذوي الاحتياجات الخاصة: دليلك الشامل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          7 نصائح للتعامل مع مريض الذهان: طرق بسيطة وعملية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          علاج حساسية الوجه: دليلك الشامل للتغلب عليها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          كيف أحمل بولد: طرق طبيعية وطبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #531  
قديم 25-02-2025, 04:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ فصلت
المجلد الرابع عشر
صـ 5181 الى صـ 5190
الحلقة (531)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 72]
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون (72)
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون أي عن الرشد إلى الغي الذين كذبوا بالكتاب أي بكتاب الله، وهو القرآن وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم أي الماء الحار. قال المهايمي: لدفعهم برد اليقين من دلائل الكتاب والسنة ثم في النار يسجرون أي يحرقون. قال المهايمي: لإحراقهم الأدلة العقلية والنقلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 73 الى 74]
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74)
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا أي غابوا فلم نعرف مكانهم. وهذا قبل أن يقرنوا معهم. أو ضلالهم استعارة لعدم نفعها لها.
فحضورهم كالعدم بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا أي ما كنا مشركين. وكذبوا
لحيرتهم واضطرابهم. أو بمعنى: تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئا. قال القاشاني:
لاطلاعهم على أن ما عبدوه وضيعوا أعمارهم في عبادته، ليس بشيء، فضلا عن إغنائه عنهم شيئا كذلك يضل الله الكافرين أي أهل الكفر به، عنه وعن رحمته، فلا يخفف عنهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 75]
ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75)
ذلكم أي العذاب بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون أي بسبب فرحكم في الدنيا، بغير ما أذن الله لكم به، من الباطل والمعاصي، وبمرحكم فيها. و (المرح) هو الأشر والبطر والخيلاء. وبين (الفرح) و (المرح) تجنيس بديع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 76]
ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76)
ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين أي منزل المتعظمين عن الإيمان والتوحيد، جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 77]
فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)
فاصبر إن وعد الله حق أي فاصبر على جدال هؤلاء المتكبرين في آيات الله، وعلى تكذيبهم، فإن وعد الله إياك بالظفر عليهم، حق ثابت فإما نرينك بعض الذي نعدهم أي من العذاب والنقمة أو نتوفينك أي قبل أن يحل بهم ما يحل فإلينا يرجعون أي فنحكم بينهم بالحق، وهو الخلود في النار، لمناسبة نفوسهم الكدرة الظلمانية، البعيدة عن الحق، واستحكام ملكات رذائلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 78]
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون (78)
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك أي لتقف على ما وفينا لهم من وعد النصر إياهم في الدنيا ومنهم من لم نقصص عليك أي لمكان الطول. مع أن في نبئهم ما يشاكل نبأ المذكورين. والشيء يعتبر بشكله وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله أي بأمره. وهذا رد لمقترحهم وتعنتهم في طلب ما قص عنهم من آية وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء: 90] الآية، بأن الإتيان بذلك مرده مشيئة الله تعالى وإرادته به. وقد شاء أن تكون الآية العظمى تنزيله، الأكبر من كل آية، والأعظم من كل خارقة. فهو خير الآيات وأحسنها وأقوم المعجزات وأمتنها. كما قال تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [البقرة: 106] ، وقال تعالى: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب [العنكبوت: 51] ، فإذا جاء أمر الله أي عند عدم الإيمان بالآية المقترحة، بعد إتيانها قضي بالحق أي من المؤاخذة، بعد تقرير الحجة المقترحة لهم وخسر هنالك المبطلون أي في دعواهم الشريك، وافترائهم الكذب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 82]
الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80) ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (81) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82)
الله أي الذي لا تصلح الألوهية إلا له الذي جعل لكم الأنعام أي مسخرة لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع من الجلود والأوبار والأصواف ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم أي بالمسافرة عليها وعليها وعلى الفلك أي في طريق البحر تحملون ويريكم آياته أي دلائله الدالة على فرط رحمته وكمال قدرته فأي آيات الله تنكرون أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض أي من الحصون والقصور والمباني والعدد والعدد فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي مما لا يدفع به العذاب الأرضي ولا السماوي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 83 الى 85]
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (83) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85)
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم أي الخالي عن نور الهداية والوحي، ورضوا بها عن قبول هداية الرسل ومعارفهم. واستهزءوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به، في جنب ما عندهم من العلم الوهمي وحاق بهم أي من عذاب الله ما كانوا به يستهزؤن أي جزاؤه فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده أي مضت في خلقه، أن لا يقبل توبة ولا إيمانا في تلك الحال وخسر هنالك الكافرون
أي وهلك، عند مجيء بأسه تعالى، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم. ففاتتهم سعادة الأبد، والعيش الرغد. نسأله تعالى المعافاة من غضبه وعقابه، والموافاة مع زمرة أحبابه. آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلت (حم السجدة)
سميت بها لاشتمالها على آية سجدة. تدل على بطلان عبادة المظاهر بالكلية. وأن الله يستحق بذاته أجل العبادات. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي. وهي مكية. وآيها أربع وخمسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2)
حم تنزيل من الرحمن الرحيم قال أبو السعود: إن جعل (حم) اسما للسورة، فهو إما خبر مبتدأ محذوف، وهو الأظهر، أو مبتدأ خبره تنزيل وهو على الأول خبر بعد خبر. وخبر لمبتدأ محذوف، إن جعل مسرودا على نمط التعديد.
وقوله تعالى: من الرحمن الرحيم متعلق به، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية، بالفخامة الإضافية. أو خبر آخر. أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بالصفة، خبره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 3]
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3)
كتاب وهو على الوجوه الأول بدل منه، أو خبر آخر، أو خبر لمحذوف.
ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107] ، فصلت آياته أي بينت بالاشتمال على جميع المطالب الدينية، مع الدلائل العقلية قرآنا عربيا أي بلسان عربي يتيسر فيه من جميع الفوائد ما لا يتيسر في غيره. وانتصاب قرآنا على المدح، أو الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة، أو من آياته لقوم يعلمون أي مقداره ومعانيه. أو لأهل العلم والنظر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 4]
بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4)
بشيرا أي للعاملين به، الناظرين فيه، والمستخرجين منه، بالنعيم المقيم ونذيرا أي للمعرضين عنه بخلود الأبد في نار جهنم فأعرض أكثرهم أي أكثر
هؤلاء القوم، الذين أنزل هذا القرآن بشيرا ونذيرا لهم، فلم يتدبروه فهم لا يسمعون أي لا يصنعون له، عتوا واستكبارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 5]
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5)
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه أي أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيء مما تدعونا إليه، من التوحيد وتصديق ما في هذا القرآن من الأمر والنهي والوعد والوعيد وفي آذاننا وقر أي صمم، لا نسمع ذلك، استثقالا له وكراهية ومن بيننا وبينك حجاب أي فلا تواصل ولا تلاقي على ما ندعي إليه فاعمل أي على ما تدعو إليه، وانصب له إننا عاملون أي على ما ألفينا عليه آباءنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 8]
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8)
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه أي بالتوحيد وإخلاص العبادة، من غير انحراف إلى الباطل والسبل المتفرقة واستغفروه أي بالتوبة من الشرك وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة أي لا يزكون أنفسهم.
بطاعة الله، أو لا ينفقون من أموالهم زكاتها. وهذا ما رجحه ابن جرير، ذهابا إلى أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة. لا سيما مع ضميمة الإيتاء. وفيه إشارة إلى أن من أخص صفات الكفار هو منع الزكاة، ليحذر المؤمنون من ارتكابه. وعن قتادة: إن الزكاة قنطرة الإسلام. فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك. قال ابن جرير: وقد كان أهل الردة، بعد نبي الله، قالوا: أما الصلاة فنصلي. وأما الزكاة، فو الله! لا تغصب أموالنا. قال فقال أبو بكر: والله! لا أفرق بين شيء جمع الله بينه. والله! لو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله، لقاتلناهم عليه وهم بالآخرة أي بإحيائهم بعد مماتهم للمجازاة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون أي عليهم. أو غير منقوص. أو غير منقطع. أو غير محسوب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 10]
قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10)
قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين أي في مقدارهما. وعلمهم بصلة الموصول، إما لما تلقوه خلفا عن سلف، فاستفاض بينهم. أو لما سمعوه من الكتب السالفة، كالتوراة، فأذعنت بذلك نفوسهم، حتى صار معهودا لها وتجعلون له أندادا أي أكفاء ولم يكن له كفوا أحد ذلك أي الذي خلق الأرض في يومين رب العالمين وجعل فيها رواسي أي جبالا ثوابت من فوقها وبارك فيها أي أكثر خيرها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين أي مستوية بالامتزاج والاعتدال، للطالبين للأقوات والمعايش. أي قدرها لهم، أو لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض، وجعل فيها الرواسي والبركة، وتقدير الأقوات. فحده، كما أخبر تعالى، أنه أربعة أيام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 11]
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)
ثم استوى إلى السماء أي قصد إلى إيجادها. و (ثم) للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه، واختلافهما في الجهة والجوهر، لا للتراخي في الزمان، إذ لا زمان هناك. قاله القاشاني.
وقال ابن جرير: أي ثم ارتفع إلى السماء، أي بلا تكليف ولا تمثيل وهي دخان قال القاشاني: أي جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية.
وقال القاضي: (دخان) أمر ظلماني. ولعله أراد به مادتها. أو الأجزاء المصغرة التي ركبت منها. وأصله للرازي حيث قال: لما خلق تعالى الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء، كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا، وأحدث صفة الضوء فيها، فحينئذ صارت مستنيرة. فثبت أن تلك الأجزاء، حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات والشمس والقمر،
كانت مظلمة. فصح تسميتها بالدخان. لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة، غير متواصلة، عديمة النور. ثم قال: فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.
وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية وهي دخان: أي ذرات، أي غازت أي سديم. ثم تجاذبت كما يجتمع السحاب فصارت كتلة واحدة. مصداقا لقوله تعالى أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا [الأنبياء:
30] . أي كتلة واحدة. فدارت ثم تقطعت وتفصلت بالقوة الدافعة، فتكونت الأرض والسماوات، تصديقا لقوله تعالى: ففتقناهما أي فصلناهما، فصارتا كرات من الماء في يومين. أي ألفي سنة. لقوله تعالى: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج: 47] ، وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء. أي كان ملكه وسلطانه على الماء، والله أعلم. انتهى والله أعلم فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين قال القاشاني: أي تعلق أمره وإرادته بإيجادهما، فوجدتا في الحال معا. كالمأمور المطيع، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله. وهو من باب التمثيل. إذ لا قول ثمة. انتهى.
وقال ابن جرير: أي قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم. وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات. وتشققي عن الأنهار قالتا أتينا طائعين أي جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك، لا نعصي أمرك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #532  
قديم 25-02-2025, 04:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ فصلت
المجلد الرابع عشر
صـ 5191 الى صـ 5200
الحلقة (532)






يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز. إما بالاستعارة المكنية. كما تقول (نطقت الحال) فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به، وينسب إليه. وإما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما، في إرادة تكوينهما وإيجادهما، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد. وقد رد غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزا ونطقا على ظاهر أمثال هذه النصوص. منهم ابن حزم. قال في (الفصل) : وأما قوله تعالى قالتا أتينا طائعين فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والشفتين والأضراس، بهواء يصل إلى آذان السامع، فيفهم به مرادات القائل. فإذ لا
شك في هذا، فلكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق، فلا يكون منه القول المعهود منا. هذا مما لا يشك فيه ذو عقل. فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان، فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا. لكنه معنى آخر. فإذ هذا كما ذكرنا، فبالضرورة صح أن معنى قوله تعالى: أتينا طائعين إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل وتصريفه لهما. انتهى.
وكذا الحال في ائتيا طوعا أو كرها فإنهما لما نزلا ... وهما من الجمادات- منزلة العقلاء، إذ أمرا وخوطبا على طريق المكنية أو التمثيلية، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحا. وهما مؤولان ب (طائع وكاره) لأن المصدر لا يقع حالا بدون ذلك، ويجوز كونهما مفعولا مطلقا. وإنما قال طائعين بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور. وكان مقتضى الظاهر (طائعات) أو (طائعتين) نظرا إلى الخطاب والإجابة والوصف بالطوع والكره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 12]
فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12)
فقضاهن سبع سماوات في يومين أي أحكمهن بإزالة رخاوة الدخان.
قال المهايمي ولم يجعل لمادتها يوما. لأنها كمادة الأرض. فدخلت في يومها وأوحى في كل سماء أمرها أي ما أمر به فيها ودبره من الملائكة والخلق الذي فيها، وما لا يعلم وزينا السماء الدنيا بمصابيح فإنها كالسقف المرفوع المزين بمصابيح معلقة به، ما يدعو إلى الاستدلال بها على قدرة صانعها وحكمته وحفظا أي من الشياطين أن تسترق أخبارها ذلك تقدير العزيز العليم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 13]
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (13)
فإن أعرضوا أي عن هذا الاستدلال، وعن الإيمان بهذا العزيز الغالب على كل شيء، الذي اقتضى علمه ترتيب بعض الأمور فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود لأنكم مثلهما في العناد، ومثل عاد في الاستكبار، ومثل ثمود في استحباب العمى على الهدى.
قال ابن جرير: قد بينا فيما مضى أن معنى الصاعقة كل ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وقيل في هذا الموضع: عني بها وقعة من الله وعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 14 الى 16]
إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون (14) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16)
إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم قال الزمخشري: أي أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض كما حكى الله تعالى عن الشيطان لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم [الأعراف: 17] ، يعني لآتينهم من كل جهة. ولأعلمن فيهم كل حيلة، وتقول (استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة) . وحاصله جعل الجهتين كناية عن جميع الجهات، علي ما عرف في مثله. والمراد بإتيانهم من جميع الجهات، بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية. ويحتمل أن المعنى: جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهه المستقبل وما سيجري عليهم. فالمراد بما بين أيديهم الزمن الماضي، وبما خلفهم المستقبل.
ويجوز فيه العكس، كما ذكر في آية الكرسي ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا أي إرسال رسول لأنزل ملائكة أي من السماء بما تدعوننا إليه فإنا بما أرسلتم به أي من عبادة الله وحده كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أي حتى نخاف عذابه، لو تركنا عبادته، أو عبدنا معه غيره أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة أي فيجب أن يحذر عقابه ويتقى عذابه وكانوا بآياتنا أي التي هي أقوى الدلائل يجحدون فأرسلنا عليهم أي لعتوهم بالقوة ريحا صرصرا أي شديدة الصوت في هبوبها في أيام نحسات أي مشؤومات عليهم لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون أى في الأخرى. كما لم ينصروا في الدنيا.
تنبيه:
قال الرازي: استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسا وبعضها قد يكون سعدا. لأن النحس يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي. ثم أطال الرازي في الجواب والإيراد. ولا يخفى أن السعد والنحس إنما هو أمر إضافي لا ذاتي. وإلا لكان اليوم الذي يراه المنجمون نحسا، مشؤوم الطالع على كل ما أشرقت عليه الشمس. وكذا ما يرونه سعدا. والواقع بخلاف ذلك. إذ اليوم النحس عند زيد، قد يكون سعدا عند بكر. بل الساعة بل الدقيقة. فأين تلك الدعوى؟ والقرآن أتى على أسلوب العرب البديع. ومن لطائفهم تسمية وقت الشدة والبؤس بالنحس، ومقابلها بالسعد. فالنحس نحس على صاحبه. والسعد سعد على صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 17]
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17)
وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم سبيل الحق وطريق الرشد. ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة. وأمرناهم أن يقتفوا الهدى فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون أي من الآثام، بكفرهم بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 18]
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (18)
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون أي يخشون ربهم ويخافون وعيده. وذلك بالإيمان به وحده وتصديق رسله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 19]
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19)
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون أي يوم يجمع، لمزيد الفضيحة، بين الأولين والآخرين، أعداء الله المشركون والجاحدون، إلى النار فيجيء أولهم على آخرهم، ليتم إلزام الحجة عليهم بين جميعهم، فلا يبقى لهم مقال لهم لأنهم لا يزالون يجادلون عن أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 20]
حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20)
حتى إذا ما جاؤها أي فبالغوا في إنكار المخالفة شهد عليهم سمعهم أي بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها، وسمعوا الشبه فاتبعوها، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها وأبصارهم أي بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها، ورأوا القبائح فاختاروها وجلودهم أي بأنهم باشروا المعاصي، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم، فيشهد كل عضو وجزء بما كانوا يعملون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 21]
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21)
وقالوا لجلودهم أي المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر لم شهدتم علينا أي بما يوجب إيلامكم قالوا أنطقنا الله أي بهذه الشهادة الذي أنطق كل شيء أي أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العام الذي خصه العقل، كقوله تعالى والله على كل شيء قدير [البقرة: 284] ، أي كل شيء من المقدورات. هذا، على أن النطق علي ظاهره وحقيقته. وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك، لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة.
قال القاشاني: معنى شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم أي غيرت صور أعضائهم، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم وأبشارهم فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء إذ لا يخلو شيء ما من النطق. ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى. لكن قال الرازي: تفسير هذه الشهادة، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء، دالة على صدور تلك الأعمال منهم، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.
ثم قال: وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطا للحياة، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم.
تنبيه:
قال الرازي: نقل عن ابن عباس أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وإنه من باب الكنايات كما قال ولكن لا تواعدوهن سرا [البقرة: 235] وأراد النكاح. وقال: أو جاء أحد منكم من الغائط [النساء: 43] و [المائدة: 6] ، والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيدا شديدا في الزنى. انتهى.
وقد أشار الإمام ابن الأثير في (المثل السائر) إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين، يدل عليهما لفظ واحد، يكون حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، وعبارته: الجلود هاهنا تفسر حقيقة ومجازا.
أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو المانع البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز، عن غير الجانب البلاغي. ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقة لفظ الجلود عام،، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة. ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة، شهادة باطلة. إذ هي شهادة غير شاهد. والشهادة هنا يراد بها الإقرار. فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا. وتقول الرجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا. وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرة بأعمالها. فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح. وإذا أريد به الجوارح، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض. فإن أريد به الكل، دخل تحته السمع والبصر. ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. وإن أريد به البعض، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح، لأمرين: أحدهما- أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج. فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع. الآخر- إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج. فكني عنه بالجلد، لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر، من باب التفصيل، كقوله تعالى:
فاكهة ونخل ورمان [الرحمن: 68] . والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك. لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيل لهما في الشكل أو في الطعم، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة، إنما هي تعظيم لأمر المعصية.
وغير السمع والبصر أعظم في المعصية. لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى. ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم: وكلتا المعصيتين لا حد فيها. وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر، فأعظم. لأن معصية اليد توجب القطع. ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم. وهذا أعظم. فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر. وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة.
انتهى كلام ابن الأثير.
وناقشه ابن أبي الحديد في (الفلك الدائر) بما محصله: أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين، إذا كان بين لفظتي الجلد والفرج أو معناهما مناسبة. ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج. فعبر عن الكل بالبعض، وهو بعيد جدا. انتهى.
وأقول: مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى.
وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة. ولا يخفى أن أهمها بالعناية وأولاها بالإرادة هو الفروج. لأن معصيتها تربى على الجميع. وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العام على فرده الأهم. كقصرهم (سبيل الله) على الجهاد، مع أن (سبيل الله) يصدق على كل ما فيه خير وقربة ونفع ومعونة، على الطاعة. إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق. فذكر الجهاد لا ينفي غيره. وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير. فإنها من فوائده الجليلة. وينحل بها إشكالات.
ليست بالقليلة، والله الموفق. وقوله تعالى: وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون إما من تمام كلام الجلود، أو مستأنف من كلامه تعالى: وعلى كل، فهو مقرر لما قبله، بأن القادر على الخلق أول مرة، قادر على إنطاق كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 22]
وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22)
وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم أي وما كنتم تستترون عند فعلكم الفواحش والمنكرات، مخالفة أو كراهة أن يشهد عليكم
ما ذكر. أي ليس استتارهم للخوف مما ذكر، بل من الناس. ف أن يشهد مفعول له، بتقدير مضاف. أو من أن يشهد أو عن أن يشهد. أو أنه ضمن معنى الظن، فهو في محل نصب. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق، أنه لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب، كما قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما، فلا تقل ... خلوت. ولكن قل: علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليك، يغيب
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي ما ظننتم أن الله يعلم فينطق الجوارح، ولكن ظننتم أنه لا يعلم كثيرا، وهو ما عملتم خفية. فما استترتم عنها واجترأتم على المعاصي. وإذا كان أن يشهد مفعولا له، فالمعنى ما استترتم بالحجب، لخيفة أن تشهد عليكم الجوارح. فلذا ما استترتم عنها. لكن لأجل ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا، فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق، لا عن الخالق، ولا عما تنطق به الجوارح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 23]
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23)
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم أي أهلككم بالجراءة على مخالفته في الدنيا، ومجادلته في القيامة فأصبحتم من الخاسرين أي لأعمال النجاة.
والدرجات في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 24]
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24)
فإن يصبروا أي على النار فالنار مثوى لهم أي منزل ومسكن وإن يستعتبوا أي يسألوا العتبى وهي الرجعة إلى الذين يحبون فما هم من المعتبين أي المجابين إليه، فلا يخفف عنهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 26]
وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25) وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26)
وقيضنا لهم قرناء أي بعثنا لهم نظراء من الشياطين اقترنوا بهم فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم أي حسنوا لهم أعمالهم كلها، الحاضرة والمستقبلة.
فالطرفان كناية عن الجميع، أو ما بين أيديهم من جرائم الدنيا، وما خلفهم من التكذيب بالمعاد. قال الشهاب: وتفسير أمور الدنيا بما بين أيديهم، لحضورها عندهم، كالشيء الذي بين يديك تقلبه كيف تشاء. والآخرة بما خلفهم، لعدم مشاهدتها، كالشيء الذي خلفك، أو لكونها ستلحق بهم. وقد يعكس فيجعل ما بين أيديهم الآخرة لأنها مستقبلة، وما خلفهم الدنيا لمضيها وتركها كما مر قريبا.
وقال القاشاني في تفسير الآية: أي قدرنا لهم أخدانا وأقرانا من شياطين الإنس أو الجن، من الوهم والتخيل، لتباعدهم من الملأ الأعلى، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية، بانغماسهم في المواد الهيولانية. واحتجابهم بالصفات النفسانية، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية. فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة والكدرة المظلمة. وخالفوا الجواهر القدسية. فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت فزينوا لهم ما بين أيديهم أي ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية، والشهوات الطبيعية في وما خلفهم أي من الآمال والأماني التي لا يدركونها وحق عليهم القول أي في القضاء الإلهي. بالشقاء الأبدي في أمم قد خلت من قبلهم من المكذبين بأنبيائهم، الضالين المضلين من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا أي ستروا زينة أدلة القرآن عن أتباعهم. الذين زينوا لهم شبهاتهم الواهية لا تسمعوا لهذا القرآن أي إذا قرأه، ولا تصغوا له، كيلا يؤثر عليكم وعظه والغوا فيه أي ائتوا باللغو عند قراءته، ليختلط. فلا يمكنه القراءة. والمراد باللغو ما لا أصل له. أو ما لا معنى له لعلكم تغلبون أي تصدون من أراد استماعه، عن استماعه، فلا يسمعه. وإذا لم يسمعه، ولم يفهمه، لم يتبعه. فتغلبون بكيدكم هذا حججه، التي يغلب بها عقولكم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #533  
قديم 25-02-2025, 07:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ فصلت
المجلد الرابع عشر
صـ 5201 الى صـ 5210
الحلقة (533)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 27 الى 28]
فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (27) ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28)
فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد أي المكث الأبدي. وفي النظم الكريم من البديع، التجريد. وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة، آخر مثله، مبالغة فيها. لأنها نفسها دار
الخلد. ويجعله للظرفية الحقيقية، تكلف لا داعي له. مع أن المذكور أبلغ. قاله الشهاب جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون أي ينكرون أو يلغون. وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 29]
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29)
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا أي ندوسهما انتقاما منهما ليكونا من الأسفلين قال القاشاني: أي حنق المحجوبون واغتاظوا على من أضلهم من الفريقين، عند وقوع العذاب. وتمنوا أن يكونوا في أشد من عذابهم وأسفل من دركاتهم، لما لقوا من الهوان وألم النيران وعذاب الحرمان والخسران، بسببهم. وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم، وأنزل مراتبهم. كما ترى من وقع في البلية، بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها، يتحرد عليه ويتغيظ، ويكاد أن يقع فيه، مع غيبته ويتحرق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 30]
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30)
إن الذين قالوا ربنا الله أي وحدوه بنفي غيره، وعرفوه بالإيقان حق معرفته ثم استقاموا أي في أخلاقهم وعقائدهم وأعمالهم. وذلك بالسلوك في طريقه تعالى، والثبات على صراطه، مخلصين لأعمالهم، عاملين لوجهه، غير ملتفتين بها إلى غيره تتنزل عليهم الملائكة أي في الدنيا، بإلهامهم. أو عند الموت، أو حين البعث ألا تخافوا أي ما تقدمون عليه بعد مماتكم ولا تحزنوا أي على ما خلفتم من دنياكم، من أهل وولد. فإنا نخلفكم في ذلك كله. أو من الفزع الأكبر وهوله، فإنكم آمنون لآية لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة [الأنبياء:
103] ، والتنزيل يفسر بعضه بعضا. أو الآيتان في مقامين وبشارتين. وفضله تعالى أوسع، وجوده أعم وأشمل. قال القاشاني: وإنما تنزلت الملائكة عليهم للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي، والإيمان اليقيني، والعمل الثابت على منهاج
الحق والاستقامة في الطريقة إليه. غير ناكثين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين في عمل. كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين، بالجواهر المظلمة والأعمال الخبيثة. فتنزلت عليهم. انتهى. وقوله تعالى: وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون أي في الدنيا، حال الإيمان بالغيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 31 الى 32]
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32)
أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة أي أحباؤكم في الدارين.
للتناسب بيننا وبينكم. كما أن الشياطين أولياء الكافرين، لما بينهم من الجنسية والمشاركة في الظلمة والكدورة. قال ابن كثير: أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا قرناءكم في الحياة الدنيا. نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله. وكذلك نكون معكم في الآخرة. نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور. ونؤمنكم يوم البعث والنشور. ونجاوزكم الصراط المستقيم. ونوصلكم إلى جنات النعيم. وقال الرازي: معنى كونهم أولياء للمؤمنين، أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية. كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح، بإلقاء الوساوس فيها، وتخييل الأباطيل إليها. وبالجملة، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة، حاصل من جهات كثيرة معلومة، لأرباب المكاشفات والمشاهدات. فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة. فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال. بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى. وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة. وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، والقطرة بالنسبة إلى البحر. والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة. كما
قال صلى الله عليه وسلم «1» : «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب
(1)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 353. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة أسري بي، لما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق. قال، فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.
فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات. فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.
بني آدم، لنظروا إلى ملكوت السموات. فإذا زالت العلائق الجسمانية، والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس»
.
انتهى.

وهو مشرب صوفي ومنزع فلسفي، فيه شية من الرقة ولكم فيها
أي في الآخرة ما تشتهي أنفسكم
أي من الروح والريحان والنعيم المقيم ولكم فيها ما تدعون
أي تتمنون نزلا من غفور رحيم أي إكراما معدا لكم، من غفور لذنوبكم، ورحيم بتفضله وتطوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 33]
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33)
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين أي لا أحد أحسن مقالا ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى، وكان من الصالحين المؤتمرين، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد.
لطائف:
الأولى- قال القاشاني: وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل، لكونه أشرف المراتب، ولا لاستلزامه الكمال العلمي والعملي. وإلا لما صحت الدعوة. انتهى.
الثانية- في الآية إشارة إلى ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن المشركين، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم. وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ، والدعوة، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات. فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق. وثمة وجه آخر. وهو أن مراتب السعادات اثنان: كامل وأكمل. أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته. فإذا فرغ من هذه الدرجة، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين.
فقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [فصلت: 30] و [الأحقاف:
13] ، إشارة إلى المرتبة الأولى. وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها. فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية، وهي الانتقال بتكميل الناقصين. وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق. وهو المراد من قوله تعالى: ومن أحسن قولا الآية واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية، ونصيبا وافيا من العلوم الإلهية، عرف أنه لا
ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن، أفاده الرازي.
الثالثة- يدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة، وسبيل من السبل المأثورة. لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية. ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق، وإيثاره على الخلق.
الرابعة- في الآية دليل على وجب الدعوة إلى الله تعالى- على ما قرره الرازي- لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال. وكل ما كان أحسن الأعمال، فهو واجب.
الخامسة- احتج من جوز قول (أنا مسلم) بدون تعليق على المشيئة بهذه الآية. وقال: إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأولى. والمسألة معروفة بسطها الغزالي في (الإحياء) .
وللإمام ابن حزم في (الفصل) تحقيق لطيف لا بأس بإيراده. قال رحمه الله:
اختلف الناس في قول المسلم (أنا مؤمن) فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء، أنه كره ذلك. وكان يقول (أنا مؤمن إن شاء الله) وقال بعضهم: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وكانوا يقولون: من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة.
ثم قال ابن حزم: والقول عندنا في هذه المسألة، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه. فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام. وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك. كما أمر تعالى، إذا قال تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث ولا نعمة أوكد، ولا أفضل ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول (أنا مسلم قطعا عند الله تعالى، وفي وقتي هذا) ولا فرق بين قوله (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله (أنا أسود وأنا أبيض) . وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح والتعجب في شيء. لأنه فرض عليه أن يحصن دمه بشهادة التوحيد. قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [البقرة: 136] ، وقول ابن مسعود عندنا صحيح. لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه (مسلم مؤمن) على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات. وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك. وما منع رضي الله عنه من أن
يقول المرء (إني مؤمن) بمعنى مصدق. كيف؟ وهو يقول (قل آمنت بالله ورسله) أي صدقت. وأما من قال فقل إنك في الجنة، فالجواب أننا نقول: إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنة والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة. إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن من مكر الله تعالى. ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان، ولا ندري ماذا نكسب غدا. ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 34]
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أي لكون الأولى من مقام العقل تجر صاحبها إلى الجنة ومصاحبة الملائكة. والثانية من مقام النفس تجر صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين ادفع بالتي هي أحسن أي ادفع السيئة حيث اعترضتك، بالتي هي أحسن منها، وهي الحسنة. على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا. أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات. وإنما عدل من مقتضى الظاهر وهو (ادفع بالحسنة) إلى الأبلغ- لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه. وهذا الكلام أبلغ في الحمل والحث على ما ذكر. لأنه يومئ إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه.
قال القاشاني: أي إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة، التي هي أحسن، فلا تدفعها بالحسنة التي دونها، فكيف بالسيئة؟ فإن السيئة لا تندفع بالسيئة، بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب. فإن قابلتها بمثلها كنت منحطا إلى مقام النفس، متبعا للشيطان، سالكا طريق النار، ملقيا لصاحبك في الأوزار، وجاعلا له ولنفسك من جملة الأشرار، متسببا لازدياد الشر، معرضا عن الخير. وإن دفعتها بالحسنة، سكنت شرارته، وأزلت عداوته، وتثبت في مقام القلب على الخير، وهديت إلى الجنة وطردت الشيطان وأرضيت الرحمن، وانخرطت في سلك الملكوت، ومحوت ذنب صاحبك بالندامة، ثم أشار تعالى إلى علة الأمر وثمرته بقوله: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي أي صديق أو قريب حميم أي شديد الولاء. وأصل الحميم الماء الشديدة حرارته. كنى به عن الولي المخلص في وده، لما يجد في نفسه من حرارة الحب والشوق والاهتمام نحو مواليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 35]
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)
وما يلقاها أي هذه الخصلة الشريفة، والفضيلة العظيمة، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان إلا الذين صبروا أي على تجرع الشدائد. أو على طاعته تعالى وأمره، تخلقا بالعلم والعفو وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم أي من الخير وكمال النفس. ومن الله تعالى بالتخلق بأخلاقه. ومن الثواب وكمال العقل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 36]
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36)
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم أي وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس، إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، والانتقام منه، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، بالرجوع إلى جنابه تعالى، واللجأ إلى حضرته، من شره ووسوسته ونزغه. قال ابن كثير: قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف وهو قوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم [الأعراف: 199- 200] ، وفي سورة المؤمنون وهو قوله سبحانه:
ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [المؤمنون: 96- 98] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 37]
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37)
ومن آياته أي حججه تعالى على خلقه، ودلالته على وحدانيته وعظيم سلطانه الليل والنهار أي اختلافهما، ومعاقبة كل واحد منها صاحبه والشمس والقمر أي نورهما وإشراقهما وتقدير منازلهما، واختلاف سيرهما في سمائهما، لبقاء صلاح الكون لا تسجدوا للشمس ولا للقمر لأنهما مسخران بتسخير خالق قادر عليم، فهما مخلوقان واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون أي تفردونه بالعبادة. فإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعته أحدا.
لأنها لا تنبغي لأحد سواه.
تنبيه:
استدل بالآية الشيخ أبو إسحاق في (المهذب) على صلاة الكسوف. قال:
لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرها. وأخذ من ذلك تفضيلها على صلاة الاستسقاء، لكونها في القرآن، بخلافها. كذا في (الإكليل) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 38]
فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون (38)
فإن استكبروا أي عن عبادته كبرا وعتوا فالذين عند ربك أي من الملائكة يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون أي لا يملون عبادته، لأنها قرة أعينهم وحياة أنفسهم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #534  
قديم 25-02-2025, 07:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشورى
المجلد الرابع عشر
صـ 5211 الى صـ 5220
الحلقة (534)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 39 الى 41]
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير (39) إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40) إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41)
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة أي ساكنة لا حركة لعشب فيها ولا نبات ولا زرع فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت أي اهتزت بالنبات وتحركت بزينته، وربت بارتفاعه على سطحها، أي صارت ربوة مرتفعة إن الذي أحياها أي هذه الأرض الدارسة، فأخرج منها النبات، وجعلها تهتز بالزرع من بعد يبسها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير إن الذين يلحدون في آياتنا أي يميلون عن حججنا وأدلتنا، ويزيغون عنها تكذيبا لها وجحودا لها لا يخفون علينا أي لإحاطة علمه بهم، وكونه بالمرصاد لهم، فسيجزيهم.
تنبيه:
شملت الآية من يضع الكلام في الآيات على غير مواضعه، كما فسرها ابن عباس. قال في (الإكليل) : ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه
جوهر اللفظ، كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة وغلاة المتصوفة أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير إن الذين كفروا بالذكر أي بهذا القرآن لما جاءهم أي فهم هالكون. فالخبر محذوف. أو الجملة بدل من جملة إن الذين يلحدون في آياتنا وإنه لكتاب عزيز أي منيع محمي عن التغيير والتبديل، وعن محاكاته بنظير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 42]
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أي لا يتطرق إليه البطلان من جهة من الجهات.
قال القاشاني: لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا. ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله، ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق، كما قال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر: 9] ، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته. فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين. هذا على أن ما بين يديه وما خلفه، كناية عن جميع الجهات. كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله. أو المعنى: لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية. والماضية ما بين يديه، والآتية ما خلفه. أو العكس كما مر تنزيل من حكيم حميد قال ابن جرير: أي هو تنزيل من عند ذي حكمة، بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم، محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 43]
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43)
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي ما يقول لك كفار قومك، إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم، من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة.
أي فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة أي لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم، بالصفح عنهم وذو عقاب أليم أي لمن أصر على كفره وذنوبه، ومات قبل التوبة منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 44]
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياتهء أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44)
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أي بينت أدلته وما فيه، بلسان نعرفه لنفهم ما فيه. قال الزمخشري: كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل: لو كان كما يقترحون، لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا: لولا فصلت آياته؟ أي بينت ولخصت بلسان نفقههء أعجمي وعربي الهمزة همزة الإنكار، يعني: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟
والمعنى: إن آيات الله على أي طريقة جاءتهم، وجحدوا فيها متعنتا. لأن القوم غير طالبين للحق. وإنما يتعبون أهواءهم. انتهى.
قال الشهاب: والأعجمي أصله (أعجم) . ومعناه من لا يفهم كلامه للكنة أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة. كما في أحمري. ويطلق على كلامه مجازا. لكنه اشتهر حتى ألحق بالحقيقة. وأما العجمي فالمنسوب إلى العجم. وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا. فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص وجهي. انتهى. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء أي: هو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق، وتبصرهم بالمعرفة. وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل. كالنفاق والشك، أي تبصرهم بطريق النظر والعمل، فتعلمهم وتزكيهم والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أي لا يسمعونه ولا يفهمونه. بل يشتبه عليهم لاستيلاء الغفلة عليهم، وسد الغشاوات الطبيعية طرق أسماع قلوبهم وأبصارها. فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا أولئك ينادون من مكان بعيد أي مثلهم في عدم قبولهم الحق، واستماعهم له، مثل من يصيح به من مسافة شاطة، لا يسمع من مثلها الصوت، فلا يسمع النداء. وذلك لبعدهم عن منبع النور الى يدرك به الحق ويرى. وانهماكهم في ظلمات الهيولى. قال الشهاب: وجعل النداء من مكان بعيد، تمثيلا لعدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له. يقال: أنت تنادى من مكان بعيد، أي لا تفهم ما أقول. وقيل: إنه على حقيقته، وإنهم يوم القيامة ينادون كذلك، تفضيحا لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 45]
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (45)
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه قال ابن جرير: أي فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود. وقال ابن كثير: أي كذب وأوذي، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولولا كلمة سبقت من ربك وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ. أي لولا أنه تعالى قدر الجزاء في الآخرة لقضي بينهم أي بتعجيل العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [الكهف: 58] ، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر: 46] ، وإنهم لفي شك منه مريب أي موقع للريب والاضطراب لأنفسهم وأتباعهم، لعمى بصائرهم وتبلد عقولهم. وإلا فالحق أجلى من أن يخفى. وقال ابن كثير: أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم، لما قالوا. بل كانوا شاكين فيما قالوه، غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجهه ابن جرير. وهو محتمل. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 46]
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)
من عمل صالحا فلنفسه أي من عمل بطاعة الله، فائتمر لأمره وانتهى عما نهاه، فلنفسه نفعه. لأنه يجازى عليه جزاءه الحسن ومن أساء أي عمل السيئ وعصى فعليها ضره. لأنه جنى على نفسه بذلك، ما أكسبها سخط الله تعالى والعقاب الأليم وو ما ربك بظلام للعبيد أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 47]
إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد (47)
إليه يرد علم الساعة أي لا يعلمها إلا هو. أو المعنى: إذا سئل عنها يقال:
الله عالم بها وما تخرج من ثمرات من أكمامها أي أوعيتها وما تحمل من أنثى ولا
تضع إلا بعلمه
أي مقرونا بعلمه. قال الزمخشري: يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك ويوم يناديهم أين شركائي أي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي قالوا آذناك ما منا من شهيد أي أعلمناك ما منا من يشهد لهم بالشركة ويقربها الآن. ف شهيد فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم. أو هو منهم إنكار لعبادتها. فيكون كذبا، كقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين [الأنعام: 23] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 48]
وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص (48)
وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل أي يعبدون من الأوثان، فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا وظنوا ما لهم من محيص أي وأيقنوا يومئذ مالهم من ملجأ يلجئون إليه من عذاب الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 49]
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط (49)
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أي لا يمل من مسألته ربه بالخير، كالمال وصحة الجسم وإن مسه الشر أي الضر في نفسه من سقم أو جهد في معيشته فيؤس قنوط أي من روح الله ورحمته، ومن أن يكشف ما نزل به. قال الزمخشري: بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء (فعول) ومن طريق التكرير.
والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 50]
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ (50)
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته أي بتفريجها عنه ليقولن هذا لي أي حقي نلته بعملي، لا بفضل من الله. جحدا للمنعم وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى أي للحالة الحسنى من الكرامة. حرصا ورجما
بالغيب، وتلاعبا بما شاء الهوى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا أي فلنخبرن هؤلاء المتمنين على الله الأباطيل، بحقيقة أعمالهم. ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها ولنذيقنهم من عذاب غليظ وهو تخليدهم في النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 51]
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51)
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه أي إذا كشفنا ما به من ضر، ورزقناه غنى وصحة وسعة، أعرض عما دعي إليه من الطاعة. وتكبر وشمخ بأنفه عن الإجابة. وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض أي كثير. يديم تضرعه، ويستغرق في الابتهال أنفاسه. وقد استعير (العرض) لكثرة الدعاء. كما يستعار له (الطول) أيضا.
فيقال: أطال فلان الدعاء، إذا أكثر. وكذلك أعرض دعاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 52]
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52)
قل أرأيتم إن كان أي القرآن من عند الله ثم كفرتم به أي من غير نظر واتباع دليل من أضل ممن هو في شقاق بعيد أي من أضل منكم. فوضع الموصول موضع الصلة، شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم. والشقاق الخلاف. لكون المخالف في شق وجانب ممن خالفه. قال الشهاب: الآية رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين. وختم السورة بما يلتفت لفت بدئها، وهو من الكلام المنصف. وفيه حث على التأمل، واستدراج للإقرار. مع ما فيه من سحر البيان. وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد. وتنبيها على ما هم عليه من الضلال البعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 53]
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)
سنريهم آياتنا في الآفاق يعني وقائع النبي صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها. وظهوره على الناس تصديقا للوعد وفي أنفسهم أي من
غلبتهم وقهرهم وكسر شوكتهم. وكما وقع في بدر وفتح مكة حتى يتبين لهم أنه الحق أي أن هذا القرآن، بوعده ووعيده، هو الحق الثابت، إذا لا برهان بعد عيان.
فقد نصر الله رسوله وصحبه، وخذل الباطل وحزبه أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد أي لا يخفى عليه شيء ما، مما يفعله خلقه، وهو مجازيهم عليه. ففيه وعد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 54]
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط (54)
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم أي في شك عظيم من البعث بعد الممات، ومعادهم إلى ربهم ألا إنه بكل شيء محيط أي فلا يخرج عن إحاطته شيء ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14] .

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشورى
سميت بالشورى، لإشعار آياتها بذلة الدنيا وعزة الآخرة، وصفات طالبيها، مع اجتماع قلوبهم بكل حال. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي: وهي مكية. وقيل إن فيها مدنيا. ومر مرارا تحقيق ذلك، وآيها ثلاث وخمسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) عسق (2)
حم عسق قد روى بعض المفسرين ها هنا، في تفسير حم عسق آثارا واهية جدا لا يعول عليها. بل هي، كما قال ابن كثير منكرة، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف، أوائل السور الكريمة، أسماء لها. وحم عسق اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما، وعدا آيتين. وقيل اسم واحد، والفصل ليناسب سائر الحواميم، فيكون آية واحدة. وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 3]
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم كلام مستأنف، وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق. أو أن إيحاءها مثل إيحائها، بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها. والكاف في حيز النصب على أنه مفعول ل (يوحي) على الأول- وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له، على الثاني و (ذلك) على الأول إشارة إلى ما فيها. وعلى الثاني إلى إيحائها. وما فيه من معنى البعد، للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل. أي مثل ما في هذه السورة من المعاني، أوحى إليك في سائر السور، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد. أو مثل إيحائها، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم. لا إيحاء مغايرا له. كما في قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح [النساء: 163] الآية. على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك. وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية،
للإيذان باستمرار الوحي، وأن إيحاء مثله عادته. وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبها به، من تفخيمها ما لا يخفى. وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل. مع ما فيه من التشويق. وقرئ (يوحى) على البناء للمفعول، على أن (كذلك) مبتدأ (ويوحى) خبره المسند إلى ضميره، أو مصدره و (يوحي) مسند إلى (إليك) . و (الله) مرتفع بما دل عليه (يوحي) كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله. العزيز الحكيم صفتان له، أو مبتدأ، كما في قراءة (نوحي) ، والعزيز وما بعده خبران له. أو العزيز الحكيم صفتان له. وقوله تعالى:



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #535  
قديم 25-02-2025, 07:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشورى
المجلد الرابع عشر
صـ 5221 الى صـ 5230
الحلقة (535)










القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 4]
له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4)
له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم خبران له. وعلى الوجوه السابقة، استئناف مقرر لعزته وحكمته. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 5 الى 6]
تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6)
تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن أي يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته، ويتلاشين من علو قهره وسلطنته، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم أو من دعائهم له ولدا، كما في سورة مريم والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض أي يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء أي شركاء وأندادا الله حفيظ عليهم أي رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة وما أنت عليهم بوكيل أي بموكل لحفظ أعمالهم. وإنما أنت منذر فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [الرعد: 40] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 7]
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7)
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى أي أهلها، وهي مكة ومن حولها أي من العرب وسائر الناس وتنذر يوم الجمع أي يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم، لأنه يجمع فيه الخلائق لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير أي منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا بالله، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفريق في السعير، أي النار الموقدة المسعورة على أهلها. وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 8]
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير (8)
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة أي أهل دين واحد وملة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الإنسان من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم. ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم. فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون. فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون، وفي عذابه، الكافرين. قال أبو السعود: ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أي والكافرون بالله ما لهم من ولي يتولاهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه، لأنه يدخلهم في قهره. وتوصيفهم بالظالمين، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات والأخلاق والأعمال والأفعال، وأنه تعالى يواليهم وينصرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 10]
أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير (9) وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10)
أم اتخذوا من دونه أولياء أي يتولونهم. مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة، إذ لا قدرة ولا قوة فالله هو الولي أي هو الذي يجب أن يتولى وحده، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره، لتوليه سبحانه كل شيء، وسلطانه وحكمه. والفاء جواب
شرط مقدر. كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير أي هو المحيي القادر، فكيف تستقيم ولاية غيره، وقوله وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب تمهيد لما يأتي بعد، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه، وشرعته لخلقه، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين، إنما مرده إلى الله تعالى وحكمه وقضائه. وأنه لا دين إلا دينه، ولا عبادة إلا عبادته، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم، في تشريعهم ما لم يأذن به الله، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء. فإن السورة مكية. ومع ذلك، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره.
كقوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء: 59] ، وتدل أيضا على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم. وعلى تفويض ما لم تصل إلي دركه العقول، إلى الله تعالى، بأن يقال: الله أعلم. كما في قوله: ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [الإسراء: 85] . وقوله: ذلكم الله ربي بتقدير (قل) أو هو حكاية لقوله صلى الله عليه وسلم. أي الذي هذه الصفات صفاته، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء عليه توكلت أي في أموري كلها وإليه أنيب أي أرجع في المعاد، أو من الذنوب، أو في الأمور المعضلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 11]
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أي من جنسكم أزواجا أي نساء ومن الأنعام أزواجا أي أصنافا مختلفة، أو ذكورا وإناثا يذرؤكم فيه أي يكثركم. من (الذرء) وهو البث. يقال: ذرأ الله الخلق. بثهم كثرهم. وفسر ب (يخلقكم) . وضمير (فيه) للبطن أو الرحم. وقال الزمخشري: أي في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.
والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء
على الغيب مما لا يعقل. فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل:
يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. انتهى.
وقيل (في) مستعارة للسببية ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال ابن جرير: فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء. وأدخل المثل في الكلام، توكيدا للكلام، لكونهما بمعنى واحد. والآخر أن يكون معناه: ليس مثله شيء. وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.
وبقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة. أي ليس كصفته صفة. ورابع- وهو ما عول عليه المحققون- أن المراد من مثله ذاته. كما في قولهم: مثلك لا يبخل. على قصد المبالغة في نفيه عنه. فإنه إذا نفي عمن يناسبه. كان نفيه عنه أولى. ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببينة. وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشمني. وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه. لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم. كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم. والأخ لازمه. لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد. فنفي هذا اللازم. والمراد نفي ملزومه. أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ. هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل. والمراد نفي مثله تعالى- إذ لو كان له مثل، لكان هو تعالى مثل مثله، لتحقق المماثلة من الجانبين.
فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولا أنها تقتضي إثباته. ولذا أولوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات.
وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم. مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال. ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى. ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا. بل هو محتمل فقط. كما تحتمل نفيه. وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة. أنه لو كان له مثل إلخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله. فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك. وقال العصام: هذا- أي كون الآية من باب الكناية- وجه تلقاه الفحول بالقبول. ورجحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح.
وعدم الزيادة أحق بالترجيح. وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي
المثل. لأن الشيء ليس مثل مثله. بل المثل المشارك للشيء في صفة، منع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل. والمثل بمنزلة الملحق به المتقارب. انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض. لأن المماثلة هي الشركة، في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة. صرح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام. وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية رد على المشبهة. وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا لون ولا حال في مكان ولا زمان. انتهى.
وكان حقه أن يتم الاستنباط. فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة. فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: وهو السميع البصير رد على المعطلة. ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف. فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه.
وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل.
فمثلوا أولا وعطلوا آخرا. فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم. فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل. بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة. فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم. من غير تحريف ولا تشبيه. قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله: وهو السميع البصير قال الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة.
ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. انتهى.
قال الذهبي: صدق والله! فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم. كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة. قيل: لها سعف؟
قالوا: لا. قيل لها كرب؟ قالوا: لا. قيل لها رطب؟ قالوا: لا. قيل: فلها ساق؟ قالوا:
لا. قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة قالوا إلهنا الله تعالى. وهو لا في زمان ولا في مكان ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا. وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العظيم السميع المريد، الذي كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا. ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال الذهبي رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم. وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم. قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعا للنصوص ولا نقول بقولكم. فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم. تعالى الله جل جلاله عن العدم. بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف. انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي. فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك. والنفي كقوله تعالى: لا تأخذه سنة ولا نوم وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا. وإلا فجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال. لأن النفي المحض عدم محض. والعدم المحض ليس بشيء. وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء، فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع. والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، إلى قوله: ولا يؤده حفظهما [البقرة: 255] ، فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله: ولا يؤده حفظهما أي لا يكرثه ولا يثقله. وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته. وكذلك قوله: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [سبأ: 3] ، فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات
والأرض. وكذلك قوله: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ق: 38] ، فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء، دل على كمال القدرة ونهاية القوة. بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله: لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] ، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية. لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح. إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا. وإنما المدح في كونه لا يحاط به، وإن رئي. كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية. فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال. وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها. لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه. فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجودا. وكذلك من شاركهم في بعض ذلك. كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش. ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت. ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق ميز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال. بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات. فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص. فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم. فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أنه يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه. وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة. وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها. فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي. وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها. فالجماد الذي
لا يوصف
بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس. فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك. مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها. وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات. فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي. وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال. فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال. وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك. وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات. فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #536  
قديم 25-02-2025, 07:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشورى
المجلد الرابع عشر
صـ 5231 الى صـ 5240
الحلقة (536)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 12 الى 13]
له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم (12) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)
له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه، ويقتر على آخرين إنه بكل شيء عليم شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم [الشورى: 3] ، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء: 25] ، وفي الحديث «1» : نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد. يعنى: عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم. كقوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [المائدة: 48] . وتخصيص هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم
(1)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، 48- باب واذكر في الكتاب مريم، حديث رقم 1617، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث رقم 145.
عليهم السلام، بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة. ولاستمالة قلوب الكفرة، لاتفاق الكل على نبوة بعضهم. وابتدأ بنوح عليه السلام لأنه أول الرسل. والمعنى: شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له، للإشارة إلى أن شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الكاملة. ولذا عبر فيه ب (الذي) التي هي أصل الموصولات. وأضافه إليه بضمير العظمة، تخصيصا له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء. وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا كبر على المشركين ما تدعوهم إليه أي من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان الله يجتبي إليه من يشاء وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه ويهدي إليه من ينيب أي يوفق للعمل لطاعته واتباع رسله من يقبل إلى طاعته ويتوب من معاصيه. ثم أشار إلى حال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 14]
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14)
وما تفرقوا أي في دينهم وصاروا شيعا إلا من بعد ما جاءهم العلم أي الدلائل الصحيحة والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم بغيا بينهم أي ظلما وتعديا وطلبا للرئاسة ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى وهو تأخير العذاب.
إلى يوم القيامة لقضي بينهم أي باستئصالهم، لاستيجاب جناياتهم لذلك وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم وهم أهل مكة الذين من الله عليهم بالكتاب العزيز لفي شك منه مريب أي موقع لأتباعهم في الشك، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادة عن سبيل الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 15]
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)
فلذلك فادع أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره، وهتك وساوسه واستقم أي على الدعوة إليه والصدع به كما أمرت أي أوحي إليك ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب أي: أي كتاب كان، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. أفاده أبو السعود وأمرت لأعدل بينكم أي لأسوي بينكم في دعوة واحدة كما قال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا [آل عمران: 64] الآية. ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور والتبليغ به من الحساب، فهو إليه تعالى. فقال الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم أي لا خصومة ولا محاجة بعد هذا. لأن الحق قد ظهر. ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة. والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج. كما ذكره الراغب. وتكون بمعنى الدليل. والمراد هو الأول دون الثاني. وهو ظاهر الله يجمع بيننا أي يوم القيامة، فيقضي بالحق فيما اختلفنا فيه وإليه المصير أي المعاد والمرجع للجزاء.
تنبيهان:
الأول- تفسير العدل بما ذكرناه، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لا سيما والسورة مكية. ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات. نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها. ومنه قول قتادة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل حتى مات. والعدل ميزان الله في الأرض. به يأخذ للمظلوم من الظالم. وللضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب.
وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه.
الثاني- قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات. كل منها منفصلة عن التي قبلها. حكم برأسها. قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي. فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. انتهى
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 16]
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)
والذين يحاجون في الله أي يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه،
وهم الذين أورثوا الكتاب، المذكورون قبل، ليصدوا عن الهدى طمعا في عود الجاهلية من بعد ما استجيب له أي استجاب له الناس. أي بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم والنظر الصحيح وسيرة الداعي وهديه وحسن دعوته وتصديق الكتب المنزلة له وسلامة الفطرة حجتهم داحضة أي زائلة لأنها في باطل. والباطل لا بقاء له مع قوة الحق عند ربهم أي في حكمه وقضائه وتقديره. قال أبو السعود: وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة معهم على زعمهم الباطل وعليهم غضب أي عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره ولهم عذاب شديد وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 17]
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17)
الله الذي أنزل الكتاب بالحق أي متلبسا به في أحكامه وأخباره والميزان أي وأنزل الميزان وهو العدل الذي يوزن به الحقوق ويسوى به الخلاف وما يدريك لعل الساعة قريب قال أبو السعود: أي شيء قريب. أو قريب مجيئها. أو الساعة بمعنى البعث. والمعنى أنها على جناح الإتيان. فاتبع الكتاب واعمل به وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 18]
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18)
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها أي خائفون منها. قال ابن جرير: لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها ويعلمون أنها الحق أي المتحقق وجوده لا محالة ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد أي لإنكارهم عدل الله وحكمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 20]
الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز (19) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20)
الله لطيف بعباده أي يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خبر الدين والدنيا يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب.
قال الزمخشري: سمي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء، حرثا على المجاز- أي بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا. ولذلك قيل (الدنيا مزرعة الآخرة) وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة، وفق في عمله وضوعفت حسناته. ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها، لا ما يريده ويبتغيه، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه، وما له نصيب قط في الآخرة. ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له، واصل إليه لا محالة- للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.
انتهى.
وهذه الآية كآية من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء [الإسراء:
18] ، إلخ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 23]
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23)
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (أم) منقطعة، فيها معنى (بل والهمزة) ولا بد من سبق كلام، خبرا أو إنشاء، يضرب عنه ويقرر ما بعده.
وما سبق قوله شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا [الشورى: 13] ، إلخ فهو معطوف عليه، وما بينهما من تتمة الأول. والمراد بشركائهم، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه. وإما أوثانهم. وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها
شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وعلى الثاني، فإسناد الشرع إليها، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به. أو لأنها على صورة المشرع الذي سن هذا الضلال لهم. ويجوز كون الاستفهام المقدر حينئذ للإنكار. أي ليس لهم شرع ولا شارع.
كما في قوله: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا [الأنبياء: 43] ، ولولا كلمة الفصل أي القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا. أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبين في الآخرة. فالفصل بمعنى البيان لقضي بينهم أي لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين، بتعجيل العذاب للكافرين وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين أي يوم البعث مشفقين مما كسبوا أي من السيئات وهو واقع بهم أي نازل بهم لا محالة والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجرا أي لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم، ثوابا وجزاء وعوضا من أموالكم تعطونيه إلا المودة في القربى أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا. ولا يكن غيركم، يا معشر قريش، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم.
قال الشهاب: المودة مصدر مقدر ب (أن والفعل) . والقربى مصدر كالقرابة.
و (في) للسببية. وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة. والخطاب، إما لقريش أو لجميع العرب، لأنهم أقرباء في الجملة. انتهى. والاستثناء منقطع. ومعناه نفي الأجر أصلا. لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم، لكونها سبب نجاتهم. فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. وقيل (القربى) التقرب إلى الله تعالى. أي إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه.
والمعنى الأول هو الذي عول عليه الأئمة. ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه، غيره.
ففي البخاري «1» عنه أنه سئل عن قوله تعالى: إلا المودة في القربى فقال سعيد ابن جبير: القربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
قال ابن كثير: انفرد به البخاري- أي عن مسلم- ورواه الإمام أحمد. وهكذا
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، 42- سورة الشورى، 10- باب قوله: إلا المودة في القربى، حديث رقم 1643.

روى الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، مثله. وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي، لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم.
وروى الإمام أحمد «1» عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته. وهكذا روي عن قتادة والحسن البصري مثله
وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار، فإسناده ضعيف. على أن السورة مكية. وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة. وكذا ما
رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: فاطمة وولدها رضي الله عنهم
، فإن في إسناده مبهما لا يعرف، عن شيخ شيعي، وهو حسين الأشقر، فلا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد. فإنها مكية. ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية. فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه عنه البخاري. ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم. فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا. ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية. كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين
وقد ثبت في الصحيح «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي. وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض.
وروى الإمام أحمد «3» عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن. وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال: والذي نفسي بيده! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله.
هذا ملخص ما أورده ابن
(1)
أخرجه في المسند 1/ 268. والحديث رقم 2415.

(2)
أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 36.

(3)
أخرجه في المسند 1/ 207، والحديث رقم 1772.

كثير رحمه الله تعالى، وسبقه في الإيساع في ذلك تقي الدين ابن تيمية في (منهاج السنة) من أوجه عديدة.
قال في الوجه الثالث: إن هذه الآية في سورة الشورى. وهي مكية باتفاق أهل السنة. بل جميع آل حم مكيات. وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر. والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة. والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة. فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.
ثم قال: الوجه الرابع- إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت، بعد علي، يقول:
ليس معناها مودة ذوي القربى. ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا. لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم. فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولا، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه.
الوجه الخامس- أنه قال: لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [الأنفال: 41] ، وقال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى [الحشر: 7] ، وكذلك قوله: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل [الإسراء: 26] ، وقوله: وآتى المال على حبه ذوي القربى [البقرة: 177] ، وهكذا في غير موضع. فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم، وذوي قربى الإنسان، إنما قيل فيها (ذوي القربى) . لم يقل (في القربى) . فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم، دل على أنه لم يرد (ذوي القربى) .
الوجه السادس- أنه لو أريد المودة لهم لقال: المودة لذوي القربى، ولم يقل في القربى، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره: أسألك المودة في فلان، ولا في قربى فلان. ولكن أسألك المودة لفلان، والمحبة لفلان. فلما قال المودة في القربى، علم أنه ليس المراد لذوي القربى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #537  
قديم 25-02-2025, 07:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشورى
المجلد الرابع عشر
صـ 5241 الى صـ 5250
الحلقة (537)







الوجه السابع- أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة.
بل أجره على الله كما قال: قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ص: 86] ، وقوله: أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [الطور: 4] و [القلم:
46] وقوله: قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [سبأ: 47] ، ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال: قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [الفرقان: 57] ، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم. بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات.
وفي الصحيح «1» عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى (خما) بين مكة والمدينة فقال (أذكركم الله في أهل بيتي)
وفي السنن «2» عنه أنه قال (والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي)
فمن جعل محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه، فقد أخطأ خطأ عظيما. ولو كان أجرا له نثب عليه نحن، لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة. فهل يقول مسلم مثل هذا؟؟؟.
الوجه الثامن- إن (القربى) معرفة باللام. فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم لا أسئلكم عليه أجرا وقد ذكر أنها لما نزلت، لم يكن قد خلق الحسن والحسين، ولا تزوج على بفاطمة. فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها، يمتنع أن تكون هذه. بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم، كما تقول (لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا) وكما تقول (لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم) (ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر) .
انتهى ومن يقترف حسنة أي يكتسب طاعة نزد له فيها حسنا أي بمضاعفته إن الله غفور أي لمن تاب وأناب شكور لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 24]
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)
أم يقولون افترى على الله كذبا أي بدعوى النبوة والوحي فإن يشإ الله يختم على قلبك قال ابن كثير: أي: لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون، يختم على قلبك أي: يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن.
كقوله جل جلاله
(1)
أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 36.

(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 208، الحديث رقم 1777.

ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [الحاقة: 44- 47] ، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. انتهى.
وهذا تفسير بالأشباه والنظائر من الآيات، يؤثره كثير من الأئمة، ما وجد إليه سبيلا. فإن التنزيل يفسر بعضه بعضا. ومآل الآية على هذا المعنى، كما أوضحه أبو السعود، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى، لمنعه من ذلك قطعا، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه. وحيث لم يكن الأمر كذلك. بل تواتر الوحي حينا فحينا، تبين أنه من عند الله تعالى.
وقال الزمخشري: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب. فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله، إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وإنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم. ومثل هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول:
لعل الله خذلني. لعل الله أعمى قلبي. وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
انتهى.
قال الشهاب: فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم. فهو تسلية له صلوات الله عليه، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه، فاستحق غضب ربه، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر. ولذا أتى (بأن) في موضع (لو) إرخاء للعنان، وتلميحا للبرهان. على أنه لا يتصور وصفه بما.
ذكروه. فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا المحال، لأنه مطبوعون على الضلال. انتهى ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لو كان مفترى لمحقه. إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه. فليس (يمح) مجزوما بالعطف على الجزاء، بل معطوف على مجموع الجملة والكلام السابق. ولذا أعيد لفظ الجلالة ورفع (يحق) . قال الزمخشري: ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن، وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 25]
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25)
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده أي يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته، من بعد كفره ويعفوا عن السيئات أي معاصيه التي تاب منها ويعلم ما تفعلون أي من خير أو شر، وهو مجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 26 الى 27]
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (27)
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي يستجيب لهم. فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى: وإذا كالوهم [المطففين: 3] ، أي يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم من فضله أي على ثوابهم، منة منه وطولا والكافرون لهم عذاب شديد، ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض أي تجاوزوا الحد الذي حده لهم إلى غيره، بركوبهم ما حظره عليهم. لأن الغنى مبطرة مأشرة كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [العلق: 6- 7] ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء أي ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدر، لكفايتهم إنه بعباده خبير بصير قال الزمخشري: أي يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط. كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 28]
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28)
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته أي بركات الغيث ومنافعه وآثاره من الخصب والرخاء وهو الولي الحميد أي الذي يتولى الخلق بإحسانه، والمحمود على أياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 29]
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (29)
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم أي حشرهم يوم القيامة إذا يشاء قدير أي متمكن منه، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم.
تنبيه:
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية والعوالم العلوية إلى معنى آخر في هذه الآية. وعبارته: يفهم من هذه الآية أن الله تعالى خلق في السموات دواب، ويستدل من قوله تعالى: والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء [النور: 45] ، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض. ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالإنسان، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السموات نباتات وأشجار وبحار وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.
ثم قال: لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر وأية آية، آية لأهل العلم والفلسفة الذين يبذلون الأموال والأرواح بلا حد ولا حساب، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات.
ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي، إن الأرض أصغر من الشمس وأنها تدور حولها. وإن الكواكب السيارات كريات. وأن النجوم الثوابت شموس، ولها سيارات تدور حولها. ولما ثبت لديهم جميعا وجود الماء والهواء، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض.
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا. وليس ذلك بالمستحيل فنا. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى: وهو على جمعهم إذا يشاء قدير فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكرا، إذا لم يجتمعا جسما. فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحا عن العلوم الإسلامية، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان.
وقال أيضا: لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين، أولا وبالذات. لكن، تمهيدا لهذه السبيل، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية، وصرف بصائر الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وما هن عليه من الإبداع.
فوجه أبصارهم إلى التأمل في خلق الإنسان وما هو عليه من التركيب العجيب، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية. فالمفسرون رحمهم الله، لما فسروا هذه الآيات، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية. ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان. لا سيما علم الفلك. فهم معذرون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحير عقول فلاسفة هذا العصر، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها، بل أولوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.
وقال عالم فلكي أيضا: يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه، ويكون كل كوكب منها أرضا بالنسبة لحيواناته. وباقي الكواكب سموات بالنسبة لها.
قال: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح. لأن الله تعالى يقول في كتابه ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ويقول: يسئله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن [الرحمن: 29] ،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 30]
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (30)
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم أي فبسبب معاصيكم وما اجترمتم من الآثام. ويعفوا عن كثير أي من الذنوب فلا يعاقب عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 31]
وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (31)
وما أنتم بمعجزين في الأرض أي بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم، لأنكم في قبضة تصرفه وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أي إذا أراد عذابكم. فاتقوه واخشوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 33]
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (33)
ومن آياته الجوار أي السفن الجارية في البحر كالأعلام أي الجبال إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره أي فيبقين ثوابت على ظهر البحر إن في ذلك أي في جري هذه الجواري في البحر، بتسخير الله تعالى الريح لجريها لآيات أي لعبرة وعظة وحجة بينة على القدرة الأزلية لكل صبار شكور أي لكل مؤمن. وإنما آثر وصفيه المذكورين، تذكيرا بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر. إذ لا يكمل الإيمان بدونهما (والإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 34 الى 35]
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34) ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص (35)
أو يوبقهن أي أو يهلكهن بالغرق بما كسبوا ويعف عن كثير وقوله تعالى: ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون أي يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 38]
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38)
فما أوتيتم من شيء أي مما زين للناس حبه من الشهوات فمتاع الحياة الدنيا أي فهو متاع لكم. تتمتعون به في الدنيا. وليس من الآخرة وما عند الله أي من ثوابه الأخروي خير وأبقى وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي في أمورهم وقيامهم بأسبابهم والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي يصفحون عمن أساء إليهم والذين
استجابوا لربهم أي حينما دعاهم إلى توحيده، والبراءة من عبادة غيره وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم أي لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه.
وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابهم في الله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون أي فيؤدون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها، من زكاة ونفقة. وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 39]
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39)
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون أي بالعدالة. احترازا عن الذلة والانظلام، لكونهم في مقام الاستقامة، قائمين بالحق والعدل الذي ظله في نفوسهم.
قاله القاشاني. وقال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره، المنتصر منه بعد بغيه عليه. فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم.
وقال آخرون: بل هو كل باغ بغى فحمد المنتصر منه. وإليه ذهب السدي حيث قال:
ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
قال ابن جرير: وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب. لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى. بل حمد كل منتصر بحق ممن بغى عليه.. فإن قال قائل:
وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحق، وعقوبته بما هو له أهل، تقويما له. وفي ذلك أعظم المدح. انتهى. وكذا قال الزمخشري. فإن قلت: أهم محمودون في الانتصار؟ قلت: نعم. لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل، إن كان ولي دم، أو رد على سفيه محاماة على عرضه وردعا له، فهو مطيع. وكل مطيع محمود. قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق. ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 42]
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42)
وجزاء سيئة سيئة مثلها أي وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها. إذ النقصان
حيف والزيادة ظلم. ثم بين تعالى أن العفو أولى، فقال فمن عفا وأصلح أي بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء فأجره على الله أي ثوابه عليه. وفي إبهامه، ما يدل على عظمه. حيث جعل حقا على العظيم الكريم إنه لا يحب الظالمين أي البادئين بالسيئة والمعتدين في الانتقام ولمن انتصر بعد ظلمه أي بعد ما ظلم.
فالمصدر مضاف لمفعوله، أو هو مصدر المبني للمفعول فأولئك ما عليهم من سبيل أي للمعاقب، ولا للعاتب والعائب. لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فكيف يكون عليه سبيل؟ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس أي يبدءوهم بالظلم والإضرار، أو يعتدون في الانتقام ويبغون في الأرض بغير الحق أي يتكبرون فيها ويفسدون أولئك لهم عذاب أليم أي: بسبب ظلمهم وبغيهم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #538  
قديم 25-02-2025, 07:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزخرف
المجلد الرابع عشر
صـ 5251 الى صـ 5260
الحلقة (538)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 43]
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (43)
ولمن صبر أي على الأذى وغفر أي لمن ظلمه ولم ينتصر إن ذلك لمن عزم الأمور أي التي ندب الله عباده، وعزم عليهم العمل بها.
تنبيه:
نقل السيوطي في (الإكليل) عن الكيا الهراسي أنه قال: قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه، وظاهر هذه الآية والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون أن الانتصار أفضل. قال، وهو محمول على من تعدى وأصر، لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين. وآيات العفو فيمن ندم وأقلع. انتهى. وعجيب فهمه الأفضلية من الآية، فإنها لا تدل عليه، عبارة ولا إشارة. فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار. وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا. ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة. ثم بين أن العفو أولى، وهو الذي انتهى إليه الكلام، وتم به السياق. وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى. وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل، ودفع الظلم عن النفس والصغار، ورفع الأحقاد والأضغان. وأما العفو والصفح، فذاك من فروع علم الأخلاق وتهذيب النفوس. لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق، رغبة في تزكية النفس وهضما لها وحرصا على خير الأمرين وأوفر الأجرين. وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية، وتوسطها بين الاقتصاص البتة والعفو كليا لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطا
وتفريطا. والدين دين الفطرة. وهي تتقاضى القصاص بالمثل، وتراه حقا لها بجبلتها والقضاء الأدبي والوازع الرحماني يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت، ويبرهن لها أمثليته، مما لا يبعد، إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها، أن تؤثره ولا تؤثر عليه.
كيف؟ وقد دل قوله تعالى: إنه لا يحب الظالمين كما قال الزمخشري، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء، خصوصا في حال الحرد والتهاب الحمية. فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 44]
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44)
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده أي: ومن خذله عن الرشاد، فليس له من ولي يليه، فيهديه لسبيل الصواب، ويسدده من بعد إضلال الله إياه وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل أي رجعة إلى الدنيا. وذلك استعتاب منهم في غير وقته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 45 الى 47]
وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45) وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل (46) استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير (47)
وتراهم يعرضون عليها أي النار خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي أي من طرف قد خفي من ذله وصغاره وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة أي بالتعريض للعذاب المخلد، وتفويت النعيم المؤبد ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل استجيبوا لربكم أي أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله أي لا يرده الله بعد ما حكم به ف «من» صلة (مرد) أو هي صلة (يأتي) أي من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن رده ما لكم من ملجإ يومئذ
وما لكم من نكير
أي إنكار لما اقترفتموه، لأنه محصي عليكم. أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 48]
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور (48)
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا أي رقيبا تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها إن عليك إلا البلاغ أي إبلاغهم ما أرسلت به، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور أي جحود نعم ربه، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء، ولا يتفكر إلا فيما أنزله به من الفساد والشقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50)
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير أي إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة. وتقديم الإناث، إما لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، تنبيها بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهتهن، كما يشاهد من بعض الجهلة.
وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن (ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى) .
قال الشهاب: والضمير في يزوجهم للأولاد، وما بعده حال منه، أو مفعول ثان إن ضمن معنى التصيير، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكورا وإناثا مزدوجين. كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث. ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 51]
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أي إلهاما وقذفا في القلب منه، بلا واسطة أو من وراء حجاب أي يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى عليه السلام أو يرسل رسولا أي من ملائكته كجبريل فيوحي بإذنه ما يشاء أي فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه، ما يشاء إيحاءه، من أمر ونهي وغير ذلك، على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام، أو الهتاف أو المنام إنه علي أي من أن يواجه ويخاطب. بل يفنى ويتلاشى من يواجهه، لعلوه من أن يبقى معه غيره، أو يحتمل شيء حضوره. قاله القاشاني.
وقال المهايمي: أي لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاها، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته. انتهى. حكيم أي يدبر بالحكمة وجوه التكليم، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر، ويكمل به عباده، ويهتدوا إليه ويعرفوه. وقال المهايمي: أي حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف.
تنبيه:
في (الإكليل) : استدلت بالآية، عائشة رضي الله عنها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. واستدل مالك بقوله: أو يرسل رسولا على أن من حلف لا يكلم زيدا، فأرسل إليه رسولا أو كتابا، أنه يحنث. لأنه تعالى استثناه من الكلام، فدل على أنه منه. انتهى. وفيه بعد. إذ لا يقال لمن ألهمه الله، إنه كلمه إلا مجازا. فلا يكون الاستثناء متصلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53]
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)
وكذلك أي مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة أوحينا إليك روحا من أمرنا أي وحيا من أمرنا. وسماه روحا لأنه تحيا به القلوب الميتة. قال الشهاب:
فهو استعارة أو مجاز مرسل، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة. وقيل: هو جبريل.
وأوحينا مضمن معنى (أرسلنا) . والمعنى: أرسلناه إليك بالوحي ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه أي الروح أو الكتاب أو الإيمان نورا نهدي به من نشاء من عبادنا أي بالتوفيق للقبول والنظر فيه وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض أي خلقا وملكا ألا إلى الله تصير الأمور أي في الآخرة. فيقضي بينهم بالعدل. إذ لا حاكم سواه، فيجازي كلا بما يستحقه من ثواب أو عقاب. نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب. إنه الكريم الوهاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزخرف
سميت به لدلالة آيته على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربها بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي. وهي مكية. قيل: إلا آية وسئل من أرسلنا من قبلك [الزخرف:
45] ، وآيها تسع وثمانون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) والكتاب المبين (2) إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (3)
حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون أي معانيه ومواعظه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 4]
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم (4)
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي أي رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها حكيم أي ذو الحكمة الجامعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 5]
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5)
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين أي أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم. وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير. بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط. ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قاله القاشاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 8]
وكم أرسلنا من نبي في الأولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن (7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8)
وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن فأهلكنا أشد منهم بطشا أي قوة ومضى مثل الأولين أي سلف في القرآن في غير موضع منه، ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم. أي فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 10]
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10)
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا أي مهادا تستقرون عليها وجعل لكم فيها سبلا أي طرقا تتطرقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم لعلكم تهتدون أي بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 11]
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11)
والذي نزل من السماء ماء بقدر أي بمقدار الحاجة إليه. فلم يجعله طوفانا يهلك، ولا رذاذا لا ينبت، بل غيثا مغيثا فأنشرنا به بلدة ميتا أي أحيينا به بلدة ميتا من النبات، قد درست من الجدب وعفت من القحط كذلك تخرجون أي من بعد فنائكم ومصيركم بالأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 12 الى 14]
والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنا إلى ربنا لمنقلبون (14)
والذي خلق الأزواج كلها أي خلق كل شيء فزوجه، فجعل منه الذكر والأنثى وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون أي من السفن والبهائم ما تركبونه لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين أي مطيقين وإنا إلى ربنا لمنقلبون أي لصائرون إليه، وراجعون بعد مماتنا.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية استحباب هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة.
وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #539  
قديم 25-02-2025, 08:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزخرف
المجلد الرابع عشر
صـ 5261 الى صـ 5270
الحلقة (539)








القول في : [سورة الزخرف (43) : آية 15]
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (15)
وجعلوا له من عباده جزءا أي جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا.
وذلك قولهم للملائكة (هم بنات الله) قال القاشاني: أي اعترفوا بأنه خالق السموات والأرض ومبدعهما وفاطرهما. وقد جسموه وجزأوه بإثبات الولد له، الذي هو بعض من الوالد، مماثل له في النوع، لكونهم ظاهريين جسمانيين، لا يتجاوزون عن رتبة الحس والخيال، ولا يتجردون عن ملابس الجسمانيات، فيدركون الحقائق المجردة والذوات المقدسة، فضلا عن ذات الله تعالى. فكل ما تصوروا وتخيلوا، كان شيئا جسمانيا. ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور، وكل ما يتعلق بالمعاد. إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا، وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية، أمور المعاش. فلا مناسبة أصلا بين ذواتهم وذوات الأنبياء، إلا في ظاهر البشرية. فلا حاجة إلى ما وراءها. انتهى إن الإنسان لكفور مبين أي لجحود نعم ربه، التي أنعمها عليه. يبين كفرانه لمن تدبر حاله.
القول في : [سورة الزخرف (43) : آية 16]
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16)
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين أي: بل اتخذ. والهمزة للإنكار تجهيلا لهم. وتعجيبا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين وهو الإناث دون الذكور. على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث، وأمقتهم لهن. ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وادوهن. كأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة، فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة، ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما، ترك له شرهما وأدناهما؟
قاله الزمخشري.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 17]
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17)
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا أي من البنات ظل وجهه مسودا أي من الكآبة والغم والحزن وهو كظيم أي مملوء قلبه من الكرب.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 18]
أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18)
أومن ينشؤا في الحلية أي تربى في الزينة، يعني البنات وهو في الخصام أي في المجادلة غير مبين أي لمن خاصمة ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه.
والمعنى: أو من كان كذلك جعلتموه جزءا لله من خلقه، وزعمتم أنه نصيبه منهم؟.
تنبيه:
قال الكيا الهراسي: في دليل على إباحة الحلي للنساء. وسئل أبو العالية من الذهب للنساء، فلم ير به بأسا، وتلا هذه الآية.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 19]
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون (19)
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أي جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده، يسبحونه ويقدسونه، إناثا. فقالوا (هم بنات الله) جهلا منهم بحق الله سبحانه، وجراءة منهم على قيل الكذب.
قال القاشاني: لما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها، إما باعتبار اللفظ وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية، مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية- توهموا أنوثتها في الحقيقة، التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصاصها بالله.
فجعلوها بنات. وقلما يعتقدها العامي إلا صورا إنسية لطيفة في غاية الحسن. انتهى.
أشهدوا خلقهم أي أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم؟ وهو تجهيل لهم، وتهكم بهم ستكتب شهادتهم أي على الملائكة بما هم مبرءون عنه ويسئلون أي عنها يوم القيامة، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا. وفيه من الوعيد ما فيه. لأن كتابتها، والسؤال عنها، يقتضي العقاب والمجازاة عليها، وهو المراد.
القول في [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 21]
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20) أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21)
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون هذا بيان لضلال لهم آخر، في جدلهم وخصامهم وتعنتهم. وقد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور والمعاصي. وأهل السنة تأولوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح. وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء، الناطق به غير ما آية. ولما كانت هذه الآية وأخواتها من معارك الأنظار قديما وحديثا آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين، جريا على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم، وتحلية مصنفاتنا بها، فنقول: قال القاشاني: لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى، افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار. وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان، بل على سبيل العناد والإفحام.. ولهذا ردهم الله تعالى بقوله: ما لهم بذلك من علم إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله. فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره. إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعا ولا ضرا إن هم إلا يخرصون لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل، حين عظموهم وخافوهم وخوفوا أنبياءهم من بطشهم، كما قال قوم هود إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء [هود: 54] ، ولما خوفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم، أجاب بقوله ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا [الأنعام: 80] ، إلى قوله وكيف أخاف ما أشركتم [الأنعام: 81] ، انتهى.
وفي البيضاوي وحواشيه: إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها. يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى.
فيكون مأمورا بها أو حسنة. ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة. وهذا الاستدلال باطل. لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض، حسنا كان أو قبيحا. ولذلك جهلهم في استدلالهم هذا. والحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلا على امتناع النهي عن عبادتهم، أو على حسنها: لا إلى هذا القول. فإنه كلمة حق أريد بها باطل. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئته تعالى، حتى الضلالة والهدى، اتباعا لدليل العقل، وتصديقا لنص النقل.
في أمثال قوله تعالى: يضل من يشاء ويهدي من يشاء [النحل: 93] و [فاطر:
8] ، وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا، ولا تفيده إلا تصويبا وتسديدا. فنقول: إذا قال الكافر (لو شاء الله ما كفرت) فهذه كلمة حق أراد بها باطلا، أما كونها كلمة حق، فلما مهدناه. وأما كونه أراد بها باطلا، فمراد الكافر
بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته.
ثم قال: فإذا وضح ما قلناه، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله. فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون و (إنهم إلا يظنون) وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير.
وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [الأنعام: 148] ، فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل، والإشراك بالله، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لو شاء الله ما أشركنا [الأنعام: 148] فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلب وخيال مكذب، فقال إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [الأنعام: 148] ، ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله، أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله: فلله الحجة البالغة [الأنعام: 149] ، ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك. لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال فلو شاء لهداكم أجمعين [الأنعام: 149] ، وهو معنى قولهم لو شاء الله ما أشركنا من حيث إن (لو) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم. بل شاء ضلالتهم.
ولو شاء هدايتهم لما ضلوا. فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء، مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم، هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها. من الأفعال الكسبية. حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف. لأنها اختيارية. يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية. فهذه الآية أقامت الحجة. ووضحت، لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة، المحجة. ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة. فلا جرم أن أفهامهم تبددت. وأفكارهم تبدلت. فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه. وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار. وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب. أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا.
وأرشدهم إلى الطريق الوسطى. فانتهجوا سبل السلام. وساروا ورائد التوفيق لهم إمام. مستضيئين بأنوار العقول المرشدة، إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته. ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة. لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة. لكنها قدرة تقارن بلا تأثير.
وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير. فهذا هو التحقيق.
انتهى.
وقد سبق في آية (الأنعام) نقول عن الأئمة في الآية مسهبة: فراجعها إن شئت.
وقوله تعالى: أم آتيناهم كتابا من قبله أي من قبل هذا القرآن فهم به مستمسكون أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك. نظير قوله تعالى في الآية الأخرى قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا
يعني بالعلم كتابا موحى فيه ذلك. وقوله تعالى:
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 22]
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون أي لا حجة لهم إلا تقليد آبائهم، الجهلة مثلهم.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 23]
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون أي كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد، فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله.
قال القاضي: وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضا لم يكن لهم سند منظور فيه. وتخصيص المترفين، إشعار بأن النعم وحب البطالة، صرفهم عن النظر إلى التقليد.
القول في[سورة الزخرف (43) : آية 24]
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24)
قال وقرئ قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون أي جاحدون منكرون، وإن كان أهدى. إقناطا للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 25]
فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين (25)
فانتقمنا منهم أي بعذاب الاستئصال فانظر كيف كان عاقبة المكذبين أي آخر أمرهم، مما أصبح مثلا وعبرة.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 26]
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون (26)
وإذ قال إبراهيم قال القاضي: أي اذكر وقت قوله هذا، ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل. أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد، فإنه أشرف آبائهم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون أي بريء من عبادتكم أو معبودكم. وبراء بفتح الباء الموحدة كما هو قراءة العامة، مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة. فلذا أطلق على الواحد وغيره. وقرئ بضم الباء وهو اسم مفرد صفة مبالغة، كطوال وكرام، بضم الطاء والكاف. وقوله:
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 27]
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (27)
إلا الذي فطرني استثناء منقطع أو متصل. على أن (ما) يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام. أو (إلا) بمعنى (غير) صفة ل (ما) . أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني. أي خلقني فإنه سيهدين أي للدين الحق، واتباع سبيل الرشد. والسين إما للتأكيد، ويؤيده آية الشعراء يهدين بدونها. والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار. وإما للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولا. فيتغاير ما في الآيتين من الحكاية أو المحكي، بناء على تكرر قصته.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 28]
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28)
وجعلها أي شهادة التوحيد كلمة باقية في عقبه أي موصي بها، موروثة متداولة محفوظة. كقوله تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب [البقرة: 132] ، لعلهم يرجعون أي لكي يرجعوا إلى عبادته، ويلجئوا إلى توحيده في سائر شؤونهم. أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 29]
بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين (29)
بل متعت هؤلاء يعني أهل مكة وآباءهم أي من قبلهم بالحياة، فلم أعاجلهم على كفرهم حتى جاءهم الحق أي دعوة التوحيد أو القرآن ورسول مبين أي ظاهر الرسالة بالآيات والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 30]
ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30)
ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون أي جاحدون. فازدادوا في ضلالهم، لضمهم إلى شركهم، معاندة الحق.
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 31]
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أي من إحداهما، مكة والطائف. فالتعريف للعهد عظيم أي بالجاه والمال. فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم. قال القاضي: ولم يعلموا أنها رتبة روحانية. تستدعي عظيم النفس، بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
وقوله تعالى:
القول في [سورة الزخرف (43) : آية 32]
أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32)
أهم يقسمون رحمت ربك إنكار، فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم فيما لا يتولاه إلا هو تعالى. والمراد بالرحمة النبوة نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا أي فجعلنا بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا ورفعنا بعضهم أي بالغنى فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم يعني الغني بعضا يعني الفقير سخريا أي مسخرا في العمل، وما به قوام المعايش، والوصول إلى المنافع. لا لكمال في الموسع عليه، ولا لنقص في المقتر عليه بل لحاجة التضام والتآلف، التي بها ينتظم شملهم.
وأما النفحات الربانية، والعلوم اللدنية، فليست مما يستدعي سعة ويسارا. لأنها اختصاص إلهي، وفيض رحماني، يمن به على أنفس مستعديه، وأرواح قابليه.
و (السخري) بالضم منسوب إلى السخرة بوزن (غرفة) وهي الاستخدام والقهر على العمل. ورحمت ربك خير مما يجمعون يعني أن النبوة خير مما يجمعون من الحطام الفاني. أي: والعظيم من أعطيها وحازها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. لا من حاز الكثير من الشهوات المحبوبة. ثم أشار تعالى إلى حقارة الدنيا عنده، بقوله:
القول في [سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35]
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (35)
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أي متفقة على الكفر بالله تعالى. أي لولا كراهة ذلك لجعلنا لمن يكفر بالرحمن أي لتكثير النعم عليه، مع كفره بالمنعم فيزداد عذابا لبيوتهم بدل من لمن سقفا بفتح السين وسكون القاف، وبضمهما، جمعا من فضة ومعارج أي مصاعد من فضة عليها يظهرون أي يرتقون ولبيوتهم أبوابا أي من فضة وسررا أي من فضة عليها يتكؤن وزخرفا أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا، أي زينة من ذهب وجواهر فوق الفضة.
ثم أشار إلى أن لا دلالة في ذلك على فضيلتهم بقوله: وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا أي: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت، من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة، الزخرف، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين أي: وزين الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، أي الذين اتقوا الله فخافوا عقابه..





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #540  
قديم 25-02-2025, 10:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله




تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزخرف
المجلد الرابع عشر
صـ 5271 الى صـ 5280
الحلقة (540)






قال المهايمي: يعني لا خصوصية في ذاك المتاع، بحيث يدل عدمه على عدم
منصب النبوة، وإنما الذي يدل عدمه على عدم النبوة، التقوى. فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه. سواء كانت عنده الدنيا أم لا. وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار، لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق. بحيث يصير صاحبها أعشى. انتهى.
تنبيه:
ما قدمناه من أن معنى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على تقدير (لولا كراهة ذلك) وأن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر، أي أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور- هو ما ذكره المفسرون. فورد عليه أنه حين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ فأجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا، لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا. والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين فكانت الحكمة فيما دبر حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء. وغلب الفقر على الغنى. هذا ما قاله الزمخشري.
وعندي أن لا حاجة لتقدير الكراهة. وأن معنى الآية غير ما ذكروه. وذلك أن المعنى: لولا أن يكونوا خلقوا ليكونوا أمة واحدة، للترافد والتعاون والتضام، وما به قوام حياتهم كالجسم الواحد، لجعلنا للناس ما ذكر من الزين والحلي لدخوله تحت القدرة الكاملة. إلا أن ذلك مبطل للحكمة ومخرب لنظام الوجود. وإنما عبر عن الناس بمن يكفر بالرحمن، رعاية للأكثر وهم الكفار فإنهم الذين طبقوا ظهر الأرض وملأوا وجهها. وحطا لقدر الدنيا وتصغيرا لشأنها، بأن تؤتى لمن هو الأدنى منزلة.
والأخس قدرا. وخلاصة المعنى: أن خلقهم أمة واحدة مدنيين بالطبع، مانع من بسط الدنيا عليهم جميعهم. وهذا هو معنى (لولا) المطرد، أن ما بعدها أبدا مانع من جوابها. ولذلك يقولون (حرف امتناع لوجود) .
فليس المعنى على ما ذكروه أبدا كما يظهر واضحا لمن أنعم النظر. وبالجملة، فالآية هذه تتمة لما قبلها، في جواب أولئك الظانين، أن العظمة الدنيوية تستتبع النبوة. فبين تعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى. وهي التسخير. وفي الثانية حقارة الدنيا عنده وأنه لولا التسخير لآتاها أحط الخلق وأبعدهم منه، مبالغة
في الإعلام بضعتها. وهذا مصداق ما ورد من أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن ما عنده خير وأبقى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 36]
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36)
ومن يعش عن ذكر الرحمن أي يعرض عنه، فلم يخف سطوته ولم يخش عقابه نقيض له شيطانا فهو له قرين أي نجعل له شيطانا يغويه ويضله عن السبيل القويم دائما، لمقارنته له. قال القاشاني: قرئ (يعش) بضم الشين وفتحها: والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العشى لعارض أو متعمدا، من غير آفة في بصره. وعشي إذا إيف بصره. فعلى الأول معناه: ومن كان له استعداد صاف وفطرة سليمة لإدراك ذكر الرحمن، أي القرآن النازل من عنده وفهم معناه. وعلم كونه حقا، فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغي وحسد، أو لم يفهمه ولم يعلم حقيقته، لاحتجابه بالغواشي الطبيعية، واشتغاله باللذات الحسية عنه، أو لاغتراره بدينه وما هو عليه من اعتقاده ومذهبه الباطل نقيض له شيطانا جنيا فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات، وحرص عليه من الزخارف. أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه. أو إنسيا يغويه ويشاركه في أمره ويجانسه في طريقه ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه. ومن إيف استعداده في الأصل، وشقي في الأزل بعمى القلب عن إدراك حقائق الذكر، وقصر عن فهم معناه نقيض له شيطانا من نفسه أو جنسه، يقارنه في ضلالته وغوايته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 37]
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37)
وإنهم ليصدونهم عن السبيل قال ابن جرير: أي: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون لهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته. ويحسبون أنهم مهتدون أي يظن هؤلاء المشركون بالله، بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه، أنهم على الصواب والهدى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 38]
حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38)
حتى إذا جاءنا أي العاشي قال أي لشيطانه يا ليت بيني وبينك بعد
المشرقين
أي بعد المشرق من المغرب. فغلب المشرق على المغرب، ثم ثنى.
وقيل المراد مشرقا الصيف والشتاء. والتقدير من المغربين، فاختصر. فبئس القرين قال القاشاني: أي حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله، والعذاب المستحق لمذهبه ودينه، تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق، وزين له ما وقع بسببه في العذاب، واستوحش من قرينه واستذمه، لعدم الوصلة الطبيعية، أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 39]
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون قال القاشاني: أي لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب. إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا، وتبين عاقبته، وكشف عن حاله. لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه. أو ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته وإيلامه. أي كما ينفع الواقعين في أمر صعب، معاونتهم في تحمل أعبائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 40]
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين (40)
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم. وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده تعالى. وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال، لأنه لا أجمع من ذلك لشرح حالهم، ولا أبلغ منه. إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه، كالأصم.
وإبصار آيات الله والاعتبار بها، كالأعمى. وقصد السبيل الأمم، كالضال الحائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 41]
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41)
فإما نذهبن بك أي نقبضك قبل أن نظهرك عليهم فإنا منهم منتقمون أي بالعذاب الأخروي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 42]
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42)
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون وهذا كقوله تعالى:
فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون [غافر: 77] ، وفي تعبيره بالوعد، وهو لا يخلف الميعاد، إشارة إلى أنه هو الواقع. وهكذا كان. إذ لم يفلت أحد من صناديدهم، إلا من تحصن بالإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 43]
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم يعني دين الله الذي أمر به وهو الإسلام. فإنه كامل الاستقامة من كل وجه. قال الشهاب: هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر لأمته أو له، بالدوام على التمسك. والفاء في جواب شرط مقدر. أي إذا كان أحد هذين واقعا لا محالة، فاستمسك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 44]
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون (44)
وإنه لذكر لك ولقومك أي وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقومك من قريش. لما خصهم به من نزوله بلسانهم. أو المراد بقومه، أتباعه. أي تنويه بقدرك وبقدر أمتك، لما أعطاه لهم بسببه من العلوم والمزايا والخصائص والشرائع الملائمة لسائر الأحوال والأزمان، وجوز أن يراد بالذكر الموعظة وسوف تسئلون أي عما عملتم فيه، من ائتماركم بأوامره، وانتهائكم عن نواهيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 45]
وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)
وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون أي:
هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ وهل جاءت في ملة من مللهم؟ قال القاضي: والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه، فيكذب ويعادى له. انتهى.
والذين أمر بمسألتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، هم مؤمنو أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
فالكلام بتقدير مضاف. أي أممهم المؤمنين. أو يجعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم. لأنهم إنما يخبرونه عن كتب الرسل. فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 46]
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين (46)
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي المصدقة له إلى فرعون لينهاه عن الاستعباد وملائه أي لينهاهم عن التعبد له فقال إني رسول رب العالمين أي فأبان أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى، وأن ليس لأحد سواه استعباد، لأنها حق الربوبية المطلقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 47]
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون (47)
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون فلما أتاهم بالحجج على التوحيد والبراءة من الشرك، إذا فرعون وقومه يضحكون. أي كما أن قومك، مما جئتهم به من الآيات والعبر، يسخرون. وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما كان يلقى من مشركي قومه. وإعلام منه له أن قومه من أهل الشرك، لن يعدوا أن يكونوا كسائر.
الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله. وندب منه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الاستنان بهم، بالصبر عليهم، بسنن أولي العزم من الرسل. وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك. كسنته في المتمردين عليهم قبله، وإظفاره بهم، وإعلائه أمره. كالذي فعل بموسى عليه السلام وقومه الذين آمنوا به. من إظهار هم على فرعون وملئه. أفاده ابن جرير. ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد، لا لقصورها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 48 الى 50]
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48) وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50)
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها أي السابقة عليها وأخذناهم بالعذاب أي الدنيوي كالسنين، مما يلجئ إلى الرجوع، ولا أقل من رجائه لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك أي من أنه لا يعذب من آمن
بك ليكشف عنا العذاب إننا لمهتدون أي بما تزعم أنه الهداية فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون أي العهد الذي عاهدوا عليه، ويتمادون في غيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 53]
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون (51) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53)
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي يعني أنهار النيل أفلا تبصرون أي ما أنا فيه من النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر أم أنا خير من هذا الذي هو مهين أي ضعيف لا شيء له من الملك والأموال ولا يكاد يبين أي الكلام، لمخالفة اللغة العبرانية اللغة القبطية فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين أي يعينونه ويصدقونه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 54 الى 55]
فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54) فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55)
فاستخف قومه أي فاستفزهم بهذه المغالطات، وحملهم على أن يخفوا له ويصدقوه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا أي أغضبونا بطاعة عدونا وقبول مغالطاته بلا دليل، وتكذيب موسى وآياته، وندائه بالساحر، ونكث العهود انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال، الأجيال الطوال، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 56 الى 58]
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56) ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58)
فجعلناهم سلفا أي حجة للهالكين بعدهم ومثلا أي عبرة للآخرين أي الناجين ولما ضرب ابن مريم مثلا أي في كونه كآدم، كما أشارت له آية إن
مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
[آل عمران: 59] ، والمعنى: لما بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة، عبادته كفر، ودعاؤه شرك، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره إذا قومك منه أي من مثله المضروب ووصفه المبين يصدون أي يعرضون ولا يعون وقالوا أآلهتنا خير أم هو يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم، زعما منهم أنهم بنات الله تعالى. كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة. أي أنهم خير من عيسى وأفضل، لأنهم من الملأ الأعلى والنوع الأسمى، فإذا جازت عبادة المفضول وهو عيسى، فبالأولى عبادة الأفضل وهم الملائكة. كأنهم يقررون على شركهم أصولا صحيحة. ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة. وغفلوا، لجهلهم، عن بطلان المقيس والمقيس عليه. وأن البرهان الصادع قام على بطلان عبادة غيره تعالى، وعلى استحالة التوالد في ذاته العلية. وإذا اتضح الهدى فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال. كما قال تعالى:
ما ضربوه لك إلا جدلا أي ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد، لظهور بطلانه بل هم قوم خصمون أي شديد والخصومة بالباطل تمويها وتلبيسا.
وفي الحديث «1»
(ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)
وما ذكرناه في تفسير هذه الآية، هو الجلي الواضح، لدلالة السياق والسباق فقابل بينه وبين ما حكاه الغير وأنصف. ثم جلى شأن عيسى عليه السلام، بما يرفع كل لبس، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 59]
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه أي بالنبوة والرسالة وجعلناه مثلا لبني إسرائيل أي آية لهم وحجة عليهم، بما ظهر على يديه، مما أيد نبوته ورسالته وصدق دعواه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 60]
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (60)
ولو نشاء لجعلنا منكم أي بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون أي يكونون مكانكم. إيعاد لهم بأنهم في قبضة المشيئة في إهلاكهم، وإبدال من هو خير منهم.
(1)
. أخرجه الترمذي في: التفسير، 43- سورة الزخرف، عن أبي أمامة.

كما في قوله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد: 38] ، وقيل معنى لجعلنا منكم لولدنا منكم ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير أب، لتعرفوا تميزنا بالقدرة. واللفظ الكريم يحتمله. إلا أن الأظهر هو الأول، لما جرت به عادة التنزيل، من خواتم أمثال ما تقدم، بنظائر هذا الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 61 الى 62]
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62)
وإنه لعلم للساعة الضمير إما للقرآن كما ذهب إليه قوم، أي وإن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وعن أهوالها. وفي جعله عين العلم، مبالغة. والعلم بمعنى العلامة. وقيل الضمير لعيسى عليه السلام. أي إن ظهوره من أشراط الساعة.
ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا. وقال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها. فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث. فالآية مجاز مرسل علاقته المسببية. إذ أطلق المسبب وهو العلم، وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته. كقولك (أمطرت السماء نباتا) أي مطرا يتسبب عنه النبات. وقرئ وإنه لعلم للساعة بفتحتين. أي أنه كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه.
فبعيسى عليه السلام يهتدى إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها. انتهى.
وهو جيد فلا تمترن بها واتبعون أي اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي. أو هو أمر للرسول أن يقوله هذا أي القرآن، أو ما أدعوكم إليه صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان أي عن الاتباع إنه لكم عدو مبين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 456.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 450.90 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.28%)]