تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 56 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          أغمض عينيك قليلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          تسليط ظالم على ظالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تنبيهات على أصول في الولاء والبراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          نهاية العام وصوم عاشوراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أذكار الصباح والمساء وبعض فضائلها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          فضل شهر الله المحرم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 715 - عددالزوار : 201181 )           »          التدرّج: فقه العروج البشري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          سيادةُ اليوم وتَبَعِيَّةُ السَّنَة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #551  
قديم 25-02-2025, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الفتح
المجلد الخامس عشر
صـ 5386 الى صـ 5395
الحلقة (551)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 21]
طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21)
طاعة وقول معروف فيه أوجه:
أحدها- أنه خبر (أولى) على ما تقدم.
الثاني- أنها صفة السورة. أي: فإذا أنزلت سورة محكمة طاعة، أي: ذات طاعة، أو مطاعة. ذكره مكي وأبو البقاء. وفيه بعد، لكثرة الفواصل.
الثالث- أنها مبتدأ، و (قول) عطف عليها، والخبر محذوف. تقديره: أمثل بكم من غيرهما. وقدره مكي: منا طاعة، فقدره مقدما.
الرابع- أن يكون خبر مبتدأ محذوف. أي أمرنا طاعة.
الخامس- أن (لهم) خبر مقدم و (طاعة) مبتدأ مؤخر. والوقف والابتداء يعرفان مما قدمته، فتأمل- أفاده السمين-.
فإذا عزم الأمر أي: جد الحال، وحضر القتال: قال أبو السعود: أسند العزم، وهو الجد، إلى الأمر، وهو لأصحابه، مجازا. كما في قوله تعالى: إن ذلك من عزم الأمور [لقمان: 17] ، وعامل الظرف محذوف. أي خالفوا وتخلفوا. وقيل ناقضوا.
وقيل: كرهوا. وقيل: هو قوله تعالى: فلو صدقوا الله على طريقة قولك: إذا حضرني طعام، فلو جئتني لأطعمتك. أي: فلو صدقوه تعالى فيما قالوه من الكلام المنبئ عن الحرص على الجهاد، بالجري على موجبه لكان أي الصدق خيرا لهم أي في عاجل دنياهم، وآجل معادهم. قيل: فلو صدقوه في الإيمان، وواطأت قلوبهم في ذلك ألسنتهم. وأيا ما كان، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض، وهم المخاطبون بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 22]
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22)
فهل عسيتم إن توليتم أي أعرضتم عن تنزيل الله تعالى، وفارقتم أحكام كتابه، وما جاء به رسوله أن تفسدوا في الأرض أي بالتغاور والتناهب وتقطعوا أرحامكم أي تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرق، بعد ما جمعكم الله بالإسلام، وألف به بين قلوبكم، وأمركم بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام. وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال، وبذل الأموال. وقد ساق ابن كثير هنا من الأحاديث في صلة الرحم لباب اللباب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 23]
أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23)
أولئك إشارة إلى المذكورين الذين لعنهم الله فأصمهم أي عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم وأعمى أبصارهم أي لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 24]
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)
أفلا يتدبرون القرآن قال ابن جرير: أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه السلام، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون. أم على قلوب أقفالها أي فلا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر. وتنكير (القلوب) للإشعار بفرط جهالتها ونكرها، كأنها مبهمة منكورة. و (الأقفال) مجاز عما يمنع الوصول. وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة، إذ لا يمكن فتحها أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 25]
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25)
إن الذين ارتدوا على أدبارهم أي عادوا لما كانوا عليه من الكفر من بعد ما تبين لهم الهدى أي الحق بواضح الحجة.
الشيطان سول لهم أي زين لهم ارتدادهم وحملهم عليه وأملى لهم أي ومد لهم في الآمال والأماني، أو أمهلهم الله تعالى، فمد في آجالهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة. والمعنى: الشيطان سول لهم، والله أملى لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 26]
ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26)
ذلك إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم، بأنهم أي بسبب أنهم قالوا أي المنافقون للذين كرهوا ما نزل الله أي لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنطيعكم في بعض الأمر أي بعض أموركم، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد، والتظاهر على الرسول، أو الخروج معهم إن أخرجوا، كما أوضح ذلك قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم [الحشر: 11] ، وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادونهم.
والله يعلم إسرارهم أي: إخفاءهم لما يقولونه لليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 27 الى 28]
فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28)
فكيف أي: يفعلون ويدفعون ضرر الردة عليهم إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم أي: التي ولوها عن الله إلى أعدائه وأدبارهم أي التي ولوها عن الأعداء إلى الله.
ذلك أي التوفي الهائل بأنهم اتبعوا ما أسخط الله أي من إطاعة أعدائه، وكرهوا رضوانه أي في معاداتهم، فأدى بهم إلى الردة فأحبط أعمالهم أي التي كانت تفيدهم النجاة من ذلك الضرب، ومن الفضائح الدنيوية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 29]
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29)
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أي نفاق تفرع منه أضغان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن لن يخرج أي يظهر الله أضغانهم أي أحقادهم لرسوله وللمؤمنين، فتبقى أمورهم مستورة. والمعنى: أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 30 الى 31]
ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30) ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (31)
ولو نشاء لأريناكهم أي لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية فلعرفتهم بسيماهم أي بعلامتهم التي نسمهم بها ولتعرفنهم في لحن القول أي أسلوبه وما يرومون من غير إيضاح به.
قال في (الإكليل) : استدل بالآية من جعل التعريض بالقذف موجبا للحد.
والله يعلم أعمالكم أي فيجازيكم بحسب قصدكم.
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين أي أهل المجاهدة في سبيل الله، والصبر على المشاق ونبلوا أخباركم أي أفانين أقوالكم، وضروب
بياناتكم، وأعمال قوة ألسنتكم في نشر الحق والصدع به والدأب عليه، هل هو متمحض لذلك، أم فيه ما فيه من المحاباة خيفة لوم اللائم.
قال القاشاني: علم الله تعالى قسمان: سابق على معلوماته إجمالا في لوح القضاء، وتفصيلا في لوح القدر، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية، والنفوس السماوية الجزئية. فمعنى حتى نعلم حتى يظهر علمنا التفصيلي في المظاهر الملكوتية والإنسية، التي يثبت بها الجزاء- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 32]
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم (32)
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم أي فتذهب سدى، لا تثمر لهم نفعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 34]
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34)
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم أي لكن يعذبهم ويعاقبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 35]
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35)
فلا تهنوا أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد الذين اعتدوا عليكم، وصدوا عن سبيل الله، وتدعوا إلى السلم أي الصلح والمسالمة وأنتم الأعلون أي الأغلبون، فإن كسح الضلال من طريق الحق لا منتدح عنه، ما تيسرت أسبابه، وقهرت أربابه والله معكم أي بنصره ما تمسكتم بحبله ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم ثوابها ويضيعها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 36]
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36)
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو أي فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم أي ثواب إيمانكم وتقواكم ولا يسئلكم أموالكم أي لأنه غني عنكم، وإنما يريد منكم التوحيد، ونبذ الأوثان، والطاعة لما أمر به ونهى عنه.
قال بعض المفسرين: أي لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير، كربع العشر وعشره. إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم، وهو معطوف على الجزاء. والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم، كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم. ولا يخفى حسن مقابلته لقوله يؤتكم أجوركم أي يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال- هذا ما قاله الشهاب-.
والظاهر أن المراد بيان غناه تعالى عن عباده، وأن طلب إنفاق الأموال منهم، لعود نفعه إليهم لا إليه، لاستغنائه المطلق، فإن في الصدقات دفع أحقاد صدور الفقراء عنهم، وفي بذله للجهاد دفع غائلة الشرور والفساد، وكله مما يعود ثمرته عليهم.
ثم أشار تعالى إلى حكمته ورحمته في عدم سؤاله إنفاق أموالهم كلها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 37]
إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37)
إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا أي فيجهدكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، تبخلوا بها وتمنعوها، ضنا منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم، ومن ضيق أنفسكم، فلم يسألكموها.
قال الزمخشري: الإحفاء المبالغة، وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال (أحفاه في المسألة) إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، و (أحفى شاربه) إذا استأصله.
ويخرج أضغانكم أي أحقادكم، وكراهتكم لدين يذهب بأموالكم. وضمير (يخرج) لله تعالى، ويعضده القراءة بنون العظمة. أو للبخل لأنه سبب الأضغان.
وقرئ (يخرج) من الخروج، بالياء والتاء، مسندا إلى الأضغان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 38]
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38)
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله أي في جهاد أعدائه، ونصرة دينه فمنكم من يبخل أي بالنفقة فيه. ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه أي يمسكه عنها، لأنه يحرمها الأجر، ويكسبها الوزر والله الغني أي: عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه. ولهذا قال سبحانه وأنتم الفقراء أي بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، لا ينفكون عنه، أي وإذا كان كذلك، فإنما حضكم في النفقة في سبيله ليكسبكم بذلك، الجزيل من ثوابه.
وليعلم أن سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير، وفائدة وقربة ومثوبة. وإنما اقتصر المفسرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر، وجزئيه الأهم، وقت نزول الآيات، وإلا فلا ينحصر فيه.
وإن تتولوا أي عما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم يستبدل قوما غيركم أي يهلككم ثم يأتي بقوم آخرين غيركم، بدلا منكم، يؤمنون به، ويعملون بشرائعه.
ثم لا يكونوا أمثالكم أي لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله، على ما يؤمرون به.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
سميت به لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز. وكل هذه أمور جليلة- إفادة المهايمي-.
وآيها تسع وعشرون، وهي مدنية. نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة، عدة له بالفتح. قال أنس: لما رجعنا من الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فنزلت. واختلف في المكان الذي نزلت فيه، فوقع عند محمد بن سعد (بضجنان) وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة. وعند الحاكم في- الإكليل- بكراع الغميم. وعن أبي معشر (بالجحفة) .
قال الحافظ ابن حجر: والأماكن الثلاثة متقاربة.
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- وهو في بعض أسفاره- لعمر: لقد أنزلت علي الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفل قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح، فرجع فيها
.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1)
إنا فتحنا لك فتحا مبينا قال الرازي: في الفتح وجوه:
أحدها- فتح مكة، وهو ظاهر.
وثانيها- فتح الروم وغيرها.
وثالثها- المراد من الفتح، صلح الحديبية.
ورابعها- فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وخامسها- المراد منه الحكم، كقوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق [الأعراف: 89] ، وقوله ثم يفتح بيننا بالحق [سبأ: 26] . انتهى.
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها، مما يصدق عليها الفتح الرباني، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية، الذي حفظ الثقات زمنه، يبين المراد من الفتح بيانا لا خلاف معه، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.
قال الإمام ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك، على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه السورة، فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #552  
قديم 25-02-2025, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الفتح
المجلد الخامس عشر
صـ 5396 الى صـ 5405
الحلقة (552)








الحديبية. روى البخاري «1» عن البراء رضي الله عنه قال: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية) .
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض» ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم- أخرجاه في الصحيحين «2» من رواية قتادة به-.
وروى الإمام أحمد «3» عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نرجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم إنا فتحنا لك فتحا مبينا.
قال، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: أي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح. ورواه أبو داود في الجهاد.
ثم قال ابن كثير: فالمراد بقوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا- أي بينا ظاهرا- هو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف، ما مثاله:
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلم بعضهم بعضا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام. ولهذا سماه الله فتحا في قوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا نزلت في الحديبية، فقال عمر:
يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال: نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحا قريبا. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها،
(1)
أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1686.

(2)
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث 97.

(3)
أخرجه في المسند 3/ 420.

المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب، قصة زكريا، وخلق الولد له، مع كونه كبيرا، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة، قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل، وبشارات الكهان به، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 2]
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (2)
ليغفر لك الله قال أبو السعود: غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاق الحروف، واقتحام موارد الخطوب. ما تقدم من ذنبك وما تأخر أي جميع ما فرط منك، من ترك الأولى. وتسميته ذنبا، بالنظر إلى منصبه الجليل.
قال ابن كثير: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين. وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة: حبسها حابس الفيل. ثم
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها، فلما أطاع الله في ذلك، وأجاب إلى الصلح، قال الله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ... الآيات» .
وقوله تعالى: ويتم نعمته عليك أي بإظهاره إياك على عدوك، ورفعه ذكرك.
ويهديك صراطا مستقيما أي ويرشدك طريقا من الدين لا عوج فيه. قال أبو السعود: أصل الاستقامة، وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلا قبل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 3]
وينصرك الله نصرا عزيزا (3)
وينصرك الله نصرا عزيزا أي قويا منيعا، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، والظفر الذي يمدك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 4]
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4)
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين أي السكون والطمأنينة إلى الإيمان والحق. ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم أي يقينا منضما إلى يقينهم.
قال القاشاني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن. وهو من مبادئ عين اليقين، بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور.
ولله جنود السماوات والأرض أي أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.
وكان الله عليما حكيما أي في تقديره وتدبيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 5]
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5)
واللام في قوله تعالى ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها متعلق بمحذوف، نحو: أمر بالجهاد ليدخل ... إلخ. أو دبر ما دبر مما ذكر لذلك، أو متعلق ب فتحنا على تعلق الأول به مطلقا، وهذا مقيدا، أو بقوله ليزدادوا. ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 6]
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6)
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء أي ظن الأمر السوء، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين. عليهم دائرة السوء أي بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع، كالقتل والإهانة والإذلال. وقرئ دائرة السوء بالضم، وهما لغتان من (ساء) كالكره والكره. وغضب الله عليهم أي بالقهر والحجب. ولعنهم أي بالطرد والإبعاد في الآخرة. وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 7]
ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما (7)
ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما قيل في سر التكرير: إنه ذكر سابقا على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ذيله بقوله عليما حكيما، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم، فلذا ذيله بقوله عزيزا حكيما فلا تكرار. وقيل: إن الجنود جنود رحمة، وجنود عذاب، وأن المراد هنا الثاني، ولذا تعرض لوصف العزة. وقال القاشاني: كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين، بعكس ما فعل بالمؤمنين. وبدل عليما بقوله عزيزا ليفيد معنى القهر والقمع، لأن العلم من باب اللطف، والعزة من باب القهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 8]
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8)
إنا أرسلناك شاهدا أي على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه ومبشرا أي لمن استجاب لك بالجنة ونذيرا أي لمن خالفك بالنار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 9]
لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)
لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه أي تؤيدوا دينه وتقروه وتوقروه أي تعظموه وتسبحوه بكرة وأصيلا أي غدوة وعشيا- على ظاهره- أو دائما، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع، كما يقال (شرقا وغربا) لجميع الدنيا. والضمائر كلها- على ما ذكرنا- لله، وجوز إعادة الأولين للرسول، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 10]
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10)
إن الذين يبايعونك أي على قتال قريش تحت الشجرة، وأن لا يفروا عند لقاء العدو، ولا يولوهم الأدبار. إنما يبايعون الله أي لأن عقد الميثاق مع رسول الله، كعقده مع الله، من غير تفاوت، لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ونواهيه. يد الله فوق أيديهم تأكيد لما قبله. أي أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال القاشاني: أي قدرته البارزة في يد الرسول، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم، فيضرهم عند النكث، وينفعهم عند الوفاء.
فمن نكث أي نقض عهده فإنما ينكث على نفسه أي لعود ضرر ذلك عليه خاصة. ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما وهو الجنة.
تنبيه:
هذه البيعة هي بيعة الرضوان. وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية. وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفا وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل:
خمسمائة. والأول أصح- على ما قاله ابن كثير- وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة. ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها، لزم إيرادها مفصلة.
قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمرا، لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظما له.
وقال الإمام ابن القيم: قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة. وكان معه ألف وخمسمائة. هكذا في الصحيحين «1» عن جابر.
وفيهما «2» عن عبد الله بن
(1)
أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1685.

(2)
أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1894.

أبي أوفى: كنا ألفا وثلاثمائة. وعن جابر فيهما «1» : كانوا ألفا وأربعمائة- والقلب إلى هذا أميل- وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع. ثم لما كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريبا من عسفان، أتاه عينه فقال: إني تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد. ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فروحوا إذن. فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين، فو الله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بعترة الجيش. فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم، بركت راحلته. فقال الناس: حل حل، فألحت: فقالوا: خلأت القصواء! خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها. ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه. قال، فو الله! ما زال يجيش لهم بالري، حتى صدروا عنه. وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم، ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان. فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا. فقالوا:
(1)
أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1685.

قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه. فحمل عثمان على الفرس وأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة. وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون! فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله، وقد خلص قال: ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معا. واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. فدعا إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: هذه عن عثمان. ولما تمت البيعة رجع عثمان. فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي! والذي نفسي بيده! لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت! فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم، إلا الحر بن قيس، وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم. فبينا هم كذلك إذ جاء بديل ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد. ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم: فإن شاؤوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس. وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا. وإن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم:
لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال سمعته يقول كذا وكذا. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من
قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن أخرى، فو الله إني لأرى وجوها، وأرى أوشابا من الناس، خليقا أن يفروا ويدعوك! فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه! قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك! وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته. والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر! أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية. فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #553  
قديم 25-02-2025, 11:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الفتح
المجلد الخامس عشر
صـ 5406 الى صـ 5415
الحلقة (553)






ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فو الله! ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! لقد وفدت على الملوك: على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته.
فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سهل لكم من أمركم، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن، فو الله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: باسمك اللهم.

ثم قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: فو الله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله وإن كذبتموني! اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله! لا تتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا. فقال المسلمون سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلما؟! فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: فو الله! إذن لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجره لي قال: ما أنا بمجيره لك، قال: بلى، فافعل. قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما لقيت- وكان قد عذب عذابا شديدا في الله- قال عمر ابن الخطاب: والله! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ألست نبي الله؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟
قال: بلى! فقلت: على م نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه. قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى! أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا! قال: فإنك آتيه، وتطوف به! قال فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت فو الله! إنه لعلى الحق. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا وانحروا ثم احلقوا. فو الله! ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثم جاءت نسوة مؤمنات.، فأنزل الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات [الممتحنة: 10] ، حتى بلغ بعصم الكوافر فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله عليه: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ... الآيات. فقال لعمر: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم! فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله! فما لنا! فأنزلنا الله عز وجل هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين.... [الفتح: 4] ، الآية. ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير- رجل من قريش- مسلما، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا! فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر يعدو، حتى بلغ المدينة، فدخل المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل، والله! صاحبي، وإني لمقتول. وجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه! مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأنزل الله عز وجل وهو الذي كف أيديهم عنكم [الفتح: 24] الآية
.
وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك، حتى إذا كان العام المقبل، قدمها، وخلوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابكم لم نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. فقالوا: يا رسول الله! نعطيهم هذا؟ فقال: من أتاهم منا، فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم، جعل الله له فرجا ومخرجا.

هذا ولينظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في (زاد المعاد) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 11]
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11)
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا قال مجاهد: هم أعراب المدينة، كجهينة ومزينة، استتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه إلى مكة، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم. فاعتلوا بالشغل. أي سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا، والخوف على أهلنا من الضيعة، فاستغفر لنا ربنا.
وقوله تعالى: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله، والنفاق.
وكذا طلبهم للاستغفار أيضا، ليس بصادر عن حقيقة، لأنه بغير توبة منهم. ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف. وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به، ما لم يكن مترجما عن الاعتقاد الحق.
قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا أي لا أحد يمنعه تعالى من ذلك، لأنه لا يغالبه غالب. إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم، ولذا هددهم بقوله سبحانه بل كان الله بما تعملون خبيرا أي فيجازيكم عليه.
لطيفة:
قال الناصر: لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف. وكان الأصل- والله أعلم-: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا. لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر. وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا، كقوله: فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم [المائدة: 17] ، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [المائدة: 41] ، فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه [الأحقاف: 8] . ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث «1» : إني لا أملك لكم شيئا-
يخاطب عشيرته- وأمثاله كثيرة. وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه، وليس كذلك حرمان المنفعة، فإنه ضرر عائد عليه، لا له. فإذا ظهر ذلك، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير
(1)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 350. []

وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة. وخص عبارة دفع الضر، لأنه هو المتوقع لهؤلاء، إذ الآية في سياق التهديد، أو الوعيد الشديد. وهي نظير قوله: قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة [الأحزاب: 17] ، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : الآيات 12 الى 13]
بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا (13)
بل ظننتم أن لن ينقلب أي اعتقدتم أنه لن يرجع الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا أي بل تستأصلهم قريش. وزين ذلك في قلوبكم أي حسن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف. وظننتم ظن السوء وهو عدم نصر الرسول، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا. وكنتم قوما بورا هالكين، مستوجبين لسخط الله، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم.
ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا أي: من النار تسعتر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 14]
ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14)
ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما قال ابن جرير: هذا من الله جل ثناؤه حث لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على التوبة والمراجعة إلى أمر الله، في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم:
بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يغفر للتائبين، لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 15]
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15)
سيقول المخلفون أي بعذر الاشتغال بأموالهم وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم إذا انطلقتم أي قصدتم السير إلى مغانم أي أماكنها. قال ابن جرير: وذلك ما كان وعد الله أهل الحديبية من غنائم خيبر ذرونا أي اتركونا في الانطلاق إليها نتبعكم أي نشهد معكم قتال أهلها يريدون أي بعد ظهور كذبهم في الاعتذار، وطلب الاستغفار أن يبدلوا كلام الله
قال ابن جرير: أي وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة، إذ انصرفوا عنها على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا.
وقال آخرون: بل عنى بقوله: يريدون أن يبدلوا كلام الله إرادتهم الخروج مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة. وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا [التوبة: 83] ، والأكثرون على الأول. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها وغنم أموالا كثيرة، فخصها بهم.
قال الشراح: وكان ذلك بوحي. ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة أيضا. وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى: فاستأذنوك للخروج ...
[التوبة: 83] الآية. فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية، وقد نزل بعدها بكثير؟ - والله أعلم-.
قل لن تتبعونا أي إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم. وهو نفي في معنى النهي.
قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي، وهو أبلغ.
كذلكم قال الله من قبل قال ابن جرير: أي من قبل مرجعنا إليكم. إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر، لأن غنيمتها لغيركم فسيقولون بل تحسدوننا أي أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم. قال الشهاب: وهو
إضراب عن كونه بحكم الله. أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا.
بل كانوا لا يفقهون أي عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين إلا قليلا أي فهما قليلا، وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا [الروم: 7] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 16]
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16)
قل للمخلفين من الأعراب أي عن المسير معك ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد أي يفوق قتال من أقاتلهم، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه، بل تقاتلونهم أو يسلمون أي يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال. وقرئ شاذا أو يسلموا بمعنى إلا أن يسلموا، أو حتى يسلموا. فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا يعني الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة وإن تتولوا كما توليتم من قبل أي عن الحديبية يعذبكم عذابا أليما أي لتضاعف جرمكم.
ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار، وإن حدثت بعد التخلف الأول، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 17]
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17)
ليس على الأعمى حرج قال المهايمي: وإن أمكنة القتال بإحساس صوت مشي العدو، ومشي فرسه، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه. ولا على الأعرج حرج أي وإن أمكنه القتال قاعدا، لكن لا يمكنه الكر والفر، ولا يقوى قوة القائم ولا على المريض حرج أي فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام، فلا قوة له في دفع العدو، فضلا عن الغلبة عليه.
ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء، وإن فاتهم الجهاد، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله، بقوله سبحانه: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار
ومن يتول
أي عن إطاعتهما، وإن كان أعمى أو أعرج أو مريضا يعذبه عذابا أليما أي بالمذلة دنيا، والنار أخرى.
تنبيه:
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم (أولو بأس شديد) - على أقوال:
أحدها- أنهم هوازن.
الثاني- ثقيف، وكلاهما غزاه النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث- بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه.
الرابع- أهل فارس والروم، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه.
ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة. ولو عد من الأوجه كفار مكة، لم يبعد، بل عندي هو الأقرب، لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو يسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعا أو كرها- والله أعلم-.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #554  
قديم 27-02-2025, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الفتح
المجلد الخامس عشر
صـ 5416 الى صـ 5425
الحلقة (554)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 18]
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18)
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفروا، ولا يولوهم الدبر، تحت شجرة هناك.
وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد. ففي الصحيحين «1» من حديث أبي عوانة عن طارق، عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم، فأنتم أعلم.
(1)
أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1898.

وفيهما أيضا عن سفيان قال: إنهم اختلفوا في موضعها.
وروى ابن جرير عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له (حزن) ، وكان ممن بايع تحت الشجرة، فأتيناها من قابل، فعميت علينا.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول:
ها هنا! فلما كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلف، فذهبت الشجرة، وكانت سمرة، إما ذهب بها سيل، وإما شيء سوى ذلك. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة، فيصلون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت!.
ولا ينافي ما تقدم، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها، أو توهموها، فاتخذوها مسجدا، ومكانا مقدسا، فقطعها عمر حالتئذ، صونا لعقيدتهم من الشرك، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها، وإجلال مثال أصحابها.
وقال في (الفتح) أيضا في شرح حديث ابن عمر، وقوله: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله، ما مثاله:
وقد وافق المسيب بن حزن، والد سعيد، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة.
والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان، لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله (كانت رحمة من الله) أي كان خفاؤها عليهم، بعد ذلك، رحمة من الله تعالى. انتهى.
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، سميت لهذه الآية، وتقدمت قصتها مفصلة.
فعلم ما في قلوبهم أي من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد فأنزل السكينة عليهم أي في الصبر والطمأنينة والوقار. وأثابهم فتحا قريبا قال ابن جرير: أي وعوضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة، بقتالهم أهلها، فتحا قريبا، وذلك- فيما قيل- فتح خيبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 19]
ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19)
ومغانم كثيرة يأخذونها وهي مغانم خيبر، وكانت أرضا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة. وكان الله عزيزا حكيما أي ذا عزة في انتقامه من أعدائه، وحكمة في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 20]
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما (20)
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد. فعجل لكم هذه يعني غنائم خيبر. وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت، إلى قيام الساعة. وقيل: المعجلة هي صلح الحديبية. والصواب هو الأول، كما قاله ابن جرير، لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها، من فتح خيبر وغنائمها. وكف أيدي الناس عنكم أي أيدي أهل خيبر، فانتصرتم عليهم، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية. واختار ابن جرير الأول.
قال: لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم ... الآية. أي والتأسيس خير من التأكيد. ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لا سيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها- والله أعلم-.
ولتكون آية للمؤمنين أي ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم، والفتح لهم. ويهديكم صراطا مستقيما أي ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 21]
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا (21)
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها معطوف على هذه أي فعجل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، لأنه قال: لم
تقدروا عليها
وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها. وقال الحسن: هي فارس والروم.
قال القرطبي: وكونها معجلة، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية.
وعن قتادة: هي مكة. قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله قتادة، أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها. ومعقول أنه لا يقال لقوم، لم يقدروا على هذه المدينة، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم. فأما وهم لم يروموها فتتعذر عليهم، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه، خيبر لحرب، ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية، علم أن المعنى بقوله وأخرى لم تقدروا عليها غيرها، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت، فكانت مكة وأهلها كذلك. وأخبر الله تعالى نبيه والمؤمنين، أنه أحاط بها وبأهلها. وأنه فاتحها عليهم. انتهى.
وقال القرطبي: معنى قد أحاط الله بها أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت. فأنتم، وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: أحاط الله بها علم أنها ستكون لكم، كما قال وأن الله قد أحاط بكل شيء علما. وقيل: حفظها الله عليكم، ليكون فتحها لكم. انتهى.
وقد جوز في أخرى أن تكون معطوفة على مغانم المنصوب ب وعدكم وأن تكون مرفوعة بالابتداء ولم تقدروا عليها صفتها وقد أحاط الله بها خبر. وأوجه أخر.
وكان الله على كل شيء قديرا أي: لا يبعد عليه إذا شاءه.
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر والنصر المستمر، لصدق إيمانهم إخلاصهم في ثباتهم، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 23]
ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23)
ولو قاتلكم أي بعد هذا الفتح والنصر المعجل الذين كفروا لولوا الأدبار
أي ولوكم أعجازهم في الحرب، فعل المنهزم من قرنه في الحرب. ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا أي من يواليهم على حربكم، وينصرهم عليكم.
سنة الله التي قد خلت من قبل أي مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها.
ولن تجد لسنة الله تبديلا أي تغييرا.
قال ابن جرير: بل ذلك دائم. للإحسان جزاؤه من الإحسان، وللإساءة والكفر العقاب والنكال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 24]
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24)
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم أي قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة. إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف، ما كان يوم الفتح. ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أخذا، فأخذوا أخذا. فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: وهو الذي كف أيديهم عنكم ... الآية.
وروى ابن جرير عن مجاهد قال: أقبل معتمرا نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم. فذلك الإظفار ببطن مكة.
قال قتادة: بطن مكة، الحديبية.
وكان الله بما تعملون بصيرا أي فيجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 25]
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25)
هم الذين كفروا أي هؤلاء المشركون من قريش، هم الذي جحدوا توحيد الله وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي أي وصدوا الهدي أيضا، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم معكوفا أي محبوسا. قال السمين: يقال: عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها. وأنكر الفارسي تعدية (عكف) بنفسه، وأثبتها ابن سيده والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن، لبناء اسم المفعول منه. انتهى.
وقوله تعالى: أن يبلغ محله قال ابن جرير: أي محل نحره. وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حل نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك، سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي، الحرم.
ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات أي موجودون بمكة مع الكفار لم تعلموهم أي بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم. أن تطؤهم أي تقتلوهم مع الكفار، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح. قال السمين: أن تطؤهم يجوز أن يكون بدلا من (رجال ونساء) غلب الذكور، وأن يكون بدلا من مفعول تعلموهم. فالتقدير على الأول (ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين) . وتقدير الثاني (لم تعلموا وطأهم) والخبر محذوف تقديره (ولولا رجال ونساء موجودون، أو بالحضرة) .
انتهى.
فتصيبكم منهم معرة أي إثم وغرامة. من (عره) إذا عراه ما يكرهه. وقوله بغير علم حال من الضمير المرفوع في تطؤهم أي تطئوهم غير عالمين بهم.
وفي جواب لولا أقوال:
أحدها- أنه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم
مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم.
والثاني- أنه مذكور، وهو لعذبنا وجواب (لو) هو المحذوف. فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث- أن قوله لعذبنا جوابهما معا، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك.
وذكر الزمخشري قريبا من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير ل لولا رجال مؤمنون لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون لعذبنا هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني- أفاده السمين-.
وأجاب الناصر بقوله: وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا، وإن كانت (لولا) تدل على امتناع لوجود، و (لو) تدل على امتناع لامتناع. وبين هذين تناف ظاهر، لأن (لولا) هاهنا دخل على وجود، و (لو) دخلت على قوله تزيلوا وهو راجع إلى عدم وجودهم. وامتناع عدم الوجود وجود. فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. قال:
وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني، ويسميه تطرية. وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام، وبعد عهد أوله، واحتيج إلى رد الآخر على الأول، فمرة يطري بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤداه وقد تقدمت لهما أمثال.
تنبيه:
فسر ابن إسحاق (المعرة) بالدية، ذهابا إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك.
وهو مذهب الشافعي. وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك، ومنهم ابن جرير حيث قال: (المعرة) هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين. قال: وإنما اخترت هذا القول، دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب- إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتله علم إيمانه- الكفارة دون الدية فقال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة. انتهى.
ليدخل الله في رحمته من يشاء متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف، كأنه قيل عقيبه: لكن كفها عنهم، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وقد جوز أن يكون من يشاء عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر ابن جرير، قال: أي ليدخل الله في
الإسلام من أهل مكة من يشاء، قبل أن تدخلوها. وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل وترتيب التعذيب عليه، يأباه.
لو تزيلوا أي لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما أي بالقتل أو الأسر أو نوع آخر من العذاب الآجل.
تنبيه:
قال إلكيا الهراسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار، إذا كان فيها أسرى من المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار إذا تترسوا بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 26]
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما (26)
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية قال ابن جرير: وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وأن يكتب فيه محمد رسول الله وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك. والعامل في الظرف إما (لعذبنا) أو (صدوكم) أو (اذكر) مقدرا، فيكون مفعولا به. و (الحمية) الأنفة، وهي الاستكبار والاستنكاف، مصدر من (حمى من كذا) حمية.
وقوله تعالى فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين عطف على منوي.
أي: فهم المسلمون أن يأبوا ذلك، ويقاتلوا عليه، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. يعني: الوقار والتثبت، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم.
وألزمهم كلمة التقوى أي اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها.
وكانوا أحق بها قال أبو السعود: أي متصفين بمزيد استحقاق لها. على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا. وقيل: أحق بها من الكفار. وأهلها أي المستأهل لها. وكان الله بكل شيء عليما. قال أبو السعود: أي فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #555  
قديم 27-02-2025, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الفتح
المجلد الخامس عشر
صـ 5426 الى صـ 5435
الحلقة (555)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 27]
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27)
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون.
قال ابن جرير: أي لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصرا بعضهم رأسه، ومحلقا بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وعن ابن زيد قال: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله لقد صدق الله رسوله ...
الآية، إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. والرؤيا منصوب بنزع الخافض، أي صدقه في رؤياه. أي حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرماني، وعبارته: (كذب) يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا (صدق) كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.
وقوله بالحق حال من الرؤيا. أي متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
وقوله لتدخلن جواب قسم محذوف. أي: والله! لتدخلن.
وقوله إن شاء الله تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد. أو للإشعار بأن
بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
وقوله محلقين حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: ملحقا بعضكم، ومقصرا آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم.
وثبت في الصحيح «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله المحلقين! قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين؟ قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين! قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين!
وقوله تعالى لا تخافون حال مؤكدة لقوله آمنين أو مؤسسة، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عمرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه. بعضها عنوة، وبعضها صلحا، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه. ثم رجع المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، ساق معه الهدي. قيل: كان ستين بدنة. فلبى، وسار وأصحابه يلبون، قريبا من مر الظهران، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه، من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها، كما شارطهم
(1)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 318.

عليه. فلما كان في أثناء الطريق، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، القسي والرماح! فقال صلى الله عليه وسلم: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج؟ فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء
.
وخرجت رؤوس الكفار من مكة، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنه، غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:

باسم الذي لا دين إلا دينه ... باسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله ... بأن خير القتل في سبيله
يا رب! إني مؤمن بقيله
وروى الإمام أحمد «1» من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف؟ فقال أصحابه: لو انتحرنا، من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم، فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة، فاستلم الركن، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف، فكانت سنة.
قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع.
(1)
أخرجه في المسند 1/ 305، والحديث رقم 2783.

وروى أحمد «1» من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها سوءا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ليرى المشركون جلدهم. قال، فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين، حيث لا يراهم المشركون.
وفي رواية: ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب، فليراجعها من أحب الزيادة.
وقوله تعالى فعلم ما لم تعلموا أي من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها، عامكم ذلك.
قال ابن جرير: وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك. وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه. فجعل من دون ذلك أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتحا قريبا يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش، أو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. وإلى الأول ذهب الزهري، قال: يعني صلح الحديبية. وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام، يعقل شيئا، إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. ووافقه مجاهد وإلى الثاني ذهب ابن زيد.
قال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 28]
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28)
هو الذي أرسل رسوله بالهدى أي البيان الواضح ودين الحق أي الإسلام.
(1)
أخرجه في المسند 1/ 395، والحديث رقم 2686

وقال المهايمي: بالهدى أي الدلائل القطعية ودين الحق أي الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة.
وقال ابن كثير: أي بالعلم النافع، والعمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل. فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق، وإنشاءاتها عدل. ليظهره أي ليعليه على الدين كله قال ابن جرير: أي ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه. وذلك حين ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها، غير دين الله الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها. انتهى.
وقال ابن تيمية: قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين، كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا، وقد امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله، كما زال ملك اليهود، وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض وأوسطها. انتهى.
وكفى بالله شهيدا أي على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح أو المغانم كائن. قال الحسن: شهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله.
قال ابن جرير: وهذا إعلام من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن، بانصرافهم عن مكة قبل دخولها، وقبل طوافهم بالبيت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 29]
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)
محمد رسول الله والذين معه أي أصحابه أشداء على الكفار رحماء بينهم أي لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم، الصادين عن سبيل الله، وعندهم
تراحم فيها بينهم، كقوله تعالى: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [المائدة: 54] .
لطائف:
الأولى- جوز في محمد رسول الله أن يكونا مبتدأ وخبرا، وأن يكون رسول الله صفة، أو عطف بيان، أو بدلا، والذين معه عطف عليه. وخبرهما أشداء على الكفار.
الثانية- قال الشهاب: قوله تعالى رحماء بينهم تكميل، لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال، وعلى كل أحد. فلما قيل رحماء بينهم اندفع ذلك التوهم، فهو تكميل واحتراس، كما في الآية المتقدمة، فإنه لما قيل أذلة على المؤمنين ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، وأنهم موصوفون بالذل دائما، وعند كل أحد، فدفع بقوله أعزة على الكافرين فهو كقوله:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... على أنه عند العدو مهيب
الثالثة- قال المهايمي: تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية، إذ هم أشداء على الكفار، لرسوخهم في صحة الاعتقاد، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده، رحماء بينهم، لعدم ميلهم إلى الشهوات. هذا باعتبار الأخلاق، وأما باعتبار الأعمال، فأنت تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا قال ابن كثير: وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال. ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل، وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم! وهو أكبر من الأولى، كما قال جل وعلا ورضوان من الله أكبر [التوبة: 72] انتهى.
سيماهم في وجوههم مبتدأ وخبر، أي علامتهم كائنة فيها. وقوله تعالى من أثر السجود بيان للسيما، كأنه قيل: سيماهم التي هي أثر السجود. أو حال من المستكن في (وجوههم) .
قال الشهاب: وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره: هي من أثر السجود.
انتهى.
وهل الوجوه مجاز عن الذوات، أو حقيقة؟ في معناها تأويلان للسلف، فعن ابن عباس سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد، يعني الخشوع والتواضع. وقال منصور لمجاهد: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال مجاهد، ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال بعض السلف:
من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار. وقد رفعه ابن ماجة. والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة لنورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وروى الطبراني مرفوعا: ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر- وإسناده واه، لأن فيه العرزمي وهو متروك-.
وروى الإمام أحمد «1» عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان.
وأخرج أيضا «2» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الهدى الصالح، والسمت الصالح والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة. ورواه أبو داود أيضا.
والتأويل الثاني في الآية، أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الطهور. روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة. وقد كان ذلك في العهد النبوي، حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه.
وكل من المعنيين من (سيماهم) رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى ذلك أي الوصف مثلهم في التوراة أي صفتهم العجيبة فيها ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه أي فراخه أو سنبله أو نباته فآزره أي قواه فاستغلظ أي فغلظ الزرع واشتد. فالسين للمبالغة في الغلظ، أو صار من الدقة إلى الغلظ فاستوى على سوقه أي استقام على قصبه. و (والسوق) جمع ساق يعجب الزراع أي يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه، وحسن نباته، وبلوغه وانتهائه، الذين زرعوه. وقوله تعالى ليغيظ بهم الكفار
(1)
أخرجه في المسند 3/ 28.

(2)
أخرجه في المسند 1/ 296، والحديث رقم 2698.

تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم، كأنه قيل: إنما قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار.
لطائف:
الأولى: يجوز في قوله تعالى ومثلهم في الإنجيل كزرع وجهان:
أحدهما- أنه مبتدأ، وخبره كزرع فيوقف على قوله في التوراة فهما مثلان، وإليه ذهب ابن عباس.
والثاني- أنه معطوف على مثلهم الأول، فيكون مثلا واحدا في الكتابين، ويوقف حينئذ على في الإنجيل، وإليه نحا مجاهد والفراء، ويكون قوله كزرع في هذا فيه أوجه:
أحدهما- أنه خبر مبتدأ مضمر. أي مثلهم كزرع، فسر به المثل المذكور في الإنجيل.
الثاني- أنه حال من الضمير في مثلهم أي مماثلين زرعا هذه صفته.
الثالث- أنه نعت مصدر محذوف، أي تمثيلا كزرع- ذكره أبو البقاء-.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله كزرع كقوله وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء [الحجر: 66] ، - أفاده السمين-.
الثانية- قال السمين: الضمير المستتر في فآزره للزرع، والبارز للشطء.
وعكس النسفي، فجعل المستتر للشطء، والبارز للزرع. أي فقوي الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه. قال الجمل: وما صنعه النسفي أنسب، فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه، فهي تعينه وتقويه.
الثالثة- قال السمين: يعجب الزراع حال. أي حال كونه معجبا، وهنا تم المثل.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #556  
قديم 27-02-2025, 10:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحجرات
المجلد الخامس عشر
صـ 5436 الى صـ 5445
الحلقة (556)






الرابعة- قال الزمخشري: هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقيه في الزيادة، إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده، ثم قواه الله بمن آمن معه، كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع.
وهذا ما قاله البغوي من أن (الزرع) محمد، و (الشطء) أصحابه والمؤمنون، فجعلا التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
وأما القاضي فجعله مثالا للصحابة فقط. وعبارته: وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة، قلوا في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم، بحيث أعجب الناس.
قال الشهاب: ولكل وجهة.
الخامسة- قال ابن كثير: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه، في رواية عنه، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم. قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة، فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك- انتهى كلام ابن كثير-.
ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النووي في شرح (مقدمة مسلم) ، وقبله الإمام الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة) . وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتكفير والزندقة. وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك، كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ. على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان، مأجور غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل (جمع الجوامع) .
نعم، إن التطرف والغلو في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين. وإذا اشتد البياض صار برصا.
وعد الله الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات منهم مغفرة أي عفوا عما مضى من ذنوبهم، وسيء أعمالهم بحسنها. وأجرا عظيما أي ثوابا جزيلا، وهو الجنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
قال المهايمي: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام. وهو من أعظم مقاصد القرآن.
وهي مدنية، وآيها ثمان عشرة.
وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وسلم، من التوقير والتبجيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1)
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال ابن جرير: أي يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله، ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله، وأمر رسوله.
محكي عن العرب: فلان يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه.
انتهى.
وتقدموا إما متعد حذف مفعوله، لأنه أريد به العموم، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع. أو هو لازم، فإن (قدم) يرد بمعنى (تقدم) كبين، فإنه متعد، ويكون لازما بمعنى تبين.
وفي هذه الجملة تجوزان:
أحدهما- في (بين اليدين) ، فإن حقيقته ما بين العضوين، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما. فهو من المجاز المرسل، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء، ومتابعة لمن يلزم متابعته، تصويرا لهجنته وشناعته، بصورة المحسوس، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره، فنقلت العبارة الأولى، بما فيها من المجاز، إلى ما ذكر، على ما عرف في أمثاله- هذا محصل ما في (الكشاف) و (شروحه) .
قال ابن كثير: معنى الآية: لا تسرعوا في الأشياء قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب
حديث معاذ رضي الله عنه. قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال رضي الله عنه: أجتهد
رأيي! فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. وقد رواه أحمد «1» وأبو داود «2» والترمذي «3» وابن ماجة.
والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله. انتهى.
وقد جوز أن يكون المراد (بين يدي رسول الله) وذكر (الله) لبيان قوة اختصاصه به تعالى، ومنزلته منه، تمهيدا وتوطئة لما بعده. وقد أيد هذا، بأن مساق الكلام لإجلاله صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
قال ابن جرير: بضم التاء من قوله لا تقدموا قرأ قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها. وقد حكى عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا. فعلى هذه اللغة لو كان قيل (لا تقدموا) بفتح التاء، كان جائزا. انتهى. وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه.
واتقوا الله أي في التقديم أو مخالفة الحكم. والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم، بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق العار بك. فتنهاه أولا عن عين ما قارفه، ثم تعم وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه، لم يرتكب تلك الغفلة، وكل ما يضرب في طريقها، ويتعلق بسببها- أشار له الزمخشري-.
إن الله سميع عليم أي فحقيق أن يتقى ويراقب.
تنبيه:
في (الإكليل) : قال إلكيا الهراسي: قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي، دونه.
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء. وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم. ويحتج به في تقديم النص على القياس. انتهى.
(1)
أخرجه في المسند 5/ 230.

(2)
أخرجه في: الأقضية، 11- باب اجتهاد الرأي في القضاء حديث رقم 3592.

(3)
أخرجه في: الأحكام، 3- باب حدثنا هناد، حديث رقم 1327.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 2]
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2)
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي أي: إذا نطق ونطقتم، فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته، ليكون عاليا لكلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أي بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين، القريب من الهمس، الذي يضاد الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه، أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد! يا محمد! بل يا نبي الله! يا رسول الله! ونظر فيه شراح (الكشاف) بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه، إذ الظاهر أن يقال: لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض، كما مر في قوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [النور: 63] . انتهى.
ولك أن تقول: إنما أفرغ هذا المعنى المروي عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جريا على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل، وألطفها في ذلك، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب وقد قال: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به أن تحبط أعمالكم أي مخافة أن تحبط أعمالكم، برفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم وأنتم لا تشعرون أي لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها.
تنبيه:
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها. ولما كان عند أهل السنة، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعا.
وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق. ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام. والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق.
ورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام، سواء وجد هذا المعنى أو لا، حماية للذريعة، وحسما للمادة. ثم لما كان هذا المنهي عنه- وهو رفع الصوت- منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا، وخوف أن يقع فيما هو محبط للعمل، وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه. وإن كان، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان.
وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة، لم يكن لقوله وأنتم لا تشعرون موقع. إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا، فيكون كفرا محبطا قطعا، وبين أن يكون غير مؤذ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعا. فعلى كلا حاليه، الإحباط به محقق، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور، مع أن الشعور ثابت مطلقا- والله أعلم-.
ثم قال: وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين، كلتاهما صحيحة:
إحداهما- أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه. فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام.
المقدمة الأخرى- أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر. وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا- يعني المالكية- وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر، والله الموفق. انتهى.
ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل، وامتنع القياس عليه، لأنه مقام توعد وخسران، ولا مجال للرأي في مثل ذلك. هذا ما أعتقده وأراه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 3]
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3)
إن الذين يغضون أصواتهم أي يبالغون في خفضها عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى قال ابن جرير: أي اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني
لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها لهم مغفرة وأجر عظيم أي ثواب جزيل، وهو الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 4]
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4)
إن الذين ينادونك أي يدعونك من وراء أي خارج الحجرات أي عند كونك فيها، استعجالا لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال أكثرهم لا يعقلون إذ لا يفعله محتشم، ولا يفعل لمحتشم، فلا يراعون حرمة أنفسهم، ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر، لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال، موافقة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 5]
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5)
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم أي لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه. وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة، مع اتصافهم بالصبر، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم والله غفور رحيم أي لمن تاب من معصية الله، بندائك كذلك، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد.
روى الإمام أحمد «1» عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! يا محمد! (وفي رواية: يا رسول الله!) فلم يجبه. فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل.
وروى ابن إسحاق، في ذكر سنة تسع، وهي المسماة سنة الوفود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت، ضربت إليه وفود
(1)
أخرجه في المسند 3/ 488.

العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم. فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم. ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولا ثم قال: وفيهم نزل من القرآن إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون.
الثاني- الحجرات بضمتين، وبفتح الجيم، وبسكونها. وقرئ بهن جميعا: جمع (حجرة) . وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة.
قال الزمخشري: والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات، متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة، فنادوه من ورائها. وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها. ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمكان حرمته. والفعل- وإن كان مسندا إلى جميعهم- فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعا.
الثالث- قال الزمخشري: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله.
منها- مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به، بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه.
ومنها- لفظ الحجرات وإيقاعها، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها- المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها- التعريف باللام دون الإضافة.
ومنها- أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم، وهلم جرا ... من أول السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله، متقدمة على الأمور كلها، من غير حصر ولا تقييد. ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط للثاني، ووطاء لذكره. ثم
ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابا على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع- قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم، كما كان يكره في حياته، لأنه محترم حيا، وفي قبره صلى الله عليه وسلم. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال:
لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا. انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #557  
قديم 27-02-2025, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحجرات
المجلد الخامس عشر
صـ 5446 الى صـ 5455
الحلقة (557)







الخامس- روى البخاري «1» عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنزل في ذلك يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.. حتى انقضت الآية.
وفي رواية: فأنزل الله في ذلك يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ...
الآية.
قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد انفرد بهاتين الروايتين البخاري دون مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك! قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة
(1)
أخرجه في: التفسير، 49- سورة الحجرات، 2- باب إن الذين ينادونك من وراء الحجرات، حديث 1942.

الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة لا تقدموا ولكن لما اتصل بها قوله لا ترفعوا تمسك عمر منها بخفض صوته. وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذين يختص بهم، وقوله: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات. انتهى.
وتقدم لنا مرارا الجواب عن أمثاله، بأن قولهم: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، لا أنه سبب لنزولها.
قال الإمام ابن تيمية: قولهم نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب. كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى.
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول، فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله. ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب. وبعضها لآخر، في قصة واحدة. وبالله التوفيق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 6]
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6)
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة أي قوما براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم فتصبحوا على ما فعلتم نادمين أي فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق. ومن أحسنها ما
رواه الإمام أحمد «1» في مسنده من رواية مالك
(1)
أخرجه في المسند 4/ 279.

عن ابن المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت:
يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وأرسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة. فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله! قال: لا، والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟! قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما رأيته بتة، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. قال: فنزلت الحجرات يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ... إلى قوله: حكيم.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك (زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه. فرجع إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التثبت من الله، والعجلة من الشيطان»
.
وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل، وغيرهم في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد بن عقبة- والله أعلم- انتهى.

قال ابن قتيبة في (المعارف) : الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية ابن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، أروى بنت كريز. أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة! وكان كاذبا.
فأنزل الله هذه الآية. وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر، وهو سكران، أربعا، وقال: أزيدكم؟! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحده. ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل عليا ومعاوية. ومات بناحية الرقة.
الثاني- في (الإكليل) : في الآية رد خبر الفاسق، واشتراط العدالة في المخبر، راويا كان، أو شاهدا، أو مفتيا. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل. قال ابن كثير: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.
الثالث- في قوله تعالى فتصبحوا على ما فعلتم نادمين فائدتان:
إحداهما- تقرير التحذير وتأكيده. ووجهه هو أنه تعالى لما قال أن تصيبوا قوما بجهالة قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول:
هب أني أصبت قوما، فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم. ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
والثانية- مدح المؤمنين. أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها- أفاده الرازي-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 7]
واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7)
واعلموا أن فيكم رسول الله قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي
الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره.
لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال الطبري: أي لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له، فيطيعكم، لنالكم عنت- يعني الشدة والمشقة- في كثير من الأمور، بطاعته إياكم، لو أطاعكم، لأنه كان يخطئ في أفعاله، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق، أنهم قد ارتدوا ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم، كان قد قتل وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت.
والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد.
تنبيه:
(أن) بما في حيزها سادة مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال، وهو قوله: لو يطيعكم.. إلخ، فإنه حال من الضمير المجرور في فيكم المستتر فيه. والمعنى: أنه فيكم كائنا على حالة يجب تغييرها، أو كائنين على حالة كذلك، وهي أنكم تودون أن يتبعكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل والهلاك. وفيه إيذان بأن بعضهم زين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في بني المصطلق، وأنه لم يطع رأيهم هذا. ويجوز أن يكون لو يطيعكم مستأنفا. إلا أن الزمخشري منع هذا الاحتمال، قال: لأدائه إلى تنافر النظم، لأنه لو اعتبر لو يطيعكم ... إلخ كلاما برأسه، لم يأخذ الكلام بحجز بعض، لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: واعلموا أن فيكم رسول الله إذا قطع عما بعده. وأجيب بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا آراءهم، حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، فوضح جواز الاستئناف، والوقف على رسول الله.
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم أي فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله وتأتموا به، فيقيكم الله بذلك من العنت فيما لو استتبعتم رأي رسول الله لرأيكم وكره إليكم الكفر أي بالله والفسوق يعني الكذب والعصيان أي مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به.
أولئك أي الموصوفون بمحبة الإيمان، وتزينه في قلوبهم، كراهتهم المعاصي هم الراشدون أي السالكون طريق الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 8]
فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8)
فضلا من الله ونعمة أي إحسانا منه، ونعمة أنعمها عليكم. قال القاشاني:
كان فضلا بعنايته بهم في الأزل، المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد. ونعمة بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية، وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم، حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية. وهو تعليل ل (حبب) و (كره) وما بينهما اعتراض، أو نصب بفعل مضمر، أي جرى ذلك فضلا، أو يبتغون فضلا.
والله عليم حكيم أي ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه، وتصريفهم فيما شاء من قضائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 9]
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9)
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا أي تقاتلوا فأصلحوا بينهما قال ابن جرير: أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
فإن بغت إحداهما على الأخرى أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله، له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما، فقاتلوا التي تبغي أي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تفيء إلى أمر الله أي ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه فإن فاءت أي رجعت الباغية، بعد قتالكم إياهم، إلى الرضا بحكم الله في كتابه فأصلحوا بينهما بالعدل أي بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه وأقسطوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون. إن الله يحب المقسطين أي فيجازيهم أحسن الجزاء.
تنبيهات:
الأول- قال القاشاني: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية. والإصلاح إنما.
يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة، التي هي ظل الوحدة. فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما، على تقدير بغيهما. والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما، حتى ترجع. لكون الباغية مضادة للحق، دافعة له.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي، لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. روي ذلك من طريق عديدة، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقيا.
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة، والقتال بمعنى الدفع مجازا.
قال- فيما رواه الطبري عنه-: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله وإن طائفتان إلى قوله فقاتلوا التي تبغي ... الآية. يقول: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. انتهى. ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما. وقد قال اللغويون: ليس كل قتال قتلا. وقد يفضي الخصام إلى القتل، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم، لتكون الفائدة أشمل- والله أعلم-.
الثاني- في (الإكليل) : في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل، لقوله حتى تفيء. انتهى.
وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم. وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم. ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال. ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيدا، فلا يغسل ولا يصلى عليه، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار.
وإن أظهر قوم رأي الخوارج. مثل تكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، ولم يجتمعوا لحرب، لم يتعرض لهم. وإن جنوا جناية وأتوا حدا، أقامه عليهم.
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية، أو طلب رئاسة، فهما ظالمتان. لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى.
هذه شذرة مما جاء في (الإقناع) و (شرحه) وتفصيله ثمة.
الثالث- قال في (شرح الإقناع) : في الآية فوائد: منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان. وأنه أوجب قتالهم. وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم.
وإجازة كل من منع حقا عليه. والأحاديث بذلك مشهورة: منها ما روى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله (متفق عليه) «1» . وأجمع الصحابة على قتالهم، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وعليا قاتل أهل الجمل، وأهل صفين. انتهى.
وتدل الآية أيضا على وجوب معاونة من بغى عليه، لقوله فقاتلوا، وعلى وجوب تقديم النصح، لقوله فأصلحوا بينهما، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر.
الرابع- وجه الجمع في اقتتلوا، مع أنه قد يقال: مقتضى الظاهر (اقتتلتا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. والنكتة في اعتبار المعنى أولا. واللفظ ثانيا عكس المشهور في الاستعمال، ما قيل إنهم أولا في حال القتال مختلطون مجتمعون، فلذا جمع أولا ضميرهم، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير ثانيا وسر قرن الإصلاح الثاني بالعدل، دون الأول، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإبهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم.
الخامس- (أقسط) الرباعي همزته للسلب. أي أزيلوا الجور، واعدلوا.
بخلاف (قسط) الثلاثي، فمعناه جار. قال تعالى:
(1)

أخرجه البخاري في: الفتن، 2- باب قول النبي. صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أمورا تنكرونها» حديث رقم 2547.
وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث 41 و 42.
أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا
[الجن: 15] ، وهذا هو المشهور- خلافا للزجاج- في جعلهما سواء- أفاده الكرخي-. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 10]
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)
إنما المؤمنون إخوة استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، فإن من لوازم الإخوة أن يصطلحوا.
قال الشهاب: وتسمية المشاركة في الإيمان أخوة تشبيه بليغ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد، لأن كلا منهما أصل للبقاء، إذ التوالد منشأ الحياة، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان.
فأصلحوا بين أخويكم أي إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله، وحكم رسوله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #558  
قديم 27-02-2025, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحجرات
المجلد الخامس عشر
صـ 5456 الى صـ 5465
الحلقة (558)







قال القاشاني: بين تعالى أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل، يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين، للمناسبة الأصلية، والقرابة الفطرية، التي تزيد على القرابة الصورية، والنسبة الولادية، بما لا يقاس، لاقضائه المحبة القلبية، لا المحبة النفسانية، المسببة عن التناسب في اللحمة. فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة، وأحد خصالها، إذ لو لم يعدوا عن الفطرة، ولم يتكدروا بغواشي النشأة، لم يتقاتلوا، ولم يتخالفوا. فوجب على أهل الصفاء، بمقتضى الرحمة والرأفة والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية، الإصلاح بينهما، وإعادتهما إلى الصفاء. انتهى.
تنبيه:
وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين، للمبالغة في التقرير والتخصيص. وتخصيص الاثنين بالذكر دون الجمع، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان. فإذا لزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد في شقاق الجمع، أكثر منه في شقاق الاثنين- أفاده القاضي والزمخشري-.
وفي معنى الآية أحاديث كثيرة:
كحديث «1»
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه
(1)
أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، 3- باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث 1202، عن ابن عمر. []

ولا يسلمه) .
وحديث «1»
(والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .
وحديث «2»
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) .
وحديث «3»
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم
-
وكلها في الصحاح-.

واتقوا الله لعلكم ترحمون أي خافوا مخالفة حكمه، والإهمال فيه، ليرحمكم فيفصح عن سالف آثامكم، ويثيبك رضوانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11)
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم أي لا يهزأ رجال من رجال، فيروا أنفسهم خيرا من المسخور منهم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن أي الساخرات.
قال أبو السعود: فإن مناط الخيرية في الفريقين، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبا. بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغني للفقير.
وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة، فيسخر به من أجلها.
قال الطبري: والصواب أن يقال إن الله عم، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض، جميع معاني السخرية. فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
(1)
أخرجه مسلم في: الذكر، حيث رقم 38، عن أبي هريرة.

(2)
أخرجه البخاري في الأدب، 27- باب رحمة الناس والبهائم، حديث 2322، عن النعمان بن بشير.

(3)
أخرجه البخاري في: الصلاة، 88- باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث رقم 319، عن أبي موسى.

وقد عد الغزالي في (الإحياء) السخرية من آفات اللسان، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميما للفائدة، قال رحمه الله.
الآفة الحادية عشرة- السخرية والاستهزاء: وهذا محرم مهما كان مؤذيا، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ... الآية. ومعنى السخرية:
الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء. وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة، وفيه معنى الغيبة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما أحب أني حاكيت إنسانا، ولي كذا وكذا.
وقال ابن عباس في قوله تعالى يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [الكهف: 49] ، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر.
وقال معاذ بن جبل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عير أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله.
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له. وعليه نبه قوله تعالى: عسى أن يكونوا خيرا منهم. أي لا تستحقره استصغارا، فلعله خير منك. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به. فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، كانت السخرية في حقه من جملة المزح. ومنه ما يذم وما يمدح. وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيرا أو ناقصا، لعيب من العيوب، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها. انتهى.
لطيفة:
قال أبو السعود: القوم مختص بالرجال، لأنهم القوام على النساء (والأحسن المهمات) وهو في الأصل إما جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر. أو مصدر
نعت به فشاع في الجمع. وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون، فإما للتغليب، أو لأنهن توابع. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع. والتنكير إما لتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض.
ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يعيب بعضكم على بعض ولا يطعن.
قال الشهاب: ضمير تلمزوا للجمع بتقدير مضاف فيه. وأنفسكم عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين، وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم، كما في قوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم [التوبة: 128] ، وقوله: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: 29] ، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة.
ففي اللفظ الكريم تجوز، وتقدير مضاف. والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين، وهو مغاير لما قبله، وإن كان مخصوصا بالمؤمنين أيضا بحسب المفهوم، لتغاير الطعن والسخرية، فلا يقال إن الأول مغن عنه، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته، وهذا ذكره بما يكره مطلقا. أو هو تعميم بعد التخصيص، كما يعطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. وقيل: إنه من عطف العلة على المعلول، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية، كالإشارة. أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة. انتهى.
وقيل: معنى الآية: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به اللمز، فقد لمز نفسه.
قال الشهاب: ف أنفسكم على ظاهره والتجوز في قوله تلمزوا. فهو مجاز ذكر فيه المسبب، وأريد السبب. والمراد: لا ترتكبوا أمرا تعابون به. وضعف بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله ولا تنابزوا، كما في (الكشف) ، وكونه من التجوز في الإسناد، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب، تكلف ظاهر. وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق، لا يدفع كونه مخالفا للظاهر. وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم، بالطعن على غيركم، كما في الحديث «1» (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه) ، إذ فسر بأنه إذا شتم والدي غيره، شتم الغير والديه أيضا.
ولا تنابزوا بالألقاب أي ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبز بها الملقب فقد
(1)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 146، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد «1» وأبو داود. وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق!، وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق بعد التوبة. والآية- كما قال ابن جرير-: تشمل ذلك كله قال: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.
بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان قال الزمخشري: الاسم هاهنا بمعنى الذكر. من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.
وحقيقته ما سما ذكره، وارتفع بين الناس. ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر، أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: بعد الإيمان ثلاثة أوجه:
أحدها- استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة، الصبوة.
والثاني- أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! يا فاسق! فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز.
والثالث- أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة، الفلاحة بعد التجارة. انتهى.
واختار ابن جرير الثالث، لا ذهابا لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن، كما أنه غير كافر، فهو في منزلة بين المنزلتين بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن التقليب بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان، فإن شعار الجاهلية. وعبارته: يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا، إن فعلتموه، أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق. وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله بئس الاسم الفسوق عليه. ثم ضعف القول الثاني وقال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية،
(1)
أخرجه في المسند 4/ 260.

فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه، أو بالقبيح. انتهى.
ومن لم يتب أي من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه فأولئك هم الظالمون أي الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن أي كونوا على جانب منه. وذلك بأن تظنوا بالناس سوءا، فإن الظان غير محقق. وإبهام (الكثير) لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه، أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن. قال تعالى:
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين [النور: 12] . نعم! من أظهر فسقه، وهتك ستره، فقد أباح عرضه للناس. ومنه ما روي: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له. ولذا قال الزمخشري: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر، كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد من الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد والخيانة به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث.
إن بعض الظن وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر، لا الخير إثم أي مكسب للعقاب، لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه.
قال حجة الإسلام الغزالي في (الإحياء) في بيان تحريم الغيبة بالقلب: اعلم أن سوء الظن حرام، مثل سوء القول. فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدث نفسك، وتسيء الظن بأخيك. قال: ولست
أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس، فهو معفو عنه، بل الشك أيضا معفو عنه. ولكن المنهي عنه أن يظن. والظن عبارة عما تركن إليه النفس، ويميل إليه القلب. فقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم. قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب، لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل. فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته. وما لم تشاهده بعينك، ولم تسمعه بأذنك، ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإن أفسق الفساق. إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة، أو بينة عادلة. انتهى.
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، ذكر سبحانه النهي عنه، إثر سوء الظن لذلك، فقال تعالى: ولا تجسسوا قال ابن جرير: أي لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمونه من سرائره.
يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه، وبحث عنه، كتلمس. قال الشهاب: الجس (بالجيم) كاللمس، فيه معنى الطلب، لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه. واستعمل التفعل للمبالغة فيه.
قال الغزالي: ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله. فيتوصل إلى الاطلاع، وهتك الستر، حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه، كان أسلم لقلبه ودينه.
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة. منها
حديث «1»
أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته» .
وفي الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» .
(1)
أخرجه الترمذي في: البر والصلة، 85- باب ما جاء في تعظيم المؤمن، عن ابن عمر.

(2)
أخرجه البخاري في: النكاح، 45- باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، حديث رقم 2125، عن أبي هريرة.

وروى أبو داود «1» أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل، فقيل له: هذا فلان، تقطر لحيته خمرا! فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به- والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته: الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وروى أبو داود «2» عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» .
فقال أبو الدرداء رضي الله عنه:
كلمة سمعها معاوية من رسول الله، نفعه الله بها.
وروى الإمام أحمد «3» عن دجين، كاتب عقبة، قال: قلت لعقبة: إنا لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم! قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم! قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دجين فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم! فقال له عقبة: ويحك! لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها» !.
وروى أبو داود «4» عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» .
قال الأوزاعي: ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون.
ولا يغتب بعضكم بعضا أي لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب، ما يكره المقول فيه ذلك، أن يقال له في وجهه. يقال: غابه واغتابه، كغاله واغتاله، إذا ذكره بسوء في غيبته. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه؟ أي فلو عرض عليكم، نفرت عنه نفوسكم، وكرهتموه. فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة. وفيه استعارة تمثيلية، مثل اغتياب الإنسان لآخر بأكل لحم الأخ ميتا.
لطائف:
الأولى- قال الزمخشري: أيحب أحدكم إلخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى: منها- الاستفهام الذي معناه التقرير (وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع في كلام مسلم
(1)
أخرجه أبو داود في: الأدب، 37- باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4890.

(2)
أخرجه أبو داود في: الأدب، 37- باب في النهي عن التجسس، حديث 4888.

(3)
أخرجه في المسند 4/ 147.

(4)
أخرجه في: الأدب، 37- باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4889.

عند كل سامع، حقيقة أو ادعاء) ومنها- جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها- إسناد الفعل إلى (أحدكم) والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها- أن لم يقتصر تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا.
ومنها- أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ، حتى جعل ميتا. انتهى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #559  
قديم 27-02-2025, 10:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحجرات
المجلد الخامس عشر
صـ 5466 الى صـ 5475
الحلقة (559)







وقال ابن الأثير في (المثل السائر) في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى أيحب أحدكم إلخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله. فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله، فشديد المناسبة جدا، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم. وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة.
وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، آمران بتركها، والبعد عنها. ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته. ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه. فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة، والشهوة لها، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبها، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها، وجدتها مناسبة لما قصدت له. انتهى.
الثانية- الفاء في قوله تعالى فكرهتموه فصيحة في جواب شرط مقدر.
والمعنى: إن صح ذلك، أو عرض عليكم هذا، فقد كرهتموه، فما ذكر جواب للشرط، وهو ماض فيقدر معه (قد) ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي، كما في قوله تعالى: فقد كذبوكم بما تقولون [الفرقان: 19] ، وضمير فكرهتموه للأكل، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه. والمعنى: فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل. وعبر عنه بالماضي للمبالغة، فإذا أول بما ذكر يكون إنشائيا غير محتاج لتقدير (قد) - أفاده الشهاب-.
الثالثة- قال ابن الفرس: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة
الآدمي لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان. فدل على أنه في التحريم فوقها. ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه (بالإحياء) للغزالي، فإنه جمع فأوعى.
واتقوا الله أي خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي. إن الله تواب رحيم أي يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.
ثم نبه تعالى، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض، على تساويهم في البشرية، كما قال ابن كثير، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى أي من آدم وحواء. أو من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء. أي: من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب.
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا قال ابن جرير: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا. ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم أي أشدكم اتقاء له وخشية بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا، ولا أكثركم عشيرة.
إن الله عليم خبير أي بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم، وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية.
تنبيهات:
الأول- حكى الثعالبي في (فقه اللغة) في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبي عن أبيه: أن الشعب (بفتح الشين) أكبر من القبيلة، ثم القبيلة، ثم العمارة، (بكسر العين) ثم البطن، ثم الفخذ. وعن غيره: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العترة، ثم الأسرة. انتهى.
وقال الشيخ ابن بري: الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال أبو أسامة: هذه الطبقات على ترتيب خلق الإنسان، فالشعب أعظمها، مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق. وزاد بعضهم العشيرة فقال:
أقصد الشعب فهو أكثر حي ... عددا في الحواء ثم القبيلة
ثم يتلوهما العمارة ثم ال ... بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرنا قليله
فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت (الشعوب) لأن القبائل تشعبت منها. و (الشعوب) جمع شعب، بفتح الشين.
قال أبو عبيد البكري في (شرح نوادر أبي علي القالي) : كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح، وفي الجبل بالكسر، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس. نقله الزبيدي في (تاج العروس) .
الثاني- في الآية الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وذم التفاخر بها، وأن التقي غير النسيب، يقدم على النسيب غير التقي، فيقدم الأورع في الإمامة على النسيب غيرهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: سألت مالكا عن نكاح الموالي العربية فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية، فلم يشترط في الكفاءة الحرية- نقله في (الإكليل) .
وقال ابن كثير: استدل بالآية، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين.
الثالث- أفاد قوله تعالى: لتعارفوا حصر حكمة جعلهم شعوبا وقبائل فيه.
أي إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا، فتصلوا الأرحام، وتبينوا الأنساب والتوارث، لا للتفاخر بالآباء والقبائل.
قال الشهاب: الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر، والسكوت في معرض البيان.
وقال القاشاني: معنى قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا كرامة بالنسب، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى. والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر، فإنه من الرذائل. والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى. ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة، كان صاحبها أكرم عند الله، وأجل قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية، التي هي الذنوب، في عرف ظاهر الشرع، أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها. انتهى.
الرابع-
روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري «1» عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم.
قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟
قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» .
وروى مسلم «2» عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وروى الإمام «3» أحمد عن أبي ذر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود، إلا أن تفضله بتقوى الله.
وروى البزار في مسنده عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان» .
وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: «أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر يتقى، هين على الله تعالى. إن الله عز وجل يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى..
الآية» .
(1)
أخرجه في: الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا، حديث رقم 1587.

(2)
أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب. حديث رقم 34. عن أبي هريرة.

(3)
أخرجه في المسند في 5/ 158. []

وبقيت أحاديث أخر ساقها ابن كثير، فانظرها.
وروى الطبري عن عطاء قال: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله وقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا. قال عطاء: نسيت الثالثة.
ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب، والإنكار على مساوئ أخلاقهم، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيهم، ما كانوا فيها هم المقصود أولا وبالذات، ثم غيرهم ثانيا وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان، ثم بيان من المؤمن حقا، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون، فقال سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 14]
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14)
قالت الأعراب أي المحدث عنهم في أول السورة آمنا أي بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، زعما أن التلفظ بمادة الإيمان هو عنوان كل مكرمة وإحسان. قل لم تؤمنوا أي لستم مؤمنين، وإن أخبرتم عنه، لأن الإيمان قول وعمل. ولكن قولوا أسلمنا أي انقدنا ودخلنا في السلم خوف السباء والقتل ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أي لأنه لو حل الإيمان في القلوب لتأثر منه البدن، وظهر عليه مصداقه من الأعمال الصالحة، والبعد من ركوب المناهي، فإن لكل حق حقيقة، ولكل دعوى شاهد. فإن قيل: في قوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم بعد قوله قل لم تؤمنوا شبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة؟ والجواب: إن فائدة قوله لم تؤمنوا تكذيب دعواهم، وقوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قولوا. وما في لما من معنى التوقع، دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد، فلا تكرار. هذا ما أشار له الزمخشري، واختار كون الجملة حالا، لا مستأنفة، إخبارا منه تعالى، فإنه غير مفيد لما ذكر.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : استدل بالآية من لم ير الإيمان والإسلام مترادفين،
بل بينهما عموم وخصوص مطلق، لأن الإسلام الانقياد للعمل ظاهرا، والإيمان تصديق القلب كما قال ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. انتهى.
وهذا الاستدلال في غاية الضعف. لأن ترادفهما شرعا لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللغوي في بعض المواضع. وإبانة ذلك موكولة إلى القرائن، وهي جلية، كما هنا. وإلا فآية إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران: 19] ، أكبر مناد على اتحادهما. ومن اللطائف أن يقال في الإيمان والإسلام ما قالوه في الفقير والمسكين، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. والإيمان والإسلام وأمثالهما ألفاظ شرعية محضة، ولم يطلقها الشرع إلا على القول والعمل، كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في (الفصل) فانظره.
الثاني- قال في (الإكليل) : في الآية رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، وهو ظاهر. وقد استوفى الرد عليهم كغيرهم، الإمام ابن حزم في (الفصل) ، فراجعه.
الثالث- قيل، مقتضى الظاهر أن يقول: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا.
أو: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. فعدل عنه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعا. وقيل: إنه من الاحتباك، وأصله: لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا، ولكن أسلمتم، فقولوا أسلمنا، فحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر. والأول أبلغ لأنهم ادعوا الإيمان فنفي عنهم، ثم استدرك عليه فقال: دعوا ادعاء الإيمان، وادعوا الإسلام، فإنه الذي ينبغي أن يصدر عنكم على ما فيه، فنفى الإيمان، وأثبت لهم قول الإسلام دون الاتصاف به، وهو أبلغ مما ذكر من الاحتباك، مع سلامته من الحذف بلا قرينة- هذا ما في القاضي وحواشيه.
وإن تطيعوا الله ورسوله أي فتأتمروا لأوامرهما، وتنتهوا عما نهياكم عنه.
والخطاب لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا لا يلتكم من أعمالكم شيئا أي لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا، ولا ينقصكم من ثوابها.
قال الزمخشري: يقال (ألته السلطان حقه أشد الألت) وهي لغة غطفان. ولغة أسد، وأهل الحجاز- لاته ليتا- وحكى الأصمعي عن أم هشام السلولية أنها قالت:
الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات. وقرئ باللغتين لا يلتكم و (لا يألتكم) . ونحوه في المعنى فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء: 47] .
إن الله غفور رحيم أي لمن أطاعه وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأنيبوا إليه أيها الأعراب، وتوبوا من النفاق، واعقدوا قلوبكم على الإيمان، والعمل بمقتضياته، يغفر لكم ويرحمكم.
ثم بين تعالى الإيمان، وما به يكون المؤمن مؤمنا، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 15]
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15)
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا أي لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ونبوة نبيه، وألزموا نفوسهم طاعة الله، وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم.
وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أي جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مهجهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله، لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى- قاله ابن جرير: وقدمنا مرارا أن قصر (سبيل الله) على غزو الكفار المعتدين، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها، لأنها في سبيله وجهته.
قال الشهاب: وقدم الأموال، لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه.
وجاهدوا بمعنى: بذلوا الجهد. أو مفعوله مقدر، أي العدو أو النفس والهوى.
أولئك هم الصادقون أي الذين صدقوا في ادعاء الإيمان، لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم. وفيه تعريض يكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحصر. أي: هم الصادقون، لا هؤلاء، أو إيمانهم إيمان صدق وجد.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان. وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف، وليراجع في ذلك ما بسطه ابن حزم رحمه الله في (الفصل) .
الثاني- قال القاشاني: في قوله تعالى: إنما المؤمنون.. الآية إشارة إلى
الإيمان المعتبر الحقيقي، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطرات، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها، والتسخر لهيأتها، وذلك معنى قوله: وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله بعد نفي الارتياب عنهم، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ، وأثره في الظاهر. انتهى.
الثالث- قال في (الكشاف) : فإن قلت: ما معنى (ثم) هاهنا، وهي للتراخي.
وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان، لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين:
أحدهما- أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان، أو بعض المضلين، بعد ثلج الصدر، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه. أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك، ثم يستمر على ذلك، راكبا رأسه، لا يطلب له مخرجا.
فوصف المؤمنون حقا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله: ثم استقاموا.
والثاني- أن الإيقان وزوال الريب، لما كان ملاك الإيمان، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مكانه. وعطف على الإيمان بكلمة التراخي، إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضا جديدا. انتهى.
يعني: أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم تحدث لهم ريبة، فالتراخي زماني لا رتبي على ما مر في قوله: ثم استقاموا.
أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيها على أصالته في الإيمان، حتى كأنه شيء آخر. فثم دلالة على استمراره قديما وحديثا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 16]
قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم (16)
قل أي لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم آمنا. أتعلمون الله بدينكم أي أتخبرونه بقولكم آمنا، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه، من التعليم، بمعنى الإعلام والإخبار، فلذا تعدى
للثاني بالباء. وقيل: تعدى بها لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور. وفيه تجهيل لهم وتوبيخ. أي لأن قولهم آمنا إن كان إخبارا للخلق فلا دليل على صدقه، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له، لأنهم كيف يعلمونه، وهو العالم بكل شيء، كما قال والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم قال ابن جرير: هذا ما تقدم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا ويقولوا غير الذي هم عليه من دينهم. يقول: الله محيط بكل شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
ثم أشار إلى نوع آخر من جفائهم، مختوما بتوعدهم، بقوله تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #560  
قديم 27-02-2025, 10:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,659
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ق
المجلد الخامس عشر
صـ 5476 الى صـ 5485
الحلقة (560)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 17]
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17)
يمنون عليك أن أسلموا أي انقادوا وكثروا سواد أتباعك. قل لا تمنوا علي إسلامكم أي بإسلامكم، إذ لا ثمرة منه إلي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه [الإسراء: 15] ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين أي في قولكم آمنا لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون، لاطلاعه على الغيوب، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 18]
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون (18)
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون قال ابن جرير يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السموات والأرض.
تنبيهات:
الأول-
روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم نقاتلك. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم- ونزلت هذه الآية-.
وقال ابن زيد: هذه الآيات نزلت في الأعراب. ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب، غير المعنيين أولها، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة- والله أعلم.
الثاني- في قوله تعالى بل الله يمن عليكم ... الآية، ملاحظة المنة لله، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها، والاعتراف بها، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين «1» : «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي. وكنتم عالة فأغناكم الله بي» ؟
-
كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن.

وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له، بعد الثناء على الله تعالى: وبعث إليهم رسلا منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم، والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصرا، وأولهم يوم الدين ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجة وبرهانا، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية، محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، الذي اتخذه صفيا وحبيبا، وأرسله إلى عباده بشيرا ونذيرا، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدوف عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدماء الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم. أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيدا، وبالعنف لما وجد أنصارا وجنودا. لا يرى للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفاه، ولا حجة مموهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط
(1)
أخرجه البخاري في: المغازي، 56- باب غزوة الطائف، حديث رقم 1931، عن عبد الله بن زيد ابن عاصم

الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتوادعت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.
الثالث- قال الرازي: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق.
وهي إما مع الله تعالى، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. وهم على صنفين: لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو خارجا عنها، وهو الفاسق. والداخل في طائفتهم، السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضرا عندهم، أو غائبا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها- يتعلق بجانب الله.
وثانيها- بجانب الرسول.
وثالثها- بجانب الفساق.
ورابعها- بالمؤمن الحاضر.
وخامسها- بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات يا أيها الذين آمنوا، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولا يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيا يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثا يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبين ذلك عند تفسير قوله: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.
وقال رابعا يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم وقال ولا تنابزوا لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسا يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال: ولا تجسسوا وقال: ولا يغتب بعضكم بعضا لبيان وجوب الاحتراز
عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة. الابتداء.
بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم الفاسق؟.
نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق، والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارا للصدور. وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتال. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق، آية الاقتتال فقال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا؟
انتهى.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
وتسمى سورة (الباسقات) . وهي مكية بالإجماع. وآيها خمس وأربعون آية.
قال ابن كثير: وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح، وقيل: من الحجرات. وأما ما يقوله العوام أنه من (عم) فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم. والدليل ما رواه أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده. فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة (ق) بيانه:
ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء.
وخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.
وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
وتسع: سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان.
وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة وسبأ وفاطر ويس.
وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات.
ثم بعد ذلك الحزب المفصل، كما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فتعين أن أوله سورة (ق) .

وروى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد؟ قال: ب (ق) و (اقتربت) .
وروى مسلم وغيره، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يخطب بها كل جمعة.
وفي رواية: كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
ق والقرآن المجيد (1)
ق هو حرف من حروف التهجي المفتتح بها أوائل السور، مثل: ص، ون، والم، وحم، ونحوها. علم على السورة، على الصحيح من أقوال، كما تقدم مرارا.
تنبيه:
قال ابن كثير: روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له (جبل قاف) . وكأن هذا- والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم، مما لا يصدق ولا يكذب.
وعندي أن هذا وأمثاله من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة، مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها، أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم. فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفاظ والنقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «1» (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فيما قد يجوزه العقل. فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه البطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل.
وقد أكثر كثير من السلف المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب، تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة.
ثم رد ابن كثير، رحمه الله، ما قيل من أن المراد من ق قضي الأمر والله! كقول الشاعر:
قلت لها قفي فقالت قاف
(1)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، 50- باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم 1624، عن ابن عمرو.

أي: إني واقفة، بأن في هذا نظرا، لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف. انتهى.
والقرآن المجيد أي: ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 2]
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2)
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم أي: لأن جاءهم منذر من جنسهم، لا من جنس الملك، أو من جلدتهم. وهو كما قال أبو السعود- إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف، كأنه قيل: والقرآن المجيد، أنزلناه إليك، لتنذر به الناس.
حسبما ورد في صدر سورة الأعراف، كأنه قيل بعد ذلك: لم يؤمنوا به، جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجب، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول، وأقربه إلى التلقي بالقبول.
وقيل: التقدير: والقرآن المجيد، إنك لمنذر. ثم قيل بعده إنهم شكوا فيه، ثم أضرب عنه. وقيل: بل عجبوا، أي لم يكتفوا بالشك والرد، بل جزموا بالخلاف، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة. وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد، كأنه قيل: ليس سبب اقتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له، ولكن لجهلهم.
فقال الكافرون هذا شيء عجيب تفسير لتعجبهم، وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار، مع زيادة تفصيل لمحل التعجب. وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن. وإضمارهم أولا، للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم. وإظهارهم ثانيا، للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه. أو عطف لتعجبهم من البعث، على تعجبهم، من البعثة. على أن هذا إشارة إلى مبهم، يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 3]
أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3)
أإذا متنا وكنا ترابا تقرير للتعجيب، وتأكيد للإنكار. والعامل في (إذا) مضمر غني عن البيان، لغاية شهرته، مع دلالة ما بعده عليه. أي: أحين نموت ونصير ترابا نرجع، كما ينطق به النذير والمنذر به. مع كمال التباين بيننا وبين الحياة،
حينئذ ذلك إشارة إلى محل النزاع رجع بعيد أي: عن الأوهام أو العادة أو الإمكان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 4]
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4)
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم أي: ما تأكل من أجسامهم بعد مماتهم.
وهو رد لاستبعادهم، وإزاحة له. فإن من عم علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى. وتأكل من لحومهم وعظامهم، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا. وقيل: المعنى ما يموت فيدفن في الأرض منهم.
وعندنا كتاب حفيظ قال أبو السعود: أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ من التغير. والمراد: إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها، بعلم من عنده كتاب محيط، يتلقى منه كل شيء. أو تأكيد لعلمه تعالى بها، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 5]
بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)
بل كذبوا بالحق وهو القرآن، لما جاءهم أي من غير تأمل وتفكر.
قال الزمخشري: إضراب أتبع الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق، الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات، في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وكونه أفظع، للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه. فهم في أمر مريج أي مضطرب. يعني. اختلاف مقالتهم فيه، من ادعاء أنه شعر أو سحر ونحوه، تعنتا وكبرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 6]
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)
أفلم ينظروا أي هؤلاء المكذبون بالبعث، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد فنائهم، إلى السماء فوقهم كيف بنيناها أي رفعناها بغير عمد، وزيناها أي بالنجوم، وما لها من فروج. قال ابن جرير: يعني وما لها من صدوع وفتوق. كقوله تعالى: الذي خلق سبع سماوات طباقا، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت،
فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير
[الملك: 3- 4] ، أي كليل عن أن ترى عيبا أو نقصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 7]
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7)
والأرض مددناها أي بسطناها. وألقينا فيها رواسي أي جبالا ثوابت، حفظا لها من الاضطراب، لقوة الجيشان في جوفها، وأنبتنا فيها من كل زوج أي صنف، بهيج أي حسن المنظر، يبتهج به لحسنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 455.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 449.34 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.28%)]