شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله - الصفحة 88 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4948 - عددالزوار : 2051584 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4524 - عددالزوار : 1319499 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 591 - عددالزوار : 334115 )           »          اكتشف الأسباب الخفية وراء انتفاخ البطن! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          الكافيين: فوائده، أضراره، والكمية الآمنة للاستهلاك يوميًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          التعايش مع اضطراب ثنائي القطب: دليلك لحياة متوازنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          7 أطعمة تقوي العظام! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          نصائح بعد خرم الأذن: دليلك الشامل للتعافي بسرعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          ما هي فوائد التبرع بالدم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          متى يكون فقدان الوزن خطير؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #871  
قديم 04-07-2025, 11:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله



توحيد الأسماء والصفات

فالله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وكذلك واحد في أسمائه وصفاته؛ فالله تعالى له أسماء حسنى وصفات عليا، ولكن هذه الأسماء والصفات إنما تعرف من الكتاب والسنة، فلا يضاف إلى الله شيء إلا إذا جاء في الكتاب والسنة، فالأسماء والصفات لابد من الدليل عليها، لأنها غيب، والغيب لا يعرف إلا عن طريق الوحي، فنثبت لله من الأسماء والصفات كل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تمثيل أو تشبيه أو تكييف، ودون تحريف أو تعطيل أو تأويل، بل كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. فأثبت السمع والبصر بقوله: (( وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))، ونفى المشابهة بقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )). فله سمع لا كالأسماع، وله بصر لا كالأبصار فيجب أن يكون توحيد الأسماء والصفات قائماً على أساس الإثبات مع التنزيه، لا الإثبات مع التشبيه، ولا التنزيه مع التعطيل، ولهذا كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين المشبهة الذين أثبتوا وشبهوا، والمعطلة الذين قالوا: إن الله منزه عن صفات المخلوقين، فعطلوا الصفات اللائقة بالله عز وجل، فآل أمرهم إلى أن شبهوا الله بالمعدومات، أما أهل السنة والجماعة فإنهم أثبتوا ولم يعطلوا، ومع إثباتهم لم يشبهوا ولم يمثلوا، بل نزهوا، كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
أنواع التوحيد ثلاثة لا رابع لها


هذه أنواع التوحيد الثلاثة، وقد دل الكتاب العزيز عليها بالاستقراء؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على هذا التقسيم، ولكن عرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسنة أنه ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات، وليس هناك قسم رابع، وما يذكر من أن هناك أنواعاً من التوحيد تضاف إليها فغير صحيح؛ لأنها ترجع إليها ولا تخرج عنها، فالذين قالوا: هناك توحيد الاتباع، يقال لهم: إن الاتباع داخل في الألوهية؛ لأن التوحيد يقوم على ركنين: أن تكون العبادة خالصة لله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص هو معنى: أشهد أن لا إله إلا الله، ومطابقة السنة هو معنى: أشهد أن محمداً رسول الله، وإذا اختل أحد هذين الشرطين لم يقبل العمل، فإن اختل الإخلاص رد العمل؛ لقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) . وإن أختل شرط المتابعة رد العمل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . إذاً توحيد الاتباع لا يقال: إنه قسم من أقسام التوحيد، فيضاف إلى الأقسام الثلاثة. وكذلك لا يقال: إن هناك توحيد الحاكمية وإنه يضاف إلى أنواع التوحيد الثلاثة، بل الحاكمية لها حالتان: فإما أن يراد بها طريق التشريع والحكم الكوني، فهذا يرجع إلى توحيد الربوبية، وإما أن يراد بها الأحكام الشرعية، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية المشتملة على الأحكام، فهذا يدخل في توحيد الألوهية؛ لأن العبادة ما عرفت إلا عن طريق الكتاب والسنة، والأحكام الشرعية ما عرفت إلا عن طريق الكتاب والسنة، فلا يقال: إنه قسم يضاف إلى الأقسام الثلاثة. إذاً: فالاستقراء -وهو تتبع نصوص الكتاب والسنة- يبين أن أنواع التوحيد ثلاثة، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

ذكر أنواع التوحيد في سورة الفاتحة


سورة الفاتحة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، وسورة الناس مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة. فقوله في سورة الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] يشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقوله (( الْحَمْدُ لِلَّهِ )). فيه توحيد الألوهية؛ لأن فيه إسناد الحمد وإضافته إلى الله، وهو عبادة، وتوحيد الألوهية هو إفراد الله بالعبادة. وقوله: (( لِلَّهِ )) هذا اسم من أسماء الله الحسنى، بل هو أعظم أسماء الله، بل هو الاسم الذي تنسب إليه الأسماء كما قال الله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] ويخبر بالأسماء عنه فيقال: والله غفور رحيم، والله عزيز حكيم، فالله مبتدأ، وغفور خبر، فتأتي الأسماء مضافة إليه وتابعة له أو منسوبة إليه، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات. وقوله: (( رَبِّ الْعَالَمِينَ ))، هذا توحيد الربوبية، والعالمون هم: كل من سوى الله، فالله تعالى ربهم الموجد لهم، المتصرف فيهم كيف يشاء، وأيضاً الرب من أسماء الله كما قال الله عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]. إذاً: الآية الأولى مشتملة على الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. وقوله: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] اسمان من أسماء الله يدلان على صفة من صفات الله وهي الرحمة، ففيه توحيد الأسماء والصفات، وأسماء الله عز وجل ليس فيها اسم جامد، بل كلها تدل على معانٍ، وكل اسم منها يشتق منه صفة، فالرحمن يدل على الرحمة، والرحيم يدل على الرحمة، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، والعليم يدل على العلم، والبصير يدل على البصر، والسميع يدل على السمع، والخبير يدل على الخبرة، وهكذا كل اسم يدل على صفته، لكن العكس لا يكون؛ لأن من صفات الله اليد والوجه، ولا يؤخذ منها أسماء؛ لأنها صفات ذاتية، ومن صفات الله الفعلية الاستهزاء والمكر والكيد، ولا يؤخذ منها أسماء، فلا يقال: مستهزئ ولا ماكر ولا كائد من أسماء الله.
ليس الدهر من أسماء الله


وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: إن من أسماء الله الدهر، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم : (يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) ولكن هذا غير صحيح، والدهر اسم جامد، وقوله فيه: (وأنا الدهر) ليس معنى ذلك أنه اسم من أسمائه، وإنما هذا بيان أن من سب الدهر فقد سب الله؛ لأن الدهر هو الزمان، والزمان يتقلب، والله تعالى هو المقلب، ومن سب المقلَّب رجعت سبته إلى المقلَّب، ولهذا قال بعده: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)؛ لأن الدهر ليس فاعلاً متصرفاً، وإنما هو متصرف فيه. فهذا هو معنى الحديث، وليس معناه أن الدهر اسم من أسماء الله؛ لأن أسماء الله كلها حسنى -ولا يقال: إنها حسنة فقط- بل هي حسنى أي: بالغة في الحسن نهايته وكماله.
سر التنصيص على يوم الدين في سورة الفاتحة


وقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] يوم الدين هو: الجزاء والحساب يوم القيامة، والناس يجازون يوم القيامة بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والله تعالى مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء، فلماذا قيل: مالك يوم الدين مع أنه مالك الدنيا والآخرة؟ لأن ذلك اليوم هو الذي يظهر فيه الخضوع لرب العالمين من كل أحد، أما في الدنيا فقد وجد من يتكبر ومن يتجبر، بل قد وجد من قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ووجد من قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]. أما الآخرة فليس هناك إلا الذل والخضوع لله عز وجل، ففي ذلك اليوم يظهر السؤدد، وهذا هو سر التنصيص على يوم الدين، والله أعلم. ونظير هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة) مع أنه سيد الناس في الدنيا والآخرة، ولكن خص بالذكر يوم القيامة؛ لأنه يظهر فيه سؤدده على الخليقة كلها من أولها إلى آخرها، وذلك أنه يشفع الشفاعة العظمى التي تستفيد منها الخليقة كلها من أولها إلى آخرها، ولهذا قيل لمقامه ذاك: المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد ألوهية، وقدم المفعول للحصر، أي: نعبدك وحدك ولا نعبد معك غيرك، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] توحيد ألوهية؛ لأنه دعاء، والدعاء هو العبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] الذين هم أهل التوحيد، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الذين جانبوا التوحيد، وكفروا بالله عز وجل. فإذاً: هذه السورة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة في مواضع متعددة.
اشتمال سورة الناس على أنواع التوحيد الثلاثة


كذلك سورة الناس: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6] مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة. فالآية الأولى فيها كالآية الأولى في سورة الفاتحة، فقوله: (( أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ )) فيه توحيد ألوهية؛ لأن الاستعاذة من توحيد الألوهية. وقوله: (( بِرَبِّ النَّاسِ )) فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الرب، ورب الناس معناه: خالق الناس وموجد الناس ومربي الناس بالنعم سبحانه وتعالى. وقوله: مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2] فيه توحيد الربوبية، أي: هو مالكهم وملكهم، وفيه أيضاً توحيد الأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الملك. وقوله: إِلَهِ النَّاسِ [الناس:3] فيه توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الإله. فهذه أنواع التوحيد الثلاثة اشتملت عليها سور القرآن، ويتضح ذلك بأول سورة وآخر سورة في المصحف، الفاتحة والناس، وهما الفاتحة والخاتمة. وعلى هذا فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى واحد في ألوهيته، وواحد في ربوبيته، وواحد في أسمائه وصفاته، وواحد في العبادة، والخلق إنما خلقوا للعبادة، كما قال الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] فإن الرسل أرسلت للدعوة إلى توحيد العبادة، والكتب أنزلت حتى يعبد الله طبقاً لما أمر به. والله تعالى إنما خلق الخلق ليؤمروا وينهوا، فقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: إلا لآمرهم وأنهاهم، أي: أنهم أمروا بالعبادة، ولو قدر الله عز وجل أن يعبدوه ما تخلف عن عبادته أحد، كما قال الله عز وجل: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]. إذاً أول أركان الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، وقد عرفنا ما يتعلق بها، وعرفنا أنها اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة، وأن أنواع التوحيد الثلاثة دل عليها استقراء نصوص الكتاب والسنة، وعرفنا التمثيل لذلك في سورة الفاتحة وسورة الناس.
معنى شهادة أن محمداً رسول الله


أما شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فقد قال فيها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة هي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فهي تشتمل على هذه الأمور. فشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي أن يطاع في كل ما يأمر به، وأن ينتهى عن كل ما ينهى عنه، وأن يصدق بكل خبر يخبر به، وأن لا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به، فلا يعبد بالبدع والمنكرات والمحدثات، وإنما يعبد بالوحي الذي جاء به من عند الله كتاباً وسنة، فالعبادة لابد أن تكون خالصة لله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ويدخل في ذلك محبته عليه الصلاة والسلام محبة تفوق محبة كل مخلوق، ولا يتقدم عليه أحد في المحبة من الخلق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). فوالدا الشخص اللذان كانا سبباً في وجوده وقد قاما بتنشئته وتربيته والإحسان إليه، حتى بلغ مبلغ الرجال وصار رجلاً سوياً، وكذلك أولاده الذين تفرعوا منه، وهو يحبهم ويشفق عليهم، لا يؤمن حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه منهم، وذلك لأن المنفعة التي حصلت من الوالدين هي أنهما كانا سبب وجوده وقاما بتنشئته، لكن المنفعة التي حصلت له بسبب الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم، وهي الهداية للصراط المستقيم، والخروج من الظلمات إلى النور، فصارت محبته تفوق محبة الوالدين والأولاد. وقوله: (والناس أجمعين) يعم من كان للإنسان به علاقة ومن ليس له به علاقة من الناس، فلابد أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلبه مقدمة على محبة كل من سواه من الناس، فهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والله تعالى أعلم.

الأسئلة



أهمية الرجوع إلى أهل العلم

السؤال: هل يستفاد من حديث جبريل الذي سأل فيه النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان أن للمسلمين مرجعية وهم العلماء، بينما في هذا الزمان لم يعد طلبة العلم فضلاً عن العامة يرجعون إلى العلماء وقت الفتن؟ الجواب: نعم. حديث جبريل يدل على ذلك؛ لأن الناس الذين كانوا في العراق لما وجد القول بالقدر رجعوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لعلنا نجد أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنسأله عما وجد في بلدنا، فكان أن وجدوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهذا يدل على الرجوع إلى أهل العلم، والله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والذي يرجع إليهم في أمور الدين، وعند حصول الأمور المنكرة التي فيها خروج عن الدين، والتي فيها انحراف عن الدين، هم أهل العلم الذين يبينون الأحكام الشرعية، ويبينون فساد الطرق المنحرفة عن الجادة وعن الصراط المستقيم.

ذكر يحيى بن يعمر لمحاسن القدرية عند سؤال ابن عمر عن قولهم


السؤال: أشكل علي في حديث جبريل أنه لبيان بدعة القدرية ولكن يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن ذكرا لابن عمر محاسنهم من العبادة والاجتهاد في العلم، ولم ينكر ابن عمر ذلك، فهل في ذلك ما يدل على الموازنات؟ الجواب: لا يدل على ذلك، ولكن هذا يبين أن هؤلاء لم يكونوا منحرفين عن العبادة؛ لأنهم عندهم عبادة، وعندهم قراءة قرآن، لكن وجد منهم هذا الأمر المنكر، فالمقصود من ذلك حتى يعرف أن هذا الذي حصل لم يكن من أناس لا علاقة لهم بالدين ولا يشتغلون به، بل هم منتسبون إلى الدين، ولكنهم جاءوا بهذه البدعة، فلا يدل هذا على أنه لا يذكر مبتدع حتى تذكر حسناته قبل ذلك؛ لأن المقصود من هذا ليس ذكر الحسنات، وإنما المقصود من ذلك بيان أن هؤلاء ما جاء هذا الكلام منهم لأنهم بعيدون عن المسلمين، وليسوا على الإسلام، ولا يشتغلون بالقرآن ولا يشتغلون بالعلم، بل هم مجتهدون، ولكن البلاء جاء من الانحراف والبدعة التي حصلت لهم. ومعلوم أن المهم في الأمر هو المسئول عنه، ولكن هذا تمهيد من أجل بيان حالهم، وأن لا يظن أنهم منحرفون في الأصل انحرافاً كلياً، بل عندهم شيء من الدين، ولكنهم أتوا بهذه البدعة الخبيثة. والرسول صلى الله عليه وسلم لما استشارته المرأة وذكرت له اللذين خطباها وهما معاوية و أبو جهم ، أجابها ببيان حالهما من حيث التزوج، فقال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه) وما قال: معاوية كاتب الوحي، و معاوية رجل ذكي، بل أتى بالشيء الذي يهمها، وهذان اللذان سألا ابن عمر رضي الله عنه أرادا أن يبينا أن هؤلاء ينتسبون للإسلام ويقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك يقولون بهذه المقالة الخبيثة.

حكم ذكر الأب باسمه الصريح

السؤال: هنا قول ابن عمر في حديث جبريل: حدثني عمر ، هل يؤخذ منه جواز ذكر الأب باسمه صراحة؟ الجواب: الأصل أن الإنسان يذكر أباه بأبوته له، ويجوز ذكره في مثل هذه الحال باسمه، لكن عندما يخاطب أباه يخاطبه بالأبوة، ولا يخاطبه باسمه.

حكم الاستدلال على التمثيل بتمثل جبريل في صورة بشر


السؤال: هل يستدل بحديث جبريل في مراتب الدين على جواز التمثيل، حيث إن جبريل عليه السلام تمثل بصورة بشر؟ الجواب: لا يدل على التمثيل، لأن التمثيل كذب، وأما هذا فمخلوق كان على هيئة تسد الأفق وله ستمائة جناح، وقد جاء بهذه الهيئة الحقيقية؛ لأن نفس الخلقة التي تسد الأفق تحولت إلى هذا، ولا يقال: هذه صورة جبريل وجبريل جالس في مكانه أو باق في مكانه على هيئته، وإنما هو نفسه هذا الخلق الكبير انكمش حتى صار على هذه الهيئة، وجاء كذلك من أجل أن يقدروا على أن يستفيدوا منه؛ لأنه لو جاء على هيئته العظيمة لما استطاعوا أن يستفيدوا منه، ولما طلب الكفار إنزال الملائكة أخبر الله تعالى بأنه لو أنزل ملكاً لجعله على هيئة رجل، حتى يتمكنوا من التفاهم معه. فالاستدلال على التمثيل بهذا لا يجوز؛ لأن التمثيل كذب مخالف للواقع، ولأن الغالب فيه أنه كذب من أجل الإضحاك، والكذب إذا كان معه إضحاك يكون أسوأ وأسوأ."



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #872  
قديم 04-07-2025, 11:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [528]
الحلقة (558)



شرح سنن أبي داود [528]

مراتب الدين من خلال حديث جبريل ثلاثة: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وأعظم المراتب وأكملها الإحسان: وهو استشعار حضور الله وعظمته في كل وقت وحين، ولا يصل لهذه المرتبة إلا من أكرمه الله ورفع قدره ومنزلته، وفي هذا الحديث فوائد جمة وغزيرة منها: بيان المقصود بأركان الإيمان، وما ينطوي تحته من المسائل والفوائد المهمة، وبيان معنى الإحسان وعلامات الساعة وغيره.

تابع شرح حديث جبريل في مراتب الدين



الصلاة من أعظم أركان الإسلام


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد بن الجهني ، فانطلقت أنا و حميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، يزعمون ألا قدر، والأمر أنف؟ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر ! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق، فلبثت ثلاثاً ثم قال: يا عمر ! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ]. حديث جبريل عليه السلام حديث عظيم مشتمل على أمور عظيمة مهمة، وقد مر جملة منه في الدرس الماضي حتى وصلنا فيه إلى سؤال جبريل عن الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابه فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سببيلاً) وقد ذكرنا أن هذه الأركان الخمسة هي التي بني عليها الإسلام، وأن الشهادتين هما أساس لبقية الأركان، وشرحنا الشهادتين. ثم أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن ورسم له الخطة التي يسير عليها في الدعوة إلى الله عز وجل، قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فهي أهم الأركان، وهي أول شيء يدعى إليه بعد التوحيد، وقد جعلها تالية للشهادتين؛ لأنها أعظم الأركان بعد الشهادتين؛ ولأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه حيث تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات. وبقية الأركان ليست مثلها، فمنها ما يتكرر في السنة، ومنها ما يتكرر في العمر. ومن المعلوم أن الصلاة يمكن أن يعرف بها من يكون ولياً من أولياء الله، ومن يكون بخلاف ذلك، لأنك إذا صحبت إنساناً تستطيع أن تكتشفه في خلال أربع وعشرين ساعة، فإن كان من المحافظين على الصلاة فهي علامة خير، وإن كان بخلاف ذلك فهي علامة شر، بخلاف الزكاة فإنها لا تجب إلا على الأغنياء، ولا تجب إلا في السنة، ولا تجب إلا بشروط، فلا يعرف بها المرء بسرعة. والصيام لا يجب إلا شهراً في السنة، والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وأما الصلاة فتجب في اليوم والليلة خمس مرات، فهي كما قال بعض أهل العلم: صلة وثيقة بين العبد وبين ربه؛ لأنه لا يفرغ من صلاة إلا وهو يفكر في الصلاة التي تليها، وهكذا خلال أربع وعشرين ساعة، فإنه لازم عليه وواجب عليه أن يأتي بهذه الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده. وأمر الصلاة عظيم، وشأنها كبير، وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على عظم شأنها، وأنها علامة تميز بين المؤمن والكافر، فالحد الفاصل بين المرء وبين الكفر والشرك ترك الصلاة، كما جاءت أحاديث كثيرة تتعلق بفضلها وعظم شأنها، وكذلك صلاة الجماعة ووجوبها، وأن التخلف عنها من علامات النفاق. ويليها الزكاة، وهي قرينتها في كتاب الله عز وجل ونفعها متعد؛ لأنها تتعلق بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ولكنها لا تجب في السنة إلا مرة واحدة، وبعد ذلك الصيام، وهو لا يجب في السنة إلا شهراً واحداً، والحج لا يلزم في العمر إلا مرة واحدة، وما زاد على ذلك فهو تطوع.
العلاقة بين الإسلام والإيمان


وجبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ففسره بالأعمال الظاهرة التي هي الشهادتان وهي قول باللسان، والأركان الأخرى التي هي أعمال بالجوارح؛ من صلاة وزكاة وصيام وحج، وكلها أمور ظاهرة، ولهذا فإن الإسلام في الأصل هو الاستسلام لله، ومعنى ذلك: أن هذا الاستسلام يظهر على الجوارح. ثم إنه سأله عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). وهذه هي أركان الإيمان الستة، وقد فسره بأمور باطنة، وهي تناسب المعنى اللغوي الذي هو التصديق، وهو ما يقوم بالقلب، فأضيف إلى الإسلام ما يناسب معناه اللغوي، وهو الاستسلام والانقياد، وأضيف إلى الإيمان ما يناسب معناه اللغوي وهو ما يقوم بالقلب من التصديق. وكما هو معلوم أن الإيمان لابد أن يكون بالقلب وباللسان وبالعمل، ولكن عند اجتماعهما أعطي الإسلام ما يناسب المعنى اللغوي وهو الظاهر، وأعطي الإيمان ما يناسب المعنى اللغوي وهو ما يقوم بالقلب من التصديق، ومن المعلوم أن لفظ الإيمان والإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما شمل المعاني المفرقة عند الاجتماع، وفي حديث جبريل لما كان السؤال عن الإسلام والإيمان وزع المعنى العام عليهما، فأعطي الإسلام الأمور الظاهرة، وأعطي الإيمان الأمور الباطنة، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مستقلاً، فإنه يشمل الأمور الظاهرة والباطنة، كما قال الله عز وجل: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فليس المقصود من ذلك الأمور الظاهرة فقط دون ما يقوم بالقلوب، وكذلك قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ليس المقصود من ذلك ما جاء في حديث جبريل: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... إلخ) بل يدخل فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان، وكذلك الإيمان عندما يأتي منفرداً يشمل الظاهر والباطن. قوله: (أن تؤمن بالله) الإيمان بالله عز وجل يعني: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وقد مر ما يتعلق ببيان الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذا الركن الأول من أركان الإيمان مثل الركن الأول من أركان الإسلام؛ لأن ذاك أساس يتبعه كل ما وراءه، وهذا أساس يتبعه كل ما وراءه؛ فالإيمان بالله يتبعه ما وراءه، ولهذا جاءت الضمائر مضافة إليه: بالله.. ملائكته.. كتبه.. رسله، فهو الأساس وغيره تابع له، أي: أن الإيمان بالملائكة تابع للإيمان به، والإيمان بالرسل تابع للإيمان به، والإيمان بالكتب تابع للإيمان به، والإيمان باليوم الآخر تابع للإيمان به، والإيمان بالقدر تابع للإيمان به، ومن لم يؤمن بالله لا يؤمن بهذه الأمور.
الإيمان بالملائكة


قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته)، الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة، والملائكة عالم من العوالم التي خلقها الله عز وجل، وقد خلقهم من نور كما ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) والملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة، مثنى وثلاث ورباع، وجبريل له ستمائة جناح كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحولون إلى صورة الإنسان كما جاء في أول الحديث، وكما جاء في قصة ضيوف إبراهيم، وفي مجيء جبريل إلى مريم بصورة بشر. وهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فهم مستسلمون منقادون دائماً وأبداً، وقد وكلوا بأعمال كثيرة، فمنهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر، ومنهم الموكل بالموت، ومنهم الموكل بالجنة والنار، ومنهم الموكل بالحفظ والكتابة، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأرحام، ويجب التصديق والإيمان بكل ما جاء في الكتاب وثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الملائكة. وهم خلق كثير لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على كثرتهم الحديث الصحيح في البيت المعمور وهو في السماء السابعة، وقد جاء في الحديث: (أنه يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ثم لا يعودون إليه)، ومعنى هذا: أنه كل يوم يدخل سبعون ألفاً ولا يتاح لمن دخله أن يرجع إليه مرة أخرى، والحديث يدل على كثرتهم، وأنهم جند لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الحديث الذي فيه: (أن جهنم لها سبعون ألف زمام، وكل زمام معه سبعون ألف ملك يجرونها). وكل إنسان معه حفظة وكتبة من الملائكة. وقدم ذكرهم على غيرهم في الأصول الستة؛ لأنهم هم الذين يأتون بالوحي إلى الرسل؛ فهم الواسطة بين الله وبين رسله، ثم ذكر بعدهم الكتب؛ لأنهم ينزلون بالكتب، ثم جاء ذكر الرسل؛ لأنهم هم الذين تصل إليهم الكتب من الملائكة، فجاء الترتيب بذكر الإيمان بالملائكة؛ لأنهم الذين يأخذون عن الله، ثم الذي يأخذونه هو الكتب وينزلون بها، ثم الرسل الذين تنتهي الرسالة إليهم، حيث ينتهي الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيبلغه ما أنزل عليه. وقد جاء وصف الملائكة بالرسالة لا بالنبوة: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] .. جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر:1] فوصفوا بأنهم رسل، وما وصفوا بأنهم أنبياء، وعلى هذا فإن الأصل في هذا الباب أن الإيمان بالملائكة من علم الغيب، وأنه لا يثبت فيهم إلا ما ثبت بالدليل، ولا يتكلم بشيء من غير علم؛ لأن علم الغيب لا يعرف إلا بالوحي. فالإيمان بالله من علم الغيب؛ وإضافة شيء من الصفات والأسماء إليه، لا يثبت إلا عن طريق الوحي، ولا يعلمه الناس من تلقاء أنفسهم، والإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب؛ لأنهم لا يشاهدون ولا يعاينون، بل يكونون قريبين من الإنسان يكتبون ويحفظون، ومع ذلك لا يشاهدهم الناس، ومثلهم الجن الذين يكونون حول الإنس ولا يشاهدونهم ولا يعاينونهم، كما قال الله عز وجل: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].
الإيمان بالكتب


قوله: (وكتبه). الكتب هي من كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا ينحصر ولا ينتهي، لأنه لا بداية له ولا نهاية له، والمخلوقات كلها محصورة، ولهذا جاء في القرآن الكريم آيتان تدلان على سعة كلام الله وكثرته، وأنه لا يحاط به، وأن البحور الزاخرة لو تحولت مداداً يكتب به لنفدت البحور ولو ضوعفت أضعافاً مضاعفة؛ لأنها لو ضوعفت مع سعتها وكثرة مائها فهي محصورة، وكلام الله عز وجل لا ينحصر؛ قال الله عز وجل: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] فهاتان الآيتان الكريمتان دالتان على أن كلام الله لا ينحصر. والقرآن من كلام الله، والتوراة من كلام الله، والإنجيل من كلام الله، والزبور من كلام الله، وكل كتاب أنزله الله عز وجل فهو من كلامه، وكل كلام سمعه منه ملك أو إنس فإنه من كلامه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلمه الله وأن موسى كلمه الله، فكل منهما كليم الله، وإذا دخل أهل الجنة فإنه يكلم أهل الجنة. والإيمان بالكتب يكون بأن نصدق بما جاء في الكتاب والسنة من كتب أنزلها الله، وكذلك ما لم يذكر لنا؛ لأنه ليس كل كتاب قص علينا، وكل رسول قد أنزل الله عليه كتاباً كما قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25]، فنؤمن بالذي سمي باسمه، والذي لم يسم نؤمن به على سبيل الإجمال وإن لم نعرف اسمه، فالتوراة والإنجيل والزبور كلها كتب منزلة، فالزبور كتاب أنزله الله على داود، وكتاب أنزله الله على موسى وهو التوراة، وكتاب أنزله الله على عيسى وهو الإنجيل، وكذلك صحف إبراهيم وموسى، وهذه هي التي سميت في القرآن، وغيرها لم يسم، ونحن نؤمن بالجميع، ونقول: إن هذه الكتب من جملة كلام الله. ونعلم أن هذه الكتب مشتملة على ما فيه الخير والسعادة لمن أنزلت عليه، وأن من أخذ بها فقد سعد، ومن أعرض عنها فقد خاب وخسر.
الإيمان بالرسل


قوله: (ورسله) الإيمان برسل الله عز وجل وهم من البشر، أرسلهم الله عز وجل وأوحى إليهم، وأمرهم بالتبليغ، وقاموا بأداء ما كلفوا به على التمام والكمال، ودلوا أممهم على كل ما أمروا بتبليغه لهم، وما بعث الله من نبي إلا ودل أمته على خير ما يعلم لها، وحذرها من شر ما يعلم لها، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ونحن نؤمن بمن سمي منهم على سبيل التفصيل، ومن لم يسم نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، والله عز وجل ذكر في القرآن خمسة وعشرين، جاء ثمانية عشر منهم في سورة الأنعام، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86]. ويبقى بعدهم سبعة وهم: آدم وهود وشعيب وصالح ومحمد صلى الله عليه وسلم وذو الكفل وإدريس، وقد جاء سبعة عشر منهم في سورة الأنبياء. هؤلاء الخمسة والعشرون جاء ذكرهم في القرآن، فنحن نؤمن بهم وبأسمائهم وهم الذين قصوا علينا، ونؤمن بغيرهم ممن لم يقص علينا. ثم إن هناك رسلاً وهناك أنبياء، والفرق بين النبي والرسول كما قال بعض أهل العلم: أن الرسول هو الذي أوحي إليه بشريعة ابتداءً، وأنزل عليه الكتاب، وأمر بتبليغه، والنبي هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، ولم ينزل عليه كتاب، ولكنه كلف بأن يحكم بكتاب، أو أن يبلغ كتاباً. وهذا مثل أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين قال الله عنهم في سورة المائدة: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44] فقوله: (( الَّذِينَ أَسْلَمُوا )) صفة كاشفة، وهناك قال: إنهم يحكمون بالتوراة، والتوراة أنزلت على موسى، وإذاً هم مأمورون بأن يبلغوا التوراة، ولهذا فالنبي مرسل كما قال الله عز وجل: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ [الزخرف:6] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52] فوصف الرسول بأنه مرسل، والنبي بأنه مرسل، إلا أن هذا أرسل بكتاب وبشرع جديد أنزل عليه، وهذا يبلغ رسالة سابقة، ويحكم بكتاب سابق أنزل على من قبله ولم ينزل عليه. وقد جاء في القرآن وصف بعض الرسل بأنهم أنبياء ورسل، كما جاء في حق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] وجاء: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64] فخاطبه الله بالنبوة، وخاطبه بالرسالة. وجاء في حق موسى قول الله عز وجل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]وجاء في حق إسماعيل : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54] فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أول ما نزل عليه الوحي لم يؤمر بالتبليغ، ثم نزلت سورة المدثر فصار رسولاً نبياً فهو قد نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة، فيكون بذلك قد جمع بين النبوة والرسالة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والواجب هو التصديق والإيمان بكل ما جاء من أسمائهم، ومن الأخبار التي جاءت عنهم، ونحن لا نعرف ذلك إلا بالكتاب العزيز أو بالسنة.
الإيمان باليوم الآخر


قوله: (اليوم الآخر) وهو الذي بعد اليوم الأول، أي: الدنيا، والحد الفاصل بين الدنيا والآخرة الموت، فكل من مات انتقل من الدنيا إلى الآخرة، وهذه الآخرة فيها حياة برزخية، وحياة بعد البعث، ولكنها كلها على طريقة واحدة من ناحية أنها دار جزاء وليست دار عمل، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكره البخاري عنه في كتاب الرقاق: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. الحساب يبدأ بالموت، والعذاب يبدأ بالموت؛ لأن الإنسان يعذب في قبره، سواءً كان كافراً أو مسلماً استحق العذاب. ويدل على عذاب الكفار في القبور قول الله عز وجل عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] وبالنسبة للمسلمين ما جاء في قصة الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستبرئ من البول، وكان الثاني يمشي بالنميمة، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على سبب عذابهما في القبر، ووضع جريدتين على قبريهما، وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيمه


ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وما يجري فيه من الفتنة وسؤال الملكين، وأن الموفق إذا سئل عن ربه ودينه ونبيه فإنه يجيب، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وأن الذي لم يوفق لا يجيب عن تلك الأسئلة، وأن الموفق يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، والمخذول يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، والنعيم أو العذاب يكون للروح والجسد جميعاً، وليس للروح وحدها، وذلك أن الإحسان حصل منهما جميعاً، والإساءة حصلت منهما جميعاً. فتكون العقوبة أو النعيم على مجموع الأمرين؛ لأن الروح وحدها ما حصل منها إحسان وإساءة، والجسد وحده ما حصل منه إحسان وإساءة، وإنما حصلت الإساءة والإحسان بمجموع الروح والجسد. ومن مات فإنه يبقى في قبره، ومن الناس من تأكله الأرض، ومنهم من لا تأكله وهم الرسل والأنبياء كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعذاب يصل إلى من يستحقه قبر أو لم يقبر، وما كان ذكر العذاب وإضافته إلى القبور إلا لأن الغالب أن الناس يقبرون، لكن من الناس من تأكله السباع، ومنهم من تأكله الحيتان في البحر، ومنهم من يحترق وتأكله النار ويصير رماداً، ولكن كل مستحق لعذاب القبر يصل إليه العذاب، وكل مستحق للنعيم يصل إليه النعيم، والله تعالى على كل شيء قدير، ولا دخل للعقول في ذلك؛ لأن عذاب القبر من أمور الغيب. ولهذا لا يقال: إننا نفتح القبر ولا نجد فيه جنة ولا ناراً؛ لأن هذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يعلمه الخلق، فكما أنك الآن عندك ملائكة وجن يحضرونك ومع ذلك لا تراهم ولا تشاهدهم، فكذلك أيضاً هذه الأمور لا تستطيع أن تصل إليها. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) فهو صلى الله عليه وسلم يسمعه الله ما يجري في القبور، وغيره ممن يكون حوله لا يسمع، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس صلاة الكسوف عرضت عليه الجنة والنار ورأى العناقيد المتدلية والصحابة الذين وراءه ما رأوا هذا الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه يطلع من شاء على ما شاء ويخفي ما شاء على من شاء.
الإيمان بالبعث الجسماني وكيفيته


وعندما يبعث الناس من قبورهم فإن نفس الأجساد التي وضعت في القبور هي التي تعود، ولا تأتي أجساد جديدة غير التي وضعت في القبور؛ لأن الله تعالى يقول: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] أي: فنحن نعيده، وقد جاء في النصوص ما يدل على كيفية البعث، ومنها قصة الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه بأن يحرقوه إذا مات ويذروا بعض رماده في البحر وبعضه في البر، وقال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل البحر أن يخرج ما فيه، والبر أن يخرج ما فيه، ثم أمر تلك الذرات، وكل ذرة وقعت في مكانها، حتى عاد الجسد كما كان. ومثل ذلك قصة الطيور التي ذكرت في قصة إبراهيم، حيث أمره الله بأن يأخذ أربعة من الطيور فيجعلهن إليه، ثم يذبحهن ويقطعهن ويخلط اللحم بعضه ببعض حتى يصير كتلة واحدة، ثم يجعل على كل رأس جبل قطعة من هذه الكتلة، ثم يدعوهن فتنطلق كل ذرة وكل قطعة حتى تأتي إلى مكانها الذي يخصها من ذلك الطائر، حتى تعود الطيور على ما كانت عليه. والأجساد نفسها هي التي تبعث، وهذا هو الذي تقتضيه حكمة الله، حيث إن الجسد الذي أساء هو الذي يعذب، والجسد الذي أحسن هو الذي ينعم، ولهذا قال الله عز وجل في القرآن: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، معناه: أن الأجساد التي كانت في الدنيا هي التي تتكلم؛ لأنها شهدت بما عمل في الدنيا، ولو كانت أجساماً جديدة لما كانت تعرف شيئاً عن الدنيا، فكيف تشهد؟! وقال الله عز وجل: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، فإذاً: تلك الأجساد هي التي تعاد وهي التي تنعم وتعذب، ولا يخلق أجساداً جديدة فتعذب أو تنعم؛ لأن الأجساد الجديدة لا تعرف شيئاً عن الدنيا، والأجساد التي كانت موجودة في الدنيا هي التي أخبر الله بأنها تشهد. وقولنا: إن الذي يبعث هو الذي كان في الدنيا، ليس معناه: أنهم ينبتون ويخلقون خلقاً جديداً لا علاقة له بالدنيا، نعم تنشق القبور عن أصحابها، ولكن نفس الجسد الذي كان في الدنيا يجمع الله تعالى بعضه إلى بعض، فيخرج من الأرض ما دخل فيها، كما قال الله عز وجل: (( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ )) أي: فنحن نعيده، فإذا انشقت عنهم القبور خرجوا يمشون: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43] فهذه كيفية البعث.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #873  
قديم 04-07-2025, 11:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

الإيمان بالحشر وما بعده

وأمور الآخرة أمور غيبية يجب التصديق بها دون أن يجعل الإنسان ذلك تابعاً لعقله، فإن الواجب على العقول التسليم والانقياد والاستسلام وعدم الاعتراض وعدم التردد في تصديق كل ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ثم الناس عندما يخرجون من قبورهم يذهبون إلى المحشر، ويجتمعون في صعيد واحد، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ويموج بعضهم في بعض، ويصيبهم شدة، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى الله لفصل القضاء بينهم، حتى يحاسبوا ويذهبوا إلى منازلهم من الجنة أو النار، فيأتون إلى آدم أبي البشر فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، ثم إلى إبراهيم فيعتذر، ثم إلى موسى فيعتذر، ثم إلى عيسى فيعتذر، ثم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) ثم يتقدم ويشفع ويفتح الله عليه بالمحامد، فيقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع). وهذه هي الشفاعة العظمى، وهي التي تسمى: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الكل يستفيد من شفاعته، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) فنص على يوم القيامة لأنه يظهر فيه السؤدد على الأولين والآخرين، وإلا فهو سيد الناس في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. فيشفع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي الله لفصل القضاء بين العباد، ثم يحصل الحساب، ثم يحصل وزن الأعمال، ثم يذهبون إلى الجنة والنار، والنار تكون في الطريق إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون على الصراط، فمن كان من أهل النار وقع في النار، ومن كان من أهل السعادة تجاوز هذا الصراط، وذهب إلى الجنة التي هي وراء النار، وكل هذه أمور غيبية يجب الإيمان والتصديق بها، وعدم الاعتراض عليها، وعدم التردد في قبول شيء منها، وأنها حقيقة وأنها واقعة، وأنها لابد وأن توجد. فأركان الإيمان كلها غيب؛ الإيمان بالله من علم الغيب، والإيمان بالملائكة من علم الغيب، والإيمان بالرسل من علم الغيب، والإيمان بالكتب من علم الغيب، والإيمان باليوم الآخر من علم الغيب، ولا يعرف الناس شيئاً منها إلا عن طريق الوحي من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الكتاب والسنة بهذه التفاصيل المتعلقة بالقبر وعذابه ونعيمه، وبالبعث وكيفيته، وبالحشر وما يجري فيه، ثم مجيء الله عز وجل لفصل القضاء ومحاسبة الناس، ثم بعد المحاسبة توزن الأعمال، ووزن الأعمال من أجل أن يعرف كل ما له وما عليه، والله عز وجل عالم بكل شيء، وعالم بالراجح والمرجوح، ولكن ذلك من أجل العباد أنفسهم حتى يعرفوا ما لهم وما عليهم، وليظهر عدل الله عز وجل فيهم، وأن من كان عنده حسنات فإنه لا ينقص منها شيء، ومن كان عنده سيئات فإنه لا يزاد عليها شيء، بل كل ما حصَّل من خير فسيجده أمامه، وما حصل من شر فسيجده أمامه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) . والصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون عليه، وهم متفاوتون في المرور عليه على حسب ما عندهم من الإيمان والأعمال الصالحة، فمنهم من يمر بسرعة البرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب فيقع في النار، ولكن من وقع في النار وهو من أهل الإيمان فإنه لا يخلد فيها، بل لابد وأن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها؛ لأن الجنة حرمت عليهم، والنار هي مقرهم، وهم متفاوتون فيها في الدركات. ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار، وما في الجنة من النعيم المقيم، مما جاء بيانه في القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما في النار من العذاب الأليم الذي جاء بيانه في القرآن وسنة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكل ذلك يجب الإيمان والتصديق به، وأنه حق على حقيقته، وأن كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار ذلك اليوم فإنه يقع طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام. ثم الإيمان بالقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وقد مر الكلام فيه قريباً.
معنى الإحسان في حديث جبريل


ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وهذا فيه بيان عظم شأن الإحسان، وأنه منزلة عالية رفيعة وأنه أعلى من الإسلام والإيمان؛ لأن فيه قدراً زائداً على ذلك، وهو أن الإنسان يعبد الله وكأنه واقف بين يديه، ومن كان كذلك فإنه يتقن عمله فيأتي به على الوجه الأكمل، ولا يحصل منه إخلال فيه. والإحسان كما هو معلوم يكون في عمل الإنسان القاصر مثل الصلاة، فيصلي كأنه واقف بين يدي الله، فهو مقبل على صلاته، ومحافظ عليها وآت بكل ما يلزم فيها، وكذلك يكون في العمل المتعدي، وذلك بالإحسان إلى الناس بالقول أو بالمال، وذلك بإخراج الواجب والمستحب من المال في الزكاة والصدقات، وما إلى ذلك، ويكون أيضاً بالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، وتعليم العلم النافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا كله إحسان إلى من بذل له؛ لأنه يستفيد هدى، ويستفيد علماً نافعاً، يسير به إلى الله عز وجل على بصيرة. ويكون الإحسان بالجاه في وجوه كثيرة، لكن كون الإنسان يأتي بمثل الصلاة، وهو مقبل على الله، ويستشعر بأنه بين يدي الله، فهذه درجة كاملة، ودرجة الكمال لا تحصل لكل أحد، ولا تتيسر لكل أحد. وكذلك إذا لم يكن يراه فإنه يستشعر أن الله مطلع عليه، وأن الله تعالى رقيب عليه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فكل حركاته وسكناته يراها الله تعالى، ويطلع عليها، فإن ذلك أيضاً يدفعه إلى العناية بالعمل، وإلى الإتيان بالعمل على الوجه المطلوب، ولهذا يقول العلماء: إن الإسلام والإيمان والإحسان هي درجات، فالمحسن هو مؤمن ومسلم، ودونه المؤمن فإنه مؤمن مسلم، ودونه المسلم، إذ ليس كل مسلم مؤمناً، وليس كل مؤمن يكون محسناً، أي: بالغاً هذه الدرجة التي جاء وصفها في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والناس متفاوتون في الإيمان وفيما يقوم منه بقلوبهم وفي أعمالهم، وليسوا على حد سواء.
شرح علامات الساعة من حديث جبريل


بعد ذلك سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة: (قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل). أي: علمي وعلمك فيها سواء، والمعنى: أننا لا نعلم شيئاً من ذلك؛ لأن علم الساعة من الأمور التي اختص الله بها فلم يطلع عليها أحداً، فلا يعلم متى تقوم الساعة.. في أي سنة، وفي أي شهر من السنة، وفي أي يوم من الشهر إلا الله، نعم جاء في السنة ما يدل على أنها تقوم يوم الجمعة، فلا تكون في بقية الأيام، لكن في أي يوم من الشهر وفي أي سنة، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: (خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) . وهذا يدلنا على أنه لا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على كثير من الغيوب وأخفى عليه ما شاء من الغيوب، ومما أخفاه عليه قيام الساعة، ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بهذا الجواب فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وإنما أتى بهذا الجواب ليبين أنه هو الجواب الذي يصلح عند كل سؤال عن شيء لا يعلمه السائل ولا المسئول. قوله: (أخبرني عن أماراتها) . الأمارات هي: العلامات، والساعة لها علامات قريبة من قيامها وهي العلامات الكبرى، وعلامات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامات بعد ذلك وبين ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) يعني: أن زمن بعثته قريب من الساعة. وقد جاءت أحاديث تدل على أشراط الساعة، وقد مضى شيء من أشراطها، وهناك أشياء لم تمض، ولكنها لا تعتبر من أشراطها العظام. وهناك أشراط عظام هي التي تكون بين يديها، مثل خروج الدجال وخروج المهدي ، ونزول عيسى بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها. والرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الساعة في حديث جبريل أجاب بهذا الجواب، وفي مواضع أخرى أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان شيء من أماراتها، وكان يرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الاستعداد لها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سأله ذات مرة سائل فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وماذا أعددت لها؟ قال: أعددت لها حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) . فلفت نظره إلى شيء أهم مما سأل عنه، وهو الاستعداد للساعة بالعمل الصالح الذي يجده إذا قامت الساعة، فهذا هو المهم، وليس المهم أن يسأل عن الساعة، فإن الساعة آتية وكل آت قريب، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى. وهذا يدل على أن المهم في أمر المسلم أن يكون مشتغلاً بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل، ليجدها أمامه إذا قامت الساعة، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] وقال في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) . وجاء عليه الصلاة والسلام مرة رجل وهو بين أصحابه يحدثهم، فوقف وقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض عنه واشتغل مع أصحابه في الحديث الذي هو معهم فيه، ولما فرغ من الحديث مع أصحابه الذين كانوا معه قبل أن يأتي هذا السائل قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فهذا سأله عن الساعة فأجابه بشيء من أماراتها. وأما جبريل فإنه سأله عن أمارات الساعة، وفي بعض الروايات أنه قال: (سأخبرك بشيء من أماراتها)، ثم إنه قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها-)، وفسر هذا بأن المراد منه أن يكثر السبي حتى يطأهن أسيادهن وحتى تلد الولد من سيدها فيكون بمنزلة سيدها وإن لم يكن هو سيدها، ولكنه بمنزلة السيد؛ لأنه ابنه وقائم مقامه، وأمهات الأولاد استيلادهن من أسباب عتقهن. ومنهم من قال: إنها تلد من يكون سيداً لقومه أو سيداً للناس، ويكون مسئولاً، كأن يكون ملكاً أو تكون له سلطة فيكون راعياً وإماماً لكل هؤلاء ومنهم أمه. ومنهم من قال: إن هذا إشارة إلى العقوق، وأنه يحصل أن الأمة تلد من يكون سيداً لها، أو يوصف بأنه سيد لها أو أنه ربها، بمعنى: أنه يتسلط عليها ويحصل منه شيء من الإيذاء ومن العقوق لأمه وكأنه بمنزلة من يكون مالكاً لها يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا المعنى هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: إن هذه كلها صفات مذمومة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بصفات مذمومة، وهذا مذموم، وكذلك كون الذين كانوا بعيدين عن المدن، وما عندهم إلا الجفاء والغلظة في بداوتهم ينتقلون إلى أن يتطاولوا في البنيان، فيقول: إن هذا الأمارات كلها من باب واحد، وهي تتعلق بالذم. قوله: [ (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ] الحفاة هم الذين ليس على أرجلهم نعال، والعراة هم الذين لباسهم قليل، وليس معنى ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء، وإنما المعنى أنهم وإن كان عليهم ما يسترهم إلا أن ثيابهم تكون بالية، فهم بمثابة العاري لضعف حالهم ولقلة مالهم، فتجد الإنسان قد يملك ما يستر عورته، وقد يكون عنده أكثر من ذلك، لكنه لا يخرج عن كونه عارياً، بمعنى أن قلة ذات يده جعلته بهذا الوصف، ولا يعني ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء يغطون به سوءاتهم وعوراتهم. والعالة: الفقراء، وهذا يرجع إلى الاثنين؛ لأن من شأن من يكون حافياً ويكون عارياً أن ذلك حصل له من أجل فقره. فكلمة (العالة) يدخل تحتها ما تقدم من كونهم حفاة عراة. قوله: (رعاء الشاء) أي: الذي كان شأنهم رعي الغنم والإبل في البادية، وليس عندهم إلا الجهل والجفاء والغلظة. قوله: (يتطاولون في البنيان) أي يتحولون من محل البادية إلى أن يكونوا في الحاضرة وأن يكونوا بهذا الوصف الذي بينه الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمعروف عن المتقدمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن منازلهم كانت بسيطة، وكان فيها تواضع وسهولة وليس فيها تكلف، وليست مكونة من أدوار كثيرة، وقد جاء في قصة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزوله ضيفاً عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ما يدل على أن بيته مكون من دورين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في الأسفل، وكان أبو أيوب في المكان الأعلى، ثم إنه قال: يا رسول الله تنتقل إلى المكان الأعلى، وأنا أكون في المكان الأسفل؛ لأن غرضه من ذلك ألا يكون فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فوقه؛ ولكن الغالب أنهم كانوا يبنون من غير تكرر الأدوار. وأيضاً يكون السقف قريباً، وقد ذكر بعض أهل العلم آثاراً تدل على هذا المعنى.
حديث جبريل بيان لمراتب الدين


ثم إن جبريل مضى بعدما انتهت هذه الأسئلة، قال عمر : (فلبثنا ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وهذا فيه بيان أن كل ما مضى ذكره يدخل تحت الدين، فهناك أخبار وهناك أحكام، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ كل هذه أحكام يفعلها الإنسان، وأركان الإيمان أمور تعتقد، وهي إخبار عن الله وعن ملائكته، وذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به وكذلك الإيمان بالرسل والكتب واليوم الآخر والقدر، فكل ما جاء عنها وما يتعلق بها هي أخبار يجب التصديق بها. والإحسان عمل، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي بينه. وأما ما سأل به عن الساعة وعن أماراتها؛ فإن تلك من الأمور المغيبة التي يجب التصديق بها، وألا يتكلم فيها إلا بعلم؛ لأن العلامات والإخبار عن أمور مستقبلة هي من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف شيء منه إلا ما جاء به الوحي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة. والحاصل أن حديث جبريل المشهور حديث عظيم مشتمل على أمور كثيرة مهمة وعلى أصول عظيمة في العبادات، وفيما يتعلق بما يقوم بالقلوب، وبما يقوم بالجوارح، وبما يقوم باللسان، وفيه إخبار عن أمور مغيبة لا تعرف إلا عن طريق الوحي. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وقد أثنى العلماء على هذا الحديث وبينوا عظيم شأنه وأهميته، وأنه مشتمل على أصول عظيمة ولذا فإن الإمام مسلم رحمه الله صدر به صحيحه، فكان أول حديث عنده في كتاب الإيمان.
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين


قوله: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ ]. هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثنا أبي ]. هو معاذ بن معاذ العنبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا كهمس ]. هو كهمس بن الحسن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن بريدة ]. هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن يحيى بن يعمر ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عبد الله بن عمر ]. هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ حدثني عمر بن الخطاب ]. عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
الأسئلة



معنى قول المعتزلة عليم بذاته


السؤال: ما معنى قول المعتزلة: عليم بذاته، قدير بذاته، سميع بذاته، وهل يفهم من ذلك أنهم يثبتون الصفات؟ الجواب: المعتزلة يثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات، فهم يقولون: سميع بلا سمع، ومعناه: أن اسمه سميع، ولكنه سميع بذاته، وليس بسمعه.

تقدم الحساب في القبر على وزن الأعمال


السؤال: يقام يوم القيامة الميزان بالقسط، فلماذا يبدأ الحساب في القبر؟ الجواب: القبر كما هو معلوم فيه امتحان واختبار، وأما الميزان الذي هو لحصر الأعمال، ومعرفة الحسنات والسيئات، والوزن إنما يكون يوم القيامة، ولكن الجزاء يكون في القبر لمن كان مستحقاً لأن يجازى ويعذب في القبر.

كل رسول قد نزل عليه كتاب من عند الله


السؤال: ذكرتم في التفريق بين النبي والرسول أن الرسول ينزل عليه كتاب بشريعة جديدة، ألا يشكل على ذلك سليمان، فهو رسول، ولمن ينزل عليه كتاب بشريعة؟ وكذلك آدم؟ الجواب: ما هو الدليل على أنه لم ينزل عليه كتاب؟ فإن عدم ذكر الكتاب الذي أنزل عليه لا يدل على أنه لم ينزل عليه كتاب، وقد جاء في القرآن أن كل رسول أنزل الله عليه كتاباً: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ )) والألف واللام في (الكتاب) للجنس وليست لكتاب معين؛ لأن الله ما أنزل على رسله كتاباً واحداً وإنما أنزل عليهم كتباً، ولهذا لفظ الكتاب يأتي كثيراً في القرآن ويراد به الجنس، كما أنه يراد به العهد الذهني مثل قول الله عز وجل: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] أي: القرآن؛ لأن (أل) للعهد الذهني، يعني: الكتاب المعهود بالأذهان، وقول الله عز وجل: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ )) المراد به: الكتب لأن المراد به: الجنس. وقول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:48] فالأول القرآن والثاني الكتب السابقة، وكلها بلفظ الإفراد إلا أن هذا للجنس وهذا للإفراد. وكما قال الله عز وجل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ [البقرة:177] أي: الكتب، وكذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136] وهو القرآن وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] أي: الكتب. وكذلك أيضاً يأتي الكتاب مضافاً إلى معرفة فيكون عاماً ويراد به الكتب، كما في قول الله عز وجل في آخر سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [التحريم:12] على قراءة جمهور القراء ( كتابه ) وهي لا تخالف قراءة: (( وَكُتُبِهِ )) لأن الكتاب المقصود به الكتب؛ لأنه مفرد مضاف إلى معرفة فيكون عاماً. فالحاصل أن الكتاب يأتي مفرداً محلى بالألف واللام، ويأتي مضافاً إلى معرفة فيراد به الجنس، ولا يراد به خصوص كتاب معين. وأما آدم فهو نبي وهو رسول إلى أولاده، ونوح إنما أرسل بعدما حصل الشرك وتغيرت الفطرة، وأما آدم فإنه يعمل بما أوحى الله تعالى به إليه، وكذلك أبناؤه يعملون بما أوحي إليه به، ولا ينافي هذا ما جاء في حق نوح: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] لأن نوحاً عليه السلام أرسل بعدما وجد الشرك، وأما في زمن آدم فلم يحصل الخروج عن الشيء الذي فطر الله الناس عليه، كما جاء في الحديث: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) وكما جاء في الحديث الآخر: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

ترتيب مشاهد يوم القيامة


السؤال: ما هو الترتيب الصحيح لمشاهد يوم القيامة: الشفاعة، والحوض، والميزان، وغيرها؟ الجواب: الحوض قيل: إنه في عرصات القيامة؛ لأن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً، فيأتون للحوض ليشربوا منه، فيذاد عنه من يذاد ويشرب منه من يشرب، والناس يجتمعون في صعيد واحد بعد أن يخرجوا من قبورهم ويذهبون إلى المحشر، ثم يأتي الله لفصل القضاء بينهم، ويحاسبهم على أعمالهم، ثم تنصب الموازين وتوزن الأعمال، ثم بعد ذلك يكون العبور على الصراط، والذهاب إلى الجنة أو النار، والنار في الطريق إلى الجنة، والصراط منصوب عليها، والناس يمرون عليه من فوق جهنم، فمن وقع فيها وقع، ومن سلمه الله تجاوز ودخل الجنة.

كلام الشيخ ابن عثيمين على تعريف الإيمان بالتصديق


السؤال: أنكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية تعريف الإيمان لغة بالتصديق، وذكر أن آمن فعل متعد لغيره، وصدق متعد بنفسه، فنرجو التوضيح. الجواب: لا أتذكر هذا التفصيل، لكن الإيمان في اللغة هو التصديق كما قيل.

الجمع بين حديث ( الدنيا ملعونه ... ) وبين النهي عن سب الدهر


السؤال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها) هل هذا يعتبر من سب الدهر؟ الجواب: ليس هذا من سب الدهر، وإنما هو بيان لحقارة الدنيا وضآلتها، وأنه لا خير فيها إلا ما كان على الطريقة الصحيحة كما قال: (إلا ذكر الله وما والاه) . وأكثر الناس هالكون، والناجون هم القليلون، قال الله عز وجل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] فالشر واسع، والمهتدون قليلون، ولهذا يقول بعض أهل العلم: لا تغتر بطريق الشر ولو كثر السالكون، ولا تزهد في طريق الخير لقلة السالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!

حكم الصلاة في الدور الثاني من المسجد النبوي

السؤال: بعض الناس لا يصلي في الدور الثاني في المسجد النبوي بحجة أنهم يكونون في مكان فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما حصل من أبي أيوب الأنصاري عندما طلب من النبي أن يصعد إلى الدور الأعلى من بيته عندما نزل ضيفاً عليه في أول الهجرة فما رأيكم؟ الجواب: هذا ليس بصحيح؛ لأن سطح المسجد منه، و أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أراد ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحته في المنزل، وأما المسجد فسواء كان من دور أو دورين فالصلاة في أي دور هي صلاة في المسجد، والإنسان الذي يصلي في سطح المسجد حكمه مثل الذي يصلي في أسفل المسجد، فتكون صلاته بألف صلاة."



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #874  
قديم 04-07-2025, 11:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [529]
الحلقة (559)



شرح سنن أبي داود [529]

إن حقيقة الإيمان بالقدر أن يعرف المرء أن كل ما حصل له فلا سبيل إلى الخلاص منه، وأن كل ما أخطأه فلا سبيل إلى التحصل عليه، وكل هذه الأقدار التي قدرت على المخلوقين سبق وأن كتبت في اللوح المحفوظ، فقد خلق الله القلم وأمره بكتابة المقادير إلى قيام الساعة، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن هذه الكتابة كانت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فمن أنكر القدر وزعم أن لاوجود له فقد كفر بالدين، وفارق جماعة المسلمين.

تابع ما جاء في القدر



شرح حديث العمل على ما خلا ومضى من القدر


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عثمان بن غياث قال: حدثني عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن قالا: لقينا عبد الله بن عمر فذكرنا له القدر وما يقولون فيه، فذكر نحوه زاد قال: (وسأله رجل من مزينة أو جهينة فقال: يا رسول الله! فيم نعمل، أفي شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا ومضى. فقال الرجل أو بعض القوم: ففيم العمل؟ قال: إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وإن أهل النار ييسرون لعمل أهل النار) ]. أورد أبو داود رحمه الله حديث جبريل من طريق أخرى وفيه الزيادة أن رجلاً من مزينة أو من جهينة سأله عن القدر فقال: (أفي شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا ومضى). يعني: أن الناس يعملون في شيء سبق به علم الله وتقديره وكتابته ومشيئته، فقيل: (ففيم العمل؟) وهذا مثل ما جاء في حديث علي الذي مر قريباً وفيه أنهم قالوا: (أنتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: لا. اعملوا فكل ميسر، أهل السعادة ييسرون للسعادة، وأهل الشقاوة ييسرون للشقاوة)، ومعنى ذلك: أن الناس لا يتركون العمل بناءً على أنه سبق القضاء والقدر بما هم صائرون إليه -فإن الله تعالى قدر ما هم صائرون إليه، وقدر الأسباب التي توصل إليه- بل يأخذون بالأسباب التي قدرها الله عز وجل، والغايات تأتي بعد وجود السبب الذي قدره الله عز وجل من العمل الصالح أو العمل السيئ، فمن عمل صالحاً انتهى إلى نهاية حسنة، ويسر لعمل أهل السعادة، ومن عمل بخلاف ذلك انتهى نهاية سيئة، ويسر لعمل أهل الشقاوة والعياذ بالله!
تراجم رجال إسناد حديث العمل على ما خلا ومضى من القدر


قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي. [ حدثنا يحيى ]. هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عثمان بن غياث ]. عثمان بن غياث ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثني عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن ]. هنا حميد بن عبد الرحمن يشارك يحيى بن يعمر في الرواية، والرواية السابقة هي من لفظ يحيى بن يعمر ، و حميد بن عبد الرحمن الحميري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ لقينا عبد الله بن عمر ]. عبد الله بن عمر مر ذكره.
شرح حديث جبريل في مراتب الدين بزيادة (والاغتسال من الجنابة) في تفسير النبي للإسلام


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي عن سفيان قال: حدثنا علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن ابن يعمر بهذا الحديث يزيد وينقص قال: (فما الإسلام؟ قال: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة). قال أبو داود : علقمة مرجئ ] . أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى وفيه أنه فسر الإسلام (بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة). الاغتسال من الجنابة هي زيادة على ما جاء في الحديث، والحديث جاء فيه زيادات عن عمر وعن أبي هريرة ، وكذلك عن غيرهم. وإسناد هذا الحديث صحيح، رجاله كلهم ثقات، فإذاً هو صحيح، وهناك زيادات أخرى جاءت في طرق أخرى، وقد ذكر الحافظ ابن حجر تلك الزيادات التي جاءت في مختلف الأحاديث، وكذلك ابن رجب في شرح الحديث في جامع العلوم والحكم.
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين بزيادة (والاغتسال من الجنابة) في تفسير النبي للإسلام


قوله: [ حدثنا محمود بن خالد ]. هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا الفريابي ]. هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سفيان ]. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا علقمة بن مرثد ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سليمان بن بريدة ]. وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن . [ عن ابن يعمر في هذا الحديث يزيد وينقص ]. هو يحيى بن يعمر . [ قال أبو داود : علقمة مرجئ ]. يعني: أنه ينسب إلى الإرجاء.
شرح حديث جبريل في مراتب الدين مع زيادة: اتخاذ النبي مكاناً مرتفعاً يجلس عليه ليعرفه الغريب


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي فروة الهمداني عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي ذر و أبي هريرة قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه قال: فبنينا له دكاناً من الطين، فجلس عليه وكنا نجلس بجنبتيه، وذكر نحو هذا الخبر، فأقبل رجل فذكر هيئته، حتى سلم من طرف السماط فقال: السلام عليك يا محمد قال: فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة و أبي ذر رضي الله تعالى عنهما، وما تقدم من طرق فهي لحديث عمر رضي الله تعالى عنه، وأما هذا فهو عن أبي ذر وعن أبي هريرة ، و أبو هريرة خرج حديثه البخاري أيضاً كما خرجه مسلم ؛ لأن حديث جبريل متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وهو من أفراد مسلم من حديث عمر ، وقد شرح الحافظ ابن حجر حديث أبي هريرة شرحاً مطولاً في كتاب الإيمان، والإمام النووي رحمه الله لما ألف كتابه الأربعين النووية جعل أول حديث فيه أول حديث في البخاري ، وثاني حديث فيه أول حديث في صحيح مسلم ، فالحديث الأول والثاني هما أول ما في الصحيحين، فحديث عمر (إنما الأعمال بالنيات) أول حديث في صحيح البخاري ، وحديث عمر الذي هو حديث جبريل أول حديث في صحيح مسلم . قوله: [ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه) ]. أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه غير متميز عنهم، وإذا أتى شخص غريب لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم لم يميز من هو الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الجالسين، فعرض عليه أصحابه أن يبنوا له مكاناً مرتفعاً يجلس عليه حتى يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يلتبس على الناس، فوافق على ذلك فبنوا له دكاناً، أي: دكة من الطين، وهو مكان مرتفع، فكان يجلس عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وجلوسه مع أصحابه بحيث لا يعرف يعد من تواضعه وكمال خلقه صلى الله عليه وسلم، فرأى أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أن المصلحة أن يتميز حتى إذا أتى الغريب عرف الرسول صلى الله عليه وسلم من أول وهلة، فكان من شأنهم أن عرضوا عليه، وهذا من أدبهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإنهم ما أقدموا على ذلك دون إذن، ولكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشيء وعرضوه عليه فأجابهم، فبنوا له دكاناً من الطين يجلس عليه وهم يجلسون حوله حتى يعرفه الغريب. وفي هذا دليل على جواز كون المعلم يكون على مكان مرتفع كالكرسي أو غيره من أجل أن يكون بارزاً وأن يراه الجميع ويتمكنوا من الاستفادة منه. قوله: [ (حتى سلم من طرف السماط) ]. يعني: المجلس، وهذا فيه دليل على أنه قد سلم، وأن ما جاء في بعض الروايات من عدم ذكر السلام لا يدل على عدمه؛ فيكون بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، وأتى بما لم يأت به الآخر، فيكون كل ذلك معتبراً، ويكون كل ذلك ثابتاً مادام أنه جاء من طريق صحيح، فلا يقال: إن الرواية التي جاء فيها عدم ذكر السلام تدل على أن السلام لم يحصل، بل قد ثبت في بعض الطرق ما يدل على أن السلام قد وجد فيكون ذلك من فعل بعض الرواة إما لكونه لم يعرف ذلك، أو لكونه اختصر الحديث، فلم يذكر كل ما جاء فيه. قوله: (فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم) ] جاء بلفظ: (السلام عليك يا محمد) ولا يبعد أن يكون سلم سلاماً عاماً، ثم سلم سلاماً خاصاً.
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين مع زيادة: اتخاذ النبي مكاناً مرتفعاً يجلس عليه ليعرفه الغريب


قوله: [ عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي ، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة. [ حدثنا جرير ]. هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي فروة الهمداني ]. هو عروة بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . [ عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي ذر و أبي هريرة ]. أبو ذر هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. وأبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
الأسئلة



حرية ابن الرجل من أمته


السؤال: أم الولد هل ابنها من سيدها يكون حراً، أم يكون مملوكاً لسيدها وينسب إليه؟ الجواب: ابن الرجل من أمته حر؛ لأنه يكون تبعاً لأبيه، بل إن أمه تعتق بسببه، أما الذي يمكن أن يكون عبداً فهو ابن الأمة إذا تزوجها الحر مضطراً إلى ذلك؛ لأنه يكون تبعاً لأمه إلا إذا اشترط الأب.

لا يجوز بيع أم الولد


السؤال: أم الولد إذا باعها سيدها على القول بجواز بيعها، فهل يفوت عليها بذلك عتقها بعد موته؟ الجواب: الصحيح أنه لا يجوز بيع أمهات الأولاد، وإنما تبقى في ملكه ثم تعتق بعد موته ولا تكون ميراثاً لورثته. ولهذا كانوا يعزلون عن الإماء مخافة أن تحمل؛ لأنها إذا حملت خرجت من كونها مالاً يتصرف فيه، لأنها أصبحت أم ولد وأم الولد لا تباع، وهم يريدون أن يستمتعوا بهن ويبيعوهن إذا احتاجوا إلى بيعهن.

حكم القضاء عمن مات وعليه صوم


السؤال: توفيت والدتي وعليها صيام خمسة وعشرين يوماً أفطرتها من شهر رمضان؛ لأنها كانت مريضة، وقبل وفاتها أوصت أبناءها بصيام هذه الأيام، ولكن أبناءها أطعموا عن كل يوم مسكيناً، فهل نصوم عنها هذه الأيام لأنها أوصت بصيامها، أو نكتفي بالإطعام السابق؟ الجواب: إذا أفطرت هذه المرأة خمسة وعشرين يوماً، واستمر معها المرض حتى ماتت، فإنه لا قضاء عليها، ولا إطعام؛ لأنها ما تمكنت من القضاء ولم تفرط، أما إذا أفطرت أياماً من رمضان وشفيت بعد ذلك وتمكنت من القضاء ولكنها لم تقض فإنه يقضى عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ولا يكفي الإطعام الذي فعلوه عنها؛ لأن هذا دين عليها، وهذا شيء واجب عليها، وقد فرطت فيه؛ حيث تمكنت من القضاء ولم تقض.

دعوة الصائم عند فطره


السؤال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد) هل المراد بكلمة (عند) هنا ما قبل الفطور، وهل هذا الدعاء معين أو أي دعوة؟ الجواب: معلوم أنه يدعو عندما يريد أن يفطر وأثناء البدء بإفطاره، فهذا هو المناسب لهذا الدعاء؛ لأن الفطر يحصل بكونه يأكل أول لقمة، لكن لا نعلم دعاءً معيناً عند الإفطار.

حكم مناداة الرسول باسمه


السؤال: جاء في حديث أبي ذر و أبي هريرة قول جبريل: (السلام عليك يا محمد) فناداه باسمه، فهل جاء النهي عن ذلك؟ الجواب: معلوم أنه جاء في أحاديث كثيرة مناداة النبي باسمه، ولا أعلم حديثاً في النهي عن ذلك.

تابع ما جاء في القدر


شرح حديث (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبي سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن ابن الديلمي قال: (أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، قال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار) . قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك ]. سبق في باب القدر من سنن أبي داود بعض الأحاديث وآخر ما مضى حديث جبريل، وهنا حديث أبي بن كعب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد جاء عبد الله بن فيروز الديلمي إلى أبي بن كعب وقال: (وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي!). فقال رضي الله عنه في جوابه على هذا: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولكن قد جاء به الحديث مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وذلك أنهم يحصل منهم التقصير ويحصل منهم الخلل، فلا يتجاوز عنهم ما يحصل من أي أحد منهم، فيكون قد عذبهم وهو غير ظالم لهم. قوله: [ (ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) ] وذلك أن أعمالهم التي يعملونها لله عز وجل هي أيضاً من رحمة الله عز وجل بهم ومن توفيقه لهم، وما حصل منهم شيء من الأعمال الصالحة إلا بتوفيق الله عز وجل، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً؛ لأنه هو المتفضل بهذه النعمة. قوله: [ (ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر) ]. وذلك أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان، وقد سبق أن مر مثل ذلك عن عبد الله بن عمر بين يدي حديث جبريل.
وجوب إيمان العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه


قوله: [ (وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) ]. هذا هو الإيمان بالقدر، ومعنى هذا: أن كل ما حصل لك لا سبيل إلى تخلصك منه؛ لأن الله تعالى قد قدره فلابد من أن يوجد، والشيء الذي أخطأك ولم يصبك لا يمكن أن يصيبك، وهذا هو معنى قول المسلمين: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) فقولهم: (ما شاء الله كان) مأخوذ من قوله: (وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك) أي أن الشيء الذي قدر الله أن يكون لابد من أن يوجد، والشيء الذي قدر ألا يكون لا سبيل إلى وجوده، فالشيء الذي يحصل لك ويقع لك لا يمكن أن يتخلف، والشيء الذي قدر ألا يحصل لك لا يمكن أن يكون، كما جاء في الحديث الآخر في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) والكلام الذي جاء هنا عن أبي بن كعب قد جاء أيضاً مرفوعاً، والصحابي الآخر قد حدث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبق أن مر بنا أن الحسن البصري رحمة الله عليه لما سئل عما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام من الأكل من الشجرة قال: (لو أن آدم اعتصم ولم يأكل من الشجرةلم يكن له بد من ذلك)، وذلك لأن هذا الشيء الذي قدره الله لا بد منه، ولا يقال: إن هذا جبر، وإن العباد لا اختيار لهم، بل لهم اختيار ولهم مشيئة، وما يحصل منهم يكون بمشيئتهم وإرادتهم، ويقع الذي قدره الله عز وجل وقضاه، فيجتمع في ذلك إرادة العبد حصول الشيء الذي قد حصل له، وكون ذلك الذي حصل منه لا يخرج عما قدره الله وقضاه كما قال الله عز وجل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]. فلا يمكن أن يحصل من العبد شيء ما لم يقدره الله، بل الذي قدره الله عز وجل له سبب يؤدي إليه، والمقدر غاية تأتي نتيجة لهذا السبب، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له كما في الحديث المتقدم: (أنتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة) . ولهذا فإن القدر لابد فيه من أمرين: مشيئة من العبد، ومشيئة من الله عز وجل، وهذا في الشيء الذي للعبد فيه إرادة ومشيئة، أما الشيء الذي ليس للعبد فيه إرادة ولا مشيئة فإنما يقع بقضاء الله وقدره، وذلك مثل حركة المرتعش، وأما الأفعال الاختيارية كالأكل والشرب والسفر والذهاب والإياب والبيع والشراء وغير ذلك، فإنها تحصل بمشيئته وإرادته.
كيف يعرف الناس الشيء المقدر؟


ذكرت فيما مضى أن الناس لا يعرفون المقدر إلا بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فكل شيء وقع فقد قدر؛ لأنه لا يقع إلا ما قدر، (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن): فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن والأمر الثاني: أن يحصل الإخبار من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن أمر مستقبل، فإن هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يقع، وكل شيء يقع لابد أن يكون مقدراًَ، ومن ذلك إخباره عن الدجال، وعن خروج يأجوج ومأجوج، وعن نزول عيسى بن مريم، وغير ذلك من الأمور التي تقع بين يدي الساعة وما حصل قبل ذلك، وما حصل بعد زمنه بوقت يسير مثل قوله صلى الله عليه وسلم عن الحسن: (إن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) . فإن هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حق وصدق لابد أن يوجد، ويعتقد بأنه سبق به القضاء والقدر؛ لأنه لا يقع في الوجود إلا ما هو مقدر.
كفر غلاة القدرية الذين ينكرون القدر


قوله: [ (ولو مت على غير هذا لدخلت النار) ]. أي: إذا كان منكراً للقدر، وقد سبق أن الغلاة من القدرية الذين ينكرون العلم قد قال العلماء بتكفيرهم، وأما الذين أثبتوا العلم لله عز وجل، ولكنهم قالوا: إنهم ينزهون الله عن أن يقدر المعاصي ويريدها فقد اختلف العلماء في تكفيرهم. قوله: [ ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ]. يعني: أن الصحابة الثلاثة الأولين ذكروا ذلك من غير إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا من الأمور التي لا تقال من قبل الرأي، وأيضاً فإن زيد بن ثابت الذي جاء ذكره آخراً قد رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعاً من هذا الصحابي، وموقوفاً من أولئك الذين تقدموا، فهو إذاً ثابت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
متى يسأل الإنسان أكثر من عالم؟


وجاء في بعض طرق هذا الحديث أن كل صحابي كان يجيبه ثم يحيله على أخيه، ولم يسأل هذا السؤال أكثر من واحد من تلقاء نفسه، أخرجه ابن ماجة هكذا، وذكره الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح في القدر. ولعل هذا أيضاً وقع منه حتى يتأكد من زوال ما في قلبه من اللبس، لكن فيما يتعلق بالأمور التي هي أحكام شرعية لا يحيل العالم إلا إذا اجتهد في الجواب وقد رجا أن يكون عند غيره دليل، مثل ما جاء عن أبي موسى في قصة الميراث لما أفتى ثم قال للسائل: واذهب إلى ابن مسعود فسيتابعني، فقال ابن مسعود : قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين .... إلخ الحديث. فإذا كان العالم غير مطمئن للجواب فإنه يحيل على غيره، وأما إذا ذهب المستفتي إلى من يثق بعلمه ودينه فأفتاه فلا يكثر الأسئلة؛ لأنه قد يحصل له الجواب على اجتهادات مختلفة فيتشوش، وأما إذا كان الأمر يحتاج إلى استثبات مثل قصة هذا الرجل الذي وقع في نفسه شيء من القدر، وهو يريد أن يتحقق من زوال ما في نفسه منه؛ فله ذلك، ولهذا سأل أكثر من واحد واتفقوا على شيء واحد يجعله يكون مطمئناً لما أجيب به، وهذا إنما هو تبصير وبيان لشيء وقع في نفسه مما يتعلق بالقدر.
تراجم رجال إسناد حديث (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم...)


قوله: [ حدثنا محمد بن كثير ]. هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا سفيان ]. سفيان هو الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سنان ]. هو سعيد بن سنان، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن. [ عن وهب بن خالد الحمصي ]. وهب بن خالد الحمصي ثقة، أخرج له أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ عن ابن الديلمي ]. هو عبد الله بن فيروز، وهو ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة. [ أتيت أبي بن كعب ]. أبي بن كعب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ ثم أتيت عبد الله بن مسعود ]. هو عبد الله بن مسعود الهذلي ، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ ثم أتيت حذيفة بن اليمان ]. حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ ثم أتيت زيد بن ثابت ]. زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث أول ما خلق الله القلم


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا جعفر بن مسافر الهذلي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا الوليد بن رباح عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني) ]. أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهذا مثل ما تقدم في الحديث السابق الذي جاء عن جماعة من الصحابة، ثم إنه ذكر بعد هذا الذي قاله لابنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: ربَّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة). قوله: [ (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ] هذا يبين ما ذكره أولاً لابنه من أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي: أن الذي قدره الله عز وجل وكتبه في اللوح المحفوظ من أن كذا سيصيب هذا الشخص، أو يخطئ هذا الشخص، فالذي أصابه لابد له منه ولا يمكن التخلص منه، والذي أخطأه لا سبيل إلى حصوله؛ لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وفي الحديث دليل على إثبات القدر وعلى الكتابة، لأن القلم لما خلقه الله عز وجل قال له: (اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن هذه الكتابة كانت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. واستدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن القلم هو أول المخلوقات في هذا العالم، ومنهم من قال: إن العرش كان قبله؛ لأنه جاء في الحديث الذي فيه الكتابة قوله: (كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) فيكون قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) معناه: أنه من أول ما خلقه الله. ومنهم من قال: إن العرش كان موجوداً من قبل أن يكتب القضاء والقدر، وقبل أن يخلق القلم الذي أمر بكتابة المقادير التي قدرها الله عز وجل حتى تقوم الساعة. و رجح ابن القيم رحمه الله في النونية أنه العرش فقال: والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان لأهل العلم مشهوران والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان قوله: [ قال عبادة بن الصامت لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك) ]. معناه: أن الإيمان بالقدر وحقيقته وكون الإنسان متصفاً بالإيمان به، إنما يكون بمعرفة أن كل ما حصل للإنسان فإنه لا سبيل إلى السلامة منه، وأن كل شيء أخطأه لا سبيل إلى حصوله، وعلى هذا فلابد من الإيمان بالقدر، وأن كل شيء مقدر لابد من أن يكون، وأن ما قدر الله أن يكون فإنه يكون طبقاً لما أراد، وما قدر ألا يكون فإنه لا يمكن أن يكون. قوله: [ (من مات على غير هذا فليس مني) يعني: أن من مات على عدم الإيمان بالقدر، أو على إنكار القدر فليس مني.
تراجم رجال إسناد حديث أول ما خلق الله القلم


[ حدثنا جعفر بن مسافر الهذلي ]. هو جعفر بن مسافر الهذلي أبو صالح ، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة. [ حدثنا يحيى بن حسان ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة . [ حدثنا الوليد بن رباح ]. وهو صدوق، أخرج له أبو داود . [ عن إبراهيم بن أبي عبلة ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ عن أبي حفصة ]. وهو مقبول، أخرج له أبو داود . [ قال عبادة بن الصامت ]. عبادة بن الصامت رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة."


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #875  
قديم 04-07-2025, 11:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [530]
الحلقة (560)





شرح سنن أبي داود [530]

لقد خلق الله هذا الإنسان مفطوراً على توحيده، وأخذ منهم الميثاق على عبوديته وتمجيده، بعد أن استخرجهم ن ظهر آدم أبيهم، وشهدوا بذلك على أنفسهم، ثم إن من المشاهد المحسوس، والمعلوم الملموس: أن القدر لا يحتج به عند المعايب والذنوب، وإنما يحتج به عند المصائب والكروب، وعلى هذا حمل حديث المحاجاة بين موسى وآدم عليهما السلام.

تابع ما جاء في القدر


شرح حديث أبي هريرة في محاجة آدم وموسى


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا سفيان ، ح: وحدثنا أحمد بن صالح المعنى حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى) . قال أحمد بن صالح عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في محاجة آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام. ومن المعلوم أن القدر لا يجوز الاحتجاج به على ترك أمر، ولا على فعل نهي، فالإنسان إذا حصلت منه معصية بأن ترك مأموراً وعوتب على ذلك فلا ينفعه أن يقول: هذا شيء مقدر، وكذلك إذا قيل له: لماذا زنيت؟ لا ينفعه أن يقول: هذا شيء مقدر، بل يعاقب العقوبة التي يستحقها ويقال: أذنبت ذنباً وهو مقدر وهذه عقوبتك وهي مقدرة، وكل شيء بقضاء وقدر. وهذا الحديث فيه المحاجة بين آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام وأن موسى قال لآدم ما قال، وأجابه آدم بأن هذا شيء قد كتبه الله عليه قبل أن يخلق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فحج آدم موسى)، يعني: غلبه بالحجة. ففي الحديث أن آدم احتج بالقدر على المعصية، وقد أجيب عن هذا الحديث وتوجيهه -مع أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي- بجوابين: أحدهما ذكره ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو: أن الاحتجاج بالقدر إنما هو على المصيبة التي جاءت نتيجة للذنب، وترتبت على الذنب، وليس على الذنب والمعصية، فهو ما لامه على المعصية، وإنما لامه على الأمر الذي تبع المعصية، وهو المصيبة التي حلت به وبذريته بأن أخرجوا من الجنة، والتي جاءت نتيجة للذنب، قالوا: والقدر يحتج به على المصائب ولا يحتج به على المعائب. والتوجيه الثاني: وقد ذكره ابن القيم نفسه، قال: وهو أنه إذا كان الإنسان لم يتب من الذنب فإن احتجاجه بالقدر غير صحيح ولا يعتبر؛ لأنه مصر على الذنب وغير تائب منه، وأما إذا كان قد تاب منه فلامه لائم واحتج بالقدر، فعند ذلك يجوز، وفعل آدم عليه الصلاة والسلام هو من هذا القبيل؛ لأنه بعد التوبة. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذين التوجيهين في كتابه شفاء العليل بما يتعلق بالقضاء والقدر، وقد عقد باباً خاصاً لهذا الحديث والكلام عليه، وذكر كلام كثير من الناس، ومنها أقوال باطلة تتعلق بالقضاء والقدر وشرح هذا الحديث وبيان معناه، واختار هذين التوجيهين اللذين أحدهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية والثاني له، وهذا باب من أبواب ثلاثين أوردها في كتابه شفاء العليل. قوله: [ (فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده) ]. هذا فيه بيان أن موسى كليم الله، وأن الله تعالى اصطفاه بالكلام، وفيه دليل على أن التوراة هي مما خطه الله عز وجل بيده. ومعلوم أن الكلام حصل أيضاً لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كليم الرحمن كما أن موسى كليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، فقد اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم ما تفرق في غيره، فالخلة لإبراهيم والكلام لموسى، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام له الوصفان: الخلة والتكليم. وقد جاء في الحديث أيضاً أن آدم نبي مكلَّم. قوله: [ (وخط لك التوراة بيده) ] لا يدل على أن التوراة مخلوقة؛ لأن كلام الله عز وجل مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا يقال: إنه مخلوق؛ لأنه كلام الله الذي تكلم به وكتبه، فلا يقال: إن هذا الكتاب الذي هو من كلامه وخطه بيده يكون مخلوقاً، فكلام الباري غير مخلوق سواء تكلم به أو خطه، وكلام المخلوق مخلوق سواءً تكلم به أو خطه. ووقعت هذه المحاجة في الحياة البرزخية قبل يوم القيامة، والله أعلم؛ لأنه من المعلوم أن الناس يموج بعضهم في بعض عندما يبعثون من قبورهم ويرى بعضهم بعضاً، ولهذا جاء في حديث الشفاعة أنهم يأتون إلى آدم وموسى وغيرهما يطلبون منهم أن يشفعوا في الانتهاء من الموقف، فالذي يبدو أنه قبل يوم القيامة؛ ومعلوم أن الأنبياء أجسادهم في قبورهم، ولكنهم يلتقون أرواحاً على صور أجسادهم مثل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فإنه لقيهم وصلى بهم في بيت المقدس. قوله: [ (قال: تلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟) ]. وهذا كما هو معلوم تقدير آخر غير التقدير الأول الذي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، و ابن القيم رحمه الله ذكر عدة تقديرات جاءت بها أحاديث، ومنها تقدير سنوي، وتقدير يومي، وهذا التقدير الذي جاء قبل خلق آدم، وذكر تقديرات أخرى.
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في محاجة آدم وموسى


قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا سفيان ]. هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ ح وحدثنا أحمد بن صالح ]. هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي في الشمائل. [ المعنى عن سفيان بن عيينة ]. الفرق بين الروايتين هو ذكر النسب؛ لأن الأول ما نسبه فقال: (حدثنا سفيان)فقط، وأما الثاني وهو أحمد بن صالح فقال : (حدثنا سفيان بن عيينة) فهذا هو سر التحويل وكونه أتى بالإسناد أولاً ثم أتى بتحويله. [ عن عمرو بن دينار ]. عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ سمع طاوساً ]. هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ سمعت أبا هريرة ]. هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه. [ قال أحمد بن صالح : عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة ]. يعني: أن أحمد بن صالح قال في روايته: عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة. وهناك قال: سمعت أبا هريرة، وفي الإسناد الأول: عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث عمر في محاجة آدم وموسى وتراجم رجال إسناده


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى قال: يا ربَّ! أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال له آدم: نعم. قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى. قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء الحجاب لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال: نعم. قال: أفما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال: نعم. قال: فبم تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء قبلي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: فحج آدم موسى فحج آدم موسى) ]. وهذا الحديث مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة توضح أن موسى طلبه، وأنه لما لقيه سأله وذكر ما ذكر وإلا فإن المعنى واحد، وقد عرفنا التوجيه الذي ذكره ابن القيم عن نفسه وعن شيخه. قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب ]. أحمد بن صالح مر ذكره، و ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرني هشام بن سعد ]. هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن زيد بن أسلم ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أن عمر بن الخطاب ]. عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله القعنبي عن مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني: (أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: (( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ )) قال: قرأ القعنبي الآية فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) ]. أورد أبو داود رحمه الله حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] فذكر الحديث، وهو من جنس الأحاديث السابقة فيما يتعلق بأن العمل مطلوب، وأن الناس لا يعرفون المقدر، وأن عندهم مشيئة وإرادة، وأن من اختار طريق السعادة فإنه ييسر لها، ومن اختار طريق الشقاوة فإنه ييسر لها، وينتهي الأول للجنة، وينتهي الآخر إلى النار. والحديث ذكر الشيخ ناصر أنه صحيح، إلا قضية المسح باليد على ظهر آدم، وإلا فإن استخراج الذرية من ظهر آدم وتمييزهم إلى شقي وسعيد قد جاء في الأحاديث وفي تفسير هذه الآية، وقد ذكر العلماء في تفسيرها معنيين: أحدهما: هذا الذي جاء في الحديث. والثاني: أن الله تعالى فطر الناس على التوحيد، فمنهم من يكون على هذا الشيء الذي فطر عليه، ومنهم من ينحرف عن الجادة. ولكن قد جاء الحديث في بيان سبب نزولها، وأنهم استخرجوا من ظهر آدم. فإن قيل: ما الحكمة من مسح ظهر آدم؟ فإننا نقول: الله تعالى أعلم! وهذه اللفظة كما عرفنا أن الشيخ ناصر قال إنها غير ثابتة، لكن جاء في بعض الطرق أنه ضرب كتفه اليمنى واستخرج كذا، وليس فيه ذكر المسح بالظهر، لكن الله عز وجل استخرج الذرية من الظهر، والله تعالى أعلم بالحكمة في ذلك.
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية...)


قوله: [ حدثنا عبد الله القعنبي ]. هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة . [ عن مالك ]. هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن زيد بن أبي أنيسة ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ]. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مسلم بن يسار الجهني ]. وهو مقبول، أخرج له أبو داود و الترمذي و النسائي . [ أن عمر بن الخطاب ]. قد مر ذكره. أما الاتصال بين مسلم بن يسار و عمر فسيأتي في الحديث الذي بعده أن فيه واسطة.
حديث (إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية...) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن المصفى حدثنا بقية حدثني عمر بن جعثم القرشي حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا الحديث، وحديث مالك أتم ]. أورد الحديث من طريق أخرى وأحاله على الطريق الأولى ثم ذكر أن حديث مالك أتم، وهو الذي ليس فيه ذكر نعيم بن ربيعة . قوله: [ حدثنا محمد بن المصفى ]. محمد بن المصفى صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا بقية ]. هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ حدثني عمر بن جعثم القرشي ]. وهو مقبول، أخرج له أبو داود و النسائي . [ حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة ]. نعيم بن ربيعة مقبول، أخرج له أبو داود . [ كنت عند عمر بن الخطاب ]. عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مر ذكره.
شرح حديث (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي حدثنا المعتمر عن أبيه عن رقبة بن مصقلة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) ]. أورد أبو داود حديث أبي بن كعب أن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، أي: أن الله قدر أنه يكون كافراً قال: (ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) كما قال الله عز وجل: فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً [الكهف:80] وعلى هذا فقد سبق القضاء والقدر بأن هذا طبع على هذه الحال، وهو دال على القدر، وعلى أن المقادير سبقت بكل ما هو كائن.
تراجم رجال إسناد حديث (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً...)


قوله: [ حدثنا القعنبي حدثنا المعتمر ]. القعنبي مر ذكره، والمعتمر هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. هو سليمان بن طرخان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن رقبة بن مصقلة ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا ابن ماجة فأخرج له في التفسير. [ عن أبي إسحاق ]. هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعيد بن جبير ]. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عباس ]. هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ عن أبي بن كعب ]. أبي بن كعب رضي الله عنه وقد مر ذكره قريباً.
شرح حديث (أما الغلام فكان أبواه مؤمنين) وكان طبع يوم طبع كافراً


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي عن إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حدثنا أبي بن كعب قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] قال: وكان طبع يوم طبع كافراً)]. أورد أبو داود حديث أبي بن كعب من طريق أخرى في قول الله عز وجل: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] وفيه قال: (وكان طبع يوم طبع كافراً). أي: يوم قدرت المقادير قدر أنه كافر، وهذه الآية فيها مثال لما يذكره العلماء من العهد الذكري، أي: كون الألف واللام ترجع إلى معهود تقدم ذكره؛ لأنه قال قبل ذلك: حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً [الكهف:74] ثم قال هنا: (( وَأَمَّا الْغُلامُ )) فصارت (أل) في الغلام ترجع إلى (غلاماً) الذي مر ذكره، فيقال له: اللام للعهد الذكري. ويأتي(أل) للعهد الذهني، أي ترجع إلى معهود في الأذهان مثل: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] فلم يتقدم له ذكر، ولكنه معهود في الأذهان أنه في القرآن. ومن العهد الذكري قوله في سورة المزمل: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16]؛ لأن (أل) في كلمة (الرسول) ترجع إلى (رسولاً) التي قبلها.
تراجم رجال إسناد حديث (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين) وكان طبع يوم طبع كافراً


قوله: [ حدثنا محمود بن خالد ]. هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا الفريابي ]. هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن إسرائيل ]. هو ابن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حدثنا أبي بن كعب ]. قد مر ذكر الأربعة.
شرح حديث (أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الصبيان فتناول رأسه فقلعه...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الصبيان، فتناول رأسه فقلعه، فقال موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً.. [الكهف:74] الآية) ]. أورد أبو داود حديث أبي بن كعب وفيه كيفية قتل الغلام، وأنه أمسك رأسه وقلعه، أي: فقتله بذلك.
تراجم رجال إسناد حديث (أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الصبيان فتناول رأسه فقلعه...)


قوله: [ حدثنا محمد بن مهران الرازي ]. وهو ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود . [ عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب ]. وكل هؤلاء مر ذكرهم.
الجمع بين كون الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً وبين حديث الفطرة


وطبع الغلام على الكفر لا يتعارض مع ما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فكون الغلام طبع كافراً ليس معنى ذلك أنه صغير ما بلغ الحلم، وأنه ما حصل له شيء يعرفه، فإن الأصل أن حديث الفطرة على عمومه، وكون هذا الغلام طبع كافراً معناه أنه قدر أنه يكون كافراً، وليس معنى ذلك أنه ما خلق على الفطرة، وأنه خارج عن الفطرة، فإن (كل مولود يولد على الفطرة) وهذا مولود، ولكن الانحراف هو الذي حصل للناس، كما قال الله عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين). يقول المحشي: قال المنذري : ولفظ البخاري و مسلم فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله، وفي لفظ للبخاري فأضجعه ثم ذبحه بالسكة، وفي كتاب الطبري أنه أخذ صخرة فثلغ بها رأسه، ثم قال: والجمع بينها متوجه، أي فيكون ضربه بالحجر أولاً فلم يقتله ثم اقتلع رأسه.
الكلام في نبوة الخضر وموته

وينبغي أن يعلم أن مثل هذا يدل على أن الخضر نبي، وليس بولي فقط؛ لأن الأولياء لا يعرفون الحق إلا عن طريق الأنبياء، وهم تابعون للأنبياء، وأما الخضر فهو نبي، والمحاورة التي جرت بينه وبين موسى تدل على ذلك فقد قال: (أنا على علم من الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله لا أعلمه) ثم قال: (علمي وعلمك إلى علم الله مثل ما أخذه الطائر من البحر بمنقاره). وجاء في سورة الكهف أنه قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]. وأيضاً: معلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام أفضل المرسلين بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد إبراهيم، فهو الذي يلي إبراهيم؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خليل كليم، وإبراهيم خليل، وموسى كليم، وإنما ذهب ليحصل من هذا العلم الذي أوحاه الله عز وجل إلى ذلك الرجل، والمحاورة التي بينهما وسياق الآيات من أولها إلى آخرها تدل على أنه نبي وأنه ليس بولي، ولهذا فإن الفتنة حصلت لكثير من الناس بالدعوى أنه ولي، وأنه يحصل من الولي مثل هذه الأمور، فغلوا في الأولياء واعتقدوا فيهم ما لا يجوز، وأنزلوهم المنازل التي لا يستحقونها، ودليلهم أن الخضر حصل منه ما حصل وهو ولي. ثم أمر آخر يتعلق بالخضر وهو زعم بعض الناس أنه حي موجود، وأنه لم يمت، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأن النصوص تدل على أنه قد مات، وأنه لم يكن موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قد جاء في القرآن وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]. فلو كان الخلد لأحد لكان للنبي صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن الخضر كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده غير صحيح، ولو كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يأتي إليه، وهو يجول ويصول في البلاد كما يقولون، ويقطع الدنيا، ويحضر في أماكن كثيرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يناجي ربه في بدر ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) . فلو كان الخضر موجوداً وهلكت العصابة فإن الله يعبد في الأرض حيث يعبده الخضر. وكذلك جاء في الحديث أنه لا يبقى بعد مائة سنة نفس منفوسة على ظهر الأرض الآن، ومعنى ذلك: أنه بعد مضي مائة سنة من ذلك اليوم الذي تحدث فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحديث سيموت كل من كان موجوداً على الأرض، فلو كان الخضر موجوداً في ذلك الوقت لمات قبل مضي مائة سنة، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقول بأنه قد مات هو القول الذي تدل عليه الأدلة.
الأسئلة



يؤجر الإنسان على كل نفقة إلا البنيان الزائد عن الحاجة


السؤال: أتى في صحيح البخاري فيما ذكر أن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، يقول البخاري رحمه الله تعالى في باب: تمني المريض الموت من كتاب المرضى: قال: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: (دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات، فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب) . يقول الحافظ ابن حجر : قوله: (ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له) هكذا وقع في رواية شعبة تكرار المجيء، وهو أحفظ الجميع فزيادته مقبولة، والذي يظهر أن قصة بناء الحائط كانت سبب قوله أيضاً: (وإنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب)، وقوله: (إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)، أي: الذي يوضع في البنيان وهو محمول على ما زاد على الحاجة. فما قولكم في هذا؟ الجواب: هذا محمول على ما كان من البناء زائداً عن الحاجة، أو كان من باب المفاخرة والمطاولة.

حكم الصلاة إلى وجه إنسان

السؤال: ما حكم من صلى وجعل سترته رجلاً مقبلاً عليه بوجهه؟ الجواب: لا ينبغي هذا؛ لأن هذا يشوش عليه، ولكنه إذا لم يجد إلا هذا المكان فلا بأس أن يصلي وينظر إلى مكان سجوده، فيسلم من تشويشه إن شاء الله.

حكم القول بتسلسل الحوادث في الماضي


السؤال: جاء في الحديث أن أول المخلوقات هو القلم، أليس في ذلك دليل على أن القول بتسلسل الحوادث في الماضي خطأ؟ الجواب: قالوا: إن القلم أول المخلوقات في هذا العالم المشاهد، فهذا العالم المشاهد هو الذي فيه الأولية بالنسبة للعرش أو بالنسبة للقلم، وأما ما قبل ذلك فالله عز وجل يخلق ما يشاء، والله تعالى أعلم بخلقه وما خلق، لكن هذا العالم المشاهد هو -كما جاء في هذا الحديث- ما يتعلق بخلق السماوات والأرض، والعرش قبل ذلك.

المقادير المكتوبة إنما هي إلى يوم القيامة


السؤال: هل يفهم من قوله في حديث خلق القلم: (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) أن المقادير التي كتبت إنما هي إلى يوم القيامة فقط؟ الجواب: الحديث يدل على أن الله قدر أن كل ما يجري حتى تقوم الساعة، ومعلوم أن ما يجري في الجنة والنار بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لا نهاية له، فالعذاب مستمر ويتجدد: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56]، وأهل الجنة منعمون إلى غير نهاية، والله أعلم. ومعلوم أن اللوح المحفوظ له بداية ونهاية، وكل ما كتب فيه محدود ومعروف ومحصور، ولكن الجنة والنار وما يحصل فيهما من النعيم والعذاب، وما يحدثه الله وينشئه لأهليهما على مدى العصور والزمان الذي لا انقطاع له ولا نهاية، يدل على أنه مستمر."


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #876  
قديم 04-07-2025, 11:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [531]
الحلقة (561)





شرح سنن أبي داود [531]

إن الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة، والقدر سر من أسرار الله عز وجل لا يجوز الخوض فيه، ولذلك لايجوز مجالسة أهل القدر، لما لهم من ضرر على من يجالسهم، وقد قدر الله تعالى أعمال العباد وآجالهم وأرزاقهم، وما يكونون عليه من السعادة أو الشقاوة، وهم في بطون أمهاتهم، وكل إنسان ميسر لما خلق له، ولا يفعل إلا ما شاءه الله وقدره؛ لأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، ولا يحتج بالقدر على المعاصي والغواية، فالهداية من فضل الله عز وجل والغواية من عدله.

شرح حديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة ح وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان المعنى واحد، والإخبار في حديث سفيان عن الأعمش قال: حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ]. سبق أن مر جملة من الأحاديث في باب القدر من سنن أبي داود وهذا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من جملة تلك الأحاديث. فقوله رضي الله عنه: [ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ] هذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدح له بأنه صادق مصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله: [ حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم ] وبين الحديث: [ (إن خلق أحدكم يجمع) ] وقد قيل: إنها جملة حالية، وقال بعض الشراح: إن كونها اعتراضية أولى من كونها جملة حالية؛ لأن معنى الجملة الحالية أنه الصادق المصدوق في حال تحديثه لنا، ولكن إذا كانت جملة اعتراضية فالمعنى أنه متصف بهذا الوصف دائماً وأبداً، وأن هذا شأنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه دائماً، وليس ذلك مقيداً بحال تحديثه إياهم. قوله: [ (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) أي: كل إنسان يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، أي: فيكون نطفة، وهي ماء مهين، فيمكث أربعين يوماً ثم يتحول إلى علقة، أي قطعة صغيرة من اللحم، ثم يتحول إلى مضغة بعد أربعين يوماً أخرى، فيكون على قدر ما يمضغه الآكل، أي يضعه في فمه، والمضغة هي الأكلة التي يضعها الآكل في فمه. فإذا كملت هذه الأطوار الثلاثة يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكون عند ذلك مكوناً من جسد وروح، ويكون قد تخلق وصار على هيئة إنسان. قوله: [ (ويؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد) ] يعني أنه يكتب ما قدر الله عز وجل أن يكون له من رزق، سواءً كان مبسوطاً أو مضيقاً، ويكتب أجله، أي مدة حياته ومتى ينتهي أجله، وكذلك عمله الذي يعمله، وكذلك يكتب أنه شقي أو سعيد، فإما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة. وجاء في بعض الروايات أنه يقول: (ذكر يا رب أو أنثى؟) فيذكر له الحالة التي شاء الله تعالى أن يكون عليها من ذكورة أو أنوثة. وهذا فيه إثبات القدر، ومعلوم أن التقدير قد حصل في اللوح المحفوظ، وهذا تقدير آخر؛ لأنه قد جاءت أحاديث في ذكر تقديرات أخرى غير التقدير الأول الذي حصل في اللوح المحفوظ، والذي في اللوح المحفوظ هو الأصل وغيره تابع له. والمرء ينتهي إلى ما قدر له من السعادة أو الشقاوة، فيموت على ذلك، والعبرة بما مات عليه، وما قبل ذلك ليس هو المعتبر، فقد تكون الحال حسنة ثم تتغير إلى حال سيئة، فيختم له بالسوء، أو قد تكون الحال سيئة ثم يتحول إلى حال حسنة وينتهي أمره على أمر حسن، فالعبرة بالخواتيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: (وإنما الأعمال بالخواتيم) . وقد بين عليه الصلاة والسلام في آخر هذا الحديث أن من كان من أهل السعادة قد يعمل بعمل أهل النار طيلة حياته أو أكثر حياته، حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، أي ما يكون بينه وبين الموت إلا شيء يسير، فيهتدي ويتوب إلى الله عز وجل ويعمل بعمل أهل الجنة، ثم يموت على حالة حسنة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها، فكل الذنوب التي حصلت من الإنسان إذا تاب منها في الحياة قبل أن يغرغر فإن التوبة تجبها. وعلى العكس من ذلك من يعمل بعمل أهل الجنة ويستمر عليها أكثر حياته، ثم يدركه الخذلان فيرجع عن الحق والهدى، فيرتد أو ينحرف عن الجادة، فيختم له بخاتمة سيئة، ولكن إذا كان الانحراف عن طريق ردة فإنه ليس له إلا النار، وإذا كان الانحراف عن طريق معاصٍ أو بدع غير كفرية فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار على بدعته أو معصيته، ولكنه لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العبرة بالنهاية، وأن من كان موفقاً حصل له التوفيق من الله عز وجل فيختم له به، ومن كان بخلاف ذلك حصل له الخذلان وختم له به.

أقسام الناس بالنسبة للبدايات والنهايات


الناس بالنسبة للبدايات والنهايات ينقسمون إلى أربعة أقسام: قسم وفق بأن ولد في الإسلام، ونشأ في الإسلام، واستمر على الإسلام، ووفق للأعمال الصالحة ودام عليها حتى توفاه الله عز وجل، فتكون حياته كلها معمورة بالصلاح والتقى. القسم الثاني الذي يقابله: وهو الذي ولد في الكفر، ونشأ على الكفر، واستمر على الكفر حتى مات عليه والعياذ بالله، فالبدايات سيئة والنهايات سيئة، والحياة كلها معمورة بالسوء، وبالكفر بالله عز وجل والإلحاد. القسم الثالث: الذي تكون بداياته سيئة وماضيه سيئاً، ثم يحصل له أن يختم له عند النهاية بخير، كالذي عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فسبق عليه الكتاب، فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، وهذا مثل السحرة الذين كانوا مع فرعون، والذين كانت حياتهم كلها سحر وكفر، وفي آخر الأمر: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ثم قتلوا وانتهوا على خير، فكانت حياتهم معمورة بالكفر والسحر والخبث، وعند اقتراب الأجل حصل لهم الاهتداء ودخلوا في الحق الذي جاء به موسى، وآمنوا برب هارون وموسى، ثم قتلوا وصارت نهايتهم طيبة. القسم الرابع: من يكون في حياته على استقامة وعلى هداية، ثم يدركه الخذلان في الآخر عندما لم يبق على حياته إلا الشيء القليل، فيدركه الخذلان فيرتد عن الإسلام والعياذ بالله، ثم يموت على الردة، فيكون عمل بعمل أهل الجنة طيلة حياته، ولما لم يبق عليه إلا الشيء اليسير أدركه الخذلان وارتد عن الإسلام ومات على الردة، فيكون قد عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يكن بينه وبينها إلا ذراع، فأدركه الخذلان فعمل بعمل أهل النار فدخلها. فهذه أقسام الناس الأربعة بالنسبة للبدايات والنهايات: فمنهم من بدايته ونهايته طيبة، ومنهم من بدايته ونهايته سيئة، ومنهم من بدايته حسنة ونهايته سيئة، ومنهم من بدايته سيئة ونهايته حسنة، والعبرة إنما هي بالخواتيم والنهايات التي ينتهي إليها الإنسان. والحديث فيه إثبات القدر، وأن كلاً سينتهي إلى ما قدر له من شقاوة وسعادة، وكل شيء قدره الله عز وجل سيأتي به الإنسان بإرادته ومشيئته التابعة لمشيئة الله عز وجل وإرادته.
معرفة نوع الجنين ليس من علم الغيب


في الحديث أيضاً دليل على أن الملك يعرف الذكر من الأنثى بعدما ينفخ الروح ويسأل ربه أهو ذكر أم أنثى، فيعلم الملك بذلك، وهذا يدل على أنه يمكن أن يعرف الناس الحمل هل هو ذكر أو أنثى وهو في بطن أمه، وأن هذا لا يعتبر من علم الغيب؛ لأن الملك ما دام قد عرف ذلك وهو مخلوق من مخلوقات الله فقد خرج ذلك عن أن يكون من علم الغيب الذي اختص الله تعالى به، فهو مما يعلمه الناس، ولكن قبل هذه الحال عندما يكون الجنين ماء مهيناً فإنه لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولكن إذا سأل الملك ربه: أذكر أو أنثى؟ وقيل له ذلك فحصل علم المخلوق بذلك، فيمكن للبشر أن يعرفوا ذلك عن طريق الأجهزة التي يعرفون بها كونه ذكراً أو أنثى، ولا يقال: إن هذا من علم الغيب، أو إن هذا اطلاع على علم الغيب، أو كلام في علم الغيب؛ لأنه خرج عن أن يكون من علم الغيب بمعرفة الملك بذلك.
تراجم رجال إسناد حديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً)


قوله: [ حدثنا حفص بن عمر النمري ]. حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري و أبو داود و النسائي . [ حدثنا شعبة ]. شعبة بن الحجاج الواسطي البصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ ح وحدثنا محمد بن كثير ]. ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ومحمد بن كثير هو العبدي ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا سفيان ]. سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكل من شعبة في الإسناد الأول و سفيان الثوري في الإسناد الثاني وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهذا الوصف هو من ألفاظ التعديل العالية التي لا تحصل لكل أحد، ولا يظفر بها كل أحد، والذين وصفوا بها قليلون جداً. [ المعنى واحد والإخبار في حديث سفيان ]. معناه أن الرواية بالمعنى، وأن ألفاظهم ليست متفقة في الألفاظ، ولكنها متفقة في المعنى، والإخبار هو في حديث سفيان الذي هو شيخه الثاني. [ عن الأعمش ]. سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا زيد بن وهب ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عبد الله بن مسعود ]. عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الأسئلة



حكم إسقاط الجنين قبل نفخ الروح


السؤال: هل يجوز إسقاط النطفة أو العلقة قبل نفخ الروح فيها قبل المائة وعشرين يوماً؟ الجواب: حصول الحمل ينبغي أن يفرح به، وأن يحرص عليه؛ لأن من مقاصد الشريعة المكاثرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وفي تكثير المسلمين تكثير من يعبد الله عز وجل، ومن يكون على هذا الدين الحنيف، وهذا أمر مطلوب لا ينبغي للإنسان أن يتأثر منه، أو يحاول التخلص منه بإجهاض أو غير ذلك، وإنما عليه أن يفرح. وكم من الناس من يحرص على أن يحصل الحمل ولو مرة واحدة، ولا يتيسر له ذلك، بل قد يبذل كل ما يمكنه من أجل أن يظفر بهذا الشيء فلا يتيسر له ذلك، فالذي أكرمه الله عز وجل وجعله من أهل الإنجاب لا ينبغي أن يتساهل في ذلك، وأن يتهاون في ذلك، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للنطفة أو يتعرض للحمل بإسقاطه، وإنما عليه أن يفرح به وأن يبقيه. وبعض أهل العلم قال: يجوز أن يسقط مادام في الشهر الأول، ولكن الذي ينبغي أن يحرص على النسل، وألا يتهاون فيه ولا يتساهل.

القدر الذي يكتبه الملك موافق لما في اللوح المحفوظ


السؤال: هل كتابة الملك تقدير آخر غير التقدير الموجود في اللوح المحفوظ أو هو موافق له؟ الجواب: الله أعلم! لكن الذي يبدو أنه موافق له.

معنى حديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس)


السؤال: جاء في بعض الروايات: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس) فما معناه؟ الجواب: نعم. ورد ذلك؛ لأن الناس لا يعرفون أحوال الناس إلا بالظاهر، ولا يعرفون البواطن، ولكن الناس يرون أنه عمل بعمل أهل الجنة على حسب ظاهره، وقد يظهر من الإنسان شيء وهو بخلاف ما يظهر، مثل شأن المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

بشارة بإسلام امرأة عجوز قبل وفاتها بأيام


السؤال: أبشركم بشارة خير أن لي جدة عمرها تسعة وتسعون سنة وهي على الكفر في أمريكا، وقبل وفاتها بثلاثة أيام أسلمت ثم ماتت بعد ذلك. الجواب: ما شاء الله! هذه بشارة طيبة، وهذه نهاية حسنة، وهذا مثال واضح من أمثلة القسم الذي يطابق ما كان عليه سحرة فرعون الذي كانت حياتهم كلها شر، وفي النهاية ختم لهم بخير وماتوا على خير، وهذه نرجو أن تكون قد ماتت على خير.
شرح حديث: (كل ميسر لما خلق له)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن يزيد الرشك قال: حدثنا مطرف عن عمران بن حصين قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له) ]. أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم) يعني هل عُلِموا بأن سبق بذلك القضاء والقدر من الله تعالى، وقد فرغ من ذلك؟ قوله: [ (قال: ففيم العمل؟)] أي إذا كان أهل الجنة قد علموا وأهل النار قد علموا ففيم العمل؟! فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له، والمطلوب من العباد أن يعملوا، وقد بين الله لهم طريق الخير وطريق الشر، والذي سيكون من أهل الجنة سيعمل بالأعمال التي توصله إلى الجنة، والذي يكون من أهل النار سيعمل ويختار بمشيئته وإرادته الأعمال التي توصله إلى النار، وهذا جاء في عدة أحاديث، ومنها حديث علي الذي سبق أن مر بنا، وفيه أنه قيل لرسول الله: (أنعمل في أمر خلا ومضى أم في شيء يستأنف؟ قال: في شيء خلا ومضى، قيل: ففيم العمل؟ قال: إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار)، وهذا يدلنا على أن الشقاوة والسعادة سبق بها القضاء والقدر. ومر بنا حديث ابن مسعود الذي قبل هذا وفيه أنه يكتب: شقي أو سعيد، ومعلوم أن كتابة الشقاوة والسعادة قد حصلت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا تقدير بعد تقدير، وهو مطابق لذلك التقدير.

تراجم رجال إسناد حديث: (كل ميسر لما خلق له)


قوله: [ حدثنا مسدد ]. مسدد بن مسرهد ، ثقة أخرج حديثه البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا حماد بن زيد ]. ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن يزيد الرشك ]. ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والرشك هو لقب له. [ حدثنا مطرف ]. مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عمران بن حصين ]. عمران بن حصين رضي الله عنهما، وهو صحابي كنيته أبو نجيد ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث: (لا تجالسوا أهل القدر)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ أبو عبد الرحمن حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني عطاء بن دينار عن حكيم بن شريك الهذلي عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم) ]. أورد أبو داود هذا الحديث في النهي عن مجالسة أهل القدر، ومثلهم عامة المبتدعة، وذلك حتى لا يتأثر المرء بهم، لكونه ضعيفاً في العلم، أو يغتر بعباراتهم أو أخلاقهم الحسنة، أو يغتر غيره به فيطمئن إليهم ونحو ذلك. وقد جاء في حديث آخر: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير … إلخ) وقال في جليس السوء: (فإنه إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة خبيثة)، فمجالسة الأشرار فيها مضرة على من يجالسهم، ولهذا فإن الابتعاد عنهم والحذر منهم فيه سلامة، والاتصال بهم إذا حصل لدعوة أو توجيه وإرشاد فهذا أمرٌ مقصود حسن، وشيء طيب، ولكن مجالستهم والاحتكاك بهم واستماع كلامهم، قد يجعل الإنسان يُبتلى بأن يصيبه ما أصابهم من البلاء فينتقل إليه منهم، ولهذا كان في البعد عنهم السلامة. قوله: [ (ولا تفاتحوهم) ] فسر بأن المفاتحة ألا يتحاكم إليهم، أي لا يرجع إليهم في الحكم؛ لأنهم أهل انحراف، وليسوا أهل استقامة، وفسر بأنهم لا يفاتحون بالمناظرة والمجادلة، وإنما يعرض عنهم، ولا يجالسهم؛ لأن المجالسة قد يترتب عليها حديث وكلام ومناظرة، وأخذ ورد، وقد يكون الإنسان ليس عنده قوة علمية يفحم بها الخصم، بل قد يبتلى بأن يعلق في ذهنه شيء من الشُبه التي ابتلي بها أولئك الذين ابتلوا بالقدر، لهذا قال: [ (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) ].

تراجم رجال إسناد حديث: (لا تجالسوا أهل القدر)


قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ]. أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو واحد من العبادلة الأربعة الذين إذا رووا عن ابن لهيعة قبلت روايتهم؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط وهم: عبد الله بن يزيد هذا و عبد الله بن وهب و عبد الله بن مسلمة و عبد الله بن المبارك . [ حدثني سعيد بن أبي أيوب ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثني عطاء بن دينار ]. وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و أبو داود و الترمذي . [ عن حكيم بن شريك الهذلي ]. وهو مجهول، أخرج له أبو داود . [ عن يحيى بن ميمون الحضرمي ]. وهو صدوق، أخرج له أبو داود و النسائي . [ عن ربيعة الجرشي ]. ربيعة الجرشي مختلف في صحبته، وثقه الدارقطني وغيره، أخرج له أصحاب السنن. [ عن أبي هريرة ]. عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق. [ عن عمر بن الخطاب ] وهو الصحابي الجليل، ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة. وهذا الإسناد تساعي، فهو من أنزل الأسانيد عند أبي داود ، ومعلوم أن أعلى الأسانيد عند أبي داود الرباعيات، أي: أن يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة وأما مثل هذا الإسناد فهو من الأسانيد النازلة. وهذا الحديث ضعفه الألباني ، ولعله بسبب شريك بن حكيم الهذلي .
شرح ما يتعلق بالقدر من مقدمة الرسالة للقيرواني



مقدمة الكتاب


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، المبعوث رحمة للعالمين. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، الذين حفظ الله بهم الملة وأظهر الدين، وعلى من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد:
عقيدة أهل السنة هي عقيدة النبي وأصحابه


عقيدة أهل السنة والجماعة تمتاز بالصفاء والوضوح والخلو من الغموض والتعقيد، وهي مستمدة من نصوص الوحي كتاباً وسنة، وكان عليها سلف الأمة، وهي عقيدة مطابقة للفطرة، ويقبلها العقل السليم الخالي من أمراض الشبهات، وذلك بخلاف العقائد الأخرى المتلقاة من آراء الرجال وأقوال المتكلمين، ففيها الغموض والتعقيد والخبط والخلط، وكيف لا يكون الفرق كبيراً والبون شاسعاً بين عقيدة نزل بها جبريل من الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبين عقائد متنوعة مختلفة خرج أصحابها المبتدعون لها من الأرض، وخلقهم الله من ماء مهين؟! فعقيدة أهل السنة والجماعة بدت وظهرت مع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول الوحي عليه من ربه تعالى، وسار عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان، والعقائد الأخرى لا وجود لها في زمن النبوة، ولم يكن عليها الصحابة الكرام، بل قد ولد بعضها في زمانهم وبعضها بعد انقراض عصرهم، وهي من محدثات الأمور التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). وليس من المعقول ولا المقبول أن يحجب حق عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ويدخر لأناس يجيئون بعد أزمانهم، فتلك العقائد لو كان شيء منها خيراً لسبق إليه الصحابة، ولكنها شر حفظهم الله منه، وابتلي به من بعدهم. والحقيقة الواضحة الجلية أن الفرق بين عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الوحي، وبين عقائد المتكلمين المبنية على آراء الرجال وعقولهم، كالفرق بين الله وخلقه، ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم، فإنه يقال فيه: إن الفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنزلة من الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين القوانين الوضعية الوضيعة التي أحدثها البشر كالفرق بين الله وخلقه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فما بال عقول كثير من الناس تغفل عن هذه الحقيقة الواضحة الجلية فيما يُعتقد، والحقيقة الواضحة الجلية فيما يحكم به، فيستبدلون الذين هو أدنى بالذي هو خير؟ اللهم اهد من ضل من المسلمين سُبل السلام، وأخرجه من الظلمات إلى النور، إنك سميع مجيب!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #877  
قديم 04-07-2025, 11:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

تميز عقيدة أهل السنة على غيرها من العقائد المحدثة

ألف علماء السنة قديماً وحديثاً مؤلفات توضح عقيدة أهل السنة والجماعة، منها ما هو مختصر، ومنها ما هو مطول، وكان من بين هذه المختصرات مقدمة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي لرسالته، ومقدمة رسالته هي على طريقة السلف، وهي مختصرة مفيدة، والجمع بين الأصول والفروع في كتاب واحد نادر في فعل المؤلفين، وهو حسن يجعل المشتغل في فقه العبادات والمعاملات على علمٍ بالفقه الأكبر، الذي هو العقيدة على طريقة السلف، وهي مع وجازتها وقلة ألفاظها تبين بوضوح العقيدة السليمة المطابقة للفطرة، المبنية على نصوص الكتاب والسنة، وهي شاهد واضح للمقولة المشهورة: (إن كلام السلف قليل كثير البركة، وكلام المتكلمين كثير قليل البركة). ومن أمثلة ما في هذه المقدمة من النفي المتضمن إثبات كمال لله تعالى قوله في مطلع هذه المقدمة: (إن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له)، فإن هذه المنفيات عن الله عز وجل مستمدة من الكتاب والسنة، وهذا بخلاف النفي في كلام المتكلمين، فإنه مبني على التكلف، ومتصف بالغموض، ومن أمثلة ذلك قول صاحب العقائد النسفية: (ليس بعرض، ولا جسم، ولا جوهر، ولا مصور، ولا محدود، ولا معدود، ولا متبعض، ولا متجزئٍ، ولا متركبٍ، ولا متناه)، وهذه المنفيات لم ينص على نفيها كتاب ولا سنة، والواجب السكوت والإمساك عما لم يدل عليه دليل من الوحي، واعتقاد أن الله متصف بكل كمال، ومنزه عن كل نقص. ومثل هذه السلوب لا يفهمها العوام، ولا تطابق الفطرة التي هم عليها، وهي من تكلف المتكلمين، وفيها غموض وتلبيس، ويتضح ذلك بالإشارة إلى واحد منها وهو نفي الجسم، فإنه يحتمل أن يراد به ذات مشابهة للمخلوقات، وعلى هذا الاحتمال يرد اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. وإن أريد به ذات قائمة بنفسها، مباينة للمخلوقات، متصفة بصفات الكمال، فإن هذا المعنى حق، ولا يجوز نفيه عن الله. وإنما يرد هذا اللفظ لاشتماله على معنى حق ومعنى باطل، وسيأتي في كلام المقريزي قوله عن الصحابة: (فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية، ولا مسائل الفلسفة). وسيأتي أيضاً في كلام أبي المظفر السمعاني قوله في بيان فساد طريقة المتكلمين: (وكان مما أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه؛ فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، لطريقٍ محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق؛ فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاشتراك بمقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض). وقول أبي المظفر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري في شرح قول البخاري : (باب قوله الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67])، ونقل فيه عن الحسن البصري قال: (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم). و الجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية، ونسب الجهمية إلى جهم بن صفوان لأنه هو الذي أظهر هذا المذهب الباطل ونشره، وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله: لو كان ما يقوله الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين حقاً، لبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وقد رأيت أن أشرح هذه المقدمة شرحاً يزيد في جلائها ووضوحها، ويفصل المعاني التي اشتملت عليها، ورأيت أن أمهد لهذا لشرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السلف، وقد نظم الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي المالكي المتوفى (سنة 1285هـ) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظماً بديعاً سلساً، رأيت من المناسب إثباته مع نص المقدمة قبل البدء بالشرح، وقد سميت هذا الشرح: (قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني). وأسأل الله عز وجل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يوفق المسلمين للفقه في دينهم، والسير على ما كان عليه سلفهم في العقيدة والعمل، وأن يوفقني للسلامة من الزلل، ويمنحني الصدق في القول والإخلاص في العمل، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الإيمان بالقدر


قال ابن أبي زيد : (والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه، وسبق علمه به: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، وكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم). شرح: الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فإنه سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) أخرجه مسلم في صحيحه، وهو أول حديث في كتاب الإيمان، الذي هو أول كتب صحيحه، وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه للاستدلال به على الإيمان بالقدر، عندما سأله يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وجدوا في العراق ينكرون القدر، وأن الأمر أنف، فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر)، ثم حدث بالحديث عن أبيه، وحديث جبريل عن عمر من أفراد مسلم ، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أدلة القدر من الكتاب والسنة


ثانياً: جاء في القرآن آيات كثيرة، وفي السنة أحاديث عديدة، تدل على إثبات القدر: قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. وأما السنة فقد عقد كل من الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان). وروى مسلم بإسناده إلى طاوس أنه قال: أدركت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز). والعجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه، كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟! فقال: اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6] إلى قوله: لِلْعُسْرَى [الليل:10]) رواه البخاري و مسلم من حديث علي رضي الله عنه. والحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وتؤدي إلى حصول السعادة وهي مقدرة، وأعمالهم السيئة مقدرة، وتؤدي إلى الشقاوة وهي مقدرة، والله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.
مراتب القدر


ثالثاً: الإيمان بالقدر له أربع مراتب لابد من اعتقادها: المرتبة الأولى: علم الله الأزلي في كل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق به علم الله أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً، وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة علم الله في الفقرة رقم سبعة. الثانية: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. الثالثة: مشيئة الله وإرادته، فإن كل ما هو كائن إنما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله، فما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: َإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، وقال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]. الرابعة: إيجاد كل ما هو كائن وخلقه بمشيئة الله وفقاً لما علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، فإن كل ما هو كائن من ذوات وأفعال هو في خلق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وقال وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
كيف يعلم الخلق بما هو مقدر


رابعاً: ما قدره الله وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ويمكن أن يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد أمرين: الأمر الأول: الوقوع؛ فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر، لأنه لو لم يقدر لم يقع، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور تقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد أن تقع، وأنه سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور تقع قرب زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر و الحسن إلى جنبه، ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) رواه البخاري، وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عام واحد وأربعين للهجرة، حيث اجتمعت كلمة المسلمين وسمي عام الجماعة، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا من هذا الحديث أن الحسن رضي الله عنه لن يموت صغيراً، وأنه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الصلح، وهو شيء مقدر علم الصحابة به قبل وقوعه.
الله خالق كل شيء ومقدره


خامساً: قوله: (والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا) جاء في حديث جبريل: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). والله سبحانه خالق كل شيء ومقدره، قال الله عز وجل: (( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ))، وقال: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فكل ما هو كائن من خير وشر، هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته. وأما ما جاء في حديث علي رضي الله عنه، في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطويل، وفيه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم ، فلا يدل على أن الشر لا يقع بقضائه وخلقه، وإنما معناه أن الله لا يخلق شراً محضاً لا يكون لحكمة، ولا يترتب عليه فائدة بوجه من الوجوه. وأيضاً: الشر لا يُضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت عموم كما قال الله عز وجل: (( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ))، وقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فيتأدب مع الله بعدم نسبة الشر وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجن تأدبهم بنسبة الخير إليه، وذكر الشر على البناء للمجهول: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].
الفرق بين المشيئة والإرادة الإلهيتين


سادساً: من مراتب القدر الأربع -كما مر قريباً- مشيئة الله وإرادته، والفرق بين المشيئة والإرادة: أن المشيئة لم تأت في الكتاب والسنة إلا لمعنىً كوني قدري، وأما الإرادة فإنها تأتي لمعنى كوني ومعنى ديني شرعي. ومن مجيئها لمعنى كوني قدري قوله تعالى: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125]. ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعي، قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]. والفرق بين الإرادتين: أن الإرادة الكونية تكون عامة فيما يحبه الله ويسخطه، وأما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، والكونية لابد من وقوعها، والدينية تقع في حق من وفقه الله، وتتخلف في حق من لم يحصل له التوفيق من الله. وهناك كلمات تأتي لمعنىً كوني وشرعي، منها: القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر، وغيرها.. ذكرها ابن القيم وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنة في كتابه ((شفاء العليل)) في الباب التاسع والعشرين منه.
ما قدره الله لا بد من وقوعه


سابعاً: ما قدره الله وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، لابد من وقوعه، ولا تغيير فيه، ولا تبديل، كما قال الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفعت الأقلام، وجفت الصحف). وأما قول الله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فقد فسر بأن ذلك يتعلق بالشرائع، فينسخ الله منها ما يشاء، ويثبت ما يشاء، حتى ختمت برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي نسخت جميع الشرائع قبلها. وفسر بالأقدار التي هي في غير اللوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر ((شفاء العليل)) لابن القيم في الأبواب الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كل باب تقديراً خاصاً بعد التقدير في اللوح المحفوظ. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، أخرجه الترمذي وحسنه، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني ، فلا يدل على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وإنما يدل على أن الله قدر السلامة من الشرور، وقدر أسباباً لتلك السلامة، والمعنى: أن الله دفع عن العبد شراً، وذلك مقدر بسببٍ يفعله وهو الدعاء، وهو مقدر، وكذلك قدر أن يطول عمر الإنسان، وقدر أن يحصل منه سبب لذلك، وهو البر وصلة الرحم. فالأسباب والمسببات كلها بقضاء الله وقدره، وكذلك يقال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) رواه البخاري و مسلم . وأجل كل إنسان مقدر في اللوح المحفوظ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، كما قال الله عز وجل: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]، وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وكل من مات أو قتل فهو بأجله، ولا يقال كما قالت المعتزلة : إن المقتول قطع عليه أجله، وإنه لو لم يقتل لعاش إلى أجل آخر، فإن كل إنسان قدر الله له أجلاً واحداً، وقدر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموت بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموت بالقتل، وهكذا.
لا يحتج بالقدر على المعاصي


ثامناً: لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور، ولا على فعل محظور، فمن فعل معصية لها عقوبة مقدرة محددة شرعاً، واعتذر عن فعله بأن ذلك قدر؛ فإنه يعاقب بالعقوبة الشرعية، ويقال له: إن معاقبتك بهذه العقوبة قدر. وأما ما جاء في حديث محاجة آدم وموسى في القدر، فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنما هو احتجاج على المصيبة التي كانت بسبب المعصية، فقد روى البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احتج آدم وموسى فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر عليَّ قبل أن أخلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فحج آدم موسى مرتين). وقد عقد ابن القيم في كتابه ((شفاء العليل)) الباب الثالث للكلام على هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذكر الآيات التي فيها احتجاج المشركين على شركهم بالقدر، وأن الله أكذبهم؛ لأنهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحق الذي أريد به باطل، ثم ذكر توجيهين لمعنى الحديث، أولهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال: (إذا عرفت هذا، فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله، فاجتباه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيه على سبب المصيبة، والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) وفي لفظ: (خيبتنا) فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت عليَّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة، هذا جواب شيخنا رحمه الله. وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها، ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: (أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق)؟! فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره، حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، فحسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليَّ قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً ولا ذكر حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج المصرون على شركهم فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، وقالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله. ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.
أهل السنة وسط بين القدرية والجبرية


تاسعاً: قوله: (تعالى أن يكون في ملكه مالا يريد، أو يكون لأحد عنه غنىً، خالقاً لكل شيء إلا هو، رب العباد ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم). الظاهر أن في قوله: (خالقاً لكل شيء إلا هو) سقطاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأن يكون خالقاً لكل شيء إلا هو، وفي هذه الجمل كلها رد على القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وإن الله لم يقدرها عليهم، فإن مقتضى قولهم هذا أن أفعال العباد وقعت في ملك الله، وهو لم يقدرها، وأنهم بخلقهم لأفعالهم مستغنون عن الله، وأن الله ليس خالقاً لكل شيء، بل العباد خلقوا أفعالهم. والله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]. ويقابل نفات القدر فرقة ضالة هم الجبرية الذين سلبوا عن العبد الاختيار، ولم يجعلوا لهم مشيئة وإرادة، وسووا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أن كل حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار، وأن حركة الآكل والشارب والمصلي والصائم كحركة المرتعش، ليس للإنسان فيها كسب ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدة إرسال الرسل وإنزال الكتب؟! ومن المعلوم قطعاً أن للعبد مشيئة وإرادة، يحمد على أفعاله الحسنة ويثاب عليها، ويذم على أفعاله السيئة ويعاقب عليها، وأفعاله الاختيارية ينسب إليه فعلها وكسبها، وأما الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش، فلا يقال: إنها فعل له، وإنما هي صفة له، ولهذا يقول النحويون في تعريف الفاعل: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث، أو قام به، ومرادهم بحصول الحدث الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادهم بقيام الحدث ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أكل زيد وشرب وصلى وصام، فزيد فيها فاعل حصل منه الحدث، الذي هو الأكل والشرب والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيد أو مات زيد أو ارتعشت يده، فإن الحدث ليس من فعل زيد ، وإنما هو وصف قام به. وأهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة، فأهل السنة أثبتوا للعبد مشيئة، وأثبتوا للرب مشيئة عامة، وجعلوا مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]. فلا يقع في ملك الله ما لم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم، ولا يعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة كما هو قول الجبرية . وبهذا يجاب عن السؤال الذي يتكرر طرحه وهو: هل العبد مسير أو مخير؟ فلا يقال: إنه مسير بإطلاق، ولا مخير بإطلاق، بل يقال: إنه مخير باعتبار أن له مشيئة وإرادة، وأعماله كسب له يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.
الهداية من فضل الله والغواية من عدله

قوله: (يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد). هداية كل مهتدٍ وضلال كل ضال كل ذلك حصل بمشيئة الله وإرادته، والعباد قد بين الله لهم طريق السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يميزون بها بين النافع والضار، فمن اختار طريق السعادة فسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضل من الله وإحسان، ومن اختار طريق الضلالة وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة الله وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدل من الله سبحانه، قال الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] أي طريقي الخير والشر، وقال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وقال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]. والهداية هدايتان: هداية الدلالة والإرشاد، وهذه حاصلة لكل أحد. وهداية التوفيق، وهي حاصلة لمن شاء الله هدايته. ومن أدلة الهداية الأولى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] أي: إنك تدعو كل أحد إلى الصراط المستقيم. ومن أدلة الهداية الثانية قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]. وقد جمع الله بين الهدايتين في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فقوله: (( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ )) أي كل أحد، فحذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: (( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) أظهر المفعول لإرادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.
مناظرة أبي إسحاق الإسفرائيني وعبد الجبار المعتزلي في القدر


أورد شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الشمس حكايتين توضحان فساد مذهب المعتزلة في باب القضاء والقدر، فقال: ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي قال عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء! وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟! فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبراً عليه؟! أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل! فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب! وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال: ادع الله لي أن يرد لي حمارةً سرقت مني، فقال: اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه، فقال الأعرابي: يا هذا! كف عني دعاءك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد! انتهى ما يتعلق بالقدر، وهذا هو الذي كتبناه عن القدر في شرح مقدمة كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ."



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #878  
قديم 04-07-2025, 11:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [532]
الحلقة (562)





شرح سنن أبي داود [532]

قد قدر الله مصير كل إنسان وهو في بطن أمه، أهو إلى السعادة أم الشقاوة؟ وقد جاءت أحاديث تبين مصير ذراري المسلمين والمشركين، وقد شرحها العلماء وبينوا المقصود بها وجمعوا بين ما هو متعارض في الظاهر منها. وكذلك مصير أهل الفترة كأبوي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأكمل بيان وأحسنه.
ما جاء في ذراري المشركين


شرح حديث ( الله أعلم بما كانوا عاملين )


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في ذراري المشركين. حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ]. قوله رحمه الله تعالى: [ باب في ذراري المشركين ] الذراري: الذرية والنسل، والمقصود: حكمهم في الدنيا وحكمهم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهم تبع لآبائهم، ولهذا يحصل التوارث بينهم، ويدفنون في مقابرهم، وأما في الآخرة فقد اختلف فيهم على أقوال عديدة، أظهرها أنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين). وقد قيل في معنى الحديث: إنهم يمتحنون يوم القيامة، وعلى ضوء هذا الامتحان يتبين هل هم من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة، ولهذا كان الجواب: (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي إذا امتحنوا في يوم القيامة، فإن النتيجة أو المصير يكون تبعاً لنتيجة ذلك الامتحان، فيسدد من يسدد، ويخذل من يخذل، كما لو كان الأمر حاصلاً في الدنيا. وهذا هو أظهر ما قيل في ذراري المشركين بالنسبة للآخرة، وهذا القول رجحه جماعة من أهل العلم، منهم ابن القيم في تهذيب السنن، و ابن كثير في تفسيره، وشيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تفسيره قوله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. وقد قيل: إنهم يكونون في الجنة، وقيل: إنهم يكونون في النار، وقيلت أقوال أخرى، وقد ذكر ابن القيم في تهذيب السنن ثمانية أقوال، وثامنها أنهم يمتحنون يوم القيامة، وأنهم يصيرون إلى ما كان ينتهي إليه ذلك الامتحان، وقال: إنه جاء في ذلك أحاديث يشد بعضها بعضاً. والذين قالوا بعدم الامتحان قالوا: إن الآخرة دار جزاء وليست دار تكليف. ولكن هذا لا ينافي كونهم يمتحنون يوم القيامة، ويتبين أهل السعادة وأهل الشقاوة، فإنه يحصل هذا التكليف كما جاء ما يدل عليه، وتكون النتيجة طبقاً لنتيجة هذا الامتحان. وعلى هذا فالقول الصحيح في معنى قوله: [ (الله أعلم بما كانوا عاملين) ] أي الشيء الذي يعملونه إذا امتحنوا، ويحتمل أن يكون المراد به: الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا، ومعلوم أن هذا مما لا يكون، والله تعالى يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، مثلما جاء في قصة الغلام الذي قتله الخضر، قال: (ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً).
تراجم رجال إسناد حديث ( الله أعلم بما كانوا عاملين )


قوله: [ حدثنا مسدد ]. مسدد بن مسرهد البصري ، ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا أبو عوانة ]. الوضاح بن عبد الله اليشكري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي بشر ]. هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعيد بن جبير ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عباس ]. عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير و ابن عمرو بن العاص ، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة و ابن عمر و ابن عباس و أبو سعيد و أنس و جابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
شرح حديث: (هم من آبائهم)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية ح وحدثنا موسى بن مروان الرقي و كثير بن عبيد المذحجي قالا: حدثنا محمد بن حرب المعنى عن محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! ذراري المؤمنين؟ قال: هم من آبائهم. فقلت: يا رسول الله! بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: يا رسول الله! فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم، قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين). هذا حديث عائشة رضي الله عنها يتعلق بذراري المسلمين وذراري الكفار، وفي كل منهما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (الله أعلم بما كانوا عاملين) ومعلوم أن الحكم واحد في الدنيا، فحكم أولاد الكفار تابع للكفار، فيتوارثون ويدفنون في مقابرهم، وأولاد المسلمين يصلى عليهم ويدعى لهم ويدفنون في مقابر المسلمين، ويحصل التوارث بينهم. وأما بالنسبة للآخرة فقد ذكرنا ما يتعلق بأولاد المشركين، وأما بالنسبة لأولاد المسلمين فالمشهور عند أهل السنة أنهم في الجنة، ولهذا جاء ما يدل على أنهم أفراط يشفعون لمن سبقوه ولآبائهم وأمهاتهم. وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على عدم الجزم بذلك، وهو حديث عائشة الذي سيأتي، حيث قال: (إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم)، وهذا قال فيه جماعة من أهل العلم: المقصود بذلك أنه لا يجزم ولا يقطع لأحد بجنة أو نار، وإنما يقال فيهم ما يقال في حق المؤمنين: إنه لا يقطع لهم بجنة، ولكن يرجى لهم ذلك. قوله: [ هم من آبائهم ] يعني أنهم تبع لهم، وأما في الدنيا فالأمر واضح، وأما في الآخرة فأولاد الكفار يمتحنون، وأولاد المسلمين تبع لهم كما تقدم.
تراجم رجال إسناد حديث: (هم من آبائهم)


قوله: [ حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ]. وهو ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي . [ حدثنا بقية ]. بقية بن الوليد ، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ ح وحدثنا موسى بن مروان الرقي ]. وهو مقبول، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ و كثير بن عبيد المذحجي ]. وهو ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ قالا: حدثنا محمد بن حرب ]. محمد بن حرب الحمصي الأبرش ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن محمد بن زياد ]. وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ عن عبد الله بن أبي قيس ]. ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [ عن عائشة ]. عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديقة ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً) وتراجم رجال إسناده


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه، قالت: قلت: يا رسول الله! طوبى لهذا لم يعمل شراً ولم يدر به، فقال: أوغير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم). هذا الحديث هو الذي تقدمت الإشارة إليه، والمقصود من ذلك ألا يقطع بالجنة لأحد بعينه. قوله: [حدثنا محمد بن كثير ]. محمد بن كثير العبدي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا سفيان ]. سفيان هو الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن طلحة بن يحيى ]. طلحة بن يحيى التيمي ، وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن. [ عن عائشة بنت طلحة ]. وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة. [ عن عائشة أم المؤمنين ]. قد مر ذكرها.
شرح حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء؟ قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين) ]. أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه) ]. قوله: [ (يولد على الفطرة) ] الجمهور من أهل السنة على أن المقصود بالفطرة الإسلام، وأن الكفر طارئ، لأن الكفار هم الذين يسعون في نقل أبنائهم من الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى ما يضادها وما يخالفها وهو غير الإسلام، ولهذا قال: [ (فأبواه يهودانه وينصرانه) ] أي: يعلمانه اليهودية والنصرانية، وينقلانه من الفطرة التي هو عليها إلى دين اليهود ودين النصارى. ومما يدل على أن المقصود بالفطرة الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) يعني: صرفتهم، والشياطين مثل اليهود والنصارى الذين يصرفون أولادهم عن الفطرة التي فطرهم الله عليها. إذاً: المقصود بالفطرة الإسلام، وأن الناس خلقوا لا يعرفون إلا الإسلام، وأنهم لو عاشوا لما صار عندهم إلا هذا، ولكنهم إذا حرفوا وصرفوا عن هذا الذي فطرهم الله عليه يحصل تحولهم من الحق إلى الباطل، ومن الإسلام إلى الكفر. قوله: [ (كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء) ]. جمعاء: يعني أنها سليمة مجتمعة الخلق، ليس فيها عيوب، ثم الناس بعد ذلك يحصل منهم الإضرار بها، وقطع أذنها، فيكونون قد نقلوها من الحالة التي خلقها الله سبحانه وتعالى عليها وهي السلامة وتمام الخلق، إلى هيئة أخرى وإلى حالة أخرى، وكذلك الذين خلقهم الله حنفاء على الإسلام وفطرهم عليه يخرجون عنه بفعل آبائهم وأمهاتهم والذين يضلونهم ويصرفونهم عن الحق، فهذا فيه توضيح أن الذي على الفطرة على سلامة وعلى استقامة، وأن الحيوان الذي يولد وينشأ يكون على استقامة حتى يكون من أهله أنهم يحدثون فيه ما يحدثون من العيوب. قوله: [ (قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت وهو صغير) ]. يعني: قبل أن يصرف ويحرف لأنه قال: (فأبواه يهودانه وينصرانه)، وإذا كان مثلاً من أولاد المشركين فما هودوه ولا نصروه، ولكن نقلوه عن الفطرة التي هو عليها إلى دين آخر من أديان أهل الكفر. قوله عليه الصلاة والسلام: [ (الله أعلم بما كانوا عاملين) ] هذا مثل الجواب الذي سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يعني أنهم يمتحنون يوم القيامة، وعلى ضوء نتيجة الامتحان يكون الانقسام.
تراجم رجال إسناد حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)


قوله: [ حدثنا القعنبي ]. عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة . [ عن مالك ]. مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي الزناد ]. هو عبد الله بن ذكوان وكنيته أبو عبد الرحمن المدني ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأعرج ] هو عبد الرحمن بن هرمز المدني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
شرح أثر مالك في الرد على القدرية


[ قال أبو داود : قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع: أخبرك يوسف بن عمرو أخبرنا ابن وهب قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث، قال مالك : احتج عليهم بآخره: (قالوا: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين) ]. ذكر المصنف عن مالك أن أهل الأهواء -وهم القدرية- يحتجون بهذا الحديث، ويقولون إن الإنسان يولد على الفطرة، وإن أبواه يهودانه وينصرانه، ومعناه أن الشر يوجده آباؤه، وهم الذين ينقلونه من طور إلى طور ومن حال إلى حال، فهم الذين يخلقون هذه الأفعال، فقال: احتج عليهم بآخره: (قالوا: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين) أي: الذي قدره الله عز وجل بأنه سيحصل منهم إذا حصل لهم الامتحان.
تراجم رجال إسناد أثر مالك في الرد على القدرية


قوله: [ قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع ]. الحارث بن مسكين، ثقة أخرج له أبو داود و النسائي . [ أخبرك يوسف بن عمرو ]. وهو صدوق، أخرج له أبو داود و النسائي . [ أخبرنا ابن وهب ]. عبد الله بن وهب المصري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ سمعت مالكاً ]. مر ذكره.

معنى صيغة: (قرئ عليه وأنا أسمع)


الحارث بن مسكين يحدث عنه النسائي فيقول أيضاً: قرئ عليه وأنا أسمع، ومعلوم أن (حدثنا) يؤتى بها في الغالب لما سمع من لفظ الشيخ، و(أخبرنا) لما قرئ على الشيخ وهو يسمع، ويعبر عنه أيضاً بهذه العبارة التي هي: (قرئ عليه وأنا أسمع)، وهي واضحة في المقصود، وأنه عرض عليه وأن القارئ غيره، وليس هو، ولو كان هو يقرأ فيقول: (أخبرنا)، وهذا فيه أن غيره يقرأ وهو يسمع، وهذا من طرق التحمل، فأبو داود أخبر بالذي قد حصل، وأن هذا حصل من الذي يقرأ على الحارث بن مسكين وهو يسمع، فتحمل كما تحمل الحاضرون الذين يسمعون والقارئ وغيرهم. لكن النسائي استخدم هذه الصيغة مع الحارث بن مسكين لأنه كانت هناك وحشة حصلت بينهما، فمنعه من الحضور في مجلسه، فكان يختبئ ويسمع ويقول: (قرئ عليه وأنا أسمع) وذلك حتى يكون صادقاً، ولا يقول: (أخبرني)؛ لأنه ما أراد إخباره، ولكنه يأتي بعبارة هو صادق فيها، أما أبو داود فلا نعلم أنه جرى بينه وبين الحارث بن مسكين شيء.
أثر حماد بن سلمة في تفسير حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا حجاج بن المنهال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) قال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حيث قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] ]. أورد أبو داود هذا الأثر عن حماد بن سلمة ، وهو أن المقصود بالفطرة الميثاق الذي أخذه الله على العباد، ولا تنافي بين هذا وهذا، أعني أخذ عليهم العهد وخلقهم مفطورين على التوحيد، ثم يحصل صرفهم عن ذلك بفعل الآباء والأمهات الذين يهودونهم وينصرونهم.
تراجم رجال إسناد أثر حماد بن سلمة في تفسير حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)


قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ]. الحسن بن علي الحلواني ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي . [ حدثنا حجاج بن المنهال ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ سمعت حماد بن سلمة ]. ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن.
شرح حديث: (الوائدة والموءودة في النار)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا ابن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوائدة والموءودة في النار) قال: يحيى بن زكريا : قال أبي: فحدثني أبو إسحاق أن عامراً حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ]. ذكر أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (الوائدة والموءودة في النار) ] فالوائدة الأمر فيها واضح بأنها كافرة قتلت ابنتها، وابنتها تكون تابعة لها في أحكام الدنيا. وقوله: [ (الموءودة في النار) ] كونه يجزم بأنها في النار وهي صغيرة فيه إشكال، ولكن فسر أو حمل على أنها كانت كبيرة بالغة، وكانت كافرة، فتكون من أهل النار لتكليفها، وأما قبل البلوغ فالأمر كما ذكرنا أنهم يمتحنون يوم القيامة. وأما من بلغت حد البلوغ وكفرت أو بقيت على كفرها، فإن حكمها حكم الكفار الذين نشئوا على الكفر ومضت حياتهم وهم في الكفر. وقد قيل: إن الألف واللام ليستا للاستغراق حتى يقال: كل موءودة في النار ولو كانت صغيرة، بل يحمل على ما إذا كانت كبيرة، قالوا: ويدل عليه أنه جاء في بعض الروايات أنه سئل عن امرأة وأدت بنتها فذكر الحديث، فيكون المقصود من ذلك قضية معينة، وتكون تلك الموءودة من أهل النار، ويحمل على أنها بالغة، ولا يحمل على أنها صغيرة لم تصل إلى حد البلوغ؛ لأن القلم مرفوع عمن لم يبلغ.
تراجم رجال إسناد حديث: (الوائدة والموءودة في النار)


قوله: [ حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ]. ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا ابن أبي زائدة ]. يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثني أبي ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عامر ]. عامر بن شراحيل الشعبي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قال: قال رسول الله ]. هذا مرسل، لأن الشعبي تابعي وقال فيه: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] لكنه جاء من طريق أخرى عن ابن أبي زائدة وفيه بيان الواسطة بين الشعبي والرسول صلى الله عليه وسلم وأنه تابعي وصحابي وهما علقمة و ابن مسعود . [ قال يحيى بن زكريا : قال أبي: فحدثني أبو إسحاق ]. أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أن عامراً حدثه عن علقمة ]. علقمة هو علقمة بن قيس الكوفي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن مسعود ]. عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث: (أبي وأبوك في النار)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس : (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما قفى قال: إن أبي وأباك في النار) ]. أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: [ (أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما قفى قال له: إن أبي وأباك في النار) ]، وهذا يدل على أن أهل الفترة الذين كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من كان منهم على عبادة الأوثان فإنه يكون في النار، ولا يقال: إنهم ما بلغتهم الرسالة؛ لأن دين إبراهيم كان موجوداً، وهناك أناس كانوا على دين إبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث على دين إبراهيم. وهذا يدل على أن والد الرسول صلى الله عليه وسلم في النار، كما أخبر بذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في هذا الحديث، وهو حديث صحيح، وقد ورد في صحيح مسلم . وأما ما قيل: إن الله أحيا أبوي الرسول وأنهما أسلما؛ فهذا لم يثبت، وجمهور أهل العلم على خلاف ذلك، وما قال به إلا بعضهم، وليس هناك دليل صحيح ثابت يدل على ذلك، وإنما الذي ثبت هو هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #879  
قديم 04-07-2025, 11:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

ذكر كلام صاحب عون المعبود في مصير والد النبي

قال في عون المعبود: قال النووي رحمه الله تعالى: فيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. وكل ما ورد بإحياء والديه صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهما ونجاتهما أكثره موضوع مكذوب مفترى، وبعضه ضعيف جداً لا يصح بحال؛ لاتفاق أئمة الحديث على وضعه وضعفه كالدارقطني و الجوزقاني و ابن شاهين و الخطيب و ابن عساكر و ابن ناصر و ابن الجوزي و السهيلي و القرطبي و المحب الطبري و فتح الدين بن سيد الناس و إبراهيم الحلبي وجماعة، وقد بسط الكلام في عدم نجاة الوالدين العلامة إبراهيم الحلبي في رسالة مستقلة له، والعلامة علي القاري في شرح الفقه الأكبر وفي رسالة مستقلة، ويشهد لصحة هذا المسلك هذا الحديث الصحيح، والشيخ جلال الدين السيوطي قد خالف الحفاظ والعلماء المحققين وأثبت لهما الإيمان والنجاة، فصنف الرسائل العديدة في ذلك، منها ((رسالة التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة)) قلت: العلامة السيوطي متساهل جداً لا عبرة بكلامه في هذا الباب، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد، وقال السندي : من يقول بنجاة والديه صلى الله عليه وآله وسلم يحمله على العم، فإن اسم الأب يطلق على العم، مع أن أبا طالب قد ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيستحق إطلاق اسم الأب من تلك الجهة. انتهى). يقصد بهذا أن حديث: [ (إن أبي وأباك في النار) ] يحمل فيه الأب على عمه أبي طالب، يريدون ألا يكون المقصود أباه الحقيقي الذي هو عبد الله، وإنما المقصود عمه، وعمه مات على الشرك وقد أدركه الإسلام، ولكن لم يؤمن به، وكان يعرف أن ما عليه الرسول حق، ولكن ابتلي بعزة الآباء والأجداد ومات على ذلك، كما جاء الحديث أنه لما كان في مرض موته جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أحاج لك بها عند الله)، فكان عنده بعض الجلساء ممن هم كفار فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب ، ومات على هذه العقيدة التي كان عليها، وهي الكفر وعبادة الأوثان. فبعض الناس أراد أن يقول: إن المراد بالأب في هذا الحديث هو العم، ولكن الأصل أن الأب هو الأب، وإن كان قد يطلق على العم أباً كما جاء في القرآن في سورة البقرة: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، مع أن إسماعيل عم يعقوب، لأنه أخو إسحاق وليس أباه، ولكن يطلق عليه أنه أب، ولكن هذا جاء تبعاً ولم يكن استقلالاً، فالحاصل أن الأصل هو الحمل على الأصل، ولا يحمل على غيره. ثم قال صاحب عون المعبود بعدما ذكر كلام السندي في حمله على العم: وهذا أيضاً كلام ضعيف باطل، وقد ملأ مؤلف تفسير روح البيان تفسيره بهذه الأحاديث الموضوعة المكذوبة، كما هو دأبه في كل موضع من تفسيره إيراده للروايات المكذوبة، فصار تفسيره مخزن الأحاديث الموضوعة. وقال بعض العلماء: التوقف في الباب هو الأسلم. وهو كلام حسن. والله أعلم. الدليل يدل على خلاف ما ذكره، وهو الجزم بما ثبت في صحيح مسلم بالنسبة لأبيه، وبالنسبة لأمه فقد جاء أيضاً في الصحيح سبب نزول قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، أنه استأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له، فنزل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]. وهناك حديث صحيح رواه الشيخ الألباني في صحيح الجامع : (العم والد)، بل جاء في الحديث المتفق عليه: (أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه) ويعني أنه والده من حيث الإكرام والتقدير والمنزلة، وإلا فهو من الحواشي وليس من الأصول، لأنه شارك أباه في جده، وجاء في القرآن إطلاق الأبوة عليه ولكنه أب تبعاً وليس استقلالاً، فهو بمنزلة الوالد مثل الخالة بمنزلة الأم، أي من ناحية التقدير والاحترام والتوقير والإكرام والإحسان، وهو من الحواشي في الميراث والإخوة أقرب منه، لأن الإخوة شاركوا الميت في أبيه، وأما العم فإنما شارك أباه في جده، وهو طبقة أخرى غير الطبقة القريبة. ثم قال: قال المنذري : وهذا الرجل هو حصين بن عبيد والد عمران بن حصين ، وقيل: هو أبو رزين لقيط بن عامر العقيلي). يعني الرجل الذي سأل الرسول وقال: [ (يا رسول الله! أين أبي؟ فقال: أبوك في النار، فلما قفى قال: إن أبي وأباك في النار) ].
تراجم رجال إسناد حديث ( أبي وأبوك في النار )


قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ]. موسى بن إسماعيل التبوذكي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا حماد ]. حماد هو ابن سلمة مر ذكره. [ عن ثابت ]. ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أنس ]. أنس رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.
شرح حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ]. أورد أبو داود حديث أنس بن مالك : [ (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ]. وذلك لبلوغه منه مبالغ خفية، فهي يجري منه مجرى الدم، بمعنى أنه يمازجه ويخالطه، ويوسوس له ويغويه ويضله، فهو يدخل فيه، ويكون فيه، وقيل: إنه لكثرة إغوائه ووسوسته له كان مثل الدم الذي هو جزء من أجزائه، والذي به حياته. وأما مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب الذي هو باب في ذراري المشركين، فلا يظهر لي فيه شيء. ورجال إسناد الحديث مر ذكرهم كلهم في الحديث السابق.
شرح حديث: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة و عمرو بن الحارث و سعيد بن أبي أيوب عن عطاء بن دينار عن حكيم بن شريك الهذلي عن يحيى بن ميمون عن ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) الحديث ]. أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد مر ذكره في آخر الباب الذي قبل هذا: [ (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) ] أي: لا تجالسوهم لأنه يصيبكم بسبب مجالستهم الضرر. وقوله: [ (ولا تفاتحوهم) ] فسر بمعنيين كما عرفنا فيما مضى، أي: لا تتحاكموا إليهم، أو: لا تفاتحوهم بالمخاصمة والمناظرة؛ لأنهم ضرر على من يختلط بهم، ومن يناظرهم، والمقصود الابتعاد منهم، ويتحمل أن تكون المفاتحة هي التحاكم إلى علمائهم، أو المقصود بذلك النهي عن مناظرتهم.
تراجم رجال إسناد حديث: (لاتجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)


قوله: [ حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ]. أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود . [ أخبرنا ابن وهب ]. عبد الله بن وهب المصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرني ابن لهيعة ]. عبد الله بن لهيعة المصري ، وهو صدوق اختلط، وحديثه أخرجه مسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ و عمرو بن الحارث ]. عمرو بن الحارث المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و سعيد بن أبي أيوب ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عطاء بن دينار ]. وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و أبو داود و الترمذي . [ عن حكيم بن شريك الهذلي ]. وهو مجهول، أخرج له أبو داود . [ عن يحيى بن ميمون ]. وهو صدوق، أخرج له أبو داود و النسائي . [ عن ربيعة الجرشي ]. مختلف في صحبته، وثقه الدارقطني وغيره، وحديثه أخرجه أصحاب السنن. [ عن أبي هريرة ]. عبد الرحمن بن صخر الدوسي مر ذكره. [ عن عمر بن الخطاب ]. أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
الأسئلة



دخول الجني في الإنسي

السؤال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، هل في الحديث دليل على دخول الجني في الإنسي؟ الجواب: نعم. هو يدل على ذلك، وقال تعالى: كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

حكم من ينكر حديث: (إن أبي وأباك في النار)


السؤال: ما رأيك فيمن ينكر هذا الحديث الذي في مسلم : (إن أبي وأباك في النار) بحجة كيف يكون والد النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟ الجواب: العواطف ليست دليلاً يستدل به، وإنما يستدل بالأدلة الشرعية، وهذا الحديث ثبت في صحيح مسلم وفي غيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

حكم تفسير الوائدة بالطبيبة في حديث ( الوائدة والموءودة في النار )


السؤال: ما مدى صحة هذا القول: الوائدة هي الطبيبة التي تعطي الدواء لقتل الجنين في بطن الأم كما يفعله الأطباء الآن، وهذا يسمى بالوأد السري، والموءودة هي الأم التي تفعل ذلك الفعل المحرم، أي: تساعد على قتل جنينها، وهذا معنى حديث: (الوائدة والموءودة في النار)؟ الجواب: ليس معنى الحديث ما ذكر في السؤال، وإنما هو في وائدة دفنت بنتها بالفعل، وموءودة دفنت في الأرض، وهي التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أهل العلم في تفسير الوائدة: هي التي تباشر الوأد، أي أن أمها ما وأدتها ولكنها طلبت من يئدها، فتكون الوائدة هي المباشرة، والموءودة هي الموءود لها، وهي الأم، وإنما قالوا هذا فراراً من أن تكون الموءودة في النار إذا فسرت بالطفلة الصغيرة، ولكن هذا التأويل ليس بالمستقيم، لأن الكلام في وائدة وموءودة سئل عنهما في واقعة حدثت كما ذكره بعض أهل العلم، وقالوا: إن المقصود أنها كانت كبيرة، وأنها مشاركة لأمها في الكفر.

قول ابن باز في أطفال المشركين


السؤال: يقول الشيخ ابن باز رحمه الله في فتوى عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم وقفت على فتوى أخرى يقول فيها: إنهم في الجنة، فأيهما المتأخر؟ الجواب: أنا لا أعلم عن الشيخ ابن باز أنه يقول: إنهم في الجنة، ولكن كما جاء في الحديث: (الله أعلم ما كانوا عاملين)، هذا هو الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم، وكونهم في الجنة يحتاج إلى دليل، والقول بأنهم يمتحنون ثم ينقسمون إلى قسمين هو القول الصحيح.

حكم ذراري المشركين الذين ماتوا قبل إسلام آبائهم


السؤال: ما القول في ذراري المشركين الذين ماتوا قبل إسلام آبائهم، هل يمتحنون أو يلحقون بآبائهم بعد الإسلام؟ الجواب: الذين ماتوا في حال كفر آبائهم لا يقال إنهم أولاد مسلمين، لأنهم كانوا أولاد كفار في الوقت الذي ولدوا فيه وماتوا فيه، والإسلام كان متأخراً، وإنما الذين في الجنة أولادهم الذين ولدوا وهم على الإسلام.

سبب تعبد النبي بدين إبراهيم قبل البعثة


السؤال: كيف كان يتعبد صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ألم تنسخ شريعة إبراهيم بشرائع من بعده من الرسل؟ الجواب: لم يأت شيء يدل على نسخها، بل الرسل بعده هم على ما كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أصل الدين وهو العبادة، ولكن الاختلاف بينهم في الأحكام والتشريعات العملية، قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وأما الدين فهو واحد، ودين إبراهيم هو الحنيفية، وكانت ذريته عليه من بعده، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية التي كان عليها إبراهيم.

امتحان من لم تبلغهم الرسالة

السؤال: هل يمتحن الأقوام الذين لم تبلغهم الرسالة أو لم يأتهم رسول أو نبي؟ الجواب: الأقوام الذين ما بلغتهم الرسالة يمتحنون، مثل الذين خلقوا مجانين ونشئوا مجانين.

حكم غسل المسلم قبة قبر والده النصراني


السؤال: رجل أسلم وأهله باقون على الكفر، وجدته تطلب منه أن يذهب معها إلى المقبرة ليغسل قبة قبر ولدها، أي: والد هذا الرجل المسلم، وهذه من عادة النصارى، فما الحكم؟ الجواب: ليس له ذلك.

حكم صرف الوكيل مال الصدقة في غير ما عين له


السؤال: امرأة من فلسطين أعطت أحد المعتمرين مبلغاً من المال، وقالت له: إذا وصلت إلى مكة أو المدينة فاشتر بهذا المبلغ مصاحف، وضعها في المسجدين أو في أحدهما، وعند وصوله قيل له: إن المصاحف هنا متوافرة فوق الحاجة والحمد لله، والأولى أن تصرف المال لصالح الفلسطينيين فهم أحوج إليه من غيرهم، فهل هذه الفتوى صحيحة؟ الجواب: صاحب الحق هو الذي يُرجع إليه في تصريف حقه، وصرفه في الجهة التي يريد، وإذا كانت صاحبة الحق لا تعلم فيمكن أن يفاتحها، وأن يقول لها: إن المصاحف متوافرة في المسجدين ولا يكون فيهما مصاحف من جهة أخرى، فإن أردت جعلت هذا المال صدقة وإن شئت رددته إليك لتصرفيه أنت في بلدك.

أهل الفترة يكونون في كل زمان


السؤال: هل أهل الفترة لهم وقت محدود أم أنهم باقون إلى يوم القيامة؟ الجواب: ما بين النبي والنبي من الزمن يقال له: فترة، ولكن هناك ناس قد تبلغهم الرسالة وناس لا تبلغهم، فمن بلغته الرسالة مثل الذين كانوا يعبدون الأوثان ودين إبراهيم موجود فهم معذبون، والذين ما بلغتهم الرسالة ولا عرفوا شيئاً عن الرسالات السابقة، في أي زمان كان، فإنهم يمتحنون يوم القيامة؛ لأنهم ما بلغتهم الرسالة.

ثواب المشتركين في العتق

السؤال: جماعة اشتركوا في عتق عبد، فهل يحصل لهم الثواب؟ الجواب: كل له ثواب على قدر ما حصل منه من العتق، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، فالفكاك يكون لشخص بشخص، وعضو بعضو، والمرأتان بمنزلة الرجل فيما يتعلق بالعتق، وكذلك في أمور أربعة أخرى غيرها، وهي: العقيقة والشهادة والدية والميراث، فهذه خمس خصال تكون المرأة فيها على النصف من الرجل.

الدعاء للطفل الميت


السؤال: ما هو الدعاء الصحيح للطفل الميت؟ الجواب: يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا، ولجميع موتانا)) يعني: سواء كان الميت صغيراً أو كبيراً، هذا دعاء ورد للصغير وللكبير، ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة، وقد جاء في الحديث أنه يصلى عليه ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة.

حكم زيارة قبور المشركين

السؤال: هل في إذن الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بزيارة قبر أمه دليل على جواز زيارة قبور المشركين؟ الجواب: نعم، لأن المقصود تذكر الآخرة فقط، فزيارة قبور الكفار من أجل تذكر الموت، وأما زيارة المسلمين فهي من أجل تذكر الموت ومن أجل الدعاء لهم، ففيه مصلحة ترجع للزائر والمزور، وأما بالنسبة لزيارة الكفار فالمصلحة للزائر فقط، والمزور لا مصلحة له فيها. وهذا إذا دعا الزائر للميت المسلم، أما إذا دعاه وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، فلن يستفيد الميت شيئاً، والحي يتضرر، لأنه أشرك بالله حيث عبد معه غيره ودعا غيره.

حكم إفساد صوم القضاء بالجماع


السؤال: امرأة كانت تقضي صيام رمضان في هذه الأيام، فجامعها زوجها في يوم منها، فهل تأثم بذلك؟ وماذا عليها؟ الجواب: لا يجوز له أن يجامعها ما دام صومها عن فرض، وإذا حصل الجماع فقد فسد الصوم عليها، وعليها أن تقضي يوماً آخر مكانه، وليس عليها كفارة، لأن الكفارة إنما هي لشهر الصيام، ولنفس الصيام في زمنه، وأما القضاء فلا يعامل معاملة الأصلي.

حكم ترك طواف الإفاضة في الحج


السؤال: ذهبت للحج وأنا جاهل بمناسك الحج، وكان معي بعض الأصدقاء فسعينا، ثم ذهبنا إلى عرفة وذهبت إلى جبل الرحمة ، وعند عودتي لم أعرف مكان أصدقائي، وبعد المغرب ذهبت مزدلفة وأخذت منها سبع حصوات، ومشيت إلى منى ورميت الجمرة الكبرى، وذهبت إلى مكة وطفت طوافاً بنية الوداع، ثم ذهبت بعدها إلى جدة فهل الكفارة علي أم على أصدقائي الذين تركوني؟ الجواب: طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، والتفاصيل فيما يلزمه من الكفارات تحتاج إلى أن نعرف ما ترك بالتحديد حتى نعرف كم عليه من كفارة، ولكن ما تركه من أركان الحج يجب عليه أن يؤديه، وإذا كان عنده زوجة وقد جامعها، فإنه يكون عليه فدية، وهي شاة يذبحها بمكة ويوزعها على فقراء الحرم؛ لأنه جامعها قبل التحلل الثاني، لأن التحلل الثاني لا يكون إلا إذا أتى بالطواف ومعه السعي، وهو قد ترك الطواف وأتى بالسعي، فيجب عليه أن يذهب إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة، ويذبح شاة في مكة ويوزعها على فقراء الحرم إن كان متزوجاً وقد جامع زوجته في هذه الفترة.

حكم التكبر على المتكبر

السؤال: ما حال حديث: (التكبر على المتكبر صدقة)؟ الجواب: لا نعرف حديثاً في هذا، والتكبر غير مطلوب، فلا يتكبر الإنسان.

حكم دفن المسلم في مقابر المشركين


السؤال: هل يجوز دفن المسلم في مقبرة الكفار إذا كان في بلد كفر؟ الجواب: لا يجوز أن يدفن المسلم في مقابر الكفار، وإنما يدفن في مقابر المسلمين، أو في مكان ليس مقبرة كفار.

اعتقاد خلود كل كافر في النار

السؤال: هل يتعين على المسلم أن يعتقد أن كل كافر خالد في النار بعينه أم الواجب معرفة ذلك على وجه العموم؟ الجواب: كل من مات على الكفر فإنه خالد مخلد في النار أبد الآباد؛ لهذا كان بعض العلماء مثل ابن كثير إذا أتى الرجل بشيء مكفر ولم يعرف خاتمته، فإنه يعلق ذلك بالوفاة على الكفر، كما ذكر في ترجمة أبي نصر الفارابي في البداية والنهاية، فإنه نقل عنه أنه لا يقول بحشر الأجساد، وإنما يقول: تبعث الأرواح، فقال ابن كثير: فعليه -إن كان مات على ذلك- لعنة رب العالمين!

حكم عقائد الأشاعرة

السؤال: هل يصح أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا أصحاب عقائد فاسدة؟ الجواب: لا يصح، بل عقيدتهم فاسدة باطلة، وليست عقيدتهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وإنما هي عقيدة وجدت بعد زمن الصحابة بمدة طويلة، ولا يمكن أن يكون هناك عقيدة صحيحة حجبت عن الصحابة وادخرت للأشاعرة ولا لغير الأشاعرة، بل هي باطلة، والحق هو الذي كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.

حكم السكوت على خطأ المخالف خشية الفرقة


السؤال: ما نصيحتك لمن يقول: الرد على المخالف يسبب الفرقة بين المسلمين، ولكن الواجب السكوت على الخطأ حتى تجتمع كلمة المسلمين؟ الجواب: هذا باطل، والحق أن الخطأ يُبين ويوضح، ولا يترك، وأما السكوت حتى لا يسبب الفرقة فيقال: الفرقة حصلت بالمخالفات والخروج عن الجادة، والواجب هو بيان الحق، والرد على المبطل، وإذا كان الذي حصل منه الخطأ ليس من أهل البدع وإنما هو من أهل السنة فإنه يناصح ويرفق به، ويكون المقصود هو الإصلاح."



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #880  
قديم 04-07-2025, 03:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله

شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [533]
الحلقة (563)



شرح سنن أبي داود [533]

يثبت أهل السنة صفات الله تعالى الواردة عن طريق الوحي دون تشبيه ولا تأويل، وقد خالف المبتدعة في ذلك فنفوا صفات الله وعطلوها، وقد رد عليهم العلماء بما يبين بطلان مذهبهم المخالف لما كان عليه السلف الصالح.

الجهمية


شرح حديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الجهمية. حدثنا هارون بن معروف حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله)]. يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب في الجهمية ] أي: في بيان فساد مذهبهم، وما ورد من النصوص في الرد عليهم ، والجهمية منتسبون إلى الجهم بن صفوان ، وعندهم بدع مختلفة، وهم ينفون عن الله الأسماء والصفات، ومذهب الجهمية كان موجوداً قبل الجهم ، فإن الذي أسسه هو الجعد بن درهم ، وكان ذلك في عصر التابعين، وقد سبق أن ذكرت أن الحافظ ابن حجر نقل عن الحسن البصري أنه قال: (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم) يعني ما جاء عنه من البدع التي أحدثها وتبعه على ذلك غيره، وقد جاء الجهم بن صفوان وأظهر هذا المذهب ونشره، فنسب إليه الجهمية، فهؤلاء هم الجهمية الذين عقد أبو داود رحمه الله هذا الباب في كتاب السنة من كتابه السنن لبيان الرد عليهم. وقد أورد في ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد شيئاً من ذلك فليقل: آمنت بالله) ]. وجاء في بعض الروايات: (فلينته) أي: ليقف عند هذا الحد ولا يتجاوز، والمعنى: فليصل إلى أن الله تعالى هو الخالق وكل من سواه مخلوق، ولا يتجاوز ذلك إلى مثل هذا السؤال الباطل الذي يقذفه الشيطان على بعض الناس، وفي بعض الروايات أنه قال: (فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، ففي الحديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، وهو يوسوس للإنسان، ويشوش عليه، ويأتيه بالوساوس التي تمر على خاطره، فإذا جاءت على خاطره فعليه أن يدفعها وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وليقل: آمنت بالله، ولا يسترسل مع الشيطان ووساوسه وما يلقيه عليه، فإن ذلك يؤدي به إلى الضرر، فليعرض عن هذه الوساوس ويشتغل بغيرها مما هو حق، فيشتغل بقراءة القرآن أو بذكر الله عز وجل، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي هي من الحسنات ومن الأعمال الصالحة. وهذه الخواطر والوساوس لا تؤثر على الإنسان إذا هجمت عليه هجوماً؛ لكن عليه أن يعرض عنها، والإنسان عندما تنقدح في ذهنه هذه الأمور ويستثقلها ويستعظمها فهذه علامة خير فيه.

تراجم رجال إسناد حديث: (لا تزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)


قوله: [ حدثنا هارون بن معروف ]. ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود . [ حدثنا سفيان ]. سفيان هو ابن عيينة ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن هشام ]. هشام بن عروة ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. عروة بن الزبير بن العوام ، وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
طريق أخرى لحديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عمرو حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل - حدثني محمد -يعني: ابن إسحاق - حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر نحوه، قال: (فإذا قالوا ذلك فقولوا: اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ من الشيطان) ]. يعني: أن هذه الأمور إذا حصلت له فإنه يقول: اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] يذكر الله عز وجل ويعظمه، وينصرف عن تلك الأشياء التي خطرت له، فالله واحد لا شريك له، وهو المتفرد بالخلق والإيجاد، وهو الذي يملك النفع والضر، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى، وهو الصمد الذي هو مستغنٍ عن كل من سواه، وكل من عداه فهو مفتقر إليه، ولا يستغني عن الله طرفة عين. فيستحضر هذه المعاني العظيمة، التي تدل على وحدانية الله عز وجل، وعلى تفرده بالخلق والإيجاد، وعلى كمال غناه وفقر كل أحد إليه، وأنه لا يستغني عن الله طرفة عين، وفي ذلك الابتعاد عن هذا الذي يلقيه الشيطان في ذهن الإنسان، من مثل هذه الأمور السيئة التي من الصعوبة على الإنسان أن يتلفظ بها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (سئل عن الرجل يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان) يعني: كون الإنسان يستعظم هذه الأمور ويصعب عليه أن يتكلم بها، فهذا يدل على إيمانه. لكن من يسهل عليه أن يتكلم بمثل هذه الأمور، أو تأتي شبه فيطلقها ويتبناها ويدعو إليها، فهذا هو الذي أصابه البلاء من الشيطان، بحيث أغواه في الداخل، ثم تجاوز الحد إلى أن أظهر ذلك وتبناه ودعا إليه. قوله: [ (اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:2-4]) ]. فهو لكونه صمداً غني عن كل من سواه، ثم أتى بعد ذلك ما يوضح ويبين استغناء الله عز وجل فقال: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]) فنفى عنه الأصول والفروع والنظراء الذين يشابهونه ويماثلونه وينادّونه، وإنما هو واحد في ذاته وفي صفاته، لا شريك له في الخلق والإيجاد، ولا شريك له فيما يختص به مما يتصف به من الصفات، ولا شريك له في العبادة، بل هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. فقوله: [ ((( لَمْ يَلِدْ ))[الإخلاص:3]) ] نفي للفروع، [ ((( وَلَمْ يُولَدْ ))[الإخلاص:3]) ] نفي للأصول، [ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]) ] نفي للأشباه والنظراء.
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)


قوله: [ حدثنا محمد بن عمرو ]. محمد بن عمرو الرازي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود و ابن ماجة . [ حدثنا سلمة -يعني: ابن الفضل - ]. صدوق كثير الخطأ أخرج له أبو داود و الترمذي و ابن ماجة في التفسير . [ حدثني محمد -يعني ابن إسحاق - ]. محمد بن إسحاق المدني ، وهو صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم ]. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ]. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. قد مر ذكره.

شرح حديث الأوعال


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: (كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن؟ قالوا: والمزن، قال: والعنان؟ قالوا: والعنان، -قال أبو داود : لم أتقن العنان جيداً- قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحراً بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك) ]. أورد أبو داود حديث العباس بن عبد المطلب ، ومحل الشاهد منه في باب الرد على الجهمية نفاة الصفات أن الله تعالى فوق العرش، فإنه لما ذكر هذا الحديث بطوله، قال في آخره بعد أن ذكر العرش: [ (والله فوق ذلك) ] يعني فوق العرش. وفوقية الله عز وجل وعلوه قد جاءت في آيات كثيرة، فهو عز وجل متصف بالعلو بأنواعه الثلاثة: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. وجاء في الآيات والأحاديث الكثيرة أن الله تعالى فوق العرش، وأنه قد استوى على العرش، وأن الملائكة تعرج إليه، وكل ذلك يدل على علو الله عز وجل، وقد ذكر بعض أهل العلم أن أدلة علو الله عز وجل تبلغ ألف دليل من الكتاب والسنة، لكثرتها وتنوعها. وهذا الحديث فيه رجل ضعيف، فهو حديث ضعيف؛ ولكن الأمر الذي أورده أبو داود من أجله وهو ما يتعلق بعلو الله عز وجل وفوقيته ثابت بالآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة، فقد جاء الاستواء على العرش في سبع آيات من كتاب الله. قوله: [ (كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) البطحاء هي المحصب، وهو مسيل واد فيه دقاق الحصباء فقيل له: المحصب، وهو في مكة. قوله: [ (فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن؟ قالوا: والمزن، قال: والعنان؟ قالوا: والعنان) ]. هذه كلها أسماء للسحاب، قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:69]، وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]. قوله: [ (قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟) ]. بعد ما بين السماء والأرض التي فيها ذلك السحاب، فالسحاب يكون في هذا العلو الذي بين السماء والأرض، كما قال الله عز وجل: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]. قوله: [ (إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة) ]. يعني: مسيرة ثلاث وسبعين سنة أو اثنتين وسبعين سنة أو إحدى وسبعين سنة، يعني: أن المسافة بعيدة وشاسعة تقطع بهذه السنين. قوله: [ (ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات) ]. يعني: أن ما بين كل سماء إلى سماء مثل هذا المقدار. قوله: [ (ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء) ]. الأوعال من الحيوانات المتوحشة التي مما تكون في البر، وهو من الصيد، وهذا الوصف يخالف ما وصف به الملائكة بأنهم: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]. قوله: [ (ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء) ]. أي أن سمك العرش كذلك. والحديث كما أسلفت فيه رجل ضعيف، فهو غير ثابت، ولكن الأمر الذي سيق الحديث من أجله وهو كون الله تعالى فوق العرش ثابت، وفي ذلك رد على الجهمية الذين يقولون: إن الله ليس فوق العرش، ويقولون: إنه في كل مكان، أو يقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، فإن قوله: [ (فوق العرش) ] يدل على خلاف ما قالوه وعلى إبطال ما قالوه.
تراجم رجال إسناد حديث الأوعال


قوله: [ حدثنا محمد بن الصباح البزاز ]. محمد بن الصباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا الوليد بن أبي ثور ]. هو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ عن سماك ]. سماك بن حرب ، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن عبد الله بن عميرة ]. هو مقبول، أخرج له أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ عن الأحنف بن قيس ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن العباس بن عبد المطلب ] عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ذكر ما نقله السندي في شرح حديث الأوعال والتعليق عليه


قال السندي في حاشيته على ابن ماجة (الأوعال جمع وعل، والمراد أن الملائكة على صورة الأوعال، (ثم الله فوق ذلك) تصويراً لعظمته سبحانه وتعالى وفوقيته على العرش بالعلو والعظمة والحكم، لا الحلول والمكان انتهى. هذه العبارة غير صحيحة، فالله تعالى بذاته وصفاته فوق عرشه، وهو كما يليق به، ولا يجوز أن يتكلم في أمور أخرى ما جاء إثباتها ولا نفيها في الكتاب والسنة، والله عز وجل عظيم الذات وعظيم القدر، وعلي الذات وعلي القدر وعلي القهر، وكل هذه الصفات لله سبحانه وتعالى وهو متصف بها، وهو سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه كما صرح بذلك علماء أهل السنة، ومنهم ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته فإنه قال: فوق العرش المجيد بذاته؛ لكن كيفية استوائه على عرشه لا يبحث عنها، كما قال الإمام مالك رحمة الله عليه لما سأله سائل: كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول. فالاستواء معلوم لأن الناس خوطبوا بكلام يفهمونه، والاستواء معروف أنه العلو والارتفاع، ولهذا فسروه بالعلو والارتفاع، فمعنى أن الله استوى على عرشه أنه ارتفع عليه وعلا عليه، لكن كيفية هذا هي التي لا تعلم، ولهذا فإن أهل السنة يعتقدون التفويض في الكيف دون التفويض في المعنى، بخلاف المبتدعة الذين هم إما مفوضة يقولون: الله أعلم بمراده، فلا يعرفون معنى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ومعنى ذلك أن الناس خوطبوا بكلام لا يفهمون معناه، وإما مؤولة. والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا معنى ما خوطبوا به؛ ولم يسألوا عن المعنى لأنهم عارفون بالمعنى، ولكن السؤال عن الكيفية هو الذي لا يجوز. قال في الحاشية: ولقد كتب الشيخ زاهد الكوثري في مقالاته مقالة باسم الصورة والأوعال، ونقل عن ابن العربي قوله: أمور تلقفت عن أهل الكتاب ليس لها أصل في الصحة. ونحن نقول: حديث الأوعال لم يثبت، ولكن ما يتعلق بعلو الله عز وجل واستوائه على عرشه قد أثبته أهل السنة والجماعة وتأوله من تأوله من المبتدعة، و زاهد الكوثري هو من هؤلاء المبتدعة الذين انحرفوا عن الجادة وعن الصراط المستقيم، وصار عنده كلام كثير في النيل من أهل السنة ولمزهم والتعرض لهم، فهو فيما يتعلق بالعقيدة منحرف وليس من أهل السنة والجماعة، بل هو من ألد أعداء أهل السنة والجماعة .
طريق ثانية لحديث الأوعال وتراجم رجال إسنادها


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن أبي سريج أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد و محمد بن سعيد قالا: أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بإسناده ومعناه. ذكر المصنف هذا الحديث بإسناد آخر، فقال عندما وصل إلى سماك : [ بإسناده ومعناه ]. قوله: [ حدثنا أحمد بن أبي سريج ]. أحمد بن أبي سريج هو أحمد بن الصباح بن أبي سريج ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و النسائي . [ أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ]. ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن. [ و محمد بن سعيد ]. ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي . [ عن عمرو بن أبي قيس ]. صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن. [ عن سماك ]. مر ذكره. وفيه عبد الله بن عميرة الذي هو مقبول.
طريق ثالثة لحديث الأوعال وتراجم رجال إسنادها


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بإسناده ومعنى هذا الحديث الطويل ]. ثم ذكر حديث الأوعال بإسناد ثالث وأحال على الإسناد الأول، وأنه بإسناده ومعناه، وكله عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس. قوله: [ حدثنا أحمد بن حفص ]. أحمد بن حفص بن عبد الله ، وهو صدوق أخرج له البخاري و أبو داود و النسائي . [ حدثني أبي ]. هو حفص بن عبد الله ، وهو صدوق، أخرج له البخاري و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا إبراهيم بن طهمان ]. ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سماك ]. قد مر ذكره.
شرح حديث أطيط العرش بالله تعالى


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الأعلى بن حماد و محمد بن المثنى و محمد بن بشار و أحمد بن سعيد الرباطي قالوا: حدثنا وهب بن جرير -قال أحمد: كتبناه من نسخته. وهذا لفظه- قال: حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: (يا رسول الله! جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا -وقال بإصبعه مثل القبة- مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب). قال ابن بشار في حديثه: (إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته) وساق الحديث. وقال عبد الأعلى و ابن المثنى و ابن بشار : عن يعقوب بن عتبة و جبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين و علي بن المديني ، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً، وكان سماع عبد الأعلى و ابن المثنى و ابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني ]. أورد أبو داود حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [ (جهدت الأنفس، وضاع العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإننا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك) ] فلما قال: [ (نستشفع بالله عليك) ] قال عليه السلام: [ (ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح الرسول صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك!) ]. أي: وإنما الاستشفاع يكون من المخلوق، حيث يطلب منه أن يشفع مثلما يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، بأن يطلب منه الدعاء فيدعو ويجيب الله دعوته، وفي الآخرة تطلب منه الشفاعة عندما يكون الناس في الموقف فيشفع، وكذلك يشفع في الخروج من النار، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواع متعددة، فالشفاعة تكون من الأدنى إلى الأعلى أما أن يشفع الأعلى عند الأدنى فلا، والقول بأن الله عز وجل يستشفع به على خلقه قول خطير وأمر عظيم، ولهذا سبَّح النبي صلى الله عليه وسلم مستعظماً ومتعجباً، وقال: [ (شأن الله أعظم من ذلك) ]. ثم ذكر أنه فوق عرشه، وأن عرشه فوق مخلوقاته، وقال: [ (إنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب) ] والرحل هو الخشب الذي يجعل على البعير ويركب عليه الراكب، وإذا كان الراكب ثقيلاً فإنه يصير له صوت من ثقل الراكب عليه. وهذا الحديث الذي فيه أن العرش يئط بالله عز وجل غير صحيح، وفي إسناده من هو متكلم فيه، ولكن الشيء الذي ساقه أبو داود من أجله -وهو أن الله تعالى فوق عرشه- قد جاء في آيات كثيرة وأحاديث عديدة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والحجة بها دونه، ويكفي ما ورد مما صح عما لم يصح. يقول الخطابي : هذا الكلام إذا أجري على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله وصفاته منفية، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قُصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه، إذ كان أعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام، وبما لطف منه عن درك الإفهام، وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله: (أتدري ما الله؟) معناه: أتدري ما عظمة الله وجلاله؟) وأقول: هذا كلام لا حاجة إليه، والحديث كما هو معلوم غير ثابت، وأما كون الله تعالى فوق عرشه فإنه ثابت في الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 339.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 333.67 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.72%)]