شهيد القسطنطينية الشيخ عائض بن عبدالله القرني - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ملخص من شرح كتاب الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 1485 )           »          فقه الطهارة والصلاة والصيام للأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 8 )           »          الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          فضل الصبر على المدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الفرق بين إفساد الميزان وإخساره (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3086 - عددالزوار : 331649 )           »          تفسير قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          تحريم أكل ما ذبح أو أهل به لغير الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، الرازق) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-07-2019, 11:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,365
الدولة : Egypt
افتراضي شهيد القسطنطينية الشيخ عائض بن عبدالله القرني

شهيد القسطنطينية


الشيخ عائض بن عبدالله القرني






إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.








{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].




أما بعد:



فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.



أيها المصلون، أيها الساجدون، أيها المؤمنون، عنوان هذه الخطبة: (شهيدُ القسطنطينية) من هو هذا الشهيد؟ إنه رجل مؤمن ولد في الجزيرة، وقتل في الثمانين، وقد اشتعل رأسه شيباً، قتل في سبيل الله تحت أسوار القسطنطينية، والمسلم ليس له أرض واحدة، البلاد كلها بلاده، لأنها بلاد الله كما قال الشاعر:








أنا الحجازُ أنا نجدٌ أنا يمنُ أنا الجنوبُ بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغدادُ الهوى وأنا بالرُّقْمَتَيْنِ وبالفُسْطاطِ جيراني
النيلُ مائي ومن عَمَّان تذكرتي وفي الجزائر إِخواني وتَطْواني
فأينما ذُكر اسمُ اللهِ في بلدٍ عدَدْتُ ذاك الحمى من صُلبِ أوطاني






فمن هو هذا الرجل الشهيد؟ إنه الذي استقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم فر عليه الصلاة والسلام، من مكة من الإرهاب، فر من السيوف التي تقطر حقدً ودماً، باع أهل مكة أملاكه، وحاصروه وآذوه وشتموه، ووضعوا الشوك في طريقه، والسَّلاَ على ظهره، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فخرج يحمل مبادئه ودعوته التي رفض أن يتنازل عن أي جزئية منها مهما كانت الظروف، ومهما كان حجم الإيذاء والحصار الذي تتعرض له الفئة المؤمنة.



وانطلق - صلى الله عليه وسلم - متوجهاً إلى المدينة إلى الأنصار، إلى أحباب الله، إلى كتيبة الإسلام.




أخذ، عليه الصلاة والسلام، عشرة أيام في السفر، تتلهب أقدامه من حرارة الصحراء، وقد امتلأ جوعاً وتعباً وظمأ وسهاداً ومشقة، لكن كلُّها في سبيل الله، كانت الأنصار تخرج مع الظهيرة، يخرجون جميعاً على بكرة أبيهم ليستقبلوا أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم رجل مشى على وجه الأرض، أما الرجال فكانوا يخرجون بالسيوف والرماح ليحيوا الزعيم المنتظر والرسول الكريم، وأما النساء فكن يصعدن على أسطحة المنازل، علَّهن يظفرن بنظرة واحدة إلى وجهه المشرق بالنور واليقين، وأما الأطفال فكانوا ينتشرون كالدرر والجواهر على جنبات الطريق، يصفقون وينشدون ويرددون.








طلعَ البدرُ علينا من ثَنِيَّات الوداع
وجبَ الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئتَ شرَّفت المدينة مرحباً يا خير داع


وفي ظهيرة اليوم الخالد الذي لا يُنسى أبداً، إذا بالصائح يصيح في قوة وفرحة: قدم الرسول، عليه الصلاة والسلام فخرج الأنصار بسيوفهم، كأنهم خرجوا من المقابر، بُعثوا من جديد، وسال الحب في دمائهم من جديد، وعادت لهم الحياة من جديد، يقول أحد الناس في الرسول - صلى الله عليه وسلم -:







سافَرَتْ نفسُه الكريمةُ فيضا فالليالي محسودةٌ بالليالي
وعلى يثرب أهازيجُ نَصرٍ طلع البدرُ نفحةُ الأطفالِ
واستفاقَتْ على صَبَاحٍ جديدٍ مِلْءُ آذانها أذانُ بلال






وصلى عليه الصلاة والسلام على ناقته، يقول أنس: والله الذي لا إله إلا هو، ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيتُ الأنصارَ يبكون من الفرح، لمقدم الرسول، عليه الصلاة والسلام.







طَفَحَ السرورُ عليَّ حتى إنني من عِظَمِ ما قد سرَّني أبكاني

ووقف - صلى الله عليه وسلم - يحيي القبائل قبيلة قبيلة، يأخذون زمام ناقته؛ ليكون ضيفهم، فيقول دعوها فإنها مأمورة، أمرها الله، الله يأمر ناقته، الله يتولى ناقته من فوق سبع سماوات، اتركوا الناقة إذا نزلت الناقة في مكان فأنا معها، فيمر ببني بياضة، فيخرجون بالسيوف، يغمرهم الفرح والغبطة لرؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم.



فيقولون: أنت ضيفنا، قال: دعوها فإنها مأمورة، ويشير لهم، ويبتسم لهم، ويشكرهم، ويمر ببني عمرو بن عوف، وقد اصطفوا على جنبات الطرق يحيونه، قالوا: أنت ضيفنا، قال: دعوها فإنها مأمورة، وتخترق الصفوف، وتسير إلى أن تأتي بني النجار، فيخرج أطفال بني النجار وطفلات بني النجار، يقلن:







نحنُ جَوَارٍ من بني النجَّارِ يا حبَّذَا محمدٌ من جَارِ





فتبسم - صلى الله عليه وسلم - ويُرفع له الأطفال على ناقته فيقبلهم، ويتركهم - صلى الله عليه وسلم - لكنه يأسر قلوبهم، فلا تعودُ لهم أبداً.



ثم أناخت الناقة في مكان مسجده الآن، ولما أناخت، انتظر قليلاً، ولم ينزل من على ظهرها، فقامت، ثم مضت قليلاً، ثم رجعت إلى مكانها، فأناخت وبركت، ونزل - صلى الله عليه وسلم - ولما نزل سارع هذا الشيخ الذي قُتِل في أرض الروم، إلى متاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى ملابسه، وإلى ما كان محمولاً على الناقة، فأخذه، فقال بنو النجار، عندنا يا رسول الله، أنت ضيفنا قال: لا، الرجل مع رحله، فذهب وراء الشيخ، الذي هو أبو أيوب الأنصاري، ووصل معه إلى البيت، فقال: يا رسول الله: عندي هذا البيت، سُفْلَى وعُلِّيَّة يعني طابقين، دورين اثنين، أنت يا رسول الله اسكن في الأعلى وأنا هنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أريد أن أكون قريباً من الناس، قريباً من المسجد، فأريد هذا)) يريد الأرضي، فأسكنه، وصعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته الطاهرة النقية الشريفة إلى الدور الأعلى، وأتى النوم، فأخذ يتقلب أبو أيوب الأنصاري، كأنه يتقلب على الرمضاء لا ينام، قالت له زوجته: ما لك يا أبا أيوب لا تنام؟ قال: والله ما أتاني النوم، كيف أنام في العُلِّية، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ينام أسفل مني، وفي الصباح حاول أبو أيوب، مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى فأبى.




كان الطعام يقدم لأبي أيوب، فيرفع يده، وترفع زوجته يدها، ويقولان: والله لا نأكل حتى يأكل الرسول - عليه الصلاة والسلام - فينزل بالقصعة، وينزل بالصحفة، ويقدم الثريد، ويشوي اللحم ويُضيف أحسن ضيافة عرفها التاريخ.



وفي ليلة من الليالي، يقوم أبو أيوب ليصلي، فيصطدم بجرة الماء فتنكسر، فينسكب الماء على الأرض، فيأخذ شملته لينشف الأرض، لئلا يتصبب الماء على المصطفى، عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: يا رسول الله، أسألك بالله، أن تصعد في العُلية وأنا في السفلى، فصعد، عليه الصلاة والسلام.



قدم له من الإكرام ما لم يقدمه تلميذ لشيخ، ولا مسلم لإمام عظيم، ولا مضيف لضيف، كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يخرج، قدَّم أبو أيوب حذاءه وألبسه في رجليه، كان يقف ليستقبله، ويقف ليودعه، حوَّل نفسه إلى طباخ في البيت، يقدم جهده، وعرقه، وكل ما يملك؛ ليفي بالضيافة، وحفظها له، عليه الصلاة والسلام، ولم يضيعها أبداً، كان يدعو له، وكان يتفقده، وكان يرى أنه الشيخ المبارك، الذي أصبح فيه كل شيءٍ أبيض، دينه، ولحيته، وقلبه، ومبادؤه.




وهذه قصة أذكرها وهي تدل على زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه في هذه الدنيا، وتدل أيضاً على فضل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وكرمه.



يجوع - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد في بيته لقمة، ولا تمرة، ولا شيئاً يؤكل، فيخرج إلى الطريق، وإذا بأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – فيقول لهما: ((ما أخرجكما هذه الساعة؟)) قالا: والله ما أخرجنا إلا ما نجده في بطوننا من حاقّ الجوع[1]، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا والذي نفسي بيده .. ما أخرجني غيره، فقوما))، فانطلقوا فأتوا باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وكان أبو أيوب يدّخر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً كان أو لبناً، فأبطأ عليه يومئذٍ، فلم يأت لحينه، فأطعمه لأهله، وانطلق إلى نخله يعمل فيه.




فلما انتهوا إلى الباب خرجت امرأته فقالت: مرحباً بنبي الله وبمن معه، قال لها نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أين أبو أيوب؟)) فسمعه أبو أيوب – وهو يعمل في نخل له – فجاء يشتد فقال: مرحباً بنبي الله، وبمن معه، يا نبي الله ليس بالحين الذي كنت تجيء فيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صدقت)). قال: فانطلق، فقطع عذقاً[2] من النخل فيه كلٌّ من التمر، والرطب، والبُسر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردت إلا هذه، ألا جنيت لنا من تمره؟)) قال: يا رسول الله: أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره، ولأذبحن لك مع هذا.



قال: ((إن ذبحت فلا تذبحنَّ ذاتَ درّ))، فأخذ عناقاً أو جدياً فذبحه، وقال لامرأته اخبزي واعجني لنا وأنت أعلم بالخبز، فأخذ نصف الجدي فطبخه وشوى نصفه، فلما أدرك الطعام ووضع بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال: يا أبا أيوب، أبلغ بهذا فاطمة؛ فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام. فذهب أبو أيوب إلى فاطمة.




فلما أكلوا وشبعوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خبز، ولحم وتمر وبسرٌ، ورطب، ودمعت عيناه، والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة))[3].



ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يموت كما يموت البشر، ولكن مبادئه لم تمت، ظلت مبادؤه وأخلاقه عند أبي أيوب وغيره من أعلام الصحابة، بقي أبو أيوب شابّاً وهو في الثمانين، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أصحابه سوف يركبون البحر غزاة في سبيل الله دخل - صلى الله عليه وسلم - عند عجوز، هي أم حرام بنت ملْحَان[4]، فنام عندها في الظهيرة، في القائلة، ثم استفاق - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، قالت: ما لك يا رسول الله! أضحك الله سنك. قال: ((رأيت الآن أناساً من أمتي يركبون البحر غزاة في سبيل الله، كالملوك على الأَسِرة، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم))[5].




وتستمر الأيام، وينادي المسلمون كتائب الإسلام، أن تجاهد في سبيل الله؛ لتفتح القسطنطينية وتغزو بلاد الروم؛ لتوسع دائرة الإسلام.



ولما سمع أبو أيوب منادي الجهاد أخذ سيفه ورمحه، وركب بغلته وذهب إلى ساحة القتال، قل أبناؤه: أنت شيخ كبير في الثمانين، قال: لا.








حَمَلْتَ الثَّمَانِينَ الطِّوَالَ مُجَاهِداً كَأَنَّكَ في العِشْرِين تَقْرا وتَكْتُبُ





قالوا: عذرك الله، أنت شيخ كبير ومريض، ولا تستطيع القتال، قال: لا والله، إن الله يقول: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [التوبة: 41]. وأنا ثقيل، والله لأنفرنَّ، وذهب إلى الجهاد.



وانظر إلى هذا العمر المبارك، أين كثير من أهل الثمانين الآن، الذين حولوا آخر المطاف إلى شهادة الزور، واللهو واللعب، والظلم والجور والعياذ بالله.







وَيَقْبُحُ بِالفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّى
إِذَا مَا لَمْ يُفِدْكَ العِلْمُ خَيْراً فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا عَلِمْتَ






شيوخ كبار وما تابوا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، وهم عذاب أليم، أُشَيْمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه))[6]. شيخ كبير ويزني، وتفاجأ بشيخ كبير ويسرق، وشيخ كبير ويحلف أيماناً غموساً، وشيخ كبير يقطع الأرحام، وشيخ كبير يؤذي الجيران، وشيخ كبير يمضي بالنميمة بين الناس.



أما أبو أيوب فجعل الثمانين طاعة لله، وركب مع الجيش، وصعد على السفينة، وعبرت به البحر، وهو ينشد نشيد الخلود: لا إله إلا الله محمد رسول الله.



وتبدأ المعركة، فيغتسل، ويلبس أكفانه، ويتطيب، ويتحنط، ويقول للمسلمين: أسألكم الله، إذا قُتلت اليوم، فالتمسوا آخر أرض من أراضي المسلمين تجاه الروم، فادفنوني تحت أسوار القسطنطينية، علَّ الله أن يبعثني يوم القيامة، مؤمناً بين كافرين.



الله أكبر يبعث يوم القيامة، وحيداً مؤمناً بين كافرين.




إذا قامت القيامة، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، خرج أبو أيوب من قبره، ينفض التراب عن رأسه، وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.




وبدأت المعركة فقاتل قتالاً شديداً، وهو في الثمانين، وقُطع رأسه الطاهر الذي طالما سجد لله - عزَّ وجلَّ -:







يا عابدَ الحَرَمَيْن لو أبصرتَنَا لعَلِمْتَ أنَّكَ بالعبادة تلعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خَدَّهُ بدُمُوعِهِ فنُحُورُنا بدمائنا تَتَخَضَّبُ
أو كان يُتْعِبُ خَيْلَهُ في باطلٍ فخُيُولُنَا يومَ الصَّبِيحَةِ تَتْعَبُ






قُتل - رحمه الله - وهو مدفون هناك، من وصل منكم هناك، فليسلم عليه، وليبلغه سلام الأمة الإسلامية، وليقف على قبره طويلاً، وليشكره على حسن الضيافة، وعلى حسن الاستقبال وعلى حسن الحياة، وعلى حسن العطاء والفداء والتضحية، سلام عليك يا أبا أيوب الأنصاري، من جزيرة العرب، وجزاك الله خير ما جزى وليّاً عن أمة محمد، عليه الصلاة والسلام، وأحسن الله إليك، كما أحسنت إلينا، وجمعنا الله بك في دار الكرامة.



ذلكم هو شهيد القسطنطينية، وهو من أجدادنا، ومن أراد أن يسير على طريقه فما ذاك ببعيد، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.



أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.



الخطبة الثانية



الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.



أيها الناس: إنما وضع المنبر في كل جمعة؛ لنتدارس أخطاءنا، ولنعود إلى حساباتنا، ونعرض مشاكلنا أمام أعيننا، نحلها بكتاب الله - عزَّ وجلَّ - وبسنة رسوله، عليه الصلاة والسلام، وقد أخطأنا جميعاً خطأ اجتماعيّاً، مرت عليه سنوات، وقليل من ينبِّه عليه، وقليل من يستنكره، وقليل من يلاحظه، حتى أصبح سائداً بين الناس، وكأنه من الكتاب والسنة، وقد أضرَّ هذا الخطأ الجسيم بكثير من الناس، ألا وهو: الإسراف في الزواجات، ومن صور هذا الإسراف، الذي لا يرضاه الإسلام، الإسراف في صالات الأفراح، وفي الولائم التي يقوم بها الناس في وقت الزواج، وكيف جعلهم يستدينون أموال الناس، لينفقوها على هذه المظاهر الكاذبة، وهم كارهون، ولكن يرفض العرف الجاهلي، إلا البطر والرياء والسمعة والإسراف.




تصوروا .. شابٌّ مقدم على حياة جديدة، وبيت جديد، راتبه زهيد، ودخله حقير، يريد زوجة يسكن إليها، وينشئ بيتاً إسلاميّاً، فأول ما يواجهه من العقبات؛ صالة الأفراح، عشرون ذبيحة، إلى ثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسين، من أين يدفعها؟ يذهب إلى الناس؛ ليستجدي من أجل العرف الجاهلي، الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأين العقلاء؟ وأين أهل الرأي؟ وأين أهل العلم؟ وأين القضاة؟ وأين الدعاة؟ وأين العلماء الذين يقفون أمام هذا الخطأ الفادح؟ إن هذا يجرُّ إلى أمور محظورة وخطيرة على الأمة، منها الإسراف الذي نهى الله عنه: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 26-27]. ثلاثون ذبيحة ترمى، والفقراء في البادية وفي تهامة، لا يجدون كسرة الخبز، ثلاثون ذبيحة ترمى، والشعوب الإسلامية بعضها يأكل أوراق الشجر. ثلاثون ذبيحة ترمى للقطط والكلاب، وكثير من المساجد لم تُعْمر منذ عشر سنوات، أليس هذا هو البطر بعينه؟ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [الأنفال: 47].




في العطلة الماضية في أبها، وقع أكثر من اثنين وستين زواجاً، كلها مغالاة، ومفاخرة، ومراءاة في صالات الأفراح، وعلمت من كثير ممن تزوج، أنهم اقترضوا لإقامة الولائم وتأجير الصالات، وشراء الهدايا، وغير ذلك، فهل يرضى الإسلام بهذا؟ وهل يقر ذلك المسلمون؟



إن العالم الكافر الآن، أصبح يتعامل بالعقل في أموره الاجتماعية، وأموره الاقتصادية، ويقنن مساراته، ويعرف دخله وما ينفقه، ويعرف أموره النافعة من الضارة، ونحن أمة الكتاب والسنة، منا العلماء، وأهل الرأي، والأخيار، والأبرار، ونسكت بالإجماع على هذا الخطأ.




ثم إن ذلك يورث أيضاً، إحجام كثير من الشباب عن الزواج إذا كان المجتمع يصرُّ على هذه التكاليف، من الشرعة، والوليمة، وإيجار الصالة، وكثرة الذبائح، والحلي، والمهر، فمن يجمع هذا لهذا الشاب؟ حينها تقع العنوسة ويتوقف الشباب والشابات عن الزواج، وتقع أمور لا تحمد، ولا يرضاها الله، فما هو الحل؟ الحل عند محمد، عليه الصلاة والسلام، أن نفعل كما فعل – بأبي هو وأمي – فهو أغنى الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس أن نقتصد، ولا نساير الناس في أفكارهم، ولا في آرائهم؛ بل علينا بما يرضي الله - عزَّ وجلَّ - ففي الحديث: ((من أرضى الناس بسخط الله، وكَّلَهُ الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضى الله، كفاه الله مؤونة الناس))[7].




أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتزوج تسعاً من النسوة أو أكثر، بعضهن لم يجد لها ذبيحة واحدة، وإنما قدَّم زبيباً، وشيئاً من شعير، وشيئاً من سويق، فأكله الصحابة، وتمضمضوا وقاموا يصلون، وزواج آخر، وجد ذبيحة واحدة، جمع عليها أكثر من ثمانين من الصحابة.



لماذا لا تقام هذه الحفلات في البيوت، ولماذا نأخذ أموال الناس، ديناً في رقابنا، لنباهي الناس، ونرائي الناس، ونفاخر الناس، أما تكفي الذبيحة والذبيحتان فحسب، أليس هذا هو العقل؟ أليس هذا هو الدين؟ أليس هذا هو الترشيد؟




ومن عنده فائض من المال، فمشاريع الخير وأبواب الجنة ثمانية، يدخل بماله من أي باب شاء.



أما هذه الأموال التي يصرفها رياءً وسمعةً، فسوف تمنعه أن ينجو كفافاً، لا له ولا عليه، بل سيحاسب عليها عند الله يوم القيامة. {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].




أيها المسلمون:



كلكم رشيد، أو الغالب منكم أهل العقل، والواجب أن يبدأ الرشيد، بعمل يرضي الله - عزَّ وجلَّ - فإنه: ((من سَنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة))[8].



أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من المتالف، ومن الأخطاء، ومن المخالفات الشرعية.




عباد الله:



وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].



وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[9].



اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.














[1] حاق الجوع: أي صادقُه.



[2] العِذق: هو الغصن من النخل.



[3] أخرجه الطبراني وابن حبان في صحيحه، وانظر حياة الصحابة (1/288)، وأخرجه مسلم مختصراً (3/1609) رقم (2038) ولم يسم الرجل الأنصاري، وأخرجه الترمذي (4/504، 505) رقم (2369)، ومالك في الموطأ (2/932) رقم (28) بلاغاً، وعندها أن الرجل الأنصاري هو أبو الهيثم بن التَّيْهان الأنصاري.



قال المنذري في الترغيب والترهيب: (5/167): والظاهر أن هذه القصة اتفقت مرّة مع أبي الهيثم ومرة مع أبي أيوب – رضي الله عنهما -.



[4] اتفق العلماء على أنها كانت محرماً للرسول، عليه الصلاة والسلام، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة، وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو جده.



[5] أخرجه البخاري (8/73)، ومسلم (3/1518)، رقم (1912).



[6] الحديث أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب، عن سلمان، وصححه الألباني، كما في صحيح الجامع رقم (3072).




[7] أخرجه ابن حبان في صحيحه، وعبد بن حميد، وأبو نعيم في الحلية، عن عائشة، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6010).



[8] أخرجه مسلم (4/2059) رقم (1017) من حديث جرير بن عبد الله – رضي الله عنه -.



[9] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 69.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.20 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.39%)]