عبدالله بن عباس - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         (صلاة الجمعة) من بلوغ المرام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          وأذن في الناس بالحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          الخيانة والجريمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          كيف نتجاوز كدر الحياة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          آيات تنسف الإلحاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          سبل استغلال الوقت بالإجازة الصيفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          الإيمان بالقدر والقضاء.. وجوبه وثمرته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          مراقبة الله عز وجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          الاستعداد للحج بالتوبة ورد المظالم والديون لأصحابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-03-2020, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,829
الدولة : Egypt
افتراضي عبدالله بن عباس

عبدالله بن عباس
أحمد الجوهري عبد الجواد




عبدالله بن عباس

أمجاد الإسلام في سير أعلامه الكبار (5)



سنوات وقريش تحاول إثناء النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بكل وسيلة عن ذلك الدين الجديد، أخفقت محاولاتها بالترغيب والترهيب والوساطة وغيرها، حتى كانت السنة السابعة من النبوة فتفتَّقت حيلتها عن وسيلة خبيثة للضغط على رسول الله وآله لتلبية طلباتها، فماذا فعلت؟

قرَّرت محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم وآلِه والمؤمنين؛ اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وكتبت بذلك صحيفةً؛ فيها: "ألا يناكحوهم ولا يتزوجوا منهم، وألا يبايعوهم ولا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، وألا يجالسوهم ولا يخالطوهم، ولا يدخُلوا بيوتهم ولا يكلموهم، وألا يقبَلوا مِن بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا الرسول صلى الله عليه وسلم لهم للقتل"[1]، وعلَّقوا هذه الصحيفة في الكعبة، وبدؤوا في تطبيقها فعليًّا.

استمرَّ العمل بهذه الصحيفة الآثمة ثلاث سنوات كاملة، وكان من أثر ذلك أن بقوا محصورين، مضيَّقًا عليهم، وانقطع عنهم العون، وقلَّ الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه، وسُمع بكاء أطفالهم من وراء الشِّعب، وعضَّتهم الأزمات العصبية، حتى رثى لحالهم الخصومُ[2].
يقول سعد بن أبي وقاص: "خرجتُ ذات يوم - ونحن في الشِّعب - لأقضي حاجتي، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا هي قطعة من جلدِ بعير يابسة، فأخذتها فغسَلْتُها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء، فتقويت بها ثلاث ليالٍ"[3].

في هذا الجو المكفهر، ووسط هذه الويلات، وُلِد حبر الأمة وترجمان القرآن عبدُالله بن عباس رضي الله عنهما، الطفل الذي سيعرفه المستقبل القريب فقيهَ العصر ومفتيَه، وإمام التفسير وبحره، وأعلم الناس في عصره، ومَن يُحتاج إلى علمه من بين المشرق والمغرب.
كان ذلك قبل عام الهجرة بثلاث سنين تقريبًا، ولما ولدته أمُّه جاء به أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنَّكه برِيقِه، قال مجاهد: "فلا نعلم أحدًا حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه غيره"[4].

إذًا فعبدالله مكيٌّ قرشي، وهو أيضًا هاشمي مطَّلبي، فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ العباسِ بن عبدالمطلب.
وعلى الرغم من أن الطفل الوسيمَ، الأبيض، مديد القامة، صبيح الوجه، قد أهلَّ على الدنيا في هذه الآونة المتأخرة من الفترة المكية، وأيضًا هاجر النبي إلى المدينة وهو طفل في مكة لم ينتقل مع أبويه إلى دار الهجرة إلا سنة الفتح، فإنه كان كامل العقل، ذكي النفس، فوعى لَمَّا هاجر كثيرًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وحدَّث عنه بجملة صالحة[5]، وحفِظ المفصَّل في عهده، واستطاع أن يخلص له من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من ثلاثين شهرًا، هي الفترة التي لازم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد الفتح إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام.

وقد أسلم ابنُ عباس قبل هجرته إلى المدينة، فإنه صح عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعَفين؛ أنا من الولدان، وأمي من النساء[6]، وأمه هي: أم الفضل، أخت أم المؤمنين ميمونة، هو وخالد بن الوليد ابنا خالة.
عن كريب أن ابن عباس قال: أتيت خالتي ميمونة، فقلت: إني أريد أن أبيت الليلة عندكم.

فقالت: وكيف تبيت، وإنما الفراش واحد؟
فقلت: لا حاجة لي به، أفرش إزاري، وأما الوساد، فأضع رأسي مع رؤوسكما من وراء الوسادة.
قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته ميمونة بما قال ابن عباس، فقال: "هذا شيخ قريش"[7].
ماذا عسى يقول القائلون في هذه الهمة؟

كان ابن عباس رضي الله عنهما من رجال الكمال - فطرة وجبلَّة - وقد استطاع أن يصقل هذه الفطرة وينمِّيها بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة ملازمته، ويكأنه كان يُعوِّض ما فاته من صحبته، ويتزوَّد منه لمستقبل أيامه حين يفقده، وقد رزقه الله تعالى من العلم والفهم على قدر همته تلك وصدقه، ولنرقبه وهو في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته وخرج، فإذا به يجد إناءً به ماء، مغطى مجهزًا لوضوئه، فسأل ابنَ عباس: ((مَن صنع هذا؟))، قال: أنا، فقال: ((اللهم علِّمه تأويل القرآن، وفقِّهه في الدين))[8]، وفي رواية أنه دعا له: أن يزيده الله فهمًا وعلمًا، ولعل هذه في مرة، وهذه في مرة، فقد جاء عنه أنه قال: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسي، ودعا لي بالحكمة[9]، وجاء عنه أيضًا: دعا لي رسول الله بالحكمة مرتين[10]، والظاهر أن ذلك كله قد حدث معه في مرات كثيرة.

وقد أصاب ابنَ عباس دعوةُ النبي صلى الله عليه وسلم، فعلَّمه الله الحكمة وعلَّمه التأويل، وزاده فهمًا وعلمًا، ورزقه من لدنه علمًا، بل وفتح له مع ذلك أيضًا بصيرة، ولنشاهد موقفه ذاك، يقول:
"كنت مع أبي عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان كالمُعرِض عن أبي، فخرجنا من عنده، فقال: ألم ترَ ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه، قال: أوَ كان عنده أحد؟ قلت: نعم.
فرجع إليه، فقال: يا رسول الله، هل كان عندك أحد؟ فقال لي: ((هل رأيتَه يا عبدالله؟))، قال: نعم، قال: ((ذاك جبريل، فهو الذي شغلني عنك))[11].


والحق أن ابن عباس رضي الله عنهما أهلٌ لهذه المنقبة العظيمة، فمثله في علوِّ الهمة والحرص على العلم، وبذلِه الجهدَ والوقت في الطلب - حريٌّ أن ينال هذه الفضيلة، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفرْ عَنْكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29]، روى الحاكم وصحَّحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لَمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلتُ لرجل من الأنصار: هلمَّ نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا بن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام مَن ترى؟ فترك ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان لَيبلُغُني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسَّد ردائي على بابه، فتسفي الريح عليَّ التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا بن عم رسول الله، ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟! فأقول: أنا أحقُّ أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني.

يا لحرصه، مع فضله وتواضعه، مع رفعة أصله!
ويكأنه رأى في العلم عزَّه وفخاره، فتواضع لتعلُّمه ليرفعه، وذلَّ لطلبه ليعزه، وإلا فوالله لا يستطيع فعل ذلك دونه، وقد قيل: اصبر على ذل العلم يعقبك عزًّا.

وأعجب منهما - حرصه وتواضعه- ذكاؤه في استخراج العلم الذي يطلبه بطيب نفس معلمه، فوالله إن فرح المعلم بالعلم يلقيه إلى تلميذه وهو كذلك لأعظمُ من فرح التلميذ به!
يأتي المعلم، فيقال له: هو نائم، فلو شاء أن يوقظ له، لقام محبًّا لذلك؛ لما يعرفه من فضل أصله، لكنه يدعه حتى يخرج؛ يستطيب بذلك قلبَه!
أي إدراك هذا! وأي ذكاء؟! بل أي توفيق؟!

وإن هذا العلم لا يُنال براحة الجسد، ولا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فمن كانت تلك بدايته أحسَنَ الله نهايته، وأكرم بين البداية والنهاية كرامته، لا غرو أن رأينا ابن عباس ينزل من الإسلام منزلًا كريمًا حتى ليقول عنه ابن عمر: "ابن عباس هو حبر الأمة"، ثم رأيناه ينزل من القرآن منزلًا كريمًا، حتى كان يقوم على المنبر، فيقرأ البقرة وآل عمران، فيفسرهما آيةً آية.


ويقول له عمر: لقد علمتَ علمًا ما علمناه، ويستشيره في الأمر إذا أهمَّه، ويقول: غص غواص، لقد أوتيتَ علمًا ما أوتيناه، ثم يقول: لا يلومني أحد على حبِّ ابن عباس.
إن حرصَ ابن عباس هذا على العلم هو الذي قدَّمه على الأشياخ الكبار رغم صغر سنه، ورفعه على ذوي السبق في الصحبة رغم قصر مدة صحبته، فكان عمر يضمه إلى أهل مشورته ويقدِّمه على أشياخ بدر، فلما رأى أنهم قد وجدوا عليه في إدنائه دونهم، وسمع استنكارهم: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذاكم فتى الكهول؛ إن له لسانًا سؤولًا، وقلبًا عقولًا، ثم يسألهم ويسأله، فيجيب بأحسن من جوابهم، فيقبل عليهم قائلًا: "ما منعكم أن تأتوني بمثل ما يأتيني به هذا الغلام الذي لم تستوِ شؤون رأسه؟!".


لقد زرع ابن عباس فحصد، وجدَّ فوجد، ولقد بلغ من جده أنه كان يسأل عن الأمر الواحدِ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم!
وهو رضي الله عنه القائل: "لو أن حملة العلم أخذوه بحقه وما ينبغي، لأحبَّهم الله وملائكته والصالحون، ولهابهم الناس".

إن في العلم بالقرآن العلمَ كلَّه، والفقه كله، والخير كله، والبركة كلها، لا جرم كان ابن عباس أعلم هذه الأمة في عصره والعصور التي تلَتْه، وما ذاك إلا لأنه كان أعلمَهم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد شهِد له غير واحد من الصحابة ومن بعدهم بهذا، ولقد بلغ مِن تمكنه في تفسير الكتاب العزيز أنه لو سمِعه غير المسلمين لبادروا إلى الدخول في الإسلام.
أليس هو مَن ناقش الخوارج في شبهاتهم، فأسفرت مناقشاته لهم عن اقتناع عشرين ألفًا منهم غادروا إلى صف عليٍّ رضي الله عنه؟!

وما ظنكم برجل جمع ما عند الخلفاء الأربعة من علمٍ، وأضاف إليه علم بقية الأصحاب، مع ما رزقه الله من الفقه والفهم ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمه الله الكتاب والحكمة، وأن يحشو جوفه علمًا وفهمًا؟!
فما كان أحد قط أحضر فهمًا، ولا ألب لبًّا، ولا أكثر علمًا منه رضي الله عنه.

وكانت الأمَّة - وما تزال وستظل - عيالًا على ابن عباس في تفسير القرآن الكريم، فهو أول مَن أسس علم التفسير، ووضع أركانه، وأرسى دعائمه، وهو من أوضح أصوله، وأبان طرقه، وهو من عقد مجالسه ونشره، وفصَّل مجمل القرآن، وبيَّن غوامضه، وحل مشكله.
إننا لو أردنا أن نصور حجم التأثير الذي أحدَثَه ابن عباس في الحياة الإسلامية في جانب فهم القرآن، لأعيانا ذلك مهما أوتينا من بيان!

وإذا كان هذا علم ابن عباسٍ بالقرآن، فقد كان متبحرًا في سائر العلوم، وكان يفتي أربابها كلًّا فيما يشاء، وما كان مجلسٌ أجمع لكل علمٍ من مجلسه، وهذا مِن بركة القرآن فهو أبو العلوم ورأسها، وكذلك كان ابن عباس كأنما أعطي مفاتح العلوم وزيادة.
وقصدي بالزيادة بصره بالناس وبالواقع، فقد كان خبيرًا بزمانه، عارفًا بأوانه، مستبصرًا بسبيل الحق ومنهاج الوصول إلى إليه، حدَّث عنه ابن أبي مُليكة قال: قال ابن عباس: ذهب الناس وبقي النسناس، قيل: ما النسناس؟ قال: الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس!


ومِن نصائحه التي توزن بالذهب، تلك التي أسداها لأمير المؤمنين عليٍّ في خلافِه مع معاوية رضي الله عنه، فقد قال له قبل أن يقوم بالأمر: إن أنت قمت بهذا الأمر الآن، ألزمك الناس دمَ عثمان إلى يوم القيامة، فلما وَلِيَ علي قال لابن عباس: سر، فقد وليتك الشام، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، ولكن اكتب إلى معاوية فمَنِّه وعِدْه، قال: لا كان هذا أبدًا، ثم قال له مرة أخرى: استعمله، وبين يديك عزله بعد، فلم يقبل عليٌّ منه، فلما وقعت الواقعة وكان أمر التحكيم، قال لعلي: لا تحكِّم أبا موسى؛ فإن معه رجلًا حذرًا مرسًا قارحًا من الرجال، فلزني إلى جنبه، فإنه لا يحل عقدة إلا عقدتها، ولا يعقد عقدة إلا حللتها، قال: يا بن عباس، فما أصنع؟! إنما أوتى من أصحابي، قد ضعفت نيتهم وكلوا، هذا الأشعث يقول: "لا يكون فيها مضريان أبدًا"، فعذرت عليًّا وعرفت أنه مضطهد.


في هذا السمو من سداد الرأي كان ابن عباس رضي الله عنهما، ولمَ لا؟ وهو الذي أدرك نحوًا من خمسمائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عباس، فخالفوه، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله.
جدير بالذكر التنبه إلى أن الدأب في الطلب ليس السبب الوحيد لبلوغ ابن عباسٍ إلى ما وصل إليه، بل كان قرين ذلك الدأبِ في الطلب عظيم التربية وجميل الأدب، الأمر الذي تلمسه - عزيزي القارئ - في الأثر المارِّ قريبًا وفي غيره؛ كالذي أورده ابن المبارك أنه أخذ بركاب أستاذه زيد بن ثابت حتى علا صهوة جواده، قائلًا: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا.

وكان ثالث هذين الركنين العظيمين العمل بالعلم؛ فمن عمل بما عَلِم، ورثه الله علم ما لم يعلم، وأكرِمْ بابن عباسٍ عاملًا، في صلاة وصوم وحج وإنفاق وجود وخشية وصبر وحياء.
لقد عرَف أسلافنا قدر القرآن، فقاموا به حق قيامه، من أجل ذلك عزوا وسادوا، فتحوا به الصدور وأناروا به العقول، إن جهود ابن عباس وتلامذته من أهل القرآن بشرحه وتبيينه وتفهيمه وتبصير الناس بحقائقه - لم تكن بأقل من جهود أبي بكر وعمر ومعاونيهما، ولا بأقل من جهود خالد وأبي عبيدة والمثنَّى وسائر المحاربين في جيوش الدفاع والتمكين في الداخل وطلائع الفتح الإسلامي في الخارج؛ حيث أضاء ابن عباس وإخوانه القلوبَ بنور القرآن، وأشعلوا جذوة الإيمان فيها، ونفخوا في هذه الأجساد روح الاعتزاز بدينها، فصنعت لأجله العجائب، وقدَّمت في سبيل بناء مجدِه أغلى ما تملك، وبهذا ساهم هؤلاء المفسرون في تجذير دعائم المجد الإسلامي وإرساء قواعد الدولة الإسلامية؛ كالعظماء المذكورين من السياسيين والمجاهدين، سواء بسواء.

ونحن ماذا فعلنا حيال الكتاب العزيز؟
إن الأمة تعيش اليوم واقعًا هو أبعد ما يكون عن دستورها العظيم الذي يهديها للتي هي أقوم، ويكفل لها السعادة الكاملة في الأولى والآخرة، لكن الأمة عمدت إلى الكتاب الفصل المحكم، الذي يحمل نبأ مَن قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، فجعلته وراءها ظهريًّا، فلا هي طبقت أحكامه، ولا هي فهمت مرامه، فأنى لها الهداية والسعادة؟!

وإذا كان القرآن هو قاعدة نهضتها - شرعًا وقدرًا - فكيف تصل الأمة إلى النهضة بدون الانطلاق من قاعدتها؟ وكيف بدونها تستعيد حضارتها، وتبني مستقبلها، وتنشد مجدها التليد؟!
وإذا كانت هذه الأمة مبشرة بالسَّنَا والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدنيا والدين، فإن ذلك مرهون باتصالها الوثيق مع هذا القرآن العظيم؛ إيمانًا به، وتصديقًا لما جاء فيه، وتلاوة لألفاظه، وحفظًا لآياته، وتدبرًا لمعانيه، وعملًا بتوجيهاته، وتطبيقًا لأحكامه، ومتى فعلنا هذا، سعدنا في الدنيا والآخرة، وكنا الأعلين في الدنيا والآخرة.

وتلك هي رسالة ابن عباس تنبعث من سيرته التي تُتلى على مر الزمان، ما بقي القرآن.
وفاته: مات ابن عباس سنة (68) بالطائف، وله من العمر (71) سنة تقريبًا، وقد حدث في موته آيةٌ من آيات الله، دلت على كرامته عند ربه ومنزلته عنده، لقد جاء طائر لم يرَ على خِلقته، فدخل نعش ابن عباسٍ، ثم لم يُر خارجًا منه، فلما دُفن، تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يُدرى من تلاها: ﴿ يَا أَيتُهَا النفْسُ الْمُطْمَئِنةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبكِ رَاضِيَةً مَرْضِيةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنتِي ﴾[الفجر: 27 - 30][12].
هذا هو عبدالله بن عباس؛ رباني هذه الأمة ومفسِّرها الأعظم، وأفقه من مات ومن عاش.


[1] زاد المعاد (2/ 46).

[2] فقه السيرة (175)؛ الغزالي.

[3] الإصابة (9/ 209)، وهو عند ابن إسحاق بسند رجالُه ثقات.

[4] انظر: البداية والنهاية (8/ 295).

[5] السير (3/ 333).

[6] البخاري (8/ 192).


[7] إسناده ضعيف، لكن وردت روايات كثيرة في جملة المعنى المقصود، في الصحيحين وغيرهما.

[8] رواه الحاكم (3/ 537).

[9] الحلية (1/ 316).

[10] رواه الترمذي (3823).

[11] رواه أحمد (1/ 293).

[12] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1879)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (10581)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 285): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.09 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]