|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أصول مواحق الطاعات جمال زواري إن المؤمن ما خُلِق إلا لغاية عظيمة، وهي أن يعيش في ظلال عبودية الله - عز وجل - ويتلمَّس أسبابها ويوفِّر لنفسه شروط القيام بها على أحسن وجه، ويوظِّف كلَّ وسائل الثبات على طريقها، إلى أن يلقى ربَّه وهو عنه راضٍ، غير مبدِّل ولا مُغيِّر، تظهر ثمارها وآثارها في قوله وفعله، وخُلقه ومعاملته، في سرِّه وعلانيته، في كل حركاته وسكناته؛ قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. يقوم المؤمن بكل ذلك؛ استجابة لأمر الله، والتماسًا لحسن المآل والمصير، {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]، ورغبة في أن يحشر في زمرة أهل العبودية المكرمين في جنات النعيم: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. عند ذلك يكون قد نال مراده، وحقق أمنيته التي طالما تغنى بها وعمل لها، وقدم دلائلها وأعطى عربون النزول بساحتها، وهو يردِّد مع ذلك العاشق الولهان: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةٌ وبَارِدٌ شَرَابُهَا ويحدو مع الآخر المتيَّم: أَنْ تُدْخِلَنِي رَبِّي الْجَنَّةْ هَذَا أَقْصَى مَا أتمنى وهو يدرك أن أعظم الغبن وأسوء الخسران: أن يخبره الله في كتابه بأن الجنة التي أعدَّها لعباده المتقين عرضها السموات والأرض، ثم لا يجد فيها موضع قدم، كما روي أن رجلاً من الصالحين قام يصلي بالليل، فمرَّ بقوله - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران: 133]، فجعل يرددها ويبكي حتى أصبح، فقيل له: لقد أبكتك آية ما مثلها يُبكي، إنها جنة عريضة واسعة، فقال: يا ابن أخي وما ينفعني عرضها إذا لم يكن لي فيها موضع قدم؟![1] لذلك تجده حريصًا على تقديم الثمن، عاملاً بجدٍّ على تكوين رصيد كبير من الطاعات، وملء خزائنه بالحسنات، فلا يحقرن من المعروف شيئًا، ينوع مصادر حسناته، ويعدد مجالات طاعاته، يمارس العبودية المطلقة ويصطفُّ في قوافل أهلها، ويربأ بنفسه أن يكون من أهل العبودية المقيدة؛ كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه والاشتغال به عن الوِرد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السَّحَر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجدُّ والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بَعُد كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمع القلب والهمة على تدبُّره وتفهمه، حتى كأن الله - تعالى - يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر، دون الصوم المضعِف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المسجد فيه، والخلوة والاعتكاف، دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذى الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّله، فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهلُ التعبُّد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدُهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه، يرَ نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبُّد المطلق ليس له غرضٌ في تعبد بعينه يؤثره على غيره؛ بل غرضه تتبُّع مرضاة الله - تعالى - أين كانت، فمدار تعبُّده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات؛ بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه، فهذا هو المتحقق بـ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] حقًّا، القائم بهما صدقًا، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليًا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رَسْم، حرٌّ مجرَّد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محقٍّ، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواها له! ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه! والله المستعان، وعليه التكلان"[2]. كلما سمع أو رأى أو دُعي إلى باب من الخير والمعروف والطاعة والعمل الصالح، يزوِّد به الرصيد ويثقل به الميزان ويملأ به سجل صاحب اليمين - هرع إليه ولبَّى النداء وشمَّر عن ساعِد الجد، من غير كسل أو تقاعس أو تلكؤ أو تثاقل أو تأخر، ونال نصيبه من الأوائل، يتتبَّع مواسم الخيرات، ومحطات التزود الإيمانية التي يكرم الله بها عباده، فيستثمر فيها بجد، ويستغل زيادة الكرم الإلهي فيها، ويزداد كيل بعير، يرفع شعار الصالحين الذي يقول: إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونَ وَلاَ تَغْفَلْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيهَا فَلاَ تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ وَإِنْ دَرَّتْ نِيَاقُكَ فَاحْتَلِبْهَا فَمَا تَدْرِي الْفَصِيلُ لِمَنْ يَكُونُ وَإِنْ ظَفِرَتْ يَدَاكَ فَلاَ تُقَصِّرْ فَإِنَّ الدَّهْرَ عَادَتَهُ يَخُونُ وبعد أن يحقق كل هذا الفضل، ويكون كل هذه الثروة، يأتي عليه واجب أكبر ومهمة أعظم، ألا وهي تسييج رصيده من الطاعات والحسنات والعمل الصالح، وحمايته من الآفات، وضمان وصوله إلى الله - عز وجل - سليمًا معافًى من كل عوارض الإحباط، محفوظًا من كل طوارق الإفساد، محفوفًا بكل شروط ومسببات القبول، وصيانته من المواحق والمحبطات التي إن طرأت عليه وخالطته، جعلته في مهبِّ الريح مهما عَظُم وكَثُر، ونزعت بركته وحولت بوصلته، ليصبح وبالاً على صاحبه، فيتحوَّل من طوق نجاة وسعادة، إلى دليل إدانة وسبب شقاء، بعد أن كان حجة للعبد وجواز عبور به إلى الجنة، يصبح حجة عليه وسائق له إلى النار - والعياذ بالله. فإن ضَمِن العبد قبولَ ولو جزءًا يسيرًا من عمله من دون محبطات ومواحق فقد أفلح، قال فضالة بن عبيد - رحمه الله -: "لأن أعلم أن الله تقبَّل مني مثقال حبة أحب إلي من الدنيا وما فيها"[3]. وقد حذَّرنا المولى - عز وجل - من هذا الأمر الخطير، ونبَّهنا إلى ضرورة التيقُّظ له، والعمل على النجاة من عواقبه، وتجنُّب أسبابه ومسبَّباته؛ فقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} [محمد: 33]، وقال أيضًا: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، وقال أيضًا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وإن مواحق الطاعات ومحبطات الأعمال، ومواحي الحسنات وموانع القبول كثيرةٌ؛ ولكن أصولها بالنسبة للمؤمن تحديدًا ثلاثة وهي: 1- الرياء: وهو أشدُّ هذه المَوَاحق وأخطرها، وأحد أصولها الذي تنبني عليه بقيتها، إن دخل الطاعة مَحَقَها، وإن خالَط العمل الصالح أفسده، وإن صَاحَب الحسنات ذهب بها، وهو أحد أنواع الشرك الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرك الأصغر والشرك الخفي؛ فعن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله - عز وجل - لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء))؛ أحمد والبيهقي. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عليه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟))، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل))؛ ابن ماجه والبيهقي. فالرياء من أخطر المَوَاحق التي بسببها يرد الله عمل العبد عليه مهما عَظُم، ويتركه ولا يبالي به؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله - تعالى -: أنا أغنى الشُّرَكاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري معي تركته وشركه))؛ مسلم. وقال الجُنَيد - رحمه الله -: "لو أن عبدًا أتى بافتقار آدم وزهد عيسى، وجهد أيوب وطاعة يحيى، واستقامة إدريس ووُدِّ الخليل وخُلُق الحبيب، وكان في قلبه ذرة لغير الله - فليس لله فيه حاجة"[4]. لذلك؛ فإنَّ الرياء أكثر ما يُجْفِل الصالحين ويخيفهم، حيث كان في عُرْفهم وقاموسهم من المُهْلكات التي لا تبقي ولا تذر، قال حامد اللَّفاف - رحمه الله -: "إذا أراد الله هلاك امرئ عاقبه بثلاثة أشياء: يرزقه العلم ويمنعه العمل، يرزقه صحبة الصالحين ويمنعه معرفة حقوقهم، يفتح عليه باب الطاعات ويحرمه الإخلاص". وهو كذلك عندهم من دواعي اضمحلال الأعمال، قال الربيع بن خثيم - رحمه الله -: "كل ما لا ينبغي به وجه الله يضمحل"[5]. كما أنه عندهم من رذائل العجز؛ قال الشيخ الغزالي - رحمه الله -: "إلى جانب قصور الهمم، ووهن المناكب، وضعف الإدراك، وما إلى ذلك من رذائل العجز، نجد رذيلة أخرى إذا لَحِقت بالأقوياء شانتهم وحطمتهم، وهي سوء النية، أو بتعبيرٍ أدقَّ: غشُّ النية. إن القصد المدخول يجعل الرجل يأتي عمل الأخيار، وهو بضميره بعيد عنهم، فيخرج منه ضعيفًا لا يصل إلى هدفه، أو منحرفًا لا ينتهي إلى موضعه. ثم إن صاحب هذا العمل محسوبٌ على قوى الإيمان والإخلاص، في حين أنه دسيسة مقحمة فيها، أو هو في الحقيقة جرثومة تعمل ضدها وتثير داخل كيانها العلل"[6]. والأشد من ذلك كله في باب الرياء ومَحْقه للطاعات: حديث الثلاثة الذين أوَّل من تُسَعَّر بهم النار؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أول الناس يُقضى عليه رجل استشهد فَأَتى به فعرَّفه نِعمهُ فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقالَ: جَريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقِيَ في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمتهُ وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليُقالُ: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلِّه، فأُتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جَوَاد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار))؛ مسلم. لذلك؛ فإن العبد المؤمن دائم الحذر من الوقوع في الرياء، دائم التفتيش في أغوار نفسه، دائم المرابطة على أبواب قلبه لئلاَّ يلج إليه، دائم الحراسة لثروته الإيمانية من الطاعات لئلاَّ يتسلَّل إليها فيمحقها ويحبطها ويورثه البوار والخسران، إلى أن يلقى ربه وهو على هذه الحال من التيقظ، قال الحارث المحاسبي - رحمه الله -: "ومن علِم شدة حاجته إلى صافي الحسنات غدًا يوم القيامة، غلب على قلبه حذر الرياء وتصحيح الإخلاص بعمله، حتى يوافي الله - تعالى - يوم القيامة بالخالص المقبول، إذ علم أنه لا يخلص إلى الله - جل ثناؤه - إلا ما خلص منه، ولا يقبل يوم القيامة إلا ما كان صافيًا لوجهه، لا تشوبه إرادة شيء بغيره"[7]. أو ما سماها ابن القيم - رحمه الله - في مدارجه (منزلة الإشفاق) والتي شرحها بقوله: "وإشفاق على العمل: أن يصير إلى الضياع؛ أي: يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله فيها: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وهي الأعمال التي كانت لغير الله، وعلى غير أمره وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويخاف أيضًا أن يضيع عمله في المستقبل، إما بتركه، وإما بمعاصي تفرقه وتحبطه، فيذهب ضائعًا، ويكون حال صاحبه كالحال التي قال الله - تعالى - عن أصحابها: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266] الآية. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصحابة - رضي الله عنهم -: "فيمن ترون هذه الآية نزلت؟ فقالوا: الله أعلم، فغضب عمر، وقال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال : يا ابن أخي قُل، ولا تحقرن نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أيُّ عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله، فبعث الله إليه الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق جميع أعماله"[8]. وسألت السيِّدة عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على من يصدق قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]: أَهُمْ الذين يسرقون ويزنون ويشربون الخمر وهم يخافون من الله؟ فقال: ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم))؛ الترمذي وابن ماجه. وللمرائي علاماتٌ يعرف بها ذكرها الإمام علي - رضي الله عنه - بقوله: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في النَّاس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذُمَّ"[9]. فالرياء أصلُ أصولِ مواحق الطاعات، ورائد كل محبطات الأعمال، مَنْ عالجه ووفر أسباب الوقاية منه نجا، ومن وقع في حبائله واستسلم له واستلذه هلك. ـــــــــــــــــــ [1] "صفقات رابحة"؛ خالد أبو شادي، ص 142. [2] "مدارج السالكين"؛ ابن القيم، ج1- ص110، 111. [3] "سير أعلام النبلاء"؛ الذهبي، ج3 ص116. [4] "مختصر شعب الإيمان"؛ القزويني، ص98. [5] "المختصر": ص97. [6] "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث"؛ محمد الغزالي، ص7. [7] "الرعاية لحقوق الله"؛ المحاسبي، ص 155. [8] "المدارج": ج1، ص 514. [9] "الكبائر"؛ الذهبي، 1/143.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() أصول مواحق الطاعات(2) جمال زواري 2- ذنوب ومعاصي الخلوات: ثاني أصْل مِن أصول المواحق والمُحْبِطات: انتهاكُ محارم الله في الخلوات؛ بحيث ترى العبدَ في ظاهره فإذا هو حريصٌ على الطاعة، مُداوم عليها بشتى أنواعها، مُنخَرط في صُفُوف الصالحين، مُقْبِل على كلِّ أبواب الخير والمعروف، يعب منها عبًّا، شَغُوف بكلِّ عمَلٍ صالح مهما صغر، ولكنه إذا خلا بنفسه واختفى عن أعْيُن الرقيب منَ البشَر، تجرَّأ على الآثام، ونزع لباس الحياء، ووقع في الحمى، وتخلَّص من قناع الورَع والتقوى والخشية، وانتهك محارم الله، وتجاوَز الخطوط الحمر، وتخلَّص من ربقة الصلاح، وغرق في براثِن الرذيلة حتى النُّخاع، مستمْرئًا المعصية، غافلاً عن مراقبة مَوْلاه، جاعله أهون الناظرين إليه، مستهترًا وغير آبهٍ بالرقيبَيْن المُلازِمَيْن منَ الملائكة، طاويًا لصفحة الإيمان ولو لفترة مؤقتة، فيكون ذلك سببًا في فرْي طاعته فريًا، ومَحْقها محقًا، وجعْلها هباءً منثورًا. هذا المآلُ السَّيئ والمصيرُ المرعِب يُصَوِّره لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُحَذِّرًا وناصحًا، ومُبَيِّنًا العاقبة الوخيمةَ لهذا الفعل - المُداوَمة على ذُنُوب الخلوات - يوم القيامة، ومَحْوه لرصيد الصالحات مهما كثرَتْ، وهدْمه لجبال الحسنات مهما عظمتْ، ومَحْقه لِخَزَّان الطاعات مهما كان مُمتلئًا، وإحباطه لصندوق الأعمال مهما كان عامرًا، ويُحْشَر العبدُ بعد ذلك خالي الوفاض، فارغ اليدَيْن، فاقدًا لأسباب النجاة، بعد ظنِّه أنه قد أحْسَن صنعًا. عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأعْلَمَنَّ أَقْوَامًا من أمَّتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله - عزَّ وجل - هباءً منثورًا))، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهُمْ لنا، جَلِّهِمْ لنا؛ ألاَّ نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: ((أمَا إنهم إخوانكم، ومِن جلْدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنَّهم أقوام إذا خَلَوْا بمحارم اللَّه انتهكوها))؛ سنن ابن ماجه. ما أخطر ذنوبَ الخلوات! وما أبشع معاصي السر! وما أشد آثام الانفراد، أعمال أمثال جبال تهامة، تجعلها هباءً منثورًا، وتردّها قاعًا صفْصفًا، إضافة إلى أنها تَهْتك السِّتْر، وتورث الفضيحة، كما قال ابن القيِّم: "للعبد ستْرٌ بينه وبين الله، وستْرٌ بينه وبين الناس، فإن هَتَك السِّتْر الذي بينه وبين الله، هتك الله السِّتْر الذي بينه وبين الناس". لذلك نفْقَه لماذا كان مِن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك خشيتك في الغَيْب والشهادة))؛ جزء من حديث رواه أحمد والنَّسائي. فالنجاةُ كل النجاة، والسلامة كل السلامة: أن ترافِقَ العبدَ خشيةُ الله ومراقبته في الغيب والشهادة، في السِّر والعلانية، في الظاهر والباطن، في الخلطة والخلوة، فإن وفَّقَهُ الله لذلك وثبَّته عليه وختم له به، فليتأكَّد مِن علُوِّ مقامه عنده في الدارَيْن؛ كما قال ابن عطاء - رحمه الله -: "إذا أردْتَ أن تعرفَ عند الله مقامك، فانظُر فيما أقامك". فقِمَّة الخُسْران أن يكيلَ العبدُ بمكيالَيْن بين ظاهرِه وباطنِه، بين الناس وخالِقه، فيُظهر لهم الصالح من أعماله، فإنْ هو اخْتلى بربِّه بارزه بالمعاصي، كما قال ابن الأعرابي - رحمه الله -: "أخْسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارَزَ بالقبيح مَن هو أقرب إليه من حبْل الوريد"[1]. ولِخُطُورة هذا الأمر على عمَل المؤمن، كان الإمام أحمد - رحمه الله - يسْتَحْسِن قول الشاعر، ويُكْثِر مِن ترديده: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً وَلا أَنَّ مَا تُخْفِيهِ عَنْهُ يَغِيبُ فمُنتهك المحارم في الخلوات لا يخرج عن اثنين؛ إمَّا أنه جَرِيء على ربِّه، وإما أنه مستهزئ به - والعياذ بالله - قال سليمان بن عبدالملك لحميد الطويل - رحمهما الله -: عظني، فقال له: إن كنتَ عصيتَ الله وظننتَ أنه يراك، فلقد اجترأتَ على ربٍّ عظيم، وإن كنتَ تظُنُّ أنه لا يراك، فلقد كَفَرْتَ بربٍّ كريم. يفعل المنتهك ذلك وهو يعلم يقينًا - وإن غفل وكابر - أنَّ اللهَ مُطَّلِع عليه؛ قال - سبحانه -: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]. وقال أيضًا: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]. ويقول: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77]. ويقول: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78]. ويقول: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]. ويقول: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23]. فَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ فَاسْتحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي ونستحضر في هذا المجال ذلك الحِسّ الرقابي المرتفع، والخشْية المتأصِّلة لتلك الجارية المؤمنة، والتي كانتْ تُدرك عواقب ذُنُوب الخلوات، لَمَّا اختلى بها رجلٌ منطَمِس البصيرة، غافل عنْ رقابة مَوْلاه، غلبَتْه وطغتْ عليه شهوتُه، قائلاً ومُراودًا لها: لا يرانا إلا الكواكب، فقالتْ له: وأين مُكَوْكِبها؟! لذلك كانتْ درجةُ الإحسان أعلى مِن درجتي الإسلام والإيمان، قال: فأَخْبِرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لَم تَكُنْ تراه فإنَّه يَرَاك))؛ رواه مسلم، مِن حديث طويل عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. ولذلك أيضًا نُدرك سبب عُلُو مرْتبة الذين يَخْشَوْن ربَّهم بالغَيْب، وسُمو منْزلتهم، وسر تكريم الله لهم بمغفرته وعفْوِه ورضاه وجنته، وكثرة تأكيده على هذه الخصلة المبارَكة في كتابه الكريم؛ قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]. وقال أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]. وقال أيضًا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 31 - 35]. إِذَا السِّرُّ وَالإِعْلانُ فِي المُؤْمِنِ اسْتَوَى فَقَدْ عَزَّ فِي الدَّارَيْنِ وَاسْتَوْجَبَ الثَّنَا فَإِنْ خَالَفَ الإِعْلانُ سِرًّا فَمَا لَهُ عَلَى سَعْيِهِ فَضْلٌ سِوَى الكَدِّ وَالعَنَا 3- أذى الناس وظُلمهم والتَّعَدِّي على حُقُوقِهم: الأصلُ الثالث مِن أصول مواحق الطاعات ومُحْبطات الأعمال: الإمعانُ في أذى الناس، وظلمهم، والاستطالة في أعْراضهم، والتعدِّي على حُرُماتهم وحقوقهم وأموالهم، فإنَّ ذلك من شأنه أن يُؤَدِّي بصاحبه إلى درجة الإفلاس في الآخرة، وإن قدم على ربِّه بملْءِ الأرض طاعةً ومعروفًا وعملاً صالحًا. عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون مَن المفلس؟))، قالوا: المفلِس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ المفلِس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شَتَم هذا، وقذَف هذا، وأكل مال هذا، وسفَك دم هذا، وضرَبَ هذا، فيُعطى هذا مِن حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ مِن خطاياهم فَطُرحتْ عليه، ثم طُرح في النار))؛ رواه مسلم. قال النووي: "المفلس هو الهالِكُ الهلاك التام، والمعدوم الإعدام المقطع، فتُؤْخَذ حسناتُه لغُرَمائه، فإذا فرغتْ حسناتُه، أُخِذ من سيئاتِه، فوضع عليه، ثم أُلقي في النار، فتمَّتْ خسارته وهلاكه وإفلاسه"[2]. فالغبن كل الغبن أن يتعبَ العبدُ في تحصيل الطاعات، وجنْي الحسنات، ثُمَّ بعد ذلك يهديها في طبق من ذهب إلى الآخرين، فتكون سبب نجاتهم، وتثقيل ميزانهم، ودخولهم الجنة، ويَتَخَلَّصون من سيئاتهم، وتطرح عليه، ثم تطرحه في النار، والله إنها لصفقة خاسرة، وتجارة فاسدة، بأن يُبادلَ المرءُ الطيب من حسناته والصالح من أعماله، بالخبيث من سيئات غيره، والطالح من أعمالهم، ثم يكون مصيرُهم بها النعيم، ومآله الشقاء. فالعاقلُ مَن كان بخيلاً بحسناتِه، شحيحًا بطاعاته، ضنينًا بأعماله الصالحة، عاضًّا عليها بالنواجِذ، إلى أن يلقاها كما هي عند مولاه يوم القيامة، أما السخِيُّ بها، المبعثِر لها بسبب أذاه للآخرين، والولوغ في أعراضهم، وأكله لأموالهم بالباطل، وإطلاق لسانه في الانتقاص منهم، والتماس عيوبهم، وغفْلته عن عُيُوب نفسه - فإنه أحْرَى أن يقدمَ على الله يوم الحساب مُفْلسًا مُعدمًا. فالاشتغالُ بما لا يعني المرء ولا يُفيده بل يضره ويقضي على مكتسباته من الحسنات - هو علامة من علامات إعراض الله عن العبد وخُذلانه له، كما قال الحسن - رحمه الله -: "مِن علامة إعراض الله عن العبْد: أن يجعلَ شغله فيما لا يعنيه". وقال معروف - رحمه الله -: "كلام العبد فيما لا يعنيه خُذلان من الله - عزَّ وجل". فالمشتغل بعيوب الناس، الغافل عن عيوبه، دائرٌ بين مرتبتي الإعراض والخُذلان، وكلاهما مُصيبة المصائب. لا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا فَيَكْشِفُ اللهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَ وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذَكَرُوا وَلا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَ فالوقوعُ في الناس مهْلكةٌ لدين العَبْد، مفْسدة لطاعاته، محرقة لحسناتِه، كما قال سفيان - رحمه الله -: "إياك والغِيبةَ، إياك والوُقُوع في الناس فيهلك دينك". كما أنه ذنْبٌ عظيم، يورد صاحبَه سُوء المصير، وإن كان مِنْ أَهْل الطاعات؛ عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الرِّبا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثل إتيان الرجل أمَّه، وإن أربَى الرِّبا استطالة الرجُل في عرْض أخيه))؛ "السلسة الصحيحة". وقد كَتَبَ رجلٌ لابن عمر - رضي الله عنهما - يسأله عن العلْم، فكتب إليه ابن عمر: "إنك كتبتَ تسألني عن العلم، فالعلمُ أكبر مِن أنْ أكْتُبَ به إليك، ولكن إنِ استَطَعْتَ أن تلقَى الله كافيًا عن أعْراض المسلمين، خفيف الظهْر من دمائهم، خميص البطْن مِن أموالهم، لازمًا لجماعتِهم - فافْعل"[3]. فهذه أُصُول المواحق، إن سُلِّطَتْ على الطاعة مَحَقَتْها، وإن أصابت العملَ الصالح أحبطَتْه وذهبتْ به أدراج الرياح، وإن تسلَّلَتْ إلى الحسنات جعلتْها هباءً منثورًا. فليكن المؤمن على حذَر، وليحصِّن نفسه ضدها، ويشدد الحراسة على أبواب قلبه وجوارحه، وليكنْ يقظًا لها أشد اليقَظة، شديد المحاسَبة لنفسه، مستحضرًا دومًا رقابة الله - سبحانه - له، دائم اللُّجوء والتضرُّع والانكسار إليه، ليعينه على النجاة منها، ويُسَدِّد خطاه، ويحفظه في السر والعلَن، حتى لا يسقط في بئْرٍ بَوَار. ـــــــــــــــــــــ [1] "مختصر شُعَب الإيمان" ص98. [2] "صحيح مسلم بشرح النووي". [3] "سير أعلام النبلاء" ج3 ص 222.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |