المنهج في التعامل مع المنتكسين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حكم من استعمل الصابون المعطر قبل الحلق أو التقصير في الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          ما حكم ذبح الأضحية بعد صلاة العيد وقبل انتهاء الخطبة ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          الإنابة في الحج عن المرأة الكبيرة التي لا تجد محرمًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حكم إلقاء جلد الأضحية وعدم الانتفاع به,فتوى عن التخلص من جلد الخروف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          حكم الجمع بين الأضحية والعقيقة في ذبيحة واحدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أحاديث في استحباب صيام العشر الأول من ذي الحجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          معنى اسم الله العزيز (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          معنى اسم الله الحكيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          صلاة الفجر وما أدراك ما صلاة الفجر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الشتات أقوى وسائل الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 06-07-2020, 01:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,350
الدولة : Egypt
افتراضي المنهج في التعامل مع المنتكسين

المنهج في التعامل مع المنتكسين


الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي التميمي




مقدمة:

الحمدُ لله المستحقِّ الحمْدَ لآلائه، المتوحِّد بعِزِّه وكبريائه، القريب مِنْ خلقه في أعلى عُلُوِّه، البعيد منهم في أدنى دنوِّه، العالِم بكنِين مكنون النجْوى، المطَّلِع على أفكار السرِّ وأخفى، وما استَجنَّ تحت عَناصِر الثَّرَى، وما جالَ فيه خَواطِر الوَرَى، الذي ابتَدَع الأشياء بقُدرته، وذَرَأ الأنام بمشيئتِه، من غير أصْل عليه افتعل، ولا رسم مرْسوم امتثل، ثم جعل العقول مسْلكًا لذَوي الحِجَا، وملجأً في مسالك أُولي النُّهَى، وجعَل أسبابَ الوصول إلى كيفيَّة العقول ما شقَّ لهم مِن الأسماع والأبصار، والتكلُّف للبحث والاعتِبار، فأحكم لطيف ما دَبَّر، وأتقن جميع ما قدَّر.

ثُم فضَّل بأنواع الخِطاب أهْلَ التمييز والألباب، ثم اختارَ طائفةً لصفوته، وهداهم للُزُومِ طاعَتِه، من اتِّباع سُبُلِ الأبرار، في لُزُوم السُّنَنِ والآثار، فزَيَّنَ قُلوبَهم بالإيمان، وأنطَقَ ألسِنَتَهم بالبَيَان، من كشْف أعلام دينِه، واتِّباع سنن نبيِّه، في جمع السُّنَن ورفْض الأهواء، والتفقُّه فيها بترْك الآراء، فتجرَّد القومُ للحقِّ وطلَبُوه، وذكَّروا به ونشَرُوه، وتفَقَّهوا فيه وأصَّلُوه، وفرَّعوا عليه وبذَلُوه؛ حتى حفِظ الله بهم الدين على المسلِمين، وصانَه عن ثَلْبِ القادِحين، وجعَلهم عند التنازُع أئمَّة الهدى، وفي النَّوازِل مَصابِيح الدُّجَى، فهم ورَثَة الأنبياء، ومأنس الأصفِياء، وملجَأ الأتْقِياء، ومركز الأولياء.

فله الحمدُ على قدَرِه وقَضائِه، وتفضُّله بعَطائِه، وبِرِّه ونعمائه، ومَنِّه بآلائِه.

وأشهد أن لا إله إلا الذي بهدايته سَعِدَ مَن اهتَدَى، وبتأييده رشد مَن اتَّعَظَ وارعوى، وبخذلانه ضلَّ مَن زلَّ وغَوَى، وحادَ عن الطريقة المثْلَى.

وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه المصطفَى، ورسوله المرتَضَى، بعَثَه إليه داعِيًا، وإلى جِنانه هاديًا، فصلَّى الله عليه، وأزلَفَه في الحشْر لديه، وعلى آلِه الطيِّبين الطاهِرِين أجمعين.

أمَّا بعدُ:
فإنَّ الله - جلَّ وعَلاَ - انتَخَب محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنفسِه وليًّا، وبعَثَه إلى خلقِه نبيًّا؛ ليدعو الخلق من عبادة الأشياء إلى عبادتِه، ومِن اتِّباع السُّبُل إلى لزوم طاعَتِه؛ حيث كان الخلْق في جاهليَّة جَهلاء، وضَلالة عَمياء، يَهِيمون في الفِتَن حَيارَى، ويَخُوضُون في الأهْواء سُكارَى، يتردَّدون في بِحار الضَّلالة، ويَجُولون في أوْدِيَة الجهالة، شريفهم مغْرور، ووضيعُهم مقْهور.

فبعَثَه الله إلى خَلقِه رسولاً، وجعَلَه إلى جِنانه دلِيلاً، فبلَّغ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه رسالاته، وبيَّن المراد من آياته، وأمَر بكسْر الأصنام، ودحْض الأزلام، حتى أسفَرَ الحق عن مَحضِه، وأبدى الليل عنْ صُبحِه، وانحَطَّ به أعلام الشِّقاق، وتهشَّم به بيضة النِّفاق.

وإنَّ في لُزُوم سنَّته تمامَ السَّلامَة، وجِماع الكَرامَة، لا تطفأ سرجها، ولا تُدحَض حججها، مَن لزمها عُصِم، ومَن خالَفَها نَدِمَ؛ إذ هي الحصن الحَصِين، والرُّكن الرَّكِين، الذي بانَ فضلُه، ومتن حبلُه، مَن تمسَّك به ساد، ومَن رام خلافَه باد، فالمتعلِّقون به أهلُ السَّعادة في الآجِل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل[1].

وإنِّي لَمَّا رأيتُ الانتِكاسات طرقها كَثُرتْ، ومعرفة الناس بأساليب التعامُل معها وأنواعها قلَّتْ، أحببتُ أنْ أكتب في هذا الموضوع مِنْ أجل تَجْليته وإبرازه، وجميع ما في أثناء هذه الرسالة اجتِهادات بشريَّة، كتبتُها من خِلال قَناعات شخصيَّة، قد أُوافَق عليها أو أُخالَف، فما كان من صَوابٍ فمن الله، وما كان مِن خطأٍ فمن نفسي وقلَّةِ علمي، فلا تَبخَل على أخيك بما تُلاحِظه باتِّصالٍ أو برسالة.

وفي الختام: أسأل الله العليَّ القدير أنْ يُبارِك في هذا الكتاب، وأنْ يجعلَه خالصًا لوَجْهه.

سبب تأليف الكتاب

اتَّصَل بي أحدُ طلبة العلم وقال لي: إنَّ أحد الشباب انْتَكَس - وهذا أمرٌ معروف ومشهور، وليس بجديد - وقد انتَقَده زُمَلاؤُه وعنَّفوه، بل وصَل الحالُ ببعضهم إلى التَّشهِير به عَبْرَ الإنترنت، وكأنَّه قد خرَج من ملَّة الإسلام، مع أنَّ ما طَرَأ عليه لا يَعدُو أن يكون نقصًا في استِقامَتِه، وتَباحثْتُ معه في المسألة، فدفعَنِي ما حدَث إلى تَأليفِ هذه الرِّسالة التي أردتُ مِنْ خِلالها أن يعلم الشبابُ المنهج في التعامُل مع زملائهم الذين طرَأ عليهم تغيُّرٌ في الاستقامة.


المنهج في التعامُل مع المنتَكِس

من الصُّعوبة أن يُحكَم على إنسانٍ بأنَّه مُنتَكِس بدون استِقصاءٍ وتثبُّت في الأمر مع نيَّة سليمة وصادقة؛ بحيث لا يكون الهدفُ هو تتبُّع العوْرة، إنَّ الحكم على إنسانٍ بأنَّه مُنتَكِسٌ بدون توفُّر شروط الانتِكاس عليه، أمْرٌ في غايَة الخطورة؛ لأنَّ من الناس مَن يَتساهَل في هذه المسألة ولا يتردَّد بالحكم على أخٍ له في الدين بأنَّه مُنتَكِس، وقد لاحَظتُ - مع الأسَف الشديد - أنَّ مفهوم الانتِكاس عند بعض الشباب خطأ؛ لأنَّه بمجرَّد حدوث تغيُّر عند أخٍ له حتى ولو كان التغيُّر في حدود تَعاطِي المكروهات والمباحات والمستحبَّات، يستحقُّ فاعلُ هذا عنده هذا الوصْف بلا تردُّد، وأُعطِي مِثالاً على ذلك: عندما يَقُوم أحدُ المستَقِيمين بلبس الكبك أو العقال، يصفه البعض بأنَّه مُنتَكِس، وهذه طامَّةٌ كُبرى، ومصيبةٌ عُظمى؛ لأنَّ اللباس الأصل فيه الحِلُّ والإباحة، وما اعتادَه الناس لا يرْتقي لمرتبة السنَّة، فَضْلاً على الوجوب بأيِّ حال من الأحوال، ما لم يرد نصٌّ بذلك.

الانتِكاس الحقيقي:
هو ترْك الواجِبَات، والإصرار على إتيان المحرَّمات واستِمرائها؛ بحيث تكون ظاهرةً جليَّةً، يُجاهِر بها أمامَ الناس.

أمَّا الوقوع في الذُّنوب والمعاصي - سواء أكانتْ كبائر أم صغائر - فإنَّها لا تُعَدُّ من الانتِكاس، طالما تابَ عنها صاحِبُها، دون عِنادٍ ومُكابَرة، فليس يَسلَم من الذُّنوب والمعاصي أحدٌ، والعصمة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو وُصِف كلُّ مُذنِب بالانتِكاس لما بقي على وجْه الأرض ملتزم.

والخلاصة:
الوقوع في صغائر الذنوب، أو ترْك المستحبَّات مع إتيان المباحات والمكروهات، لا يُعدُّ مُتعاطِيها مُنتَكِسًا، فالأحكام الشرعيَّة مصدرها الشرع المطهَّر، وليست الأهواء والأمْزجة.

فهناك علاماتٌ وآثارٌ تَظْهَر على الشخص تدلُّ على وجود التغيُّر عنده؛ ومنها:
1 - مجاهرته بالمعاصي دون خوفٍ أو حياءٍ.
2 - تركُه بالكليَّة للمجتمع الطيِّب الطاهِر، والتحاقُه برفقةٍ سيِّئة.
3 - تغيُّر نظرته عن الدِّين وأهله.

كما أنَّ من الأمور التي أحِبُّ أن أنبِّه عليها، هو تسرُّع بعض الشباب بهجران زميلهم المنتَكِس، دونما معرفةٍ بأحكام الهجْر؛ ولذا أحببتُ أنْ أبدأ بهذا الموضوع بذِكْر أحكام الهجْر باختِصارٍ بسيط يُناسِب الباب؛ لأنَّ الهجر ليس محبوبًا في غالب أحواله مع أبناء زماننا، إلاَّ إذا كان المنتكِسُ قد انتكَس بسبب شُبَهٍ، فإنَّ هجرَه قد يكون لازِمًا حتى لا يُؤثِّر على بقيَّة زُملائِه، فما أخطر وقوع الشُّبَه على العُقُول التي قد يلتَبِس أمرُها ولا تتحمَّلها العقول، وخاصَّة عقول الشباب الصغار؛ كشُبه العقلانيِّين والخوارج!

ولذا أنصَحُ بهجر مَن كانت انتِكاستهُ انتكاسةَ شُبَه، وهذا كان منهجُ السَّلَف الصالح؛ كما فعَل عمر - رضِي الله عنْه - مع صبيغ بن عسل الحنظلي الذي كان يتكلَّم بمُتَشابِه القرآن، وبدأ يُشكِّك الناس به، فأبعَدَه إلى البصرة، ونهى الناس عن مجالسته ومكالَمته حتى تاب[2].

قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: وهذا الهجْر يختَلِف باختلاف الهاجرين في قوَّتهم وضَعفِهم، وقلَّتهم وكثرتهم، فإنَّ المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامَّة عن مثل حاله، فإنْ كانتِ المصلحةُ في ذلك راجحةً؛ بحيث يُفضِي هجرُه إلى ضعف الشرِّ وخفيته - كان مشروعًا، وإنْ كان لا المهجور ولا غيره يرتَدِع بذلك، بل يَزِيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته - لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفَع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفَع من التأليف؛ ولهذا كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتألَّف قومًا، ويَهجُر آخَرِين[3].

مع وجوب الحرْص على عدَم تَطبيقِه إلاَّ في أضيَقِ نِطاق، مع التأكِيد على أنْ يكون دافع الهجر هو حب الله - عزَّ وجلَّ - وطلب رِضاه، والإخلاص له، والتأكيد على ألاَّ يكون للمَصالِح الشخصيَّة أو الحسد والانتِقام والنيل من الخصوم دورٌ في ذلك، حتى يُؤتِي الهجر ثمارَه.

إذًا علينا ألاَّ نتعجَّل بهجره، والتفكير ألف مرَّة قبلَ الإقدام على هجره، وإذا عزمتَ على الهجر فاستَشِر جمعًا من أهل العلم الكِبار الثِّقات، حتى تَبرَأ الذمَّة أمامَ الله.

المخاطب بموضوعي هذا هو:
1 - مَن يهمُّه أمرُ المنتَكِس؛ كقريبه وجاره، وصديقه وزميله في العمل.
2 - شيخ المنتَكِس ومدرِّسه وزميله، إذا كان ضمن مجموعة دعويَّة كحلقات التحفيظ، والمراكز الصيفيَّة، والمراكز الإسلاميَّة.
3 - الملتزم عندما يجد التغيُّر قد بدأ يظهر عليه.

اتَّبع الخطوات التالية عند دعوة المنتَكِس ومناصحته، وذلك عبر ما يلي:
أولاً: التثبُّت والتبيُّن:

إذ الواجب عليك أولاً أن تَتأكَّد أنَّ صاحِبَك أو قريبَك قد انتَكَس؛ لأنَّ كثيرًا من الناس يُصدِّقون الخبر بمجرَّد وروده دون أن يتأكَّدوا من مصدره وصحَّته، ودون أن يبذلوا أيَّ جهدٍ لمعرفة حقيقة الأمر، هذا إنْ كان يهمُّهم، أمَّا إن كان لا يهمُّهم فعليهم أن يسمَعُوا لنصحه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما قال: ((مِن حُسْنِ إسلام المرء تركُه ما لا يَعنِيه))[4].

وكم سمع الناس أنَّ فلانًا قد ضَلَّ أو انتَكَس، أو فسق أو فجر، وغالبُ هذه الأخبار شائِعات لا أساس لها منَ الصحَّة، ويبدأ بعضُهم بتناقلِها والترويج لها، دون التثبُّت مِنْ صحَّتها، وهذا مِصداق قوله - تعالى -: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15].

لسانٌ يَتلقَّى عن لسان بلا تدبُّر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إنعام نظر، حتى لكأنَّ القول لا يمرُّ على الآذان، ولا تتملاه الرُّؤوس، ولا تتدبَّره القلوب؛ ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: 15]، بأفواهكم لا بوعيِكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم.

إنما هي كلمات تَقْذف بها الأفواه، قبل أن تستَقِرَّ في المدارِك، وقبل أن تتلقَّاها العقول.
﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ﴾ أن تقذفوا عرض أخيكم، وأن تدعو الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ومُحِبِّيه.
﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾، وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تُزَلزَلُ له الرَّواسِي، وتضجُّ منه الأرض والسماء.

ولقد كان ينبَغِي أن تجفل القلوب بمجرَّد سماعه، وأن تحرج بمجرَّد النُّطق به، وأن تنكرَ أن يكون هذا موضوعًا للحديث؛ ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].

وعندما تَصِلُ هذه اللَّمسَة إلى أعماق القلوب فتهزها هَزًّا، وهي تُطلِعها على ضَخامَة ما جَنَتْ، وبشاعة ما عَمِلَتْ، وعندئذٍ يَجِيء التحذير منَ العَوْدَة إلى مِثْلِ هذا الأمر العظيم.
﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 17].

﴿ يعظكم ﴾ في أسلوب التربية المؤثِّر في أنسب الظروف للسمْع والطاعة والاعتبار، مع تضْمين اللفظ معنى التحذِير من العودة إلى مثْل ما كان: ﴿ يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا ﴾، ومع تعليق إيمانهم على الانتِفاع بتلك العِظَة.

﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ فالمؤمنون لا يُمكِن أن يَكشِف لهم عن بَشاعَة عملٍ كهذا الكشف، وأن يحذَروا منه مثل هذا التحذير، ثم يَعُودوا إليه وهم مؤمنون[5].

وإنَّك لَتعجَبُ من هذه السرعة في النقل مع هذا التَّحذير الواضح والتهديد الصريح للمتعجل، بل أمر الله بطلَبِ بَيان الحقيقة ومعرفة صدق الخبر عند نقله فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

وهذه الآية قاعدة أساسيَّة للأمَّة أفرادًا وجماعات؛ بألاَّ يقبلوا من الأخبار التي تُنقَل إليهم ولا يعمَلُوا بمُقتضاها إلا بعد التثبُّت والتبيُّن؛ حتى لا يُصِيبوا الأفراد والجماعات بسُوء؛ فالعقيدة الإسلامية - ولله الحمد - عقيدةٌ واضحة المعالِم، لا تقوم على ظنٍّ أو شُبهة؛ لذا قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36].

فهذه الآيَة تضَع منهَجًا للمسلم إذا أراد السلامةَ يوم يلقَى اللهَ، بل وإذا أراد أن يمدَّ الله عليه سترَه في الدنيا ولا يَفضَحه في جَوْفِ بيته، أوَمَا يردُّ العاقِلَ من أهلِ الإسلامِ قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بئسَ مطيَّة الرجل زعَمُوا))[6]؟

فعندما تَصِفُ أخًا لك بأنَّه قد ضَلَّ وهو ما زال على الهدى مستَقِيمًا وسالِكًا طريقَ الحق، فقد آذيتَه، والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لَمَّا سُئِل: "أي الإسلام أفضل؟": ((مَن سَلِمَ المسلِمون من لسانه ويده))[7].

فهل هذا المسلم قد سَلِمَ مِن لسانك وإيذائك؟ بل عليك أن تحذرَ من إطلاق هذه الكلمة التي ستَقُود إلى النار - إلاَّ إذا رحمه الله - كما جاء في الصحيحَيْن أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة، ما يتبيَّن ما فيها يزلُّ بها في النار أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب))[8].

قال ابن حجر في بيان معنى الحديث: "((لا يتطلَّب معناها))؛ أي: لا يثبتها بفكره ولا يتأمَّلها حتى يَتثبَّت فيها، فلا يقولها إلا إنْ ظهرت المصلحة في القول"[9].

الشاهد في كلِّ هذا الكلام أنَّ عليك التقصِّي والبحث دون إثارَة إذا وصلتْك مثلُ هذه الأخبار، وعليك أن تُغلِّبَ جانِب الظنِّ الحسَن، ووالله كمْ منْ إنسانٍ ذكر من أناسٍ بسوء ثم ظهر لهم خِلاف ذلك.

وأَذكُر هنا قصَّة: جاءني مجموعةٌ من الشباب، ونقَلُوا أنَّ أحد العُلَماء قد أفتى بفتوى مخالِفة لما هو عليه منهج السَّلَف الصالح في قضيَّة من القضايا؛ فما كان مِنِّي إلاَّ أن اتَّصَلت بهذا العالم أثناء وجودهم عندي وسألتُه عن الفتوى فتعجَّب واستَنكَر، فقلت: هذا أحد الذين نقَلُوها هو بجواري فكلِّمه، فتخبَّط الرجل في كلامه، ثم قال لي: أحرجتنا مع العالم، فقلت له ولزملائه: ألَم تنقلوا عنه هذا الكلام؟ قالوا: بلى، ولكن لم نتصوَّر أن تتَّصلَ به، فقلت: وهل تريدوني أنْ أُصدِّقَ دون أنْ أتبيَّن، ثم بيَّنت لهم المنهجَ الشرعيَّ في مثْل هذه القضيَّة.

والخلاصة:
أنَّ على مخاطب المنتَكِس وغيره أن يستَمِعَ لهذه النَّصِيحة من صاحِب كتاب التثبُّت عندما قال: "إنَّ على المسلم عدمَ التسرُّع في تصديق الأخبار والأنباء التي تَرِدُ إليه من الناس أو من وسائل الإعلام قبل التأكُّد من صحَّتها أو كذبها، وبخاصَّة الأخبار التي تأتي عن طريق الواشين[10].

ثانيًا: ألاَّ يكون هدفك تتبُّع عورته:
فالواجِب على المسلم الكفُّ عن هذا الخُلُق السيِّئ، والذي لا تُحمَد عُقباه يومَ القيامة إلا إنْ تاب أو رحمه الله.

وقد ورَد النهي عن التجسُّس صراحةً في القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].

وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [النور: 19].

وقال الحافظ ابنُ كثيرٍ - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: هذا تأديبٌ لِمَن سمع شيئًا من الكلام السيِّئ، فقام بذِهنه شيءٌ وتكلَّم به، فلا يُكثِر منه، ولا يُشيعه ولا يُذِيعه؛ فقد قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 19]؛ أي: يختارون ظُهور الكَلام عنهم بالقَبِيح ﴿ في الدنيا والآخِرة ﴾؛ أي: بالحدِّ، وفي الآخِرَة بالعذاب الأليم...[11].

وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي: "فإذا كان هذا الوَعِيد لمجرَّد محبَّة أنْ تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله، وسواء كانت الفاحشة صادرة أو غير صادرة"[12].

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: "والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقَع منه، أو اتُّهِم به وهو بريءٌ منه"[13].

ومن هذا الباب أيضًا نهيُ الله - جلَّ وعلاَ - عن التجسُّس وتتبُّع المستور.

وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: قال الفضيل بن عِياض: "المؤمن يستر وينْصح، والفاجر يهتك ويعيِّر"[14].

وما أحسن ما قال الناظم:
لاَ تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا
فَيَكْشِفَ اللهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا

وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا
وَلاَ تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا

وَاسْتَغْنِ بِاللهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ
غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاللهِ يَكْفِيكَا[15]



قال الله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾ [الحجرات: 12].

قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "قال المفسِّرون: التجسُّس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم، فالمعنى: لا يبحث أحدُكم عن عيبِ أخيه ليطَّلِع عليه إذا ستَرَه"[16].

قال الألوسي: والنهيُ في هذه الآية متَّجِه إلى آحادِ المسلمين وجماعاتهم؛ بمعنى: ولا تبحثوا عن عَوْرات المسلِمين ومَعايِبهم، وتستَكشِفوا عمَّا ستَر الله - تعالى - كما قُرِئ أيضًا بالحاء المهملة: ﴿ ولا تحسَّسوا ﴾ من الحسِّ الذي هو أثَر الجس وغايَته، والمراد كما يقول الألوسي على القراءتين: النهي عن تتبُّع العوْرات مطلقًا، وعدُّوه من الكبائر[17].

فالتجسُّس المنهيُّ عنه في الآية الكريمة هو: تتبُّع عَوْرات المسلمين وغيرهم، ومُحاوَلَة الوُصُول إلى معرفتها لإشباع دافِعٍ نفسي، أو غرضٍ مُعيَّن.

إنَّ التجسُّس المؤدِّي إلى فضْح العَوْرات لا تسْمَح به الشريعة الإسلاميَّة بحالٍ من الأحوال؛ ولذا حذَّر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذا الخُلُق المشين؛ فعن ابن عباسٍ - رضِي الله عنْهما - قال: خطَب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطبةً حتى أسمع العَواتِق في خُدُورهن، فقال: ((يا معشرَ مَن آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبِعُوا عوْراتهم؛ فإنَّه مَن يتبع عورة أخيه المسلم يتبع اللهُ عورَتَه، ومَن يتبع الله عورَتَه يفضَحُه ولو في جوْف بيته))[18].

عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنْهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن ستَرَ عورةَ أخِيه المسلم ستَرَ الله عورَتَه يومَ القِيامة، ومَن كشَفَ عورة أخيه المسلم كشَفَ الله عورته حتى يفضحه بها في بيته))[19].

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله يوم القيامة))[20].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 211.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 210.09 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.81%)]