تحويل القبلة: نظرات بين الواقع والتاريخ - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قصَّة موسى في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 27 )           »          نظرات نفسية في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 1191 )           »          عين جالوت - معركة رمضانية ظافرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الوزير نظام الملك أبو علي الطوسي‎ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          طريقة عمل البطاطس المحشية باللحمة المفرومة.. سهلة وبتشبع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          4 خطوات لتنفيذ المكياج التركى موضة 2025.. هتبقى شبه "توركان سوراى" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          طريقة عمل كيك الحرنكش.. مشبعة وطعمها حلو (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          نباتات وزهور يمكن وضعها في مطبخك للتخلص من الروائح المزعجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          لو خلص ومش عارفة تعملى إيه.. 6 خطوات لعمل الفاونديشن في البيت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          6 نصائح لحماية الطفل من الاعتداء البدنى والتحرش (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-11-2020, 09:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,188
الدولة : Egypt
افتراضي تحويل القبلة: نظرات بين الواقع والتاريخ

تحويل القبلة: نظرات بين الواقع والتاريخ
الشيخ حسين شعبان وهدان






الحمد لله الذي حبَّبَ إلينا الإيمان وأكرمنا بالقرآن، وهدانا إلى القبلة منحةِ الخيرِ لأُمَّةِ النَّبي العدنان، ومنَّ علينا بمجامِعِ الفضْلِ والهدايةِ إلى آخر الأزمان.

يا أخا الإسلام:
إذا نام غِرٌّ في دُجَى اللَّيْلِ فاسْهَرِ
وقُمْ للمَعَالِي والعَوَالِي وشَمِّرِ

وخلِّ أحاديثَ الأَمَانِي فَإِنَّها
عُلالةُ نفسِ العاجِزِ المُتَحَيِّرِ

وسارعْ إلى ما رُمْتَ ما دُمْتَ قَادراً
عليه وإنْ لمْ تُبْصِر النُّجْحَ فاصْبِرِ

ولا تأتِ أمْراً لا تُرَجِّي تمَامَه
ولا مَوْرِداً ما لمْ تَجِدْ حُسْنَ مَصْدَرِ



وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، رب الوجود ولا معبود إِلَّاهُ، قد تجلَّى في تفرده وفي علاه وفي نعمى عطاياه.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، نبي المرحمة العامة للعالمين وقائد الغُرِّ المُحَجَّلين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، شُمُوسُ الهِدايةِ وأَعْلامُ الإسلامِ.

أما بعد:
فقد صَلَّى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون بادئ الأمر وكانت قبلتهم بيت المقدس حيناً من الزمان نيَّفَ على ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان صلى الله عليه وسلم يرجو أن يُوَجَّهَ إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة المشرفة، فأرضاه الله تعالى بالتوجه إليها، قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، ومن حديث البراء بن عازبٍ رضي الله تعالى عنه قال: (... فوُجِّهَ نحوَ الكعبةِ وصلَّى معَه رجلٌ العصرَ ثم خرَج، فمرَّ على قومٍ من الأنصارِ فقال: هو يشهَدُ أنه صلَّى معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنه قد وُجِّهَ إلى الكعبةِ فانحرَفوا وهم رُكوعٌ في صلاةِ العصرِ) (صحيح البخاري 7252).

وأشرقت السعادة على روحه وقلبه صلى الله عليه وسلم من لدن ربه لما قضى الله له في الخير مطلبه وسارع في هواه، وهكذا شأنه مع مولاه على الدوام، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في أحد مواقفها: "... ما أُرَى رَبَّكَ إلا يُسَارِعُ في هَوَاكَ" (صحيح البخاري 4788 عن عائشة رضي الله تعالى عنها)، وقال أهل التحقيق: " إن هناك قوما تُقضى حوائجهم قبل أن تُرفع حواجبهم ".
ولنا مع الذكرى في التحويل للقبلةِ نظراتٌ بين التاريخ والواقع تدور بين التحذير والإغراء ومعرفة القدر وجلال الذكر.
♦ ♦ ♦

السفهاءُ من الناس:
وقد بدأ الخطاب القرآني عن تحويل القبلة بوصف حال المرجفين في المدينة النبوية بأنهم "سفهاء"، قال الله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142]، وذكر الله تعالى "من الناس" لأن السفاهة كما تكون في البشر فإنها تكون في أجناس الدواب وبقية المخلوقات لكنها لا تكون في كل الناس.

والسفيه هو الخفيفُ المتزعزعُ المضطربُ في رأيه وفكره وخُلُقِهِ، ومن ثم فإن الحق ليس طلبته وليس من مقاصده في البحث ومعرفة حقائق الأمور، بل هو دائرٌ في لجج الهوى والبهتان.
وقد كوَّنَ اليهود في زمن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فصيلاً متماسكاً لاصطياد كل موقفٍ وتفسير كل حادثةٍ بتسويق البهتان ضد المسلمين متعاونين بمن ظاهرهم من مشركي العرب ومن كان يتصل معهم من المنافقين الذين كانوا يسكنون آطام المدينة، فصاروا جميعاً في السفاهة سواء، [قال ابن اسحاق: ولما صُرِفَت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصُرِفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراُ من مَقْدِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بن قيسٍ وقردمُ بن عمرو وكعبُ بن الأشرف ورافعُ بن أبي رافع والحجاجُ بن عمرو حليف كعبِ الأشرف والربيعُ بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانةُ بن الربيع بن أبي الحقيق فقالوا: يا محمد؛ ما ولَّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه] (محمد بن عبد الملك بن هشام المعافري / السيرة النبوية ص408 ج2 ط 2006م بتحقيق جمال ثابت وآخرون - دار الحديث / القاهرة).

وهم الذين يقيسون مع الفارق ويلتزمون الشُّبَهَ والضَّلالاتِ، ولِكلِّ فريقٍ وجهةٌ في السفاهة وإن الْتَقَت الوسائل، وكما ذكر القرطبي في الجامع: [والمرادُ بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد، وقال السُّدِّي: المنافقون، وقال الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد "صلى الله عليه وسلم" إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير، وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم، واستهزؤوا بالمسلمين.] (الإمام القرطبي / الجامع لأحكام القرآن ص148 ج2 بتحقيق هشام سمير البخاري الناشر: دار عالم الكتب/ الرياض/ 1423هـ/ 2003م)، وهم الذين كانوا يعرفون الحقيقة بأنه نبيٌّ ومُؤَيَّدٌ من ربه بالوحي وأنه صادقٌ لكن ذلك لا يرضي هواهم السقيم، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، ومع هذا فلو جاءتهم الآيات على وجهها وجاءتهم النذر تفضح مكنون أسرارهم الدنيئة ما آمنوا ولا اعترفوا بخطئهم، قال الله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ [البقرة: 145].

وذلك كله من باب التحاسد وكراهية الحقِّ المؤَيَّدِ بالوحي لنا أُمَّةَ الإسلام، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا يحسُدوننا على شيءٍ كما يحسُدونَنا على يومِ الجمُعةِ التي هدانا اللهُ وضلُّوا عنها وعلى القبلةِ التي هدانا اللهُ لها وضلُّوا عنها وعلى قولِنا خلفَ الإمامِ آمينَ) (الألباني في السلسلة الصحيحة 2/306 وقال: إسناده جيدٌ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها).

ومثلهم في اللججِ والعنادِ سفهاءُ هذا الزمان إذ لا مفيدَ ولا جديد، وهم الذين ثملوا أطراف أعمارهم الضنينة بالفائدة من المغانم الرخيصة والوجاهة الكذوبة التي تظهر الفأر غضنفراً والجاهل مثقفاً والبليد في قمة الذكاء، أشباهُ الدَّوابِّ التي علق المغرضون في رقابهم عقود اللالئ الحسان فطفقوا كالسوس الصغير الذي ينخر في ثوابت الأمة وأحكام الشريعة ورموز العلم ومحاضنه الكريمة، أولئك المثقفون والمبرزون الذين ليس لهم في عالم الاحترام وجهة، وعندهم يشتد الريْبُ والعيْبُ إذا خلا الجيْب، ولا يهمهم أن يكونوا معاول هدم ونذير شؤم مُحققٍ على أوطانهم، طالبوا بنزع الحجاب عن المرأة ليسهل لهم بعد ذلك صيدها وأغرقوها في سيل من الحمم البركانية المبيدة للأخلاق والتحشم عبر الإعلام والأفلام والأقلام، وطالبوا بالتعدد للنساء وقالوا بأن العلاقاتِ قبل الزواج أمرٌ شخصي ولا يخضع لأوامر الدين، وأخيراً نطق السفهاء بأحلام الأعداء الذين كانوا لا يجدون لقولهم على أرضنا مساغاً، قد نطق بها الرويبضة الوسيم وقد أُفردت له الساعات الطِوالُ في أشهر المحطات ليبثَّ بين الناس سُمَّهُ وليُعبِّرَ عن سفاهته ولكن بطريقةٍ حديثةٍ تختلف عن سفاهة القدماء من المرجفين في تحويل القبلة.

والعقل يشهد بأن سفهاء هذا الزمان على يقين من تكاذبهم وبأنهم يعرفون الحق بيد أنهم لا يحبوه ولا يعجبهم أن يظهر ويشتهر لأن ظهور الحق سيمحق مصالحهم ومكاسبهم الرخيصة والمحرمة.. تماماً مثل قدواتهم في السفاهة منذ قديم الزمان.
والآيات المحكمات التي تناولت حديث السفهاء في تحويل القبلة تتحدث عن مطلق الناس من السفهاء عبر كل الأزمان وبإفادة القول في المستقبل من الزمن، فلا غرو؛ سيظلون يرجفون إلى قيام الساعة مع تجدد الأحداث، فهي سنة الله في خلقه، وقد قص القرآن الكريم أحوالهم وقايةً من الإحباط وبعداً عن مجرد الإصغاء لهم حتى لا تتبددَ طاقةُ الأمَّة.

ومن أدب الحوار في القرآن علينا أن نتعلم أن يكون الرد ايجابياً هادئاً مُقْنِعاً لأهل العقول من المخالفين بلا انفعال ولا سِبابٍ ولا تَعْيِيرٍ كما درج كثيرون ممن يختصرون الوصاية على هذا الدين ويتكلمون باسمه في غالب أحوالهم، قال الله تعالى ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142]، هذا هو الرد.. ولا زيادة!.

لزوم الإسراع بالطاعة ولو خالف الهوى:
ومن دورس تحويل القبلة لزوم الإسراع بالطاعات وتعجيلها قدر الطاقة فإن التعجيل بالعمل الصالح حزمٌ وتوفيقٌ، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 83، 84]، وكذلك كان أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه لما سمعوا أن القبلة قد تحولت فتحولوا وهم ركوعٌ ولم يمهلوا، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابَهُ كانوا يصلُّونَ نحوَ بيتِ المقدسِ فلمَّا نزَلت هذهِ الآيةُ: ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144] فمرَّ رجلٌ من بَني سلمةَ فَناداهم وَهُم رُكوعٌ في صلاةِ الفجرِ نحوَ بيتِ المقدسِ ألا إنَّ القِبلةَ قد حوِّلَت إلى الكعبةِ مرَّتينِ فَمالوا كما هُم رُكوعٌ إلى الكَعبةِ) (الألباني في صحيح أبي داود 1045)، فالمسارعة في الطاعات أساس البركات، قال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وذلك أمرٌ في غاية الصعوبة لمن لم يعود نفسه على الانقياد لرب الأكوان قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [البقرة: 143]، وسرعة الاستجابة في الطاعة ثقيلةٌ على من تمكن الهوى من نفسه.

القيادة الروحية والأخلاقية للأمة الإسلامية:
ونحن أبناءُ هذه الأمة المباركة ورثْنا المجد من أطرافه لأننا نسيرُ على خُطى جميع الأنبياء والمرسلين، ونحمل مشاعل الحضارة نضئ للدنيا ونَقْشَعُ ظلام الفكر بنور الإيمان، قياماً بالمسئولية التي تولَّت في القيادة عن بني إسرائيل إلى أمة الإسلام، وقد عاش بنو إسرائيل قروناً يتميزون بالعلم بعد أن اختارهم الله تعالى لذلك فقال: ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الدخان: 32]، وكانت الرسالات والنبوة قائمةً لدهورٍ طويلةٍ فيهم، لكن قيادةَ البشرية قد انتقلت إلى أمة سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بانتقال القبلة إلى الكعبة الشريفة، والمعنى أن بني إسرائيل قد ضلوا وانتكسوا وخانوا عهود الله تعالى بعد ما قتلوا الأنبياء وعاثوا في الأرض بآيات الفساد ولذلك فهم لا يصلحون للقيادة الإيمانية والخلقية والأدبية للبشرية، ولا غرو؛ انتقلت القبلة إلى أرض أمة الإسلام لتكون القيادة من هنا، لأننا خير الأمم وأوفاهم لله ديناً وأحكمهم منهجاً في إصلاح أولاد آدم، وهذا حملٌ ثقيلٌ على أمة الإسلام وأمانةٌ عظمى ملقاةٌ عليهم في مجال القيادة الروحية لهذا العالم.

إن البشرية مريضةٌ في أخلاقها وقارورةُ الدواء الوحيدة الآن هي بيد المسلمين تنبعُ من نُظِمِ القرآن الكريم في صياغة حياةٍ آمنةٍ عادلةٍ لكلِّ المجتمع البشري وحماية أمن الشعوب ومقدرات الأمم مع عدم الإخلال والتوازن بين الحقوق والواجبات، ونصرة المظلوم وحمايته من الظالم والتعاون على البر والسلام العام، بدلاً من الواقع الذي يصيب بالغثيان حيث استشرى الظلم في العالمين وزادت أسواق السلاح في رواجٍ يمثل الخزي والعار للدول التي تزعم رعاية السلام! وزادت وتيرة المكر العالمي والتكاذب للإيقاع بين الدول والشعوب، والصورة القائمة تنذر بهلاكٍ واقتتالٍ وحروبٍ قادمةٍ لا محالة لأنه لا يوجد سلامٌ حقيقيٌّ في هذا العالم، لهذا؛ فإن القيادة الحالية ممن تصف نفسها بالدول الكبرى لهذا العالم قد ضلتْ وغَوَتْ، وما زالت الدعوة من الله تعالى لنا أمة الإسلام قائمة لتحمل مسؤوليتنا كأمةٍ وسط ترعى الخير وتحمي حماه، قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ويفسر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى معنى الأمة الوسط بقوله: [والوسط هاهنا: الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب] (الإمام ابن كثير / تفسير القرآن العظيم ص 454 ج1 ط2 بتحقيق سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع 1999م).

وقد اختص الله من مجامع الفضل والتميز لأمتنا ما يجعلها سيدة الأمم وأكرمها، ويتجلى ذلك في موقعها العالمي على أديم البسيطة واعتدال مناخها ووفرة خيراتها وكنوزها البشرية فهي وسطٌ أيضاً بهذا المعنى.
وواجب الزمان وفرض الوقت هو أن ندرك سراعاً أن تقدمنا في الدنيا وكرامتنا في الآخرة مرهونةٌ بالوفاء لديننا واحترام تعاليمه وتطبيق أحكامه حتى نتبوأ المكانة التي أعدها الله تعالى لنا ونستحق أن نوصف بالوسطية بمعنى الخيرية وحتى نكون في الموقع المنيف الذي ينشده لنا القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، وفي ذلك قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (يجاء بنوحٍ يومَ القيامةِ، فيقال له: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعم يا ربِّ، فتُسألُ أُمَّتُه: هل بلَّغَكم، فيقولون: ما جاءنا من نذيرٍ، فيقول: من شهودُك، فيقول: محمدٌ وأُمَّتُه، فيُجاءُ بكم فتشهدون، ثم قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143] - قال: عدلًا - ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]) (صحيح البخاري 7349 عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه).

وأُمَّةُ الخيريةِ والوسطِيةِ والعدلِ شاهدةٌ بعضُها على بعضٍ، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (مُرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجنازَةٍ، فأُثْنِىَ عليها خيرًا، وتتابَعَتِ الألْسُنُ بالخيرِ، فقالوا: كان - ما علِمْنا - يُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ، فقال نَبِيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، ومُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيِ عليها شرًّا، وتتابَعَتِ الألسُنُ لَها بالشرِّ، فقالو: بئسَ المرءُ كان في دينِ اللهِ، فقال نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وجبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، فقال عمرُ: فِدًى لَكَ أبِي وأمِّي، مُرَّ بِجَنازَةٍ فَأُثْنِيَ عليها خيرًا، فقلْتَ: وجَبَتْ، وجبتْ، وجبَتْ، ومُرَّ بجنازَةٍ فأُثْنِيَ عليها شرًّا، فقلْتَ: وجبَتْ، وجبَتْ، وجبَتْ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَنْ أثْنَيْتُمْ علَيْهِ خيْرًا وجَبَتْ لَهُ الجنَّةُ، ومَنْ أثْنَيْتُمْ عليْهِ شرًّا وجبَتْ له النارُ، الملائِكَةُ شُهَدَاءُ اللهِ في السماءِ، وأنتم شهداءُ اللهِ في الأرضِ، أنتم شهداءُ اللهِ في الأرْضِ، أنتم شهداءُ اللهِ في الأرْضِ، وفي روايَةٍ: والمؤمنونَ شهداءُ اللهِ في الأرْضِ، إِنَّ للهِ ملائكةً تنطِقُ على ألسِنَةِ بني آدمَ بِما في المرْءِ مِنَ الخيرِ والشرِّ) (الألباني في أحكام الجنائز 60 وقال: مجموع ألفاظه عند البخاري ومسلم وغيرهما)، وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (يوشِك أن تعلَموا خيارَكُم من شِراركُمْ. قالوا: بمَ يا رسول اللَّهِ؟ قالَ بالثَّناءِ الحسن والثَّناء السَّيِّءِ أنتُمْ شُهَداء اللَّهِ في الأرضِ) (أحمد شاكر في عمدة التفسير 1/193 وأشار إلى صحته عن أبي زهير الثقفي).

ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة المباركة أن الله تعالى لا يضيع فيها سعي من سعى ويكافئ على القليل إذا حالفه الإخلاص، وقد تجلى ذلك في تحويل القبلة لما زاد المرجفون من بث الأراجيف على من مات قبل التحويل وكانت صلاته إلى بيت المقدس بأنها قد ذهبت أدراج الرياح كونها لم تكن إلى قبلة مرضية، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة: 142]، وقال الله تعالى ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]، وعن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما قال: (... ولمَّا حُوِّلَت القبلةُ قالَ أُناسٌ: يا رسولَ اللَّهِ، أصحابُنا الَّذينَ ماتوا وَهُم يُصلُّونَ إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزلَ اللَّهُ: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]) (أحمد شاكر في عمدة التفسير 1/730 وقال: إسناده حسنٌ صحيحٌ)، وذلك لأن القصد هو وجه الله وطلب مرضاته، قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 177].

وقد أفرزت حادثة تحويل القبلة أفراد المجتمع الإسلامي في صباه وكشفت وجوهَ المدَّعين والذين هم في الإيمان على حرفٍ وعلى غير ثباتٍ لأنهم زيوف البشر فخرجوا من الدين كما يخرج السهم من الرمية بعد استماعهم إلى إرجاف السفهاء فسبقوهم إلى الكفر والعار، وثبت المؤمنون الراسخون في إيمانهم واتبعوا الرسول في مآخذه ومتاركه وحبه وبغضه لأنهم أسلموا أنفسهم لرب الأكوان سبحانه، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143] فكانت غربلةً مُبْقِيَةً للصَّادقين مُنْفِيَةً للمُتَشكِّكِين.

وفي الختام:
كما حوَّلَ الله تعالى صدور المسلمين في صلاتهم إلى البيت الحرام بمكة علينا أن لا ننسى أول القبلتين وثالث الحرمين المسجدَ الأقصى مهبط الملائكة ومجمع الأنبياء وهو أمانة النبي الكريم صلى الله عليه لأمته، وقد فتحه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لما صلى فيه بالأنبياء إماماً وافتتحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته وحرره صلاح الدين الأيوبي رمز الجهاد المقدس والسلام والأمن والبطولة في حطين، والذي يتناوشه اليوم صغار الأفهامِ والأحلامِ في دنيا الإعلام الذي خرج عن أطواق الفجور بشكل ٍ مثيرٍ!، أهكذا يكون الأدب مع رموز الفخر الحقيقي في هذه الأمة؟ وماذا يتبقى لنا إن بقينا على هذا الإهتراء الفكري:
إن دامَ هذا ولم تحدث لَهُ غِيَرٌ ♦♦♦ لم يُبْكَ مَيْتٌ ولم يُفْرَحْ بمولُودِ

إن أشواق الروح لا تبرح الزيارة إلى المسجد الأقصى في حزنٍ يتساوق مع هذا الطغيان العنصري الذي يمارسه أعداء السلام على أرض الإسراء، ولا تبرح الأحزان الكئيبة من هذه الأمواج الجديدة من دعاة العلم كيف ظهروا؟ ولماذا ترتفع أصواتهم كل يوم في أسماع الناس وقد ألهاهم التكاثر الدنيوي عن طلب العلم الصحيح؟ إن مستقبلنا إزاء قضايانا الكبرى مهددٌ تهديداً حقيقياً سيبلغ السهل والجبل بعد أعوامٍ لو لم نوقف هذا المدَّ الجارفَ والسَّيْلَ العرمرمَ الذي يُهدِّدُ القيم ويمسخ صفحات العلم ويزوِّرُ التاريخ.

نرجو كما تحوَّلَ المسلمون مع قبلتهم إلى المسجد الحرام أن نتحول عن الباطل إلى الحقِّ وان نتحول من الكذب إلى الصدقِ ومن البطالة إلى العمل ومن الفُرْقَةِ والانقسامِ إلى الإتحاد والألفة ومن البغضاء والتحاسد إلى الحبِّ والوئامِ والسلام فهو التجارة الرابحة والعُمْلَةُ التي لا تفقد صلاحيتها في كل زمانٍ ومكانٍ.

ونرجو الثبات ضد الشبهات والشهوات والأفكار المضلِّةِ وأن نعود بيقين إلى قيمنا الحافظة لبقائنا وأخلاقنا التي ترعانا وتزيدنا تماسكاً.

نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا أوطاننا وأن يزيدها أمناً ويغمرها بالإيمان، وأن يجمعنا من فرقةٍ وينشر علينا أعلام الوئام والسلام.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله في المبدأ والمنتهى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 67.23 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.48%)]