المشقة عند الإمام الشاطبي: موقف الشارع منها، وضوابط اعتبارها في الفتوى من خلال كتابه: - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ماذا يأكل المسلمون حول العالم؟ استكشف سفرة عيد الأضحى من مصر إلى كينيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          طريقة عمل الفتة بخطوات سريعة.. الطبق الرسمى على سفرة عيد الأضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          مقاصد الحج (ليشهدوا منافع لهم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          أحكام وفضائل يوم النحر وأيام التشريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          أحكام الأضحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          خطبة الأضحى 1445 هـ: الكلمة مغنم أو مغرم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          خطبة عيد الأضحى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-11-2021, 08:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,519
الدولة : Egypt
افتراضي المشقة عند الإمام الشاطبي: موقف الشارع منها، وضوابط اعتبارها في الفتوى من خلال كتابه:

المشقة عند الإمام الشاطبي: موقف الشارع منها، وضوابط اعتبارها في الفتوى من خلال كتابه: الموافقات في أصول الشريعة
محمد أمين الخنشوفي



تقديم:

لقد تناول الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات مسألة المشقة حين حديثه عن مقاصد المكلف من كتاب المقاصد في سبع مسائل، وذلك بعد أن قرر أنه: "لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق"[1]، فعُلم من كلامه هذا - رحمه الله - أن الشارع قد يكلِّف بما يصاحبه نوع مشقة، وعليه فما موقف الشارع الكريم من هذه المشاق من حيث قصده إليها أو عدمه؟ ثم ما هي ضوابط المشقة المعتبرة في الفتوى؟





قبل أن أحاول الإجابة عن هذين الإشكالين، لا بد من النظر في أوجه المشقات المصاحبة للتكليف، كما حددها أبو إسحاق الشاطبي.



المبحث الأول: في مفهوم المشقة:

أولًا: أوجه المشقات المصاحبة للتكليف عند الإمام الشاطبي:

بعد أن حدد الشاطبي - رحمه الله تعالى - المدلول اللغوي للمشقة تطرق إلى أوجهها بالنظر إليها في نفسها، فقسمها إلى أربعة أوجه:

أما الوجه الأول:

فهو الذي عم ما كان مقدورًا عليه، وما لم يكن كذلك، وهذا الوجه قد تحدث عنه - رحمه الله - حين حديثه عن التكليف بما لا يطاق، إذ التكليف بهذا الأخير هو في ذاته مشقة، قال - رحمه الله -: "فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة"[2].



وأما الوجه الثاني:

فيختص بما هو مقدور عليه دون غيره، "إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها"،[3] وقيامها بما أنيط بها من التكاليف التي صاحبتها تلك المشقة، وقد قسم - رحمه الله - هذا الوجه إلى ضربين:



أما الأول: فهو ما كانت "المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها"[4]، وهو محل الرخصة، كالصوم في المرض والسفر، فإنه متى صام المكلف في سفره أو مرضه وقع في المشقة الخارجة عن المعتاد، ولا يشترط في وقوع هذه المشقة تكرار الصوم في السفر أو المرض، بل إن الصوم في السفر تصاحبه المشقة ولو وقع مرة واحدة من غير تكرار.



وأما الثاني: فهو عكس الأول، إذ المشقة فيه غير مختصة بأعيان الأفعال، ولكنها تلحق الأفعال من جهة تكررها، فإذا وقع الفعل مرة واحدة، لم تصاحبه المشقة، ولكن إن وقع على سبيل التكرار صحبته، "ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما، إلا أنه في الدوام يتعبه (...)، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللًا"[5].



وأما الوجه الثالث:

فهو ما كان "خاصًّا بالمقدور عليه، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية"[6]؛ إذ المشقة الحاصلة بذلك من لوازم التكليف وطبيعته، ولذلك سُمي تكليفًا لما فيه من الكلفة، وهي المشقة، غير أن هذه المشقة لا تخرج عن المعتاد.



وأما الوجه الرابع:

فالمشقة فيه لازمة عن التكليف، وبيان ذلك أن التكليف إنما وجد لإخراج المكلف عن داعية هواه، "ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقًا"[7].



فهذه إذا هي وجوه المشقات عند الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - حاول إبرازها، وعرَّج عليها ببيان قصد الشارع إليها، أو عدمه، وهو موضوع المسألة الثانية بحول الله تعالى.



ثانيا: موقف الشارع الكريم من هذه المشاق:

لا شك أن بين علماء الأمة وفاقًا على أنه لا تكليف بما لا يطاق، واستدلوا على ذلك بأدلة قطعية أقواها: استقراء جزئيات الشريعة، غير أنه قد تقرر لديهم أيضًا[8] إمكانية التكليف بما يلزم عنه مشقة بوجه ما، فهل تعتبر هذه المشقة اللازمة عن التكليف مقصودة للشارع أم لا؟



لقد تناول الشاطبي - رحمه الله - هذه المسألة بنوع من التفصيل، حتى لم يترك لأحد شكًّا من أن الشارع الكريم لم يقصد إلى التكليف بالمشاق اللازمة عن التكليف، واستدل على ذلك - رحمه الله - بمجموعة أدلة؛ من ذلك النصوص الشرعية الناطقة برفع الحرج في الشريعة الإسلامية، ومنه قوله سبحانه: " ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة"[9]، كما استدل على ذلك أيضًا بتشريع الرُّخَص، "ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف"[10]، ثم ختم أدلته - رحمه الله - بـ"الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه"[11].



ثم إن هذه المشقة التي هي لازمة عن التكليف، قرر - رحمه الله - في المسألة السابعة من مسائل مقاصد المكلف، أنها "لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع"[12].



بالإضافة إلى ذلك فالتكليف إنما قصد به جلب المصالح ودفع المفاسد عن العباد في الدارين، ولم يقصد إليه من جهة ما هو مشقة، فالطبيب لا يقصد بالدواء وقطع الأعضاء المتآكلة، إيلام المريض، وإنما "المقصود (...) هو المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم"[13]، ولله المثل الأعلى؛ فإنه سبحانه إنما قصد جلب مصالح العباد لا المفاسد، وعليه "فما لزم عن التكليف لا يسمى مشقة؛ فضلًا عن أن العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها"[14]، ويؤيد ذلك ما قرره الإمام العز بن عبدالسلام قبله من "أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، فإن المآكل والمشارب، والملابس والمناكح والمراكب والمساكن، لا تحصل إلا بنصب مقترن بها أو سابق أو لاحق، وأن السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق"[15]، وهو أمرٌ مسلم بالنظر إلى طبيعة الدار، فهي دار ابتلاء، و"أحوال الإنسان كلها كلفة (...)، ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره (...) فكذلك التكاليف"[16].



ولا بد من الإشارة إلى أمر مهم قد تطرق إليه الشاطبي - رحمه الله - وهو ترتُّب الأجر على المشاق اللازمة عن التكليف؛ إذ افترضه اعتراضًا، وأجاب عنه بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ذلك أن ترتب الأجر على هذه المشاق، كما دلت عليه النصوص الشرعية[17]، فيه إيذان بالقصد إليها، فقال: "إن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزومًا عن مجرد التكليف، وبها حصل العمل المكلف به، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصودة، لا أنها مقصودة مطلقًا، فرتب الشارع في مقابلتها أجرًا زائدًا على أجر إيقاع المكلف به"[18]، وها هنا إشارة إلى أنه لو لم تكن تلك المشقة اللازمة عن التكليف، لَما رتب الشارع عليها أجرًا زائدًا على أجر إيقاع المكلف به.



ثم إنه "لا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلًا، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر به عن سيئاته"[19]،[20].



ويترتب عن هذه المسألة سؤال هو: هل يجوز للمكلف القصد إلى المشقة في التكليف باعتبار عظم أجرها؟

والجواب "أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرًا لعِظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل"[21]، لا من حيث مشقته، والنكتة في ذلك أنه إن قصد المشقة، كان قصده مخالفًا لقصد الشارع، والقصد المخالف لقصد الشارع لا عبرة به، وقد تقرَّر قبل أن الشارع لم يقصد إلى نفس المشقة في التكليف، وعليه "فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض"[22]، مردود على صاحبه.



وقد افترض الشاطبي - رحمه الله تعالى - على هذا الأمر اعتراضًا بجواز القصد إلى المشقة، وكان مما ذكره ما نقل من أحوال أصحاب الأحوال، من أنهم "ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم، وترك الرخص جملة"[23]، وهذا الاعتراض سيأتي الجواب عنه بحول الله وقوته حين الحديث عن ضوابط اعتبار المشقة في الفتوى، لصلته الوطيدة بذلك، وهو موضوع النقطة الثالثة بحول الله وقوته.



وقبل الانتقال إلى الحديث عنها، لا بد من الإشارة إلى أن الشارع الكريم، لما لم يكن قاصدًا إلى المشقة اللازمة عن التكليف، فإن هذه المشقة قد تكون معتادة، وقد تكون زائدة عن الاعتياد، فأما الثانية، "فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة (...)، ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقًا"[24]، وأما الأولى "فالشارع وإن لم يقصد وقوعها [كما تبين]، فليس بقاصد لرفعها أيضًا"[25]؛ لأنه يلزم من رفعها ارتفاع التكليف معها، وهو خلاف المقصود من إيقاع التكليف، "لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبًا وتكليفًا على قدره، قل أو جل؛ إما في نفس العمل المكلف به، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف، وإما فيهما معًا"[26].



ثالثا: ضوابط اعتبار المشقة في الفتوى:

لم يتطرق الإمام الشاطبي إلى بحث هذا الموضوع بشكل مباشر، وإنما المطالع لما كتبه عن المشقة في المسائل المذكورة، يستشف منها أنه وضع مجموعة من الضوابط التي تضبط بها المشقة، من حيث اعتبارها في فتوى المفتي أو عدمه؛ ذلك أن المكلف قد يقع منه الفعل على وجه لا مشقة فيه لازمة، وقد يقع على وجه تلزم عنه المشقة أصالة أو استثناءً، وهذه المشقة قد تكون معتادة وقد تكون زائدة عن الاعتياد، ثم إنها قد يقصدها المكلف فيتسبب إليها، وقد لا يقصدها، فإن قصدها وتسبب إليها، فقد تقدم حكمه بعدم صحة التعبد به، وإن لم يقصدها، فإن ذلك يلزم منه ما سيأتي ذكره في أمر الفتوى، سواء أكانت المشقة معتادة أم لم تكن كذلك، أضف إلى هذا أن الفتوى من المفتي قد تتغير بحسب أحوال المستفتي مع المشقة اللازمة عن الفعل الواقع منه، إقدامًا عليه أو إحجامًا عنه، وتفصيل ذلك فيما يلي:

الضابط الأول:

"ليس للمكلف أن يقصد [المشقة] في التكليف نظرًا إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل"[27].



هذا الضابط قد تم الحديث عنه سابقًا حين التعرض إلى عدم جواز قصد المكلف إلى المشقة لعظم أجرها، غير أن الذي استدعى حضوره ها هنا هو إبرازه، وإبراز أثره في الفتوى.



لقد تقدم أنه لا يجوز للمكلف أن يقصد نفس المشقة لعظم أجرها؛ لأن قصده ذاك قصد مخالف، وكل قصد مخالف لا عبرة به، وأثر ذلك في الفتوى، أن المفتي إذا ثبت عنده قصد المكلف إلى نفس المشقة لعظم أجرها، أو تسببه إليها، أفتاه بالإحجام لا بالإقدام، وذلك لمخالفة قصده قصد الشارع؛ إذ "الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات، (...) فلا يصح منها إلا ما وافق قصد الشارع"[28].



أما إن لم يكن المكلف قاصدًا إليها ولا متسببًا، وإنما وقعت له بدخوله في العمل، فإنه غير ملام عندئذ، وشرعت له الرخص ليأخذ بها تخفيفًا، ودفعًا للحرج عنه، يقول الإمام الشاطبي: "فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيًّا عنه... إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة، لا بسبب الدخول في الأعمال ... وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض غير القادر على الصوم ... إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى: " ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وجاء فيه مشروعية الرخص"[29]، وها هنا سؤال يتمخض عنه الضابط الثاني من ضوابط اعتبار المشقة في الفتوى، وهو متى يجب على المكلف الأخذ بالرخص، ومتى يُتْرَكُ ذلك لاختياره؟



الضابط الثاني:

الرخصة واجب الأخذ بها إذا علم دخول الضرر، أو المشقة غير المعتادة، أو كره العمل لدى المكلف، وتُتْرَك لاختيار المكلف إذا علم عدم ذلك كله، أو كان المكلف ممن صارت المشقة غير المعتادة بالنسبة له كالمعتادة:

إنه من المعلوم أن المكلف إما أن يأخذ بالرخصة من حيث يعمل بها لمجرد حظ نفسه، أو يأخذها استجابة وتلبية لإذن ربه، فإن لم يعمل بها فالأمر فيه تفصيل على ثلاثة وجوه:

أما الأول: فـ"أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت، ويكره بسببه العمل (...)، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك"[30]، فهذا يفتى له بوجوب الأخذ بالرخصة، والإمساك عما أدخل عليه المشوش[31].



أما الثاني، فـ"أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد، ولكن في العمل مشقة غير معتادة، فهذا أيضًا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة (...)، وإن قدر على الصبر عليها، ففي ما لا يقدر على الصبر عليه عادة"[32]، وهذا حكمه في الإفتاء حكم من قبله.



أما الوجه الثالث والأخير، فيتعلق بأرباب الأحوال، ممن صارت عندهم المشقة الزائدة عن المعتاد معتادة، وهؤلاء لهم حكم خاص بهم؛ إذ يجوز لهم من الدخول في الأعمال العظيمة مشاقها، ما لا يجوز لغيرهم، وعن هذا يتفرع الضابط الموالي، والذي سننظر فيه متى يجوز الدخول في أعمالٍ هذه طبيعتها، ومتى لا يجوز ذلك.



الضابط الثالث:

النهي عن الخوض في الأعمال العظيمة مشاقها مستمر في حق جميع المكلفين، إلا من انتفت في حقه علة النهي.

من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد نهى عن الخوض في الأعمال التي تكون مشقتها زائدة عن المعتاد، ومن الأدلة حديث أنس - رضي الله عنه -: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا؟"، قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به، فقال: "حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد"[33]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى"[34]، فهذه الأدلة وغيرها كثير، دالة بمنطوقها على النهي عن الإيغال في الأعمال التي عظمت مشقَّتُها، ولقد حدد الشاطبي - رحمه الله - علة النهي ها هنا في "السآمة والملل، والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها (...)، وأنه يسبب تعطيل وظائف"[35]، منوطة بالإنسان فيما يتعلق بأهله، وولده، وأمته.



وعليه فإن المكلف لا يجوز له الدخول في مثل هذه الأعمال، إذا ثبتت في حقه علة النهي، وإلا كان له الدخول إذا انتفت، "فالنهي دائر مع العلة وجودًا وعدمًا"[36]؛ يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يسبِّب تعطيل الوظائف، كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة نهي عن ذلك، وإن لم يكن شيء من ذلك فالإيغال فيه حسن"[37].



وأثر هذا في الفتوى أن المفتي يفتي بالإحجام أو بالإقدام، بحسب ما يعلم من قدرة المكلف على أداء الوظائف المنوطة به اتجاه أهله وولده وأمته، أو عدمها بدخوله في عمل عظيمة مشقته، ثم بحسب علمه بمآل ذلك العمل الذي يريد المكلف الدخول فيه، هل يؤول إلى كره العبادة وبغضها، والسآمة والملل منها، أم لا؟ فإذا تقرر هذا أفتاه بحسب ذلك، والله المستعان.



الضابط الرابع: المشقة إن كانت لازمة عن مخالفة الهوى لم تعتبر في الفتوى.

لقد نص الشاطبي - رحمه الله تعالى - على أن "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا"[38]، ومخالفة الهوى لا بد أن تنشأ عنها مشقة ما، قليلة أو جليلة، غير أن هذه المشقات "ليست من المشقات المعتبرة في التكليف، وإن كانت شاقة في مجاري العادات؛ إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف من أجل ذلك، لكان ذلك نقضًا لِما وضعت الشريعة له"[39]، وهو إخراج المكلف عن داعية هواه، ولما كان الأمر كذلك، لم تعتبر هذه المشقات في الفتوى؛ إذ لا يعذر أحد في تفريطه في عبادة من العبادات كصلاة الفجر في السبرات مثلًا، بدعوى أن ذلك شاق عليه، فيُفتى له بجواز ترك تلك العبادات، أو كمن بلغ في شرب الخمر حد الإدمان، فيفتى له بجواز شربه، أو غير ذلك، لأن تلك المشقات إنما نشأت عن مخالفة الهوى، ومثلها غير مُعتبر، ولو كان معتبرًا لشرعت من أجله الرخص، وهي مأجور عليها بحسب عظمها كما تقدم.



الضابط الخامس:

المشقة الأخروية الناشئة عن تعطيل واجب أو فعل محرم، أشد من المشقة الدنيوية التي هي غير مخلة بدين.



قد يظهر للمفتي وهو يتعرض للإفتاء تعارض بين المشاق الأخروية الناشئة عن تفويت واجب أو فعل محرم، والمشاق الدنيوية الناشئة عن فعل من الأفعال، ففي هذه الحال تحتمل الدنيوية للأخروية؛ لأن هذه الأخيرة أشد في نظر الشارع الحكيم، وبالمثال يتضح المقال فإن الرجل إذا سرق قد علم في الشرع أن حده قطع يده، وفي ذلك مشقة عليه دنيوية، وفي تفويت قطع اليد مشقة أخروية، فها هنا تحتمل المشقة الدنيوية من أجل الأخروية؛ لأنها أشد في نظر الشرع من الدنيوية التي هي غير مخلة بالدين، وكذلك حين تتعارض مشقة فقد النفس، مع مشقة الجهاد، فإنه تحتمل مشقة فوات النفس من أجل مشقة الجهاد[40]، وهذا باب من الموازنات عظيم.



الضابط السادس:

إذا تعارضت المشقة الخاصة مع المشقة العامة، فإن أمكن الجمع بينهما في الانتفاء فذاك، وإلا فالترجيح أو التوقف إن لم يمكن الترجيح.



إن المشقة التي تنشأ عن التكليف، قد تكون لازمة خاصة بالمكلف، وقد تكون متعدية؛ بحيث تتعدى المكلف إلى غيره، وها هنا قد يقع التعارض بين اللازمة والمتعدية؛ بحيث "إن المكلف إذا لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره، فيلزم أيضًا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه"[41]، ومثال ذلك: "الوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه، إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته، فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره"[42]، فهذا قد عمَّته المشقة إلى جانب غيره، مع انتفاء مشقته المتمثلة في الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته.



غير أن المشقة قد تعم غيره دونه، وذلك "كالقاضي والعالم المفتقر إليهما، إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز، أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي، وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس"[43]، دون أن يعمَّهما معهم، لاستغنائهما بنفسهما عن مصلحتي القضاء والفتيا.



فها هنا وقع التعارض بين ما هو خاص وما هو عام، "فإن كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فلا بد من الترجيح، فإن كانت المشقة العامة أعظم، اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة، وإن كان بالعكس فالعكس، وإن لم يظهر ترجيح فالتوقف"[44].



والخلاصة أن الشاطبي - رحمه الله تعالى - قد أشفى العليل وروى الغليل فيما يتعلق بوقوع المشقة في التكليف، سواء أتعلق الأمر بقصد الشارع إليها، أو عدمه، أو الضوابط التي تنضبط وتتميز بها المشقة المعتبرة من غير المعتبرة، وأثر ذلك في الفتوى ظاهر كما تبين.



الحمد لله رب العالمين



لائحة المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم برواية ورش.



2- السنن الكبرى للإمام البيهقي، تحقيق محمد عبدالقادر عطا، نشر: مكتبة دار الباز، ط: الأولى.



3- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى.



4- قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، لشيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام، تحقيق: الدكتور نزيه كمال حماد، والدكتور عثمان جمعة ضميرية، نشر: دار القلم- دمشق، ط: الأولى، 2000م.



5- مسند أحمد بن حنبل، للإمام أحمد بن حنبل، نشر: دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى.



6- الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق عبدالله دراز، نشر: دار الكتب العلمية، ط: الثامنة، 2011م.





[1] الموافقات، 1/ 2/ 91.




[2] نفسه.




[3] نفسه.




[4] نفسه.




[5] نفسه، 1/ 2/ 92.




[6] نفسه.




[7] نفسه.




[8] ينظر، الموافقات، 1/ 2/ 91.




[9] رواه الإمام أحمد، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند الأنصار، من حديث أبي أمامة الباهلي. حديث رقم: 21787.




[10] الموافقات، 1/ 2/ 93.




[11] نفسه، 1/ 2/ 94.




[12] نفسه.




[13] نفسه، 1/ 2/ 97.




[14] نفسه.




[15] قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، 1/ 9-10.




[16] الموافقات، 1/ 2/ 94.




[17] ينظر الموافقات، 1/ 2/ 95.




[18] الموافقات، 1/ 2/ 97.




[19] رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، حديث رقم: 2576.




[20] الموافقات، 1/ 2/ 97.




[21] نفسه، 1/ 2/ 98.




[22] نفسه.




[23] نفسه، 1/ 2/ 99.




[24] نفسه، 1/ 2/ 118؛ ينظر أيضًا: 1/ 2/ 91.




[25] نفسه.




[26] نفسه، 1/ 2/ 119.




[27] نفسه، 1/ 2/ 98.




[28] نفسه.




[29] الموافقات، 1/ 2/ 102.




[30] نفسه.




[31] ينظر الموافقات، 1/ 2/ 102.




[32] الموافقات، 1/ 2/ 103.




[33] رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، حديث رقم: 786.




[34] رواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحيض، جماع أبواب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، 3/ 18.





[35] الموافقات، 1/ 2/ 105-110




[36] نفسه، 1/ 2/ 105.




[37] نفسه، 1/ 2/ 110.




[38] نفسه، 1/ 2/ 128.




[39] نفسه، 1/ 2/ 116-117.




[40] ينظر: الموافقات، 1/ 2/ 117.




[41] الموافقات، 1/ 2/ 118.





[42] نفسه، 1/ 2/ 117-118.




[43] نفسه، 1/ 2/ 118




[44] نفسه.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 70.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.67 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.38%)]