|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حرص السلف على قضاء حوائج الناس وتفريط الخلف السيد مراد سلامة الخطبة الأولى أما بعد:حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن "حرص السلف على قضاء حوائج الناس وتفريط الخلف"، فهيا أيها الأحباب لنتعرف على فضل قضاء حوائج الناس والسعي في قضائها، ثم لنقف مع الأنبياء والصحابة والتابعين لنرى كيف كان حرصهم على تلك العبادة، وعلى تلك المنزلة، ثم ننظر إلى أحوال الخلف ليرتد إلينا البصر خائبًا وهو حسير من تقاعس وتهاوُن في السعي في قضاء حوائج المحتاجين. أولًا: فضل قضاء حوائج الناس: إخوة الإسلام، جاءت آيات كثيرة تدعونا إلى السعي في قضاء حوائج الناس، والمسارعة إلى أعمال الخير والبر التي تنفع العباد والبلاد، يحثُّ الله تعالى فيها المؤمنين والمؤمنات؛ فقال الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]. ففي هذه الآية دعوة كريمة إلى الصدقة وقول المعروف، والإصلاح بين الناس، وكلها من الأمور التطوُّعية التي دعا إليها ربُّ البريَّة؛ عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصَّدَقة))، قالوا: بلى، قال: ((إصلاح ذاتِ البَيْن، وفساد ذات البَيْن الحالقة))[1]. وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]، فهذه دعوة من الله تعالى لمن مَنَّ عليه بالقراءة والكتابة ألا يبخل على إخوانه بالكتابة لهم كما علَّمه الله تعالى. إن الحق يأمره بأن يتطوَّع، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح «فليكتب»؛ لأن الإنسان إذا ما كان هناك أمرٌ يقتضي منه أن يعمل، والظرف لا يحتمل تجربة، فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل. هَبْ أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة، وأغرقت الذي يمسك بدفَّة الزورق، أو هو غير قادر على إدارة الدفة، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفَّة، إنه يندب نفسه للعمل، فلا مجال للتجربة[2]. مَنْ أحَبُّ الخَلْق إلى الله؟ وعملُه أحَبُّ الأعمال؟ ثم اعلموا عباد الله أن من أحب الأعمال إلى الكبير المتعال قضاء حوائج المحتاجين، والسعي على كشف كربهم؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا - وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامِ»[3]. الجزاء من جنس العمل: معاشر الموحِّدين، اعلموا علم يقين أن الجزاء من جنس العمل، فمَنْ سعى في قضاء حوائج المحتاجين قضى الله تعالى حوائجه، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"[4]. "مَنْ نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا"؛ تسعى له في عمل، ترفع عنه ظلمًا، تداويه في مرض، تُحضر له طبيبًا، تقف معه في مصيبته، تحاول تخفيفها عنه، تقضي عنه دينه، تعاونه في زواجه أو زواج ولده أو ابنته، تديم السؤال عنه، "نفَّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة" وكربات يوم القيامة شديدة عظيمة؛ حشر ونشر وسؤال وحساب وثواب وعقاب وجنة ونار، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[5]. وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّ نَفعَ النَّاسِ مِن أَعظَمِ الأَعمَالِ وَالقُرُبَاتِ؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَا شَاءَ"[6]. ثانيًا: حرص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على قضاء حوائج الناس: إخوة الإيمان، لقد كان الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام من أحرص الناس على بذل المعروف، وقضاء حوائج المحتاجين، فقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة فيها لنغترف من معينهم الصافي، وننهل من عذب حديثهم الكافي. نبي الله موسى والخضر عليهما السلام: من أروع ما قصَّه علينا الربُّ العلي جلَّ جلالُه ما قام به نبي الله موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين يصور الله تعالى لنا ذلك المشهد الذي يفيض بالمروءة والشفقة، فيقول تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24]. عمل البر والخير في قصة الخضر وموسى عليهما السلام وبناء الجدار: ومن مشاهد قضاء حوائج المحتاجين ما قام به الخضر وموسى عليهما السلام عندما دخلا القرية، وطلبا الضيافة؛ ولكن القوم كانوا بخلاء، ولم يقدموا لهم واجب الضيافة، وبينما هم يسيران، إذ بجدار أوشك على الانهدام، فقام الخضر ليصلحه، يعاونه في ذلك موسى الكليم عليهما السلام؛ يقول الله تعالى: ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77] ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82]. زكريا عليه السلام وحرصه على قضاء حوائج مريم عليها السلام: ولقد أشار القرآن الكريم إلى تطوُّع نبي الله زكريا عليه السلام لكفالة مريم بنت عمران عليها السلام؛ قال تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، والكفالة تعني أن يقوم شخص برعاية شؤون أحد الأطفال، والعمل على تربية وتوفير احتياجاته حتى يكبر، وهذا ما فعله نبي الله زكريا، حيث تكفَّل برعاية مريم بنت عمران، وقام بكفالتها خير قيام، فهو نبي وزوج خالة مريم، وما كان أحدٌ غيره جديرًا بهذه المهمة في كفالة مريم. وكفالة الأيتام هي من أفضل الأعمال التطوعية التي حثَّنا رسولُ الله على كفالة الأيتام؛ عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا وكافل اليتيم كهاتَينِ في الجنة))، وقرن بين أصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام[7]. النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء حوائج الناس: ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المَثَل والنموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان، سعيه لقضاء حوائج الناس وبخاصة للضعفاء والأيتام، والأرامل، فلقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه الكريم فقال: "عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا"[8]. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتِ الصَّلاةُ تُقَامُ، فَيُكَلِّمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ فِي حَاجَةٍ تَكُونُ لَهُ، فَيَقُومُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَمَا يَزَالُ قَائِمًا يُكَلِّمُهُ، فَرُبَّمَا رَأَيْتُ بَعْضَ الْقَوْمِ لَيَنْعَسُ مِنْ طُولِ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ[9]. ثالثًا: حرص الصحابة على قضاء حوائج الناس: أمة الإسلام، ولقد سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على المنهج الذي رسمه لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فسارعوا إلى قضاء حوائج المحتاجين، وتنافسوا في ذلك، وسطَّروا لنا أروع الأمثلة. حرص أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ها هو سَبَّاق هذه الأمة صاحب رسول الله، من أنفق ماله في الدعوة إلى الله والعمل على نشر دعوة الإسلام، لقد سار أبو بكر رضي الله عنه على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء حوائج المسلمين رغم ما أُلقي عليه من أعباء الخلافة والأمة إلا أنه لم يمنعه ذلك عن عمل الخير "لما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلما بُويع، قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألَّا يُغيِّرني ما دخلت فيه"[10]. حرص عليٍّ رضي الله عنه على قضاء حوائج الناس: عن عبدالملك بن ميسرة عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ»[11]؛ أخرجه أحمد والبُخَارِي وأبو داود والتِّرمِذي في (الشمائل). حرص عبدالرحمن بن عوف: ها هو الملياردير الصحابي الجليل من أنفق عمره وماله في رِضا الله ورِضا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسارع إلى قضاء الحوائج، ويزيل عن الناس الشدائد، إنه عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ روى أحمد عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة: أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه باع أرضًا له من عثمان بن عفان بأربعين ألف دينار، فقسمها في فقراء بني زهرة، وفي ذي الحاجة من الناس وفي أمهات المؤمنين، قال المسور: فدخلت على عائشة بنصيبها من ذلك، فقالت: من أرسل بهذا؟ قلت: عبدالرحمن بن عوف، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحنُّ عليكم بعدي إلا الصابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة))[12]. الحسن بن علي وقضاء حوائج الناس: وتأمَّلوا في فقه العمل والطاعة إلى سيد من سادات شباب أهل الجنة، قال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، فاستعان به في حاجة، فوجده معتكفًا، فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن رضي الله عنه، فاستعان به فقضى حاجته، وقال الحسن: لقضاءُ حاجة أخ لي في الله أحَبُّ إليَّ مِن اعتكاف شهر[13]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية أما بعد:رابعًا: حرص التابعين على قضاء حوائج الناس: وبعد أن وقفنا مع مَن تربَّوا في المدرسة النبوية، هيا لنقف مع من نهل من معين الصحابة الكرام إنهم التابعون. الحسن البصري رحمه الله: مع ربيب بيت النبوَّة، مع حكيم من حكماء هذه الأمة، مَن كلامُه يشبه كلامَ الأنبياء مع الحسن البصري ومسارعة إلى قضاء الحوائج، قال كلثوم بن جوشن رحمه الله: استعان رجل بالحسن البصري في حاجة، فخرج معه، فقال الرجل: إني استعنت بابن سيرين وفرقد، فقالا: حتى نشهد الجنازة، ثم نخرج معك، قال: أما إنهما لو مشيا معك لكان خيرًا[14]. قال مالك بن دينار رحمه الله: بعث الحسن البصري محمد بن نوح، وحميدًا الطويل في حاجة لأخٍ له، وقال: مروا بثابت البناني، فأشْخِصاه -(أي: فليذهب) - معكم، فأْتِيَا ثابتًا، فقال لهم ثابت: إني معتكف، فرجع حميد إلى الحسن، فأخبره بالذي قال ثابت، فقال له: ارجعْ إليه، فقل له: يا أعمش، أما تعلم أنَّ مشيك في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك مِن حجة بعد حجة، فقام وذهب معهم، وترك الاعتكاف[15]. أبو حنيفة رحمه الله: مع الإمام القدوة والعالم الرباني، مع أبي حنيفة النعمان رحمه الله، قال عبدالله بن رجاء الغداني البصري رحمه الله: كان لأبي حنيفة رحمه الله جار إسكاف - (صانع أحذية) - يعمل نهاره أجمع، فإذا جنَّه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكةً فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دبَّ الشراب فيه غزل بصوت يقول: أضاعوني وأي فتًى أضاعوا ![]() ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثغرِ ![]() ![]() ![]() فلا يزال يشرب الخمر ويُردِّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقَد أبو حنيفة ليلةً صوته، فاستخبر عنه، فقيل: أخذه العسس وهو محبوس، فلما صلى أبو حنيفة الصبح من غده ركب بغلته، وجاء الأمير فاستأذن عليه، فأذِن له، وألا ينزل حتى يطأ البِساط، فلم يزل الأمير يوسع له في مجلسه حتى أنزله مساويًا له، فقال: ما حاجتك؟ فقال: إسكاف أخذه الحرس ليأمر الأمير بتخليته، قال: نعم، وكل من أخذ معه تلك الليلة، فخلَّى جميعهم، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، ولما نزل مضى إليه، وقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرًا عن حرمة الجار ورعاية الحق، وتاب الرجل، ولم يعد إلى ما كان فيه[16]. حرص هارون الرقي: قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: كان هارون الرقي رحمه الله قد عاهد الله ألا يسأله أحد كتاب شفاعة إلا فعل، فجاءه رجل فأخبره أن ابنه قد أُسِر بالروم، وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك ومن أين يعرفني وإذا سأل عني قيل: هو مسلم، فكيف يقضي حقِّي؟ فقال له السائل: اذكر العهد مع الله تعالى، فكتب له إلى ملك الروم، فلما قرأ الكتاب، قال: من هذا الذي قد شفع إلينا؟ قيل: هذا رجل قد عاهد الله ألا يُسأل كتاب شفاعة إلا كتَبه إلى أي من كان، فقال ملك الروم: هذا حقيق بالإسعاف، أطلقوا أسيره، واكتبوا جواب كتابه، وقولوا له: اكتب بكل حاجة تعرض، فإنا نشفعك فيها[17]. تفريط الخلف: إخوة الإسلام، بعدما عِشْنا في أكناف أهل النجدة وأهل الجود، هيا لنرى أحوالنا مع المحتاجين، إن الناظر في أحوال كثير مِنَّا ليرى أن البون شاسع بيننا وبين هؤلاء القمم، فكم من غني يستمتع بما أعطاه الله تعالى ولا ينظر إلى أحوال الفقراء الذين عضَّهم الفقر بنابه، وكم من غني يتمتع بما لذَّ وطاب ولا ينظر إلى أرمله ولا مسكين يبات وقد أكل ملء بطنه وينام ملء جفونه وجاره بجواره جائع أو مريض لا يجد غذاء ولا دواء! وكم من صاحب منصب يستطيع أن يخدم ويقضي حوائج الناس ولكنه يضنُّ ويبخل، هؤلاء عَدَّهم العلماء في جملة الأموات؛ قال ابن شبرمة رحمه الله: "إذا طلبت من أخيك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ وضوءك للصلاة وكبِّر عليه أربع تكبيرات وعدَّه في الموتى!". آه أيها الإخوة، ألا ما أكثر الموتى في نظر ابن شبرمة! إنهم موتى القلوب لا موتى الأبدان! أيها الإخوة، إذا أردتم أن يديم عليكم نعمه فاقضوا حوائج المحتاجين؛ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ للهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا، نَزَعَهَا مِنْهُمْ، فَحَوَّلَهَا إلى غَيْرِهِمْ"[18]؛ أخرجه الطبراني في الأوسط. ورد من طريق الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرض تلك النعمة للزوال"[19]؛ أخرجه الطبراني في الأوسط. المسلمون اليوم هانوا أفرادًا وهانوا أُممًا، حين ضعفت فيهم أواصِرُ الأخوة، ووهتْ فيهم حبالُ المودَّة، استحكمتْ فيهم الأنانيات، وساد حب الذات، فوقعت الآفات، ومحقت البركات، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ»[20]. بل إن بعض غِلاظِ الأكباد وقُساةِ القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين، يُزلقونه بأبصارهم في نظرات كلُّها اشمئزازٌ واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعدتْ عليهم العوادي، واجتاحتهم صروفُ الليالي، فاستدارَ عِزُّهم ذلًّا، وغِناهُم فقرًا، ونعيمُهم جحيمًا؟! فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذات بينكم، ولتكنِ النفوسُ سخيةً، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة، وسارعوا إلى سداد عَوَز المعوزين، ومن بذَلَ اليوم قليلًا جناه غدًا كثيرًا، تجارةٌ مع الله رابحة، وقرضٌ لله حسن مردودٌ إليه أضعافًا مضاعفة، إنفاقٌ بالليل والنهار والسر والعلن ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا ﴾ [آل عمران: 37]. [1] أخرجه أحمد (6/ 444، رقم 27548)، وأبو داود (4/ 280، رقم 4919)، والترمذي (4/ 663، رقم 2509)، وقال: صحيح. [2] تفسير الشعراوي (ص: 780). [3] المعجم الكبير: ج12/ ص453 ح13646) حسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (176). [4] صحيح: رواه مسلم «2699». [5] "صحيح البخاري" (برقم 2442))، و"صحيح مسلم" برقم2580) ). [6] "صحيح البخاري" (برقم 1432)، و"صحيح مسلم" (برقم 2627). [7] أخرجه البخاري (5304) والترمذي (1918). [8] أخرجه أحمد 3/ 285(14092) و"مسلم" 7/ 79 (6114) و"أبو داود" 4819. [9] أخرجه أحمد 3/ 161(12670)، وعَبْد بن حُمَيْد (1249)، والتِّرْمِذِي (518). [10] ((التبصرة))؛ لابن الجوزي (ص 408). [11] صحيح البخاري: ج5، ص2130، ح5293. [12] (حديث حسن)، (مسند أحمد، ج 41، ص 484، حديث 23883). [13] (البداية والنهاية؛ لابن كثير، ج8، ص39). [14] (الطبقات الكبرى؛ لابن سعد، ج7، ص125). [15] (البر والصلة، ابن الجوزي، ص 247). [16] (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج15، ص 487). [17] (الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي، ج2، ص181). [18] أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (1/ 24، رقم 5)، (طس) 5162، (حل) 6/ 115، والخطيب (9/ 459)، انظر صَحِيح الْجَامِع: 2164، الصَّحِيحَة: 1692، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 2617. [19] المعجم الأوسط: ج7، ص292 ح7529. [20] أخرجه البخاري (2/ 330 - 331)، (56) كتاب الجهاد والسير، (76).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |