أبواب القلب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         غواية التشخيص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          وصية الإبراهيمي للمرأة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          طاعة الرحمن ونصرة أهل الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          إنَّ مُعاذًا كان أُمَّة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          سوء الخاتمة من عقوبات الشهوة المحرمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          المكر السيء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          عبودية الشكر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          خصائص منصات التعلم الإلكترونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الآيات العاصمة من شبهات شياطين الإنس والجن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          حدثوهم عن المعالي! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-10-2024, 02:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,213
الدولة : Egypt
افتراضي أبواب القلب

أبواب القلب (1)

د. أمير بن محمد المدري

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

أما بعد:
عبد الله: اتقوا الله واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله، يومَ يُنفخ في الصورِ، ويُبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تُبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.

نقف وإياكم مع أشرف شيء في الإنسان. مع المضغة التي لو صلحت صلُح سائر الجسد.

إنه القلب الذي صفاءه ونقاءه وسلامته شرطٌ لدخول الجنة، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

القلب محل نظر الخالق جل وعلا، فالله لا ينظر إلى الصور والأموال والرُّتب وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

القلب هو المحرك الذي يُغذّي أكثر من (300) مليون مليون خلية في جسم الإنسان، ويبلغ وزنه (285) جرام، وهو بحجم قبضة اليد ويسكن في الجهة اليسرى من الصدر ورغم ذلك فهو ذو سرٍ كبير من أسرار الخالق العظيم؛ فهو رمز الحياة.

أخي الكريم: يقوم قلبك منذ أن كنتَ جنيناً في بطن أمك -بعد (21) يوماً من الحمل- بالعمل على ضخ الدم في مختلف أنحاء جسدك، وعندما تصبح بالغاً يضخ قلبك في اليوم أكثر من سبعين ألف لتر من الدم وذلك كل يوم، هذه الكمية يضخها أثناء انقباضه وانبساطه، فهو ينقبض أو يدق كل يوم أكثر من مئة ألف مرة، وعندما يصبح عمرك (70) سنة يكون قلبك قد ضخ مليون برميل من الدم خلال هذه الفترة!

هذا القلب بحاجة إلى حراسة وحماية من الشيطان ووساوسه.

قال بعض الحكماء: «مثَلُ القلب مثَلُ بيتٍ له ستةأبواب، ثم قيل لك: احذر أن يدخل عليك من أحد الأبواب شيء، فيفسد عليك البيت، فالقلب هو البيت، والأبواب: اللسان، والبصر، والسمع، والشم، واليدان، والرجلان، فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت».

ولذا كان من حرَس قلبه من أعظم الخلق وأزكاهم حتى لا يدخل منه العدو، فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قُدِّر عليه فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلي مكانها، فيصادف العدو والثغر خالياً، فيدخل منها.

وهذه المرابطة حُكمها الشرعي أنها فرض عين على كل مسلم؛ كما أوضح ذلك أبو حامد الغزالي -رحمه الله-فقال: «حماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة، وهو فرض عين على كل عبدٍ مُكلَّف، وما لا يُتوصَّل إلى الواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يُتوصَّل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصارت معرفة مداخله واجبة».

أخي الحبيب: كم يساوي دينك عندك؟ اسمع ما يقول حازم سلمة بن دينار-رحمه الله-: «قد رضيت من أحدكمأن يُبقي على دينه كما يُبقي على نعليه».

وهي كلمة قاسية، ولعله يعني بها أن أحدنا إذا دخل المسجد ومعه حذاءٌ غالٍ؛ خاف عليه اللصوص، فوضعه أمامه مخافة أن يُسرق، حتى لا يخرج من المسجد حافي القدمين، فإن حدث ونسي ووضع حذاءه وراء ظهره تشتت ذهنه في صلاته، وضاع خشوعه من أجل حذاء! وكان أول ما يفعل بعد التسليم: أن يلتفت بسرعة إلى مكان الحذاء يطمئن عليه!! وإن حدث وسُرِق حذاؤه وكان غالي الثمن؛ ظل حزيناً مكروباً أياماً عِدة حُزناً لعله لم يحزن مثله قط لضياع صلاة أو أكل حرام!!

والشيطان سارق الإيمان، فكيف لا يخاف الإنسان على إيمانه؟! وكيف لا يحذر أعدى أعدائه؟! وقد يترك إيمانه وراء ظهره؛ يسرق منه الشيطان ما يريد، وينهب منه كلما شاء، فيا أخي.. إيمانك أم حذاؤك؟! دينك أم نعلك؟! آخرتك أم أحقر ما في دنياك؟!

أخي الحبيب: لو أنك ورثت مالاً كثيراً أو كنزاً ثمينا، وأودعته بيتك؛ فهل تنسى باب بيتك مفتوحاً؟! أم تجعل عليه الأقفال الشِّداد؟! فهذا كنز إيمانك عبِثت به أيدي الغفلة والبطالة وأتباع الشياطين وأنت لم تضع عليه أي قفل؟! أليس أولى بالحراسة وأجدر بالحماية؟!

والآن مع أول هذه الأبواب وأهمها:
الباب الأول: اللسان: أسهل باب يتسلل منه الشيطان إلى القلب، بل هو أكثر باب يرتاده الشيطان ويمر خلاله كل يوم، وذلك لأنه أكثر الأعضاء عملاً وأسهلها شُغلا وأقلها تعباً عندما يعمل، فمن غفل عن حراسة لسانه تسلل الشيطان منه إلى قلبه وسيطر على كيانه، وبعدها ساقه إلى شفا جُرفٍ هار.

قال -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم المسلمون يده ولسانه»[رواه مسلم] أي: المسلم الكامل والمسلم الحق، ولقد تعجّب معاذ بن جبل -رضي الله عنه- من كون الإنسان يؤاخذ بما يتكلم به ويُحاسب على ذلك فقال: (يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به)؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، والحديث يدل دلالة ظاهرة، على أن أكثر ما يدخل الناس النار هو اللسان.

وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي-رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة».

أرأيتم بوابة الإسلام، ومفتاح الدخول في رضوان الله، إنها كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

والخروج من الإسلام قد يكون بكلمة والعياذ بالله فالإنكار والجحود والاستهزاء بدين الله، والسب لله ولرسوله كل هذا سيئات كُفرية تتعلق بالكلمة.

الزواج يقع بكلمة والطلاق كذلك يقع بكلمة، وكذلك العتق والرجعة ولو كان الرجل مازحاً قال -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» [رواه الترمذي وغيره].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أكثر خطايا ابن آدم في لسانه»، لذا وجب حراسة هذا الثغر من أخطائه وزلاته كمَّا وكيفا.

فاللسان إذاً بوابة دخول؛ يدخل إلى القلب عبر اللسان ما يُطهِّره أو ما يدنِّسه لذا قال -صلى الله عليه وسلم-: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه». [حسن، أخرجه أحمد (3/ 198)، والطبراني في الكبير (10553)، والبيهقي في شعب الإيمان (8). قال الهيثمي: في إسناده علي بن مسعدة، وثقة جماعة، وضعفه آخرون، مجمع الزوائد (1/ 53)، وحسّن الألباني إسناده. صحيح الترغيب (2554، 2865)].

ومعنى الحديث: مهما داوم القلب على القُربات وتعرَّض لشتى أنواع الأدوية والعلاجات، فلن يطْهر أبداً حتى يُزيل ما علق بلسانه من أوساخ، وإلا كانت الجوارح تبني واللسان يهدم.

روي أن أحد الصالحين زار أحد التجار في تجارته فجلس عنده ساعة، فإذا به يغش في بيعه وشراءه، ويكثر من الأيمان والحلف لبيع سلعته، وإذا بالتاجر يلتفت إليه قائلاًً: لعلك عجبت من بيعي وشرائي لا تخف فأنا إذا خيّم الليل وأرخى سدوله أقف بين يدي الله مصلياً أغسل كل ذنوبي في البيع والشراء. فقال له ذاك الرجل الصالح:
«ما مثلك إلا مثل رجلٍ في يديه نجاسة وأراد غسلها، فذهب إلى نهر وأنزل رجليه إلى النهر ليغسل يديه، فهل سيغسل يديه ورجليه في الماء؟ لا والله حتى لو ظل إلى يوم القيامة، ستظل النجاسة في اليد، وهكذا أنت فلا بد من التوبة من الغش والأكل الحرام.

تتوسل الأعضاء كل صباح إلى القلب حتى لا يضيع مجهودها وتعبها في سبيل الحق هباءً منثورا، وحتى لا تؤاخذ بجريرة غيرها. قال»: -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفِّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا». [سنن الترمذي: كتاب الزهد باب ما جاء في اللسان 4/ 605. «]ومعنى تكفِّر أي تتذلل وتتواضع له.

واللسان بوابة خروج كذلك، فيخرج من القلب عبر اللسان ما هو ساكن في القلب ومُحْتَبَس فيه، وما اللسان إلا مغرفة ينقل ما في القلب إلى الخلق، وما أجمل قول يحيى بن معاذ -رحمه الله-»: القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأجاج؛ يُخبرك عن طعم قلبه: اغتراف لسانه.

عباد الله: انظروا إلى يوسف وروعة طهارة قلبه، وكيف انعكس ذلك على لسانه وحلاوة نطقه وعذوبة كلامه، فقد رمته امرأة العزيز في عرضه زوراً وبهتانا، واُتهم بأشنع تهمة تنال من سمعة المرء وتستهدف شرفه، لكن اسمعوا أطهر قلب وهو يُرد على أكذب ادعاء بأسمى رد وأوجز بيان؛ ليس بعريضة دفاع مطولة بل بأربع كلمات فحسب لا غير: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 26]، وكان الاختصار والإيجاز هنا لأن الأمر متعلق بشخصه، أما حين تعلّق الأمر بربه لما دخل السجن وخاض غمار الدعوة إلى الله؛ انطلق لسانه في طلاقة وإسهاب داعياً صاحبيه في السجن: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 37 - 40].

ومرة ثالثة يُعلِّمنا أطهر قلب كيف يعف اللسان ويسمو عالياً فوق السحاب، فبعد أن رماه إخوته في البئر وحاولوا قتله في وحشية نادرة، ما جرحهم بلسانه وما آذاهم بلفظ؛ بل ألقى بالتهمة على الشيطان لائما حين قال:
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾ [يوسف: 100].

عباد الله:
إن للسان خطورة تؤدي بصاحبه إلى الهلاك من جراء كلمة واحدة دون أن يشعر!! نعم كلمة واحدة، فرُبَّ حتوفٍ في حروف، وكم من إنسانٍ أهلكه لسان، وكم من كلمةٍ صرخت في وجه صاحبها: لا تقُلني، وفي الحديث: «إن رجلا ًقال: والله لا يغفر الله لفلان. قالالله: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك». [صحيح مسلم كتاب: البر والصلة، باب: النهي عن تقنيط الإنسان عن رحمة الله (2621). من حديث جندب رضي الله عنه].


قال أبو هريرة -رضي الله عنه-:» والذي نفسي بيده لقد تكلّم بكلمةٍأوبقت دنياه وآخرته».

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

أما بعد:
أيها المسلمون:
إن اللسان المعوج قد يحبط صالح العمل ويذهب بسوالف الخير التي كان يعملها صاحبه، بل ويهوي بصاحبه من أعلى منزلة عند الله إلى أن يُطرد من رحمة الله!! واسأل نفسك معي: من الذي يهدَّد في هذه الآية؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].

نزلت هذه الآية في الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رفعا صوتيهما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختلفا فنزلت الآية.

تأمَّل قوله تعالى في هذه الآية: ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ لأن عمل الإنسان قد يحبط وهو لا يشعر، وكم من كلمة أودت بصاحبها من حيث لا يدري.

عباد الله: رفع الصوت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبط العمل فكيف بمن ينكر سنته وكيف بمن يهتك عرضه ويسب أصحابه.

إنها كذلك لغة التهديد التي طالت أحب الخلق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة رضي الله عنها، وذلك لما قالت كلمة عن صفية رضي الله عنها فيها لمسة ازدراء تعيِّرها أنها قصيرة خطورة الكلمة الواحدة وقدرتها على تعكير بحار زاخرة من الأعمال؛ فعرَّفها النبي الصالحة، فقال لها: «لقد قُلتِ كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته»أخرجه أحمد (6/ 189)، وأبو داود في الأدب (4875)، والترمذي في صفة القيامة (2502)، والبيهقي في الشعب (6721)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4080).


والكلمة قد تكون سبب في دخول صاحبها النار؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار»[الترمذي: الزهد(2314)].

إنها رحلة السقوط في جهنم؛ رحلة تستغرق سبعين عاما!! نعم سبعين عاماً من السقوط المريع إلى قاع النار بسبب كلمةٍ واحدة!! والحديث هنا لم يحدد ما هي هذه الكلمة ليظل القلب دوماً في يقظة، ويحاسب نفسه قبل كل كلمةٍ منكرة، ويراجع سجل كلماته الماضية ليلجم نفسه عن نطق أي كلمة يؤدي إلى المشاركة في الرحلة الجهنمية ذات الأعوام السبعين.

والقرآن زاخر بنماذج من الكلمات القاتلة كأنها رسالة تحذير وصيحة نذير:
أحد المنافقين دفعه نفاقه إلى قول: ﴿ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ﴾ [التوبة: 49]، فأتاه الإذن بالهلاك على الفور: ﴿ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ﴾[التوبة: 49].
فرعون لما نطق بكلمته المتكبِّرة: ﴿ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51]؛ كان عقابه أن أجراها الله من فوق رأسه غريقا مدحورا.
اليهود لما نطقوا كفراً وقالوا: ﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ [المائدة: 64]؛ توعَّدهم الله وطردهم من رحمته بقوله: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴾ [المائدة: 64].

عباد الله: إن الكلمة الواحدة أيضاً لها أعظم الأثر في شفاء القلب من أمراضه، نعم كلمةٌ واحدة وحدها قد تشفي وتكفي رجلاً يغلي قلبه ويقذف الحمم على من حوله في ثورة غضبٍ عارمة، لذا أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الغاضب، فقال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ باللهمن الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد»[صحيح، صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق - باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3282)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب - باب فضل من يملك نفسه.. حديث (2610)].


أخي الحبيب: ليس دواء القلب إذن في الصمت فقط، إنما دواؤه في التكلم بكلمات الخير، والكلمات الخبيثة في القلب المتسللة عبر اللسان لا تزيحها سوى كلمات الخير، ولسانك على ما عوَّدته.

عوِّد لسانك نطق الخير تحظ به إن اللسان لما عوَّدتَ معتاد.
مُوَكَّل بتقاضي ما سننتَ له فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد.
لكن ما هي كلمات الخير؟! أهي كلمات القرآن والذكر وحدها تشفي الصدور؟!

كلا.. إنها كذلك أي كلمة تفصل بين متنازعين، أو تُصلِح بين اثنين، أو تكشف حقا، أو ترد جائرا، أو تُسكن غاضبا، أو تُرشد حائرا، أو تهدي عاصيا، أو تثبت مؤمنا، أو تواسي مكروبا، أو تنصر مظلوما.

وقد ترتقي هذه الكلمة بصاحبها لتبلغ به أعلى عليين، إنه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وأمثاله فقال -صلى الله عليه وسلم-:»سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمامٍ جائر فأمره ونهاه، فقتله»[حسن] انظر حديث رقم (3675) في صحيح الجامع].، فكلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي رفعت صاحبها إلى هذا المقام، بل ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمة الحق إلى أن جعلها أحب جهاد إلى الله فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الجهاد إلى الله: كلمة حق تُقاللإمامٍ جائر» [صحيح، أخرجه احمد (4/ 315)، والترمذي: كتاب الفتن - باب ما جاء في أفضل الجهاد كلمة عدل...حديث (2174)، وصحح المنذري إسناد النسائي في الترغيب (3/ 158)، وصححه الألباني في الصحيحة (491)].


وكلمة الحق أيضاً هي التي هوت بتاركها إلى أن ألحقته بزمرة الشياطين، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

اللهم حسّن أخلاقنا وقوي إيماننا وأرفع درجاتنا وطهر قلوبنا وزكي نفوسنا برحمتك يا ارحم الراحمين.

ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-10-2024, 02:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,213
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبواب القلب

أبواب القلب (2)

د. أمير بن محمد المدري



الحمد لله الذي أنشأ وبرا، وخلق الماء والثرى، وأبدع كل شيء وذرا، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 6 - 8]، خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى، وبعث نوحًا فصنع الفُلْك بأمر الله وجرى، وَنَجَّى الخليل من النار فصار حرها بردًا وسلامًا عليه، فاعتبِروا بما جرى، أحمده على نعمه التي لا تزال تترى، وأصلي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى، صلى الله عليه وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرا، وعلى عمر الملهَم في رأيه فهو بنور الله يرى، وعلى عثمان زوج ابنتيه ما كان حديثًا يُفْتَرَى، وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الشرى, وعلى بقية آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم في الورى، وسلم تسليما.

أما بعد أيها الناس: اتقوا الله، واعتصموا بحبل الله، وتوكلوا في أموركم كلها على الله، قال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]، وقال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78].

ما زلنا وإياكم مع المضغة التي لو صلحت صلح سائر الجسد.

ما زلنا وإياكم مع محل نظر الخالق جل وعلا... أنه القلب فالله لا ينظر إلى الصور والأموال والرتب وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

فيا عجبًا ممن يهتم بوجهه الذي هو نظر الخَلْق فيغسله وينظفه من القذَر والدنس ويزيّنه بما أمكن لئلا يطَّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر رب العالمين.

عباد الله:
كان الباب الأول من أبواب القلب اللسان، وهو آلة النطق بالكلمات، والكلمة شأنها عظيم وخطرها جسيم، ولم لا؟ فبكلمةٍ يدخل المرء في دين الله، حين يشهد أن لا اله إلا الله وبكلمةٍ يخرج من دين الله، حين يقول كلمة الكفر، وبكلمةٍ ينال رضوان الله، وبكلمةٍ يستحق سخط الله، وبكلمةٍ تحل له امرأة، وبكلمةٍ تحرم عليه، وبكلمةٍ يسعد حزين أو يحزن سعيد، وبكلمةٍ قد يُذبح شريف أو تُرمى عفيفة، وبكلمةٍ قد يتمزق شمل ويتصدع صرح ويتفرق أحبة، وبكلمةٍ قد تسيل برِك من الدماء وتنمو الأحقاد والشحناء، وبكلمةٍ تبكي العيون، وتلين الجلود، وتخشع القلوب، وتنشرح الصدور، وتعلو الهمم.

والكلمة إذا كانت صادقة فهي كلمة باقية مثمرة، فكم من كلمةٍ ولدت حية وبقيت فيها الحياة بحياة أصحابها، بل وبعد مماتهم، وتأمل طويلا هذا المثل القرآني الفريد لهذه الكلمة الصادقة الطيبة في قول الحق سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24 - 25].

الكلمة الطيبة صدقة، الكلمة الطيبة تثري المال وتنمي الرزق وتصل الرحم وتُطيل في العمر.

الكلمة الطيبة: دواءٌ رباني لامتصاص الغضب والحقد من قلوب الآخرين.

الكلمة الطيبة: تطمس ملفات الماضي, وتفتح ملفًا جديدًا عنوانه الحب والخُلُق الفاضل.

الكلمة الطيبة: كالبلسم الشافي على قلوب الآخرين.

الكلمة الطيبة: تُضمد الجرح وهي لمسة رائعة...
وصدق الله القائل: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53].

وقال تعالى: ﴿ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ﴾ [الإسراء: 28].

وقال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].

الكلمة الطيبة كشجرةٍ طيبة، جذورها عميقة، وفروعها باسقة، ومثمرة دائمة الخير والعطاء، تؤتي ثمارها في كل حين، نظيفة الثمر، حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، بعكس الكلمة الخبيثة التي لا أصل لها ولا قرار، سيئة الثمار، مُرة الطعم، كريهة الرائحة، وبهذا يتضح الفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة في آثارهما على الفرد والمجتمع.

أخي الحبيب: حاسب نفسك وأحص قولك وراقب كل كلمة تخرج من فؤادك قبل لسانك لتتعرف على هويتك ومعدنك.

نعم أيها المسلمون وهل يُكب الناس على مناخرهم أو على وجوههم إلا بسبب حصائد ألسنتهم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام:
الباب الثاني من أبواب القلب: الرجلان:
هل تعلم كيف كان يمشي -صلى الله عليه وسلم-؟ كان يمشي مشيًا يُعرَف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان.

ومن صفات مشيه أنه (كان إذا مشى تقلّع كأنما ينحدر من صبب)، والمراد به مشي السرعة والهمة والنشاط، فهو مشي العزم الذي لا يعرف الوهن، والثقة في صحة الوجهة والطريق التي لا يعتريها أدنى شك، والتصميم على بلوغ الهدف الذي لا يهدأ حتى يبلغ الغاية، فلا تواني ولا توقف.

واليكم سبع خطوات مباركات باليمين:
وهي الخطوات التي تمشي بها قدمك نحو الخير، وما أكثر سبُل الخير التي تستطيع أن تسلكها قدمك:
الأولى: تمشي في حاجة مسلم، متأملًا إغراء الثواب في قول رسول الله: صلى الله عليه وسلم (ومنمشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام)؛ [رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألباني في الصحيحة(906) وهو في صحيح الجامع (176)].، فلما حرَّك قدمه في قضاء حاجة هذا العاجز جازاه الله بمثلها وهو ثباتها على الصراط يوم تزل الأقدام، وقد حذَّر بعض السلف من التأخر عن هذا الفضل وهدَّدوا بأن من امتنع أن يمشى مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشى في حاجة أخي المسلم أحب إلىّ من أن اعتكف في المسجد شهرًا - يعنى: مسجد المدينة -«[ رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألباني في الصحيحة (906) وهو في صحيح الجامع (176)].


الثانية: تمشي في عيادة مسلم لتجد الله عنده، فتسأله ما تشاء وتنال منه الكرامة والثواب، ففي حديث مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده»[ صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب فضل عيادة المريض 16/ 125. ]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح»[ صحيح، أخرجه أحمد (1/ 81)، والترمذي: كتاب الجنائز - باب ما جاء في عيادة المريض، حديث (969) وقال: حسن غريب، وأبو داود: كتاب الجنائز - باب في فضل العيادة على وضوء، حديث (3098) وقال: أُسند هذا عن علي عن النبي من غير وجه صحيح. وصححه الحاكم (1/ 341-342)، وصحح إسناده الضياء في الأحاديث المختارة (2/ 231)، وقال في المجمع: رجال أحمد ثقات (3/ 30)].

الخطوة الثالثة: التي تمشي في أعقاب جنازة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد»[ أخرجه البخاري في الإيمان (47)، ومسلم في الجنائز (945) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- نحوه].

الخطوة الرابعة: تمشي إلى مسجد، ويا حبذا لو كان بعيدًا لتكثر الخُطى وتتتابع، واحدة تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة، لتجد كل ذنوبك قد نُسفت مع أول خطوة تطأ بها عتبة بيت الله. قال -صلى الله عليه وسلم-: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس غفر الله له ذنوبه»، وكلما زادت المسافات تكاثرت الحسنات قال -صلى الله عليه وسلم-: «أعظم الناس أجرا فيالصلاة أبعدهم إليها ممشى»؛ [ رواه البخاري (2/ 137) الأذان: باب فضل صلاة الفجر في جماعة، ومسلم (5/ 167) المساجد فضل الصلاة المكتوبة في جماعة].

هذا في صلاة الفرض، فماذا عن النافلة؟! اسمع واطرب: قال - صلى الله عليه وسلم -: «منمشى إلى صلاةٍ مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة»؛ [حسنه الألباني، صحيح الجامع، 6556].

الخطوة الخامسة: تمشي المشية الأسبوعية المباركة التي تضاعف أجرك فوق الخيال، وهي مشيك إلى صلاة الجمعة، والخطوة منها بعبادة سنة!! قال -صلى الله عليه وسلم-: «منغسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت ولم يلغُ؛ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجرصيامها وقيامها»؛ [صحيح، أخرجه أحمد (4/ 10) وأبو داود ح (345)، والترمذي ح (496)، والنسائي (1381) وابن ماجه (1087)].


عجيب ذاك المسلم الذي يسمع هذا الفضل العظيم ويتأخر عن الجمعة ويأتي بعد صعود الخطيب.

الخطوة السادسة: تمشي في زيارة أخ لك في الله لتأنس به وتتواصى معه بالحق والصبر طامعًا في جائزة هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: «زار رجل أخًا له في قرية، فأرصد الله له ملكا على مدرجته، فقال: أينتريد؟ قال: أخا لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا إلاأني أحبه في الله. قال: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته»؛ [رواه مسلم رقم (2567) في البر والصلة، باب فضل الحب في الله، وأخرجه أحمد في المسند رقم (408 - 463 / 2)].


الخطوة السابعة: تمشي في دعوة الخلق وهداية الناس حتى تكل قدماك ويبلى حذاؤك!! وتطبِّق قاعدة: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴾ [يس: 20]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار» [صحيح لغيره، عن جابر بن عبدالله، صحيح الترغيب للألباني / 1273] هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 22-10-2024, 02:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,213
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبواب القلب

أبواب القلب (3)

د. أمير بن محمد المدري




الحمد لله العزيز الوهاب، الغفور التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.

أما بعد.. فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].

ما زلنا وإياكم مع تلكم المضغة التي لو صلُحت صلح سائر الجسد تلك المضغة التي كان لها من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- نصيب حين كان يدعو: «اللهم إني أسالك قلباً صادقا ولساناً ذاكرا» وكان يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها» [صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوّذ من شر ما عمل... حديث (2722)].

ما زلنا وإياكم مع القلب وأبوابه. وقفنا مع الباب الأول وهو اللسان اللهم طهّر ألسنتنا من كل سوء، وعطّر ألسنتنا بكل ذكر وشكر يارب العالمين.

ووقفنا مع الباب الثاني وهو القدمان، واليوم مع الباب الثالث وهو السمع. ولسائل أن يسأل أيهما أهم السمع أم البصر؟! الجواب أن السمع أهم من البصر لخمسة أسباب:
أولها: أن الله قدَّم السمع على البصر في سبعة عشر آيةً في كتاب الله تقديم أهميةٍ،، فقال عز وجل: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾ [الأنعام: 46] وقال جل وعلا: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ﴾ [السجدة: 9].

وسببٌ ثانٍ لتفضيل السمع وهو أن الله يحاسب عليه قبل البصر. قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

وسببٌ ثالث وهو سبب علمي: أن السمع ينشط في الوليد قبل بصره، ولعل هذا من إعجاز السنة النبوية حين أوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن نُؤذَّن في أُذن المولود اليمنى ويقام في اليسرى فور ولادته ليكون أول ما يدخل سمعه أطهر الكلام وأشرفه.

وسببٌ رابع هو سببٌ عقلي: أن السمع يُدرَك به من الجهات الست وفي النور والظلمة، ولا يُدرَك بالبصر إلا من الجهة المقابلة له، وبواسطة من ضياء وشعاع.

وسبب خامس أن الأذن لا تنام، فالإنسان عندما ينام يسكن فيه كل شيء إلا سمعه.

والسمع عباد الله هو ثاني ثغر من حيث الخطورة بعد ثغر اللسان، فهو الثاني في تأثيره على القلب وتحكمه فيه، ولذا قال الحارث المحاسبي: «وليس من جارحة أشد ضرراً على العبد بعدلسانه من سمعه، لأنه أسرع رسول إلى القلب، وأقرب وقوعاً في الفتنة».

أخي الحبيب: احرس قلبك من أن يدخل فيه كل ما حُرِّم قوله، قال سعد القصير-رحمه الله-: «نظر إليَّ عمرو بن عتبة ورجل يشتم رجلاً بين يدي، فقال لي: ويلك – وما قال لي ويلك قبلها – نزِّه سمعك عن استماع الخنا كما تنزِّه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل».

والعبادة عند بعض الناس ضيِّقة جداً؛ أن تصلي وأن تصوم وأن تحج، وأن تؤدي الزكاة، أما العبادة عند المؤمنين الصادقين تشمل كل شيء، تشمل كل الأوقات، وتشمل كل الأماكن، وتشمل كل النشاطات، وكل الأعضاء.

فالقلب له عبادة، والعين لها عبادة, والأذن لها عبادة، واللسان له عبادة، واليد لها عبادة، والرجل لها عبادة، ومن أُولى عبادات الأذن الإنصاتُ للحق.

ومن عبادة الأذن الاستماع لما أوجبه الله ورسوله, عليك أن تستمع إلى الشهادتين، أن تستمع إلى أركان الإيمان وأركان الإسلام، أن تستمع إلى تفسير القرآن، أن تستمع إلى سيرة سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.

أخي الحبيب:
وَسَمْعَكَ صُنْ عن سماعِ القبيحِ
كصَوْنِ اللسانِ عن النُّطْقِ بِهْ
فإنَّكَ عندَ سماعِ القبيحِ
شريكٌ لقائِلِه فانتبِه


أيها المسلم: احمي سمعك عن سماع الإشاعات والافتراءات ها هي زينب بنت جحش رضي الله عنهما، حين سألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عائشة رضي الله عنهما في حادثة الإفك:
قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: «يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا».

إنَّ سماع الإشاعة ثم نقل الأخبار دون تثبت لا يجوز شرعاً؛ لأن جيشاً من البشر سيسمع ما قلت وينقل عنك؛ والإثم عليك يتضاعف ليتضاعف بلاء المتكلم إن كان كاذباً،، وهل عُذِّب مروِّج الإشاعة في قبره إلا لأن غيره سمع ثم نقل؟! ففي الحديث الذي وصف عذاب القبر فقال -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا رجلٌ جالس ورجل قائم على رأسه بيده كلّوب من حديد، فيُدخله في شدقه فيشقه حتى يخرجه من قفاه، ثم يُخرجه فيُدخله في شدقه الآخر، ويلتئم هذا الشِّدق فهو يفعل ذلك به»، فلما سأل -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك قال: «إنه رجل كذَّاب يكذب الكذبة، فتُحمل عنه في الآفاق، فهو يُصنع به مارأيت إلى يوم القيامة، ثم يصنع الله تعالى به ما شاء»[ ( صحيح ) انظر حديث رقم: 3462 في صحيح الجامع].

فكل مجلس يدعوك لحرام أو مقدِّمات حرام أو يتعرَّض فيه سمعك لغيبة أو نميمة، أو يُذبح فيه الإيمان على موائد الغفلة؛ فاعلم أنه ما هو إلا مؤامرة كبرى من الشيطان يستهدف بها غزو قلبك عن طريق ثغر السمع وأنت من الغافلين، والمطلوب منك على وجه السرعة أن توصد الباب أمامه، فإن لم تقو على ذلك؛ فغادر مسرح الجريمة في الحال، وانجُ بقلبك.

أيها المسلمون: إن الله سوَّى بين مستمع الكذب وآكل السحت، فقال تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: 42]، والسر في شدة التحذير من عاقبة سماع السوء هو أن الكلمة تنغرس في القلب باستماعها حتى إنها لتنبعث أثناء الصلاة أو الذكر من حيث لا يدري العبد أو يحتسب، فوقوع الأقوال في الأسماع أشبه بوقوع البذور في الأرض؛ لا بد أن تنبت وتتفرع عروقها وأغصانها ولو بعد حين.

أيها المسلمون: إن الكلمات طيبة كانت أم خبيثة يبقى بعضها مع الإنسان حتى يموت، فكم من كلمة طيبة وموعظة هادية سمعها المرء منا وظل يذكرها طوال حياته، فانتشلته في ساعة غفلة، وعصمته من غشيان خطيئة، وأنقذته من الوقوع في كبيرة، فكان سماع هذه الكلمة له: طوق النجاة وإكسير الحياة.

ومن أمثال هذه الكلمات المنجيات الهاديات الباقيات ما سبق وانطلق من لسان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وذلك حين وفد غالب بن صعصعة المجاشعي ومعه ابنه الفرزدق على علي بن أبي طالب ومعه ابنه، فقال له علي -رضي الله عنه-: يا أبا الأخطل!! من هذا الذي معك؟! قال: ابني وهو شاعر. قال: علِّمه القرآن فهو خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيَّد نفسه، وآلى على نفسه أن لا يحلَّ قيده حتى يحفظ القرآن، فحفظه في سنة!!.

وها هو ابن مسعود -رضي الله عنه- يمر فيسمع شاب له صوتٌ جميل يغني، فقال: «ما أجمله من صوت لو كان بالقرآن» فكانت سبباً في صلاحه وتحوله إلى إمام مسجد.

لا تستهينوا عباد الله بالكلمة الطيبة فقد يفتح الله بها القلوب ولو بعد حين.

وفي المقابل قد يكون سهم الكلمة الخبيثة مؤثرا ًباقياً ناشراً اسمه طوال الحياة وحتى الممات، مما قد يؤدي والعياذ بالله إلى سوء الخاتمة، وإن السُّم في الطعام ربما بقى أثره زمناً ثم يزول، وقد يرفضه الجسم بقيء ونحوه، بل وقد يتناول الإنسان من الدواء ما يزيل أثره في الجسم، أما الكلام فربما لا يزول أثره مهما فعلت.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أخي الحبيب:
افتح سمعك لآيات القرآن، وبركات الذكر، وفيوض المواعظ الربانية، وسلسبيل الأحاديث النبوية، فلا يكون الجن خيرٌ منك يا عبد الله الذين قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، وقولهم: ﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [الأحقاف: 30]، ولتعلم يا عبد الله أن من سمع آية له أجرها. ومن سمع حراماً عليه وزره.

تأمل توبة الإمام الفضيل بن عياض -رحمه الله- إذ كان شاطراً سارقاً يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه بينما هو يرتقي الجدران ليسرق إذ سمع تالياً يتلو قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]، فلما سمعها قال: بلى يا رب! قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها قافلة فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح؛ فإن فُضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: «ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وماأرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني تبت إليك وجعلتُ توبتي مجاورة البيتالحرام».

وبدون هذا السماع لا تكون ذكرى ولا انتفاع ولا تجدي نصيحة ولا خُطَب: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37] قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]، الحرب على سمعك يا عبد الله على جبهتين لغزو القلب وهما: الشهوة والشبهة، فهما أصل كل فتنة كما قال ابن القيِّم.

أولاً: الشهوة: يا أيها العاشق سمعه قبل طرفه فإن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، وهل اشتاق المؤمنون إلى الجنة وما رأوها إلا لأنهم سمعوا عن جمالها وغاية نعيمها؟! وهل ذابت قلوب المحرومين من زيارة الديار المقدَّسة شوقا إلى رؤية البيت الحرام إلا لأنهم سمعوا أوصافه ممن رآه وعاينه؟! ولارتباط السمع بفتنة الشهوة نهي الله نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ونساء المؤمنين عن الخضوع بالقول فقال: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]، ولارتباط السمع بفتنة الشهوة نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تصف المرأة المرأة لزوجها فقال: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» [أخرجه أحمد 2/497 (10460)]، وتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كأنه ينظر إليها» دلالة على دقة الوصف وكثرة الإيضاح.

ولارتباط السمع بفتنة الشهوة حرَّم الله سماع الغناء الذي يؤجج الشهوة ويجلب الحسرة، وحتى الاستماع للأناشيد والكلمات التي لا فُحش فيها ولا سوء؛ إذا جاوز حده حتى انشغل بها صاحبها وصار الترنم بها في خلواته بديلاً عن الترنم بآيات القرآن، وقد أجمع علماء القلوب أن طول الاستماع إلى الباطل يطفئ حلاوة الطاعة من القلب، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل«. قال ابن القيم -رحمه الله-: «إن القرآنوالغناء لا يجتمعان في القلب أبدا».

الغناء الحرام يُهيِّج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويُحرِّكها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه، عَقَد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تُنسخ، الغناء الحرام هو جاسوس القلب وسارق المروءة وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة.

ثانياً: الشبهةروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشكالناس يتساءلون حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلكفقولوا: هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثمليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ من الشيطان» [ قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 8182 في صحيح الجامع].

ولذا حذَّرنا السلف المبارك من نقل أي بدعة تثير غبار الشبهات في سماء القلب الصافي، فقال سفيان الثوري -رحمه الله-: «من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه لا يلقيها في قلوبهم».

هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22-10-2024, 02:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,213
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبواب القلب

أبواب القلب (4)

د. أمير بن محمد المدري



الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، والإحسان العميم، وله الرحمة الواسعة، والحكمة الشاملة، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال الله فيه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] اللهم صلّ وسلّم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه، الذين هُدُوا إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

أمّا بعد:
أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، والزَموا التَّقوى حتى يأتيكم الموت.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

عباد الله: ما زلنا نتحدث معكم عن القلوب وأبوابها، والقلوب صدأها من أمرين الغفلة والذنوب، وجلاؤها شيئين الاستغفار وذكر علاّم الغيوب.

وصدق الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء ». قيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: «كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن ». [روى البيهقي الأحاديث الأربعة في شعب الإيمان وضعفه الألباني].

قال أحد الصالحين: «مثَلُ القلب مثَلُ بيتٍ له ستةأبواب، ثم قيل لك: احذر أن يدخل عليك من أحد الأبواب شيء، فيفسد عليك البيت، فالقلب هو البيت، والأبواب: اللسان، والبصر، والسمع، والشم، واليدان، والرجلان، فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت».

وقفنا مع الباب الأول وهو اللسان ثم الباب الثاني وهو السمع ثم البابالثالث القدمان.

أما الباب الرابع: من أبواب القلب فهي اليدان.
أخي.. الحبيب تستطيع أن تصنع بيدك مفتاح الجنة أو القفل الموضوع على أبوابها ليحول بينك وبين دخولها، وتستطيع أن تنسج بيديك ثوبك الحريري من سُندس وإستبرق في الجنة أو ثياب شقوتك من النار، يدك عاملةٌ عاملة، لكن من العمل ما ينفع صاحبه ومنه ما يقتل صاحبه، ويديك هي بداية كل أعمالك ومفتاح كل جوارحك وأعضائك، فهي التي تطعمك رزقك حلالاً كان أو حراما، وهي التي تكسوك ثيابك حلالاً كانت أو حراما، وهي التي تلبسك حذاءك لتقصد به وجهتك ومرادك حلالاً كان أو حراما، لذا فهي شريكك في أعمال الخير والشر.

وهناك اثنتا عشرة يدٍعليا مباركة صالحة:
نعم إنها أيدٍ تعمل الصالحات، أيدٍ مشغولة دوماً في حرث الخير، أيدٍ تعرف طريق الجنة جيداً، وتشهد لك يوم العرض، وتنبري تُنافح عنك يوم الحساب.

اليد الأولى هي التي تغرس نعم تغرس الخير للناس: قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه لهصدقة، وما سُرِق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو لهصدقة، ولا يرزؤه أحد كان له صدقة ». [رواه البخاري رقم (2320)، في الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، ومسلم رقم (1553) في المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، والترمذي رقم (1382) في الأحكام، باب ما جاء في فضل الغرس].

اليد الثانية يد المرأة: نعم لم لا تحاول كل زوجة دخول الجنة عن طريق يدها وهو أمر يسير سهل، فما عليها إلا أن تعمل بهذا الوصية: «نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في زوجها ثم تقول: لا أذوق غمضاً حتى ترضى«[النسائي قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 2604 في صحيح الجامع].

اليد الثالثة. هي يد الزوج الذي يحاول أن يربح زوجته عن طريق يده، فيناولها اللقمة ويضعها في فمها برقة متناهية قال -صلى الله عليه وسلم-: «وإنك لن تنفق نفقة إلا أُجرتبها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك»[ أخرجه البخاري في: الدعوات، باب: الدعاء يرفع الوباء والوجع (6373) بنحوه].

اليد الرابعة هي اليد التي ترحم وتعطف وتحنو وترِق على المسكين قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أردت أن يلين قلبكفأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم »[ قال المنذري في الترغيب (3/237): "رواه الطبراني من رواية بقية، وفيه راو لم يسمّ أيضاً"، وكذا في مجمع الزوائد (8/160)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2744): "حسن لغيره]".

اليد المباركة الخامسة هي التي تعمل في سبيل الرزق، وتتعب حتى تحصِّل أطيب الكسب وألذ الطعام يدفعه إلى ذلك شهادة محمد -صلى الله عليه وسلم- : حين قال -صلى الله عليه وسلم-: أطيب الكسب عمل الرجل بيده»[أخرجه الإمام أحمد (15276), والطبراني في الكبير (22/197)، من حديث هانئ بن نيار، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1033)]وقال -صلى الله عليه وسلم-: «خير الكسب كسب يد العاملإذا نصح«[مسند أحمد (2/334)].

اليد السادسة هي التي تكتب كتاب خير، فمن كتب كتاب خير نال أجره وأجر من قرأه في حياته وبعد مماته، ولذا قيل: كتاب المرء ولده المخلَّد، وتأمل مؤلفات علمائنا، وكيف كابدوا المشاق في كتابتها التماساً لثوابها، وأنهكوا أيديهم كتابة وأرهقوها حتى وصلنا هذا الخير حتى قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: «سمعتُ جدي يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلَّد«، وقال يحيى بن معين: «كتبتُ بيدي ألف ألف حديث»، وصدق من قال منشداً:
وما من كاتبٍ إلا سيبلى ‍
ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب يداك كتاب شرٍّ ‍
يسوؤك في القيامة أن تراه


واليد السابعة هي التي تتصدق ولتكن اليمين، ويتضاعف أجرها إذا قامت اليد بمهمة التخفي! نعم التخفي عن أعين الناس طلباً لرضا رب الناس، بل والمبالغة في ذلك حتى لا تكاد الشمال تعلم كم أنفقت أختها، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» ذكر منهم: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»[ رواه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031)].

أما اليد الثامنة فهي يدٌ ترفع راية الجهاد في سبيل الله، وتذكَّر كيف ضحَّت ذراع جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-حين حمل الراية بيمينه، فقُطِعت فقامت شماله بالمهمة، فقُطِعت، فتناول الراية بعضديه، فكافأه الله بما جاء في النشرة الإخبارية النبوية التي أُذيعت على جمهور الصحابة على الهواء مباشرة وفي التو واللحظة: «إن الله قد جعللجعفر جناحين مضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة ». [المعجم الكبير للطبراني، 19/167 رقم 378].


أما اليد التاسعة فهي اليد التي ترمي في سبيل الله، فلعلها إن فَعَلت دخل صاحبها في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال لسعد -رضي الله عنه- «ارم فداك أبي وأمي»، وليس الرمي رمي السهام فحسب، وإنما كل ما يُحدِث أثر السهام في قلوب الأعداء وينصر الأمة في أي ميدان، ولعل إتقان العمل وجودة الصناعة والتفاني في مختبرات العلم لا يقل أجراً اليوم عن رمية سهم في نحور العدو.

واليد العاشرة هي يد التي تميط الأذى عن طريق المسلمين، فتكون أخاً لرجل رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة، فقال مبيِّناً عمله وموضِّحا جزاءه وجزاء كل من عمل بعمله من بعده، فقال: «لقد رأيتُ رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها منظهر الطريق كانت تؤذي الناس »[ أخرجه مسلم في: البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق (1914) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-].

اليد الحادية عشر اليد التي تصافح المؤمنين لتتناثر الذنوب مع المصافحة، وتتصافح القلوب وتتعانق مع تصافح الأيدي وتشابكها: قال -صلى الله عليه وسلم-: » إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلَّم عليه وأخذ بيدهفصافحه؛ تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر«[رواه الطبراني في الأوسط وهو في السلسلة الصحيحة للألباني " 5 / 10].

اليد الثانية عشر يد تبايع رسول الله وتمدُّ يدها في صدق ووفاء مستشعرة أنها تبايع الله وتعقد معه سبحانه المواثيق:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الفتح: 10]، وإن فاتنا شرف لمس كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن هذه البيعة باقية وتبعاتها نافذة، وإن كانت بيعة الرضوان بيعة على الموت في سبيل الله، فإن بيعتنا اليوم هي بيعة على الحياة في سبيل الله، ولعلها الأصعب والأشق.

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

وهناك عباد الله عشر أيادٍ في السافلين:
أيدٍ سُفلى عابثة في المعاصي، يدٌ مشغولة في حرث الشر يد، تائهة عن طريق الجنة، ولابد للمرء أن يجني ما زرعت يداه.

وأول هذه الأيادي من استخدم يديه في التخلص من حياته أذاقه الله من نفس الكأس، وأعاد معه جريمته وبنفس الطريقة مالا يُحصى من المرات لكن في الآخرة وطوال مدة مكثه في النار قال: «الذي يخنق نفسهيخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار «[أخرجه البخاري في الجنائز (1369) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو في السلسلة الصحيحة (3421)].

ثانياً الذي يخطُّ بيده حرفاً في عقد ربا يغضب عليه ربه ويطرده من رحمته ولو كان مجرد شاهد أوكاتب قال -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله آكلالربا وموكله وشاهده وكاتبه»[أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة باب لعن آكل الربا ومؤكله (3/1219) برقم 1598].

ثالثاً الذي يُشهر بيده السلاح في وجه أخيه أصابه أم لم يصبه ملعون حتى يخفض سلاحه قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه»[ أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-]

رابعاً الذي يقدِّم بيده مالاً لرشوة، والذي يقبل هذه الرشوة كلاهما تظل تطاردهما لعنة الله حتى يتوبا إلى الله ويُقلعا، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله على الراشي والمرتشي »[ أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية، باب: كراهية الرشوة (3580)، والترمذي (1337)، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الرشوة (2313)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي].

وأما الخمر، فإن تسعة أيادٍ ملعونة بسببها لأنها شاركت من قريب أو من بعيد في هذه الجريمة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «»لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له» [أخرجه الترمذي في البيوع (1295)، وابن ماجه في الأشربة (3381) من حديث أنس -رضي الله عنه- بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر عن النبي "، وقال الحافظ في التلخيص (4/73): "رواته ثقات"، وصححه الألباني في غاية المرام (60)].

وأما المرأة فإن أغراها الشيطان، ونفخ فيها من سحره، فمدَّت يدها لتتزين بما حرَّم الله، فقد طردت نفسها بنفسها من رحمة ربها قال -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصاتوالمتنمصات والمتفلجات للحُسن قال المغيِّراتخلق الله»[ رواه البخاري وأبو داود انظر " الصحيحة " (2797)].

ولو أن كاتباً كتب بيده كتاباً يثير فيه شهوة ويشعل فيه غريزة، أو يبث شبهة ويزلزل عقيدة، فستظل صحيفة سيئاته تتلقى يوميا وعلى مدار الساعة أكواماً من السيئات كلما قرأ كتابه قارئ أو وقع في شِراكه غافل، ولا سيما إن كسب هذا الكاتب عليه مالاً: ﴿ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].

إن الكلمة المكتوبة قد تفعل في القلب ما لا يفعله السيف، ولذا قال حبيب بن أوس الطائي:
ولضربةٍ من كاتبٍ ببنانه ‍
أمضى وأقطع من رقيق حسام
قوم إذا عزموا عداوة حاسدٍ ‍
سفكوا الدما بأسّنة الأقلام


ومن الأيادي الخبيثة زُناة: الأيادي.. ! اسمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني»[ رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (4150)].

هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15-11-2024, 09:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,213
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبواب القلب



أبواب القلب (5)

د. أمير بن محمد المدري



الحمد لله الحميد في وصفه وفعله، الحكيم في خلقه وأمره، الرحيم في عطائه ومنعه، المحمود في خفضه ورفعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في كماله وعظمته ومجده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل مرسل من عنده، اللهم صلّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وجنده.


أما بعد:
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، فاتقوا الله في السر والعلن، فبالتقوى تُستنزل البركات وتجلب الرحمات وتفرج الكربات وتُستجلى العقبات وتستدفع العقوبات، ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

هذا هو اللقاء الخاتم مع القلوب وأبوابها. لسانٌ وسمع ويدان ورجلان وشم وبصر. هنيئًا لمن ملأ قلبه بحب الله وخشيته وخوفه مراقبته. هنيئًا لمن حرس قلبه من الشهوات والشبهات. هنيئًا لأصحاب القلوب السليمة الطاهرة من الشرك والغل والبغضاء.


والباب الخامس عباد الله الشم:
و هو ثغرٌ يوصل إلى القلب، وقد يدخل منه الحرام البيِّن كشم المرأة الأجنبية عمدًا، لذا عرفالصحابة خطورة هذا الثغر حتى قرَّر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: «لأن يمتلئ منخراي من ريحجيفة أحب إليمن أن يمتلئا من ريح امرأة»، وما ذلك إلالأنه تعلَّم من نبيه -صلى الله عليه وسلم- الذي شدَّد على كل امرأة تعطَّرت أن لا تخرج من بيتها ولولأطهر مكان وهو المسجد لأداء أسمى عبادة وهي الصلاة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تُقبل صلاة لامرأة تتطيب لهذا المسجد حتىترجع فتغتسل غسلها من الجنابة«[(صحيح ) انظر حديث رقم: 7385 في صحيح الجامع]، بل ووصفهابوصف غاية في الشدة لينفِّر كل امرأة منه فقال:»إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية»[ (حسن) انظر حديث رقم: 2701 في صحيح الجامع].لكن لماذا هذا الوصف المريع: زانية؟!


والجواب: لأنها هيَّجت شهوة الرجال بعطرها، وحملتهم علىالنظر إليها، فالشم هنا قام مقام النظر حيث قاد إليه، وكل من نظر إليها فقد زنىبعينه؛ وتشوَّش قلبه، ووهن إيمانه.


وقد تنافس فيحراسة هذا الثغر أبطال أفذاذ حتى لا يدخل منه ما يُعكِّر صفو القلب، ولو كانمباحا ولكنه الورع؛ كما روى يونس بن أبي الفرات: أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أُتي بغنائم مسك، فأخذ بأنفه، فقالوا: يا أميرالمؤمنين!! تأخذ بأنفكلهذا. قال:»إنما ينتفع منهذا بريحه، فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين».


وأما الشم المستحب، فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي حواسك على ذلك، ويبسط النفس إلى العلموالعمل، ولهذا كان مما حُبِّب إلى نبينامن دنيانا الطيب، وكان هديه في الريحانأن لا يرده إذاأُهدي إليه وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: «من عُرِض عليه ريحانفلا، يرده، فإنه طيّب الريح خفيف المحمل».


ومن الشم المستحب شم الزوج لعطر زوجته والزوجةلعطر زوجها، وعندما يجد كل منهما الريح الطيب والعطر الشذي من زوجه يزداد له حباوألفةً وارتباطًا وقُربى.


أخي الحبيب: تريد أن تشم رائحة الجنة جاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق» [أخرجه أحمد (1/143)، والحاكم] لكن هذه المسافة تقترب متى ما ارتفع الإيمان وما أنس بن النضر عنكم ببعيد رضي الله عنه قال يوم أحد: «واهًا لريح الجنة إني لأجد ريحها من وراء أحد».


وفي الواقع يقول أحد الأطباء: اتصل بي المستشفى وأخبروني عن حالة خطيرة تحت الإسعاف فلما وصلت إذا بالشاب قد توفيرحمه الله؛ ولكن ما هي تفاصيل وفاته فكل يوم يموت المئات بل الآلاف، ولكن كيف تكون وفاتهم؟!! وكيف خاتمتهم؟!!


اللهم أحسن ختامنا يا رب العالمين.


أُصيب هذا الشاب بطلقة نارية عن طريق الخطأ فأسرع والداه، ولما كانا في الطريق التفت إليهما الشاب وتكلم معهما!! ولكن!! ماذا قال؟؟ هل كان يصرخ ويئن؟!؟! أم كان يتسخط ويشكو؟! أما ماذا؟!


يقول والداه: كان يقول لهما لا تخافا!! فإني ميت... واطمئنـا فإني أشم رائحة الجنة، ليس هذا فحسـب بل كرر هذه الكلمات الإيمانيـة عند الأطباء في الإسعـاف... حيث حاولـوا وكرروا المحاولات لإسعافه... فكان يقول لهم: يا أخواني إني ميت لا تتعبوا أنفسكم... فإني أشم رائحة الجنة.


ثم طلب من والديه الدنو منه وقبلهما وطلب منهما السماح وسلّم على إخوانه ثم نطق بالشاهدتين!!أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.


ثم أسلم روحه إلى بارئهاسبحانه وتعالى. الله أكبر!!!


ماذا أقول،وبم أعلق،أجد أن الكلمات تحتبس في فمي،والقلب يرتجف في يدي ولا أملك إلا أن أردد، و أتذكر قول الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].

فلما أخذوه ليغسّلوه شاهدوا عجبًا! كما يقول من غسّله:
أولًا: رأى المغسل جبينه يقطر عرقًا. قلت لقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن يموت بعرق الجبين... وهذا من علامات حُسن الخاتمة.


ثانيًا: يقول كانت يداه لينتين وفي مفاصله ليونه كأنه لم يمت وفيه حرارة لم أشهدها من قبل فيمن أُغسلهم!!


ومعلوم أن الميت يكون جسمه باردًا وناشفًا ومتخشبا.


ثالثًا: كانت كفه اليمنى في مثل ما تكون في التشهد قد أشار بالسبابة للتوحيد والشهادة وقبض بقية أصابعه... سبحان الله... ما أجملها من خاتمة نسأل الله حسن الخاتمة.


أحبتي... القصة لم تنته بعد!! سـألنا والده عن ولده وماذا كان يصنع؟!
أتدري ما هو الجواب؟!
أتظن أنه كان يقضي ليله متسكعًا في الشوارع أو رابضًا عند القنوات الفضائية والتلفاز يشاهد المحرمات... أم يغطُّ في نوم عميق حتى عن الصلوات... أم مع شلل الضياع وغيرها؟!


أم ماذا يا ترى كان يصنع؟! وكيف وصل إلى هذه الخاتمة التي لا أشك أخي القارئ أنك تتمناها... أن تموت وأنت تشم رائحة الجنة!


قال والده: لقد كان غالبًا ما يقوم الليل؛ فيصلي ما كتب الله له، وكان يوقظ أهل البيت كلهم ليشهدوا صلاة الفجر مع الجماعة وكان حافظًا لكتاب الله، وكان من المتفوقين في دراسته الثانوية.


عباد الله: أما الباب السادس والأخير فهو البصر هناك أربع نظراتحرام:
النظرة الأولى: النظرة المتطلعة: قال تعالى آمرًانبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131].

ومعنى الآية أيلا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة وتمني، فقالالنبي -صلى الله عليه وسلم-:
«نظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى منهو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم»؛ [أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد 18/ 97.].


ويا لها من وصية شاملة جامعة مانعة، كلماتهاقليلة، وفوائدها غزيرة، وحين خالف ابنعون هذه الوصية ونظر إلى من هو أعلى منه دنيا؛ صنع حسرته بنفسه وأورد نفسه مواردندمه، فقال -رحمه الله-: «صحبتُ الأغنياء فلم أر أحدا أكثر همَّا مني، أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيرا من ثوبي، وصحبتُ الفقراء فاسترحت». وهو ما قرَّره أبو سليمانالداراني حين قال:» إذا جاءت الدنيا إلى القلب ترحَّلت الآخرة منه، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تجئ الآخرة تزحمها؛ لأن الدنيا لئيمة والآخرة عزيزة».


النظرة الثانية: النظرة الخائنة:
وخائنة العين هي أن يُضمر الإنسان في قلبه غيرما يُظهر للناس، فإذا كفَّ أحد لسانه وأومأ بعينه بخلاف ذلك فقد خان، وإذا أطلقلسانه بحلو الحديث عن أحد وأومأ بعينه بعكس ذلك من ورائه فقد خان، فلابد للعين منأن تُوافق القلب وإلا كانت خائنة. نعوذ بالله من خائنة الأعين.


النظرة الثالثة: النظرة المتلصصة:
قال-صلى الله عليه وسلم-: «من اطلع في بيت قومٍ بغير إذن ففقئواعينه فلا دية لهولا قصاص«[صحيح مسلم كتاب الآداب باب تحريم النظر في بيت الغير 14/138].، ولذا شرع اللهالاستئذان. قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27].

النظرة الرابعة: النظرة الجائعة:
وهي نظرة الرجلإلى المرأة الأجنبية بشهوة، ونظرة المرأة إلى الرجل الأجنبي بشهوة، وهؤلاء هم.. الشاربون منالبحر!!


قد لا تلمح ماتفعله النظرة في قلب صاحبها في التو، لكنها تزرع النار في الفؤاد لتأتي عليه آخرالليل لتحيله رمادًا في رماد، بل تأتي هذه النظرة والصورة وأنت في أطهر مكان وفي خير موقف في السجود بين يدي الله ليمنعك من الخشوع.


قال أحد الصالحين: " أما سمعت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو تمثال»؛ [أخرجه البخاري [5958] ومسلم [2106] من حديث أبي طلحة رضي الله عنه! فإذا كان الملك لا يدخل بيتًا فيه صورة أو تمثال: فكيف تدخل شواهد الحق قلبًا فيه أوصاف غيره من البشر".


عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.


أيها المسلمون: النظر إلى النساء، فتنة ليس لها من دون الله حام ولا مانع، مصيبة كبيرة، ومفسدة ضخمة، وشر مستطير، وبلاء ومحنة، اللهم اعصمنا منها، واحفظنا عن الوقوع فيها، وارحمنا يا أرحم الراحمين، فإنه لا حول لنا ولا طول بها.


في الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ».

أيها الإخوة، النظر بريد الزنا، قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره
لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر


القلب بيتٌ والعين بابه، ولا يدخل لص البيت إلا والباب مفتوح، فإذا دخل سرق حِلية الإيمان وجوهر التقوى، وترك القلب خرابًا في خراب، فاحذر أخي الحبيب هذا اللص فإنه خفيف الحركة تكفيه لحظة واحدة ليتسلل - لحظة واحدة فقط - ولهذا لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفجأة قال: «اصرف بصرك».[ أخرجه مسلم في الآداب (2159) بمعناه، وهذا لفظ أبي داود في النكاح (2148)].


أي أحكم إغلاق الباب وضع عليه حراسة أمن مشددة من جنود المراقبة، ولا تفتحه ولو لحظة واحدة، ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].

سُئل الإمام الجنيد -رحمه الله-: بم يُستعان على غض البصر؟ قال: «بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره». وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا
فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً
ولا أن ما يخفى عليه يغيب



الدعاء، خير سلاح، وأقوى وسيلة، وأنفع دواء، به استعانة برب الأرض والسماء، به النصر على الأعداء، فاستعن به يا أخي.


أخي الحبيب: ادع الله دائمًا أن يحفظ عليك إيمانك، وأن يقوي عزيمتك على غض البصر، وحفظ النظر، ادع الله في ليلك ونهارك، في أوقات الاستجابة، وفي كل وقت.


من شغله اليوم التطلع إلى الغيد الحسان فليعقد مقارنة بينهن وبين الحور لتعلم الفرق بين هذه وتلك الحور وما الحور: تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من ثناياها إذا ابتسمت، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلًا وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولما نامت عن النظر إليها عين، ولطمست ضوء الشمس كما يطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بالله الحي القيوم، نصيفها (خمارها) الذي يخفي جمالها خير من الدنيا وما فيها فكيف جمالها؟ بياض لحمها يسطع من وراء سبعين حلة من فوقها فكيف ضياؤها؟ لولا أن الله كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا لماتوا من فرط حسنها وجمالها، فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها!! وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج أفلاكها. كل هذا وأنت مشغول بالجيف!!


يا من وقّع العقد: نظران لا يجتمعان من غض طرفه اليوم عن الطين أطلقه غدًا في الحور العين، ومن أطلقه اليوم حرمه غدًا فاختر لنفسك، وقدم - إن شئت - المهر الذي أرشدك إليه أبو الدرداء -رضي الله عنه- فقال: «من غض بصره عن النظر الحرام زوج من الحور العين حيث أحب».
يا خاطب الحور الحسان
وطالبًا لوصالهن بجنة الحيوان
لو كنت تدري من خطبت ومن
طلبت بذلت ما تحوي من الأثمان
أو كنت تعرف أين مسكنها
جعلت السعي منك لها على الأجفان
أسرع وحث السير جهدك
إنما مسراك هذا ساعةٌ لزمان
فاعشق وحدث بالوصال النفس
وابذل مهرها ما دمت ذا إمكان
واجعل صيامك دون لقياها
و يوم الوصل يوم الفطر من رمضان




الفراسة الصادقة:
تظل الفراسة الصادقة منزلة إيمانية محتكرة لمن أصلح قلبه وحفظ هذه الأبواب وغض بصره محجوزة له لا يزاحمه فيها إلا مثيله، وهي التي تميز بين الصادق والكاذب بين المحق والمبطل بين الباكي والمتباكي وهذه أهم ثمار غض البصر وأجلها قال شاه بن شجاع الكرماني: «من عمّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة».


عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وقف على منبر وصاح بصوت مرتفع أثناء الخطبة (يا سارية الجبل) ثلاث مرات بعد الخطبة قال له عبد الرحمن بن عوف ما هذا الذي فعلت أثناء الخطبة لقد تكلم الناس عنك. فقال والله لا أدرى لقد وجدتني أصيح يا سارية الجبل.


بعد يومين جاء رسول من المعركة قال سارية رئيس الجند يبشرك يا أمير المؤمنين بالنصر. والله كان الكفار منتصرين علينا حتى ساعة صلاة الجمعة الماضية وسمعنا صوتًا يصيح: يا سارية الجبل فلزم سارية ومن معه الجبل وحاربنا فانتصرنا عليهم فقال عمر رضي الله عنه: الحمد لله.


كان عثمان بن عفان رضي الله عنه علمًا من أعلام الفراسة وشيخًا من شيوخها استحيا من الله فاستحيت منه ملائكة الله، وغض طرفه عن الآثام فأورثه الله فراسة يكشف بها كل من أطلق بصره وزنا به ظانًا أن أحدًا لن يعرف من أمره شيئًا، فإذا بعثمان يعلم ويكشف لا ليفضح بل لينصح. دخل عليه رجل فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم والزنا في عينيه، فقال: أَوَحْىٌ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: "لا ولكن فراسة صادقة" ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربهعز وجل أنه قال: «ما تقرب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطئ، له فراسة فإن العبد إذا أبصر بالله أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع بالله سمعه على ما هو عليه وليس هذا من علم الغيب بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب.


روي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارًا، وقال الآخر: بل حدادًا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجارًا وأنا اليوم حداد.


وقال مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال ابن شهاب، قال: ممن، قال: من الحرقة، قال أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: أيها قال بذات لظى، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال.


هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال:﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 145.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 141.92 كيلو بايت... تم توفير 3.52 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]