|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#701
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الحشر من صــ 61الى صــ70 الحلقة (701) قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} فيه ست مسائل : الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ؛ فبين أحكام مهاجرة النساء. قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية ، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ؛ فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب. وقيل : مسافر المخزومي - فقال : يا محمد ، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها. وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ ردها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم : "كان الشرط في الرجال لا في النساء" فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل ؛ يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك. وقيل : إن التي جاءت أميمة بنت بشر ، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر ، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبدالله ، قال زيد بن حبيب. كذا قال الماوردي : أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ. وقال المهدوي : وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف. وهي امرأة حسان بن الدحداح ، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف. وقال مقاتل : إنها سعيدة زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة. والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة. الثانية- واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما ؛ فقالت طائفة منهم : قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان. وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقره الله على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردهن في العقد لفظا ، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم ؛ فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال. فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه. وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني : أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. الثالثة- قوله تعالى : {فَامْتَحِنُوهُنَّ} قيل : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاث أقوال : الأول : قال ابن عباس : كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل منا ؛ بل حبا لله ولرسوله. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها ؛ فذلك قوله تعالى : {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . الثاني : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ قاله ابن عباس أيضا. الثالث : بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله : {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} رواه معمر عن الزهري عن عائشة. خرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح. الرابعة- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا ، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما ؛ فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء : كله منسوخ في الرجال والنساء ، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما ، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز. وهذا مذهب الكوفيين. وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك. وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية ، وقال "أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما" قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بريء ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ. قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره ، لأنه يلي الأموال كلها. فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود. الخامسة- قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي هذا الامتحان لكم ، والله اعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر. {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي بما يظهر من الإيمان. وقيل : إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي لم يحل الله مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن لمشركة. وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة. والصحيح الأول ، لأن الله تعالى قال : {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس باختلاف الدار. والله اعلم. وقال أبو عمر : لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس ، وإنما المراعاة في ذلك الدينان ، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما ، لا بالدار والله المستعان. السادسة- قوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد ، لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام ، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال. السابعة- ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا. فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع. وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا ، لأنه لا قيمة له. وللشافعي في هذه الآية قولان : أحدهما : أن هذا منسوخ. قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض. وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان : أحدهما : يعطي العوض ، والقول ما قال الله عز وجل ، وفيه قول آخر : أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض. فإن شرط الإمام رد النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض ، لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل. الثامنة- أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف. وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد ؛ فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق. والأمر كما قاله. التاسعة- قوله تعالى : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة. فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال ولها التزوج. العاشرة - قوله تعالى : {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أباح نكاحها بشرط المهر ؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر. الحادية عشرة- قوله تعالى : {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك. وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو "وَلا تُمْسِكُوا" مشددة من التمسك. يقال : مسك يمسك تمسكا ؛ بمعنى أمسك يمسك. وقرئ "وَلا تُمْسِكُوا" بنصب التاء ؛ أي لا تتمسكوا. والعصم جمع العصمة ؛ وهو ما اعتصم به. والمراد بالعصمة هنا النكاح. يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها ، فليست له امرأة ، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين. وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ؛ وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات ؛ ثم نسخ ذلك في هذه الآية. فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة. وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبدالله بن المغيرة ؛ فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما. فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك ، فأبي معاوية من ذلك. وكانت عند طلحة بن عبيدالله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ، فحبسها وزوجها خالدا. وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنته - وكانت كافرة - من أبي العاص بن الربيع ، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها. ذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال : أسلمت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى ، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبدالعزى مشرك بمكة. الحديث. وفيه : أنه أسلم بعدها. وكذلك قال الشعبي. قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع ، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته فأسلم فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس : بالنكاح الأول ؛ ولم يحدث شيئا. قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين. وقال الحسن بن علي : بعد سنتين. قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول الله عز وجل : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني في عدتهن. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة. وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه : كان قبل أن تنزل الفرائض. وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة {براءة} بقطع العهود بينهم وبين المشركين. والله اعلم. الثانية عشرة- قوله تعالى : {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها ، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. وقيل : هي عامة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب. ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه. وعلى القول الأول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما. وهذا قول بعض أهل العلم. ومنهم من قال : ينتظر بها تمام العدة. فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تسلم - مالك بن أنس. وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، واحتجوا بقوله تعالى : {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . دوقال الزهري : ينتظر بها العدة. وهو قول الشافعي وأحمد. واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بمر الظهران ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت. قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ؛ كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل : {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ثم بينت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة. وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام. وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار ؛ وليس بشيء. وقد تقدم. الثالثة عشرة- هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها ، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما ؛ إذ لا عدة عليها. كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم : انقطعت العصمة بينهما. وحجته {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي. ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة. الرابعة عشرة- فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف. ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة. وهو قول مجاهد. وكذا الوثني تسلم زوجته ، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها ؛ كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ؛ على حديث ابن شهاب. ذكره مالك في الموطأ. قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر. قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها ؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. ومن العلماء من قال : ينفسخ النكاح بينهما. قال يزيد بن علقمة : أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي الله عنه ؛ وهو قول طاوس. وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل عليها إلا بخطبة. الخامسة عشرة- قوله تعالى : {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين. وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة ؛ قال ابن العربي. السادسة عشرة- {ذلكم حكم الله} أي ما ذكر في هذه الآية هو حكم الله. {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تقدم في غير موضع. الآية : [11] {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} في الخبر : أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ؛ وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت : وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا. وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حكم الله عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه : {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها. فكتبوا إليهم : أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا ، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به ، فأنزل الله عز وجل : {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} . وقال ابن عباس في قوله تعالى : {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض. قال الزهري : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا. وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة. وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد. وقالا : ومعنى {فَعَاقَبْتُمْ} فاقتصصتم. {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} يعني الصدقات. فهي عامة في جميع الكفار. وقال قتادة أيضا : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة {براءة} . وقال الزهري : انقطع هذا عام الفتح. وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم. وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا. حكاه القشيري. الثانية- قوله تعالى : {فَعَاقَبْتُمْ} قراءة العامة {فَعَاقَبْتُمْ} وقرأ علقمة والنخعي وحميد والأعرج "فعقبتم" مشددة. وقرأ مجاهد "فأعقبتم" وقال : صنعتم كما صنعوا بكم. وقرأ الزهري "فعقبتم" خفيفة بغير ألف. وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة "فعقبتم" بكسر القاف خفيفة. وقال : غنمتم. وكلها لغات بمعنى واحد. يقال : عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم. وقال القتبي "فعاقبتم" فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو. وقال ابن بحر : أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين. الثالثة- قوله تعالى : {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قال ابن عباس : يقول إن لحضت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم ، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري : يعطي من مال الفيء. وعنه يعطى من صدق من لحق بنا. وقيل : أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم. قال الأعمش : هي منسوخة. وقال عطاء : بل حكمها ثابت. وقد تقدم جميع هذا. القشيري : والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام. وحكى الثعلبي عن ابن عباس : هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري. وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما هاجر عمر أبت وارتدت. وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبدالعزى ، كانت تحت هشام بن العاص. وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب. وشهبة بنت غيلان. فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به. الآية : [12] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيه ثمان مسائل : ![]()
__________________
|
#702
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الصف من صــ 71الى صــ80 الحلقة (702) الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء نساء أهل مكة يبايعنه ، فأمر أن يأخذ عليهن ألا يشركن. وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} إلى آخر الآية. قالت عائشة : فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انطلقن فقد بايعتكن" ولا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة : والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله عز وجل ، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط ؛ وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن "قد بايعتكن كلاما" . وروي أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن. وقيل : لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه ، فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر يصافحهن. وروي أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن. ابن العربي : وذلك ضعيف ، وإنما ينبغي التعويل على ما في الصحيح. وقالت أم عطية : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب ، فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام ، فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن ؛ ألا تشركن بالله شيئا. فقلن نعم. فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ؛ ثم قال : اللهم اشهد. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء ، فغمس يده فيه ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه. الثانية- روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : {عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} قالت هند بنت عتبة وهي منتقبة خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد : والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { وَلا يَسْرِقْنَ } فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتنا. فقال أبو سفيان : هو لك حلال. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها وقال : "أنت هند" ؟ فقالت : عفا الله عما سلف. ثم قال : {وَلا يَزْنِينَ } فقالت هند : أو تزني الحرة! ثم قال : { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } أي لا يئدن الموؤودات ولا يسقطن الأجنة. فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر ، فأنتم وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا ، وأنتم وهم اعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. وكان حنظلة بن أبي سفيان وهو بكرها قتل يوم بدر. ثم قال : {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قيل : معنى {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} ألسنتهن بالنميمة. ومعنى بين {َأَرُجُلِهِنَّ} فروجهن. وقيل : ما كان بين أيديهن من قبلة أو جسة ، وبين أرجلهن الجماع وقيل : المعنى لا يلحقن برجالهن ولدا من غيرهم. وهذا قول الجمهور. وكانت المرأة تلتقط ولدا فتلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وقيل : ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد ؛ لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها ، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ؛ ما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق!. ثم قال : {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال قتادة : لا ينحن. ولا تخلو امرأة منهن إلا بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب ، ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم : هو إلا يخمشن وجها. ولا يشققن جيبا ، ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم. وروت أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في النوح. وهو قول ابن عباس. وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فقال : "هو النوح" . وقال مصعب بن نوح : أدركت عجوزا ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثتني عنه عليه الصلاة والسلام في قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فقال : "النوح" . وفي صحيح مسلم عن أم عطية لما نزلت هذه الآية : {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً - إلى قوله - وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال : "كان منه النياحة" قالت : فقلت يا رسول الله ، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية ؛ فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال ، رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إلا آل فلان" . وعنها قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة إلا ننوح ؛ فما وفت منا امرأة إلا خمس : أم سليم ، وأم العلاء ، وابنه أبي سيرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة ، وامرأة معاذ. وقيل : إن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله ؛ قال ميمون بن مهران. وقال بكر بن عبدالله المزني : لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن. الكلبي : هو عام في كل معروف أم الله عز وجل ورسول به. فروي أن هندا قالت عند ذلك : ما جلستا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. الثالثة- ذكر الله عز وجل ورسول عليه الصلاة والسلام في صفة البيعة خصالا شتى ؛ صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الأمر. وهي ستة أيضا : الشهادة ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة. وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال ؛ فكان التنبيه على اشتراط الدائم أكد. وقيل : إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب ، فخصت بالذكر لهذا. ونحو منه قول عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس : "وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت" فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي ، لأنها كانت شهوتهم وعادتهم ، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها. الرابعة- لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة : {ولا يسرقن} قالت هند : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ ما يكفيني وولدي ؟ قال "لا إلا بالمعروف" فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "لا" أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف ، يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة. قال ابن العربي وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ولا يضبط عليه بقفل فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصي به وتُقطع يدها الخامسة- قال عبادة بن الصامت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء : "إلا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا يعضه بعضكم بعضا ولا تعصوا في معروف أمركم به" . معنى "يعضه" يسحر. والعضه : السحر. ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى : {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ} إنه السحر. وقال الضحاك : هذا نهى عن البهتان ، أي لا يعضهن رجلا ولا امرأة. {بِبُهْتَانٍ} أي بسحر والله اعلم. {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} والجمهور على أن معنى {بِبُهْتَانٍ} بولد يفترينه بين أيديهن "ما أخذته لقيطا. {وأرجلهن} ما ولدته من زنى. وقد تقدم." السادسة- قوله تعالى : {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء. واختلف في معناه على ما ذكرنا. والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وينهى عنه ؛ فيدخل فيه النوح وتخريق الثياب وجز الشعر والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك. وهذه كلها كبائر ومن أفعال الجاهلية. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية" فذكر منها النياحة. وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا عن اليسار ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم" كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار ". وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة ". وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها. فقيل : يا أمير المومنين ، المرأة المرأة! قد وقع خمارها. فقال : إنها لا حرمة لها. أسند جميعه الثعلبي رحمه الله. أما تخصيص قوله : { فِي مَعْرُوفٍ } مع قوة قوله : {وَلا يَعْصِينَكَ } ففيه قولان : أحدهما : أنه تفسير للمعنى على التأكيد ؛ كما قال تعالى : {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} لأنه لو قال احكم لكفى . الثاني : إنما شرط المعروف في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون تنبيها على أن غيره أولى بذلك وألزم له وأنفى للإشكال." السابعة- روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أتبايعوني على إلا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا" قرأ آية النساء. وأكثر لفظ سفيان قرأ في الآية "فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له منها" . وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ؛ فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب ؛ فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني انظر إليه حين يجلس الرجال بيده ، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} - حتى فرغ من الآية كلها ، ثم قال حين فرغ - : أنتن على ذلك "؟ فقالت : امرأة واحدة لم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله ؛ لا يدري الحسن من هي. قال :" فتصدقن "وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. لفظ البخاري." الثامنة- قال المهدوي : أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا ؛ والأمر بذلك ندب لا إلزام. وقال بعض أهل النظر : إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة. الآية : [13] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني اليهود. وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم فنهوا عن ذلك. {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} يعني اليهود قاله ابن زيد. وقيل : هم المنافقون. وقال الحسن : هم اليهود والنصارى. قال ابن مسعود : معناه أنهم تركوا العمل للآخرة وآثروا الدنيا. وقيل : المعنى يئسوا من ثواب الآخرة ، قاله مجاهد. {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} أي الأحياء من الكفار. {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أن رجعوا اليهم ؛ قال الحسن وقتادة. قال ابن عرفة : وهم الذين قالوا : {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} وقال مجاهد : المعنى كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. وقيل : إن الله تعالى ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار ؛ وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعة وغيره. قال ابن عباس : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا} أي لا توالوهم ولا تناصحوهم ؛ رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة. يريد أن كفار قريش قد يئسوا من خير الآخرة كما يس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى. وقال القاسم بن أبي بزة في قوله تعالى : {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قال : من مات من الكفار يئس من الخير. والله اعلم. سورة الصف سورة الصف مدنية في قول الجميع ، فيما ذكر الماوردي. وقيل : إنها مكية ، ذكره النحاس عن ابن عباس. وهي أربع عشرة آية. مقدمة السورة بسم الله الرحمن الرحيم الآية : [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم. الآية : [2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} الآية : [3] {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} فيه خمس مسائل : الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محسد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالله بن سلام قال : قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه ؛ فأنزل الله تعالى : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} حتى ختمها. قال عبدالله : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. قال أبو سلمة : فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا محمد. وقال ابن عباس قال عبدالله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ؛ فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي : قال المؤمنون يا رسول الله ، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ؛ فنزلت {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فمكثوا زمانا يقولون : لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ؛ فدلهم الله تعالى عليها بقول : {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا ؛ فنزلت تعيرهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة : اللهم أشهد! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ؛ ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك. وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا. وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته. فقال رجل يا نبي الله ، إني قتلت فلانا ، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فقال عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف : يا صهيب ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا! فإن فلانا انتحل قتله ؛ فأخبره فقال : "أكذلك يا أبا يحيى" ؟ قال نعم ، والله يا رسول الله ؛ فنزلت الآية في المنتحل. وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ؛ كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا ؛ فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. الثانية- هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن ؛ فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة بـ "براءة" فأنسيتها ؛ غير أني قد حفظت منها "لو كان لابن آدم واديان من مال لأبتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" . وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ؛ غير أني حفظت منها : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين. أما قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة. وأما قوله : "شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة" فمعنى ثابت في الدين ؛ فإن من التزم شيئا لزمه شرعا. والملتزم على قسمين : أحدهما : النذر ، وهو على قسمين ، نذر تقرب مبتدأ كقول : لله علي صلاة وصوم وصدقة ، ونحوه من القرب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك وأبو حنيفة ، يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقوال : إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا ، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه : إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة ، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أوالإقدام على فعل. قلنا : القرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. قال ابن العربي : فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا. فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه. وتعلقوا بسبب الآية ، فإنه روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهو حديث لا بأس به. وقد روي عن مجاهد أن عبدالله بن رواحة لما سمعها قال : لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل. والصحيح عندي : أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. قلت : قال مالك : فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ؛ ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه. وقال ابن القاسم : إذا وعد الغرماء فقال : أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي إليكم ؛ فإن هذا يلزمه. وأما أن يقول نعم أنا أفعل ؛ ثم يبدو له ، فلا أرى عليه ذلك. قلت : أي لا يقضي عليه بذلك ؛ فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم. وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} ، وقال تعالى : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وقد تقدم بيانه. الثالثة : قال النخعي : ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت" قلت : "من هؤلاء يا جبريل" ؟ قال : "هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون" . وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا ؛ فسكت. ثم قيل له : حدثنا. فقال : أترونني أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله!. الرابعة : قوله تعالى : {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذبا ، وأما في المستقبل فيكون خلفا ، وكلاهما مذموم. وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى : {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون. فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول. ![]()
__________________
|
#703
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الصف من صــ 81الى صــ90 الحلقة (703) الخامسة : قوله تعالى : {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي. و "أن" وقع بالابتداء وما قبلها الخبر ؛ وكأنه قال : قولكم ما لا تفعلون مذموم ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف. الكسائي : "أن" في موضع رفع ؛ لأن "كبر" فعل بمنزلة بئس رجلا أخوك. و "مقتا" نصب بالتمييز ؛ المعنى كبر قولهم ما لا يفعلون مقتا. وقيل : هو حال. والمقت والمقاتة مصدران ؛ يقال : رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبه الناس. الآية : [4] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} أي يصفون صفا : والمفعول مضمر ؛ أي يصفون أنفسهم صفا. {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قال الفراء : مرصوص بالرصاص. وقال المبرد : هو من رصصت البناء إذا لاأمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. وقيل : هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض. والتراص التلاصق ؛ ومنه وتراصوا في الصف. ومعنى الآية : يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء. وقال سعيد بن جبير : هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم. الثانية- وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. المهدوي : وذلك غير مستقيم ، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة. ولا يخرج الفرسان من معنى الآية ؛ لأن معناه الثبات. الثالثة- لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو في منفعة تظهر في المقام ، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها. وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين أحدهما : أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو ، وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال. وقال أصحابنا : لا يبرز أحد طالبا لذلك ، لأن فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو. وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ؛ كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر ، وعليه درج السلف. وقد مضى القول مستوفى في هذا في "البقرة" عند قوله تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية : [5] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} لما ذكر أمر الجهاد بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله ؛ وحل العقاب بمن خالفهما ؛ أي واذكر لقومك يا محمد هذه القصة. قوله تعالى : {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} وذلك حين رموه بالأدرة ؛ حسب ما تقدم في آخر سورة "الأحزاب" . ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون : إنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور. ومن الأذى قولهم : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} . وقولهم : {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} وقولهم : إنك قتلت هارون. وقد تقدم هذا. {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} والرسول يحترم ويعظم. ودخلت "قد" على "تعلمون" للتأكيد ؛ كأنه قال : وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه. {فَلَمَّا زَاغُوا} أي مالوا عن الحق {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي أمالها عن الهدى. وقيل : {فَلَمَّا زَاغُوا} عن الطاعة {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عن الهداية. وقيل : {فَلَمَّا زَاغُوا} عن الإيمان { أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عن الثواب. وقيل : أي لما تركوا ما أمروا به من احترام الرسول عليه السلام وطاعة الرب ، خلق الله الضلالة في قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم. الآية : [6] {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ} أي واذكر لهم هذه القصة أيضا. وقال : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} ولم يقل "يا قوم" كما قال موسى ؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه. {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي بالإنجيل. {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} لأن في التوراة صفتي ، وأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة فتنفروا عني. {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ} مصدقا. "ومبشرا" نصب على الحال ؛ والعامل فيها معنى الإرسال. و "إليكم" صلة الرسول. {يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "من بعدي" بفتح الياء. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش وأبي بكر عن عاصم. واختاره أبو حاتم لأنه اسم ؛ مثل الكاف من بعدك ، والتاء من قمت. الباقون بالإسكان. وقرئ "من بعدي اسمه أحمد" بحذف الياء من اللفظ. و "أحمد" اسم نبينا صلى الله عليه وسلم. وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل ؛ فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى "أحمد" أي أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله ، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. وأما محمد فمنقول من صفة أيضا ، وهي في معنى محمود ؛ ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار. فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة. وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه ، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه. فهذا علم من أعلام نبوته ، إذ كان اسمه صادقا عليه ؛ فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ. ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد ، حمد ربه فنبأه وشرفه ؛ فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقال : "اسمه أحمد" . وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد ، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له. فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل. وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه ، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان واسمي في الإنجيل أحمد واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض" . وفي الصحيح "لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي تحشر الناس على قدمي وأنا العاقب" . وقد تقدم. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} قيل عيسى. وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} قرأ الكسائي وحمزة "ساحر" نعتا للرجل. وروي أنها قراءة ابن مسعود. الباقون "سحر" نعتا لما جاء به الرسول. الآية : [7] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} تقدم في غير موضع. {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الأِسْلامِ} هذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما. وقرأ طلحة بن مصرف "وهو يدعي" بفتح الياء والدال وشدها وكسر العين ، أي ينتسب. ويعي وينتسب سواء. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي من كان في حكمه أنه يختم له بالضلالة. الآية : 8 {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} قوله تعالى : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} الإطفاء هو الإخماد ، يستعملان في النار ، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه ؛ وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير ، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل ؛ فيقال : أطفأت السراج ؛ ولا يقال أخمدت السراج. وفي "نُورَ اللَّهِ" هنا خمسة أقاويل : أحدها : أنه القرآن ؛ يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول ؛ قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني : إنه الإسلام ؛ يريدون دفعه بالكلام ؛ قاله السدي. الثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ يريدون هلاكه بالأراجيف ؛ قاله الضحاك. الرابع : حجج الله ودلائله ؛ يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم ؛ قال ابن بحر. الخامس : أنه مثل مضروب ؛ أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا فكذلك من أراد إبطال الحق ؛ حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ؛ فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ؛ فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها ؛ حكى جميعه الماوردي رحمه الله. {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي بإظهاره في الآفاق. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} بالإضافة على نية الانفصال ؛ كقوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وشبهه ، حسب ما تقدم بيانه في "آل عمران" . الباقون "متم نوره" لأنه فيما يستقبل ؛ فعمل. {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} من سائر الأصناف. الآية : [9] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} أي محمدا بالحق والرشاد. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي بالحجج. ومن الظهور الغلبة باليد في القتال ؛ وليس المراد بالظهور ألا يبقى دين آخر من الأديان ، بل المراد يكون أهل الإسلام عالين غالبين. ومن الإظهار ألا يبقى دين سوى الإسلام في آخر الزمان. قال مجاهد : وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام. وقال أبو هريرة : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد" . وقيل : "ليظهره" أي ليطلع محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان ؛ حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها ، وبما حرفوا وغيروا منها. {عَلَى الدِّينِ} أي الأديان ؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن جمع. الآية : [10] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية : [11] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية : [12] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الآية : [13] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه خمس مسائل : الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} قال مقاتل : نزلت في عثمان بن مظعون ؛ وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أذنت لي فطلقت خولة ، وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ، ولا أنام بليل أبدا ، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس منى" . فقال عثمان : والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها ؛ فنزلت. وقيل : {أَدُلُّكُمْ} أي سأدلكم. والتجارة الجهاد ؛ قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية. وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل : لأهل الكتاب. الثانية- قوله تعالى : {تُنْجِيكُمْ} أي تخلصكم {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم. وقراءة العامة "تنجيكم" بإسكان النون من الإنجاء. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوة "تُنْجِيكُمْ" مشددا من التنجية. ثم بين التجارة وهي المسألة : - الثالثة- فقال : {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ذكر الأموال أولا لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق. {ذَلِكُمْ} أي هذا الفعل {خَيْرٌ لَكُمْ} خير لكم من أموالكم وأنفسكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} و "تُؤْمِنُونَ" عند المبرد والزجاج في معنى آمنوا ، ولذلك جاء "يَغْفِرْ لَكُمْ" مجزوما على أنه جواب الأمر. وفي قراءة عبدالله "آمنوا بالله" وقال الفراء "يَغْفِرْ لَكُمْ" جواب الاستفهام ؛ وهذا إنما يصح على الحمل على المعنى ؛ وذلك أن يكون {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ، وَتُجَاهِدُونَ} عطف بيان على قوله : {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} كأن التجارة لم يدر ما هي ؛ فبينت بالإيمان والجهاد ؛ فهي هما في المعنى. فكأنه قال : هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم. الزمخشري : وجه قول الفراء أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد. كأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم. قال المهدوي : فإن لم تقدر هذا التقدير لم تصح المسألة ؛ لأن التقدير يصير إن دللتم يغفر لكم ؛ والغفران إنما نعت بالقبول والإيمان لا بالدلالة. قال الزجاج : ليس إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ؛ إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقرأ زيد بن علي "تؤمنوا" ، و "تجاهدوا" على إضمار لام الأمر ؛ كقوله : محمد تَفْدِ نفسَك كلُّ نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا أراد لتفد. وأدغم بعضهم فقال : { يغفر لكم} والأحسن ترك الإدغام ؛ لأن الراء حرف متكرر قوي فلا يحسن إدغامه في اللام ؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف. الرابعة- قوله تعالى : {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} خرج أبو الحسين الآجري عن الحسن قال : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} فقالا : على الخبير سقطت ، سألنا رسول الله صلى الله عيله وسلم عنها فقال : "قصر من لؤلؤة في الجنة فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله" . {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي إقامة. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي السعادة الدائمة الكبيرة. وأصل الفوز الظفر بالمطلوب. الخامسة- قوله تعالى : {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} قال الفراء والأخفش : {وَأُخْرَى} معطوفة على {تِجَارَةٍ} فهي في محل خفض. وقيل : محلها رفع أي ولكم خصلة أخرى وتجارة أخرى تحبونها {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} أي هو نصر من الله ؛ فـ "نصر" على هذا تفسير "وَأُخْرَى" . وقيل : رفع على البدل من "أخرى" أي ولكم نصر من الله. {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي غنيمة في عاجل الدنيا ؛ وقيل فتح مكة. وقال ابن عباس : يريد فتح فارس والروم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} برضا الله عنهم. الآية : [14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أكد أمر الجهاد ؛ أي كونوا حواريي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريي عيسى على من خالفهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع "أنصارا لله" بالتنوين. قالوا : لأن معناه اثبتوا وكونوا أعوانا لله بالسيف على أعدائه وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام "أنصار الله" بلا تنوين ؛ وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى. واختاره أبو عبيدة لقوله : {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ولم ينون ؛ ومعناه كونوا أنصارا لدين الله. ثم قيل : في الكلام إضمار ؛ أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله. وقيل : هو ابتداء خطاب من الله ؛ أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين. والحواريون خواص الرسل. قال معمر : كان ذلك بحمد الله ؛ أي نصروه وهم سبعون رجلا ، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة. وقيل : هم من قريش. وسماهم قتادة : أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة - واسمه عامر - وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبدالمطلب ؛ ولم يذكر سعيدا فيهم ، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا ، وقد مضت أسماؤهم في "آل عمران" ، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل ، قال ابن عباس. وقال مقاتل : قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة ، فأتاهم عيسى وقال : من أنصاري إلى الله ؟ قالوا : نحن ننصرك. فصدقوه ونصروه. "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" أي من أنصاري مع الله ، كما تقول : الذود إلى الذود إبل ، أي مع الذود. وقيل : أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله. {قال الحواريون نحن أنصار الله} وقد مضى هذا في آل عمران " {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء ، على ما تقدم في" آل عمران "بيانه. {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} الذين كفروا بعيسى. {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي غالبين. قال ابن عباس : أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار. وقال مجاهد : أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى. وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين ، من قال كان الله فارتفع ، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه ؛ لأن عيسى ابن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال. وقال زيد بن علي وقتادة : {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} غالبين بالحجة والبرهان ؛ لأنهم قالوا فيما روي : ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام ، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!. وقيل : نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال ابن إسحاق : وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع فطرس وبولس إلى رومية ، واندراييس ومشى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس. وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قرطاجنة وهي أفريقية. ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف. ويعقوبس إلى أورشليم وهي بيت المقدس ، وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز. وسيمن إلى أرض البربر. ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها. فأيدهم الله بالحجة. {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي عالين ؛ من قولك : ظهرت على الحائط أي علوت عليه. والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب." ![]()
__________________
|
#704
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الجمعة من صــ 91الى صــ100 الحلقة (704) سورة الجمعة مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" . وعنه قال : قال رسول الله : "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب بن قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال - يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" . مقدمة السورة بسم الله الرحمن الرحيم الآية : [1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} تقدم الكلام فيه. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم "الملك القدوس العزيز الحكيم" كلها رفعا ؛ أي هو الملك. الآية : [2] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} قال ابن عباس : الأميون العرب كلهم ، من كتب منهم ومن لم يكتب ، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. وقيل : الأميون الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال : الأمي الذي يقرأ ولا يكتب. وقد مضى في "البقرة" . {رَسُولاً مِنْهُمْ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه. قال ابن إسحاق : إلا حي تغلب ؛ فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة. وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم. قال الماوردي : فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا ؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني : لمشاكلة حال لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. قلت : وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته. قوله تعالى : {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يعني القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ؛ قاله ابن عباس. وقيل : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب ؛ قاله ابن جريج ومقاتل. وقال السدي : يأخذ زكاة أموالهم {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يعني القرآن {وَالْحِكْمَةَ} السنة ؛ قال الحسن. وقال ابن عباس : "الكتاب" الخط بالقلم ؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. وقال مالك بن أنس : "الحكمة" الفقه في الدين. وقد مضى القول في هذا في "البقرة" . {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في ذهاب عن الحق. الآية : [3] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قوله تعالى : {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} هو عطف على "الأُمِّيِّينَ" أي بعث في الأميين وبعث في آخرين منهم. ويجوز أن يكون منصوبا بالعطف على الهاء والميم في {وَيُعَلِّمُهُمُ وَيُزَكِّيهِمْ} ؛ أي يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين ؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مسندا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه. {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي لم يكونوا في زمانهم وسيجيؤون بعدهم. قال ابن عمرو سعيد بن جبير : هم العجم. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة "الجمعة" فلما قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل : من هؤلاء يا رسول الله ؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا. قال وفينا سلمان الفارسي. قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال : "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" . في رواية "لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال - من أبناء فارس حتى يتناوله" لفظ مسلم. وقال عكرمة : هم التابعون. مجاهد : هم الناس كلهم ؛ يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل بن حيان. قالا : هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. وروى سهل بن سعد الساعدي : أن النبي صل الله عليه وسلم قال : "إن في أصلاب أمتي رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب" - ثم تلا - {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} . والقول الأول أثبت. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رأيتني أسقي غنما سودا ثم اتبعتها غنما عفرا أولها يا أبا بكر" فقال : يا رسول الله ، أما السود فالعرب ، وأما الغفر فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كذا أولها الملك" يعني جبريل عليه السلام. رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الآية : [4] {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} قال ابن عباس : حيث ألحق العجم بقريش. يعني الإسلام ، فضل الله يؤتيه من يشاء ؛ قال الكلبي. وقيل : يعني الوحي والنبوة ؛ قاله مقاتل. وقول رابع : إنه المال ينفق في الطاعة ؛ وهو معنى قول أبي صالح. وقد روى مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم. فقال : "وما ذاك" ؟ قالوا : يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم" قالوا : بلى يا رسول الله ؛ قال : "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة" . قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فلعنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" . وقول خامس : أنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته. والله اعلم. الآية : [5] {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ضرب مثلا لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} أي كلفوا العمل بها ؛ عن ابن عباس. وقال الجرجاني : هو من الحمالة بمعنى الكفالة ؛ أي ضمنوا أحكام التوراة. {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} هي جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير ؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل ؛ فهكذا اليهود. وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. وقال الشاعر : زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح ما في الغرائر وقال يحيى بن يمان : يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر ، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب. وقال الشاعر : إن الرواة على جهل بما حملوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع وقال منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله فأحسن : انعق بما شئت تجد أنصارا ... وزم أسفارا تجد حمارا يحمل ما وضعت من أسفار ... يحمله كمثل الحمار يحمل أسفارا له وما درى ... إن كان ما فيها صوابا وخطا إن سئلوا قالوا كذا روينا ... ما إن كذبنا ولا اعتدينا كبيرهم يصغر عند الحفل ... لأنه قلد أهل الجهل {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي لم يعملوا بها. شبههم - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتبا وليس له إلا ثقل الحمل من غير فائدة. و "يحمل" في موضع نصب على الحال ؛ أي حاملا. ويجوز أن يكون في موضع جر على الوصف ؛ لأن الحمار كاللئيم. قال : ولقد أمر على اللئيم يسبني {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} المثل الذي ضربناه لهم ؛ فحذف المضاف. {وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي من سبق في علمه أنه يكون كافرا. الآية : [6] {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية : [6] {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قال الله تعالى : {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} فللأولياء عند الله الكرامة. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي أسلفوه من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلو تمنوه لماتوا ؛ فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : "والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات" . وفي هذا إخبار عن الغيب ، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى معنى هذه الآية في "البقرة" في قوله تعالى - : {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية : [8] {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال الزجاج : لا يقال : إن زيدا فمنطلق ، وها هنا قال : {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} لما في معنى "الَّذِي" من الشرط والجزاء ، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا يفنع الفرار منه. قال زهير : ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم قلت : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ثم يبتدئ {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} . وقال طرفة : وكفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر فاذكر الموت وحاذر ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر كل شيء سوف يلقى حتفه ... في مقام أو على ظهر سفر والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجيه من الموت الحذر الآية : [9] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه ثلاث عشرة مسألة : الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قرأ عبدالله بن الزبير والأعمش وغيرهما "الجمعة" بإسكان الميم على التخفيف. وهما لغتان. وجمعهما جمع وجمعات. قال الفراء : يقال الجمعة "بسكون الميم" والجمعة "بضم الميم" والجمعة "بفتح الميم" فيكون صفة اليوم ؛ أي تجمع الناس. كما يقال : ضحكة للذي يضحك. وقال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤوها جمعة ؛ يعني بضم الميم. وقال الفراء وأبو عبيد : والتخفيف أقيس وأحسن ؛ نحو غرفة وغرف ، وطرفة وطرف ، وحجرة وحجر. وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل : إنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وعن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم" . وقيل : لأن الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمعت فيها المخلوقات. وقيل : لتجتمع الجماعات فيها. وقيل : لاجتماع الناس فيها للصلاة. و "من" بمعنى "في" ؛ أي في يوم ؛ كقوله تعالى : {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} أي في الأرض. الثانية- قال أبو سلمة : أول من قال : "أما بعد" كعب بن لوي ، وكان أول من سمى الجمعة جمعة. وكان يقال ليوم الجمعة : العروبة. وقيل : أول من سماها جمعة الأنصار. قال ابن سيرين : جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقبل أن تنزل الجمعة ؛ وهم الذين سموها الجمعة ؛ وذلك أنهم قالوا : إن لليهود يوما يجتمعون فيه ، في كل سبعة أيام يوم وهو السبت. وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه - ونستذكر - أو كما قالوا - فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ؛ فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة "أبو أمامة رضي الله عنه" فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا. فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم. فهذه أول جمعه في الإسلام. قلت : وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلا على ما يأتي. وجاء في هذه الرواية : أن الذي جمع بهم وصلى أسعد بن زرارة ، وكذا في حديث عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب على ما يأتي. وقال البيهقي : وروينا عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي : يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه. والله اعلم. وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ؛ فقال أهل السير والتواريخ : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا حتى نزل بقباء ، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى. ومن تلك السنة يعد التاريخ. فأقام بقباء إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة ؛ فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا ؛ فجمع بهم وخطب. وهي أول خطبة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : "الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه ، وأأمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفر به. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسول ، أرسله بالهدى ودين الحق ، والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ، وضلالة من الناس ، وانقطاع" من الزمان ، ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل. من يطيع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعص الله ورسول فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله ، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله. واحذروا ما حذركم الله من نفسه ؛ فإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين ربه من أمره في السر والعلانية ، لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره ، وذخرا فيما بعد الموت ، حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} وهو الذي صدق قول ، وأنجز وعده ، لا خلف لذلك ؛ فإنه يقول تعالى : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية ؛ فإنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما. وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه. وإن تقوى الله تبيض الوجوه ، وترضي الرب ، وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله ، فقد علمكم كتابه ، ونهج لكم سبيله ؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في الله حق جهاده ؛ هو اجتباكم وسماكم المسلمين. ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله تعالى ، واعملوا لما بعد الموت ؛ فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "." وأول جمعة جمعت بعدها جمعة بقرية يقال لها : "جواثي" من قرى البحرين. وقيل : إن أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب ؛ كما تقدم. والله اعلم. الثالثة- خاطب الله المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم خصه بالنداء ، وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى : {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} ليدل على وجوبه وتأكيد فرضه. وقال بعض العلماء : كون الصلاة الجمعة ها هنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ. قال ابن العربي : وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قوله : "من يوم الجمعة" وذلك يفيده ؛ لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة. فأما غيرها فهو عام في سائر الأيام. ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة. الرابعة- فقد تقدم حكم الأذان في سورة "المائدة" مستوفى. وقد كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوات ؛ يؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر. وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا على داره التي تسمى "الزوراء" حين كثر الناس بالمدينة. فإذا سمعوا أقبلوا ؛ حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يخطب عثمان. خرجه ابن ماجة في سننه من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد ؛ إذا خرج أذن وإذا نزل أقام. وأبو بكر وعمر كذلك. فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها "الزوراء" ؛ فإذا خرج أذن وإذا نزل أقام. خرجه البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها : أن الأذان الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام. وقال الماوردي : فأما الأذان الأول فمحدث ، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن ![]()
__________________
|
#705
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الجمعة من صــ 101الى صــ110 الحلقة (705) يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد ، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قال ابن العربي. وفي الحديث الصحيح : أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا ، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء ، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" يعني الأذان والإقامة. ويتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما ، ثم جمعوهم في وفت واحد فكان وهما على وهم. ورأيتهم يؤذنون بمدينة السلام بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة. ، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية. وكل ذلك محدث. الخامسة- قوله تعالى : {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اختلف في معنى السعي ها هنا على ثلاثة أقوال : أولها : القصد. قال الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. الثاني : أنه العمل ، كقوله تعالى : {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، وقوله : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ، وقوله : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وهذا قول الجمهور. وقال زهير : سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم وقال أيضا : وسعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم أي فاعملوا على المضى إلى ذكر الله ، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتوجه إليه. الثالث : أن المراد به السعي على الأقدام. وذلك فضل وليس بشرط. ففي البخاري : أن أبا عبس بن جبر - واسمه عبدالرحمن وكان من كبار الصحابة - مشى إلى الجمعة راجلا وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" . ويحتمل ظاهره رابعا : وهو الجري والاشتداد. قال ابن العربي : وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون. وقرأها عمر : "فامضوا إلى ذكر الله" فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل على الظاهر. وقرأ ابن مسعود كذلك وقال : لو قرأت { فَاسَعَوْا } لسعيت حتى يسقط ردائي. وقرأ ابن شهاب : "فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبيل" . وهو كله تفسير منهم ؛ لا قراءة قرآن منزل. وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير. قال أبو بكر الأنباري : وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود ، وأن خرشة بن الحر قال : رأني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فقال لي عمر : من أقرأك هذا ؟ قلت أبي. فقال : إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ. ثم قرأ عمر "فامضوا إلى ذكر الله" . حدثنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم عن خرشة ؛ فذكره. وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ما سمعت عمر يقرأ قط إلا "فامضوا إلى ذكر الله" . وأخبرنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أن عبدالله بن مسعود قرأ "فامضوا إلى ذكر الله" وقال : لو كانت "فَاسَعَوْا" لسعيت حتى يسقط ردائي. قال أبو بكر : فاحتج عليه بأن الأمة أجمعت على "فَاسَعَوْا" برواية ذلك عن الله رب العالمين ورسول صلى الله عليه وسلم. فأما عبدالله بن مسعود فما صح عنه "فامضوا" لأن السند غير متصل ؛ إذ إبراهيم النخعي لم يسمع عن عبدالله بن مسعود شيئا ، وإنما ورد "فأمضوا" عن عمر رضي الله عنه. فإذا انفرد أحد بما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسيانا منه. والعرب مجمعة على أن السعي يأتي بمعنى المضي ؛ غير أنه لا يخلو من الجد والانكماش. قال زهير : سعى ساعيا غيظ بن مرة بعد ما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم أراد بالسعي المضى بجد وانكماش ، ولم يقصد للعدو والإسراع في الخطو. وقال الفراء وأبو عبيدة : معنى السعي في الآية المضي. واحتج الفراء بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله ؛ معناه هو يمضى بجد واجتهاد. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر : أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساعي فهل يحتمل السعي في هذا البيت إلا مذهب المضى بالانكماش ؛ ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود على فصاحته وإتقان عربيته. قلت : ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العدو قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة" . قال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ؛ ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن ، فإنه جمع الأقوال الثلاثة. وقد جاء في الاغتسال للجمعة والتطيب والتزين باللباس أحاديث مذكورة في كتب الحديث. السادسة- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب المكلفين بإجماع. ويخرج منه المرضى والزمني والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل ، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد" خرجه الدارقطني وقال علماؤنا رحمهم الله : ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الإتيان إليها ؛ مئل المرض الحابس ، أو خوف الزيادة في المرض ، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. ولو يره مالك عذرا له ؛ حكاه المهدوي. ولو تخلف عنها متخلف على ولي حميم له قد حضرته الوفاة ، ولم يكن عنده من يقوم بأمره رجا أن يكون في سعة. وقد فعل ذلك ابن عمر. ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاد ، ولا يجزيه أن يصلي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاص لله بفعله. السابعة- قوله تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} يختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء ، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي ، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس : تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال. وقال ربيعة : أربعة أميال. وقال مالك والليث : ثلاثة أميال. وقال الشافعي : اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيتا ، والأصوات هادئة ، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سور البلد. وفي الصحيح عن عائشة : أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو اغتسلتم ليومكم هذا" قال علماؤنا : والصوت إذا كان منيعا والناس في هدوء وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال. والعوالي من المدينة أقربها على ثلاثة أميال. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : تجب الجمعة على من سمع النداء. وروى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما الجمعة على من سمع النداء" . وقال أبو حنيفة وأصحابه : تجب على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمعه ، ولا تجب على من هو خارج المصر وإن سمع النداء. حتى سئل : وهل تجب الجمعة على أهل زبارة - بينها وبين الكوفة مجرى نهر - ؟ فقال لا. وروي عن ربيعه أيضا : أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقد روي عن الزهري : أنها تجب عليه إذا سمع الأذان. الثامنة- قوله تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليومكما أكبركما" قاله لمالك بن الحويرث وصاحبه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وقد روي عن أبي الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلي قبل الزوال. وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع : كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظل. وبحديث ابن عمر : ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. ومثله عن سهل. خرجه مسلم. وحديث سلمة محمول على التبكير. رواه هشام بن عبدالملك عن يعلي بن الحارث عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه. وروى وكيع عن يعلي عن إياس عن أبيه قال : كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء. وهذا مذهب الجمهور من الخلف والسلف ، وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل ، دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها ، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة. وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. وتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة..." الحديث بكماله إنه كان في ساعة واحدة. وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربي : وهو أصح ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها. التاسعة- فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم ؛ ردا على من يقول : إنها فرض على الكفاية ؛ ونقل عن بعض الشافعية. ونقل عن مالك من لم يحقق : أنها سنة. وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان ؛ لقول الله تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" . وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها وفي سنن ابن ماجة عن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ترل الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها" طبع الله على قلبه ". إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه ". ابن العربي : وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم "." العاشرة- أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات ؛ لقوله عز وجل : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" . وأغربت طائفة فقالت : إن غسل الجمعة فرض. ابن العربي : وهذا باطل ؛ لما روى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا" وهذا نص. وفي الموطأ : أن رجلا دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب - الحديث إلى أن قال : - ما زدت على أن توضأت ، فقال عمر : والوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. فأمر عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع ، فدل على أنه محمول على الاستحباب. فلم يمكن وقد تلبس بالفرض - وهو الحضور والإنصات للخطبة - أن يرجع عنه إلى السنة ، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر ، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. الحادية عشرة : لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد ، خلافا لأحمد بن حنبل فإنه قال : إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة ؛ لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها. وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة. وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة : بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. الثانية عشرة- قوله تعالى : {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ ؛ قاله سعيد بن جبير. ابن العربي : والصحيح أنه واجب في الجميع ؛ وأول الخطبة. وبه قال علماؤنا ؛ إلا عبدالملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته ؛ لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا : إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله. الزمخشري : فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت : ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك ؛ فهو من ذكر الشيطان ، وهو من ذكر الله على مراحل. الثالثة عشرة- قوله تعالى : {وَذَرُوا الْبَيْعَ} منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة ، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله تعالى : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء. وفي وقت التحريم قولان : إنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها ، قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني - من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة ، قال الشافعي. ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة ، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره ، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا : وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربي : والصحيح فسخ الجميع ، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. المهدوي. ورأى بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا ، وتأول النهي عنه ندبا ، واستدل بقوله تعالى : {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} قلت : وهذا مذهب الشافعي ؛ فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ. وقال الزمخشري في تفسير : إن عامة العلماء على أنه ذلك لا يؤدي فساد البيع. قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ؛ فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب. وعن بعض الناس أنه فاسد. قلت : والصحيح فساده وفسخه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" . أي مردود. والله اعلم. الآية : [10] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} هذا أمر إباحة ؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} . يقول : إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي من رزقه. وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى : {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إنه العمل في يوم السبب. وعن الحسن بن سعيد بن المسيب : طلب العمل. وقيل : التطوع. وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ؛ إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله تعالى. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} أي بالطاعة واللسان ، وبالشكر على ما به أنعم عليكم من التوفيق لأداء الفرائض. {لعلكم تفلحون} كي تفلحوا. قال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله تعالى ، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح. وقد مضى هذا مرفوعا في "البقرة" . الآية : [11] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فيه سبع مسألة : الأولى- قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا - في رواية أنا فيهم - فانزلت هذه الآية التي في الجمعة : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . في رواية : فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد ذكر الكلبي وغيره : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت ، وضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ؛ فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا. وقيل : أحد عشر رجلا. قال الكلبي : وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها ، وبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ؛ حكاه الثعلبي عن ابن عباس ، وذكر الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع ؛ فالتفتوا إليها وانفضوا إلها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم. قال : وأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . قال الدارقطني : لم يقل في هذا الإسناد "إلا أربعين رجلا" غير علي بن عاصم عن حصين ، وخالفه أصحاب حصين فقالوا : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا" ؛ ذكره الزمخشري. وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا ، رواه أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد. وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد وبلال ، وعبدالله بن مسعود في إحدى الروايتين. وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر. قلت : لم يذكر جابرا ؛ وقد ذكر مسلم أنه كان فيهم ؛ والدارقطني أيضا. فيكونون ثلاثة عشر. وإن كان عبدالله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر. وقد ذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألا يفعلوا ؛ فقال : حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الوليد قال أخبرني أبو معاذ بكر بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل ، رجل فقال : إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف ؛ فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ؛ فأنزل الله عز وجل : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة. وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ؛ فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه ![]()
__________________
|
#706
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ المنافقون من صــ 111الى صــ120 الحلقة (706) بأصبعة. فكان من المنافقين من ثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، وكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج ؛ فأنزل الله تعالى : {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} الآية. قال السهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحا. وقال قتادة : وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات ؛ كل مرة عير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة. وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارته ونظرهم إلى العير تمر ، لهو لا فائدة فيه ؛ إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على غير ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته ، غلظ وكبر ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وجاء عن وسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كل ما يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه" . الحديث. وقد مضى في سورة "الأنفال" فلله الحمد. وقال جابر بن عبدالله : كانت الجواري إذا نكحن يمررن بالمزامير والطبل فانفضوا إليها ؛ فنزلت. وإنما رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم. وقرأ طلحة بن مصرف "وإذا رأوا التجارة واللهو انفضوا إليها" . وقيل : المعنى وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه فحذف لدلالته. كما قال : نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وقيل : الأجود في العربية أن يجعل الراجع في الذكر للآخر من الاسمين. الثانية- واختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال ؛ فقال الحسن : تنعقد الجمعة باثنين. وقال الليث وأبو يوسف ، تنعقد بثلاثة. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة : بأربعة. وقال ربيعة : باثني عشر رجلا. وذكر النجاد أبو بكر أحمد بن سليمان قال : حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق ، حدثنا صبح بن دينار قال حدثنا المعافي بن عمران حدثنا معقل بن عبيدالله عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة ، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ ، فجمع بهم وهم اثنا عشر رجلا ذبح لهم يومئذ شاة. وقال الشافعي : بأربعين رجلا. وقال أبو إسحاق الشيرازي في "كتاب التنبيه على مذهب الإمام الشافعي" : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمين ، لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة ، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة وجبت عليهم الجمعة. ومال أحمد وإسحاق إلى هذا القول ولم يشترطا هذه الشروط. وقال مالك : إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد. وكتب عمر بن عبدالعزيز : أي قرية اجتمع فيها ثلاثون بيتا فعليهم الجمعة. وقال أبو حنيفة : لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى ، لا يجوز لهم إقامتها فيها. واشترط في وجوب الجمعة وانعقادها : المصر الجامع والسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري. واحتج بحديث علي : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ورفقة تعينهم. وهذا يرده حديث ابن عباس ، قال : إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثي. وحجة الإمام الشافعي في الأربعين حديث جابر المذكور الذي خرجه الدارقطني. وفي سنن ابن ماجة والدارقطني أيضا ودلائل النبوة للبيهقي عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي حين ذهب بصره ، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان ، صلى على أبي أمامة واستغفر له - قال - فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان بالجمعة إلا فعل ذلك ؛ فقلت له : يا أبةِ ، استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ، ما هو ؟ قال : أي بني ، هو أول من جمع بالمدينة في هزم من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات ؛ قال قلت : كم أنتم يومئذ ؟ قال أربعون رجلا. وقال جابر بن عبدالله : مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا ، وذلك أنهم جماعة. خرجه الدارقطني. وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد : قرئ على عبدالملك بن محمد الرقاشي وأنا أسمع حدثني رجاء بن سلمة قال حدثنا أبي قال حدثنا روح بن غطيف الثقفي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة قال : قلت لأبي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل ؟ قال : لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرئ على عبدالملك بن محمد وأنا أسمع قال حدثنا رجاء بن سلمة قال حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على من دون ذلك" . قال ابن المنذر : وكتب عمر بن عبدالعزيز : أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليصلوا الجمعة. وروى الزهري عن أم عبدالله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة" . يعني بالقرى : المدائن. لا يصح هذا عن الزهري. في رواية "الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم" . الزهري لا يصح سماعه من الدوسية. والحكم هذا متروك. الثالثة- وتصح الجمعة بغير إذن الإمام وحضوره. وقال أبو حنيفة : من شرطها الإمام أو خليفته. ودليلنا أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه. وروي أن عليا صلى الجمعة يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه. وروي أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان. وقال مالك : إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها ؛ وليها وال أو لم يلها. الرابعة- قال علماؤنا : من شرط أدائها المسجد المسقف. قال ابن العربي : ولا اعلم وجهه. قلت : وجهه قوله تعالى : {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وقوله : {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وحقيقة البيت أن يكون ذا حيطان وسقف. هذا العرف ، والله اعلم. الخامسة- قوله تعالى : {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطب. قال علقمة : سئل عبدالله أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا ؟ فقال : أما تقرأ {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . وفي صحيح مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبدالرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال : انظروا إلى هذا الخبيث ، يخطب قاعدا وقال الله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . وخرج عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب ؛ فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب ؛ فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة العلماء. وقال أبو حنيفة : ليس القيام بشرط فيها. ويروى أن أول من خطب قاعدا معاوية. وخطب عثمان قائما حتى رق فخطب قاعدا. وقيل : إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته. رواه جابر بن سمرة. ورواه ابن عمر في كتاب البخاري. السادسة- والخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها ؛ وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن : هي مستحبة. وكذا فال ابن الماجشون : إنها سنة وليست بفرض. وقال سعيد بن جبير : هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر ؛ فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر. والدليل على وجوبها قوله تعالى : {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . وهذا ذم ، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا بخطبة. السابعة- ويخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفي سنن ابن ماجة قال حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس ، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا. الثامنة- ويسلم إذا صعد المنبر على الناس عند الشافعي وغيره. ولم يره مالك. وقد روى ابن ماجة من حديث جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم. التاسعة : فإن خطب على غير طهارة الخطبة كلها أو بعضها أساء عند مالك ؛ ولا إعادة عليه إذا صلى طاهرا. وللشافعي قولان في إيجاب الطهارة ؛ فشرطها في الجديد ولم يشترطها في القديم. وهو قول أبي حنيفة. العاشرة- وأقل ما يجزي في الخطبة أن يحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويوصي بتقوى الله ويقرأ آية من القران. ويجب في الثانية أربع كالأولى ؛ إلا أن الواجب بدلا من قراءة الآية في الأولى الدعاء ؛ قال أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة : لو اقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزأه. وعن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله ، وارتج عليه فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وستأتيكم الخطب ؛ ثم نزل فصلى. وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد. وقال أبو يوسف ومحمد : الواجب ما تناوله اسم خطبة. وهو قول الشافعي. قال أبو عمر بن عبدالبر : وهو أصح ما قيل في ذلك. الحادية عشرة- في صحيح مسلم عن يعلى بن أمية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} . وفيه عن عمرة بنت عبدالرحمن عن أخت لعمرة قالت : ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وقد مضى في أول "ق" . وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال : كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم "الحمد لله. نحمده ونستعينه ونستغفره ،" ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله ؛ وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه ، فإنما نحن به وله ". وعنه قال : بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب :" كل ما هو آت قريب ، ولا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخف لأمر الناس. ما شاء الله لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا ، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله جل وعز ". وقال جابر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب فيقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه :" أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ". وقد تقدم ما خطب به عليه الصلاة والسلام أول جمعة عند قدومه المدينة." الثانية عشرة- السكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سنة. والسنة أن يسكت لها من يسمع ومن لم يسمع ، وهما إن شاء الله في الأجر سواء. ومن تكلم حينئذ لغا ؛ ولا تفسد صلاته بذلك. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" . الزمخشري : وإذا قال المنصت لصاحبه صه ؛ فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغياً نعوذ بالله من غربة الإسلام و نكد الأيام الثالثة عشرة- ويستقبل الناس الإمام إذا صعد المنبر ؛ لما رواه أبو داود مرسلا عن أبان بن عبدالله قال : كنت مع عدي بن ثابت يوم الجمعة ؛ فلما خرج الإمام - أو قال صعد المنبر - استقبله وقال : هكذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن ماجة عن عدي بن ثابت عن أبيه ؛ فزاد في الإسناد : عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجة : أرجو أن يكون متصلا. قلت : وخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن الفضل الخراساني عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. تفرد به محمد بن الفضل بن عطية عن منصور. الرابعة عشرة- ولا يركع من دخل المسجد والإمام يخطب ؛ عند مالك رحمه الله. وهو قول ابن شهاب رحمه الله وغيره. وفي الموطأ عنه : فخروج الإمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام. وهذا مرسل. وفي صحيح مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" . وهذا نص في الركوع. وبه يقول الشافعي وغيره. الخامسة عشرة-.. ابن عون عن ابن سيرين قال : كانوا يكرهون النوم والإمام يخطب ويقولون فيه قولا شديدا. قال ابن عون : ثم لقيني بعد ذلك فقال : تدري ما يقولون ؟ قال : يقولون مثلهم كمثل سرية أخفقوا ؛ ثم قال : هل تدري ما أخفقوا ؟ لم تغنم شيئا. وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه وليتحول صاحبه إلى مقعده" . السادسة عشرة- نذكر فيها من فضل الجمعة وفرضيتها ما لم نذكره. روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه" وأشار بيده يقللها. وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة" . وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ علينا ذات يوم ؛ فلما خرج قلنا : احتبست! قال : "ذلك أن جبريل أتاني بكهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطؤوها وهداكم الله لها قلت يا جبريل ما هذه النكتة السوداء قال هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنه خير الأيام عند الله وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد" . وذكر الحديث. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام قالا : حدثنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبى عبيده بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال : تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض ، فيكونون منه في القرب - قال ابن المبارك - على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام : كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا. وزاد فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. قال يحيى : وسمعت غير المسعودي يزيد فيه : وهو قوله تعالى : {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قلت : قوله "في كثيب" يريد أهل الجنة. أي وهم على كثيب ؛ كما روى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه وفيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن" أصوات سمعها الأولون والآخرون فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد ما شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله لهم في كل جمعة "ذكره يحيى بن سلام. وعن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ليلة أسري بي رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل مدائنكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة "ذكره الثعلبي. وخرج القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبدالله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبدالله بن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها ويبعث الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها ، ألوانهم كالثلج بياضا ، وريحهم يسطع كالمسك ، يخوضون في جبال الكافور ، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون ". وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال" الجمعة إلى الجمعة كفاره ما بينهما ما لم تغش الكبائر "خرجه مسلم بمعناه.وعن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ". وعن جابر بن عبدالله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا. وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا. وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتؤجروا. واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره. ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له. ألا ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه. ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه ". وقال ميمون بن أبي شيبة : أردت الجمعة مع الحجاج فتهيأت للذهاب ، ثم قلت : أين اذهب أصلي خلف هذا الفاجر ؟ فقلت مرة : أذهب ، ومرة لا أذهب ، ثم أجمع رأيي على الذهاب ، فناداني مناد من جانب البيت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ." السابعة عشرة- قوله تعالى : {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} فيه وجهان : أحدهما : ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني : ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم. وقرأ أبو رجاء العطاردي : "قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا" . {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فمنه فاطلبوا ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. سورة المنافقون بسم الله الرحمن الرحيم مدنية في قول الجمع ، وهي إحدى عشرة آية الآية : [1] {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} قوله تعالى : {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبدالله بن أبي ابن سلول يقول : "لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا" . وقال : "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز" ![]()
__________________
|
#707
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ المنافقون من صــ 121الى صــ130 الحلقة (707) منها الأذل "فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ؛ فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. فأصابني هم لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل : {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ - إلى قوله - هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله - إلى قوله - لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال :" إن الله قد صدقك "خرجه الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح. وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حول حجارة ، ويجعل النطع عليه حتى تجيء أصحابه. قال. : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا فغاض الماء ؛ فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبدالله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبدالله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ؛ فقال عبدالله : إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام ، فليأكل هو ومن عنده. ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبدالله بن أبي فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد. قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون. قال : فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع على أحد. قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" في سفر قد خففت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ؛ فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول اله صلى الله عليه وسلم قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ؛ فقال أبشر! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر. فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه.وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" . وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" . أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا ، وخبره صدق. وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال : إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا واؤتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال ؛ شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق. وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق. وقد مضى في سورة "التوبة" القول في هذا مستوفى والحمد لله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى" . والمعنى : المؤمن الكامل إذا حدث صدق. والله اعلم. قوله تعالى : {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قيل : معنى "نَشْهَدُ" نحلف. فعبر عن الحلف بالشهادة ؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب ؛ ومنه قول قيس بن ذريح. وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} كما قالوه بألسنتهم. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم. وقال الفراء : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} بضمائرهم ، فالتكذيب راجع إلى الضمائر. وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب ، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب. ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب. وقد مضى هذا المعنى في أول "البقرة" مستوفى وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى : {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} الآية : [2] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فيه ثلاث مسأئل : الأولى- قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي سترة. وليس يرجع إلى قوله {نشهد إنك لرسول الله} وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه ، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال. وقال الضحاك : يعني حلفهم بالله {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} وقيل : يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة "التوبة" إذ قال : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الثانية- من قال أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله ، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله ، فقال في ذلك كله "بالله" فلا خلاف أنها يمين. وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال : أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف ، ولم يقل "بالله" ، إذا أراد "بالله" . وإن لم يرد "بالله" فليس بيمين. وحكاه الكيا عن الشافعي ، قال الشافعي : إذا قال أشهد بالله ونوى اليمين كان يمينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو قال أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا ، ولو قال أشهد لقد كان كذا دون النية كان يمينا لهذه الآية ، لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال : {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين ، لأن قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ليس يرجع إلى قوله : {قَالُوا نَشْهَدُ} وإنما يرجع إلى ما في "التوبة" من قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} . الثالثة- قوله تعالى : {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي أعرضوا ، وهو من الصدود. أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي وأخذ الأموال ، فهو من الصد ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويفتدي بهم غيرهم. وقيل : فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ، بأن يقولوا ها نحن كافرون بهم ، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا ، ولجعلنا نكالا. فبين الله أن حالهم لا يخفي عليه ، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان أجرى عليه في الظاهر حكم الإيمان. {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئست أعمالهم الخبيئة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله أعمالا. الآية : [3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب. وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم أرتدوا {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها بالكفر {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} الإيمان ولا الخير. وقرأ زيد بن علي {فَطُبِعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ} . الآية : [4] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} أي هيئاتهم ومناظرهم. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يعني عبدالله بن أبي. قال ابن عباس : كان عبدالله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة. وقال الكلبي : المراد ابن أبى وجد بن قيس ومعتب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وفي صحيح مسلم : {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قال : كانوا رجالا أجمل شيء كأنهم خشب مسندة ، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون ، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام. وقيل : شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها. وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي "خشْب" بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد ، لأن واحدتها خشبة. كما تقول : بدنة وبدن ، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل. ويلزم من ثقلها أن تقول : البدن ، فتقرأ "والبدن" . وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء ، كقول عز وجل : {وَحَدَائِقَ غُلْباً} واحدتها حديقة غلباء. وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو ، وأكثر الروايات عن عاصم. واختاره أبو حاتم ، كأنه جمع خشاب وخشب ، نحو ثمرة وثمار ثمر. وإن شئت جمعت خشبة على خشبة كما قالوا : بدنة وبدن وبدن. وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في "خشب" . قال سيبويه : خشبة وخشب ، مثل بدنة وبدن ، قال : ومثله بغير هاء أسد وأسد ، ووثن ووثن وتقرأ خشب وهو جمع الجمع ، خشبة وخشاب وخشب ، مثل ثمرة وثمار وثمر. والإسناد الإمالة ، تقول : أسندت الشيء أي أملته. و "مسندة" للتكثير ؛ أي استندوا إلى الأيمان بحقن دمائهم. قوله تعالى : {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. فـ "هم العدو" في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي : أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون ؛ لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الأخطل : ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا وقيل : {يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو} كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد ؛ وتقديره : يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم ؛ لأن للريبة خوفا. ثم استأنف الله خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : {هم العدو} وهذا معنى قول الضحاك وقيل : يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ؛ فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم ، ويهتك به أستارهم. وفي هذا المعنى قول الشاعر : فلو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومة تدعو عبيدا وأزنما بطن من بني ، يربوع. ثم وصفهم الله بقوله : {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} حكاه عبدالرحمن بن أبي حاتم. وفي قوله تعالى : {فَاحْذَرْهُمْ} وجهان : أحدهما : فَاحْذَرْ أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني : فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك. قوله تعالى : {قاتلهم الله} أي لعنهم الله قال ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره! يضعونه موضع التعجب. وقيل : معنى {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر ؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي يكذبون ؛ قاله ابن عباس. قتادة : معناه يعدلون عن الحق. الحسن : معناه يصرفون عن الرشد. وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل ؛ وهو من الإفك وهو الصرف. و "أنى" بمعنى كيف ؛ وقد تقدم. الآية : [5] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا : افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق ، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم ؛ أي حركوها استهزاء وإباء ؛ قال ابن عباس. وعنه أنه كان لعبدالله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله ؛ فقيل له : وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان : فأته يستغفر لك ؛ فأبى وقال : لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال لـ "المريسيع" من ناحية "قديد" إلى الساحل ، فأزدحم أجير لعمر يقال له : "جهجاه" مع حليف لعبدالله بن أبي يقال له : "سنان" على ماء "بالمشلل" ؛ فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وصرخ سنان بالأنصار ؛ فلطم جهجاه سنانا فقال عبدالله بن أبي : أوقد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز - يعني أبيا - الأذل ؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال لقومه : كفوا طعامكم عن هذا الرجل ، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبدالله - أنت والله الذليل المنتقص في قومك ؛ ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين ، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبدالله : اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقول : فأقسم بالله ما فعل ولا قال ؛ فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد : فوجدت في نفسي ولا مني الناس ؛ فنزلت سورة النافقين في تصديق زيد وتكذيب عبدالله. فقيل لعبدالله : قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك ؛ فألوى برأسه ، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة. وقيل : {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ} يستتبكم من النفاق ؛ لأن التوبة استغفار . {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الإيمان. وقرأ نافع "لووا" بالتخفيف. وشدد الباقون ؛ واختاره أبو عبيد وقال : هو فعل لجماعة. النحاس : وغلط في هذا ؛ لأنه نزل في عبدالله بن أبي لما قيل له : تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك رأسه استهزاء. فإن قيل : كيف أخبر عنه بفعل الجماعة ؟ قيل له : العرب تفعل هذا إذا كنت عن الإنسان. أنشد سيبويه لحسان : ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم ... وفينا رسول عنده الوحي واضعه وإنما خاطب حسان ابن الأبيرق في شيء سرقه بمكة. وقصته مشهورة. وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله. وقيل : قال ابن أبي لما لوى رأسه : أمرتموني أن أومن فقد آمنت ، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت ؛ فما بقي إلا أن أسجد لمحمد. الآية : [6] {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} قوله تعالى : {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} يعني كل ذلك سواء ، لا ينفع استغفارك شيئا ؛ لأن الله لا يغفر لهم. نظيره : {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} . وقد تقدم. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا. الآية : [7] {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال : لا تنفقوا علي من عند محمد حتى ينفضوا ؛ حتى يتفرقوا عنه. فاعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له ، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال : {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . وقال الجنيد : خزائن السموات الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب ؛ فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول : {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فأين تذهبون. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} أنه إذا أراد أمرا يسره. الآية : [8] {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل : إنه لما قال : {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات ؛ فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألبسه قميصه ؛ فنزلت هذه الآية : {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وقد مضى بيانه هذا كله في سورة "التوبة" مستوفى. وروي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لأبيه : والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل ؛ فقاله. توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع ؛ فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله. الآية : [9] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} حذر المؤمنين أخلاق المنافقين ؛ أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا - للشح بأموالهم - : لا تنفقوا على من عند رسول الله. {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي عن الحج والزكاة. وقيل : عن قراءة القرآن. وقيل : عن إدامة الذكر. وقيل : عن الصلوات الخمس ؛ قاله الضحاك. وقال الحسن : جمع الفرائض ؛ كأنه قال عن طاعة الله. وقيل : هو خطاب للمنافقين ؛ أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . الآية : [10] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} الآية : [11] { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيه أربع مسائل : الأولى- قوله تعالى : {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها. الثانية- قوله تعالى : {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا. وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، إنما سأل الرجعة الكفار. فقال : سأتلو عليك بذلك قرانا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ إلى قوله- وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة. "قلت" : ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب "منهاج الدين" مرفوعا فقال : وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان عنده مال يبلغه الحج..." الحديث ؛ فذكره. وقد تقدم في "آل عمران" لفظه. الثالثة- قال ابن العربي : أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل ؛ فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال ؛ لأنا إن قلنا : إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء ؛ فلا تخرج الآية عليه. وإن قلنا : إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح ؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس ![]()
__________________
|
#708
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ التغابن من صــ 131الى صــ140 الحلقة (708) فيه مدخل ؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن ؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد. الرابعة- قوله تعالى : {لَوْلا} أي هلا ؛ فيكون استفهاما. وقيل : "لا" صلة ؛ فيكون الكلام بمعنى التمني. {فَأَصَّدَّقَ} نصب على جواب التمني بالفاء. {وَأَكُونْ} عطف على "فَأَصَّدَّقَ" وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد. وقرأ الباقون "وَأَكُنْ" بالجزم عطفا على موضع الفاء ؛ لأن قوله : "فأصدق" لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ؛ أي أصدق. ومثله : {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } فيمن جزم. قال ابن عباس : هذه الآية أشد على أهل التوحيد ؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. قلت : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالياء ؛ على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة. سورة التغابن مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك : مكية. وقال الكلبي : هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن "سورة التغابن" نزلت بمكة ؛ إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} إلى آخر السورة. وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن" . مقدمة السورة بسم الله الرحمن الرحيم الآية : [1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقدم في غير موضع. الآية : [2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال : "يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا" . وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا" . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" . خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع.وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" . قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ؛ فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر. وقيل في الكلام محذوف : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق ؛ فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه ؛ قاله الحسن. وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا : وتمام الكلام {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} . ثم وصفهم فقال : {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} كقوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية. قالوا : فالله خلقهم ؛ والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل ، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} . واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" الحديث. وقد مضى في "الروم" مستوفى. قال الضحاك : فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباج : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب ؛ يعني في شأن الأنواء. وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال ، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة - : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ؛ مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ؛ مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جعل ، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر ؛ كما قال الشاعر : يا ناظرا في الدين ما الأمر ... لا قدرٌ صحَّ ولا جبْر وقال سيلان : قدم أعرابي البصرة فقيل له : ما تقول في القدر ؟ فقال : أمر تغالت فيه الظنون ، واختلف فيه المختلفون ؛ فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. الآية : [3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} تقدم في غير موضع ؛ أي خلقها حقا يقينا لا ريب فيه. وقيل : الباء بمعنى اللام أي خلقها للحق وهو أن يجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} يعني آدم عليه السلام ، خلقه بيده كرامة ، له ؛ قاله مقاتل. الثاني : جميع الخلائق. وقد مضى معنى التصوير ، وأنه التخطيط والتشكيل. فإن قيل : كيف أحسن صورهم ؟ قيل له : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صورة بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب ؛ كما قال عز وجل : {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي المرجع ؛ فيجازي كلا بعمله. الآية : [4] {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة ، لا يخفى عليه شيء. الآية : [5] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي عوقبوا. {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع. وقد تقدم. الآية : [6] {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} قوله تعالى : {ذَلِكَ} أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم {بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالدلائل الواضحة. {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أنكروا أن يكون الرسول من البشر. وارتفع "أبشر" على الابتداء. وقيل : بإضمار فعل ، والجمع على معنى بشر ؛ ولهذا قال : {يهدوننا} ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس ؛ وواحده إنسان لا واحد له من لفظه. وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد ؛ نحو قوله تعالى : {مَا هَذَا بَشَراً} . {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} أي بهذا القول ؛ إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده. وقيل : كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أي بسلطانه عن طاعة عباده ؛ قاله مقاتل. وقيل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان ، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية. الآية : [7] {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قوله تعالى : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح : لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. قيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة "مريم" ، ثم عمت كل كافر. {قُلْ} يا محمد {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} أي لتخرجن من قبوركم أحياء. {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} لتخبرن . {بِمَا عَمِلْتُمْ} أي بأعمالكم. {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} إذ الإعادة أسهل من الابتداء. الآية : [8] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قوله تعالى : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} وهو القرآن ، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . الآية : [9] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} العامل في "يَوْمَ" "لَتُنَبَّؤُنَّ" أو "خَبِيرٌ" لما فيه من معنى الوعد ؛ كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغبن : النقص. يقال : غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. وقراءة العامة "يجمعكم" بالياء ؛ لقوله تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فاخبر. ولذكر اسم الله أولا. وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام "نجمعكم" بالنون ؛ اعتبارا بقوله : {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} . ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض. وقيل : هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل : لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أي يوم القيامة. قال : وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ... ألا إنما الراحات يوم التغابن وسمى يوم القيامة يوم التغابن ؛ لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة ، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة ؛ فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب. يقال : غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك. وكذا أهل الجنة وأهل النار ؛ على ما يأتي بيانه. ويقال : غبنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا ؛ فهو نقصان أيضا. والمغابن : ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين. قال المفسرون : فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة. ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام. قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته. الثانية- فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها. قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع ؛ كما قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} . ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا ، وذكر أيضا أنهم غبنوا ؛ وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا. وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين : فريقا للجنة وفريقا للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار ، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول ؛ فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب. وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} والله اعلم. وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد ؛ ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته. وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف : رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به ، وعمل به من تعلمه منه فنجا به. ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه ، وفرط في طاعة ربه بسببه ، ، ولم يعمل فيه خيرا ، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه ؛ فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه. ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم" يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به "فذلك يوم التغابن." الثالثة- قال ابن العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى : {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال : {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ؛ فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه : منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ : "إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا" . وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف. نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين ؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة ، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد ، فمضى في البيوع ؛ إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا ؛ لأنه لا يخلو منه ، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم ، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد ؛ إذ رأوه في الوصية وغيرها. ويكون معنى الآية على هذا : ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل. أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا ؛ لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين : إما برد في بعض الأحوال ، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى. فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا. وقد قال بعض علماء الصوفية : إن اله كتب الغبن على الخلق أجمعين ، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا ، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب. وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد" . قوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَندْخِلْهُ جَنَّاتٍ} قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما ، والباقون بالياء. الآية : [10] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} يعني القرآن {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكافرين ؛ كما تقدم في غير موضع. الآية : [11] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله. وقيل : إلا بعلم الله. وقيل : سبب نزولها إن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا ؛ فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل ، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه. قوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. {يَهْدِ قَلْبَهُ} للصبر والرضا. وقيل : يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الجيزي : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} عند المصيبة فيقول : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ؛ قاله ابن جبير. وقال ابن عباس : هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي : هو إذا أبتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر. وقيل : يهد طبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة "يَهْدِ" بفتح الياء وكسر الدال ؛ لذكر اسم الله أولا. وقرأ السلمي وقتادة "يهد قلبه" بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء ؛ لأنه اسم فعل لم يسم فاعله. وقرأ طلحة بن مصرف والأعرج {نهد} بنون على التعظيم "قَلْبَهُ" بالنصب. وقرأ عكرمة "يَهْدِأ قَلْبَهُ" بهمزة ساكنة ورفع الباء ، أي يسكن ويطمئن. وقرأ مثله مالك بن دينار ، إلا أنه لين الهمزة. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره ، ولا كراهة من كرهه. الآية : [12] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} الآية : [13] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي هونوا على أنفسكم المصائب ، واشتغلوا بطاعة الله ، واعملوا بكتابه ، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته ؛ فإن توليتم عن الطاعة فليس على الرسول إلا التبليغ . {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود سواه ، لا خالق غيره فعليه توكلوا. الآية : [14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيه خمس مسائل : الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ؛ شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ؛ فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة "التغابن" كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق فيقيم ؛ فنزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ![]()
__________________
|
#709
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الطلاق من صــ 141الى صــ150 الحلقة (709) إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} - قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ؛ فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} الآية. هذا حديث حسن صحيح. الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا يبين وجه العداوة ؛ فان العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا ، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن يدخله الجنة" . وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة. والثاني : بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب ؛ قال الله تعالى : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت : 25] . وفي حكمة عيسى عليه السلام : من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس" وإذا شيك فلا انتقش ". ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم ، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد." الثالثة- كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله : {من أزواجكم} يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم. الرابعة- قوله تعالى : {فَاحْذَرُوهُمْ} معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين : إما لضرر في البدن ، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا ، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به. الخامسة- قوله تعالى : {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قال : كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله : أين تذهب وتدعنا ؟ قال : فإذا أسلم وفقه قال : لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر ، فلأفعلن ولأفعلن ؛ قال : فأنزل الله عز وجل : {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقال مجاهد في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} قال : ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فاعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم. الآية : [15] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث : "يؤتى برجل يوم القيامة" فيقال أكل عياله حسناته ". وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي :" فِتْنَةٌ "أي إغرام ؛ يقال : فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها. وقيل :" فِتْنَةٌ "محنة. ومنه قول الشاعر :" لقد فتن الناس في دينهم ... وخلَّى ابن عفان شرا طويلا وقال ابن مسعود : لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة ؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ؛ ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} : أدخل "من" للتبعيض ؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر "من" في قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ؛ فجاء الحسن والحسين - عليهما السلام - وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ؛ فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما بين يديه ، ثم قال : "صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" ثم أخذ في خطبته. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يعني الجنة ، فهي الغاية ، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبحاري - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" . ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك : امتحن الله به خلقه ... فالنار والجنة في قبضته فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته الآية : [16] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآية : [17] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} فيه خمس مسائل : الأولى : ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري : وحدثني يونس بن عبدالأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال : جاء أمر شديد ، قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وقيل : هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس : قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إنها لم تنسخ ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده ، ولا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم. الثانية- فإن قيل : فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن : {فاتقوا الله ما استطعتم} وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حق تقاته ، والأمر باتقائه ما استطعنا. والأمر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط ، والأمر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له : قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بمعزل مما دل عليه قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وإنما عنى بقوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم ، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام ؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم ؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ - إلى قوله فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك ؛ فكذلك معنى قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} عقيب قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك ؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فيما تطوع به من نافلة أو صدقة ؛ فإنه لما نزل قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الأولى ؛ قاله ابن جبير. قال الماوردي : ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها. الثالثة- قوله تعالى : {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل : اسمعوا "أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله ؛ وهو الأصل في السماع." وأطيعوا "لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة : عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل :" واسمعوا "أي اقبلوا ما تسمعون ؛ وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته." قلت : وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبدالملك بن مروان فقال : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} هي لعبدالملك بن مروان أمين الله وخليفته ، ليس فيها مثنوية ، والله لو أمرت رجلا أن يخرج ن باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى الرابعة- قوله تعالى : {وَأَنْفِقُوا} قيل : هو الزكاة ؛ قاله ابن عباس. وقيل : هو النفقة في النفل. وقال الضحاك : هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن : هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي : وإنما أوقع قائل هذا قوله : {لأَنْفُسِكُمْ} وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه ؛ قال الله تعالى : {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فال له رجل : عندي دينار ؟ قال : "أنفقه على نفسك" قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على عيالك" قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على ولدك" قال : عندي آخر ؟ قال : "تصدق به" فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع. الخامسة- قوله تعالى : {خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} "خيرا" نصب بفعل مضمر عند سيبويه ؛ دل عليه "وأنفقوا" كأنه قال : ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم ، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والقراء نعت لمصدر محذوف ؛ أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة ؛ أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ "ـَأَنْفِقُوا" . قوله تعالى : {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تقدم الكلام فيه. وكذا {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} تقدم الكلام فيه.أيضاً في "البقرة" وسورة "الحديد" {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} تقدم معنى الشكر في "البقرة" . والحليم : الذي لا يعجل. الآية : [18] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قوله تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب وحضر. وهو {الْعَزِيزُ} أي الغالب القاهر. فهو من صفات الأفعال ، ومنه قوله عز وجل : {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء. وقال الخطابي : وقد يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : عز يعز "بكسر العين" فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادل شيء وأنه لا مثل له.والله اعلم. {الْحَكِيمِ} في تدبير خلقه. وقال ابن الأنباري : {الْحَكِيمِ} هو المحكم لخلق الأشياء ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، ومنه قوله عز وجل : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} معناه المحكم ، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم. سورة الطلاق مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية ، أو اثنتا عشرة آية. مقدمة السورة بسم الله الرحمن الرحيم الآية : [1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا} فيه أربع عشرة مسألة : الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وقيل له : راجعها فإنها قوامة صوامة ، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة ، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية. وقال السدي : نزلت في عبدالله بن عمر ، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر ، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل : أن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبدالله بن عمر ، منهم عبدالله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل. والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة ، كما قال : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} تقديره : يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم ، : إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقول : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} . فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } . قلت : ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل : المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما ، ثم ابتدأ فقال : {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ؛ كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} الآية. فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم ؛ ثم افتتح فقال : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} الآية. الثانية- روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق" . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش" . وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات" . وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق" . أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. وروى الدارقطني قال : حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استئناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه" . حدثنا محمد بن موسى بن علي قال : حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد : قال لي يزيد بن هارون : وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا ؟ قلت : ![]()
__________________
|
#710
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (18) سُورَةُ الطلاق من صــ 151الى صــ160 الحلقة (710) هو جدي. قال يزيد : سررتني سررتني! الآن صار حديثا. حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثنياه" . قال ابن المنذر : اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق ؛ فقالت طائفة : ذلك جائز. وروينا هذا القول عن طاوس. وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي. وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول. الثالثة : روى الدارقطني من حديث عبدالرزاق أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول : الطلاق على أربعة وجوه : وجهان حلالان ووجهان حرامان ؛ فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن اطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض ، أو يطلقها حين يجامعها ، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا. الرابعة : قوله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق ؛ فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقد تقدم. الخامسة : قوله تعالى : {لِعِدَّتِهِنَّ} يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج ؛ لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} السادسة : من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة. وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة. وقال سعيد بن المسيب في أخرى : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة. وفي الصحيحين - واللفظ للدارقطني - عن عبدالله بن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض ؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله" . وكان عبدالله بن عمر طلقها تطليقة ، فحسبت من طلاقها وراجعها عبدالله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "هي واحدة" . وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم. السابعة : عن عبدالله بن مسعود قال : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة ؛ فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. رواه الدارقطني عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله. قال علماؤنا : طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض ، طاهرا ، لم يمسها في ذلك الطهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة. وقال الشعبي : يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا : يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه ، ولا تبعه طلاق في عدة ، ولا يكون الظهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" . وتعلق الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي : "وهذه غفلة عن الحديث" الصحيح ؛ فإنه قال : "مرة فليراجعها" وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال : أرأيت لو طلقها ثلاثا ؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك : {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} . وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء ؛ وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا ، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي : إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه ، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. أما نصه فقد قدمناه ، وأما معناه فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به ، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع ؛ لأنه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له. قلت : وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ؛ فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك. قال : وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة ؛ فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه. واحتج أيضا بحديث عويمر العجلاني لما لاعن قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاث. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال. بيانه في غير هذا الموضع. وقد ذكرناه في كتاب "المقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس" . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع ؛ فشبهوه بمن وكل بطلاق السنة فخالف. الثامنة : قال الجرجاني : اللام في قوله تعالى : {لِعِدَّتِهِنَّ} بمعنى في ؛ كقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} أي في أول الحشر. فقوله : {لِعِدَّتِهِنَّ} أي في عدتهن ؛ أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن. وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه. ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. وقد مضى القول فيه في "البقرة" فإن قيل : معنى {فطلقوهن لعدتهن} أي في قبل عدتهن ، أو لقبل عدتهن. وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره. فقيل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض ، قيل له : هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله ؛ على أن الأقراء هي الأطهار. ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال : إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض ؛ لأن الحيض لم يقبل بعد. وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض ، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض. ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس ؛ إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار. ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء ، ولأن بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة ؛ لقوله تعالى : {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وهو ينفر في بعض اليوم الثاني. وقد مضى هذا كله في "البقرة" مستوفى. التاسعة- قوله تعالى : {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} يعني في المدخول بها ؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها ، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة ، ويكون بعدها كأحد الخطاب. ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. العاشرة- قوله تعالى : {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} معناه احفظوها ؛ أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق ، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} حلت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار وليست بالحيض. ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم "لقبل عدتهن" وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة ، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره. الحادية عشرة- من المخاطب بأمر الإحصاء ؟ وفيه ثلاث أقوال : أحدها : أنهم الأزواج. الثاني : أنهم الزوجات. الثالث : أنهم المسلمون. ابن العربي : "والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج ؛ لأن الضمائر كلها من" طلقتم "و" أحصوا "و" لا تخرجوا "على نظام واحد يرجع إلى الأزواج ، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج ؛ لأن الزوج يحصي ليراجع ، وينفق أو يقطع ، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة ، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك. وكذلك الحاكم يفتقر إلى الإحصاء للعدة للفتوى عليها ، وفصل الخصومة عند المنازعة فيها. وهذه فوائد الإحصاء المأمور به" . الثانية عشرة- قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أي لا تعصوه. {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن ؛ كقوله تعالى : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، وقوله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله : {لا تُخْرِجُوهُنَّ} يقتضي أن يكون حقا في الأزواج. ويقتضي قوله : {وَلا يَخْرُجْنَ} أنه حق على الزوجات. وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبدالله قال : طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج ؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا" . خرجه مسلم. ففي هدا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم : أن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها ، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية : لا تخرج ليلا ولا نهارا ، وإنما تخرج نهارا المبتوتة. وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفي عنها زوجها ، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا. والحديث يرد عليه.وفي الصحيحين أن أبا حفص بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن ، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها ، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة ؛ فقالا لها : والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهما. فقال : "لا نفقة لك" ، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها ؛ فقالت : أين يا رسول الله ؟ فقال : "إلى ابن أم مكتوم" ، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث ، فحدثته. فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة ، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل : {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية ، قالت : هذا لمن كانت له رجعة ؛ فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا ، فعلام تحبسونها ؟ لفظ مسلم. فبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية. وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية ؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في أرتجاعها ما دامت في عدتها ؛ فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت. وأما البائن فليس له شيء من ذلك ؛ فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة ، أو خافت عورة منزلها ؛ كما أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي مسلم - قالت فاطمة يا رسول الله ، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي. قال : فأمرها فتحولت.وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها ؛ فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها. وهذا كله يرد على الكوفي قول. وفي حديث فاطمة : أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ؛ فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي. وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة ؛ على ما تقدم. الثالثة عشرة- قوله تعالى : {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد : هو الزنى ؛ فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضا والشافعي : أنه البذاء على أحمائها ؛ فيحل لهم إخراجها. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل. وفي كتاب أبي داود قال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس ، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى. قال عكرمة : في مصحف أبي "إلا أن يفحشن عليكم" . ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت ؟ وعن ابن عباس أيضا : الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وهو اختيار الطبري. وعن ابن عمر أيضا والسدي : الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق ؛ أي لو خرجت كانت عاصية. وقال قتادة : الفاحشة النشوز ، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته. قال ابن العربي : أما من قال إنه الخروج للزنى ؛ فلا وجه له ؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام : وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. وأما من قال : إنه البذاء ؛ فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس. وأما من قال : إنه كل معصية ؛ فوهم لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج. وأما من قال : إنه الخروج بغير حق ؛ فهو صحيح. وتقدير الكلام : لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا. الرابعة عشرة- قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد ، وقد منع التجاوز عنها فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه ؛ فيراجعها. وقال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ؛ فإنه إذا طلق أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. وقال مقاتل : {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد طلقة أو طلقتين {أَمْراً} أي المراجعة من غير خلاف. الآية : [2] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} الآية : [3] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} قوله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن انقضاء العدة ؛ كقوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي قربن من انقضاء الأجل. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني المراجعة بالمعروف ؛ أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في "البقرة" . {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن. وفي قوله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا أدعت ذلك ، على ما بيناه في سورة "البقرة" عند قوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية. قوله تعالى : {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فيه ست مسائل : الأولى- قوله تعالى : {وَأَشْهِدُوا} أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل : على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ؛ كقوله تعالى : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وعند الشافعي واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد ، وإلا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث. الثانية- الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة ، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك ، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا : والنظر إلى الفرج رجعة. وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل : وطؤه مراجعة على كل حال ، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان مالك يقول : إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد ؛ ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليس له رجعة في هذا الاستبراء. الثالثة- أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر : إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول ، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي : وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول : كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة ، ومن شرط الرجعة الإشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول : إنه موضع للتوثق ، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء. الرابعة- من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة ، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت ، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك ، وكانت زوجته ، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما : أن الأول أحق بها. والأخرى : أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها. الخامسة- قوله تعالى : {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال الحسن : من المسلمين. وعن قتادة : من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث ؛ لأن "ذوي" مذكر. ولذلك قال علماؤنا : لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. وقد مضى ذلك في سورة "البقرة" . "" السادسة- قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها ، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة "البقرة" معناه عند قوله تعالى : {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} قوله تعالى : {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} أي يرضى به. {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ. قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج ؟ فتلاها. وقال ابن عباس والشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ؛ أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة. وعن ابن عباس أيضا {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه ؛ قاله علي بن صالح. وقال الكلبي : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} بالصبر عند المصيبة. {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} من النار إلى الجنة. وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية : مخرجا من كل شدة. الربيع بن خيثم : {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} من كل شيء ضاق على الناس. الحسين بن الفضل : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في أداء الفرائض ، : {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} من العقوبة. "وَيَرْزُقْهُ" الثواب ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 34 ( الأعضاء 0 والزوار 34) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |