|
ملتقى القصة والعبرة قصص واقعية هادفة ومؤثرة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#31
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (32) إنكار المنكر ينجي - وماذا لو لم نتمكن من تغيير المنكر وإيقافه؟ - ليس المطلوب إيقاف المنكر وإنما إنكاره، وفرق كبير بينها. - ألم يرد في الحديث: «من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان».؟ - نعم، الحديث عن أبى سعيد الخدري وهو في صحيح مسلم. - والرسول -[- استعمل كلمة، (فليغيره)، أي يوقفه، ويزيله. كنت وصاحبي نتحاور بين العشاءين، جاء إلى المسجد فجر ذلك اليوم قبل الأذان ورأى مركبتين عند المسجد، اشتبه بأنهما يقومان بأمور منكرة! - ولكنْ (لإنكار المنكر) فقه وأحكام ينبغي أن يعلمها من أراد أن ينكر المنكر، كما في العبادات جميعها ، (العلم قبل العمل). - ولكن يجب على العبد إنكار المنكر، ولو في حده الأدنى إن لم يستطع حتى ينجو من العذاب! - ماذا تعنى بهذه العبارة؟ - من سنن الله -عز وجل-، أن ينجي من ينكر المنكر، وإن وقع العذاب على الجميع. - هذه أيضا عبارة تحتاج إلى تفصيل: - لنبدأ بقول الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:164-165). قال الحافظ ابن كثير: «نص على نجاة الناهين»، وقال العلامة السعدي: سنة الله أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وفي قوله -تعالى-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:25). قال الحافظ ابن كثير، عن ابن عباس، أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب! - تفسير جميل، يؤيد موقفي. - نعم، لابد من إنكار المنكر، كل بحسب سلطته، صاحب السلطان باليد، وصاحب الكلمة المسموعة باللسان، ومن لا سلطة له بالقلب، وذلك أن يكره المنكر، ولا يرضى به، ولا يوجد حيث يقع ويجالس من يفعله. - دعني أبحث من أقوال العلماء في هذا الموضوع. تناول هاتفه الذكي، وكلما فعل هذا الأمر أحدهم أو قمت به، حمدت الله على هذه النعمة العظيمة، نعمة سهولة الوصول إلى العلم ومعرفة أقوال العلماء، في وقائعه، نصل إلى ما كان من قبلنا يحتاج إلى ساعات أو أيام ليصل إليه. اسمع ما وجدت يا (أبا حاتم): قال النووي -رحمه الله- في (شرح صحيح مسلم) (2/23) : «ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس، سقط الحرج عن الباقين. وإذا تركه الجميع : أثم كل من تمكن منه، بلا عذر ولا خوف. ثم إنه قد يتعين أي يصير واجباً على شخص بعينه كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو. قال العلماء -رضي الله عنهم-: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين» انتهى. وقال في (مطالب أولي النهى) (1/ 276): «الأمر بالمعروف: لا يجب إلا إذا ظن امتثال المأمور، وهو قول لبعضهم. وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه وصح القول بوجوبه وهذا قول أكثر العلماء وقد قيل لبعض السلف في هذا فقال: يكون لك معذرة، وهذا كما أخبر الله -تعالى- عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به. عن عبدالله بن عمرو قال: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ ذكروا الفتنة أو ذكرت عنده قال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك، قال - صلى الله عليه وسلم -: الزم بيتك وأملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة». (صحيح الترغيب) وفي تفسير قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105). عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، حينئذ تأويل هذه الآية. وعن ابن عمر رضي الله عنه - قال: هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر، سقط عنه. وقد ذهب الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- إلى قريب من ذلك. قال -رحمه الله-: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به مَن يكفي سقط عن الناس، وإذا لم يقم به من يكفي : وجب على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لكن لابد أن يكون بالحكمة، والرفق، واللين . (من لقاءات الباب المفتوح). وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويتقيدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». (رواه مسلم وغيره). وقال الشيخ ابن باز في تفسير آية الأعراف: دل على أن الناهين عن السوء هم الذين ينجون عند المصائب، وعند العقوبات يُنجي الله مَن يَنْهَى عن السوء؛ فالواجب على المسلمين أن يحذروا عقوبات الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يقوموا بهذا الواجب، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ليس وراء ذلك حبة خردل. ج: يعني فيما يتعلق بالإيمان بالأمر والنهي، وليس معناه أنه كافر، ليس بكافر، الإنكار آخرها القلب، ما بقي شيء بعد القلب(انتهى). ودعني أختم بهذا الحديث: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، إن الله أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم، فقال: يا عائشة إن الله -عز وجل- إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون فيصيرون معهم ثم يبعثون على نياتهم» (صحيح الترغيب). - الشاهد من كل ذلك بيان سنة من السنن الإلهية (أن من ينكر المنكر ينجيه الله من العذاب)، وكل بحسب طاقته، وسلطته. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#32
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (34) إذا عظم المطلوب.. كثرت الموانع منذ سنة تقريبا أخذ صاحبي يقرأ كتب الإمام ابن القيم -رحمه الله-، ويستمع إلى شروح مؤلفاته حضوريا، أو بواسطة ما انتشر في الوسائل الإلكترونية. - كلما ازدت قراءة لهذا الإمام -رحمه الله- ازددت حبا له، ذلك أنه يزيدني علما وإيمانا ورقة وموعظة. - نعم، ابن القيم له الصدارة في الرقاق والموعظة، مع أنه يورد أحيانا عبارات يصعب على المرء فهمها وتتبعها. ابتسم صاحبي: - كأنك تقرأ أفكاري، نعم واجهت بعض ذلك، وكنت سأسأل عن جملة وردت في (طريق الهجرتين): «كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه هذه سنة الله في الخلق» (ج1/ص370). كنت وصاحبي في طريقنا لتناول وجبة العشاء مساء الثلاثاء، على أن يلقانا (أبو سعد) هناك. استخرجت الكتاب في هاتفي، وجدت العبارة. - دعني أكمل لك كلام ابن القيم، ثم نعلق. «كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله في الخلق، فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها، حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه، والإنابة إليه، والتبتل إليه وحده، والأنس به واتخاذه وليا ووكيلا وكافيا وحسيبا، هل يكتسب العبد شيئا أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه وجمعيته وحظه من ربه، والمطلوب منهم وراء ذلك كله». انتهى. - بالطبع يقصد بقوله: «من كل ألف رجل واحد إليها»، حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: يا آدم: فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فعندها يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد..» الحديث (صحيح الجامع)، يقول العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعملي -رحمه الله- سنة الله -عز وجل- في المطالب العالية والدرجات الرفيعة، أن يكون في نيلها مشقة ليتم الابتلاء ويستحق البالغ إلى تلك الدرجة شرفها وثوابها، قال -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31). بلغنا المكان الذي نريد، يبعد عن مسجدنا كيلو مترين، قطعنا في أقل من خمس دقائ،! تابعت حديثي: الابتلاء بالشدائد سواء كان ذلك من التكاليف التي تشق على كثير منهم كالجهاد والقتال في سبيل الله، أم كان ذلك بما يقع من الهزيمة أو الجراح أو العلل والأوصاب والأمراض أو الفقر، أو غير ذلك مما يتطلب صبرا، فلابد من هذا، فهو القنطرة إلى الجنة، لا يمكن أن يتوصل إلى الجنة إلا بالعبور على هذه القنطرة؛ فإن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. ويحتاج العبد إلى توطين النفس على المكاره وتحملها، والمشقات والقيام بالتكاليف، وما إلى ذلك، أما أن يبقى الإنسان يتمنى وبضاعته الأماني، فإن هذا رأس مال المفاليس فهذا التمني من غير بذل الأسباب هو رأس مال المُفلس، والجنة لا تُدرك بالأماني. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين} {آل عمران: 178). فيحتاج إلى تثبيت لهذه النفس، وتوطين، وتصبير، وثقة بعد الله -تبارك وتعالى-، وهكذا الصبر على طول الطريق، وما فيه من العقبات، وما تميل إليه النفس من طلب الراحة والدعة والاسترخاء والترك، وهكذا أيضا من يحيطون به، ويحتفون حينما يلقون إليه مثل هذه الدعوات والوساوس؛ ليلحق بركب القاعدين والمتخلفين والناكثين لعهد الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فصار الجهاد بالقتل للأعداء، وكذلك الجهاد بجميع أنواعه، ومن ذلك بذل العلم والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- كل هذا جهاد، وقد يكون في بعض الأوقات أحد هذه الأنواع أولى وأبلغ من الآخر. وقد ذكر الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- - هذا المعنى، وأنه كلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، يقول: «فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يُدرك النعيم إلا بترك النعيم ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها، ومعرفة ما تؤول إليه تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. كان أبو سعد بانتظار حجز طاولة مميزة، بعد السلام والتحية: - أرى أنكما كنتما في حوار جاد؟ - نعم كنا نتحدث عن الإمام ابن القيم -رحمه الله- وسنة من سنن الله في خلقه، وهي كثرة العوارض في طريق المطالب. - قاعدة جميلة: وهل هي سنة من سنن الله في خلقه؟ - نعم، هكذا وصفها الإمام ابن القيم -رحمه الله- وغيره من العلماء. - أظن أن شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا لمح إلى ذلك في ذكره لاستشهاد الحسين - رضي الله عنه -. أخرج أبو سعد هاتفه بحث فيه: يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج25 ص302: قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر وأباه عليا وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل أي الناس أشد بلاء فقال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة» (رواه الترمذي وغيره)؛ فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله -تعالى- ما سبق من المنزلة العالية ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب؛ فإنهما ولدا في عز الإسلام وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلي من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفضل منهما وقد قتل شهيدا. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#33
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (35) جزاء الإحسان.. الإحسان! - أدوات الاستفهام في اللغة كلها أسماء عدا ثلاثة، الهمزة و(هل) و(أم)! كان محاضرنا يتحدث عن الإعجاز اللغوي في القرآن، شعرت أنه تعمق أكثر مما يفهم عامة الحضور؛ وذلك أن الغرض مخاطبة المصلين وليس طلبة علم شرعي أو لغوي. بعد المحاضرة خرجت وصاحبي نتجاور. - أظن من رتب هذا اللقاء لم ينبه الدكتور المحاضر أن الحضور من عامة الناس وليس من أهل الاختصاص. - كانت المحاضرة لطلبة السنة النهائية في المعهد الديني، وهكذا أعلن عنها. - لم أنتبه لذلك، ولكن الفائدة كانت جيدة بالنسبة لي، ولاسيما عندما أسهب في شرح {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60). - نعم. دونت بعض الملاحظات هنا، وردت (هل) ثمانين مرة تقريبا في كتاب الله -تعالى-، وحرف (هل) يأتي مع الجملة الفعلية، وأحيانا مع الجملة الإسمية. قاطعني صاحبي. - دعنا من هذا الكلام (الصعب)، ماذا عن قول الله -تعالى-: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60)؟ - دعني أبحث لك في مصادر أخرى. - الإحسان، يأتي بمعنى الإتقان، كقوله -تعالى-: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} (السجدة:7). - وورد في الحديث، عندما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (مسلم). وإذا ورد مطلقا فإنه يعني: «فعل ما هو حسن»، وضده (القبح) وقيل: «الإحسان: هو فعل ما ينبغي فعله من المعروف»، وهو نوعان: الإنعام للآخر، والإحسان في فعله. - والمعنى المراد في الآية من سورة الرحمن؟ - أما الإحسان الأول فهو: (إحسان العبد)، والإحسان الثاني فهو (إحسان الله) -عز وجل- (جزاء من جنس العمل)، ولا شك أن إحسان الله للعبد، أعظم وأجل ولا يقارن به أي إحسان، وهذه سنة من السنن الإلهية، أن جزاء الإحسان، الإحسان. وهل إحسان الله للعبد في الدنيا أم الآخرة؟ - قد يكون في الدنيا والآخرة، أو في الدنيا فقط، أو في الآخرة فقط. أما إحسان الله للعبد في الدنيا، فهو كل ما يسر العبد من نعمة، وفي الآخرة جزاء فعله الحسن في الدنيا، ولا شك أن هذا أعظم من الأول. قال الله -تعالى- : {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر:34-35). - إن للإحسان صورا كثيرة ومتنوعة، تتنوع بحسب أنواع الطاعة والبر التي أمر الله بها، ولكل منها جزاؤه وأجره الذي وعد الله به، ومنها: الإحسان مع الله وهو أعظم الإحسان وأفضله وهو الإيمان بالله، وتوحيده، وطاعته، والإنابة إليه، واتباع شرعه، وأن تعبد الله كأنك تراه، وهو مقام الإحسان الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل -عليه السلام- والإحسان في العبادة درجتان: الأولى: أن يعبد الإنسان ربه بقلب حاضر كأنه يراه، الثانية: إذا لم يعبد ربه كأنه يراه، فليعبده كأنه هو الذي يراه، عبادة الخائف منه، الهارب من عقابه. وأما الاحسان مع الخلق : أولى الناس به الوالدان والأم بالدرجة الأولى؛ حيث قال -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإسراء:23)، ثم الإحسان إلى الأقارب وهذا النوع من الإحسان، هو صلة الرحم الذي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- - بها، ويكون بحسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة، وتارة بالسلام، وتارة بطلاقة الوجه، وتارة بالنصح، وتارة برد الظلم، وتارة بالعفو والصفح وغير ذلك من أنواع الصلة بحسب القدرة والحاجة والمصلحة. ومنها الإحسان إلى الجار واليتامى والمساكين والإحسان إلى عامة الناس وفي بذل الإحسان للناس ثواب معجل في الدنيا؛ إحسانا من الله -تعالى- للعبد، غير الثواب المدخر له في الآخرة، دل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...» (رواه مسلم). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المعروف إلى الناس يقي صاحبه مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» (صحيح الجامع)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر» (صحيح الترغيب). ومنها الإحسان في القول وهو قول أنفع الكلام، الكلام اللين، والقول المعروف ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، والحلم، والعفو والصفح، فجميع هذه الأفعال من القول الحسن؛ حيث أمر الله صراحة بالقول الحسن في قوله -تعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. (البقرة:83)، والإحسان في العمل بإتقان العمل وفعله خالصا كاملا لله. وجميع أعمال الإحسان وصوره تصب في الإحسان إلى النفس؛ فالمحسن بوالديه محسن لنفسه ومن يحسن للفقير واليتيم والمحتاج محسن كذلك لنفسه، ومن يحسن بأي وجه من وجوه الإحسان فلنفسه؛ حيث قال الله -تعالى-: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الاسرا:7). قاطعني صاحبي: - لنرجع إلى الآية من سورة الرحمن في محور حديثنا لأنها تثبت سنة من السنن الإلهية، مع جميع خلقه مؤمنهم وكافرهم. - لك ذلك: قال -تعالى-: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60)، هذه الآية جاءت خاتمة للجزاء المعد عند الله -تعالى- للمقربين من عباده المؤمنين، وهم أهل الإحسان الذين يخشونه بالغيب، كما افتتح ذكرهم بقوله -تعالى- {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن: 46)، ولكي يكتمل جزاء المحسن عند الله -تعالى- فيجب عليه ألا يرجو على إحسانه مكافأة، ولا ينتظر عليه ثناء، وإنما يرجو به وجه الله -تعالى- والدار الآخرة، والمحسن في إحسانه إما أن يريد الدنيا، كإحسان الكافر والمنافق؛ فهؤلاء ينالون جزاء إحسانهم في الدنيا، وليس لهم في الآخرة نصيب، كما قال الله -تعالى- {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى:20)، وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قلت: «يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل، فهل له في ذلك، يعْني منْ أجْرٍ؟ قال: «إنّ أباك طلب أمْرًا فأصابهُ» (رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط)، وإذا أراد المحسن بإحسانه رضا الله -تعالى- والدار الآخرة، أحسن الله -تعالى- إليه في الدنيا وفي الآخرة، وقد يكون إحسان الله -تعالى- إليه أسرع مما يظن. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#34
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (36) سنّة الله في شكر النِّعم - وكيف يمكنني أن أتتبع سنن الله -عز وجل- في القرآن الكريم؟ - إذا قرأت القرآن بتدبر تتبع الآيات التي يرد فيها (تأذن) أو (كتب) أو (حقا علينا)، وبالطبع عندما ترد كلمة (سنة الله) صراحة، أو ذكر مصير الأمم السابقة، مثل قوله -تعالى-: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (القمر:43)، أو ذكر عذاب (الظالمين أو المجرمين أو المنافقين) في الدنيا، وهناك من كتب في هذا الجانب من العقيدة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكتب التفسير، ومن المعاصرين، عبدالكريم زيدان والمنجد وغيرهم. كنت وصاحبي نتحدث عن الآيات التي قرأها إمامنا في صلاة العشاء، وكانت من سورة إبراهيم ولا سيما قوله -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7). - دعني أقرأ لك شيئا مما ورد في تفسير هذه الآية. كان مرجعي هاتفي، ومن تفسير ابن عاشور: - علق الله -سبحانه- على (الشكر) (الزيادة)، وعلى (الصبر) (الجزاء بغير حساب)، وأيضا فإنه أطلق (جزاء الشاكرين)، وقيد (جزاء الصابرين بالإحسان)؛ فقال -سبحانه-: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:96)، قال عطاء: تأذن ربكم، حكم ربكم، أعلمكم ربكم، وقال الشيخ ابن عطاء الله: «من لم يشكر النعم، فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها، فقد قيدها بعقالها». المسافة بين منازلنا والمسجد نقطعها في أقل من عشر دقائق مشيا معتدلا، فهي لا تزيد عن (ألف خطوة)! - وهل الشكر يكون لنعمة محدثة أم للنعم الدائمة، مثل نعمة العافية والسمع والبصر والمال والعائلة. - كل هذه تستوجب شكر الله، وإذا طرأت نعمة جديدة، سجد شكرا لله! ولو تدبرنا كتاب الله وتتبعنا الآيات التي ورد فيها (الشكر) بتصريفاته، لوجدنا أنها وردت خمسا وسبعين مرة وفي اللغة: (الشكر: الثناء على المحسن بذكر إحسانه). قال -تعالى-: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان)؛ في هذه الآية كأن الناس صنفان، شاكر أو كفور، وفي تفسير السعدي: «فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه قائم بما حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية فردها وكفر بربه، وسلك الطريق الموصولة للهلاك» وقال -تعالى-: عن غاية إبليس مع ابن آدم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف). وقال -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام:53). وقد عُلم من قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أنه أيضا أعلم بأضدادهم وضد الشكر: الكفر، والشكر يكون بالقلب، إقرارا بالنعم واعترافا، وباللسان، ذكرا وثناء، وبالجوارح، طاعة لله وانقيادا لأمره، واجتنابا لنهيه؛ فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة، وزيادة في النعم المفقودة. قاطع صاحبي قراءتي من الهاتف لينبهني إلى الطريق الذي يجب أن نقطعه لنصل إلى منازلنا، سألني: - هل شكر النعمة يستوجب زيادتها؟ - نعم هذه سنة إلهية وقانون رباني، من أدى شكر النعمة كاملا، زاده الله منها وخير منها، هذه قاعدة لا تتخلف ولا تتبدل كما السنن الإلهية الأخرى. أظن أن مشكلة معظم الناس في عدم تقدير نعم الله عليهم، أنهم اعتادوا هذه النعم، وبعضهم يستقل نعم الله عليه بما يراه عند غيره ممن رزقهم الله أكثر منه. - صدقت (أبا جراح)، أما الأولى فعلاجها التزام الأذكار التي أرشدنا إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث: «يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم؛ إنك أنت علام الغيوب» (الصحيحة). وكذلك حديث معاذ، في الذكر بعد الصلوات الخمس: عن معاذ بن جبل قال: أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني لأحبك يا معاذ فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله، قال: فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: ربي أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي إلا أن أبا داود لم يذكر: «قال معاذ وأنا أحبك» (صحيح الألباني). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك» (السلسلة الصحيحة). هذه الأحاديث، تذكر العبد بواجب (الشكر) لنعم الله، وربما النظر والتفكر في أحوال من فقد النعمة، يبين عظمها، وزيارة المرضى والمقعدين، تذكر بنعمة العافية، ومعرفة أحوال الفقراء والمعوزين، تذكر بنعمة المال، وتدبر أحوال الغافلين والمشركين، تذكر بنعمة الهداية، وهي أعظم نعمة ينبغي على العبد أن يشكر الله عليها. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#35
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (37 ) العاصي.. يُجزى نقيض قصده! التقيت صاحبي بعد انقطاع أسبوع، قضاها في رحلة عمرة، وعادته أن يذهب برا، يتوقف أحيانا في المدينة، وأحيانا في القصيم، وأحيانا في حفر الباطن. بعد التحية والأسئلة، تمرا و(كليجة) سعودية، شكرته وعلقت مازحا: - هل تعلم أن (الكليجة) دخلت ضمن قائمة اليونسكو للأكلات الشعبية؟! - معلومة جديدة! كنا نتمشى بين العشاءين، بانتظار الأخيرة. - في أثناء مكوثي في الحرم المكي، بحثت عن (سنة الله)، في القرآن وجدت أنها وردت بتصريفاتها ستة عشر مرة، ولكن مرة واحدة لم توصف بعدم التبديل ولا التحويل، وهي في قوله -تعالى-: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (الأحزاب:38). - ملاحظة جيدة، كنت قد قرأت تفسيرها في أثناء بحثي عن السنن الإلهية، والجواب أن هذه الآية نزلت لبيان (إباحة زواج الرجل من زوجة متبناه إذا قضى منها وطرا)، فتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش بعد أن فارقها زيد بن حارثة (وكان يسمى قبل ذلك زيد بن محمد)؛ وحيث إنه لا نبي بعد رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم -، فلم توصف هذه السنة بعدم التبديل ولا التحويل، بل وصفت بقوله -تعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} - لقد أشفيت غليلي، وأرحت ذهني في هذه المسألة. تابعت حديثي: - ومن السنن الإلهية التي يغفل عنها كثير من الناس (أن العاصي يعامل بعكس مراده، ونقيض قصده). - هذا لغز آخر، يحتاج إلى بيان. - إليك البيان بإذن الله، في قصة أصحاب الجنة التي وردت في سورة القلم من الآية (17-33)، يقول -تعالى-: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (القلم). فقد أقسموا، ألا يعطوا مسكينا شيئا من بستانهم الكبير؛ فعقابهم الله -تعالى-، وأصبحت جنتهم كالصريم، احترقت فصارت كالليل الأسود لدرجة أنهم لم يتعرفوا عليها، في بادئ الأمر، وفي الحديث: «عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» متفق عليه. - هذا في الدنيا. - نعم وربما يكون العذاب في الآخرة؛ فيتحسر العاصي على عمله، مثل جزاء المتكبر، في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له (بولس)، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال» (صحيح الترغيب). - أعوذ بالله من عذاب الله! هكذا كان ردة فعل صاحبي الفورية. - وعكس ذلك ينال المحسن أعظم مما عمل، من جنس إحسانه. - دعنا نكمل في (جزاء العاصي عكس مراده). - قس على ذلك كل معصية، من يشرب الخمر، ينال من الأذى الصحي والنفسي والاجتماعي، ما لا علاج له، ومن يقع في (الزنا) يناله من الذل والمرض والمهانة، ومن يتعامل بالربا، ومن يمكر بالناس: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، إن (المعصية مكلفة، متعبة)، ينفق العاصي أمواله، يريد أن يستمتع ولا ينال إلا التعب والمرض والإرهاق، في حياته الدنيا، فضلا عما ينتظره في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124)، الضنك: الشدة والضيق والشقاء، هذه سنة إلهية وعلى النقيض من كان في طاعة الله، وإن كان فقيرا، أو مبتلى، فإن الله وصف حياته: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، قال ابن عباس: السعادة، والرزق الطيب الحلال، والقناعة، ومن ذلك أن القاتل لا يرث، قال ابن تيمية: «وأما الوارث إذا قتل مورثه عمدا فإنه لا يرث شيئا من ماله باتفاق الأئمة». اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#36
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (38) من آثر الحق.. أرضاه الله - كلمة {سنن} بتصريفاتها، وردت في ست صيغ: {سنة الله}، {سنتنا}، {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا}، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ من قَبْلُ}، {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}، {سنن}، فأضفت مرة إلى رب العزة {سُنَّةَ اللَّهِ}، ومرة إلى من جاء بها وهم المرسلون {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا}، ومرة ثالثة إلى من خوطب بها وهم أقوام الرسل أو الأولون {سنن الذين من قبلكم- سنة الأولين}، ووردت في خمسة مواضع بتأكيد أنها لا تبديل لها ولا تحويل. - تصنيف جميل، وتعلم أن السنة الإلهية يمكن أن تأتي بلفظ {تأذن ربكم}، و{كتب الله}، و{حقا علينا}، {وعاقبة المتقين}، و{عاقبة الظالمين}، وغيرها من الصيغ التي تحتاج إلى تتبع في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. كنت وصاحبي في طريقنا لتهنئة صديق لنا بمناسبة زواج ابنه. - آمل ألا نصادف زحاما بشريا كما حصل الأسبوع الفائت في حفل زفاف ابن صديقنا مشاري. - لنحتسب الأجر، والتيسير من عند الله. - ماذا عن سنة الله فيمن آثر الحق على الخلق؟! يقول ابن القيم: «لقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها، أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاة الحق، أن يسخط عليه من آثر رضاه ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه؛ فيعود حامده ذاما، ومن آثر مرضاته ساخطاً فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، ومن آثر رضا الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق، وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه، مع أن رضا الخلق لا مقدور، ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل» (مدارج السالكين 2/300). والمؤثر لرضا الله متصد لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولابد، هذه سنة الله في خلقه، وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس والقائمين بدين الله الذابين عن كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عندهم؟ فمن آثر رضا الله فلابد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وجهالهم وأهل البدع والفجور منهم وأهل الرياسات الباطلة، وكل من يخالف هديه، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (التوبة:62). كتب معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- إلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة -رضي الله عنها- إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس. والسلام عليك» {رواه الترمذي وصححه الألباني}، وفي رواية ابن حبان في صحيحه: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله -تعالى- عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط اللهُ عليه ، وأسخط عليه الناس». أدركنا المكان الذي نريد، بدا المكان مزدحما، نظر إلي صاحبي أن نعود. - بل احتسب ولنبارك لصاحبنا. اضطررنا أن نوقف مركبتنا بعيدا نسبيا لكثرة الحضور، كان هناك طابور طويل من المهنئين، لم نقف معهم، دخلنا القاعة، لمحنا شقيق صاحبنا، فأخذ بيدينا، وتخطى الجموع، لنهنئ صاحبنا، وتناولنا شيئا من المقبلات وعدنا إلى مركبتنا. - لقد يسر الله لنا، الحمد لله، لنتابع حديثنا: - نعم كثيرا ما يضطر العبد أن يختار بين أمرين، فالواجب أن يختار ما فيه رضا الله -عز وجل-، وإذا كان الأمران مباحين، اختار أيسرهما، كما في الحديث عن عروة عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: « ما خُيِّرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه، واللَّهِ ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ قَطُّ، حتَّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ » {متفق عليه وهذا لفظ البخاري}. - إن إيثار الحق على الخلق، يورث الطمأنينة، والفوز في الدنيا والآخرة، أي شيء أعظم من رضا الله على العبد، ثم بعد ذلك ينال محبة الله، إن كان هذا ديدنه، إيثار الحق على الخلق، ومن نال حب الله أحبه أهل السماوات وأهل الأرض رغما عنهم. قال ابن القيم: «وسنة الله في خلقه أن يرفع من يقدم الحق على الخلق ويذلهم له، بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه، وإذا كان لا بد من الألم والعذاب، فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم، فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلي -سبحانه- هان عليه ما هو فيه» (شفاء العليل 1-246). لقد حضرتني للتو الآية من سورة الأحزاب في قصة أم المؤمنين زينب بن جحش الأسدية -رضي الله عنها- ابنة عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} {الأحزاب:36}. يقول ابن عباس - رضي الله عنه -: «انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على فتاة زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، قالت: لست بناكحته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: فانكحيه، فقالت يا رسول الله أؤمر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: رضيته لي يا رسول الله منكحا! قال: نعم، قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي...»، ومكثت مع زيد سنة واحدة، ولم يتوافقا فطلقها، ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله، فعوضها الله لطاعتها لأمر الله أن زوجها بخير البشر؛ لتكون أما للمؤمنين، وكانت تفتخر بعد ذلك على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. (البخاري). - كلام جميل، والعكس صحيح، اسمع ما يقوله الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره أو شيخه أو أهله على ما يحبه الله -تعالى-، فهذا لم تتقدم محبة الله -تعالى- في قلبه جميع المحاب، وسنة الله -تعالى- فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه، فلا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاء له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق، أو يحبه على محبة الله -تعالى-، قد قضى الله -عز وجل- قضاء لا يرد ولا يدفع: أن من أحب شيئا سواه عذبه به، ولا بد وأن من خاف غيره سلطه عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤما عليه، ومن آثر غيره لم يبارك له فيه,، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه». (الوابل الصيب 1-1). اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#37
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية (39) يَغْضَبُ الله.. إذا تفشت الفاحشة - أعلم أن من أسماء الله الحسنى (الحليم)، وهو الذي يعجل العذاب على من يستحقه، بل يمهل، ويؤخر بحلمه -سبحانه-، وأعلم أيضا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: «لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي غلبت غضبي» وفي رواية: «إن رحمتي سبقت غضبي»، ولكن قرأت في (الجواب الكافي) لابن القيم: «وقد جرت سنة الله -سبحانه- في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله -سبحانه وتعالى- ويشتد غضبه» (1/114)! مما أدى إلى تساؤلات في ذهني، لماذا الزنا؟ ولماذا لم يقل إذا ظهر الشرك، الذي هو أكبر من الزنا، بل أكبر الكبائر. هكذا بدأ صاحبي حواره مع صديقنا أبي يوسف (أستاذ العقيدة في كلية الشريعة)، وكنا أربعة نفر. - سؤال جميل، وتساؤل مشروع، ابتداء قولك: إن الشرك أكبر الكبائر حق، وهو الذي يوجب غضب الله -عز وجل- على من يقع فيه، كما في قوله -عز وجل-: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106)، وكذلك من يتول يوم الزحف، كما قال -تعالى-: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال:16). وكذلك من يقتل مؤمنا متعمدا: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء:93). هذه الآيات ومثيلاتها، تبين عذاب هذه الأصناف في الآخرة، ولكن الشيخ ابن القيم عندما ذكر سنّة من سنن الله أراد أن تفشي الزنا يؤدي إلى ظهور غضب الله في الدنيا، ولذلك تمام الجملة التي ذكرتها هو: «ويشتد غضبه فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها»، هذا الذي أراده بيانه الشيخ أن هذه الفاحشة يظهر أثرها في الدنيا، ولذلك ورد في مسألة المتلاعنين (الزوج يتهم زوجته بالزنا)، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (النور:9)، وذلك في الدنيا قبل الآخرة! أعجبني إسهاب صاحبنا أستاذ العقيدة. تابع حديثه الماتع: - وكلمة (غضب) بتصريفاتها وردت أربعا وعشرين (24) مرة في كتاب الله، ومن غضب عليه الله -عز وجل- هلك، كما قال -سبحانه-: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (طه:81)، وذلك في الآخرة وإن عاش عيشة الملوك في الدنيا، وأظهر غضبه على الأمم السابقة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا فأهلكهم، كما حصل مع عاد وثمود وقوم ولوط وفرعون وهامان وقارون. وقد أخبر الله عنهم فقال: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} (الأعراف:71)، أي عذاب وغضب. قاطعني صاحبي: - آسف على المقاطعة (دكتور)، ولكن أليست السنن الإلهية ثابتة، ودائمة، ونافذة، لا تتبدل ولا تتحول؟! - نعم، وأظنك تريد أن تسأل أن هناك دولا ومجتمعات يتفشى فيها الزنا، ولم ينزل عليها غضب الله بالعذاب في الدنيا، أليس كذلك؟ - بلى، كأنك تقرأ أفكاري. - لا تنس بأن سنن الله لا تقاس بأيامنا وسنيننا، بل من أسباب غفلة الناس عن السنن الإلهية أنها قد تتأخر مئات السنين، كما قال -تعالى-: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:47). سأله صاحبي: - ولماذا اختص الله -عز وجل- هذه الكبيرة دون غيرها بأنها تنزل غضبه؟! - أظن أنني بينت جزءا من ذلك ولكن دعني أقرأ لك شيئا مما ذكره ابن القيم جوابا على سؤالك! قال الامام ابن القيم: «ويكفي في قبح الزنا أن الله -سبحانه وتعالى مع كمال رحمته- شرع فيه أفحش القتلات وأصعبها وأفضحها، وأمر أن يشهد عباده المؤمنون تعذيب فاعله» «وقد جمع -سبحانه- بين الزنا والشرك في قوله: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (النور:3)، وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن أبيه قال: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذنَ الله -عز وجل- بهلاكها؛ ذلك أن مفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين والله لا يحب الفساد. وخص -سبحانه- حد الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص: أحدها: القتل فيه أشنع القتلات، الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحدّ عليهم؛ فإنّه -سبحانه- من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحم منكم ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره، وهذا وإن كان عاما في سائر الحدود، ولكن ذُكِرَ في حد الزنا خاصةً لشدّة الحاجة إلى ذكره. فإنّ الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، وأيضًا فإنّ هذا ذنبٌ غالبُ ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما ينفّر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له، فتُصوّر ذلك لنفسها، فيقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد. الثالث: أنه -سبحانه- أمر أن يكون حدّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون خلوةً؛ حيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحدّ وحكمة الزجر. وحد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله -سبحانه- لقوم لوط بالقذف بالحجارة، وذلك لاشتراك الزنا واللواط في الفحش، وفي كلّ منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#38
|
||||
|
||||
![]() السنن الإلهية ( 40) إجابة الدعاء عادة إمامنا المكوث في المسجد بين المغرب والعشاء، يبحث مسألة في مكتبة المسجد، يقرأ ورده اليومي، يقضي حاجة أحدهم، يعطي درسا لمجموعة من المصلين. قررت أن أجالسه بعد صلاة مغرب يوم الأربعاء، وقد بدأ المجلس بسؤال من (أبي راشد).- كيف نوفق بين قول الله -تعالى-: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} (النمل:٦٢)، وبين حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر» (صحيح الترغيب). - لا تعارض يا أبا راشد، بين سنن الله -عز وجل- الثابتة أنه يجيب المضطر إذا دعاه؛ ولذلك ذكر الله -عز وجل- هذه السنة ضمن آيات تبين انفراده -سبحانه- بأمور، وذلك في قوله -سبحانه-: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل). في تفسير (ابن عاشور): «جعل الله -سبحانه- إجابة المضطر إذا دعاه من حقه الخاص الذي لا يشاركه فيه أحد، كخلقه السماوات والأرض، وإنزال المطر وإنبات الشجر، وجعل الأرض قرارا، وغيرها من الأمور التي انفرد بها بشهادة الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم» (انتهى بتصرف). فهذه سنة ماضية، نافذة، وذلك أن المضطر هو الذي انقطعت به الأسباب، حينها يلجأ صادقا إلى الله -عز وجل-، فيستجيب الله -تعالى- له، وذكر الله -عز وجل- ذلك في آيات كثيرة من كتابه، مثل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} (الإسراء:67)، وقوله -سبحانه-: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (يونس:22-23). وفي سورة النعكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65). {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (الفلك:32). لاحظ أنهم في جميع الأحوال {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ}، مع أنهم كانوا على الكفر! فيستجيب الله لهم. وهذا كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل، فقد فرّ من مكة بعد أن فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فنادى عكرمة اللات والعزى، فقال أهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص (توحيد الله)، لا ينجيني في البر غيره، ورجع وأسلم، وللقصة تفصيل. استفسر أبو راشد: - هل تعني بأن الله -عز وجل- يجب دعوة المضطر، ويكشف ما فيه من شدة فورا؟! - نعم، هذا إذا دعا بإخلاص ويقين، أما السنة الإلهية العامة في إجابة الدعاء فهي ما ورد في قوله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر:60)؛ ولذلك ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه». وقال ابن القيم -رحمه الله- في (عدة الصابرين): «فمن أعطي منشور الدعاء أعطي الإجابة، فإنه لو لم يُرد إجابته لما ألهمه الدعاء». - وكذلك قول الله -تعالى- بعد أيام الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186). - أحسنت يا (أبا محمد)، كان رابعنا في المجلس، جاسم وكنيته (أبو محمد). يقول ابن تيمية -رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم: فمن دعاه موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركا وفاسقا فإنه -سبحانه- هو القائل: {إِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس:12)، وهو القائل -سبحانه-: {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} (الاسراء: 67)، وهو القائل -سبحانه-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الانعام: 40-41). ولكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسوله كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |