|
|||||||
| ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#11
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -11- محمد فاروق الإمام الثائرون يهزمون جيوش هشام بن عبد الملك أراد الخليفة هشام بن عبد الملك أن ينتقم لهزيمة جنده وواليه، فجهز جيشا قوامه (27,000) رجل من عرب الشام جعل عليه عربيا شامياً هو كلثوم بن عياض القشيري يساعده بلج بن بشر القشيري وثعلبة بن سلامة العاملي، وعندما وصل الجيش إلى مصر انضم إليه من عربها (3,000) رجل، ووصل هذا الجيش العرمرم إلى إفريقية في رمضان سنة (123هـ/740م. وبأمر من الخليفة انضم عرب إفريقية إلى الجيش القادم من الشام، وكان عددهم (40,000) رجل على رأسهم حبيب بن أبي عبيدة زعيم العرب في المغرب. سار هذا الجيش حتى وصل إلى المغرب الأقصى، ليدرك قوات الثائرين بقيادة خالد بن حميد الزناتي عند مكان يسمى (بقدورة). وهناك دارت معركة حامية ثبت فيها الثائرون ثبات الجبال وأوقعوا بالجيش العربي هزيمة منكرة وقتل فيها قائد الجيش كلثوم بن عياض وزعيم عرب إفريقية حبيب بن أبي عبيدة، وعدد كبير من أمراء الجند، وفر بلج بن بشر وثعلبة بن سلامة العاملي بمن بقي معهما واعتصموا بأسوار مدينة سبتة فحاصرهم البربر الثائرون حصاراً طويلاً حتى كادوا يهلكون، ثم سمح لهم عامل الأندلس عبد الملك بن قطين الفهري بالعبور إلى الأندلس لمساعدته على بربرها الذين كانوا قد ثاروا هم أيضاً. وامتدت الثورة لتشمل المغرب كله من طرابلس إلى طنجة، وقد اعتنق الثوار أفكار ومبادئ مذهب (الصفرية) - فرقة من الخوارج - في المغرب ومذهب (الإباضية)، في طرابلس، أما إفريقية ومنطقة الزاب في المغرب الأوسط فقد تمسكت بالسنة والجماعة. اهتم الخليفة هشام بن عبد الملك بهذا الأمر الجلل الذي عصف بالمغرب ويكاد يفصله عن جسد الخلافة في دمشق، فأعد جيشا كبيرا مدربا تعداده (50,000) مقاتل وأمّر عليه حنظلة بن صفوان عامله على مصر وكلفه بولاية المغرب، وكان ذلك في ربيع الآخر من سنة (124هـ/741م).
__________________
|
|
#12
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -12- محمد فاروق الإمام الخلافات تدب بين الخوارج وعند تقدم حنظلة باتجاه المغرب كان قد دبَّ الخلاف بين الخوارج (الصفرية) فانقسموا إلى فريقين الأول مع عكاشة بن أيوب الفزاري والفريق الثاني مع عبد الواحد بن يزيد الهواري، وطمع كل واحد منهما في الاستيلاء على القيروان. واستغل حنظلة هذا الخلاف استغلالاً جيداً، وعبأ أهل القيروان لمساعدته على قتال الخوارج، فانضموا إلى جيشه، وكان اللقاء في موضع يسمى (الأصنام) على بعد (400) كيلو متر غربي القيروان حيث دحر حنظلة عبد الواحد بن يزيد الهواري بعد قتال عنيف، ثم سار بعد ذلك حنظلة نحو عكاشة بن أيوب الفزاري والتقى به في غربي القيروان أيضا في موضع يسمى (القرن) وهزمه هزيمة نكراء في أواخر سنة (124هـ/741م) وأوائل سنة (125هـ/742م). وقد أنقذت هاتان المعركتان مصير السنة والجماعة في إفريقية والمغرب. وهكذا تمكن حنظلة بن صفوان من إخماد الثورة البربرية، ولكن تبع ذلك صراع عربي - عربي، بين العرب المحليين سكان إفريقية، والعرب الشاميين القادمين مع حنظلة، إضافة إلى الخوارج من الإباضية والصفرية. بينما كان حنظلة يرتب أمور ولايته بعد انتصاره الكبير على الخوارج ثار عليه عبد الرحمن بن حبيب سنة (127هـ/744م)، فسار حنظلة لقتاله. يقول ابن عذاري في كتابه (البيان المغرب): (ثم كره قتال المسلمين - يقصد حنظلة - وكان ذا ورع ودين فوجه إليه - أي إلى عبد الرحمن بن حبيب - جماعة من وجوه إفريقية فدعوه إلى مراجعة الطاعة فغدر بهم عبد الرحمن بن حبيب وسار إلى القيروان. فلما رأى حنظلة ذلك دعا القاضي والعدول وفتح بيت المال فأخذ منه ألف دينار وترك الباقي وقال: لم أتلبس منه إلا بقدر ما يكفيني ويبلغني. ثم مضى من إفريقية سنة (129هـ/746م) في جمادى الأولى، ثم أقبل عبد الرحمن حتى دخل القيروان..). واستبد بالأمر عبد الرحمن بن حبيب، فقد استولى على حكم المغرب والانفراد به لعشر سنوات (127-137هـ/744-754م)، وقد استطاع القضاء على منافسيه من الزعماء العرب بسهولة، ولكنه لقي عناءً شديداً من خوارج البربر. فقد أخفق في صراعه مع إباضية طرابلس إخفاقاً كبيراً ولم ينقذه إلا اختلاف قائديهم عبد الجبار بن قيس المرادي والحارث بن تليد الحضرمي، فتحاربا حتى أهلك بعضهم بعضا، مما جعل عبد الرحمن يتمكن من اقتحام طرابلس وانتزاعها من الإباضية. بعد تمكن عبد الرحمن من القضاء على الإباضية أخذ يشتد على الناس في جمع الضرائب مما نفّر الناس من حوله، فانصرف عنه أهل القيروان وتونس وصفاقس وسوسة، وكرهه معظم أهل إفريقية وطرابلس، وكذلك ساءت العلاقات بينه وبين أهل بيته.
__________________
|
|
#13
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -13- محمد فاروق الإمام الولاة العباسيون كانت نهاية عبد الرحمن بن حبيب بمقتله على يد أخيه وقائد جنده إلياس بن حبيب سنة (137هـ/754م)، الذي نادى بنفسه أميراً على القيروان رافعاً ألوية العباسيين الذين انتصروا على الأمويين وباتوا خلفاء المسلمين، ونشبت الحرب بين إلياس وابن أخيه حبيب، وانتهت بمقتل إلياس سنة (138هـ/755م). ويصف لنا ابن عذاري في بيانه لقاء العم مع ابن أخيه قائلا: فلما التقيا ناداه حبيب: لم نقتل صنائعنا وموالينا وهم لنا حصن ؟ ولكن ابرز أنت وأنا، فأينا قتل صاحبه استراح منه، فناداه الناس: قد أنصفك يا إلياس! فخرج كل واحد منهما إلى صاحبه ووقف أهل العسكر ينظرون فتطاعنا حتى تكسرت قناتاهما ثم تضاربا بسيفيهما، وعجب الناس من صبرهما، ثم ضرب إلياس حبيبا ضربة نفذت في ثيابه ودرعه ووصلت إلى جسده، وضرب حبيب عمه إلياس ضربة أسقطته ثم أكب عليه فحز رأسه وأمر برفعه على رمح، وأقبل به إلى القيروان فدخلها وبين يديه رأس عمه ورؤوس أصحابه.. في عام (138هـ/755م)، فكانت ولاية إلياس إلى أن قتل نحو سنة وستة أشهر. وانتهى أمر بني حبيب إلى فوضى محزنة، فقد خاف عبد الوارث بن حبيب عم حبيب بن عبد الرحمن على نفسه ففر مع بعض أنصاره إلى قبيلة (ورفجومة) الزناتية واستغاث برئيسها عاصم بن جميل وكان خارجيا صفريا، فخرج هذا وقومه إلى القيروان، وخرج إلى لقائه حبيب بن عبد الرحمن فانهزم وفر من وجه عاصم، وبقي أهل القيروان وحدهم ليدافعوا عن القيروان بوجه الخوارج الصفرية، وخرجت جماعة منهم يقودها القاضي (كريب بن أبي كريب المعافري) والتقوا مع الصفرية فتفرق الناس عن ابن كريب، وثبت هو في الميدان وقاتل قتال المؤمنين الأبطال حتى سقط شهيداً، وقد استشهد معه نحو ألف ممن صمدوا معه، ودخل الصفرية القيروان فاستحلوا المحارم وارتكبوا الكبائر ونزل عاصم بن جميل بمصلى روح بن حاتم المهلبي، ثم استخلف على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد اليفري، وتمكن هذا من قتل حبيب بن عبد الرحمن الذي حاول العودة إلى القيروان في المحرم من سنة (140هـ/757م). وباستيلاء الخوارج الصفرية على القيروان غدا المغرب كله تحت رحمتهم، وبدا وكأنهم سينشئون فيه دولة خارجية في المغرب تعذر عليهم إقامتها في المشرق. ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الخلاف يدب بين الخوارج الصفرية والخوارج الإباضية حيث غضب الإباضية لما فعله الصفرية في القيروان، فنهضوا بقيادة أبي الخطاب بن عبد الأعلى بن السمح المعافري الذي انتصر انتصارا كبيرا على الصفرية في صفر من سنة (141هـ/758م) ودخل القيروان، وأقام عليها عبد الرحمن بن رستم وعاد هو إلى طرابلس. وهكذا بدأ الخوارج يتناقلون السلطة في القيروان، وانتدب أهل السنة وفدا إلى بغداد لمقابلة الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي على رأسه قاضي القيروان عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ليطلبوا إنقاذهم من حكم الخوارج المارقين. وعهد الخليفة العباسي إلى عامله على مصر محمد بن الأشعث محاربة خوارج المغرب، ولكن أبا الخطاب تمكن من إلحاق هزيمة منكرة بجيش ابن الأشعث الذي أرسله لهذه الغاية.
__________________
|
|
#14
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -14- محمد فاروق الإمام يزيد بن حاتم والياً على أفريقيا غضب ابن الأشعث وسار بنفسه على رأس جيش كبير، واستطاع أن يوقع بالخوارج الإباضية هزيمة ماحقة في ناحية (سرت) شرقي طرابلس في سنة (144هـ/761م)، وقد قتل أبو الخطاب في تلك المعركة، كما ألحق ابن الأشعث بالخوارج هزيمة ثانية بعد ذلك بشهرين. عقب هاتين الهزيمتين قام عبد الرحمن بن رستم خليفة أبي الخطاب وواليه على القيروان بترك القيروان مع أتباعه متجها إلى ناحية تاهرت بالمغرب الأوسط، ودخل ابن الأشعث القيروان وقضى على من تبقى فيها من الخوارج، وأعاد بناء سورها فتم ذلك في سنة (146هـ/763م). وتعرضت فترة حكم ابن الأشعث لمصاعب كبيرة وخلافات شائكة بين أفراد جنده فعزل عن إفريقية وحل محله الأغلب بن سالم ابن عقال التميمي. ولم يكن حظ الأغلب بأحسن من حظ سلفه ابن الأشعث حيث ثار عليه أحد قادة جنده وهو الحسن بن حرب الكندي، الذي تمكن من قتله في شعبان من سنة (150هـ/767م) كما قتل الحسن بن حرب في نفس المعركة. واستقر رأي المنصور على ابتعاث والٍ مجرب محنك إلى المغرب، فاختار عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة المهلبي الذي اشتهر بحروبه مع الخوارج. وكان عمر بن حفص رجلا شجاعا وإداريا مجربا فدخل القيروان سنة (151هـ/768م)، وضبط أمور إفريقية في حزم وعنف فسكنت الفتنة. ولكنه واجه بعد ثلاث سنوات من الهدوء هجمة عنيفة من الخوارج يقودهم يعقوب بن حبيب بن يطوفت مما اضطره إلى ترك القيروان والانسحاب إلى إقليم الزاب وتحصن في (طبنة) ، في حين حاصر الخارجي يعقوب القيروان حصارا شديدا، في حين تجمع الخوارج من كل حدب وصوب وقاموا بحصار طبنة على عمر بن حفص، ولكن هذا صمد لهم بشجاعة وبسالة دون أن يتمكن الخوارج من اقتحام طبنة. وقد قر قرار الخوارج استئصال شأفة أهل السنة من إفريقية. وقلق أبو جعفر المنصور، وخاف أن يتمكن الخوارج من الاستيلاء على القيروان، فسير يزيد بن حاتم بن قبيصة في قوة كبيرة لنجدة عمر بن حفص، فلما علم عمر بذلك كبر عليه أن يستنقذه يزيد من الحصار، فخرج لقتال الخوارج فقتل في حربهم يوم السبت 15 ذي الحجة من سنة (154هـ/770م). وأقبل يزيد في جيش كثيف عدته - فيما روت كتب التاريخ - تسعون ألفا، والتقى مع جموع الخوارج قرب طرابلس، ودار بين الجيشين قتال عنيف هلك فيه الألوف من الطرفين، وكانت نتيجة المعركة انتصار يزيد بن حاتم على الخوارج في سنة (155هـ/771م) في 23 ربيع الأول منها. وكانت هذه المعركة حاسمة بالنسبة لمصير السنة والجماعة في إفريقية، ولم تقم للخوارج بعدها قائمة في إفريقية. ودخل يزيد القيروان وبدأ فترة من الرخاء والهدوء والبناء دامت خمس عشرة سنة. حيث توفي يزيد في سنة (174هـ/790م). وقد اهتم يزيد بن حاتم بالقيروان فاجتهد في عمارتها وتنظيم أسواقها وتجديد جامعها. وتم له ذلك سنة (155هـ/771م). وكان إلى شجاعته وقدرته الإدارية رجلا كريما. كما كانت له عناية بالزراعة وشؤون الريف.. وقد عد المؤرخون فترة حكمه الفترة الذهبية لحكم الولاة.
__________________
|
|
#15
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -15- محمد فاروق الإمام المذهب المالكي ومحنة خلق القرآن وفي أيام يزيد بن حاتم دخل المغرب مذهب مالك على يد نفر من أعاظم تلاميذ مالك، من أمثال الفقهاء: عبد الله بن فروخ الفارسي وعلي بن زياد التونسي والبهلول بن راشد وعبد الله بن غانم. وكان هؤلاء من كبار العلماء العاملين، الذين تخرجوا من مدرسة مالك بن أنس وتفقهوا بعلمه وتأدبوا بأدبه وقبسوا شمائله وتأثروا به تأثرا عميقا. وكان شيوخ المالكية من الإفريقيين على إخلاص شديد لمذهبهم وتمسك بالغ بالسنة والجماعة، حتى لقد اعتبروا من اتبع أبا حنيفة ضالا، وسموا الحنفيين بالمشارقة أو المشرقين. وأما المعتزلة أصحاب القول (بخلق القرآن) فقد وجدوا سبيلهم إلى إفريقية بدعم من الدولة فقد غدا هذا المذهب هو المذهب الحاكم في بغداد أيام المأمون، ولكن في إفريقية كانوا يعدّون المعتزلة كفارا لا يعاملون في أمر من أمور المسلمين ولم تقو شوكتهم في إفريقية إلا في أيام محنة خلق القرآن عند تولية أحدهم القضاء وهو (محمد بن أبي الجواد) المعتزلي في القيروان، الذي أخذ يمتحن الفقهاء بالقول بخلق القرآن. وقد أثار إخلاص شيوخ المالكية إقبال الطلبة على الدرس عليهم من كل صوب وناحية، حتى غدت القيروان بحق مركزا إشعاعيا إسلاميا لا يقل عن البصرة والكوفة والفسطاط، وعلا نجم المذهب المالكي في سماء إفريقية والمغرب فأصبح السمة المميزة للإسلام في ذلك الصقع من دولة الإسلام. وكان يزيد بن حاتم مناصرا للمالكية وشيوخها لما كان يجد فيهم من الإخلاص والتفاني لمساندة الشرع والقانون وأمن البلاد واستقرارها، مما دفعه للاجتهاد في معاونة المالكيين على إرساء دعائم مذهبهم في المغرب وجعل ذلك ركيزة من ركائز الاستقرار وتأييد السنة والجماعة. وتناوب على ولاية المغرب بعد موت يزيد أخوه روح بن حاتم الذي كان لا يقل عنه كفاءة وقدرة، وقد حكم ثلاث سنوات انتهت سنة (174هـ/790م) بعد وفاة ابن أخيه داود بن يزيد الذي حكم أقل من سنة. ثم جاء نصر بن حبيب المهلبي الذي حكم حتى وفاته سنة (177هـ/793م). وكان من بعده فضل بن روح بن حاتم الذي قتل سنة (178هـ/794م) على يد جنده. وهكذا انتهى حكم المهالبة للمغرب في أوائل أيام حكم الخليفة هارون الرشيد الذي دام حوالي ربع قرن من الانفراد بحكم إفريقية، وعلى قصر تلك الفترة فإنها تعتبر من أهم فترات تاريخ المغرب الإسلامي، ففي أيام المهالبة استقر الأمر لأهل السنة بصورة نهائية في إفريقية، وساد المذهب المالكي. وبعد فترة من الفوضى التي حدثت نتيجة لمقتل فضل بن روح أرسل الرشيد هرثمة بن أعين أميرا على إفريقية فقضى على ثورة ابن الجارود الذي قتل فضلا، وحكم سنتين ونصف نعمت فيه المغرب بالهدوء والسلام، وقد اهتم هرثمة بالإنشاءات والعمران فبنى قصر (المنستير) وهو أهم مراكز الرباط والعبادة والانقطاع لله تعالى في إفريقية، وكذلك جدد سور مدينة طرابلس، ثم استعفى من العمل بسبب ما جدّ من شغب من قبل جند إفريقية وبربرها وإفسادهم. وبعد فترة اضطراب بسيطة عهد هارون الرشيد إلى إبراهيم بن الأغلب ولاية إفريقية والمغرب سنة (184هـ/800م). ليبدأ بذلك عصر الأغالبة وينتهي عصر الولاة.
__________________
|
|
#16
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -16- محمد فاروق الإمام قاضي إفريقية وعالمها أبو محمد خالد بن أبي عمران التجيبي (الحمد لله الذي فتق عن أكمام الغفلة نور الإخلاص، والحمد لله الذي كشف رين القلوب بنور اليقين، والحمد لله حمداً دائماً بدوام ربوبيته، والحمد لله كما يجب له على جميع خلقه، سبحان الله وبحمده تسبيحاً يبلغ أقطار السماوات السبع ومن فيهن، وسبحان الله وبحمده من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم، رب إني إن انقطع أملي من عملي لم ينقطع أملي منك، فحقق رجائي ولا تحقق حذري، واستر عورتي، وسكّن روعتي. أنت دليلي، إليك أشكو بثي وحزني وفاقتي وفقري، فيا حزني في قلة شكري، ويا حزني إن أصبت بنفسي وأنت غير راضٍ عني، فلا تعذبني بالنار بعد إذ أسكنت توحيدك قلبي، فإنك إن عذبتني بالنار جمعت بيني وبين قوم عاديتهم فيك، اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وفي القبر وحشتي، وبين يديك ذل مقامي، اللهم إني أعوذ بك أن يُفرط عليَّ وعلى ولدي وأهلي، أو أن يطغى علينا. جل جلالك، وعز جارك، وتبارك اسمك. هذا مقام العائذ بك، الهارب إليك، يا وارث أيام الجبارين يا رحمن الدنيا والآخرة. اكفنا البلاء كله، عاجله وآجله. وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم). كان هذا دعاء عالمنا أبي محمد الذي خطه محمود المتعبد بقصر المنستير. كان خالد بن أبي عمران من العلماء الراسخين في العلم، والعبّاد المجتهدين. والذي اشتهرت إمامته بالمشرق والمغرب. اشتهر أبو محمد بإجابة الدعوة، وكان أكثر إقامته بتونس، وكانت وفاته بها سنة خمس، وقيل سبع وعشرين ومئة (127هـ/744م)، والله أعلم. وكان أهل إفريقية وجهوا به إلى يزيد بن عبد الملك، وهو الخليفة يومئذ، يخبره بقتل يزيد بن أبي مسلم عامله على إفريقية، فلما وصل إليه قربه وأدنى مجلسه واستشاره فيمن يوليه، فأشار عليه، فقبل قوله. وقال زفر بن خالد الصدفي: إن الصفرية(طائفة من الخوارج) لما خرجوا بإفريقية يوم (القرن) برز إليهم خالد بن أبي عمران. فبرز إليه ابن عم عبد الواحد الزناتي الصفري، وهو رئيسهم، فقتله خالد بن أبي عمران. وكانت له مقامات في الدين، شهد بها مغازي كثيرة وأبلى فيها بلاء كبيرا. فضل خالد بن أبي عمران ومناقبه قال حيوة بن شريح: بُعث إلى خالد بن أبي عمران ليتولى القضاء فانضم إليه رجل في طريقه، قال: فقال له: يا أبا خالد، بعث إليك هؤلاء القوم؟ قال: نعم، قال: أرادوك على ماذا؟ قال: أرادوني على القضاء. قال: أما علمت أن الله تبارك وتعالى إذا لم يكن له بالعبد حاجة نبذه إليهم؟ قال: ثم التفت فلم ير أحداً. وروى إدريس أن موسى بن نصير قال لأم ولده: اتخذي خالد بن أبي عمران ولداً. قال: فأرسلت إليه بوصائف ووصفاء، فرد هديتها. قال: فقال له الرسول: ومن يجترئ يرد على فلانة أم ولد الأمير هديتها؟ قال: فأغلق الباب في وجهه، فلما رأى ذلك الرسول رجع بالهدية إليها، فقالت للرسول: (ويحك! لعله استقلها؟ ثم أرسلت إلى ابن أبي عمران فجاء، فقالت له: لم رددت علينا هديتنا، لعلك استقللتها؟ ثم قالت له: إن سيدي أمرني أن أتخذك ولداً، لأنفعك، فقال لها: فمن أين هذا الذي بعثت به؟ فقالت له: أكلم سيدي في الرجل فيعقد له الولاية، فيرسل إلي بالرأس والرأسين. قال: فقال لها خالد: بخ! خالد بن أبي عمران يغزو فلا يدركه في سهمه إلا كذا وكذا - بشيء يسير سماه - وأنتم تأتيكم الدنيا هكذا ؟ ثم أفرغ عليها المواعظ، فوعظها. قال: فجاء موسى بن نصير فدخل عليها فلم تأخذ له أهبة. فقال لها موسى: لعل خالد بن أبي عمران دخل عليك؟ فقالت: نعم.. فقال: إن الحق ما قاله لك، فاقبليه. وكانت وفاته سنة (127هـ/744م). رحم الله قاضي إفريقية وأسكنه فسيح جناته وتقبل منه جهاده للمارقين، وعمله في سبيل الإسلام وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________________
|
|
#17
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -17- محمد فاروق الإمام قاضي القيروان أبو كريب جميل بن كريب المعافري عدّه أهل زمانه من أهل الفضل والعلم، وقالوا عنه إنه من أجلاء شيوخ إفريقية، وسكن تونس.أشخص إلى مدينة القيروان بأمر بعض ولاة إفريقية، وولاه على قضائها بعد امتناعه منه وكراهيته فيه، قيل إن هذا الوالي هو يزيد بن حاتم، وقيل إنه أخوه روح، وقيل عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، وهو الصواب. كان أبو كريب حسن السيرة في قضائه، ولم يزل على ذلك حتى قتله الخوارج بوادي أبي كريب في ناحية الحبلي من ناحية القيروان سنة (139هـ/756م). وروي عن جميل بن كريب، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب بزقة من خمرة فاجلدوه ثمانين)). فضل أبي كريب ومناقبه حدّث أحمد بن بهلول الزيات أن يزيد بن حاتم، وهو يومئذ أمير إفريقية، بعث إلى والي تونس يقول له: ابعث إليَّ بأبي كريب أوليه القضاء. قال: فتمارض أبو كريب، فكتب والي تونس إلى الأمير إن أبا كريب مريض، فكتب إليه يزيد: أن ابعث إلي به في قطيفة. فبعث والي تونس بأبي كريب، فلما قدم على يزيد كلمه فلم يرد عليه جواباً، ثم كلمه الأمير وأبو كريب ساكت فأنبه جُلاّس يزيد فقالوا: الأمير يكلمك وأنت صامت؟ فقام الأمير يزيد على قدميه وأمر جُلاّسه أن يتفرقوا عنه، وجعل يقول له: والله يا أبا كريب ما أردت إلا الله عز وجل، وأن أجعلك حسنةً بيني وبين الله عز وجل للمسلمين، وتكون لي عوناً على هذا الأمر، وتحكم بالحق عليَّ وعلى من حولي، فاتّق الله عز وجل فيما دعوتك إليه من القيام بالحق فيَّ وفي المسلمين. فقال له أبو كريب: ألله عز وجل أردت بذلك؟ فقال: نعم.. فكررها عليه ثلاثاً، فقال: نعم.. فقال أبو كريب: قد قبلت. وجلس أبو كريب في جامع القيروان يحكم بين الناس، فما مرت إلا أيام يسيرة حتى أتاه رجل فقال: أصلح الله القاضي، لي قِبل الأمير حق ومطلب وقفي عنه وقد وقفت له وسألته المجيء إليك فلم يقبل، فأعطاه القاضي طابعاً، ومضى الرجل إلى باب الأمير، فأعلم بذلك الأمير يزيد، وقيل: بل مضى معه أبو كريب بنفسه إلى باب الأمير يزيد، فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكاني. إن هذا الرجل يذكر أن له حقاً قِبله، فأعلمه الحاجب، فلبس يزيد ثيابه وخرج إلى الجامع، فادعى الخصم على الأمير يزيد بدعوى، فقال أبو كريب ليزيد: (ما تقول فيما ادعاه بحضرتك؟) فأنكر يزيد دعواه، فطلب خصمه يمينه، فاستحلفه أبو كريب فأبى يزيد أن يحلف، فقال له أبو كريب: إني أحكم عليك بنكولك عن اليمين.. فأنصفه يزيد من دعواه، ثم انصرف يزيد وهو يقول: الحمد لله الذي لم أمت حتى جعلت بيني وبين الله عز وجل من يحكم بين عباده بالحق، فقال أبو كريب: وأنا أقول الحمد لله الذي لم أمت حتى رأيت أميراً يشكر الله عز وجل بالقضاء بالحق عليه. وكان أبو كريب متواضعا يركب الحمار (بشند) ورسنه حبل ليف. ويُحكى أنه مر يوماً بمدينة القيروان ببئر أم عياض فعرض له خصمان فنزل عن حماره وقعد إلى حائط ونظر بينهما فيما اختصما فيه. ثم قام ليركب فأراد أحدهما أن يمسك برسن الحمار حتى يركب فمنعه أبو كريب من ذلك وأمسكه هو لنفسه. وهذا من محاسبته لنفسه واجتهاده. وقيل: أقبل غوث بن سليمان القاضي، وهو يريد المسجد، فلما كان عند السراجين لقيته امرأة في محفتها، كما قدمت من الريف، فشكت مظلمة فنزل في حانوت من حوانيت السراجين، كما هو ولم يبلغ المسجد، وكتب لها بحاجتها، ثم ركب دابته إلى المسجد فانصرفت المرأة وهي تقول: أصابت والله أمك حين سمتك (غوثا)، فأنت والله غوث عند اسمك. كان أبو كريب - وهو قاض بالقيروان - إذا أراد أن يتوجه إلى الجامع ساق حماره بين يديه، وإذا انصرف من الجامع ركبه منصرفا، فربما لقيه في مسيره إلى الجامع بعض الناس وهو يخوض الطين إلى أنصاف ساقيه، فيقال له: لو ركبت الحمار ؟ فيقول: لا أفعل، هكذا حال من يسير إلى ربه عز وجل، يسير ذليلا متواضعا. وكثيراً ما كان أبو كريب يجلس في الجامع وحده، فيقال له: أتقعد وحدك ؟ فيقول: إن الناس قد ذهبوا إلى جنازة، فيقال له: لو أنك انصرفت إلى دارك ! فيقول: ومن لي بالملهوف المضطر إذا قصدني فلم يجدني ؟. قال أحمد بن بهلول الزيات: وكان - يقصد أبا كريب - ربما تبين له الحكم بالليل، فيأتي دار من ثبت الحق له، فيقرع عليه بابه فيستخرجه ويأمره بأن يحضر له صالحي جيرانه ليشهدهم له، فيقول له: (لو تركت هذا إلى الغد !) فيقول القاضي: (فلو مت أنا في ليلتي هذه، أما أكون أنا الذي أضعت عليك حقك؟). وفي أيام أبي كريب وهو قاض في القيروان نشب قتال بين إلياس بن حبيب وابن أخيه حبيب بن عبد الرحمن الذي ثار عليه لقتله أباه سنة (137هـ/754م)، وتمكن حبيب من قتل عمه سنة (138هـ/755م) في مبارزة ضارية بينهما، وحز رأسه وأمر برفعه على رمح، وأقبل به إلى القيروان فدخلها وبين يديه رأس عمه ورؤوس أصحابه. وانتهى أمر بني حبيب إلى فوضى محزنة، فقد هرب عم حبيب عبد الوارث بن حبيب حين خافه على نفسه فهرب مع بعض أنصاره إلى قبيلة ورفوجة الزناتية خوفا من ابن أخيه حبيب بن عبد الرحمن واستغاث برئيسها عاصم بن جميل وكان خارجياً صفرياً، فخرج عاصم بن جميل وقومه إلى القيروان وخرج للقائهم حبيب بن عبد الرحمن فانهزم وفر، وبقي أهل القيروان يقودهم قاضيها أبو كريب يدفعون الخوارج الصفرية عن بلدهم الذين كانوا يستحلون دماء المسلمين، وخاض أبو كريب معركة غير متكافئة إلى أن سقط شهيداً مع ما يزيد على ألف من علماء ومحدثي وفقهاء القيروان وشجعانها. رحم الله القاضي المجاهد أبا كريب وجزاه عن المسلمين كل خير، فقد كان خير قاضٍ وأنبل مجاهد. ودخل الصفرية القيروان فاستحلوا المحارم وارتكبوا الكبائر، ونزل عاصم بن جميل بمصلى روح بن حاتم. واستباحوا القيروان وقتلوا كثيرا من القرشيين وربطوا دوابهم في جامع القيروان إعلانا لاحتقارهم للسنة وأهلها.
__________________
|
|
#18
|
||||
|
||||
|
الإسلام في أفريقيا -18- محمد فاروق الإمام قاضي إفريقية أبو خالد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري دخل أبو خالد يوما على الخليفة أبي جعفر المنصور، فقال له المنصور: يا ابن أنعم، ألا تحمد الله أراحك مما كنت فيه، ومما كنت ترى بباب هشام وذوي هشام؟ فقال له عبد الرحمن: ما أمر كنت أراه بباب هشام إلا وأنا أرى اليوم منه طرفاً، فكبا لها أبو جعفر. ثم قال له: فما منعك أن ترفع ذلك إلينا، وأنت تعلم أن قولك عندنا مقبول؟ فقال: إني رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع إلى كل سوق ما يجوز فيها، فكبا لها أبو جعفر، ثم رفع رأسه فقال: كأنك كرهت صحبتنا ؟، فقال: ما يدرك المال والشرف إلا في صحبتك، ولكني تركت عجوزاً وإني أحب مطالعتها، فقال: اذهب فقد أذنا لك. هكذا كانت مواقف القاضي عبد الرحمن من السلطان يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم. كان أبو خالد من جلة المحدّثين منسوبا إلى الزهد والورع، صلباً في دينه، متفنناً في علوم شتى. وكان أول مولودٍ ولد في الإسلام بعد فتح إفريقية. روى عن جماعة من التابعين، وكان مشهوراً وسيرته على كل لسان في زمانه. وكان مسكن ابن زياد بالقيروان بقرب باب نافع، ومولده بإفريقية، وتوفي بالقيروان في شهر رمضان سنة (161هـ/777م) ودفن بباب نافع. وأسر الروم ابن زياد، فرفع إلى الطاغية مع جماعة من المسلمين، قال: فبينا نحن في حبسه إذ غشيه عبد له، فأقبل علينا فيه من الحار والبارد ما يفوق المقدار، إذ خطرت امرأة نفيسة على الطاغية، فأخبرت بحسن صنيع الملك بالعرب، فخرقت ثيابها ونشرت شعرها وسودت وجهها، فقال لها: مالك؟ فقالت: العرب قتلوا ابني وزوجي وأخي وأنت تفعل بهم هذا الذي رأيت؟ فنخر وصلّب، وقال: عليَّ بهم، فصرنا بين يديه سماطين، وأمر سيافه بضرب عنق واحد واحد حتى قرب الأمر مني، فحركت شفتي، وقلت: الله، الله، الله، ربي لا أشرك به شيئا، ولا أتخذ من دونه ولياً، ثلاثا. وأبصر فعلي، فقال: قدموا شماس العرب - يريد عالمهم - فقال لي: لعلك قلت: الله، الله، الله، ربي لا أشرك به شيئا ؟ فقلت: نعم. فقال: ومن أين علمته؟ قلت له: نبينا، عليه الصلاة والسلام، أمرنا به فقال لي: وعيسى أمرنا به في الإنجيل. فأطلقني ومن معي. وقيل في رواية أخرى: فداه أبو جعفر المنصور.. فداه وولاه قضاء إفريقية. وحدّثوا أنه لما غلب البربر على القيروان وفد على الخليفة رجال، قال عبد الرحمن بن زياد: فكنت أنا فيهم، فلما صرت إليه قال: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ فقلت: رأيت ظلماً فاشياً وأمراً قبيحاً. قال: فقال لي: لعله فيما بعد من بابنا؟ قال: فقلت له: كلما قربت من بابك استفحل الأمر وغلظ، فقال لي: أنت لا تهوى الدخول في شيء من أمرنا. فقلت له: عجوز خلفتها بالقيروان وأنا أحب الرجوع إليها. قال: فأذن لي. وروي عن قبيصة بن عقبة أنه سمع سفيان الثوري يقول: لما قدم بابن أنعم على المنصور قال: ما رأيت في طريقك ؟ قال: ما زلت في منكر وجور عظيم حتى قدمت عليك. فقال له أبو جعفر: ما نعمل؟ ما نصنع؟ لا يلي لنا مثلك. فقال له: أتدري ما قال عمر بن عبد العزيز؟ قال: الملك سوق، وإنما يجلب إلى السوق ما ينفق فيها، فإن كان براً أتوه ببرهم وإن كان فاجراً أتوه بفاجرهم. وعن ابن أنعم قال: من دخل على سلطان ظالم يتقيه فقال: اللهم إني أستعينك عليه وأدفع بك في نحره وأعوذ بك من شره، إلا صنع الله تعالى به ذلك. وقال عيسى بن مسكين: كان ابن أنعم بالعراق، فأرسل إليه أهله كتاباً من إفريقية، فلما فتح الكتاب تغير لونه واصفر، فما فرغ من قراءة الكتاب حتى رؤي السرور في وجهه واحمر ورجع إليه لونه. فقال له أصحابه الذين حوله: أصلحك الله، لقد رأينا منك عجباً: رأيناك لما فتحت الكتاب وقرأته تغير لونك، ثم لم تفرغ من قراءته حتى رجع إليك لونك. فقال لهم: (نعم، لما قرأت أول الكتاب قرأت سلام أهلي ومالي وولدي فتغير لذلك لوني واغتممت، إذ لم يذكرني الله عز وجل بمصيبة، ثم قرأت آخر الكتاب فذكروا: إنك ابتليت بكذا ومات لك كذا ومات لك كذا، ففرحت بذلك). ولما وليّ ابن أنعم القضاء وسار بالعدل ولم يقبل من أحد صلة ولا هدية، نزه نفسه عن ذلك فرفع الله قدره وأعلى مناره. وذكر أن امرأة من أهل القيروان كانت لها خاصة بحرمة يزيد بن حاتم أمير إفريقية، فدار بينها وبين رجل من أهل القيروان خصومة. واستدار الحكم لها على خصمها وكتب لها ابن أنعم قضية بحقها وختمه بخاتمه وأعطاه لها، فمضت به المرأة مسرورة إلى يزيد لعلمها بمسرته، فلما دفعت الكتاب إليه أخذه يزيد ففض خاتمه وقرأه ثم رده إليها. فبكت المرأة وخافت أن لا ينفعها الحكم إذ فض خاتم القاضي، فلما رأى يزيد مشقة ذلك عليها قال لها: لا تجزعي، أنا أوجهه إلى القاضي فيختمه كما كان، فبعثه إليه فأبى من ذلك وقال: لا أختمه حتى تعيد المرأة البينة، فرده عليه يزيد ثانية ليختمه، فأبى وقال: لا أفعل. فلما ولى رسول يزيد راجعا أخذ عبد الرحمن خاتمه فكسره، ودخل بيته وقال: أنا أسبقه إلى العزل. وليَّ القضاء مرتين: الأولى في أيام بني أمية، ولاه عليها مروان بن محمد - المعروف بالجعدي - وهو آخر من ملك من بني أمية، وكتب بذلك كتاباً يقول في بعضه: (..وقد ولاَّك أمير المؤمنين الحكومة والقضاء بين أهل إفريقية، وأسند إليك أمراً عظيماً وحملك خطباً جسيماً، فيه دماء المسلمين وأموالهم، وإقامة كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى اله عليه وسلم، والذب عن ضعيفهم من قويهم وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، والأخذ من شريفهم بالحق لخاملهم. وقد رجاك أمير المؤمنين لذلك لفقهك وعدلك وخيرك وحسبك وعلمك وتجربتك. فعليك باتقاء الله عز وجل وحده لا شريك له، وإيثار الحق على ما سواه. وليكن جميع الناس: قويهم وضعيفهم، في الحق، عندك سواء). فأقام قاضياً إلى سنة (132هـ/749م)، وفيها زال ملك بني أمية، فعزل عن القضاء إذ كان من قبل مروان. وولي بعده أبو كريب، وكان فاضلاً ورعاً. قتلته الصفرية سنة (140هـ/757م)، حين تغلبوا على القيروان وملكوها. فلما رأى ذلك علماء إفريقية بعثوا إلى المشرق جماعة من شيوخهم إلى أبي جعفر المنصور، وكان رئيسهم ابن أنعم، مستغيثين به، فوجه معهم محمد بن الأشعث بجيش كبير، وأمره إذا وصل وملكها وأخرج البربر منها، أن يولي عبد الرحمن بن أنعم قضاء إفريقية. وفي هذه السفرة استغل ابن زياد وجوده في العراق فجلس للدرس والوعظ، فسمع منه سفيان الثوري وكبار أصحاب أبي حنيفة وابن أبي زائدة. وأجمع أهل القيروان على ولايته، لما علموا من دينه وفضله وزهده. فسار فيهم بسيرة أهل العدل، وأقام فيه الكتاب والسنة. ولم يزل على ذلك حتى جرى له مع يزيد بن حاتم ما جرى، فترك القضاء ورحل عنه إلى تونس. ولم يزل معظماً في صدور الناس رفيع القدر عندهم حتى توفي سنة (161هـ/777م).
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |