سور صلاة الجمعة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح البخاري كاملا الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 484 - عددالزوار : 74345 )           »          حكم الزكاة لمن اشترى أرضاً ولم ينو بيعها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          صيام الأيام البيض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          هل الاستغراق في النوم ينقض الوضوء؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          الفرق بين الرياح والريح والسُّنة فيهما (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 2046 )           »          اهتمام الإسلام بالعلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 108 - عددالزوار : 48198 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 108 - عددالزوار : 52343 )           »          عُزلة الـ «تكست نِك» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-03-2020, 04:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,539
الدولة : Egypt
افتراضي سور صلاة الجمعة

سور صلاة الجمعة (1)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل





المشترك بين الأعلى والغاشية


الحمد لله رب العالمين، أنزل القرآن هدى للمتقين، وحجَّة على الناس أجمعين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفارَ المذنبين، ونسألُه من فضله العظيم؛ فهو - سبحانه - مبتدئ النعم ومتمِّمها، وهو - عز وجل - مَن يستحقُّ شكرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحكمةُ الباهرة في شرعه، وله الحجَّةُ البالغة على خلقه؛ {قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أنصح الناس للناس وأتقاهم لله - تعالى - ترَكَنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فأوصي نفسي وإياكم - عباد الله - بتقوى الله - تعالى - فإنها الصفقة الرابحة، والوصية الجامعة، وصَّانا بها ربنا - جل في علاه -: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} [النساء: 131]، ووصَّانا به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في موعظته التي ظنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - أنها موعظة مودِّع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكم بِتَقْوَى الله))، فخذوا عن ربكم - سبحانه وتعالى - وصيته، وخذوا عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وصيَّته؛ والزَموا التقوى فإنها نعم العُدَّة ليوم لا تنفع فيه شفاعة ولا خلة.

أيها الناس:
يوم الجمعة يومٌ عظيم مبارك، جعله الله - تعالى - للمسلمين عيدًا، واختصَّه بجملةٍ من الخصائص، من أعظمها هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون في المساجد؛ ليستمعوا للتذكير والموعظة فتكون زادًا لهم في أسبوعهم، ومن خصائص صلاة الجمعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنَّ فيها قراءةَ سُوَر مخصوصة، هي الجمعة والمنافقون، أو الجمعة والغاشية، أو الأعلى والغاشية، ولا بُدَّ أن يكون تخصيص صلاة الجمعة بهذه السُّوَر لِحِكَم عظيمة، وفوائد جليلة، تعود على المصلِّي بالنفع عاجلاً وآجلاً.

وقد روى سَمُرَةُ بن جُنْدُبٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجُمُعة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]؛ رواه أبو داود، وهاتان السُّورتان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما في صلاة العيد، ومن العجيب أيضًا أنه إذا وافق يوم الجمعة عيدًا قرأ بهما في صلاة العيد صباحًا، وقرأ بهما في صلاة الجمعة ظهرًا، فكرَّر القراءة بهما في يوم واحد، في صلاتين متتابعتين؛ كما جاء في حديث النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ - رضي لله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقرأ في العِيدَين وفي الْجُمُعة بـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى}، و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، قال: وإذا اجتَمع العِيد والجُمُعة في يَومٍ وَاحدٍ يَقرأ بِهمَا أَيضًا في الصَّلاتَينِ؛ رواه مسلم.

وحين نتأمَّل المعاني التي حوَتها السُّورتان يَبِين لنا بعض الحكم العظيمة من قراءتهما في الجمعة والعيد، ولا يتَّسع هذا المقام لذكر كل ما في السورتين، لكن ثمة أمورًا مشتركة، تكرَّرت في السورتين جميعًا للعلم بها أهميته.

إنَّ يوم الجمعة هو يوم موعظة وتذكير، وأعظم ذلك وأفضله التذكير بربوبية الله - تعالى - وعظمته وقدرته، والاستدلال على ذلك بآياته وخلقه؛ ليبقى مُعظَّمًا في قلوب من صلوا الجمعة، فينتفعون بذلك طِيلَة أسبوعهم بالمبادرة إلى الطاعة، والانتهاء عن المعصية؛ تعظيمًا لله - تعالى - وإجلالاً وخوفًا ورجاءً، وعند النظر في السورتين نجد أنهما اشتركتا في هذا المعنى العظيم؛ ففي الأعلى تذكير بالخلق والقدر وإنبات الزرع، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 1- 5].

وفي الغاشية تذكيرٌ بآيات أخرى تدل على عظمة الله - تعالى – وقدرته: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17- 20].

وأعظم معنًى ينبغي أن يستقرَّ في القلوب فلا يفارقها، وأن يتذكَّره العباد فلا ينسونه ولا يغفلون عنه: هو ربوبية الله - تعالى - وألوهيته، فشُرع التذكير به في كل جمعة بأنْ كان من السنن في صلاتها قراءة هاتين السورتين، فحريٌّ بمَن أرعى سمعه لهما، ووعاهما قلبه، وتدبَّر في معانيهما: أن ينتفع بذلك انتفاعًا عظيمًا، فيزداد لله - تعالى - إجلالاً وتعظيمًا.

هذا؛ ومعرفة عظمة الرب - جل جلاله - تقود إلى عبوديته، والإخلاص له، والتعلُّق به، والتوكُّل عليه، فيزداد إيمان العبد، ويواجه الحياة وشدتها وهمومها بقلب عامر بالإيمان، ثابت باليقين، قوي بالتوكل، لا تزعزعه الخطوب والمُدْلَهمَّات.

والنَّاس في الدنيا مؤمنٌ وكافر، برٌّ وفاجر، أصحاب جنة وأصحاب سعير، وكلُّ واحد من الناس لا بد أن يكون من أحد الفريقين؛ إذ لا دار ثالثة في الآخرة لفريقٍ ثالث، وإنما هما الجنة والنار، ولكل منهما أهلها، وهذا التقسيم الرباني للناس نجد التذكير به في السورتين جميعًا: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى: 10- 11].

والمعرِض عن دين الله - تعالى - الشقيُّ باتباع هواه في الدنيا متوعَّد بعذابٍ أكبر يوم القيامة؛ حُكي في السورتين: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الأعلى: 11- 13]، وفي الغاشية: {إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 23- 24]، فكان الناس على فريقين: متذكِّر ومُعرِض، قسم يخشى وآخر يشقى، فيوجل قلب المؤمن أن يكون من أهل الشقوة، ويعمل بعمل أهل الخشية.

وإذا كانت سورة الأعلى قد ذُكر فيها وصفُ الفريقين في الدنيا بأنَّ أحدهما أهله أهل خشية، والآخر أهله أهل شقوة، فإنَّ في سورة الغاشية ذكرًا لمآل هذين الفريقين، إذ بُدِئت السورة بذكر يوم القيامة؛ لأن أثر هذه القسمة سيكون فيه؛ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7]، فمَن ذُكِّر بهذه الأوصاف يوم الجمعة اضطرب قلبُه، واقشعرَّ جلده، وخشي أن يسلك هذا المسلك الوبيء، وخاف أن يكون من هذا الفريق، وحاذر أن يعمل بعمل أهله؛ لعلمه أنه لا طاقة له بهذا العذاب الأليم.

وحين يسمع المُصلِّي وصف أصحاب الفريق المؤمن، وما أعدَّ الله - تعالى - لهم في الجنة من النعيم المقيم، فإنه يطمع في أن يكون منهم، ويرجو أن ينتظم في سلكهم، فيسعى سعيَهم، ويُجانِب ما يحجزه عنهم، ونجد هذه الأوصاف مفصَّلة في سورة الغاشية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 8- 16].

والمؤمن حين هداه الله - تعالى - للدين القويم، ومنَّ عليه بالصراط المستقيم، وذاق حلاوةَ الإيمان التي لا تعدِلها حلاوةٌ مهما كانت، فإنه يحب هذا الخير للناس أجمعين، ويرجوه لهم، ويدعوهم إليه، ويدلُّهم عليه، فكانت الدعوة إلى دين الله - تعالى - هي أهمُّ المهِمَّات بعد الإيمان والعمل الصالح، ونجد أن السورتين كلتَيهما قد جاء فيهما الأمر بالدعوة، مع بيان أن الداعي عليه البلاغ، وليست له الهدايةُ، بل الله - تعالى - يهدي من يشاء؛ حتى لا ييأس حين لا يستجيب له المدعوُّون، بل يمضي في الدعوة والبلاغ والتذكير؛ طاعةً لله - تعالى - ومحبة للناس، ولو لم يتبعه أحد، ونجد في سورة الأعلى قول الله - تعالى -: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، وفي سورة الغاشية: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21- 22].


إن مصلِّي الجمعة حين يسمع كلام الله - تعالى - في كلا الركعتَين، يذكِّره بدعوة الخلق إلى الحقِّ، فحريٌّ به أن ينطلِق من المسجد وقد امتلأ قلبه بحبِّ الدعوة لدين الله - تعالى - ومحبَّة الداعين إليه، وبغض الذين يصدُّون عن دينه، ويعادُون أولياءه، ويعارِضون أحكامه، ويحادُّون شريعته، وينشرون الفساد في الأرض؛ لأنهم دعاة ضلال، يصدُّون عن الحق، ولا ينصحون للخلق، ولو زعموا أنهم مصلِحون، فهي دعوى المنافقين من قبلهم؛ ففضحهم الله - تعالى -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11- 12].

ومن المعاني العظيمة التي اشتركت السورتان في تناولها:
زَرْع المراقبة في قلب العبد، فيجعل من نفسه رقيبًا عليها؛ لعلمه أن الله - تعالى - رقيبٌ عليه، لا يخفى عليه شيءٌ من أقواله وأفعاله ولو أخفاه عن الخلق، وهذا المعنى العظيم جاء في قول الله - تعالى - في سورة الأعلى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7]، وهو محاسَبٌ عليه كما أفادته سورة الغاشية: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25- 26}.

نسال الله - تعالى - أن يرزقنا الفقه في دينه، وتدبُّر كتابه، والعملَ به، وأن يكفينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه سميع مجيب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.




الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48].

أيُّها المسلِمون:
إن الله - تعالى - لم يخلق خلقه عبثًا؛ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، ولم يشرع شرائعه لتعذيب العباد بها، والمشقَّة عليهم فيها، كيف، وهو القائل - سبحانه -: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؟! وإنما شرع - سبحانه - الشرائع لمصالح العِبَاد في الدنيا والآخرة؛ فلا سعادةَ لهم إلا بها، وإنَّ الشقاء كلَّ الشقاء في الحيدة عنها، أو الاعتراض عليها، أو إبدال غيرها بها.

ولنعلم جميعًا أن الله - تعالى - لا يشرع شيئًا إلاَّ لحكمة، سواء أدركها الناس أم لم يدركوها؛ {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 41- 42]، وما شرع - سبحانه - قراءة سور معينة في صلوات مخصوصة إلا لحِكَمٍ عظيمة، يدركها من تدبَّر هذه السور وعرف معانيها، وأنار الله - تعالى - بصيرته، ورزقه الفقه في دينه.

افتُتِحَت سورة الأعلى بتسبيح الله - تعالى - وإثبات ربوبيته المستلزِم لألوهيَّته، وذلك بذكر البداية والخلق والقدر، واختتمت سورة الغاشية بالنهاية والمآب والجزاء والحساب، وبين البداية والنهاية في السورتين معانٍ عظيمة، ومواعظ بليغة، وعلم نافع، وذكرى لمن أرخى لها سمعه، ووعاه قلبه، فأعطوا كتاب الله - تعالى - حقَّه من القراءة والفهم والتدبر؛ فإنه غياث القلوب وطمأنينتها، وفيه صلاح أحوال البشر في دنياهم وآخرتهم؛ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15- 16].

وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-03-2020, 04:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,539
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سور صلاة الجمعة

سور صلاة الجمعة (2)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



الحمد لله ربِّ العالمين؛ أنزَل القرآن هُدًى وشِفاء للمؤمنين؛ ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44]، نحمَدُه ونشكُره؛ فنِعَمُه على عباده مُتوالِيَة، وآلاؤه على المؤمِنين مُتتابِعة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ يَهدِي ويُضِلُّ، ويُعطِي ويمنَع، ويَبسُط ويقبِض، ويَرفَع ويَضَع، ولا يُسأَل عمَّا يَفعَل، وهو العليم الحكيم، وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله؛ فتح الله - تعالى - به أعيُنًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلفًا؛ فاستَضاءَتْ بِنُورِ الوحي الذي بلَّغَه فكانَتْ من المُهتَدِين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعِه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطِيعُوه، والتَزِمُوا دينَه، وتدبَّروا كتابه، وعظِّموا أمره ونهيه؛ ﴿ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132].

أيُّها الناس:
يوم الجمعة يومٌ عظيم مُبارَك، اختصَّ بخصائص كثيرة، وفَضائل عظيمة، وشُرِعت فيه عبادات عِدَّة، وجعَلَه الله - تعالى - للمسلمين عيدًا بعد أن هَداهم إليه، وضلَّت عنه الأُمَم التي كانت قبلهم.

ومن خصائص الجمعة هذه الصلاة العظيمة التي شرَعَها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَوْرَ هجرته للمدينة، وكان يقصد صلاتها بسُوَرٍ يقرَؤُها فيها استقرَّ عند العُلَماء أن قراءتها فيها من السنَّة؛ وهي سُوَرُ: الجمعة، والمنافقين، والأعلى، والغاشية، وممَّا ورد في سنته - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه يخصُّ الركعة الأولى بالجمعة، والثانية بالمنافقين؛ كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرَأ في صلاة الجمعة سُورَة الجمعة والمنافقين"؛ رواه مسلم.

وروى عبيدالله بن أبي رافع - رحمه الله تعالى - قال: "صلَّى بنا أبو هريرة يومَ الجمعة فقرأ بسُورَة الجمعة وفي الركعة الآخرة ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ﴾، قال: فأدرَكت أبا هريرة حين انصَرَف فقلت له: إنك قرأتَ بسُورتَيْن كان عليٌّ - رضِي الله عنه - يقرَأ بهما بالكوفة، قال أبو هريرة: فإنِّي سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقرَأ بهما يوم الجمعة"؛ رواه مسلم وأبو داود واللفظ له.

ولا يقصد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قراءتهما في صلاة الجمعة إلا لمعانٍ عظيمة حوَتْها السُّورَتان، يعلَم الناس منها ما يعلَمُون، ويجهَلُون منها ما يجهَلُون على قدر ما آتاهم الله - تعالى - من الفقه في الدين، ومعرفة التأويل، وتدبُّر آيات الكتاب الحكيم.

والحديث عن السُّورتَيْن وما فيهما من الفقه والمعاني حديث غزير عزيز، يستَوعِب مجالس عِدَّة، وحسبنا في هذه الفريضة المُحكَمة أن نأتي على ما اشتَركَتْ فيه السُّورَتان من المعاني، وهي معانٍ جليلة لِمَن تدبَّرَها وتأمَّلَها، لا يملك مَن علمِها إلا أن يسبِّح الله - تعالى - كما يسبِّحه أهل سماواته وأهل أرضه، وهذا افتِتاح سُورَة الجمعة؛ ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة: 1].

لقد اشتَركَت السُّورَتان في وَصْفِ أهل الضَّلال والإعراض عمَّا جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليَتجدَّد حذَر المؤمن في كلِّ أسبوع يسمَع فيه السُّورتَيْن من سُلُوك طريقهم، ففي الجمعة بعد المِنَّة ببعثة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَر الله - تعالى - حال اليهود المكذِّبين مع علمهم بالحقِّ، فكان تكذيبُهم عن إعراضٍ واستكبارٍ، فقال - سبحانه - فيهم: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]، وهو تهديدٌ لِمَن يعلَم الحقَّ ولا يعمَل به، وتحذيرٌ لغيره من اتِّباعه في باطله.

وفي سُورَة المُنافِقين ذكرٌ لنوع آخَر من الإعراض، وهو إعراضُ المنافقين الذين يُظهِرون الإيمانَ ويُبطِنون الكفرَ، فيُخالِف باطنهم ظاهرهم؛ ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، وسبب استِتارهم بنِفاقِهم أنَّهم يسعَوْن لصدِّ الناس عن دين الله - تعالى - بكلِّ الوسائل، ولكنَّ الله - تعالى - هتَك سترهم، وأظهَر للناس أمرَهم، وفضَح مُرادَهم؛ لئلاَّ يغترَّ بهم غيرُهم: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 2].

وأهمُّ قضيَّتين تشغَلان حيِّزًا كبيرًا من تفكير الناس في الحياة الدنيا هما قضيَّتا: الرزق والأجل، وكثيرًا ما سُعِّرت الحروب لأجلهما، وكلتا القضيَّتين عالجتهما السُّورَتان:
أمَّا قضيَّة الرِّزق فإن الله - تعالى - أمَر في سُورَة الجمعة بالضرب في الأرض، وطلَب الرِّزق، بشرط ألاَّ يعطل عن الفرائض؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9 - 10].

ومن أكثر ما يُلهِي العِباد عن فرائض الله - تعالى - الاشتِغال باللَّهْوِ وبالتِّجارة، فجاء التحذير منه؛ ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ﴾ [الجمعة: 11]، ويأتي التأكِيد على ذلك في سُورَة المنافقين مع النهي عن اللَّهْوِ بالأولاد؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]؛ ذلك أنَّ الرِّزق يُبتَغَى ممَّن يملك خَزائِنه، ومَن بيده مَفاتِيحه، ونجد هذا المعنى في الجمعة؛ ﴿ قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 11]، كما نجده في سُورَة المنافقين؛ ﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [المنافقون: 7].

وما خُلِق الإنسان إلا ليَذكُر الله - تعالى - في كلِّ حينٍ بلسانه وأركانه، في أقواله وأفعاله، ونجد أن السُّورتَيْن تكرِّسان هذا المعنى في وجدان العبد في كلِّ جمعة، وتغرِسان في قلبه أهميَّة ذكر الله - تعالى - ففي الجمعة؛ ﴿ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ ﴾ [الجمعة: 9]، وفيها ترتيب الفلاح على الذكر؛ ﴿ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وفي سُورَة المنافقين ترتيبُ الخسارة على التَّفرِيط في الذِّكر؛ ﴿ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].

وما يقع من ظلم العباد لأنفسهم وإعراضهم عن الله - تعالى - فهو بسببهم، وبما كسبَتْ أيديهم؛ إذ لو كانَتْ قلوبهم صالِحَة للهداية لَوَفَّقهم الله - تعالى - إليها؛ ﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]، فوصَفَهم بالظلم لتكذيبهم، وفي المنافِقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3].

وفي السُّورتَيْن تأكيدٌ على عدَم الاغتِرار بالمظاهر الزائفة من فَصاحة اللسان، ورَوْعَة البيان، وجَمال الخلقة، وكَثرة الثقافة والمعرفة؛ لأنَّ العِبرة بصَلاح القلب لا بحسن المنطق، وباتِّباع العلم بالعمل لا بسَعَة الاطِّلاع؛ فاليهود - وهم عُلَماء عصرهم - ما نفَعَهم علمُهم بالكِتاب حين لم يعملوا به، فذمَّهم الله - تعالى - في سُورَة الجمعة؛ ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ﴾ [الجمعة: 5]، والمنافِقون كانوا ذوي فَصاحة لسان، وجَمال أجسام، حتى وصَف جمالهم زيد بن أرقم - رضِي الله عنه - فقال: "كانوا رجالاً أجمل شيء"؛ متفق عليه، فما أغنى عنهم ذلك شيئًا، وذمَّهم الله - تعالى - في قرآنٍ يُتلَى؛ ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].

نعوذ بالله - تعالى - من النِّفاق والمُنافِقين، ونسأَلُه - سبحانه - الثَّبات على الدِّين، ولزوم الصراط المستقيم، كما نسأله أن يفتَح على قلوبنا بتدبُّر آيات الذِّكر الحكيم، وأن يرزقنا فهمَه والعملَ به، إنه سميع قريب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، وأقول ما تسمَعون، وأستَغفِر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مُبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويَرضَى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتَدَى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 48].

أيُّها المسلِمون:
مَن تأمَّل سورتي الجمعة والمنافقين وجَد أنهما تناوَلَتا طائفتَيْن من أعداء المسلِمين هما: اليهود في أربع آيات من سُورَة الجمعة، والمُنافِقون في ثماني آيات من سُورَة المنافقين، ومَن استَقرأ التاريخ وتأمَّل الواقع، وجَد أنَّ اليهود والمنافقين أخطَر أعداء الإسلام والمسلِمين، وهذا من إعجاز القرآن أنْ يُذَكِّر الله - تعالى - عِباده كلَّ جمعة بهذين العدوَّيْن؛ تحذيرًا لهم من دون سائر طَوائِف الكفر والشرك، ثم تُثبِت أحداث التاريخ والواقِع أنَّ لهذا التذكير المستمرِّ بهذين العدوَّيْن حاجته الملحَّة؛ ليُباعِد المؤمِن عن الاتِّصاف بصِفاتهم السيِّئة، ولكي يحذر من غَوائِل هذَيْن العدوَّيْن اللدودَيْن.

واليهود والمنافقون يشتَرِكون في جملةٍ من الصِّفات تندَرِج كلُّها في طِباع اللؤم والخسَّة والعِناد والاستِكبار:
فكلاًّ من اليهود والمنافقين يعلَمون الحقَّ ولا يتَّبِعونه، بل يُحارِبونه، فليسوا مِثْلَ النصارى وكثيرٍ من المشرِكين الذين عارَضُوا الحقَّ لجهلهم به؛ فاليهود أهلُ كتابٍ يعلَمون حقيقةَ الإسلام وصدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمنافقون عاشوا بين المسلِمين، وعَلِموا ما عندهم من الحقِّ، ولكنَّهم نابَذُوه العداء.

وشَراسَة اليهود والمنافقين في عَداوتهم للمسلمين مُتواتِرة في الكِتاب والسنَّة، ومُثبَتة في تارِيخ طويلٍ من العَداء، ونُشاهِدها في واقعنا المُعاصِر، وكلاَ الطائفتَيْن تتَّصِفان بالغدر؛ فاليهود نقَضُوا عُهُودهم مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغدَرُوا بالمسلمين في دُوَل الإسلام المُتعاقِبة إلى يَومِنا هذا، وأسَّسُوا الفِرَق الباطنيَّة المنافقة المُناوِئة للإسلام وأهله.

وأمَّا المنافقون فغدَرُوا بالمسلمين في أشدِّ الساعات، وأحلَكِ الظروف منذ أن سَنَّ الغدرَ فيهم عبدالله بن أُبَيِّ بن سَلُول في غزوة أُحُدٍ إلى يومِنا هذا، وعدد من دُوَل الإسلام سقطت بسببهم، وبمعونة اليهود لهم.

ويشتَرِك اليهود والمنافقون في ثلاث صِفات رديئة هي: الجبن والحرص والشح؛ وسُورَة الجمعة كشَفَتْ حقيقةَ جبن اليهود وفرارهم من الموت؛ ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 6 - 7]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولو أنَّ اليهود تمنَّوا الموت لَماتُوا ورأوا مَقاعِدهم في النار))؛ رواه أحمد، وألمحت سُورَة المنافقين إلى اتِّصاف المنافقين بالجبن؛ ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [المنافقون: 4].

وأمَّا البخل فاليهود والمنافقون مَوصُوفون به في عددٍ من آي القرآن، وكشَفَتْ سُورَة المنافقين مَقُولَة رؤوس النِّفاق لأتباعهم؛ ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7].

ولئلاَّ يقع المؤمِنون في شيءٍ من أوصاف اليهود والمنافقين نجد أنَّ السُّورتَيْن جميعًا حذَّرَتَا المؤمنين من الاتِّصاف بالجبن والحرص والبخل، فأكَّدت السُّورَتان على أنَّ الأجَل نازِل بالعِباد لا مَحالة، لا يردُّه حرصٌ ولا حذَرٌ؛ ففي الجمعة ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8]، وفي سُورَة المنافقين ﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ﴾ [المنافقون: 11].

وإذا كان ذلك كذلك فعلى المؤمِن أن يعدَّ للموت وما بعدَه ما يُنجِيه من الأهوال؛ وذلك بالعمل الصالح، وهو ما دعَتْ إليه السُّورَتان جميعًا؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]، وفي آيةٍ أخرى ﴿ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وفي آيةٍ ثالثة ﴿ قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 11]، وفي سُورَة المنافقين ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11].


وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 79.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 77.53 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]