|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أساليب نشر العلمانية (1) صُنع الظروف المولـِّدة للعلمانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فالعلمانية نبتٌ غريب في بلاد الإسلام ما فتئ أصحابه يحاولون غرسه في بلاد الإسلام؛ لا يكاد يتماسك زرعه إلا كما يتماسك الزرع النابت في طبقة رقيقة من التراب على صخر أملس فتنمو شيئًا ما؛ حتى إذا فرح بها أصحابها أتتها أمطار الحجة فغسلت الزرع والتربة، وتركته صلدًا، مثلهم في ذلك كالمثل الذي ضربه الله -تعالى- في قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264). وإذا استصحبنا هذا المثل فسنجد أن جهود المستشرقين -التي أكملها مِن بعدهم تلاميذهم عن علم أو عن جهل- تدور حول عناصر هذا المثل ما بيْن محاولة وضع تلك الطبقة الترابية فوق الصخر الصلد، وما بين محاولة سقي هذا الزرع وتثبيته بما يتوافق مع عجزه وضعفه، وما بين منع الوابل الصيب المستمد من نور الوحي من أن يعمل أثره في إزاحة هذا النبت الهزيل؛ ومِن ثَمَّ يمكن تلخيص طرائقهم في محاور عدة رئيسية، تحت كل منها محاور فرعية يمكن إجمالها على النحو الآتي:1- صنع الظروف المولـِّدة للعلمانية، وذلك مِن خلال: - افتعال الصدام بين الدين والعقل. - افتعال الصدام بين الدين والعلم الحديث. - افتعال الصدام بين الدين ومتطلبات الحياة الحديثة. 2- تكريس الواقع المنحرف ولا سيما في المجالات الآتية: - مجال الحكم بتكريس الديمقراطية الليبرالية ومنع محاولات أسلمة الديمقراطية. - مجال الاجتماع «ولاسيما ما يتعلق بالأسرة والمرأة». - مجال الاقتصاد «ولاسيما فيما يتعلق بالربا والميسر». - مجال الفنون والآداب. 3- ترويض الظاهرة الدينية عبر الوسائل الآتية: - الزعم أن الدين علماني بطبعه. - المطالبة بعلمنة الدين. - تثوير الدعوة الإسلامية. 4- ترويع المؤسسات الدينية «الرسمية والأهلية!». وسوف نتناول هذه الأساليب في سلسلة مقالات، ونبدأ في هذا المقال بالأسلوب الأخطر والأهم، وهو: «صنع الظروف المولِّدة للعلمانية»: لقد نشأت العلمانية في ظروف معينة، وهذه الظروف هي باختصار شديد: - المصادمة بين الدين النصراني المحرَّف وبين العلم. - المصادمة بين الدين النصراني المحرف وبين العقل. - الطغيان الكنسي لوجود نظام الحكم المسمى بالدولة الثيوقراطية، وهي لا تعني وجود شريعة تطبق مِن خلال حاكم عادل، ومِن خلال قضاة عادلين، ولكن الحكم الثيوقراطي عندهم يعني أن الشريعة ذاتها غير محددة بناءً على عقيدتهم مِن أن الوحي لم ينقطع، وأن رجال الدين هم الذين يقطعون في كل شيء بلا ضابط، ودون أن يحاسبهم أحد! وهذه الظروف لا وجود لها إطلاقًا عندما نتحدث عن الإسلام «أي أننا عندما نتحدث عن الإسلام لا يوجد أي تناقض بين الإسلام وبين العقل»؛ فلا يوجد تناقض بين نصوص الكتاب والسنة بعضها بعضا، ولا يوجد كهنوت، ولا يوجد حاكم مطلق مِن البشر؛ وإنما الحاكم المطلق هو الله -تعالى- {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} (الأنعام:57)، وحتى الرسل إنما يبلغون عن الله -عز وجل-؛ فطاعتهم مطلقة باعتبار البلاغ، وأما مَن دون الرسل؛ فالأمر في غاية الوضوح، ولقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى هزِّ، بل نسف ثقة الرجل الغربي المتدين في إيمانه، وفي دينه؛ ومِن ثَمَّ «خلا الجو للعلمانية». وعندما علـَّم المستشرقون تلاميذهم هذه القضايا كانت المغالطة الكبرى أنهم «أوهموهم» أن جميع الأديان متشابهة في خصائصها؛ لا سيما في العيوب التي اضطروا إلى الاعتراف بوجودها في دينهم، ونحن معشر المسلمين نعتقد اعتقادًا راسخًا أنه كتبها الأحبار والرهبان بأيديهم، وادعوا «أنها مِن عند الله!»، ولكن العقبة التي واجهها دعاة العلمانية في بلاد الإسلام أن كل هذه المسوغات لا وجود لها في الإسلام، وأن المجتمعات الإسلامية متدينة بطبعها؛ وبالطبع يوجد الكثير مِن الانحرافات في التطبيق، ولكنها تبقى بعيدة كل البعد عن الكفر بالدين أو الشك في الشريعة، أو جعل أن السعادة في مخالفتها. وبدلاً مِن أن يُراجِع القوم أنفسهم فليست الخيارات محصورة بيْن دين يناقض العقل أو لا دين -كما توهموا!-، بل ثمة دين لا يناقض العقل ولا يعوق العلم «بل يهيئ له المناخ»؛ إلا أن القوم أصروا على غيهم! وأصروا أن يزعموا أن كل العوامل والمسوغات التي أدت إلى طغيان العلمانية في الغرب موجودة في دين الإسلام، وراحوا يفتشون أو يزعمون أمثلة من هذا القبيل. وشمل هذا الجوانب الآتية: - افتعال الصدام بين الدين والعقل: لعل الصدمة الرئيسية التي تلقاها الأوروبي وهو في بداية عصر النهضة العلمية أن النهضة العلمية تحاول أن تنمي عقله، وأن تنمي عنده روح البحث؛ بينما إيمانه الكنسي يطالبه بأن يحشو عقله بما يناقض العقل والمنطق، وبأمور يناقض بعضها بعضًا! ومِن ثَمَّ كان مناقضة كتب أهل الكتاب للعقل وتناقضها فيما بينها -وهذا راجع لما فيها مِن تحريف كما أسلفنا- هو السبب الرئيس الذي زلزل إيمان هؤلاء. ومنذ فترة مبكرة في تاريخ الإسلام أكثرَ الزنادقة مِن الطنطنة حول هذه الأمور، ولم يكن الغرض حينئذٍ هو الدعوة إلى العلمانية، ولكن كان الغرض هو فتنة المؤمنين عن دينهم، وقد تصدى لهم جهابذة العلماء، وكانت لهم معهم صولات وجولات كردود (أبي حنيفة) -رحمه الله- على الزنادقة، وجواب (الشافعي) -رحمه الله- على شبهاتهم، وأجوبة (ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث)، و(الطحاوي في مشكل الآثار)، وغيرهم كثيرون... حتى جاء شيخ الإسلام (ابن تيمية) -رحمه الله- فجعل قضية (درء تعارض العقل والنقل) هي شغله الشاغل، وصنـَّف مصنفًا كبيرًا يَحمل هذا الاسم، ولم يخلُ مصنف مِن مصنفاته من التعريج على هذه القضية بصورة أو بأخرى، ولما جاء العلمانيون إلى بلادنا، ووجدوا حصون الإسلام منيعة مِن أن تُرمى بمخالفة العقل؛ لجؤوا إلى أساليب، منها: إعادة نشر شبهات الزنادقة: فمن طرائقهم المكررة الممقوتة تكرار شبهات الزنادقة والمشككين عبر التاريخ، ومِن الأشياء العجيبة أيضًا أن بعضهم يأتي ببعض الشبهات ويعرضها ولسان حاله يقول: «إني أتيت بما لم تستطعه الأوائل!»، ثم تفاجأ أن الشبهة موجودة في كتب الأقدمين، وقد ردَّ عليها -مثلاً- (ابن قتيبة) -رحمه الله- في (تأويل مختلف الحديث) أو غيره، بل تجدها بألفاظها نفسها تقريبًا؛ وهذا يجعلنا نقطع أن هناك شخصًا ما -إن لم يكن هذا الشخص المتكلم بعينه فأستاذه أو أستاذ أستاذه- لجأ إلى هذه الكتب فقرأ الشبهة وقرأ الرد، ثم كتم الرد ونشر الشبهة، أو أعاد إنشاءها على أنه أنشأها من البداية تلبيسًا وخداعًا. تقديم المناهج الخرافية على أنها هي الفهم الصحيح للإسلام: ومِن أعجب الأمور: أن تجد أن الدول الكبرى التي ما تفتأ تتحدث عن العقلانية والمعاصرة هي التي تساند وجود التيارات الخرافية، مثل: «الشيعة - والصوفية!»، والأمر يتعدى مجرد الدفاع عن حقهم في اعتناق ما يشاؤون إلى الدعم المادي للاحتفالات والموالد التي يحدث فيها من مخالفات العقل والفطرة ما يخجل منه رموز الصوفية أنفسهم إذا طـُلبوا للمناظرة! ومِن أعجب العجب: أن يجمع الشخص الواحد بيْن تبني هذه الأفكار وبين عَدِّها دليلاً على أن دين الإسلام مثله مثل غيره لم يخلُ من الخرافة؛ فيدافع عن وجود هذه الانحرافات ثم يستثمر وجودها في إثبات التعارض بين النقل والعقل بما يلزم منه الرجوع إلى العقل ورفض الدين، أو رفض اتخاذه مرجعًا أخلاقيًّا وثقافيًّا عامًّا. إثارة الجدل في الأمور التي لها أصل صحيح، لكن لحق بها الكثير مِن الخرافات: فمِن أساليبهم في ذلك: كثرة الكلام في الموضوعات التي لها أصل صحيح في الشرع، ولكن هذا الأصل أصبح «نقطة في بحر»؛ بالنسبة لما راج بين الناس حوله، مثل موضوعات: (الجن - والسحر - والحسد)، وكلها مذكورة في (القرآن والسنة)، لكن يتم عرض الموضوع كما هو في التراث الشعبي، ثم يُستضاف الضيوف الذين يكونون بيْن مقر ومنكر؛ والصحيح هو التفصيل «لكن غالبًا لا يُستضاف مَن يمثـِّل أو -يفصِّل- هذا التفصيل!». وإن تصدى الدعاة والخطباء لبيان الخطأ مِن الصواب في هذه الأبواب؛ استثمر العلمانيون في إثبات أن دعاة الإسلام لا يشغل بالهم إلا «الجن والعفاريت» في الوقت الذي صعدت فيه «البلاد العلمانية» إلى القمر، وصنعت كذا... وكذا... ! وللحديث بقية إن شاء الله. اعداد: عبد المنعم الشحات
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() أساليب نشر العلمانية (2) صُنع الظروف المولـِّدة للعلمانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ استكمالا لما بدأنا في الحديث عن العلمانية والظروف المولدة لها، نكمل اليوم وسائلهم وطرائقهم في صنع هذه الظروف التي منها: افتعال الصدام بيْن الدين والعلم الحديث: وهذا الباب قريب مِن سابقه إلا أنه يختلف عنه بكونه أكثر منه اقترابًا من فكر الرجل العادي؛ فادعاء أن الدين فيه أخبار مخالفة للعقل -كما يدعون في بعض الغيبيات!- قد لا يعني شيئًا ذا بال عند الرجل العادي، ولكن عندما يتم الادعاء بعداء الدين لعلوم الطب والفلك والهندسة؛ فإن هذا يكون أكثر إثارة للعامة أكثر مِن مجرد الادعاء بوجود التعارض بين الدين والعقل. وقد تحمَّل المواطن الأوروبي وطأة الإيمان بدين فيه ما يناقض العقل، ولكنه ثار حينما علم أن الدين يقف عائقًا أمام نظريات علمية مِن شأنها أن تحل له الكثير مِن مصاعب حياته، وبالتالي سيظل المفكرون العلمانيون يرددون «كالببغاوات» أن وجود بعض الأحاديث التي ترشد إلى نصائح في باب التداوي «كالتداوي بالحجامة - أو بحبة البركة - أو بعسل النحل» - أن هذا يلزم منه إغلاق كليات الطب! مع أنه لم يقل بذلك أحد، ولم يشر إلى ذلك أحد لا مِن قريب ولا مِن بعيد، وغاية ما هنالك أن مَن أخذ بهذه التوجيهات النبوية وعمِل بها مِن الأطباء؛ استطاع أن يحقق تقدمًا كبيرًا لأساليب العلاج في زمانه، وأنه «ومع تقدم العلم الحديث» ما زالت هذه الأساليب الطبية صالحة بوصفها وسائل أساسية أو ثانوية أو وقائية في كثير مِن الأمراض!ومِن المفيد ها هنا: أن نأخذ على أيدي بعض العامة، بل وربما بعض الدعاة المشهورين بحب المبالغات التي تضر أكثر مما تنفع؛ بينما الواجب تنزيه الشريعة مِن أن تنسب إليها تجارب الأطباء -فضلاً عن غيرهم- في العلاج بـ«عسل النحل» على أنها بتفاصيلها وحي من الله! وإنما الثابت فقط هو أصل الإشارة إلى أن هذا مِن أبواب التداوي، وأما ما سوى ذلك فجهد بشري. افتعال الصدام بيْن الدين والحياة الحديثة: وهذا الخطاب هو المعتمد «لدى معظم الإعلاميين الدائرين في الفلك العلماني»؛ سواء شعروا أم لم يشعروا، ولكنهم يكرسون للعلمانية دون أن يوجَّه لهم الاتهام بالعلمانية أو غيرها، وهذا النمط من الإعلاميين يمارس دور «التلميذ المشاغِب» الذي يطرح أسئلة غرضها إعاقة المدرس عن الشرح، وإثبات استحالة الفروض الأولية التي سوف ينطلق منها، وهذه الأسئلة تمس «رغيف السامع، وحياته كلها... !». وهذه الأسئلة مِن قبيل: - سلمنا لكم أن البنوك ربا، ولكن الاقتصاد العالمي قائم عليه؛ فهل ننعزل عنه إذا أردنا تطبيق الشريعة؟! - سلمنا لكم أن العري حرام، ولكن السياح لا يأتون إلا بهذه الهيئة، والسياحة تمثل كذا... وكذا... مِن الدخل القومي؛ فهل نلغيها؟! - سلمنا لكم أن إقامة الحدود عدل، وأنها الوحيدة التي تحقق الردع الخاص والعام الذي يسعى إليه القانون الوضعي، ولكنه يفشل عندما غلت الأمم المتحدة يده عن اللجوء لمثل تلك العقوبات الرادعة، والأمم المتحدة تفرض عقوبات على البلاد التي تطبق عقوبات بدنية؛ فهل نتحمل مثل هذه العقوبات؟! وهي قائمة من الأسئلة التي لا تنتهي، ويُلاحَظ عليها الملاحظات الآتية: - أن السائل دائمًا ما يَفترض أن الشريعة أمر يخص الدعاة إليها ولا يخص عموم المسلمين؛ ومِن ثَمَّ فهو يملك رفاهية طرح الأسئلة، ولا يحمِّل نفسه عناء البحث عن إجابة! ونحن نعترف بأن هناك صعوبات في تغيير واقع ترسَّخ عبر قرون عدة، ولكننا نخاطب جميع المسلمين بأن الشريعة شريعتهم والقضية قضيتهم، وأن على الجميع أن يقدِّم الحلول، والشريعة تتضمن أحكامًا لأحوال الاختيار، وقواعدَ للتعامل مع أحوال الاضطرار. - أن معظم هؤلاء يَطرحون السؤال في خمس دقائق، ثم يطلبون الإجابة عليه في دقيقة؛ مما يعني أن المقصود أن يترسخ لدى السامع أو القارئ أن الشريعة -حتى وإن استقر لديه وجوب تحكيمها- تطبيقها في هذا الزمان في غاية العسر! فبعضهم يَحتج بأن القصور يأتي مِن قِبَل الشريعة ذاتها، وبعضهم يرى أن انحرافاتنا هي التي تجذرت بصورة يستحيل التراجع عنها؛ وكلا الأمرين فاسد، وإن كان أحدهما أفسد من الآخر. - أن الذين يطلقون هذه الدعوات يحاربون أي صور إصلاح موازية؛ مما يثير الشك في غرضهم من هذه الأسئلة، فهم يحاربون البنوك الإسلامية، ويحاربون السندات الإسلامية، ويَسخرون مِن المقاهي التي لا تقدم الشيشة رغم أن هذا يتوافق مع مطالب منظمة الصحة العالمية! وينبري بعضهم منهم -أو بعضهن- محتجًا على الممثلات اللاتي يرفضن الأدوار التي تحتوي على مشاهد تَقبيل! «ليس المراد أن ترك هذا الأمر يجعل التمثيل حلالاً! وإنما نبيِّن مدى رفضهم التام لأي إصلاح؛ ولو كان جزئيًّا ومحدودًا للغاية!». وهذه الجزئية الأخيرة تقودنا إلى الأسلوب الثاني مِن أساليبهم، وهو: «تكريس الانحراف الحاصل وتعميقه!». وهو ما سنتناوله في المقال القادم -بإذن الله تعالى-. اعداد: عبد المنعم الشحات
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() أساليب نشر العلمانية (3) تكريــس مظاهـر العلمانية باختصار يمكننا أن نقول: إن العلمانية قد تسللت إلى بلادنا في لحظة ضعف، وعدم كفاءة لجهاز المناعة في الأمة كتبه: عبد المنعم الشحات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فالعلمانية هي «فصل الدين عن الحياة»، وقد ظهرتْ في بلاد أوروبا لعوامل راجعة إلى التحريف الذي دخل الدين النصراني، الذي جعله متناقضًا في ذاته مِن جهة ومناقضًا للعقل من جهة أخرى، كما كان لادعاء القساوسة أن الوحي مستمر عن طريق إلهام مجامعهم الكنسية ومِن ثَمَّ تبنيهم لنظريات علمية وادعائهم أنها مِن جملة الوحي الإلهامي - الأثر الأكبر في الصدام بيْن الدين والعلم هناك؛ مما نتج عنه اجتياح العلمانية للعالم الغربي. وحينما جاءت العلمانية إلى بلاد المسلمين لم تجد البيئة ذاتها التي أنتجت العلمانية في أوروبا؛ فعمِلتْ على محاولة فرضها وصنعها «ولو بالتزييف!» -كما بيَّـنـَّا في المقالة السابقة-، ومع هذا فقد نجحت العلمانية في فرض نفسها على العالم الإسلامي باستعمال الكثير مِن الأساليب التي يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أساليب، هي:1- الضغوط الخارجية: وتَمثَّل هذا في أمور، مِن أبرزها: نظام الحكم والقضاء، وقضايا المرأة والحريات. 2- استغلال حالة الفراغ في بعض المجالات: كمجال التعليم الجامعي الذي كانت بداياته على أيدي العلمانيين، وإن أصبح فيما بعد مِن المنابع الرئيسية للتيار الإسلامي -بحمد الله-، وكمجال الإعلام الذي كانت بداياته على أيدي العلمانيين، بل النصارى الوافدين، وكذلك مجال الفن الذي بدأ واستمر مخاصمًا لهوية الأمة إلا في القليل النادر. 3- ويأتي في ذيل هذه الأساليب أسلوب الإقناع الذي لم يكن إقناعًا نزيهًا بقدر ما كان تزييفًا للواقع والتاريخ؛ لإيهام المتلقي بوجود مسوغات لوجود العلمانية في العالم الإسلامي كما وُجدتْ في الغرب! هذا وقد راجت العلمانية فترة وجيزة مِن الزمن، وظنت أنها مَلكت عقول الشباب بالسيطرة على التعليم، وعقول العامة بالسيطرة على الإعلام «وأهم مِن هذا كله: ترسيخ نظام الحكم العلماني»، لكنها سرعان ما اكتشفت الحقيقة التي تقول إن مكانة الدين في قلوب العامة في العالم الإسلامي أعمق من أن تهزها هذه الزخارف، وعمت العالم الإسلامي صحوة وممانعة جارفة للعلمانية أجبرتها على التراجع، وبدأ هذا التراجع وهي في عز زهوها؛ فاضطرت لجنة دستور 1923م في مصر إلى الموافقة بالإجماع على وضع مادة (الإسلام دين الدولة) رغم وجود عددٍ مِن النصارى في اللجنة، وكون عامة اللجنة تقريبًا مِن العلمانيين باستثناء الشيخ (محمد بخيت المطيعي) -رحمه الله- الذي اقترح هذه المادة؛ فتمت الموافقة عليها بالإجماع. ثم صدر الدستور الكويتي عام 1962م ليأخذ خطوة أخرى للأمام، ويضع مادة تتحدث عن الشريعة الإسلامية «وثمة اعتقاد بوجود دور للدكتور عبد الرزاق السنهوري في اقتراح هذه المادة على لجنة الدستور في الكويت؛ حيث كان يعمل وقتها مستشارًا قانونيًّا لأمير الكويت»، ثم جاء الدستور المصري ليضيف هذه المادة في دستور 71، وكذلك الدستور الباكستاني واليمني؛ بينما اكتفى الدستور الأردني والتونسي بمادة (الإسلام دين الدولة)؛ وعموما فقد صارت دساتير معظم الدول الإسلامية تنص على إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما. وصارت معركة كبرى تحاول فيها العلمانية -مهما كان تراجعها على المستوى الفكري والشعبي- ألا تتراجع مظاهر وجودها على أرض الواقع؛ لا سيما في المجالات التي حققت فيها العلمانية في بداية أمرها وجودًا بارزًا؛ استنادًا إلى ما سبق ذكره من عوامل؛ وذلك على النحو الذي سوف نوضحه -إن شاء الله-. شعوب العالم الإسلامي إسلامية أم علمانية؟! مِن الموضوعات الشائكة التي تتردد كثيرًا توصيف حال الشعوب في العالم الإسلامي: هل هي متدينة بطبعها أم أنها علمانية بطبعها؟! ومِن المفترض أن تكون الإجابات عن الأسئلة المتعلقة بتوصيف الواقع موضوعية تصف الواقع على ما هو عليه، لا على ما كان يتمنى صاحب الإجابة أن يكون الواقع عليه. ولكننا في هذا السؤال نجد ظاهرتين: - الأولى: ادعاء العلمانيين أن الشعوب علمانية بطبعها على الرغم مِن أنك متى سألت عامة الناس مِن مختلف الطبقات الثقافية والاجتماعية عنها؛ لمَا وجدت مَن يعرف معنى العلمانية فضلاً عمن يعتنقها إلا نذرًا يسيرًا! - الثانية: محاولة بعض التيارات الإسلامية تثبيت تهمة العلمانية على العامة، تمامًا مثل (التيار القطبي) الذي يحاول جاهدًا إثبات تهمة جاهلية المجتمعات، وفي هذا الصدد تجد الأستاذ (محمد قطب) دائم الدندنة حول واقعة ضبط فتاة وشريكها في سرقة مواشي من حظيرة، وأنها دفعًا لتهمة السرقة عن نفسها قد سوغت وجودها مع هذا الشخص في هذا المكان بغرض مواقعة الفاحشة، ثم ينعى الأستاذ (محمد قطب) حال الأمة التي تغلغلت فيها العلمانية حتى تشربتها تلك الفلاحة البسيطة في قريتها النائية! في حين أن هذه الفتاة التي تشترك في تنظيم عصابي لسرقة البهائم لا يمكن بحال مِن الأحوال أن تكون مقياسًا، كما أن الحيلة التي لجأتْ إليها؛ مِن الواضح جدًّا أنها حيلة قد لقـَّنها لها محاميها. وإذا أردنا الإجابة الموضوعية عن هذا السؤال؛ فسوف نجد بوضوح أن الشعوب محبة لدينها، معتزة به، وأن الأغلبية الساحقة ترى وجوب الالتزام بالشريعة؛ مما ينفي عنها تهمة العلمانية، ومع هذا فيبقى أن هناك مظاهر انحراف كثيرة راجعة إلى أسباب كثيرة. وهذه الأسباب يمكن إجمالها في نقطتين: - الأولى: الضعف أمام الشهوات الذي يصل إلى حالة رفض أن تقوم السلطات بمنعها! مثل: (التدخين) في معظم البلاد، و(التبرج) في كثير منها، وهكذا... - الثانية: الاستسلام لفكرة شيوع الحرام في باب من الأبواب؛ مما يؤدي إلى زوال أثر تحريمه من النفس، ومِن هذا أن بعض البلاد قد انتشرت فيها الرشوة رغم حرمتها شرعًا، ومنعها قانونًا، ومن الممكن أن تجد أن مَن يقدم على تلك الجريمة يتورع عن جرائم من جنسها: كالسرقة أو الغش؛ وهذا لأنه يوهِم نفسه أن الرشوة رغم حرمتها أصبحت في حكم الحق المكتسب مِن كثرة شيوعها! والأمر نفسه ينطبق على الربا، وقد روي في الأثر: «يوشك أن يأتي على الناس زمان مَن لم يأكل الربا؛ أصابه مِن غباره»، وتجتهد الأبواق العلمانية في سبيل تكريس الواقع العلماني إلى مخاطبة أمثال هؤلاء «أنه ما دام أنه سيصيبك من رذاذ الربا حتمًا ولا بد؛ فلتأكله صراحة ولا حرج عليك في هذا!»، وهي حيلة شيطانية خبيثة يحاول بها العلمانيون تثبيت أقدام العلمانية في واقع الأمة بأي حجة «ولو كانت زائفة!». مجالات الانحراف العلماني ووسائل تكريسه أولاً: مجال الحكم والقضاء: وهذا مصداقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتُنْقُضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ» (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، فقد كانت أولى المجالات التي تصدَّرت العلمانية فيها المشهد: نظام الحكم «أو بالأخص الجانب القضائي منه»؛ حيث فرضت الدول الأوروبية على الدولة العثمانية نظام الامتيازات الأجنبية، والمحاكم الأجنبية مستغلة الضعف الذي دبَّ فيها وهزائمها العسكرية، وحاجتها إلى الدعم الأوروبي، وكانت هذه المحاكم تحكم بغير بالقوانين الأوروبية فيما يتعلق برعايا هذه الدول صاحبة الامتياز، ثم نشأت المحاكم المختلطة لمعالجة هذا الازدواج التشريعي في البلد ذاتها، وطبـِّق فيها القانون الفرنسي المترجم؛ لتصبح هذه هي أدنى وهدة في منحنى التراجع الحضاري للبلاد الإسلامية، ومع أن هذه الجولة قد جاءت عن طريق الضغط الخارجي، ورغم أن كليات الحقوق في العالم الإسلامي قد أُنشئت لتدرس ذلك القانون الفرنسي؛ إلا أن رفض الأمة لهذا النبت الغريب جاء سريعًا، على يد مَن أريد لهم أن يكونوا كهنة هذا القانون الجديد، إلا أن الاستفاقة -وإن جاءت سريعة- أتت في غاية البطء، وإلى يومنا هذا وهي تسير بسرعة السلحفاة! ومما يحسب للسنهوري باشا -رحمه الله- أنه قاد عملية العودة إلى الشريعة، ولكن للأسف أنه مما يؤخذ عليه أنه خطط لعملية عودة في غاية البطء حينما جعل أقصى طموحه في مشروع القانون المدني المصري 1948م أن يُكتب القانون بلغة عربية فصيحة غير مرتبطة بالترجمة الحرفية للقانون الفرنسي، وأن يدخل فيه ما لا يصعب إدخاله من أحكام الشريعة؛ ومنذ ذلك الحين ربما كان التطور الآخر الذي جاء على يد حكومة (ثورة يوليو) هو إلغاء تقنين البغاء، وليبقى هذا الحمل الثقيل يزداد رسوخًا يومًا بعد آخر. وفي هذا الصدد: يبذل العلمانيون جهودًا مضنية في منع أي مشاريع قوانين تحاول التقدم خطوة في اتجاه العودة إلى الشريعة، بل ويحاولون إلغاء المواد الدستورية الخاصة بمرجعية الشريعة أو تعطيلها لتمرير المزيد من القوانين المخالفة لها، ولتكريس الواقع العلماني للقوانين. التصدي لأسلمة الديمقراطية: يُعد نظام الحكم الديمقراطي أفضل ما أنتجه الفكر العلماني الغربي في مجال الحكم، وذلك في مقابلة نظام الحكم الشمولي ونظام الحكم الثيوقراطي، ولكن مفكري الديمقراطية وجدوا أنه مِن الخطر -لا سيما بعد اعتماد الديمقراطية النيابية بوصفه أسلوباً في معظم الدول، ولاسيما الدول التي تتميز بعددٍ كبير في السكان- أن يُمنَح الفريق صاحب الأغلبية الديمقراطية الحق في تغيير هوية المجتمع، بل ربما تغيير الديمقراطية ذاتها! فكان الحل في أن يتم وضع أصول وأسس عامة في مرتبة أعلى مِن القوانين وهي (الدستور) الذي عادة ما يقر بالديمقراطية المباشرة؛ لتكون أكثر تعبيرًا عن هوية الشعب وإرادته، وهو الباب الذي وَجد فريق مِن الإسلاميين أنه مناسب لعمل ما يمكن أن نطلق عليه: (أسلمة الديمقراطية) بأن يوضع في الدستور المواد التي تقرر المرجعية العليا للشريعة الإسلامية. وهو الأمر الذي يحاول العلمانيون التصدي له بكل ما يملكون، ولكن التقدم الذي أحرزته الأمة في معظم البلاد الإسلامية في باب (أسلمة الدساتير) كان أكثر وضوحًا وتقدمًا بكثير مِن التقدم على المستوى القانوني، وفي هذا الباب لا يُخلِص العلمانيون لقواعدهم، ولا يحترمون إرادة الأغلبية، بل يصفونها بالجهل، وبأنها تُشترى بالزيت والسكر! وفي هذا نقض لأسس التحاكم إلى الصندوق التي ينادون بها! كما أنهم يلجؤون إلى الخرق الواضح والصريح لهذه الدساتير معتمدين على الجوقة الإعلامية الكبيرة، ومِن أكثر الأمثلة فجاجة في هذا الباب؛ تصرفات (د.جابر عصفور) وتصريحاته التي يصر على أن حرية الإبداع لا سقف لها مخالفًا لكل الدساتير المصرية، كما يصر فيها على «عدم اختصاص الأزهر» بإبداء الرأي الشرعي في الأعمال الفنية بالمخالفة الصريحة لدستور 2012م ودستور 2014م الذي تولى الوزارة بموجبه! المجال الاقتصادي: دخل الربا إلى بلاد المسلمين تأثرًا مِن خلال قوات الاحتلال التي كانت تحتل بلاد المسلمين، وتم الضغط لتوغل الربا في حياة الأفراد والمؤسسات، ويحاول العالمانيون استغلال بعض الفتاوى الشاذة لنفي وصف الربا عن التعاملات البنكية، كما يحاولون من باب آخر إقناع العامة أنه لا مناص من الربا؛ ومِن ثَمَّ فهم يحاربون بكل ضراوة ليس للعودة إلى الاقتصاد الإسلامي، بل يحاربون لإيجاد قنوات اقتصادية موازية، مثل: «إنشاء فروع معاملات إسلامية للبنوك»، ومثل: «وجود قوانين استثمار وفق النظام الإسلامي!». المجال الاجتماعي: في نظام الاجتماع أيضًا يحاولون تكريس كل المكاسب التي حصلوا عليها لتأليب المرأة المسلمة تحت ستار: «تأليبها على المجتمع الذكوري»، ولكن في الواقع كان «تأليبها على الشريعة الإسلامية». أيضًا لا بد أن نعترف هنا: أننا أحيانًا نعين هؤلاء في مهمتم؛ فنجد أن المجتمعات الإسلامية مع اختلاف عاداتها يوجد فيها درجات مِن درجات ظلم المرأة, وأن هذه الدرجات يستثمرها الأعداء؛ فينطلقون مِن محاربة هذا الظلم الذي تجب محاربته شرعًا وعقلاً إلى محاربة أمور من الشرع الذي كله عدل، ولكنها وفق النظريات الغربية المعوجة فيها ظلم أو تمييز ضد المرأة. ومِن أمثلة هذه الثغرات: العادات التي تنتشر في كثير مِن الأقطار مِن منع المرأة مِن حقها في ميراث أبيها، أو في إجبارها على الزواج ممن لا تريد، أو في إعضالها في الزواج من كفئها، أو غير ذلك من الصور... خاتمة: باختصار يمكننا أن نقول: إن العلمانية قد تسللت إلى بلادنا في لحظة ضعف، وعدم كفاءة لجهاز المناعة في الأمة، وإنها حققت نجاحات في فترة وجيزة مِن الزمن، وإن اتجاه التغيُّر قد تَحوَّل في اتجاه العودة إلى الشريعة. وإن معركة العلمانيين تدور حول ثلاثة محاور: - الأول: محاولة إعادة اتجاه التغير إلى جهة العلمانية، وهذا عبْر وسائل يمكن تلخيصها في صنع الظروف المولـِّدة للعلمانية «وهو ما عالجناه في المقال السابق». - الثاني: محاولة إعاقة التقدم في اتجاه العودة «وهو ما عالجناه في هذا المقال». - الثالث: محاولة إيجاد اتجاه يبدو بيْن الاتجاهين «وحبذا اتجاهه اتجاه إلى العلمانية أكثر!». وهي محاولة ترويض الدين التي سوف نتناولها في المقال القادم -بإذن الله تعالى-. اعداد: عبد المنعم الشحات
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |