|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تسخير الكون للإنسان نظرات وتأملات عامر الخميسي في التصور القرآني لا يُنظر إلى الإنسان بوصفه مجردَ كائن حي ضمنَ منظومة الوجود، بل يُقدَّم بوصفه مخلوقًا مكرَّمًا، خُلق بيد الله، ونُفخ فيه من رُوحه، وسُوِّي في أحسن تقويم، ثم أُسجدت له الملائكة، وأُعطي العقل والتمييز، وحُمِّل الأمانة، وكُلِّف بالاستخلاف في الأرض. هذا التكريم الإلهي ليس امتيازًا بيولوجيًّا، بل هو إعلان عن وظيفة وجودية، ومسؤولية أخلاقية، وموقع حضاري، يُطلب فيه من الإنسان أن يُزكِّي نفسه، ويُقيم العدل، ويُراعي التوازن، ويُترجم الإيمان إلى عمل. في المقابل يُقدَّم الكون في القرآن بوصفه مخلوقًا مسخَّرًا، خاضعًا لقوانين دقيقة، وآيات ناطقة، ونظام متوازن، جُعل في خدمة الإنسان، لا ليُستهلك، بل ليُفهم، ويُتأمل، ويُزكَّى من خلاله، ومن هنا فإن العلاقة بين التكريم الإلهي للإنسان، وتسخير الكون ليست علاقة تفاضلٍ، بل علاقة تكامل، تُعيد تشكيل فَهْم الإنسان لنفسه، ولموقعه في الوجود، ولمعنى العلاقة مع الطبيعة. القرآن يُصرِّح بتكريم الإنسان تصريحًا مباشرًا؛ كما في قوله: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وهذا التكريم يتجلَّى في جوانب متعددة: في الخلق الخاص؛ حيث خُلق الإنسان بيد الله، ونُفخ فيه من روحه، وفي العقل؛ حيث أُعطي القدرة على الفهم والتأمل والاختيار، وفي الحرية؛ حيث خُيِّر بين الإيمان والكفر، وحُمِّل مسؤولية، وفي التزكية؛ حيث أُعطي أدوات الارتقاء الروحي، وفي التمكين؛ حيث أُتيح له أن يُعمِّر الأرض، ويُدير الموارد، ويُقيم العدل. هذا التكريم لا يُفهم بوصفه امتيازًا يُمنح بلا مقابل، بل بوصفه تكليفًا يُحمِّل الإنسان مسؤولية، ويُطالبه بأن يُراعي التوازن، ويُفعِّل القيم، ويُترجم الإيمان إلى واقع. في المقابل يُقدَّم الكون في القرآن بوصفه مخلوقًا مسخَّرًا؛ كما في قوله: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13]، وهذا التسخير لا يعني الإذلال، بل يعني التيسير؛ أي: إن الكون جُعل في خدمة الإنسان؛ ليُدرك آيات الله، ويُقيم التوازن، ويُزكِّي نفسه من خلال التفاعل، ويُترجم الإيمان إلى عمل. الشمس والقمر، والليل والنهار، والرياح والمطر، كلها تُسخَّر لتيسير حياة الإنسان، لكنها أيضًا تُطالبه بالتأمل والتزكية والوعي؛ مما يجعل من العلاقة مع الكون علاقة مزدوجة: نفعًا وتأملًا، عملًا وعبادة، تفاعلًا وتزكية. العلاقة بين التكريم والتكليف في القرآن علاقة عضوية، لا انفصالية، فالإنسان مكرَّم لأنه مكلَّف، ومسؤول لأنه مُمكَّن، ومؤتَمن لأنه عاقل، ومن هنا فإن الكرامة لا تُفهم بوصفها إطلاقًا للحرية، بل بوصفها مسؤولية؛ كما في قوله: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، فالخلافةُ هنا ليست سلطةً، بل وظيفة، تُطلب فيها التزكية، ويُشترط لها العدل، ويُحاسب عليها الإنسان؛ مما يجعل من كل فعلٍ في الأرض ترجمةً لهذه الكرامة، ومن كل قرارٍ مسؤوليةً أخلاقية. الكون في القرآن ليس خصمًا للإنسان، بل هو في خدمته، لكنه لا يُفهم بوصفه مادةَ استهلاك، بل بوصفه خطابًا إلهيًّا، وآيات ناطقة، ورسائل مستمرة، تُذكِّر الإنسان وتُدعوه للتدبر، وتُحفِّزه على التزكية، ومن هنا فإن العلاقة مع الكون لا تُبنى على الهيمنة، بل على الفهم، ولا على الاستهلاك، بل على التأمل، ولا على الاستغلال، بل على التفاعل الأخلاقي؛ فالإنسان لا يُطلب منه أن يُسيطر على الطبيعة، بل أن يُراعيها، ويُحافظ على توازنها، ويُزكِّي نفسه من خلالها؛ مما يجعل من البيئة مجالًا للعبادة، ومن العلم وسيلة للتقوى، ومن العلاقة مع الموجودات ترجمةً للتوحيد. التوازن بين الكرامة والمسؤولية هو جوهرُ العلاقة بين الإنسان والكون، فالإنسان مكرَّم، لكنه مسؤول عن كل فعل، ومُحاسب على كل قرار، ومُطالب بأن يُراعي التوازن، ويُقيم العدل، ويُزكِّي نفسه من خلال ما أُتيح له من تسخيرٍ، ومن هنا فإن الكرامة لا تُفهَم بوصفها إطلاقًا للسلطة، بل بوصفها اختبارًا للنية والسلوك والوعي؛ مما يجعل من كل نعمة أمانةً، ومن كل تمكين عبادة، ومن كل علاقة مع الكون مسؤولية حضارية. التسخير في القرآن يُعيد تشكيل فَهْم الإنسان للبيئة، فالبيئة ليست مادةً خامًا، بل كيان حيٌّ، يُطلب من الإنسان أن يُراعيه، ويحفظ توازنه، ويُزكِّي نفسه من خلاله؛ كما في قوله: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56]، فالفساد هنا ليس فقط بيئيًّا، بل أخلاقيًّا وتربويًّا وروحيًّا؛ مما يجعل من العلاقة مع الطبيعة علاقة تزكية، لا علاقة استهلاك، وعلاقة عبادة، لا علاقة هيمنة. وأخيرًا يُطالب القرآن الإنسان بأن يتفاعل مع الكون أخلاقيًّا؛ كما في قوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، فالتفاعل ليس ماديًّا فقط، بل هو تأملي وتزكوي ورُوحي؛ مما يجعل من الكون مدرسة إيمانية، ومن كل ظاهرة طبيعية فرصة للتأمل، ومن كل نعمة مسؤولية، ومن كل مشهد كوني دعوة للتدبر، ومن كل علاقة مع الموجودات وسيلةً لفَهْم الذات والغاية والخالق. وهكذا يُعيد القرآن تشكيل العلاقة بين الإنسان والكون، من خلال ثنائية التكريم والتسخير؛ ليُحوِّل الكرامة إلى مسؤولية، والتسخير إلى خطاب، والعلم إلى عبادة، والتفاعل إلى تزكية؛ مما يجعل من الإنسان مستخلفًا لا لأنه قوي، بل لأنه مزكًّى، ومكرَّم لا لأنه مميَّز، بل لأنه مسؤول، ومُمكَّن لا ليُهيمن، بل ليُقيم التوازن، ويُفعِّل القيم، ويُترجم الإيمان إلى واقع.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |