|
|||||||
| هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين (1) الشيخ.محمد الحمود النجدي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. وبعد: فإن الناظر في كتب التفسير، كثيراً ما يقف على تعدد في الأقوال حول المراد من لفظٍ قرآني، أو آيةٍ قرآنية، أو توجيه لمعنى معين، ونحو ذلك من تعدد في الأقوال والآراء، وأحياناً يختلط على القارئ غير المتمرّس بمعرفة الخطأ من الصواب، والحق بالباطل، معرفة المراد والتفسير الصحيح. من أجل ذلك حرص المفسرون على وضع قواعد تفسيرية، يستعين بها المفسر في الترجيح بين الأقوال والآراء، ويستهدي بها لمعرفة القول الحق من القول الباطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الصدد في كتابه (مقدمة التفسير): «فقد سألني بعض الإخوان أنْ أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله، بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغَثِّ والسمين، والباطل الواضح والحق المبين. والعلم إما نقلٌ مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيفٌ مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود. وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن، الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلَق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، مَنْ قال به صَدَق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هُدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرضَ عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتَها وكذلك اليوم تُنسى} (طه:123-126). وقال تعالى: {قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة:15-16). وقال تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} (إبراهيم:1-2). وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (الشورى52-53). وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة، بحسب تيسير الله تعالى، من إملاء الفؤاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد». انتهى. وعلى الرغم من أهمية قواعد الترجيح في تعيين المراد من آيات القرآن الكريم، ألا أن العلماء المتقدمين لم يفردوا هذه القواعد بالتصنيف والتأليف، بل بثّوها في تضاعيف تفاسيرهم، وأحياناً في مقدماتهم، وقد أفردها بالتأليف بعض أهل العلم المعاصرين. ونحن في هذه الورقات نذكر جملة صالحة من قواعد الترجيح، التي يستعين بها المفسر في الترجيح بين الأقوال، ويتبين على ضوئها الصحيح منها من الخطأ، ويقف على الحق منها من الباطل. مع شرحها والتمثيل لها، وهي مستلة من عدة مصادر، من أهمها كتاب: (قواعد الترجيح بين المفسرين) لـلدكتور حسين بن علي الحربي. وغيره. نسأل الله تعالى أنْ ينفعنا بها، وأنْ يجعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. التَّمهيد فهذه بعض التعريفات الأساسية التي يحتاجها الطالب، قبل البدء بالكلام على قواعد الترجيح في علم التفسير: 1- التفسير: هو في اللغة تفعيل من الفسر، بمعنى الإبانة والإظهار وكشف المراد من اللفظ المشكل وإيضاحه. وفي الاصطلاح: عرّفه الزركشي بأنه «علمٌ يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه». فعلى هذا يكون يُستمد علم التفسير من كتاب الله أولاً، لأنه يُفسّر بعضُه بعضاً، ثم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، ثم من علوم اللغة والنحو، والتصريف والبيان، وأصول الفقه، والقراءات. 2- المُفسّر: وهو من له أهليةٌ علمية يَعرف بها مراد الله تعالى بكلامه، قدر الوسع والطاقة، مع معرفته جُملاً كثيرة من تفسيرات كتاب الله تعالى، وممارسته التفسير عمليا، بتعليمٍ أو تأليف. 3- التعارض: هو في اللغة: التقابل، وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين: تقابل الحُجتين المتساويتين في القوة، على وجهٍ يُوجب كل منهما ضد ما توجبه الأخرى، في محلٍ واحد، ووقت واحد. أما مفهوم التعارض في هذا البحث فأوسع، لأن موضوع التعارض عند الأصوليين هو: الأدلة العقلية والشرعية، أما هنا فهو: الأقوال المختلفة في التفسير، فالأصل فيها هو خلاف التضاد. 4- التَّرجيح: هو في اللغة يدل على الرزانة والزيادة. وفي اصطلاح الأصوليين: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل، وفي موضوعنا هنا: تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل، أو لقاعدة تُقوية، وردّ ما سواه أو تضعيفه. 5- القاعدة: هي في اللغة: الأساس، وفي الاصطلاح عرفت بأنها: حُكْمٌ أغلبي ينطبق على معظم جزئياته. 6- قواعد الترجيح: هي ضوابط وأمور أغلبية، يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة، في تفسير كتاب الله تعالى. وموضوع هذه القواعد أقوال المفسرين المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى. وغاية العلم بها: معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله تعالى، ومن ثم العمل بها اعتقاداً إنْ كانت من آيات العقيدة، وعملا بالجوارح إنْ كانت من آيات الأحكام العملية، وسلوكاً إنْ كانت من الأخلاق والآداب، وتصفية كتب التفسير مما قد عَلِق ببعضها من أقوالٍ شاذة، أو ضعيفة، أو أخبار أهل الكتاب. واستمدادها من: أصول الدين، وأصول الفقه، والقواعد الفقهية، وعلوم الحديث، وعلوم القرآن، ولغة العرب، واستقراء ترجيحات أئمة التفسير. ب- بيان متى يكون الترجيح: مما ينبغي العلم به: أن العلمُ بالتفسير الذي أجمع عليه العلماء، هو أصح وأعلى أنواع التفسير، كإجماعهم على تفسير اليقين في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر). بأنه الموت، كما نقل هذا الإمام ابن القيم. أو إجماعهم على تفسير (المغضوب عليهم) بأنهم اليهود، و(الضالين) بأنهم النصارى في قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ونحوها من الآيات التي اتفق السلف على تفسيرها، وذلك بتنصيص أحد الأئمة، وحكايته لهذا الإجماع. وكذا عدم العلم بالمخالف دليل على الإجماع، فإنه يستحيل أنْ تجهل الأمة، أو تعلم وتسكت في عصورٍ مختلفة، تفسير آيات من كتاب الله، وتفسّرها بمعان هي خلاف الصواب، ولا تفسرها بغيرها من المعاني الصحيحة. والكثرة الكاثرة من الآيات وقع الخلاف في تفسيرها، وهذا الخلاف لا يخلو من أحد أربعة أمور: 1- أنْ تكون جميع الأقوال محتملة في الآية، أي من اختلاف التنوع، ويكون لكل قولٍ منها ما يشهد له من نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى: {وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم} (الأنعام:3). فللعلماء فيها ثلاثة أقوال، وكل واحد منها له مصداق من كتاب الله تعالى: - الأول: أن المعنى هو «الإله» المعبود في السماوات والأرض، وعلى هذا فجملة «يعلم» حال أو خبر، وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف:84). - الثاني: أن قوله تعالى: {في السموات وفي الأرض} يتعلق بقوله: {يعلم سركم} أي: وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض، ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} (الفرقان:6). - الثالث: أنّ الوقف تامٌ على قوله: {في السموات} وقوله: {وفي الأرض} يتعلق بما بعده، أي: يعلم سركم وجهركم في الأرض، ومعنى هذا القول أنه سبحانه مستوٍ على عرشه فوق جميع خلقه، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهركم. فهذا الخلاف محتمل، وكل الأقوال فيه حقٌ، ولا يدخله ترجيح، لكون جميع الأقوال صحيحة، وجميعها مراد من الآية، والقرآن يشهد لكل واحد منها، فلذلك هو خارج عن موضوع هذا البحث، وليس بعضها أولى من بعض. 2- أنْ تكون الأقوال متعارضة، يتعذّر حمل الآية عليها جميعاً، فلا بد أن يكون المراد أحدها، وغالب ذلك في المشترك المراد به أحد النوعين، إذ الأصوليين على عدم جواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه في وقت واحد، إذا امتنع الجمع بين مدلوليه أو مدلولاته، مثل «القُرء» فإنه يراد به الحيض، ويراد به الطُهر، ولا يمكن أن يكون المراد الاعتداد بهما معاً في آنٍ واحد. 3- أنْ تكون الأقوال ليست متعارضة مع بعضها، وإنما يكون بعضها مُعارضاً لدلالة آيات قرآنية، أو لنصوص صحيحة من السُنة النبوية، أو لإجماع الأمة. فمثل هذه الأقوال يجب اطّراحها وسقوط حكمها، كقول مقاتل: إن الله تعالى إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أنْ يخلقه؟! وهذا مُعارض لصريح قوله تعالى: {وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر:28-29). ومنها: قول بعضهم في قوله تعالى: {يا أختَ هارون} مريم. أنها أخت هارون لأبيه وأمه؟! وأنها التي قصت أثر موسى {فبصرت به عن جنبٍ وهم لا يشعرون} القصص. وهذا مخالف لحديث المغيرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ن قوله تعالى: {يا أخت هارون} فقال صلى الله عليه وسلم : «إنهم كانوا يُسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم». ومنها: مخالفة الإجماع، مثل تفسير قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} النساء. بجواز نكاح تسع نسوة؟! 4- أن تكون الأقوال المختلفة في الآية محتملة، وليس بينها تعارض، غير أنَّ بعضها أولى من بعض، لكون القرآن ودلالة ألفاظه تشهد لقول دون غيره، أو السُنة تشهد لأحدهما أو لغة العرب، أو قرائن في السياق، أو أسباب أخر تقضي بتقديم أحد الأقوال، وهذا ما يسمى بتقديم الأولى. وهذه الثلاث الأخيرة، هي موضوع هذا البحث، وهو: (قواعد الترجيح عند المفسرين) وهي أنواع: - أولا: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني. - ثانيا: قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورَسْم المصحف. - ثالثا: قواعد الترجيح المتعلقة بالسِّياق القرآني. - رابعاً: قواعد الترجيح المتعلقة بالأحاديث النبوية. - خامساً: قواعد الترجيح المتعلقة بالآثار عن الصحابة ومن بعدهم. - سادسا: قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن. - سابعاً: قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب. - ثامنا: قواعد الترجيح المتعلقة بمرجع الضمير.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 10-11-2024 الساعة 07:23 AM. |
|
#2
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين (2) الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى: لا تصحُّ دعوى النّسخ في آيةٍ من كتاب الله، إلا إذا صح التصريح بنسخها أو انتفى حكمها من كل وجه . النسخ في اللغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ عنه. فإذا تنازع المفسرون في آية بين مدَّعي النسخ ومانع منه؛ فالأصح المنع، إلا في الحالات الآتية: 1- ثبوت التصريح بنسخها، إما بنص الشارع على النسخ أو بالإجماع. 2- انتفاء الحكم من كل وجه، وفي هذا القيد إخراج لما يلي: أ- مفهوم النسخ عند السلف ، لإدخالهم فيه تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل وإيضاح المبهم، والاستثناء ونحو ذلك، فإن حكم الآية لم ينتف من كل وجه، بل من بعض الوجوه دون بعض. ب- قول الحنفية بأن الزيادة على النص نسخ؛ لأن الزيادة على النص ليس فيها نفي للحكم من كل وجه. ت- ما أمكن فيه الجمع؛ مما ادعى عليه النسخ ، لظهور تعارض بين النصوص. هذا وقد قرر هذه القاعدة واستعملها: الطبري في تفسيره، والنحاس في الناسخ والمنسوخ، والقرطبي والشوكاني وغيرهم ، ونص عليها علماء الأصول. مثال1:1- اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وإِمَّا فِدَاء حتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(محمد: 4)، على أقوال: - فقال بعضهم هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}(التوبة: 5)، وقوله تعالى: {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم}(الأنفال: 57). أي: لا يجوز المنّ على الأسير أو الفداء به، وإنما يقتل، وهذا مروي عن ابن عباس، وبه قالت الحنفية. - وقال جماعة هي ناسخة لقوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}(التوبة: 5)؛ فلا يجوز قتل الأسير، بل يُمن عليه أو يفادى به. - وقال ابن عمر وغيره: بل الآية محكمة، وكذا آية القتل، أي له المنّ أو الفداء أو القتل أو الاسترقاق، على ما يراه الإمام من الأصلح للإسلام والمسلمين، وهذا القول هو الذي تُرجحه القاعدة. مثال 2- ذهب بعض أهل العلم إلى: أنّ جميع الآيات الآمرة بالمعاملة الحسنة مع أهل الكتاب ، والإقساط إليهم ، بأنها منسوخة بآية السيف ، والصحيح عدم النسخ لعدم التعارض. ثانيا: قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورَسْم المصحف: - القاعدة الأولى : القراءة الثابتة لا تُرد، وهي كآية مستقلة. فإذا ثبتت قراءةٌ ما، فلا يجوز لأحدٍ أنْ يطعن فيها أو يردها؛ لأنها قرآنٌ كريم ؛، وهي بمثابة الآية المستقلة ؛، التي تدل على معنى أو حكم آخر. ويشترط في ثبوت القراءة ثلاثة شروط: 1- صحة السند: أي أنْ يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وتكون مع ذلك مما اشتهر عند أئمة الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ به بعضهم. فإذا تواترت القراءة فلا يحتاج إلى الشرطين الأخيرين، ويغني التواتر عنهما. 2- موافقة أحد المصاحف ولو احتمالا، والمراد بالمصاحف التي وجهها عثمان إلى الأمصار، واشترط موافقة بعضها لأجل ما كان ثابتا في بعض المصاحف دون بعض، وقولهم: (احتمالا)؛ لأن الموافقة قد تكون محتملة تقديراً. 3- موافقة العربية ولو بوجهٍ، سواء كان الوجه فصيحا أم أفصح، مجمعا عليه أم مختلفا فيه. ولا حجة في هذا الشرط لمن أنكر بعض القراءات لأجل مخالفة قاعدة في العربية، كما يفعل بعض النحاة؛ لأن أئمة القراء لا تعمل في شيء من القرآن على الأشهر في اللغة والأقيس، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية، فإذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سُنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها. فقد اختلف القراء والمفسرون في قراءة وتفسير لفظ (والأرحام) من قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}(النساء: 1، فقرأها حمزة بالجر، وبقية السبعة بالنصب. والمعنى على قراءة الجر: أنه يُتساءل بها، كما يقول الرجل: «أسألك بالله وبالرحم» وبهذا فسّرها الحسن وعطاء وغيرهما. وعلى قراءة النصب يكون المعنى بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها؛ وبهذا فسرها ابن عباس -رضي الله عنه-. وقد رد البصريون قراءة الجر، زاعمين امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار؛ فالأفصح من وجهة نظرهم أن تكون القراءة: «وبالأرحام» عطفا على: «به». وقد ضعف هذه القراءة الطبري والزجاج وغيرهما!! لكن هذا القول مردود؛ لأن القراءة سنة متبعة، وإذا ثبتت لم يجز لأحد أن يردها، فقول البصريين ومن وافقهم خطأ قبيح، سببه الجهل بعلم القراءات وتواترها، كما أنّ القرآن هو المصدر الأول للغة، لا العكس. القاعدة الثانية: اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه: فإذا اختلف المفسرون على أقوال، بناء على اختلاف القراءات الواردة في الآية، فإذا وجد قولٌ يجمع معنى القراءات على معنى واحد، وأمكن القول بمقتضاها جميعا، فهو أولى الأقوال بتفسير الآية. مثاله : قال تعالى: {ومَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم}، قرأ الكوفيون وابن عامر: بفتح الياء وإسكان الخاء من غير ألف، وقرأ الباقون بضم الياء وبألف بعد الخاء وكسر الدال. قال مكي: «وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن، وهو أن «خادع» و«خدع» بمعنى واحد من فاعل واحد. القاعدة الثالثة : معنى القراءة المتواترة أولى بالصواب من معنى الشاذة : فالقراءة الشاذة هي كل قراءة اختل فيها شرطٌ من شروط القراءة الصحيحة، فإذا خالفت القراءة الشاذة القراءة المتواترة في مدلولها، ووقع الخلاف بين العلماء في تفسير الآية بناء على اختلاف معنى القراءتين، ولم يمكن حمل القراءة الشاذة على معنى القراءة المتواترة؛ بحيث يتّحد معنى القراءتين، فأولى الأقوال بالصواب في تفسير الآية: تفسيرها وحملها على مدلول القراءة المتواترة؛ لأنّ الشاذ لا يَقوى على منازعة الثابت المجمع عليه، وقد ذكر هذه القاعدة واستعملها في الترجيح بين المفسرين: الإمام الطبري وابن عطية والحافظ ابن حجر وغيرهم. أمثلة :1- قال تعالى: {ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(الرعد: 43)، أي: الذين عندهم علم الكتب التي نزلت قبل القرآن، كالتوراة والإنجيل. لكن جاء في قراءة شاذة «ومِن عِندِه علم الكتاب» أي : من عند الله علم الكتاب، قال ابن جرير: «والتأويل الذي على المعنى الذي عليه قراء الأمصار أولى بالصواب مما خالفه؛ إذْ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أولى بالصواب». 2- قال تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(البقرة: 158) وقرأ ابن عباس وعلي وغيرهم: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما»، ودلالتها أنّ الطواف بين الصفا والمروة سُنة، لا يجب بتركه شيء، وهذا قول ابن مسعود ورواية عن أحمد، لكن هذه القراءة تخالف القراءة المتواترة، وما خالف المتواتر المجمع عليه، إنْ لم يمكن الجمع بينهما ، فهو باطل. القاعدة الرابعة: التفسير والإعراب الموافق لرسم المصحف، أولى من المخالف له : إذا تنازع المفسرون على قولين في الإعراب أو التفسير، وكان أحدهما موافقا لرسم المصحف، ولا يقتضي مخالفة له، وآخر يقتضي مخالفته، فأولى الأقوال ما وافق رسم المصحف الذي أجمع عليه الصحابة، وهم أعلم الناس بتفسير القرآن ولغته. ويشهد لهذه القاعدة أن متابعة الرسم في القراءة أمرٌ لازم، وهو من شروط القراءة الصحيحة وقد قام الإجماع على لزوم رسم المصحف في الوقف إبدالا وإثباتا وحذفا، ووصلا وقطعا. ويدل للقاعدة أيضا: منع العلماء من تغيير خط المصحف ووجوب التزامه. وقد اعتمد هذه القاعدة أبوعبيد والطبري والزجاج والقرطبي والسيوطي وغيرهم. مثاله : 1- قوله تعالى: {وإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}(المطففين: 3)، قال جمهور المفسرين معناه: وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم يُخسرون، وتكون «هم» في موضع نصب ويكون الوقف عليها. وذهب بعض المفسرين إلى أنها كلمتان ويقف على «كالوا» و«وزنوا» ثم يبتدئ بـ«هم» فجعل هم في موضع رفع! وهذه القاعدة ترجح القول الأول؛ لأن «كالوا» و«وزنوا» لم ترسم فيهما الألف الفاصلة لواو الجماعة في جميع المصاحف؛ فدل ذلك على أن الفعلين لم يكتفيا بأنفسهما، وأن الضمير «هم» في موضع نصب مفعول به. 2- اختلف العلماء في حرف «لا» في قوله: {سنُقرؤك فلا تنسى}، فقيل: ينهى الله -تعالى- نبيه أنْ ينسى القرآن الذي أقرأه إياه ، والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه ، إلا ما شاء الله أنْ يُنسيكه برفع تلاوته. والقول الثاني : أن الله سيحفظ ما أوحاه إليك فلا تنساه. وأولى القولين بالصواب القول الثاني، وهو قول الجمهور، لموافقته رسم المصحف في إثبات الألف في «تنسى» فدل عدم حذفها، على أنها ليست ناهية؛ لأنها لو كانت كذلك لحُذفت الألف علامةً للجزم.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين - قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى: قرائن السياق مرجّحة: فإذا تنازع العلماء في تفسير آية، وكان في السياق قرينة، إما لفظة أو جملة أو غيرها، تُؤيد أحد الأقوال؛ فالقول الذي تُؤيده القرينة أولى الأقوال بتفسير الآية. فإنْ تنازعت قرينتان، كل قرينة تؤيد قولاً، رُجّح أرجح القرينتين وأقواهما. والقرينة هي: ما يُوضح المُراد لا بالوضع، بل تُؤخذ من لاحق الكلام أو سابقه، الدال على خصوص المقصود. وقد ذكر هذه القاعدة وصرح بمضمونها جَمْعٌ، منهم ابن جرير الطبري، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان وغيرهم. مثاله: - قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}(الأحز اب: 37). اختلف المفسرون في الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه على قولين: أ*- وقوع زينب رضي الله عنها في قلبه ومحبته لها، وهي في عصمة زيد رضي الله عنه وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو؟! ومستندهم رواية موضوعة مكذوبة، مضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب فوقعت في قلبه، وأعجبه حُسنها، فقال: سبحان الله، مقلب القلوب، وانصرف. ب*- الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو: زواجه من زينب بعد أن يطلقها زيد، فعاتبه الله -جل جلاله- على قوله لزيد: «أمْسِك عليك زوجك» بعد أنْ أعلمه الله أنها ستكون زوجه، وأنه ما فعل ذلك إلا خشية أنْ يقول الناس: تزوج امرأة ابنه. وهذه القاعدة تُصحح هذا القول؛ لأنّ في الآية قرينة تدل على صحته، وهي أنَّ الله عاتب النبي صلى الله عليه وسلم لإخفائه في نفسه ما الله مُبديه، والذي أبداه الله هو: زواجه من زينب، ولم يُبد حب النبي صلى الله عليه وسلم وشغفه بزينب ! وذلك قوله بعدها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } (الأحزاب). 2- قوله تعالى: {القول في تأويل قوله عز وجل : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} (المائدة: 27). قال الحسن: كان الرجلان من بني إسرائيل، ولم يكن ابني آدم لصلبه ! لأن القرابين إنما كانت في بني إسرائيل! وقال الجمهور: إنهما كانا لآدم -عليه السلام- من صُلبه، وهو ظاهر القرآن، ويؤيد هذا القول قرينة في السياق، وذلك أن الله -تعالى- قال: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} (المائدة: 31). فإنها تدل على أن هذه الحادثة، حدثت قبل أنْ يَعلم الناسُ دفن الموتى، وذلك في عهد ابني آدم لصلبه، أما في بني إسرائيل فالدفن كان معروفاً عندهم قطعا. القاعدة الثانية: ما تأيد بقُرآنٍ، مُقدَّمٌ على ما خلا من ذلك: إذا تأيد أحد الأقوال بآية أو آيات أخرى، أو قراءة متواترة في الآية نفسها، فهو أولى بحمل الآية عليه؛ لأنّ تأييد القرآن له، يدل على صحته واستقامته، فإن تأيد كل قول بما سبق، خرج الترجيح بينهما عن هذه القاعدة، ويطلب من قواعد أخرى. ويدخل تحت هذه القاعدة: ما إذا كانت الآيات ترد أحد الأقوال، وتقضي ببطلان مقتضاه، وذلك لأنه إذا رُد أحدُ الأقوال أو ضُعّف، ترجح القول الآخر، أو انحصر الراجح في بقية الأقوال. وهذه القاعدة: تدخل تحت أول نوعٍ من أنواع التفسير، وهو تفسير القرآن بالقرآن، وقد أجمع العلماء على أنه أشرف أنواع التفسير؛ إذْ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله منه سبحانه. وينقسم تفسير القرآن بالقرآن إلى قسمين: أ*- توقيفي، لا اجتهاد فيه ولا نظر، وهو: أنْ يكون في الكلام لبسٌ أو خفاء وغموض، فيأتي القرآن بما يُزيله ويفسره، إما بعده مباشرة، أم في موضع آخر وارد مورد البيان والتفصيل له، مثل تفسير» أولياء الله « في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس). بقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. ومثال ما فسر في موضع آخر قوله تعالى: {وعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ}(النحل: 118). وذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (الأنعام: 146). ب*- القسم الثاني: اجتهادي، وهو المُعتمد على النظر وقوة الاستنباط، وذلك بانْ يحمل معنى آية على آية أخرى، تكون مُبينة وشارحة للآية الأولى، وهذا النوع منه المقبول ومنه المردود، كأي اجتهادٍ في تفسير آية، ولا اعتبار في قبوله بكونه فُسِّرت آية بأخرى، فكثيراً ما يجعل المفسر الآية أو لفظا منها نظيرا لما ليس مثلا، وقد يكون حمل الآية على الأخرى اجتهاداً مجرداً خلاف الراجح، لوجود معارض أقوى منه، واعتضاد غيره بوجهٍ من وجوه الترجيح. فإذا عُلم هذا فالمعتبر هو صحة النظر، وقوة الاستنباط، والتجرد من كل هوى وبدعة، فإذا توفر هذا، وسَلِم من المعارض الأقوى منه، فهو مرجح للقول الموافق. مثاله: 1- قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي} الأنعام. اختلف المفسرون في قوله تعالى: {هَـذَا رَبِّي} هل هو: - مقام نظر وتأمل؟! وأن إبراهيم عليه السلام كان مسترشداً طالبا للتوحيد! حتى وفّقه الله وآتاه رشده. - مقام مناظرة لقومه، وإقامه للحجة عليهم، ليُبين لهم بُطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والكواكب؟ والقول الثاني هو الحق، وهو الذي يدل عليه القرآن الكريم، فمجادلة إبراهيم لأبيه وقومه على التوحيد، هي التي جاءت في القرآن، ولم يرد في القرآن أنه كان مشركاً في زمن ما، بل نفى الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- الشرك، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120). وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 161). ونفي الكون الماضي بقوله {وما كان}، يستغرق جميع الزمن الماضي. القاعدة الثالثة: القولُ الذي يُعظم مقام النبوة أولى من غيره: ويَرِد هذا في تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن قصص الأنبياء، أو أقوالهم وأعمالهم، أو خطاب الله -تعالى- لهم، خلاف بين المفسرين، وهذا الخلاف لا تخرج أقواله عن صور: 1- أنْ يرد قولٌ يُفهم منه وصف نبيٍ، بأنه ترك أو فعل أمراً، خلاف الأولى به، كالذي ورد في تفسير قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} (ص: 33). بأنه عَقَر الخيلَ وضرب أعناقها. 2- أن يُذكر قولٌ على أنه وجه في تفسير الآية، لكنه متضمنٌ للطعن في عِصمة النبوة، كأن يَصف بعض الأنبياء بأوصافٍ يتنزه عن مثلها كل مؤمن، فضلاً عن نبي أو رسول! أو ما يطعن في رسالته أو تبليغه لها، أو قصصا وحوادث فيها طعن في نبوتهم، كنسبتهم إلى الخنا والفحش أو الخديعة والمكر! فهذا مردود لا يقبل. والأدلة على عصمة الرسل كثيرة: نقلية وعقلية، منها: 1- قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} البقرة. فهذا العهد إنْ كان هو النبوة، وجب ألا ينالها أحدٌ من الظالمين، فوجب ألا تحصل النبوة لأحد من الظالمين الفاسقين. 2- قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} (آل عمران). وحكم الغُلول كحكم سائر الذنوب الكبيرة، فنفاه الله -تعالى- عن الأنبياء. وقد اعتمد هذه القاعدة ورجح بها الإمام الطبري وابن العربي وابن عطية وابن كثير وغيرهم. مثاله: في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34). يذكر بعض المفسرين قصة الشيطان الذي أخذ خاتم سليمان -عليه السلام- وجلس على كرسيه، وطرده عن ملكه وتسلط على نسائه في الحيض واستمر على ذلك حتى وجد سليمان الخاتم في بطن سمكة...إلخ، وهذه قصة باطلة لطعنها في عصمة النبوة. وكذا ما ذكره بعضهم في قوله: {إنَّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة} (سبأ). عن داود -عليه السلام- فذكروا أنَّ لداود -عليه الصلاة والسلام- تسع وتسعين امرأة، وأنه شغف حباً بامرأة أحد جنوده! وأنه أراد أن تكون هذه المرأة من زوجاته، فطلب من هذا الجندي أن يذهب إلي الغزو لعله يقتل، فيخلف امرأته، ثم يأخذها داود عليه الصلاة والسلام! فهذه القصة كذبٌ بلا شك، ولا تليق بأدنى شخص له إيمان، فضلاً على أن يكون نبياً من أنبياء الله تعالى، ولكن هذه من أخبار بني إسرائيل الكاذبة، التي لا يجوز لنا نحن المسلمين أنْ نعتمدها أو نقصها، إلا على وجه بيان بطلانها.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين - ثالثا: قواعد الترجيح المتعلقة بالسِّياق القرآني: الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى: إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده، أولى من الخروج به عنهما، إلا بدليل: فإذا تنازع المفسرون في تفسير آية، أو جملة من كتاب الله، فمنهم من يحملها على معنى لا يخرجها من سياق الآيات، ومنهم من يحملها على معنى يخرجها من معاني الآيات قبلها وبعدها، ويجعلها معترضة في السياق، فحَمْل الآية على التفسير الذي يجعلها داخلة في معاني ما قبلها وما بعدها، أولى وأحسن؛ لأنه أوفق للنظم، وأليق بالسياق، ما لم يرد دليلٌ يمنع من هذا التفسير أو يصحح غيره. وقد اعتمد هذه القاعدة الطبري وابن عطية وغيرهما. مثاله: 1- اختلف المفسرون في المعني بقوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} الأنعام:91 , على أقوال: أ*- هو رجل من اليهود ثم اختلفوا في اسمه. وقيل: جماعة من اليهود سألوا النبي مثل آيات موسى عليه السلام. ب*- هو خبر من الله تعالى عن مشركي قريش. ج - أنه شامل لليهود والمشركين. والقول الثاني هو الموافق للسياق، وهو الذي رجّحه الطبري بهذه القاعدة، وذلك أنه في سياق الخبر عنهم أولاً، فأن يكون ذلك أيضا خبراً عنهم أشبه، من أنْ يكون خبراً عن اليهود، ولم يَجر لهم ذكرٌ فيكون هذا متصلاً به. 2- اختلف المفسرون في المعني بالنِّعمة، في قوله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} (النحل: 83). على أقوال: أ*- النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوته، ثم جحدوها وكذبوه. ب*- ما عدَّد الله ذكره في هذه السورة من النّعم، وأنّ الله هو الرازق المُنْعم بذلك عليهم، ولكنهم يُنكرون ذلك فيعبدون معه غيره، ويُنسبون لهم الرزق والنصر. وأولى الأقوال القول الثاني، لأنّ هذه الآية ما قبلها كله في سياق بيان نعم الله على عباده، وخصوصاً العرب. وإنْ كانوا أيضا قد أنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وجحدوها بعد العلم بها، لكن السياق كله في الأول. وكذا قوله تعالى: {إنما يُريد الله أنْ يُذهبَ عنكم الرجسَ أهل البيت ويُطهّركم تطهيرا} الأحزاب. أنَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، لأن السياق كله في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يخرجن عنه؟! القاعدة الثانية: لا يُعدل عن ظاهرِ القُرآن إلا بدليل: فالأصل في نصوص القرآن - وكذا السُّنة النبوية - أنْ تُحمل على ظواهرها، وتُفسر على حسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولا يجوز أنْ يعدل بألفاظ الوحي عن ظاهرها إلا بدليلٍ واضح، يجب الرجوع إليه، ولأنه لا يُعرف مراد المتكلم إلا بالألفاظ الدالة عليه، والأصل في كلامه وألفاظه أنْ يكون دالاً على ما في نفسه من المعاني، وليس لنا طريقٌ لمعرفة مراده غير كلامه وألفاظه. والمراد بالظاهر: هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني. فالأصل في النصوص أنه ليس لها معنى باطن يخالف ظاهرها. ويدل لهذه القاعدة ما يلي: أ*- خبر الله تعالى في كتابه أن هذا القرآن عربيٌ لا عوج فيه، وأنه تعالى فصّل آياته {كتاب فُصلت آياته قرآنا عربياً} (فصلت: 2). وهذا يعني ضرورة أن تكون معانيه جارية على ظاهر دلالة ألفاظه العربية، وإلا كان منافياً لتفصيله وبيانه، وكمال عربيته. ب*- قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل: 89). وقوله {يُبيِّن الله لكم أنْ تضلوا} (النساء: 176). وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره وحقيقته، يُنافي قصد البيان والإرشاد والهدى. ج - قوله تعالى: {تبارك الذي نزّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان:1). ولا يتم البلاغ والإنذار وقيام الحجة، إذا كان ظاهر ألفاظ القرآن غير مقصود؟! د*- إجماع الأمة على أنه يجب العمل بالظاهر، حتى يرد دليلٌ شرعي صارفٌ عنه، وأنّ صرفه عنه بغير دليل باطل. وقد اعتمد هذه القاعدة عامة علماء الأمة، كمالك والليث والثوري وابن عيينة، والشافعي في الرسالة، وأحمد في المنقول عنه في مسائله وغيرها، وإسحاق، وابن المبارك، والطبري، وغيرهم ممن جاء بعدهم كابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي. ولا فرق في هذا بين نصوص الأسماء والصفات وغيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الأسماء والصفات أولى وأظهر، لأن مدلولها توقفيٌ محض، لا مجال للعقل في تفصيله. والمراد بالدليل الذي يجب الرجوع إليه، الدليل الذي يجوز صَرْف الظاهر له، وهو إمّا أنْ يكون عقلياً ظاهراً، أو سمعيا ظاهراً. فمثال العقلي الظاهر: قوله تعالى: {وأتيت من كل شيء} (النمل). فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها من الملوك. ومثله قوله {تدمر كل شيءٍ بإذن ربها} (الأحقاف: 25). فإنه قال بعده {فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم}. فعلم أنَّ المراد: تُدمر ما يقبل التدمير. وأما الدليل السمعي: فهو اللفظي المسموع، وفي عرف الفقهاء: هو الدليل الشرعي، أي الكتاب، والسنة، والإجماع. ومن الدليل السمعي الظاهر: وصف الله تعالى بالسمع والبصر والحياة والعلم والقدرة والكلام والاستواء على العرش، والوجه واليد، والمحبة والرضا، والبغض والغضب، ونحوها من الصفات التي يتّصف بها ربنا حقيقةً لا مجازاً. قال ابن عبد البر رحمه الله: «أهل السُّنة مُجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلّها في القرآن الكريم والسُنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكيّفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة» اهـ. - أما التفسير الباطني: وهو تفسير القرآن الكريم على معان مخالفة لظاهر القرآن الكريم؛ مما يجافي معاني الكلمات والجمل في القرآن الكريم، دون دليل أو شبهة من دليل. وهذا نجده ظاهراً في تفاسير الباطنية، الذين رفضوا الأخذ بظاهر القرآن، وقالوا: للقرآن ظاهر وباطن؟! والمراد منه: باطنه دون ظاهره؟! ومن أمثلة ضلالهم: 1- تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} بأن المراد بالصلاة: هي العهد المألوف، وسُمي صلاة، لأنها صلة بين المستجيبين ويبن الإمام؟! وتأويل الصيام بأنه الإمساك عن كشف السر؟! 2- تفسير الإثني عشرية قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} (الرحمن). بأن المشرقين رسول الله وعلي؟! والمغربين الحسن والحسين؟! وقولهم {والشجرة الملعونة في القرآن} الإسراء. أنهم بنو أمية؟! فهذا النوع من التفسير تفسير باطلٌ وضلال وإثم، بل فيه الخروج عن الإسلام لمن اعتقد ذلك، والعياذ بالله. ويستدل لبطلانه بالوجوه التالية: أ- إنه تفسير يقوم على عقيدة التحلل من التكاليف الشرعية، والرفض للشرائع والأحكام الإسلامية من حيث الحقيقة والواقع، وفي هذا نقضٌ لبناء الشريعة، وحلٌ لعُرى الإسلام. ب- كونه غريباً عن معاني الكلمات والجمل في اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، وتعطيل لها، وفي ذلك مخالفة صريحة لقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2). ج- إنه يجعل القرآن ملعبة لكل أحد، يُفسره كل مفسر بما شاء له رأيه وضلاله وهواه. هـ- إنه هدمٌ لضوابط تفسير القرآن الكريم، التي سار عليها علماء المسلمين سلفاً وخلفا. - ومثله ما يسمى بـ «التفسير الإشاري «وهو تفسير القرآن الكريم بغير ظاهره، لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف؟! مثل قولهم في قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} (طه: 24). إن المراد بفرعون هو النفس البشرية؟! فسر بعض أهل الإشارة قوله تعالى: {تذبحوا بقرة} البقرة. بأنها النفس؟! و{اذهب إلى فرعون} بأنه القلب؟! القاعدة الثالثة: تُحمل معاني القرآن على أسلوبه، ومعهود استعماله، أولى من الخروج به عن ذلك: فأولى أقوال المفسرين بالصواب، هو القول الذي يوافق استعمال القرآن في غير موضع النزاع، سواء أكان ذلك في الألفاظ المفردة، أم في التراكيب. وسواء كان ذلك الاستعمال أغلبياً، أو مطرداً بأنْ يكون استعمالها في جميع مواردها في القرآن متفقا عليه، غير موضع الخلاف، بأن يقول مفسر قولا في آية جميع نظائرها في القرآن على خلاف هذا القول، أو عادة في أسلوب القرآن. مثاله: قوله تعالى: {فلا أُقسم بمَواقع النُّجوم} الواقعة: 75. أي: أنها نجوم السماء، لأنه المعهود من ذكر النجوم في القرآن كله. وليس المراد به: نجوم القرآن، أي: نزول القرآن مفرّقا. وكقوله تعالى: {وترى الجبالَ تحسبُها جامدةً وهي تَمر مرَّ السحاب} (النمل: 88). قال البعض: الآية تدل على أنَّ الجبال الآن في الدنيا يحسبها رائيها ساكنة، وهي تمرّ مر السحاب، وذلك دليل على دوران الأرض! وهذا القول مردود عليه بهذه القاعدة، لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: {وتسير الجبال سيرا} {وسُيرت الجبال فكانت سراباً} {وإذا الجبال سُيرت}. كما أنّ هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أحوال الآخرة، فالآية قبلها {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات..}.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين - قواعد الترجيح المتعلقة بالأحاديث النبوية الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى : إذا ثبت الحديثُ وكان نصاً في تفسير الآية ، فلا يُصار إلى غيره . ففي تفسير بعض الآيات نجد تفسيراً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ورود هذا التفسير عنه صلى الله عليه وسلم ، إلا أننا نجد أحيانا كثيرة أقوالا أخرى في تفسير الآية ؟! فإذا وجد ذلك وثبت الحديث وورد مورد التفسير والبيان للآية فيجب المصير إليه ، وحمل الآية عليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بتفسير وبيان كلام الله ، وهذا من مهام رسالته ، كما قال الله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل . مثاله : قال تعالى ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ) الأنعام. اختلف أهل التفسير في المراد بـالظلم على قولين : أ*- الشرك ، وعمدتهم حديث ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على الناس ، فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : “ إنه ليس الذي تظنون ، ألم تسمعوا قول العبد الصالح : ( إن الشرك لظلم عظيم ) لقمان. إنما هو الشرك. ب*- أنه فعل ما نهى الله عنه ، أو ترك ما أمر الله بفعله. والصحيح الأول لصحة الحديث فيه . القاعدة الثانية : إذا ثبت حديثٌ في معنى أحد الأقوال ، فهو مرجحٌ له على ما خالفه : فإذا تعددت أقوال المفسرين في آية ، فالقول الذي يؤيده خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم على غيره ، وذلك لأن ورود معنى هذا القول في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، يدل على صحته ، وترجيح غيره ، مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم . والفرق بين هذه القاعدة وسابقتها : أن الحديث الوارد في هذه القاعدة ، لم يرد مورد التفسير لألفاظ هذه الآية ، بل كان وروده لسبب آخر في أي باب من أبواب العلم ، لكن معناه يوافق معنى أحد الأقوال المقولة في الآية . أما الحديث في القاعدة السابقة ، فهو وارد مورد التفسير والبيان ، لألفاظ الآية . مثاله : قول الله تعالى: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) ن. اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على قولين: أ*- يوم يكشف فيه عن شدةٍ وكرب ، وذلك يوم القيامة . ب*- يوم يكشف فيه الرحمن عن ساقه ، وهو يوم القيامة ، وهذا القول روي عن ابن مسعود بإسناد صحيح ، وهذه الآية ليست نصاً في الصفة ، لأنها نكرة في سياق الإثبات ولم تضف إلى الله تعالى . وأولى القولين بالصواب : الثاني ، لحديث أبي سعيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :” يَكْشِف ربُّنا عن ساقه ، فيَسجد له كلُ مُؤمن ومُؤمنة ، ويبقى كل مَنْ كان يَسجد في الدنيا رِياءً وسُمعة ، فيذهب ليَسجد فيعود ظهره طَبَقاً واحداً “ متفق عليه . فهذا الحديث ذكر الكشف عن الساق والسجود له سبحانه وذلك يوم القيامة ، وهي كذلك مذكورة في الآية ، فهذا مما يؤيد صحة القول الثاني . أما القول الأول فليس في معناه خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فيه الشدة والكرب مقروناً بالسجود. قال الشوكاني: “وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عرفت ، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيها فليس كمثله شيء . دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر “ . القاعدة الثالثة : كلُّ تفسيرٍ خالفَ القُرآن أو السُّنة ، أو الإجماع فهو مردودٌ : نعني بمخالفة القرآن والسنة مخالفة قطعي الثبوت والدلالة ، وظني الثبوت قطعي الدلالة ، إذا اقترن بوصف يقويه ويصححه . أما إذا كانت مخالفة الآية أو الحديث في دلالة ظنية ، فالأمر يختلف ، وهو موضع اجتهاد ، والقرائن هي التي هي التي ترجّح أحد الأقوال. ويدل لهذه القاعدة قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب . وقوله تعالى: ( فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) النساء . وسبيل معرفة وجه مخالفة القول للقرآن والسنة والإجماع ، تنبيه العلماء المجتهدين على ذلك ، لأنهم العارفون بالموافقة والمخالفة ، وأما لغير المجتهد فعليه بقول الجمهور. القاعدة الرابعة : لا تُحمل الآيات على تفصيلات لغيبيات لا دليل عليها : فلا سبيل لنا إلى معرفة الأمور الغيبية ، كبدء الخلق ، وأخبار الأمم الماضية وأنبيائها ، وما لم يقع كالفتن والملاحم والبعث والقيامة ، إلا بنص من قرآن أو سنة ، فلا يصح تفسيره باجتهادات لا دليل عليها ، أو بأخبار إسرائيلية ، إلا إذا سيقت هذه الأخبار من باب التحديث عن بني إسرائيل لحديث : “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” لا من باب التفسير لكلام الله. أما إذا ثبتَ تفصيلٌ أو تفسير أو تعيين مبهم ، من قِبل الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، كتعيينه صلى الله عليه وسلم اسم صاحب موسى بأنه الخضر عليه السلام ، ونحو ذلك ، فمثل هذا يجب الجزم به. وألحق بالحديث المرفوع : قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه ، ولا تعلّق له ببيان لغةٍ ، أو شرح غريب ، فله حُكم الرفع في هذه الحالة ، وقيده جماعةٌ من الأئمة بألا يكون ذلك الصحابي ممن عُرف بالأخذ من الإسرائيليات . مثاله : 1- قول الله تعالى : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) هود. اختلف المفسرون في عدد الذين آمنوا مع نوح عليه السلام فحملهم معه في الفلك ، على أقوال: أنهم ثمانية ، سبعة ، عشرة سوى نسائهم ، ثمانون. وكل هذه الأقوال لا دليل عليها من كتاب أو سنة ، بل هي مما أخذ من بني إسرائيل ، فالصواب ألا تحمل الآية على أيٍّ منها ، فهو مما أبهمه الله عنا ولم تقم حجة ببيانه . 2- فسَّر التابعي مجاهد المقام المحمود ، في قوله تعالى: (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) الإسراء. بأنَّ الله سبحانه يُجلس رسوله صلى الله عليه وسلم معه على عرشه ؟! وهذا أمرٌ غيبي من أحوال الآخرة ، ولم يقم عليه دليل من القرآن صريح ، ولا من السنة النبوية ، ولم ينقل بسند صحيح عن الصحابة ، فهو مردود بهذه القاعدة ، وقد صح التفسير النبوي للآية بخلافه ، وهو أن المقام المحمود يوم القيامة ، هو الشفاعة النبوية . خامساً : قواعد الترجيح المتعلقة بالآثار عن الصحابة ومن بعدهم : القاعدة الأولى : سبب النزول الصحيح الصريح ، مرجِّح لما وافقه : فمن أهم فوائد معرفة أسباب النزول ، أنها تُعين على فهم الآية على وجهٍ صحيح ، فإذا تنازع العلماء في تفسير آيةٍ من كتاب الله ، وتعددت أقوالهم فيها ، فأولى الأقوال بتفسير الآية ما وافق سبب النزول الصحيح الصريح في السببية ، فلا تعويل على سبب نزولٍ ضعيف الرواية ، ولا على سبب نزول غير صريح في السببية ، فلا يعتبر مرجحا . والصريح مثل أن يقول الراوي : سبب نزول هذه الآية كذا وكذا ، أو أن يأتي بالفاء التعقيبية مثل : حدث كذا فنزلت الآية ، ومثال غير الصريح أن يقول الراوي : نزلت هذه الآية في كذا ، فقد يراد به أن المذكور داخل تحت معنى الآية . أمثلة :اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ) البقرة. على أقوال : 1- المراد بالبيوت المنازل المعروفة ، والإتيان هو المجيء إليها ودخولها. 2- المراد بها النساء ، أي : أمرنا بإتيانهن من القبل لا من الدبر. 3- أنها مَثَل يفيد أمر الناس أنْ يأتوا الأمور من وجوهها . وأصح هذه الأقوال الأول ، لما صح في سبب نزول هذه الآية من حديث البراء بن عازب قال : “ كانت الأنصار إذا حَجُّوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ، فجاء رجلٌ من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له ذلك ، فنزلت هذه الآية “ متفق عليه. القاعدة الثانية : تاريخ نزول الآية الثابت مرجح : القول الذي يوافق تاريخ نزول الآية هو الراجح ، ولا بد من ثبوت تاريخ النزول ، إما باتفاق العلماء عليه كاتفاقهم على السور المكية ، أو بصحة الرواية. وقد ذكر هذه القاعدة ورجح بها : ابن جرير ، وابن عطية ، والقرطبي وغيرهم . أمثلة : 1- فسَّر بعضهم الإثم في قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ منهَا وما بَطَنَ والإِثْمَ ) الأعراف. بأنها الخمر واحتج بقول الشاعر: “ شربت الإثم حتى ضل عقلي”. قال ابن عطية :”وهذا قولٌ مردود ، لأن هذه السورة مكية ، ولم تُعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أُحد ، وبيت الشعر يقال إنه مصنوع “. 2- ادّعى بعض الإثني عشرية أن سورة “الإنسان” نزلت في حق علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : “إن سورة ( هل أتى ) مكية باتفاق العلماء ، وعلي إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، وولد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة ، والحسين في السنة الرابعة . 3- وأيضا في قوله تعالى: ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فسّرها الإثنى عشرية بأنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ، وهذه القاعدة ترد هذا القول ، لأن علياً لم يتزوج فاطمة إلا في المحرم من السنة الثانية ، وولد الحسن في الثالثة والحسين في الرابعة ، وهذه السورة مكية فكيف تكون نزلت فيهم ؟! ثم إن “القربي” معرفة باللام فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أُمر أن يقول لهم : “قل لا أسألكم...”. والحق تفسير الآية بما فسرها به حبر الأمة عبد الله بن عباس ، كما رواه عنه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بَطْنٌ من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. وصحح هذا القول ابن جرير وابن كثير وابن حجر والشوكاني وغيرهم. القاعدة الثالثة : فهم السلف حجة على من بعدهم : السلف هم الصحابة الكرام ، وأعيان التابعين ، ومن تبعهم من أئمة الدين ، ممن شهد له بالإمامة ، دون من رُمي ببدعة ، كالخروج والقدر والتجهم والاعتزال والرفض والإرجاء وغيرها. وهذه القاعدة ترد تفاسير أهل الأهواء والبدع ، الذين خالفوا تفاسير الصحابة وتابعيهم ، فحملوا القرآن على معان اعتقدوها ، وليس لهم فيها سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين . وقد نص على هذه القاعدة في الترجيح : ابن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره ، والشاطبي في الموافقات وغيرهم . - مثاله : فسّر البعض الاستواء في قوله تعالى: ( ثم استوى على العرش ) الوارد في سبع آيات من كتاب الله تعالى بالاستيلاء ؟! وهذا تفسيرٌ مخالف للنص القرآني ذاته ؟! إضافة لمخالفته لتفسير السلف الصالح ، من اتفاقهم على حمل آيات الصفات على ظاهرها ، مع نفي التشبيه والتمثيل عنها ، والتكييف لها . وهذا ما أثبته الطبري والبغوي وابن كثير والقاسمي وغيرهم . القاعدة الرابعة : تفسير جمهور السلف مقدم على كلِّ تفسيرٍ شاذ : فإذا انفرد مفسر في تفسير آية بقول خالف فيه عامة المفسرين ، ولم يكن لهذا القول دلالة واضحة قوية فهو قولٌ شاذ ، وقول الجماعة أولى بالصواب منه . وتحديد الشذوذ يختلف باختلاف الناظر فيه ، فإنْ كان مجتهداً فإنه يحدد مفهوم الشذوذ عنده بمخالفة دليلٍ ثابت ، إما قطعي أو ظني . أما إذا لم يكن مجتهداً فعليه بقول الجمهور. “لأن ما كان معدوداً في الأقوال غلطا وزللاً ، قليل جدا في الشريعة ، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها ، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر ، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أنّ الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين ، لا مع المقلدين” . وقد رجح بهذه القاعدة ابن جرير وابن عطية والرازي والقرطبي وغيرهم. - مثاله : قال تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) البقرة. ذهب عامة المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، إلى أنّ المسخ في هذه الآية : كان مَسخاً حقيقيا ، معنويا وصُوَريا ، مُسخت قلوبهم وصورهم . وذهب مجاهد إلى أنَّ المسخ كان معنوياً لا صوريا ! أي : مُسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ؟! وأنه مَثَلٌ ضربه الله لهم ، مثل ما ضَرب مَثَل الحمار يحمل أسفاراً . وهذا القول غريب ؟! ومخالفٌ لما عليه عامة المفسرين ، وللظاهر من السياق القرآني ، ولدلالات الألفاظ العربية .
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين – قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى: كلُّ تفسيرٍ ليس مأخوذاً من دلالة ألفاظ الآية وسياقها، فهو مردودٌ: فكل تفسير خرج بمعاني كتاب الله -تعالى- عما تدلُّ عليه ألفاظه وسياقه، ولم يدل اللفظ على هذا المعنى بأي نوعٍ من أنواع الدلالة: مطابقة أو تضمناً والتزاماً، أو مفهوماً موافقا، أو مفهوما مخالفا، فهو مردودٌ؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة كان ضَرباً من التخرّص والتلاعب، لا تقره لغة، ولا يرضاه دينٌ ولا عقل، وليس من تفسير كلام الله في شيء. فالألفاظ يكون التخاطب والإفصاح عن المراد بها، وهي قوالب المعاني، فإلغاء دلالاتها إبطالٌ للغة التخاطب وفائدته.ودلالة اللفظ هي: ما ينصرف إليه هذا اللفظ في الذهن، من معنى مدرك أو محسوس، ويدل لهذه القاعدة جملة أدلة منها: 1- أنّ الله تعالى هدَّد وتوعد الذين يُلحدون في آياته، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (فصلت: 40). والإلحاد في آيات الله: أنْ يوضع الكلام على غير موضعه، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. 2- ذم الله -تعالى- اليهود، ووصفهم بأنهم يُحرّفون الكلم عن مواضعه، أي يحملوه على غير مراده، قال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (النساء: 46). 3- أخبر الله -تعالى- عن كتابه بأنه عربي، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}. أمثلة: سبق ذكر بعض الأمثلة في تفاسير الباطنية، ومن ذلك أيضا: 1- فسر بعض الشيعة قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31)، بأنه الغسل عند لقاء كل إمام! 2- فسّر بعضهم أيضا قوله تعالى: {والتين والزيتون}(التين: 1)، برسول الله وعلي! و{طور سنين}(التين: 2)، بالحسن والحسين! و{البلد الأمين}(التين: 3)، بالأئمة؟! 3- قال تعالى: {والْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (النساء: 36). فسّرها بعضهم فقال: الجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المعطية لله! فهذه التفاسير خرافات بلا شك؛ إذ ما العلاقة بين المسجد والإمام، حتى يحمل عليه؟! وكذلك يقال في البقية، ففي هذا هدم للغة العربية، وإلغاء لمعاني كلماتها المعروفة بالوضع، وإلغاء للنص تبعاً لذلك، ويستطيع أي صاحب هوى أن يحرف القرآن كما يشتهي، بهذه الطريقة الضالة! القاعدة الثانية: ليس كلُّ ما ثبتَ في اللغة، صحّ حملُ القرآن عليه: وهذه القاعدة تضبط التفسير اللغوي وتقيده بقبول السياق له، وأنه لا ينظر في التفسير اللغوي إلى ثبوته في اللغة فحسب، بل لا بد مع ذلك من مراعاة السياق القرآني. ولذلك فقد أخطأ من أهمل السياق القرآني، والمعهود من اللفظ القرآني، وأسباب النزول، والقرائن التي حفّت بالخطاب حال التنزيل، واعتمد على مجرد اللغة فحسب؛ لأن في ذلك إهمالاً لغرض المتكلم به، وهو الله -سبحانه- من كلامه، ولكل كلمة معنى في سياق قد لا يحصل في سياق آخر. وقد ذكر مضمون هذه القاعدة الزركشي في البرهان، وراعاها ابن كثير في اختياراته، وصنيع المفسرين يدل عليها. مثاله: - فسّر أبو عبيدة معمر بن المثنى «الكلمة» في قوله تعالى: {مصدقاً بكلمة من الله} آل عمران. أي: بكتاب من الله، من قول العرب: «أنشدني فلان كلمة فلان» أي: قصيدة فلان وإنْ طالت. والصواب: أن المقصود بكلمة الله، هو: عيسى عليه السلام. القاعدة الثالثة: يُحمل كلام الله على المعروف من كلام العرب، دون الشاذ والضعيف والمنكر: فيجب أنْ يفسر القرآن، ويحمل على أحسن المحامل، وأفصح الوجوه، فلا يُحمل على معنى ركيك، ولا لفظ ضعيف! وإنما يحمل على المعروف من كلام العرب من الأوجه المطردة، دون الشاذة والضعيفة، ويحمل على الأكثر استعمالاً، دون القليل والنادر. وكذلك يُحمل على المعاني والعادات والعرف الذي نزل به القرآن الكريم والسنة النبوية، دون ما حَدَث واستجد بعد التنزيل؛ وذلك لأنَّ القرآن أفصح الكلام، ونزل على أفصح اللغات وأشهرها، فلا يَعدل به عن ذلك كله، وله فيها وجه صحيح. والمراد بالمعروف من كلام العرب: أي المستعمل في كلامهم، سواء كان ذلك الاستعمال مطرداً، وهو الذي لا يتخلّف ألبتة، ولا تعرف العرب غيره، أم غالباً، وهو: أنْ يكون أكثر الاستعمال عليه، لكنه يتخلف أحيانا قليلة. ومدار الفصاحة على كثرة الاستعمال، فإنْ تعارض القياس القوي وكثرة الاستعمال فكثرة الاستعمال هي المقدمة. - والشاذ في اللغة هو: ما خرج عن القياس، أي: ما خرج عن القاعدة، والقياس قسيم السماع ؛ لأن كلام العرب من كثرته لا يحصر، واللهجات مختلفة، فمن النظائر ما يجمعه قياس واحد ولا يخرج منه شيء. والضعيف: ما انحط عن درجة الفصيح، ويكون في ثبوته كلام. والمنكر أضعف من الضعيف، وأقل استعمالا؛ بحيث أنكره بعض أئمة اللغة ولم يعرفه. والنادر أقل منه. ويدخل تحت هذه القاعدة دخولاً أولياً: ما لم تستعمله العرب ألبتة، ولم يرد في لسانها وقت نزول القرآن، كالاصطلاحات والمعاني المستجدة والحادثة بعد عصر التزيل. لأنّ الله تعالى خاطب العرب باللغة، والعادة والعرف التي كانت موجودة وقت نزول القرآن، لا بما حدث بعد ذلك، ومن فسّر القرآن بتلك المعاني الحادثة، فقد زعم أنَّ الله خاطب العرب بما لم يعرفوا من لغتهم. وقد نص على مضمون هذه القاعدة: الإمام الطبري وابن عطية وابن تيمية وغيرهم. أمثلة: 1- فسر بعضهم قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} (آل عمران). بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد من الناس، وهذا مما لا تعرفه العرب من لغتها. 2- فسر بعضهم الطير الأبابيل، بأنها الذباب أو البعوض! وفسر الحجارة بالجراثيم التي تنقل الأمراض الفتاكة! وهذا مما لا تعرفه العرب من لسانها وقت نزول القرآن بالإخبار عن هذه الحادثة. القاعدة الرابعة: الأصل في النص الحقيقة: فالأصل في الكلام أنْ يُحمل على الحقيقة، ولا يجوز العدول به عنها وله فيها محمل صحيح، فإذا تنازع المفسرون فكان منهم مَن يَحمل اللفظ على الحقيقة، ومنهم مَن يدّعي المجاز، فالحمل على الحقيقة هو الصواب، ومن ادّعى صرفَ شيء من ألفاظ النصوص عن حقيقته إلى مجازه، لم يتم له ذلك إلا بعد أربع مقدمات: 1- بيان امتناع إرادة الحقيقة وصحَّة ذلك. 2- بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عيّنه، وإلا كان مفتريا على اللغة. 3- الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة. 4- أنْ تكون القرينة تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها. هذا وقد اختلف العلماء في وقوع المجاز في اللغة والقرآن على أقوال: 1- منع وجود المجاز في اللغة، ورجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وغيرهما كالعلامة الشنقيطي. 2- منع وجوده في القرآن والسنة. 3- إثبات وجوده في القرآن والسنة واللغة. ويدل لهذه القاعدة قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} القمر. وهذا التيسير يتضمن تيسير ألفاظه للحفظ، ومعانيه للفهم، وأوامره ونواهيه للامتثال، والانصراف في تفسيره وفهم معانيه عن الحقيقة التي تدل عليها ألفاظه، إلى أنواع الاستعارات وضروب المجازات، منافٍ لهذا التيسير الذي أخبر الله به عن كتابه. وقد نص على هذه القاعدة ابن عبد البر في التمهيد وابن العربي وذكرها أصحاب القواعد الفقهية كالسيوطي. مثاله: - قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} وقد سبق. القاعدة الخامسة: الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية: تنقسم الحقيقة على: أ- لغوية: وهي استعمال اللفظ في موضعه الأصلي، كالأسد للحيوان المفترس. ب- شرعية وهي: ما وضعها الشارع، كالصلاة للعبادة المعروفة والزكاة والصيام والحج وغيرها. ج- عُرفية: وتنقسم إلى خاصة وعامة، فإن كان الناقل طائفةٌ مخصوصة، سُميت خاصة، وإنْ كان عامة الناس، سميت عامة. فإذا دار الكلام بين مسمى شرعي وآخر لغوي، ولا دليل يُعين أحدهما، حُمل على الشرعي؛ لأنه عُرْفه، ويجب أنْ يُحمل كلام كل أحدٍ على عُرفه الخاص به. فإنْ قام دليل على تعيين أحدهما، فلا ترجيح بهذه القاعدة كقوله تعالى: {وَصَلّ علَيهِم} التوبة. فالصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشرع: العبادة المعروفة، لكن معناها في الآية هنا الدعاء، أي: المعنى اللغوي لقيام الدليل على ذلك، فعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بصدقة قومٍ صلّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» متفق عليه. وقد قرّر هذه القاعدة جلة من الأئمة، انظر كتاب الزركشي وغيره. وقد نازع في هذه القاعدة الإمام أبي حنيفة وبعض الأصوليين، فذهبوا إلى تقديم الحقيقة اللغوية على الشرعية، والأول أصح. مثاله: قال تعالى: {وَوَيلٌ لِلمُشرِكِين * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} على قولين: - لا يقومون بالطاعة التي تطهرهم وتزكي قلوبهم ولا يوحدون الله. - لا يقرون بزكاة أموالهم التي فَرَضها الله فيها، ولا يعطونها أهلها. والقول الثاني هو الراجح؛ لأن الأول فسر الزكاة بالمعنى اللغوي، بخلاف الثاني الذي فسرها بالمعنى الشرعي، والحقيقة الشرعية مقدمة في تفسير كلام الشارع.
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين – قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب(2) الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة السادسة: الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية: إذا لم يكن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية لدليل صارفٍ عنها، أو لكونه لا معنى شرعيا له، ثم كان هذا اللفظ دائراً بين الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية، ولا دليل يوجب حمل اللفظ على إحداهما، فالحمل على العرفية أرجح. ويشترط في العُرف الذي يُقدّم على اللغة شروط هي:1- أن يكون قائماً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو موجوداً قبله، لأنا نريد أنْ نعرف مراد الله -تعالى- ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما، ولا يمكن معرفة مرادهما بالكلام، إلا من العُرف الذي كان قائماً موجوداً عند ورود الخطاب، فنعلم أنه قصد بإطلاق الكلام ما يقتضيه ذلك العُرف، فأما عُرفٌ حَدَث بعده، فلا يجوز أنْ يتعرف منه مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يكن موجوداً في زمانه. 2- أنْ يكون العرفُ مُطّرداً أو غالبا، فإنْ كان مضطرباً فلا يقدم، ويرجع إلى اللغة. 3- ألا يوجد للفظ محملٌ شرعي، أو وجد دليل صارف عن إرادته، وهذا من اقتضاء تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية والعرفية. ومعتمد هذه القاعدة أن المعنى العرفي أظهر في الخطاب من المعنى اللغوي؛ لأنه هو المتبادر إلى الفهم، وما وضع الكلام إلا للإفهام، فلذلك يقدم المعنى العرفي. وقد قرر هذه القاعدة الماوردي والزركشي وغيرهم. مثاله: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة:60). . ثم قال {وفي سَبِيلِ اللّهِ} وفي المراد به أقوال: 1- الغزاة في سبيل الله. 2- جميع وجوه الخير والبر. 3- الحجيج. والقول الأول هو الأولى بالصواب؛ لأنّ إطلاق هذا اللفظ على الغزو والجهاد، هو الشائع في الاستعمال عند نزول القرآن، فكان عُرفا، قال ابن الجوزي: إذا أُطلق ذكر «سبيل الله» فالمراد به الجهاد، وقال ابن دقيق العيد نحوه. وقد أَدخلت السُّنة النبوية الصحيحة: الحج، في سبيل الله. القاعدة السابعة: القول بالاستقلال، مقدَّمٌ على القول بالإضمار: فإذا اختلف المفسرون في تفسير آية، فمنهم من يرى افتقار الكلام إلى التقدير، ومنهم مَنْ يرى استقلال الكلام، وعدم احتياجه إلى ذلك التقدير، والمعنى مستقيم بدونه، فحمل الآية على الاستقلال مقدّم، لأجل موافقة الأصل؛ لأن الإضمار والتقدير خلاف الأصل، فيجب التقليل من مخالفة الأصل. وهذه القاعدة من القواعد التي اعتمدها المفسرون، وكذا الأصوليون. مثاله: قال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر: 22). . ذهب بعضهم إلى تفسيرها بقولهم: جاء أمر ربك؟! أو جاء قضاؤه؟! والصواب عدم التقدير، وليس في ألفاظ الآية ولا سياقها، ولا في دلالة شرعية تدل على إضمار شيء فيها؛ والسبب في هذا التقدير عند بعض المؤولة: هو دعواهم بأنَّ العقل يحيل اتصاف الباري سبحانه بهذه الصفة! وهذا باطل؛ لما قلناه من أنَّ الأصل عدم التقدير؛ ولأن إقحام العقل في ميدان لا يعلم كنهه خطأٌ واضح، والصفات من الغيب التي أمرنا بالإيمان به، فمبناه على التسليم، وإثبات ما أثبته الله لنفسه دون تشبيه أو تكييف، وبهذا فسر الآية ابن جرير فقال: «وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه، صفوفا صفا بعد صف» وغيره من المفسرين. قيام الدليل على الإضمار: أما إذا قام الدليل على الإضمار في الآية، فالقواعد التالية تُرجّح بين الأقوال في تقدير ذلك المضمر: قاعدة (ا): تقدير ما ظهر في القرآن أولى في بابه من كل تقدير. فإذا دلَّ دليل معتبر على الحذف في آية، وظهر هذا المحذوف في آية أخرى، فتقدير ذلك المحذوف بما ظهر في موضع آخر، أولى من كل تقدير، وأوفق للصواب، وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن. وقد ذكر هذه القاعدة بلفظها العز بن عبد السلام، واعتمدها عامة المفسرون. مثاله: قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} (النساء: 171) في هذه الآية قرينة على الإضمار، وهي رفع: (ثلاثة) بعد القول ولا رافع لها مذكور، فدل على وجود مضمر: فقال الفراء: التقدير «هم ثلاثة». وقال الزجاج: آلهتنا ثلاثة. وقال أبوعلي الفارسي: «هو ثالث ثلاثة» وهذا أولى التقديرات لأجل موافقة قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}(المائدة: 73). قاعدة (ب): التقدير الموافق لغرض الآية، وأدلة الشرع مقدمٌ على غيره. فإذا قام دليل على وجود إضمار في آية، ولم يظهر ذلك المضمر في آية أخرى، فأولى التقديرات بالصحة: ما كان منها موافقا لغرض الآية المسوقة له، وأدلة الشرع العامة، ولم يكن مخالفا لها. مثاله: تقدير خبر (لا) المضمر في جملة: «لا إله إلا الله» أو في آية نحو: {لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الرَّحمَنِ الرَّحِيم} البقرة. فقدّره بعضهم بـ: موجود! فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله؟! وقدّره غيرهم حقاً أو بحق، فيكون المعنى: لا معبود بحق إلا الله، وهذا التقدير هو الصواب، لموافقته للغرض من هذه الجملة، وهو إثبات الوحدانية في الإلهية له وحده سبحانه، ونفيها عمن سواه من الآلهة الباطلة. قاعدة (ج): قِلة الحذف أولى من كثرته. فإذا دل الدليل على الإضمار في آية، ولم يظهر ذلك المضمر في آية أخرى، واحتاج المفسر أو المعرب على تقدير ذلك المضمر، فأولى التقديرات ما قلّ فيه التقدير دون ما كثر، ذلك لتقليل مخالفة الأصل بكثرة الحذف والتقدير. مثاله: قال تعالى: {وأُشربوا في قلوبهم العجل} البقرة: (93). قال أبو حيان: هو على حذف مضافين، أي: حب عبادة العجل. وقال الجمهور: بل على حذف مضاف واحد، والتقدير: حب العجل، وهذا هو الأولى تقليلاً للمحذوف. القاعدة الثامنة: القول بالترتيب، مقدم على القول بالتقديم والتأخير: إذا اختلف المفسرون في تفسير آية من كتاب الله، وكان خلافهم دائراً بين مدّعٍ للتقديم والتأخير في الآية، ومبق لها على ترتيبها، فأولى القولين بالصواب: قول من قال بالترتيب؛ لأنه الأصل في الكلام، ولا ينتقل عن الأصل إلا بدليل واضح، وقرينة بينة، لا سيما إذا استقام المعنى بدونه، فإذا احتمل الأمر وعُدم الدليل والقرينة، فالقول الحق أنْ يبقى الكلام على ترتيبه. وقد نص على هذه القاعدة الطبري وابن تيمية وغيرهم. مثاله: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}(المجادلة: 3). ذهب بعض العلماء إلى أنّ في الآية تقديما وتأخيراً، تقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أنْ يتماسا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، ثم يعودون لما قالوا: إنا لا نفعله فيفعلونه، فعلى هذا القول لا يكون العود شرطاً في وجوب الكفارة. وذهب الجمهور إلى أن الآية على ترتيبها، وليس فيها تقديم ولا تأخير، على خلافٍ بينهم في تفسير العود، وهذا القول هو ما تقرره هذه القاعدة؛ لأن الأصل وظاهر النظم هو الترتيب، ولا يوجد في الكلام دليل صريح أو قرينة واضحة، تدل على صحة دعوى التقديم والتأخير. القاعدة التاسعة: لا تُحمل الآية على القَلْب ولها بدونه وجهٌ صحيح: إذا اختلف المفسرون بين حمل الآية على القلب - وسيأتي بيانه - أو عدمه فحمل الآية على عدم القلب هو الصحيح، متى أمكن ذلك؛ لأنه هو الموافق لظاهر الآية، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل. وقد عرّف البلاغيون القلب بأنه: جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه، على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر. والقلب أنواع، منها: قلب الإسناد، كقلب الفاعل مفعولاً، والمفعول فاعلا، نحوقوله تعالى: {ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}(الأحقاف: 20). وقلب العطف بأنْ يُجعل المعطوف عليه معطوفاً، والمعطوف معطوفا عليه، وجعلوا منه قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} النجم. وقد اختلف العلماء في كونه القلب من أساليب البلاغة، ومِنْ ثَمَّ في جواز حمل القرآن عليه، فأنكره بعضُهم مطلقاً، وجعله من الضروريات التي يسلكها الشعراء لمراعاة القافية والوزن، والقرآن منزهٌ عنه. وقَبِله آخرون مطلقا! واشترط له آخرون عدم اللبس، وفصَّل بعضُهم فقال: إنْ تضمَّن اعتباراً لطيفا قُبل، وإلا رُد. وقد قرر هذه القاعدة وعمل بمضمونها: ابن عطية والرازي والقرطبي وغيرهم. مثاله: قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} الأنبياء. ذهب الزجاج وغيره إلى أن في الآية قلبا، والمعنى: خُلق العجل من الإنسان، والعرب تفعل هذا، إذا كان الشيء مِن سبب الشيء، بدؤوا بالسبب. وذهب عامة المفسرين إلى أن الآية على ترتيبها، فقال بعضهم: خُلق الإنسان عجولا. وقال آخرون: خلق الإنسان في عجل، في خلق الله إياه. وقيل غير ذلك. والقول بالترتيب هو الصحيح؛ إذْ لا مُوجب للقول بالقلب، ولا دليل عليه، مع مخالفته لظاهر الآية. القاعدة العاشرة: التَّأسيس أولى من التأكيد: والتأسيس لغة: من الأساس، وهو أصل البناء. وفي الاصطلاح: إفادة معنى آخر لم يكن حاصلاً قبلاً. والتأكيد هو: تقوية مدلول ما ذُكر بلفظ آخر، وهو إما معنوي: كقولك: جاء القوم كلُّهم أجمعون. أم لفظي: وهو إعادة اللفظ الأول بعينه. وهو المراد في هذه القاعدة، فإذا احتمل اللفظ أو الجملة من كتاب الله تعالى، أنْ يكون مؤكداً للفظ سابق أو جملة، أو يكون مفيداً لمعنى جديد لم يسبق في الكلام، فحمله على الإفادة أولى من حمله على الإعادة؛ لأن إفادة معنى جديد أولى من إلغاء هذا المعنى، بجعله مؤكدا لما تقرر في كلامٍ سابق، فالتأكيد خلاف الأصل؛ لأنَّ الأصل في وضع الكلام إنما هو إفهام السامع ما ليس عنده، فإنْ تعذَّر حمله على فائدة جديدة، حُمل حينئذ على التأكيد. ويدخل تحت التأكيد المراد هنا: تأكيد معنى سابق، ولو لم يكنْ في ذلك تكرار لأي لفظ من ألفاظ الجملة السابقة. وقد ذكر هذه القاعدة ورجح بها: الطبري وابن العربي وابن القيم وغيرهم. مثاله: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(النور: 41).اختلف العلماء في عائد الضمير المحذوف، الذي هو فاعل (عَلِم): - فقال بعضهم: إنه راجعٌ إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وعلى هذا يكون المعنى: كل من المصلين والمسبِّحين، قد علم اللهُ صلاته وتسبيحه. - وقال آخرون: بل هو راجع إلى قوله (كل) فعلى هذا يكون المعنى: كل من المصلين والمسبحين، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. والثاني هو الصحيح، كي يكون قوله تعالى: {والله عليم بما يفعلون} تأسيساً لمعنى جديد، وهو إحاطة علم الله -تعالى- بكل ما يفعلون، أما على القول الأول، فإن هذه الجملة - {والله عليم بما يفعلون}- مؤكدة لمعنى جملة {قد علم صلاته وتسبيح} والتأسيس أولى من التأكيد.
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين – قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب(3) الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الحادية عشرة : التَّباين في معنى الألفاظ ، أولى من التَّرادف : عند اختلاف المفسرين في تفسير ألفاظ قرآنية، بين قائل بالترادف وقائل بالتباين بين معانيها ، فأرجح القولين حملها على التباين؛ لأنه الأصل، وهو الأكثر في اللغة لإفادته معنى جديداً . والفرق بين المترادف والمؤكد: أنّ المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت أصلاً، وأما المؤكد فلا يفيد عين فائدة المؤكد، بل يفيد تقويته.مثاله: 1- قوله تعالى: {وتَعَاونُوا على البِّر والتقْوى} المائدة. ليُعن بعضكم أيها المؤمنون بعضاً (على البر) وهو العمل بما أمر الله بالعمل به (والتقوى) هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. 2- قال تعالى: {لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومِنْهاجاً} المائدة . قال ابن عباس: سُنّة وسبيلا. القاعدة الثانية عشرة : التأصيل أولى من الزيادة: إذا اختلف المفسرون في تفسير لفظة، فجعلها بعضهم زائدة، وأصل المعنى تامٌ دونها، وأنها للتعدية والتأكيد، وجعلها آخرون أصلية، لا يتم المعنى إلا به، فالأولى حملها على التأصيل؛ لأنه الأصل ولا يعدل عنه إلا بدليل . وقد قرَّر هذه القاعدة الإمام الطبري وابن العربي وابن تيمية وغيرهم، وهي قاعدة مشهورة عند الأصوليين أيضا. مثاله قول الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} الأحقاف. اختلف العلماء في «إنْ» في هذه الآية على أقوال: 1- إنها شرطية ، وجزاء الشرط محذوف، تقديره: إنْ مكناكم فيه طغيتم. 2- إنها زائدة بعد «ما» الموصولة، حملاً لـ»ما» الموصولة على «ما» النافية؛ لأنَّ النافية تزاد بعدها «إن» ، ويكون المعنى: مكنّاهم في مثل ما مكناكم فيه. 3- إنها أصلية في الكلام، بمعنى النفي، أي: ولقد مكنّاهم في الذي لم نُمكنكم فيه، من القوة في الأجساد، وكثرة في الأموال والأولاد، وهذا القول هو الأولى بالصواب؛ لأن التأصيل أولى من الزيادة. القاعدة الثالثة عشرة : الإفراد أولى من الإشْراك: إذا ورد لفظ في كتاب الله واحتمل الاشتراك - وهو أنْ يدل لفظ على معنيين فأكثر على السواء - والإفراد فيُحمل على إفراده؛ لأنه الأصل في اللغات، والأكثر في الاستعمال والتخاطب. وقد قرر هذه القاعدة علماء الأصول وغيرهم. مثاله : قول الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} النِّسَاء . فذهب بعضهم إلى أن لفظ «النكاح» مشتركٌ بين العقد والوطء، حقيقة فيهما. وذهب آخرون: إلى أنه حقيقة في الجماع، مجاز في العقد. وقيل: العكس . والذي ترجّحه القاعدة: أنه ليس مشتركاً بينهما، بل يحمل على أحدهما، إما الوطء وإما العقد؛ فهذا أرجح من كونه مشتركاً؛ لأن الاشتراك خلاف الأصل. القاعدة الرابعة عشرة : تصريف الكلمة واشتقاقها مرجِح : إذا اختلف المفسرون، وأيّد تصريف الكلمة أو أصل اشتقاقها أحدَ الأقوال، فهو الأولى بالصواب؛ لأنَّ التصريف والاشتقاق يُعيدان الألفاظ إلى أصولها، فتتَّضح الألفاظ والمعاني المتفرّعة عنها. وقد يدل تصريف الكلمة على ضعف أحد الأقوال، لأجل مخالفته له. وقد استعمل الطبري هذه القاعدة ورجّح بها، وكذلك فعل ابن عطية وابن تيمية وغيرهم. مثاله:1- قول الله تعالى: {إِنْ تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} الإسراء . اختلف المفسرون في المراد بـ«الأوابين» على أقوال: أ- المُسبّحون. ب- المطيعون المحسنون. جـ- الذين يُصلّون بين المغرب والعشاء. د - الذين يصلون بين الضحى. هـ - الراجع من ذنبه ، والتائب منه. والقول الأخير هو الصحيح؛ لأنّ اشتقاق كلمة : أواب، يدل عليه ، يقال: آب يؤوب أوباً، إذا رجع. 2- قول الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الإسراء. جاء في معنى «الإمام» أقوال: أ- نبيهم ومن كان يقتدى بهم في الدنيا ويؤتم به. ب- يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا. جـ- كتابهم الذي أُنزل على نبيهم. د - إمام جمع «أُم» وأنّ الناس يُدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم ؟! والقاعدة ترد القول الأخير؛ لأنَّ «أم» لا تجمع على إمام، وإنما على أمهات كما هو معروف. والمعنى الثاني هو الأقرب لقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يس. القاعدة الخامسة عشرة: العُموم أولى من التخصيص : يجب أنْ تُحمل نصوص القرآن -والسُّنة كذلك- العامة على عمومها؛ لأنَّ التشريع جاء عاماً، ما لم يرد نصٌ بالتخصيص. فإذا حَمل بعضُ المفسرين آيةً أو كلمة على العموم، وآخرون على الخصوص، فالصواب حملها على العموم. ومتى أمكن حمل الآية على معنى كلي عام شامل، يجمع تفسيرات جزئية جاءت في تفسيرها، هي من قبيل التفسير بالمثال أو الجزء أو بالثمرة أو بنحو ذلك، ولا معارض له، وتشهد الأدلة بصحته؛ فهو أولى بتفسير الآية، حملاً لها على عموم ألفاظها، ولا داعي لتخصيصها بواحدٍ من المعاني الجزئية، إلا أنْ يكون السياق يقتضي تخصيصها حتماً، أو يقوم الدليل على ذلك. مثاله: قول الله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الطلاق. اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين: أ- عامة في المطلقات والمتوفّى عنهن أزواجهن، فعدتهن وضع الحمل، وهذا قول الجمهور. ب- خاصة بالمطلقات ، وأما المتوفى عنها فإنَّ عدتها أبعد الأجلين . وهذا مروي عن ابن عباس. والقاعدة ترجح القول الأول، أخذاً بعموم ألفاظ الآية، ولا دليل يوجب التخصيص. القاعدة السادسة عشرة: العِبْرةُ بعموم اللفظ، لا بخصُوص السبب: إذا صحَّ للآية سببُ نزول، وجاءت ألفاظها أعمّ من سبب نزولها، واختلف العلماء فيها، فمنهم من جعلها قاصرةً على سبب نزولها، لا تتعداه إلى ما سواه، وآخرون حملوها على عموم ألفاظها، شاملة لأفراد السبب، ولأفراد غيره مما شابهه، فالقول الحق : هو قول من حملها على عموم ألفاظها، ولم يقصرها على سبب نزولها؛ إذ هو الأصل في نصوص القرآن والسنة، أنها نزلت تشريعا للأمة كلها. هذا ما لم يدل دليل على التخصيص، وما لم تكن هناك قرينة تعميم، فإن كانت فالقول بالتعميم ظاهر كل الظهور، بل ينبغي ألا يكون في التعميم خلاف. وقد نصّ على هذه القاعدة أكثر علماء الأصول والتفسير. مثاله:1- ما جاء عن عبد الله -رضي الله عنه- قال : جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجتُ امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبتُ منها ما دون أنْ آتيها، فأنا هذا، فاقض في ما شئت. قال: فقال عمر -رضي الله عنه-: لقد سترك الله، لو سترت نفسك! فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ فانطلق الرجل فأتبعه رجلاً فدعاه، فتلا عليه هذه الآية {أقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل إنّ الحسنات يُذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} هود. فقال رجل: يا رسول الله، هذا له خاصة؟ قال: «لا، بل للناس كافة». رواه مسلم . 2- قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(النور: 23). اختلف العلماء في المحصنات اللاتي هذا حكمهن، على أقوال: أ- إنَّ ذلك لعائشة -رضي الله عنها- خاصة. ب- أنها لأزواج النبي -رضي الله عنهن- خاصة. جـ- أنها للمهاجرات؛ فقد كانت المرأة المؤمنة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت لتفجر. هـ - أنها عامة، لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولغيرهن ممن كان بالصفة التي وصف الله -تعالى- في هذه الآية، وهذا القول هو الأصح، بناء على هذه القاعدة . وقد تتعدَّد الأسباب والنازل واحد ، كما في آية اللعان {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم...} النور: 6. أنها نزلت في عويمر العجلاني، كما في البخاري. وجاء عن ابن عباس: أنها نزلت في هلال بن أمية . رواه البخاري أيضا ومسلم . القاعدة السابعة عشرة: الإطْلاقُ أولى من التَّقييد: إذا ورد نصٌ من نصوص الوحي مطلقاً، غير مقيدٍ بقيد أو شرط، فلا يجوز تقييده، بل يجب العمل بالنص وتفسيره على إطلاقه وإبهامه، إلا إذا قام الدليل على التقييد، ومَنْ خالف ذلك بحمل النصوص المطلقة على غير إطلاقها، فقوله مردودٌ، وفعله تحكمٌ في تفسير النصوص بلا دليل، فلا يقبل منه ذلك. كما أنَّ النص إذا ورد مقيداً، فلابد أنْ يُفسر ويعمل به بمقتضى قيده، ومن أوَّله بما يُؤدي إلى بطلان قيده، فلا يقبل منه ذلك. مثاله: قول الله تعالى: {ومَنْ كان مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيام أخر} البقرة. اختلف العلماء في قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} هل يلزم في هذه الأيام التتابع أو لا ؟ على قولين، والصواب عدم التقييد بالتتابع، لإطلاق الآية وعدم اشترطها التتابع.
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين – قواعدُ التَّرجيح المتعلِّقة بمرجع الضَّمير الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى: لا يُحمل الضميرُ على الشأن ، إذا أمكن غيره: إذا تنازع العلماء في ضميرٍ ما، فقائلٌ يقول: هو ضمير الشأن والقصة، وآخر يقول: ليس هو ضمير الشأن، فإذا كان للقول الآخر وجهٌ صحيح في العربية وفي السياق، فهو أولى بحمل الآية عليه، ولا يقال بضمير الشأن إلا إذا لم يكن له محملٌ صحيح غيره، لمخالفته للقياس من وجوهٍ مختلفة ، كما سيأتي. قواعد التَّرجيح عند المفسرينوضمير الشأن: هو ضميرٌ يأتي على صورة الغائب المفرد مبهماً، ثم يُفَسر . ويقصد به تعظيم الأمر والشأن ، وهو مخالف للقياس من وجوه: 1- أنه لا يقصد به شيءٌ بعينه. 2- لا يستعمل إلا في التفخيم. 3- لا يَرجع إلى مذكور. ولا تعني هذه القاعدة أنه لا يأتي ضمير الشأن، ولا يترجّح في القرآن ألبتة، بل يتعين ضمير الشأن في مواضع متعددة من القرآن، كقوله تعالى: {إنه لا يفلح الظالمون} فالهاء ضمير شأن ليس إلا. مثاله : قال تعالى: {وهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ} اختلف العلماء في الضمير «هو»: - فقال الجمهور هو ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله، وهو «الله». - وقال أبو علي الفارسي: «هو» ضمير شأن ، و«الله» مبتدأ خبره ما بعده . وقول الجمهور أولى بالصواب ، بناء على هذه القاعدة . القاعدة الثانية: إعادةُ الضمير إلى مَذْكور، أولى من إعادته إلى مُقدَّر: إذا احتمل السياق إعادة الضمير إلى مذكور، أو إعادته إلى مقدَّر، واختلف العلماء في الاحتمالين، فإعادة الضمير إلى المذكور أولى؛ لأنّ الإعادة إلى المقدر مع إمكان الإعادة إلى المذكور فيه إخراجٌ للآية عن نظمها دون مُوجب. هذا في حالة احتمال الضمير للأمرين، واختلاف العلماء على القولين، أما إذا لم يقع خلافٌ؛ فلا يدخل تحت هذه القاعدة . وقد ذكر هذه القاعدة الطبري وابن العربي وابن تيمية وغيرهم . مثاله: قال تعالى : {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ}. اختلف المفسرون في عائد الضمير «منه»: - فقالت طائفة : عائدٌ على الله تعالى السابق ذكره. - وقالت طائفة : عائد على محمد صلى الله عليه وسلم . والقول الأول هو الأولى؛ لأنَّ مفسر الضمير فيه مذكور ، على عكس القول الثاني ، فإنه لم يسبق للنبي[ ذكرٌ في السياق . اسم الإشارة : وكذلك يُلحق بالضمير في هذه القاعدة: اسم الإشارة؛ فالقول الذي يجعل المشار إليه مذكوراً، أولى من القول الذي يجعله مُقدَّراً. ومن أمثلة هذه القاعدة: قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. في المشار إليه بـ«هذا» أقوال: 1- ما تقدم ذكره من المُلك الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده من تسخير الريح والشياطين له. أي: هذا التسخير عطاؤنا، والإضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه؛ فكأنه قيل: هذا عطاء عظيم أعطيناكه . والعطاء: مصدر بمعنى المُعطى، مثل الخَلق بمعنى المخلوق . وقوله: {فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: أمر مستعمل في الإذن والإباحة، أي: فأنعم على من شئت بالإطلاق، أو أمسك في الخدمة مَن شئت. 2- في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هذا عطاؤنا بغير حساب، فامنن أو أمسك. 3- إشارة إلى مضمر غير مذكور، وهو ما حكي أنّ سليمان -عليه السلام- كان بقوة مائة رجل، وكان له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية، فقال تعالى: {هذا عطاؤنا} أي: قوة النكاح «فامنن» بجماع من تشاء من نسائك «أو أمسك» عن جماع من تشاء من نسائك. والقول الأول هو الأولى؛ لأنه يجعل المشار إليه مذكورا على عكس القول الثالث. أما القول الثاني فهو خلاف الأصل دون موجب. القاعدة الثالثة: إعادة الضمير إلى المُحَدَّث عنه ، أولى مِنْ إعادته إلى غير المُحدّث عنه ، وهو المسند إليه، وهو: 1- الفاعل . 2- نائبُ الفاعل . 3- المبتدأ . 4- أسماء النواسخ . 5- المفعول الأول لظن وأخواتها . 6- المفعول الثاني لـ أرى وأخواتها . فإذا جاء ضميرٌ في سياق قرآني، وتعدّدت الاحتمالات في مرجعه، فرجوعه إلى المُحدث عنه في السياق، أولى من رجوعه إلى غيره؛ لأنه هو المقصود بالكلام، وإليه يتَّجه الخطاب. وقد رجَّح هذه القاعدة الطبري وأبو حيان والسيوطي وغيرهم. مثاله : قول الله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي}(طه: 38-39). اختلف المفسرون في عائد الضمير في «فاقذفيه» و «فليُلْقه» على قولين: 1- هما عائدان إلى التابوت . 2- إلى موسى عليه السلام في داخل التابوت. والقاعدة ترجح القول الثاني؛ لأنَّ سياق الآيات عن موسى عليه السلام، والضمائر راجعة إليه من أول الآيات إلى موضع الخلاف، وكذلك بعده راجعة إليه، فهو المقصود بالخطاب أولاً وآخراً. القاعدة الرابعة : توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد ، أولى من تفريقها : فإذا جاءت ضمائر متعددة في سياقٍ واحدٍ، واحتملت في مرجعها أقوالا متعددةً، فتوحيد مرجعها ، وإعادتها إلى شيء واحد أولى؛ لانسجام النظم واتساق السياق . هذا ما دام الأمر محتملاً، ولا حُجة توجب تفريقها، وتأبي توحيدها . فإن وردت آيات لم يختلف أهل التفسير في تفريق ضمائرها، أو قامت حجةٌ ظاهرة على تفريقها، فهي غير داخلة في هذه القاعدة . وقد قرَّر هذه القاعدة: الطبري وابن عطية وأبو حيان . مثاله : قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿٦﴾ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴿٧﴾وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}(العاديات: 6- 8). اختلف العلماء في عائد الضمير في قوله تعالى: {وإنّه على ذلك لشهيد} على قولين : 1- عائد على الإنسان . 2- على ربّ الإنسان ، المذكور في قوله {لربه}. وهذه القاعدة ترجح القول الأول، حتى تتسق الضمائر فقبل هذا الضمير وبعده ضمائر كلها عائدة على الإنسان اتفاقا، فكذلك هذا الضمير. تنبيه: أمثلة هذه القاعدة وأمثلة القاعدة السابقة فيها تشابهٌ وتداخل كبير، وقليل منها ما يختلف فيه المرجع بالنسبة إلى القاعدتين، وإلا فالغالب اتحاد أمثلتها، فتوحيد الضمائر يعود على المُحدث عنه غالبا، وقد تتفق هاتان القاعدتان مع قاعدة إعادة الضمير إلى أقرب مذكور الآتية، فيكون الضمير عائدا إلى أقرب مذكور وهو المحدث عنه، والضمائر جميعا في السياق عائدة إليه. القاعدة الخامسة: الأصلُ إعادة الضمير إلى أقرب مذكور، ما لم يرد دليل بخلافه: إذا وقع الخلاف في عائد الضمير، فالراجح هو القول الذي يعيد الضمير إلى أقرب مذكور، فإعادته إلى القريب أولى من إعادته إلى البعيد. هذا إذا لم ينازع هذه القاعدة قواعد أخرى، فإنْ نازعها غيرها، نُظر بين القواعد المتنازعة، بالضوابط السابقة أول الكتاب. فإذا دل دليل على إرادة البعيد، فيعود الضمير إليه ، ومن هذه الأدلة: 1- القرينة في السياق: فإذا وردت قرينة في سياق الآية، تدل على إرادة البعيد دون القريب عمل بها. 2- سياق الجمل المذكورة قبل الضمير المختلف فيه وبعده، فإذا كان سياق الجمل قبل الضمير وبعده عن شيء واحد، واحتمل الضمير رجوعه إليه وكان بعيدا ورجوعه إلى القريب فرجوعه إلى البعيد في هذه الحالة أرجح. التطبيق: قال تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}(مريم: 24). للعلماء في المنادي لمريم قولان: 1- الملك جبريل عليه السلام . 2- عيسى عليه السلام . وهذا القول الثاني هو ما ترجحه هذه القاعدة؛ لأن عيسى -عليه السلام- هو أقرب المذكورين إلى الضمير في «فناداها» وذلك في قوله : {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا}(مريم ، وما بعدها وإعادة الضمير إلى أقرب مذكور أولى .اسم الإشارة : ويلتحق بهذه القاعدة: اسم الإشارة الموضوع للقريب ، فإعادته إلى القريب أولى من إعادته إلى البعيد، لموافقته أصل الاستعمال، وحفاظا على نظم الآية. مثاله : قول الله تعالى: {إِنَّ هَـذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى}(الأعلى: 18). اختلف العلماء في المشار إليه بـ«هذا» في الآية على أقوال: 1- الآيات في سبح اسم ربك الأعلى . 2- على الذي قصه الله في هذه السورة. 3- إلى كتب الله كلها. وقيل غير ذلك. قال ابن جرير: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : إن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴿١٤﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿١٥﴾ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿١٦﴾ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿١٧﴾ إِنَّ هَـذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى}(الأعلى: 14-18)، صحف إبراهيمَ خليل الرحمن ، وصحف موسى بن عمران. قال: وإنما قلتُ : ذلك أولى بالصحة من غيره؛ لأنَّ هذا إشارة إلى حاضر، فلأن يكون إشارة إلى ما قَرُب منها، أولى من أن يكون إشارةً إلى غيره».
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
|
قواعد الترجيح عند المفسرين – تاسعاً: قواعد التَّرجيح المُتعلِّقة بالإعراب الشيخ.محمد الحمود النجدي القاعدة الأولى: يجب حملُ كتاب الله -تعالى- على الأوجه الإعرابية اللائقة بالسياق، والموافقة لأدلة الشرع: هذه القاعدة توجب حمل آيات التنزيل، على الأوجه الإعرابية اللائقة بسياق الآية ومعناها، والموافقة لأدلة الشرع، دون الأوجه الجافية عنها، وإنْ كان لها وجهٌ صحيح في العربية، فليس كل ما صحّ القول به في تركيب عربي صح حمل آيات التنزيل عليه؛ فللقرآن عُرفٌ خاص يجب أن يحمل عليه؛ لأنَّ الإعراب يُبين المعنى، والمعنى هو المقصود بالنص القرآني، دون الإعراب وقواعده. وقد ذكر هذه القاعدة واستعملها عامة المفسرين، كالطبري وابن عطية وأبي حيان وغيرهم.مثاله: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 64). اختلف المعربون في الموقع الإعرابي لقوله تعالى: {ومَن اتبعك} على خمسة أقوال: 1- معطوفة على الكاف المجرورة في «حسبك». 2- «من» في محل نصب، عطفا على محل الكاف، في قوله: «حسبك»؛ لأنها بمعنى كافيك، أي: الله يكفيك، ويكفي من اتبعك من المؤمنين. 3- «من» في موضع نصب بفعل محذوف، دل عليه الكلام تقديره: ويكفي من اتبعك من المؤمنين. 4- «من» في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله، فيكون من عطف الجُمل. هذه الأوجه متفقة مع القاعدة، ومتمشية مع الصحيح في معنى الآية، ولا تعارض أدلة شرعية، وإنْ وُجد تقديم لبعضها على بعض من جهة الصناعة، كالذي يقال في القول الأول، بأنه من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، وهو وإنْ كان جائزاً في أصح القولين، لكنه قليل، وإعادة الجار أحسن وأفصح. 5- «من» في محل رفع عطفاً على اسم الله -تعالى- ومعناه: حسبك الله، وحسبك أتباعك من المؤمنين. وهذا القول ضعيف بل باطل؛ لأنّ الحسب هو الكافي، ولا يصح صرف هذا لغير الله تعالى، كالرغبة والرهبة وسائر أنواع العبادات. وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنَّ الحسب والكفاية لله وحده لا شريك له فيهما كقوله تعالى: {فإنَّ حسبك الله}. القاعدة الثانية: يجبُ حمل كتاب الله تعالى على الأوجه الإعرابية القويَّة والمشهورة، دون الضعيفة والشاذَّة والغريبة: وهذه القاعدة مُتفرعة عن قاعدة: «يجبُ حمل كلام الله على المعروف من كلام العرب، دون الشاذ والضعيف والمنكر»، لكن هذه القاعدة مختصة بالإعراب، واستعمالهم للعوامل، ووجوه ذلك قوةً وضعفاً، وتلك القاعدة في كل ما هو وارد عنهم في الألفاظ المفردة، والتراكيب والأساليب. مثاله: قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (الأنفال: 5). اختلف المعربون والمفسرون اختلافا كبيراً، في متعلّق الكاف في «كما» حتى أوصل بعضهم الأقوال إلى عشرين قولاً، منها القوي ومنها الضعيف، ومن هذه الأقوال: قول أبي عبيد في كتابه (المجاز): بأنّ مجازها مجاز القسم، كقولك: والذي أخرجك ربك؛ لأن «ما» في موضع «الذي» فجعل الكاف حرف قسم بمعنى الواو، وهذا القول غريب جدا في العربية، وفي معنى الآية، وقد ردّ الأئمة هذا الوجه وأنكروه. قالوا: ويُبطل هذا القول أربعة أمور: 1- أن الكاف لم تجيء في اللغة بمعنى: واو القسم، بل الكاف هنا لها معنى، والواو لها معنى. 2- أن إطلاق «ما» على الله - سبحانه وتعالى – يضعَّف هذا القول؛ لأن «ما» تطلق على غير العاقل، فكيف عدها في موضع «الذي» المشار به إلى الله سبحانه وتعالى؟! 3- ربط الموصول بالظاهر، وهو فاعل «أخرج» وهذا ربما يستعمل في الشعر ولا يُستعمل هنا. 4- وصل القسم بأول السورة مع تباعد بينهما، أي: ما بين بداية السورة {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية الكريمة، فالقسم ما جاء مباشرة أو قريبا من المقسم. فرد العلماء هذا القول؛ لأن فيه غرابة من جهة اللغة. وقول آخر: قول من يقول: المراد هنا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} أي: امض لأمرك ولو كرهوا ذلك، فالآيات التي سبقت هذه الآية الكريمة تتحدث عن الأنفال والغنائم وعن توزيعها، وتتحدث عن خروج المؤمنين لمقابلة القافلة، قافلة أبي سفيان والاستيلاء عليها؛ لذلك قال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}. فأراد أنْ يقول هنا: امض في تقسيمك للغنائم والأنفال، ولو كرهوا ذلك، كما كرهوا قبلًا الخروج للاستيلاء على القافلة واغتنامها؛ حينما ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا لمقابلة وملاقاة القافلة، فبعضهم خشي من القتال، وشعر أنه في ذهابه للخروج، كأنما يُساق إلى الموت. فهذه الكاف شبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته، بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال. هذا ما اختاره ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز)، وهو أقرب وأوضح وأرجح من تفسير أبو عبيدة السابق. - وأخيراً: فالذي لا يَعرف أوجه القراءات، عليه أنْ ينتبه بعينيه وسمعه، عندما يقرأ القرآن، أن ينتبه إلى الفتحة، والضمة، والكسرة، وغيرها؛ لأنَّ تغيير الحركة قد يؤدي إلى تغيير المعنى كلية، بل ربما كان كفراً أحياناً - والعياذ بالله - كقوله تعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة:3). - أي: أن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم بريئان من المشركين، لكن لو قرأها قارئ: «إن الله بريء من المشركين ورسولَه» بفتح كلمة الرسول!؛ فالمعنى يكون مختلفا تماما، بل فيه كفر! أي: أن الله بريء من المشركين، وبريء من الرسول صلى الله عليه وسلم ! وحاشاه من ذلك!! فإذًا تغيير الحركة من ضمة إلى فتحة، يُحدث خللًا عظيماً، ويؤدي إلى فساد في المعنى هاهنا، ليس في القراءة فحسب، بل في نظم القرآن والعقيدة. والحمد لله اليوم المصاحف مشكولة، ومع ذلك ينبغي عرض القراءة على قارئ متقن، لئلا يقع القارئ للقرآن في مثل هذه الأخطاء، ونوصي دائمًا من يقرأ القرآن أن يهتم بالنطق الصحيح للآيات، والقراءة هي كيفية النطق الصحيح للقرآن، كما وردت عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ مما تواتر بالقراءات السبع أو العشر المعروفة. فإذاً: علينا حينما نفسر الآيات القرآنية، أن نختار الإعراب الصحيح لها، ويكون هذا الإعراب موافقاً للنص، موافقا للمعنى، وموافقا لأدلة الشرع. تنبيه مهم: من أدعياء الإسلام، بل من أعدائه من بات يوجه الافتراءات إلى كتاب الله، ويشكك الناس بكلام الله، المنزّل على رسوله[ بالحق واليقين، ويقول: إنَّ في القرآن، أخطاء نحوية! أو ما يخالف الإعراب وقواعده! ومن ذلك: قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69)؛ حيث جاءت كلمة (الصابئون) في الآية مرفوعة، وما قبلها منصوب؟! والجواب: وردت كلمة «الصابئين» بياء النصب في سورتي البقرة والحج؛ في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62). وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج:17). ووردت الكلمة نفسها بواو الرفع، في سورة المائدة؛ في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69)، أما الآيتان الأوليان فلا إشكال في إعرابهما؛ لأن الكلمة فيهما وقعت معطوفة بالواو على كلمة محلها النصب، وهي «الذين» وهي اسم إن، فنصبت، وعلامة نصبها الياء؛ لأنها جمع مذكر سالم. وإنما محل الإشكال هو الآية الثالثة، آية سورة المائدة؛ فقد وقعت في موقعها نفسه في الآيتين الأوليين، ومع ذلك جاءت مرفوعة. وقد ذكر النحاة والمفسرون في توضيح ذلك الإشكال وجوها عدة، وذكروا نظائرها المعروفة في لغة العرب، ونكتفي هنا بثلاثة منها مع الاختصار، هي من أشهر ما قيل فيها: الأول: أنَّ الآية فيها تقديم وتأخير، وعلى ذلك يكون سياق المعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله... فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك، فتعرب مبتدأً مرفوعا، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم. فتقدير الآية: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، والصابئون كذلك. قال ابن كثير: «لما طال الفصلُ، حسن العطف بالرفع». وقال النسفي: وفائدة التقديم: التنبيه على أنَّ الصابئين - وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً، وأشدهم غيَّاً - يتاب عليهم إنْ صحَّ منهم الإيمان، فما الظن بغيرهم؟!. الثاني: أنّ «الصابئون» مبتدأ، والنصارى معطوفٌ عليه، وجملة من آمن بالله... خبر «الصابئون»، وأما خبر «إن» فهو محذوف دل عليه خبر المبتدأ «الصابئون». الثالث: أن «الصابئون» معطوف على محل اسم «إن»؛ فالحروف الناسخة، إن وأخواتها، تدخل على الجملة الاسمية المكونة من مبتدأ وخبر، واسم إن محله الأصلي، قبل دخول إن عليه الرفع لأنه مبتدأ، ومن هنا رفعت «الصابئون» باعتبار أنها معطوفة على محل اسم إن. انظر: أوضح المسالك لابن هشام شرح محيي الدين (1/352-366) , وتفسير ابن كثير والشوكاني والألوسي، عند هذه الآية. والواجب على كل مسلم ومسلمة: قوة اليقين بدينه, والإيمان بكلام الله -سبحانه- كله، وأنّ الله حفظه من التحريف والتبديل والتغيير، كما قال الله -سبحانه-: {إنا نحنُ نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9). وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء:82). قال الشيخ ابن عاشور -رحمه الله- في تفسيره: «فمما يجب أن يوقَن به: أن هذا اللفظ كذلك نَزل، وكذلك نطق به النبي [، وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عرب خُلَّص، فكان لنا أصلاً نتعرف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف، وإنْ كان استعمالاً غير شائع، لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان...» اهـ ويجب علينا الاهتمام بالعلم الشرعي؛ ولاسيما بكتاب الله، وحديث رسول الله[، ولا يكفي المسلم الإيمان السابق المجمل، وإن كان ذلك أعظم ملجأ ومعاذ، بل يضم إلى ذلك العلم الشرعي، الذي يكون به في مأمنٍ من أن تهز إيمانه هذه الشبهات وأمثالها؛ مما يثيره أعداء الدين من الملاحدة والمنافقين وغيرهم. هذا ما تيسر جمعه وبيانه في هذا البحث المهم، من مباحث علوم التفسير، نسأل الله -تعالى- أنْ ينفع به، وأنْ يجعلنا من أهل القرآن العظيم، الذين هم أهل الله -تعالى- وخاصته، إنه سميع قريب، مجيب الدعاء.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |