السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4909 - عددالزوار : 1951578 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4481 - عددالزوار : 1256899 )           »          منهاج السنة النبوية ( لابن تيمية الحراني )**** متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 453 - عددالزوار : 124661 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14556 - عددالزوار : 768692 )           »          جمع الصلوات بسبب المرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          الزكـاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          نصيحة للمتأخرين عن صلاة الفجر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 54 - عددالزوار : 36011 )           »          ديننا.. يتجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          دروس من قصص القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 6568 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 10-02-2020, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,313
الدولة : Egypt
افتراضي السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع

السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع


أبو مريم محمد الجريتلي



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



أما بعد:

إن الناظر إلى الأحداث الجسيمة والنوازل العظيمة التي أحاطت اليوم بالعالم عامة وبالأمة الإسلامية خاصة لا يستغرب حدوثها ولا يفاجأ بها حينما يرجع إلى كتاب ربه وينطلق من توجيهاته في ضوء سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي فردا على حساب فرد، ولا مجتمعا على حساب مجتمع آخر ؛ فالنتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيمانا وأشدهم ورعا وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفرا وأشدهم فسقا وفجورا وعتوا إذا وافق السنن التي قد حددها ربنا لتسير الأمور على وفاقها: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[1].



ومرجع ذلك أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.



﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[2].



وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من غثائية فأصبحت كالقصعة المستباحة إلا بسبب جهل أبنائها بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الأفراد والأمم والشعوب، وفق المنهج الذي قرره العليم الخبير: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[3]، فالذي يطلب الأسباب ليخرج من ظلمات هذا التيه على غير بصيرة لا يزيد إلا بعدا، ولن يفهم التاريخ، فيعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء والتمكين، وعوامل الهدم والخوف والتدمير و الاستبدال إلا بمعرفة سنن الله عز وجل.



وما أحوجنا في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن نذكر أنفسنا ونذكر الناس بسنن الله القدرية ؛ فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول، وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل فيها أقدام أقوام، وتضل أفهام آخرين، والهداية من عند الله، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[4] فهي بمثابة طوق النجاة من ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج العبد يده لم يكد يراها.



وهنا يأتي السؤال ما المقصود بالسنن الإلهية التي هي طوق النجاة؟

1- المقصود بالسنن الإلهية:

هي القوانين الحاكمة قدرا في العباد التي تجري باطراد وثبات وعموم، في حياة البشر.



فلله في الأفراد سنن، وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن. والسنن تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من نتائج كالنصر أو الهزيمة، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[5].



لنتعرف على هذا المعنى من أحسن حديث وأبين بيان ؛ كتاب ربنا، فالله سبحانه وتعالى عندما أراد من عباده أن يفقهوا سننه الإلهية بين لهم منها ما تتحقق به الهداية لهم، فقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[6] لذلك نحتاج للاستضاءة بنور الوحي لفهم السنن فما مفهوم السنن الإلهية في القرآن؟




2- مفهوم السنن الإلهية في القرآن.

وردت لفظة سنة الله أوسنتنا في القرآن الكريم في مواضع، قال تعالى:

1- ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا﴾[7]

والآيات فيها من التهديد والوعيد لأهل النفاق ما يخلع قلوبهم ويزلزل أفئدتهم لو وعته تلك القلوب، فهذه سنته تعالى في المنافقين إذا مردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه ؛ يسلط الله عليهم أهل الإيمان فيقهروهم.



2- ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾[8].



تدعو الآيات كل معرض معاند إلى السير والنظر في عاقبة الذين كانوا من قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم وأشد قوة وعمارة للأرض، ومع ذلك لم يغن عنهم ذلك شيئا ؛ ذلك أنهم ما آمنوا برسلهم الذين أتوا لإخراجهم من الظلمات إلى النور، بل فرحوا بما عندهم من العلم فأحاط بهم شؤم ما كانوا به يستهزئون، فعندما عاينوا وقوع العذاب بهم قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم تكن لتقبل توبتهم ولا لتقال عثرتهم ؛ لأنها سنة الله التي مضت في عباده، وحكمه في جميع من تاب بعد معاينة العذاب أنه لا تقبل توبته: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾.



3- ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا﴾[9].



فهذا البشارة من الله تعالى لأهل الإيمان بالنصر والتمكين على الكفار في كل زمان ومكان ما تمسك أهل الإيمان بإيمانهم فالله ناصرهم وهو مولاهم، والكفار لا ناصر لهم ولا ولي كما قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، وكذلك مضت سنة الله في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تغييرًا.



4- ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾[10].



يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله: "﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ﴾ أي: هذا حكم الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه، الذي كان قد تبناه.



﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن "[11].



5- ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا.اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا﴾[12]

"كانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم، نفروا عنه ولم يؤمنوا به. ﴿اسْتِكْبَارًا﴾ أي عتوا عن الإيمان ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.



﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ﴾ أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا﴾ أي أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره."[13].



6- ﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا﴾[14].



وردت هذه الآية في سياق الحديث عن صورة من صور الصراع بين الحق والباطل، تنتقل من مجرد بغض الحق وكراهته إلى إظهار العداوة والمبارزة مع أصحاب الدعوة، فالباطل لا يرضى حتى بمجرد وجود الحق لأنه موقن أن في الحق قوة ذاتية متحركة غير ساكنة لا تقبل إلا الانتشار والتوسع والتأثير وكسب الأنصار والأتباع والتمكين والهيمنة له.



وسنة الله انتصار الحق ولو بعد حين ولو دالت للباطل دولة يوما ما فإنها لا تدوم فسرعان ما ينجلي الباطل ويحل الحق وإن أخرجوا الدعاة من ديارهم وإن حبسوهم وإن قتلوهم فلن يحل الباطل محل الحق أبدا ؛ سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.



كما وردت لفظة سنت الأولين التي هي سنة الله فيهم في مواضع أخرى قال تعالى:

فقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه تارة﴾ سُنَّةَ اللهِ ﴿وأضافها إلى القوم تارة أخرىسُنَّةُ الأوَّلِينَ ﴿لتعلق الأمر بالجانبين، وهو كلفظ الأجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾[15] وقال: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾[16].



1- ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ﴾[17]

يقول الإمام الطبري: " ﴿قُل﴾ يا محمد، ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من مشركي قومك ﴿إِن يَنتَهُوا﴾ عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال المؤمنين، فينيبوا إلى الإيمان يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم ﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾، يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم "[18].



وفي ذلك تحذير ووعيد وتهديد للمعاندين بأن السنة الماضية والقانون الحاكم لخلق الله يجري على الناس جميعًا دون مجاملة ولا محاباة" فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف، ولقد مضت سنة الله تعالى أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين؛ وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين.. وهذه السنة ماضية لا تتخلف.. وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفترق الطرق "[19].



2- ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾[20]



والآيات الكريمة تتكلم عن حقيقة حتمية لا تتخلف ولا تتبدل وهي الصراع بين الحق والباطل، وما يلقاه أصحاب الحق من استهزاء وتنكيل من أقوام لا يعرف الإيمان سبيلا لقلوبهم، وهذه الحقيقة سنة ماضية ما تخلفت في الذين جاءوا من قبل ولن تتخلف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والآيات خطاب للمؤمنين لتتهيأ نفوسهم لحقيقة الصراع الذي لا هوادة فيه، مع البشارة لهم بالعاقبة والنصر كما كان للرسل وأتباعهم، وخطاب للمعاندين ألا يسلكوا سبيل الذين خلو من قبل فما أصابهم من الهلاك لاحق بكم فهي سنة لا تحابي ولا تجامل أحدا.



3- ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا﴾ [21]

ما منع الناس أن يؤمنوا أو لم يأتهم من الهدى ما يكفي للاهتداء؟!. أم أنهم يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه واقع لا محالة، إن هذا ليس من شأن الرسل بل هو من أمر الله كما جرت سنته في الأولين بأخذ المكذبين بالهلاك سنت الله التي لا تتخلف ولا تتبدل.



كما وردت لفظة سنن مفردة غير مضافة في موضع واحد:

1- ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [22]

"لقد أصاب المسلمين القرحُ في غزوة أحد، وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم -وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح..



وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: ﴿أَنَّى هذا؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟!




والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعاً في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.



والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي:

عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.



وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبة بعد لهم، والدائرة على الكافرين.



إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.



﴿فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾..

وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة، بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه.



وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:

إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً، ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى. " [23]



والآيات من كتاب الله عز وجل في ذكر مثل هذه السنن كثيرة جداً غير محصورة فيما ذكرنا بلفظ السنن بل ورود المعنى متضافر الذكر في القرآن وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء مع أقوامهم ومن ذلك ما ورد في القرآن من ذكر (أَيَّام اللّهِ).



قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾.



وأيام الله: "وقائع الله في الأمم السالفة، والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية"[24].



(أَيَّام اللّهِ) التي تفسر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضا ومستقبلة؛ فكما جرت بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا؛ فهي تجري في الحاضر المحيط بنا والمستقبل البعيد منا..
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 162.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 161.15 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.03%)]