تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين: تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 34 - عددالزوار : 12825 )           »          مختصر تاريخ تطور مدينة القاهرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          العقيدة اليهودية والسيطرة على العالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          حاجتنا إلى النضج الدعوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 57 - عددالزوار : 26758 )           »          وهو يتولى الصالحين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          إعانة الفقيه بتيسير مسائل ابن قاسم وشروحه وحواشيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 44 - عددالزوار : 14267 )           »          عطاءات المتقين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          علاج العشق من كلام ابن الجوزي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          العلمانية المختبئة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 15-08-2024, 07:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين: تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية)

تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين

تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية)

ليس من عذر لمن يرى آيات الله وبيده القرآن

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.


بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ * إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 1 - 6].


الحرف أحَدُّ من السيف إن صدق وأريد به وجه الله، وأضعف من الضعف إن أريد به غير الله، الحرف الصادق يبلَّغ به الحق، ويدحض به الباطل، كلمة الله توحيدًا وإخلاصًا حروف مركبة تعبر عن أشرف ما ينجو به المرء في الدنيا والآخرة محبة وتوحيدًا وإخلاصًا، وأمر الله ﴿ كُنْ [يس: 82] حرفان بهما أتت السموات والأرض طائعيـن، وبهما اصطفى الله خيار خلقه من الأنبياء والمرسلين، لتبليغ كلماته في التوراة والإنجيل والفرقان ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود: 58]، والله تعالى إذ بعث رسله عليهم السلام منفردين عُزْلًا من الأسلحة والأنصار، لم يزوِّدهم إلا برسالاته وكلماته وآياته، وقد قال عز وجل لموسى عليه السلام: ﴿ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144]، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67]، وهي كلها حروف منطوقة مسموعة ومكتوبة، ولكن المجتمع الإنساني كان يتغير كلما أنزلت بما فيها من الحق، رغم ما يواجهها من إعراض المعترضين وعدوانية الكفرة والمشركين، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لم يبعث إلا بما بعث به الرسل قبله، وناله من الأذى أشد مما نالهم، حتى قال عن نفسه: ((ما أوذي أحد ما أوذيت في الله))[1]، ولكنه أمر بالصبر والمصابرة والسلم والمسالمة ومجادلة معترضيه بالحسنى، كلما جادلوه بما هو أسوأ وأنكى، وقال له ربه تعالى: ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف: 9]، وهو صلى الله عليه وسلم إذ رجع من الطائف واشتدَّ تنمُّر قريش عليه، واصل دعوته، ليس له إلا سلاح القرآن يتلوه، فيعرض قادة المشركين وخاصتهم عن سماعه، ويُرهِبون عامتهم عن الاقتراب منه، فلا يسعه صلى الله عليه وسلم إلا تلاوته منفردًا في ركن من أركان البيت، أو على مؤمنين ضعفة مستضعفين تجرؤوا على مجالسته، قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ حدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه، قال‏‏:‏‏ كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال‏‏:‏‏ اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏‏:‏‏ "والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمَنْ رجل يُسمعهموه‏‏؟"‏‏، فقال عبدالله بن مسعود‏‏:‏‏ "أنا"، قالوا‏‏:‏‏ "إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه"، قال‏‏:‏‏ "دعوني فإن الله سيمنعني"،‏ قال‏‏:‏‏ فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ‏‏: ﴿ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم رافعًا بها صوته، ثم زاد: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ الرحمن [1 – 2]،‏‏ قال‏‏:‏‏ ثم استقبلها يقرؤها[2]،‏‏ قال‏‏:‏‏ فتأملوه، فجعلوا يقولون‏‏:‏‏ "ماذا قال ابن أم عبد‏‏؟"،‏‏ قال‏‏:‏‏ ثم قالوا‏‏:‏‏ "إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد"، فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ‏‏، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا في وجهه، فقالوا له‏‏:‏‏ "هذا الذي خشينا عليك"، فقال‏‏:‏‏ "ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا"، قالوا‏‏:‏‏ "لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون"‏‏.‏‏


كان هذا حال المشركين كلما حاول أحد المسلمين إسماعهم الوحي آذوه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه فلا يستمعون له، أو يصلي به في الليل فيأنفون سماعه، حتى إذا استفزَّ الفضول ثلاثة من عتاة المشركين، هم: أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل بن هشام، والأخنس بن شريق، وجمح بهم حبُّ الاستطلاع إلى معرفة ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ كل واحد منهم مجلسًا في الحرم يستمع فيه، وكل لا يعلم بأمر الآخر أو مكانه، وباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرَّقوا،‏ فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض‏‏:‏‏ لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا‏‏.‏‏ حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفَرَّقوا،‏‏ فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا،‏‏ حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرَّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض‏‏:‏‏ "لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود"،‏ فتعاهدوا على ذلك ثم تفَرَّقوا‏‏[3].‏‏


لذلك كانت بعض السور المكية تُفتَتَح بحروف مقطعة يعلم الله معناها ومراده بها، ولكنها تثير انتباه سامعيها، وتستثير فضولهم لاستيعاب ما يلقى بعدها ولو كرهوه أو اعترضوا عليه، كما هو الشأن إذ أنزلت سورة يونس، في أشد حالات كراهية قريش للوحي وصاحبه، وألقي عليهم بعد البسملة قوله تعالى: ﴿ الر[4].


هذه الحروف الثلاثة في صدر سورة يونس عليه السلام تُقرأ بأسمائها "ألفْ" ساكنة غير معربة، "لامْ" ساكنة كذلك، "را" مفتوحة غير مهموزة، قرأها ابن كثير وحفص بنصب الراء، وقرأها حمزة، والكسائي، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر بالإمالة، وقرأها نافع بين ذلك، حتى إذا شُدَّ انتباه السامع تُلِي قوله تعالى بعدها: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.


وقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ بعد الحروف المقطعة مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع، اسم إشارة إلى خبره الذي يجب استماعه واستيعابه، وهو قوله عز وجل: ﴿ آيَاتُ، والآيات جمع آية، وهي لغةً كل أمر عجيب أو باهر أو نادر المثال والجمال، أما اصطلاحًا فهي كل جملة أو مقطع مندرج في أي سورة من القرآن الكريم؛ لذلك أُضيف إليها تمييزًا لها عن غيرها من آيات الله الكونية التي لا تُحصى قوله تعالى: ﴿ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وهو القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿ يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1 – 3]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخر: 44]، وقوله سبحانه: ﴿ كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]؛ إذ القرآن حكيم؛ لأنه كلام الله الحكيم، والحكيم سبحانه لا يقول إلا الحكمة المطلقة، قولًا وعلمًا وفقهًا وتعليمًا وتربيةً وتوجيهًا ورفقًا وشدةً، وخبرًا وإخبارًا وبشارةً ونذارةً، ووعدًا ووعيدًا، من اتبعها نجا وفاز، ومن خالفها أو عصاها خاب وخسر، والحكمة في القرآن محفوظة بحفظه تعالى، مصونة بصيانته، على مدى الحياة، لا تندثر أو تُمْحى، من بحث عنها فيه ألفاها وسعد بها، قال عنه تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وقال عنه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: ((إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِي بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ))، وقال فيما رواه الدارمي عن عقبة بن عامر قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ[5] ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّار مَا احْتَرَقَ))؛ لذلك امتنَّ الله عز وجل به على عباده فقال: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151]، وقال عنه صلى الله عليه وسلم مبشرًا به: ((أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا))[6]، وشكا يوم القيامة هجر المسلمين له، بما قاله عنه تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30]، وقال عنه علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: "ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ، أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ"، وقال عنه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن".


لقد نزلت هذه السورة الكريمة في فترة هي أشَدُّ فترات اعتراض كُفَّار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكراهيتهم الاستماع للقرآن الكريم، كانوا مرة يرفضون سماعه متلوًّا في الحرم فيملؤون جوَّه ضجيجًا وتصفيقًا وصياحًا أثناء تلاوته، ومرة يعتدون على من يتلوه بالضرب والركل، ومرارًا يشكِّكُون في أهلية النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة، لوجود أولى منه لها بينهم مالًا وعِزَّةً وأنصارًا، أو لأن رسالة الله لا يبلغها إلا ملَك من السماء؛ لذلك نزل الإنكار عليهم والتعجُّب والتعجيب من مواقفهم هذه بقوله تعالى بعد الأحرف المتقطعة وبيان الحكمة القرآنية: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس: 2]، وقد أخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُولًا أنْكرت الْعَرَب ذَلِك، وَمن أنكر مِنْهُم قَالُوا: الله أعظم من أَن يكون رَسُوله بشرًا مثلَ مُحَمَّد، فَأنْزل الله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يونس: 2] الْآيَة. والهمزة في قوله تعالى: ﴿ أَكَانَ للاستفهام المراد به التعجب والتعجيب من موقفهم هذا واستنكاره، والناس في قوله تعالى: ﴿ لِلنَّاسِ هم قوم قريش ومن حولهم في مكة والجزيرة العربية، و"كان" فعل ماضٍ ناقص، خبره مقدم هو ﴿ عَجَبًا، واسمها المصدر المؤول من "أن والفعل" في قوله تعالى: ﴿ أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ؛ أي: أكان إيحاؤنا إلى رجل منهم عجبًا، وتقدير الآية: ما العجيب في أن الله أوحى إلى رجل من قريش أو من العرب عامة أو من بني آدم مطلقًا، وكان اصطفاء الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنزال الوحي عليه مما يثير إنكار المشركين في هذه الفترة من البعثة النبوية فيحاولون التنقيص من أهليته صلى الله عليه وسلم للتبليغ، فرد القرآن عليهم بقوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء: 94، 95]، وقوله عز وجل: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ [الأنعام: 91]، وتقدير الآية الكريمة الإنكار على قريش استغرابهم أن يبعث الله فيهم رسولًا عربيًّا منهم، مع أنهم يعرفون أصله ونسبه وكريم أخلاقه، وأمانته وقد ائتمنوه على أموالهم قبل البعثة وسمَّوه الأمين، ورضوا أن ينوب عنهم في إعادة الحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة عند إعادة بنائها واختلافهم فيمن يرده.


ثم بيَّن تعالى ما أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمره بفعله فقال عز وجل: ﴿ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، والفعل ﴿ أَنْذِرِ من الإنذار؛ أي: الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف، كما قال ابن فارس في معجمه: من "نذِر" بالعدو بكسر الذال، نذرًا؛ أي: علم به فحذر منه، وأَنذَرَه بالأَمر إِنْذارًا ونُذْرًا: أَعلَمَهُ به وخَوَّفَهُ وحذَّره منه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44].


وقوله تعالى في هذه الآية من سورة يونس: ﴿ أَنْذِرِ النَّاسَ كُفَّارهم ومشركيهم؛ أي: أعلمهم بعاقبة ما يرتكبونه من الشرك بالله، والكفر بآياته، والعدوان على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين معه ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، والبشارة لغة من البِشْر وهو الطلاقة والانشراح والفرح، يقال: بَشَرَه يبشُره وبشَّره يبشِّره؛ أي: أخبره بخير ففرح به، ولا تكون البشارة مطلقة إلا بالخير، فإن كانت بالشر كانت مقيدة؛ كقوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [النحل: 58]، والخطاب في الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره تعالى بقوله: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا؛ أي: بلغهم وأخبرهم ﴿ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ خطوة صادقة تقربوا بها إلى رضاء الله، وعملًا صالحًا صادقًا مدخرًا ومقبولًا، أقدموا عليه وقاموا به مخلصين، هو الإيمان الصادق الذي لا شبهة فيه من رياء أو شك أو شرك، على رغم الحصار المضروب عليهم في مكة، والعدوان المُسلَّط عليهم من مشركيها، وعبَّر بقدم الصدق مجازًا عمَّا أقدموا عليه من مخاطر إعلان الإيمان في مجتمع كافر عدواني، والجملة الاسمية من "أن" واسمها وخبرها ﴿ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ هي البشارة التي أمر صلى الله عليه وسلم بتبليغها إلى المؤمنين.


لقد أبلى الجيل الأول من المؤمنين البلاء الحسن في الثبات والصمود والصبر والمصابرة والانضباط والسمع والطاعة للقيادة النبوية وأوامرها، فكَفُّوا أيديهم ولم يردوا على استفزازات المشركين، وكان فيهم آل ياسر أبًا وأمًّا وولدًا، وكان بلال بن رباح وعبدالله بن مسعود وخباب بن الأرَتِّ وغيرهم رضي الله عنهم من الذين أوذوا، فصبروا ولم يردوا، فبهرت هذه النماذج الفَذَّة من المؤمنين مشركي قريش ومن جاورهم في القبائل الأخرى، ولم يجدوا في تراثهم ومعتقداتهم الباطلة إلا أن يعللوا ذلك بسحر يمارسه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الله عنهم تسفيهًا لما زعموه: ﴿ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ، والآية قرأها الجمهور بكسر السين وسكون الحاء: "لَسِحْرٌ"، وقرأها ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي: ﴿ لَسَاحِرٌ إشارة إلى ﴿ رَجُلٍ من قوله تعالى في مستهل السورة: ﴿ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومُؤدَّى القراءتين واحد وغير متعارض، سواء وصفوا القرآن بالسحر أو وصفوه صلى الله عليه وسلم بالساحر، فتلك مقولة يلجأ إليها الكفار في كل عصر كلما عجزوا عن إبطال آيات الله وما يأتيهم به الرسل عليهم السلام، قال تعالى عن موقفهم من موسى عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النمل: 13]، وقال عز وجل عن فرعون وهامان وقارون: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23 – 24]، وقال سبحانه عن موقفهم من عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة: 110]، وخاطب الحق تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7]، وقال عن كفار قريش: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4].


إن هذا الخلل في عقيدة المشركين وتصوراتهم للخالق والمخلوق وتدبير الكون ناشئ عما وقر في أذهانهم وورثوه عن آبائهم وأجدادهم من ثقافات ضالَّة، وخيالات جاهلة؛ ولذلك نزل الوحي الكريم معلمًا ومُصحِّحًا ومُذكِّرًا بما غاب عن عقولهم وأفئدتهم، ومعرفًا بحقيقة الربوبية أولًا؛ لأن جهلهم بها هوى بهم في حضيض الضلالة والشرك، فقال تعالى مؤكدًا حقيقتها بجملة اسمية من حرف التوكيد "إن" واسمها وخبرها: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ وبيَّن بذلك لمن يرى ويفقه ثبوت ربوبيته عز وجل للكون، ووجوب الإيمان بصفاتها وآثارها، واستئثاره بملكية الكون واستفراده بالفعل فيه، خلقًا وتدبيرًا وعطاءً ومنعًا، وإحياءً وإماتةً وضُرًّا ونفعًا وخفضًا ورَفْعًا وزيادةً ونقصًا وإعزازًا وإذلالًا، وتصريفًا للكائنات سموات وأرضًا وجنًّا وإنسًا وملائكةً وخلقًا ممن لا يعلمهم إلا هو سبحانه، ثم شرع في تعداد أفعاله تعالى فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍأيام يعلم الحق تعالى طبيعتها ومقدارها ومداها وكيف كانت ومتى كانت ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، ولفظ ﴿ الْعَرْشِ ذكر في القرآن حوالي عشرين مرة إحداهن بمعنى كرسي الحكم في دولة يوسف عليه السلام، بقوله تعالى عنه: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف: 100]، وفي غير هذه الآية ذكر بصيغ كلها تثبت ربوبية الله له، وأنه أعظم مخلوقاته وإبداعاته التي أخبرنا بها، وأرفع وأرقى وأسمى من السموات والأرض، وأما الاستواء على العرش فقد سئل عنه الإمام مالك في رواية لجعفر بن عبدالله قال: كنا عند مالك فجاءه رجل فقال: يا أبا عبدالله ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرضاء، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: "الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنُّك صاحب بدعة"، وأمر به فأخرج، وفي رواية أخرى قال: "﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، كما وصف نفسه، ولا يقال له كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه".


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 117.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 116.03 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]