{أو لما أصابتكم مصيبة} - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 121 - عددالزوار : 77546 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 62 - عددالزوار : 48949 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 191 - عددالزوار : 61460 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 76 - عددالزوار : 42830 )           »          الدورات القرآنية... موسم صناعة النور في زمن الظلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          تجديد الحياة مع تجدد الأعوام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الظلم مآله الهلاك.. فهل من معتبر؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          المرأة بين حضارتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          رجل يداين ويسامح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          سلسلة شرح الأربعين النووية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 5282 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 14-07-2025, 11:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,549
الدولة : Egypt
افتراضي {أو لما أصابتكم مصيبة}



أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ

د. خالد النجار

﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].


﴿ أَوَلَمَّا ﴾ الألف للاستفهام، والواو للعطف.. استفهام إنكاري تعجيبي، فيه إنكار تعجبهم من إصابة الهزيمة إياهم.

﴿ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ﴾ المصيبة أصلها في اللغة: "الرمية التي تصيب الهدف، ولا تخطئه"، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل، ولا تكاد تستعمل في القرآن في معنى الخير، وأما الفعل «أصاب» فيستعمل في الخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ [النساء:79]، وقوله تعالى: ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾ [التوبة:50].

﴿ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴾ فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أحد، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسهم يوم بدر؛ لأن المسلمين يوم أحد قتل منهم سبعون، وعلى رأسهم أسد الله وأسد رسوله وعم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حمزة بن عبد المطلب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون، وأسر سبعون. فسبعون مع سبعين ضعفان، ولهذا قال: ﴿ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴾.

والأسر يحصل به من الإذلال مثل ما يحصل بالقتل، وربما يكون أكثر؛ لأن المقتول يقتل ويستريح، ولكن المأسور يستذل، ولهذا يخير الإمام في المأسورين بين أربعة أمور: الفداء بمال أو بأسير مسلم، أو الرق، أو القتل، أو المَنّ بدون شيء، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا[محمد:4]، فالحاصل أن الأسر في الإذلال كالقتل إن لم يكن أشد منه.


وهذا قول الجمهور، وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أحد من قتل وهزيمة ابتداء، حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة وبقي لواؤهم ساقطا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية، وفي ذلك يقول حسان:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا
يباعون في الأسواق بيع الجلائب




وعلى هذا الوجه: فالقرح الذي أصاب المشركين يشير إليه قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [آل عمران:152].

ومن ألطاف الباري أن الله يُذكّر عباده أثناء المصائب ما يقابلها من النعم، لئلا تسترسل النفوس في الجزع، فإنها إذا قابلت بين المصائب والنعم خفت عليها المصائب، وهان عليها حملها، كما ذكّر الله المؤمنين حين أصيبوا بأحد ما أصابوا من المشركين ببدر.

وأدخل هذه الآية في أثناء قصة أحد: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران:123].

﴿ قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ﴾ أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبّي والوحي، وهم مشركون؟!

وهذا الاستفهام للتعجب، وليس للإنكار؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- لا ينكرون من قدر الله شيئاً، ولكنهم يتعجبون: كيف يصيبنا هذا، ونحن جند الله، ومع رسول الله؟!


﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ وقد أكد أنه منهم بإبراز الضمير في الإجابة ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفسِكمْ، وبالإتيان بالظرف وهو ﴿ عند ﴾ ، وبالتعبير بـ ﴿ أَنفسِكمْ ﴾ التي تدل على التوكيد.

فذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم، ولم يبين تفصيل ذلك هنا، ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ [آل عمران:152]، وهذا هو الظاهر في معنى الآية؛ لأن خير ما يبين به القرآن القرآن.

قال القرطبي: "يعني مخالفة الرماة. وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا؛ لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون.

وقال قتادة والربيع بن أنس: يعني سؤالهم النبّي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرج بعد ما أراد الإقامة بالمدينة. وتأوّلها في الرؤيا التي رآها درعا حصينة.

وعن علّي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل. وقد قيل لهم: إن فاديتم الأسارى قتل منكم على عّدتهم.

فروى البيهقي عن علّي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال النبّي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأسارى يوم بدر: (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعّدتهم).

فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. فمعنى ﴿ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ ﴾ على القولين الأولين بذنوبكم. وعلى القول الأخير باختياركم.

وفيه تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى:30].

وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره.

وفي الدعاء المشهور: (اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ) [البخاري في الأدب المفرد] فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.

ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه فقال له قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه فقال له ما صنعت فقال تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي.

فليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد، فما أسعده من عبد وما أبركها من نازلة نزلت به وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌأي إن الله قادر على نصركم وعلى خذلانكم، فلما عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدر الله لكم الخذلان.


وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ ﴿ إنَّ، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[الأنعام:18].


وخَتْمُ الآية بهذه الجملة في غاية ما يكون من المناسبة؛ فهو قدير على أن ينتصر من هؤلاء المشركين، ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُوا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ[محمد: 4].

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 166-167].

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ ﴾ يوم أحد من فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين.

﴿ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ وفي ذلك إشارة إلى قوة التجمع في الفريقين، وأن كل فريق كان مُصر على القتال، مُريد للنصر فيه، فهزيمة بدر جمعت المشركين في أحد وجعلت لهم عزيمة مريدة ماضية، وإيمان المؤمنين جعل في أقويائهم رغبة في النصر أو الاستشهاد.

﴿ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ بقضائه وقدره، وله الحكمة في ذلك.

أي بإذن الله القدري؛ لأن الله هو الذي قدره، وإذن الله ينقسم إلى قسمين: إذن شرعي، وإذن كوني قدري.


فما تعلق بالتكوين والخلق فهو إذن كوني؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي[المائدة:110]، وما تعلق بالشرع فهو إذن شرعي، مثل قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59] وقوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ[الشورى:21] أي: إذن شرعي.. والفرق بينهما:
أولاً: الإذن الكوني يكون فيما يحبه الله وما لا يحبه، أما الإذن الشرعي يكون فيما يحبه الله فقط.


ثانياً: أن الإذن الكوني يقع فيه المأذون به ولا يتخلف، والإذن الشرعي قد يقع وقد لا يقع.


وفي الآية تسلية المؤمن بقضاء الله وقدره، لأن المؤمن إذا علم أنه من عند الله رضي وسلم.


والجمع بين هذا وبين قوله فيما سبق: ﴿ أو لمَّا أَصَبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ[آل عمران:165] أن إضافتها إلى الأنفس من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ يعني أنتم السبب، وأما إضافتها إلى إذن الله فهي من باب إضافة الشيء إلى فاعله؛ فالذي قضى هذا هو الله تعالى لكن السبب أنتم، وإذا انفكت الجهة زال التعارض، فالجهة في الآية الأولى سبب، والثانية: فعل وتقدير.


وفيه أن الله قد يقدر على عبده المؤمن ما يكرهه لحكم عظيمة؛ لقوله: ﴿ فَبِإِذْنِ اللَّهِوفي الحديث القدسي الصحيح أن الله قال: (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) [البخاري] فتأمل الآن أن الله -عز وجل- يفعل ما يكره المؤمن لكن لحكمة، وهو أنه قضى بحكمته بالفناء على كل الخلق: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ[الرحمن:26].


ويتفرع على هذه فائدة: أن المقضي المكروه محنة للعبد، فعليه أن يعتبر وأن يصبر حتى يكون من المؤمنين الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[البقرة:156].


﴿ وَلِيَعْلَمَاللام للتعليل، ولا يجوز أن تسكن اللام، فتقول: «وَلْيَعْلم» لأن التي تسكن بعد حروف العطف هي لام الأمر، أما لام التعليل فهي مكسورة دائماً.


﴿ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.

والعلم هنا «علم ظهور» وليس «علم إدراك» أي: وليعلمه بعد ظهوره، أما علمه قبل ظهوره فهو ثابت لله عز وجل؛ لأن الله علم كل شيء إلى يوم القيامة.


وأيضاً هذا العلم علم يترتب عليه الثواب، أما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الثواب، ولا يترتب عليه العقاب.


والفرق الثالث: أن هذا العلم علم بالشيء بعد أن يقع، فهو علم بأنه وقع، وأما العلم الأزلي فهو علم بأنه سيقع، وهناك فرق بين العلم بأنه وقع، وبين العلم بأنه سيقع.


﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوافيميز هذا من هذا.. وهم أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق وكانوا ثلاثمائة، فاتبعهم من اتبعهم من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة.

قال في المؤمنين: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَفأتى بالوصف، وأما في المنافقين فقال: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواأتي بالفعل، وذلك لأن النفاق طارئ عليهم، لأن كثيراً من المنافقين كان آمن ثم كفر، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ[المنافقون:3] ولهذا أتى بالفعل الذي يدل على التجدد، وأيضاً ليناسب قوله: ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا.. .


والنفاق في الأصل هو إظهار خلاف الواقع، ومنه سمي نفق الجربوع أو اليربوع؛ فإنه من ذكائه إذا حفر له جحراً جعل له باباً ظاهراً يدخل منه ويخرج منه، ويجعل في أقصى ذلك الجحر طبقة خفيفة؛ يعني: يخرق إلى أن يصل إلى قريب من الانفتاح، فتبقى طبقة خفيفة جداً من أجل أنه إذا فوجئ من باب الجحر، خرج من هذه القشرة الرقيقة، لأنها تكون سهلة عليه، فيكون هذا مخادعة؛ لأن الصائد إذا أراد صيده وهجم عليه من الباب، لا يدري أن هناك نفقاً يخرج منه.


ولم يبرز النفاق في المدينة إلا بعد غزوة بدر، وغزوة بدر كانت في السنة الثانية في رمضان، وحصل بها للمسلمين من العز ما جعل المنافقين يظهرون نفاقهم؛ لأنهم صاروا يخافون من المؤمنين فصاروا ينافقون، أي: يظهرون أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.


فالقوة في بدر قد أوجدت النفاق، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته.


﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ﴾ القائل عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.

﴿ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ﴾ كَثروا سواد المسلمين، وإن لم تقاتلوا معنا؛ فيكون ذلك دفعا وقمعا للعدو؛ فإن السواد إذا كثر حصل دفع العّدو.

قال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء؛ فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى! ولكني أُكثّر سواد المسلمين بنفسي. وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله!

وعن سهل بن سعد الساعدي -وقد كف بصره- قال: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوهم، قيل: كيف وقد كُف بصرك؟ قال: لقوله تعالى: ﴿ أَوِ ادْفَعُوا ﴾.

وقال أبو عون الأنصاري: معنى ﴿ أَوِ ادْفَعُوا ﴾ رابطوا. وهذا قريب من الأّول. ولا محالة أن المرابط مدافع؛ لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو.

وقيل: إنما هو استدعاء إلى القتال حمية؛ لأنه استدعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة. أي: أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة، والمعنى إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفاعا عن أنفسكم وحريمكم وأوطانكم.

﴿ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ قال مجاهد: يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربالجئناكم، ولكن لا تلقون قتالا.

قال محمد بن إسحاق: خَرَجَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني حين خرج إلى أحد، في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشَّوط -بين أحد والمدينة-انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نَقْتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عَمرو بن حرام أخو بني سَلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيُغْنى الله عنكم. ومضى مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستشهد رحمه الله تعالى.

ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر، فقرر أن المعنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه وأخذ فيه بالاحتياط، ولكنه زلل، وإلقاء بالتهلكة، وكان خيرا أن تبقوا بالمدينة، حتى يجيء العدو إليكم، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول، وهو البقاء في المدينة، ولو بقوا في المدينة لوجدوا السبيل لبث الفتنة بطرق أخرى، فهم لَا يبغون إلا الفتنة.

﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ أي بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون؛ فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على التحقيق، فالقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم.

وفي زهرة التفاسير: والحكم الذي حكم الله به عليهم، وهو أنهم في هذا اليوم، أقرب للكفر منهم للإيمان، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين، وهزيمة الآخرين، مع أنهم عشراؤهم وخلطاؤهم، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان أبا لبعض المؤمنين أو أخا، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى، فكانوا يقطعون ما أمر الله به أن يصل. فالمراد بـ «الكفر» أهله.

ويصح أن يقال: إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان، وإن كانت لَا تدل على كل حقيقتهم؛ وذلك لأن تلك الحوادث قد كشفتهم، وبينت قربهم من الكفر، إذ حرصهم على ألا يظهروا بحقيقتهم جعلهم لَا يعلنون كل أمرهم، ولكن الجزء الذي ظهر، وإن لم يكن الكل، دل على حقيقة النفاق الذي يسكن قلوبهم، وكان مظهرهم به أقرب إلى الكفر.

﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْقال بعض المفسرين: ذكر الأفواه تأكيدا؛ مثل قوله: ﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [الأنعام: 38].

لكن القول عند الإطلاق هو ما تواطأ عليه القلب واللسان؛ لكن لما كان هذا القول يختلف فيه القلب عن اللسان قيده بالأفواه، وبهذا التقدير يندفع القول أن قوله ﴿ بِأَفْوَاهِهِمْمن باب التأكيد.. فهذا القول ليس قولاً مطلقاً؛ لأن القول المطلق ما تواطأ عليه القلب واللسان.


﴿ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ يقولون القول ولا يعتقدون صحته، وتلك طبيعة النفاق دائما فهو ستر للباطن، وإعلان ما يناقضه، ومنه قولهم هذا: ﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة، يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم [ساداتهم وأشرافهم] يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، وأنه كائن بينهم قتال لا محالة.

﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَفيه أن المنافقين يحرصون غاية الحرص على كتم نفاقهم، ولكن الله يعلم بذلك، وقد كشفهم الله بقوله: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحيطا[النساء:108].


فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين، وقد كشف الله تعالى بعض شئونهم، ليحترس المؤمنون منهم، ولكيلا ينخدعوا بهم، ولكي يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة، وأن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ازداد كيدهم، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، وأن أولئك المنافقين لَا يكتفون بتخذيلهم والمعركة قد ابتدأت، بل يظهرون الشماتة بعد أن وقعت، لكي يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد.

﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168].

﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْإخوانهم ظاهراً، لأنهم لا يخاطبون إخوانهم في النسب فقط بل يخاطبون كل من استشهد في غزوة أحد، وليس كل من استشهد أخاً لواحد من المنافقين، فيكون المراد بإخوانهم أي: ظاهراً؛ لأن المنافقين مع المؤمنين كأنهم مؤمنون.


﴿ وَقَعَدُواقعدوا عن القتال.. يعني قالوا وقعدوا؛ لأن قولهم حال كونهم قعوداً أشد، فهم جمعوا بين أمرين بين السوء في القول والسوء في الفعل، والله يسمي المتخلفين عن القتال قعوداً، فقال: ﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[النساء:95] فسمى المتخلفين عن القتال قعدة. وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ[التوبة:46].


﴿ لَوْ أَطَاعُونَا ﴾ في عدم الخروج للجهاد، لأن المنافقين أشاروا بعدم الخروج.


﴿ مَا قُتِلُواوفي قراءة ﴿ ما قُتّلوابالتشديد على سبيل المبالغة؛ لأنه حصل في الذين استشهدوا، حصل فيهم تمثيل مثل حمزة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.


وقد قالوا هذه المقولة ليبعثوا الريب في جماهير المؤمنين، وليعلنوا تخلي الله عن نصرتهم.. فهم لَا يتألمون لإخوانهم وذوي رحمهم، ولكن يلقون باللوم عليهم، وإنهم فرحون بأنهم لم يقتلوا لأنهم لم يخرجوا، ولائمون لمن خرجوا وقتلوا، شامتون فيهم.


وفيه الإشارة إلى أن مثل هذا القول عند حلول القدر لا يجوز؛ لأنه سيق في سياق الذم وهو كذلك، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) [مسلم]، أما لو قاله الإنسان خبراً لا اعتراضاً على القدر ولا ندماً على ما وقع؛ فإن هذا لا بأس به، ومنه قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي) [مسلم]، وليس هذا من باب التمني مثل ما ذهب إليه بعض العلماء، وأن (لو) هناك استخدمت في تمني الخير، بل نقول: هي خبر، وهذا يقع كثيراً. وقد تقول للشخص: لو زرتني بالأمس لأكرمتك وما أشبه ذلك، تريد بذلك خبر ليس فيه منازعة لقدر الله عز وجل، وهو يقع كثيراً في كلام الناس.


﴿ قُلْيا محمد ﴿ فَادْرَءُوا ﴾ فادفعوا، فاء الإفصاح وهي تفصح عن شرط مقدر.

﴿ عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَهذا من باب التحدي، وتأكيد لكذبهم.. وما وقع التحدي به فإنه لا يمكن وقوعه، إذ لو أمكن وقوعه لم يكن للتحدي به فائدة.


فإن كان القُعود يَسْلَم به الشخص من القتل والموت، فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مُشَيّدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.

فبين بهذا أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة.

وكلام هؤلاء المنافقين ككلام الكافرين الذي حكاه الله تعالى آنفا في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آل عمران:156].

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169-171].

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّالخطاب هنا إما للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، والحسبان هنا بمعنى «الظن»: أي لا تظن أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.


والنون نون «نون التأكيد» ليست لتأكيد الظن المنهي عنه، بل هي لتأكيد النهي.


﴿ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِأي طريقه، وهو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا قاتل شجاعة ولا حمية ولا رياء.


ولذلك يجب إذا وجهنا جندنا للدفاع عن الوطن أن نقول: لاحظوا أنكم تدافعون عن وطنكم باعتباره وطناً إسلامياً لا لمجرد الوطنية أو القومية.. وكذا من قاتل لمجرد طاعة أمير فقط، فليس في سبيل الله.


وقد يطلق السبيل ويُضاف أحياناً إلى المؤمنين، قال تعالى: ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى[النساء:115] فهو يُضاف إلى الله باعتبارين باعتبار أنه واضعه، فالله تعالى هو الذي شرع هذا الطريق وباعتبار أنه موصل إليه، أي: أن هذا الطريق موصل إلى الله تعالى. ويُضاف إلى المؤمنين باعتبار واحد، وهو أنهم هم الذين سلكوه.


﴿ أَمْوَاتًاأي: لا تحسبن أنهم إذا ماتوا انتهوا وذهبوا سدى، بل هم إذا ماتوا انتقلوا إلى حياة أخرى أفضل مما فارقوه.


﴿ بَلْ أَحْيَاءٌللإضراب ﴿ عِنْدَ ﴾ العندية تقتضي غاية القرب، وقال سيبويه: هذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب.


وإذا كانوا عنده فهم عند من يكرمهم ومن يجازيهم جزاء عاجلا، حتى يكون الجزاء الأوفى والنعيم المقيم، عندما تتصل أرواحهم الطاهرة بأجسامهم التي يعيدها الله سبحانه وتعالى إليهم في سعادة وحبور.

﴿ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَأي: يُعطون؛ لأن الرزق في اللغة العطاء، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم[النساء:8] أي: أعطوهم، يعني يعطون من رزق الله في الجنة حيث شاءوا، ولكن هذا العطاء عطاء ناقص بالنسبة للعطاء الأكمل الذي يكون بعد البعث؛ لأن العطاء قبل القيامة عطاء للبدن وعطاء للروح، وكلاهما ناقص بالنسبة لما بعده. فهو عطاء للبدن؛ لأنه في القبر يُفسح له مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من روحها ونعيمها لكنه لا يتمتع التمتع الكامل، كذلك الأرواح لا تتمتع التمتع الكامل في وجودها في الجنة، إنما يكون التمتع الكامل بعد البعث حين تلتقي الأرواح بالأجساد اللقاء الذي لا مفارقة بعده؛ لأنه إذا التقت الأرواح في البعث فلا مفارقة، تبقى أبد الآبدين، وحينئذ يحصل كمال النعيم.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 151.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 149.79 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.11%)]