|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() صلة الرحم (1) فرضها والتأكيد عليها الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله رب العالمين ﴿ يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ﴾ [النحل: 90] نحمده على تتابع نعمه، ونشكره على ترادف إحسانه؛ هدانا للخير وعليه يجازينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أمر بصلة الأرحام، وجعلها من دلائل كمال الإيمان، ووعد عليها عظيم الأجر والإحسان، ونهى عن قطيعتها، وأوعد من قطعها بالحرمان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان أتقى الناس لربه، وأرحمهم لخلقه، وأوصلهم لرحمه، جاء بصلاح القلوب، ودعا إلى كمال الأخلاق، وأمر بالبر والصلة، وقال «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ﴾ [النساء: 1]. أيها الناس: من رضي بالله تعالى ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالإسلام دينا؛ اتبع أوامر الإسلام ولو خالفت هواه، واجتنب نواهيه ولو وافقت مشتهاه، وهذا دليل عبوديته لله تعالى.. ومن الفقه في الدين، والعلم بالشريعة، والتوفيق لامتثالها أن يضع العبد أوامرها ونواهيها في مواضعها، ويعرف أهمها والمهم منها، فلا يشتغل بمفضول عن فاضل، ولا يعتني بمندوب عن واجب، ولا يقدم مهما على ما هو أهم منه. ولا يقع الخلل عند الناس في ذلك إلا من جهة الجهل أو الهوى؛ فإن الجاهل لا يدرك مهمات الشريعة، ولا علم له بأولياتها، وصاحب الهوى يعظم منها ما يوافق هواه، ويفرط فيما هو أعلى منه وأوجب إن عارض ما يهوى، وربما جعل ذلك شريعة يدعو إليها، فيظن أنه عبد لله تعالى وهو متبع لهواه. ومن تأمل النصوص الواردة في وجوب صلة الأرحام ثم قارنها بواقع الناس اليوم علم أن كثيرا منهم ما صرفوا عن صلة أرحامهم إلا بسبب جهلهم بمقام الصلة عند الله تعالى، أو بسبب اتباعهم لأهوائهم فيما يأتون من الشريعة وما يتركون. لقد كان الأمر بصلة الرحم من محكمات الشرائع التي اتفق عليها جميع الرسل عليهم السلام، وأخذ الله تعالى ميثاقه بها على من قبلنا ﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى ﴾ [البقرة: 83] الآية. وفي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كان الأمر بصلة الرحم من أوائل الأوامر المكية حتى لا تذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويذكر أنه يأمر بالصلة وينهى عن القطيعة، دخل عمرو بن عبسة السلمي على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له: ((ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به)) رواه مسلم. وفي سؤال النجاشي لجعفر، وسؤال هرقل لأبي سفيان عما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سؤال عن أساسات الإسلام وأولياته أخبراهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بصلة الأرحام، ونهى عن قطيعتها؛ مما يدل على أن الصلة أساس في الإسلام، وأن الأمر بها جاء في بداية بناء الشريعة. وقد قرنها الله تعالى مع الإيمان، وعدها من البر المأمور به ﴿ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر... إلى أن قال: وآتى المال على حبه ذوي القربى ﴾ [البقرة: 177] الآية. وفي آية أخرى ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى ﴾ [النساء: 36] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) رواه البخاري. والنبي صلى الله عليه وسلم حين دعا قومه فكذبوه ذكرهم بالقربى لأهميتها، وطلب منهم أن يعاملوه معاملة القريب لا معاملة العدو؛ لأنه بدعوته لهم عاملهم بذلك، ولا يريد منهم أجرا عليها ﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ [الشورى: 23] ولما دعا عشيرته على الصفا في أول صدعه بالحق ذكر الرحم فقال: ((إني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)) رواه مسلم، فجعل للرحم حرارة تطفأ بماء الصلة. وصلة القريب حق له أوجبه الله تعالى ﴿ وآت ذا القربى حقه ﴾ [الإسراء: 26]. ولو أخطأ القريب على قريبه فلا يسقط حقه من الصلة مهما كان خطؤه، وقد أخطأ مسطح على أبي بكر حين خاض في الإفك فعزم أبو بكر على قطع صلته عنه فأنزل الله تعالى ﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ﴾ [النور: 22] فعاد أبو بكر رضي الله عنه إلى صلته. لقد قطع الله تعالى كل توارث إلا توارث القرابة ﴿ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ [الأنفال: 75] وقدمهم في الإنفاق على غيرهم، وجعلهم بعد الوالدين ﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ﴾ [البقرة: 215]. وجاءت الشريعة بالنهي الشديد عن التفاخر بالأنساب؛ لأنها من أعمال الجاهلية، ومعلوم أن تعلم الأنساب والاشتغال بها مظنة للتفاخر بها، لكن هذه المفسدة المظنونة ملغاة؛ لتحقيق مصلحة أعظم وهي صلة الرحم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعلم النسب لأجل ذلك وقال: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)) وفي رواية: ((اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قرب لرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد لها إذا وصلت وإن كانت بعيدة)) رواه الحاكم وصححه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر ((تعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم لأوزعه ذلك عن انتهاكه)). وأخبر أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن يصل أرحامه وإن أدبرت. وتأملوا عظيم أمر صلة الرحم في هذا الحديث العظيم؛ إذ روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله)) رواه مسلم. وفي حديث آخر: ((إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله: من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته)) رواه الشيخان. وامتدح الله تعالى الواصلين لأرحامهم فقال سبحانه ﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ﴾ [الرعد: 21] وذم القاطعين بقوله تعالى ﴿ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ [الرعد: 25]. نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم، ونسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان والبر والصلة، وأن يجنبنا العقوق والقطيعة، وأن يعيننا على ما به يرضى عنا، إنه سميع مجيب. الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ﴾ [آل عمران: 131-132]. أيها المسلمون: رغم تطور وسائل المواصلات والاتصال التي قربت كل بعيد، ويسرت التواصل بين الناس، وقطعت كل عذر للقطيعة؛ فإن كثيرا من الناس لم يوفقوا لصلة أرحامهم، ومنهم من لم يسلموا من قطيعتها، وهذا من الخذلان وعدم التوفيق، ومن قلة البركة فيما رزقهم الله تعالى من وسائل الاتصال والمواصلات. إن اختلاف الطباع والعقول وطرائق التفكير والتباين في المعرفة والاهتمامات بين القرابة أسباب تجعل أناسا منهم لا يحتملون قرابتهم، ولا يحبون مجالستهم، ولا يأنسون بالحديث معهم؛ لبعد ما بينهم، لكن ليس للمسلم اختيار في ذلك؛ فإنه إن اختار جلساءه وزملاءه فلا خيار له في قرابته، فعليه أن يحتمل جهلهم، ولا يغتر بمعرفته عليهم، ويجتهد في صلتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وأحيانا تكون قطيعة الرحم بأسباب فتن وإحن بين القرابات سعى بها واش بينهم يوقد نارها لغرض في نفسه؛ فاستحوذ عليهم لضعف عقولهم، وسوء ظنونهم، وعدم قدرتهم على صد الوشاة عنهم، وإلا فمن نقل لك نقل عنك، أو تكون القطيعة بسبب إرث اختلفوا في قسمته، واتهم بعضهم بعضا بالاستئثار به، أو بسبب عداوات قديمة ورثوها عن آبائهم.. وكل أولئك يجب على المؤمن بعظيم حق الرحم أن يتجاوزها، ولا يجعلها عوائق عن واجب الصلة..ولا يقدر على ذلك إلا الأقوياء من الناس، الذين يجعلون رضا الله تعالى فوق أي اعتبار مهما كان. ومن الخذلان العظيم، والإثم المبين أن يبتلى الرجل بقطيعة أقرب الناس إليه من إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته ثم يعدي هذه الكبيرة من الذنوب لزوجه وولده فيأمرهم بها، ويقصرهم عليها، ويعاقبهم على صلتهم لو وصلوا أرحامهم.. فيحمل وزره مع وزرهم، ويكون داعية للإثم والعدوان والبغي. إن النفوس الكبيرة هي التي تحتمل أذى القرابة، ولا تحمل في دواخلها شيئا عليهم مهما فعلوا، وتؤدي حقوقهم ولو قوبلت على إحسانها بالإساءة، وعلى صلتها بالقطيعة؛ فإن مطلوب المؤمن رضا الله تعالى لا رضا خلقه، وغايته أن يكون عبدا لله تعالى وليس متبعا لما تهوى نفسه. وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) رواه أحمد، والكاشح هو المبغض المعادي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلته أفضل من صلة القريب المحب، وسبب ذلك أن الإخلاص في هذه الصلة متمحض؛ وقد تزيل هذه الصلة بغضه وعداوته فتكون سببا في سلامته من الإثم، وأما صلة القريب المحب فإن النفوس تهواها وتميل إليها. ألا فاتقوا الله ربكم، وصلوا أرحامكم، واحذروا القطيعة، وربوا أهلكم وولدكم على الصلة؛ فإن الصلة سبب لطول العمر وبسط الرزق، مع ما فيها من ثواب الآخرة.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() صلة الرحم (2) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل صور من الصلة الحمد لله الغني الوهاب، الكريم الرزاق؛ خالق الخلق، وباسط الرزق، ومتمم النعم، ودافع النقم، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلقنا من ذكر وأنثى، وجعلنا شعوبا وقبائل، وحكمة ذلك التعارف والتواصل، والتعاون والتعاضد والتناصر؛ لتعمر الأرض بدينه، وتقام في البشر شريعته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلة وحذر من القطيعة، وأخبرنا أنه لا يدخل الجنة قاطع رحم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ {النساء:1} أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها؛ فإنه سبحانه رقيب على من قطعها، عليم بمن وصلها. أيها الناس: في زمن ثورة الاتصال والمواصلات التي قربت البعيد، وألغت المسافات بين الناس، وهدمت الحدود بين الدول، وتغلبت على البحار التي تفصل القارات.. صار الإنسان يخاطب من يشاء، في أي وقت يشاء، في أي بقعة من الأرض.. يخاطبه وجها لوجه صوتا وصورة، وكأنه يجلس بجواره.. بل يجتمع عدد من الناس من قارات شتى، وفي دول متنائية، ويتحدثون في شأنهم وكأنهم في غرفة واحدة، تحويهم طاولة واحدة، فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم، وسبحان من سخر له ما في الأرض، وفتح له الآفاق؛ ليقيم دينه في الأرض ﴿ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ {الصَّفات:96}. وكلما زادت سبل الصلة، وتيسرت مئونتها؛ تأكدت فريضتها، وتحتم وجوبها، وانقطع العذر في قطيعتها، فكان الظن بالناس أداءها؛ لفرضيتها ولسهولة أدائها.. ولكن واقع الناس على العكس من ذلك، فكلما زادت وسائل الاتصال والوصال بعدت المسافة بين الأرحام والقرابات. ولقد كان الناس من قبل ينتقدون أنفسهم إن تأخروا عن صلة قريب جمعة أو جمعتين، ثم تساهلوا في الشهر والشهرين، وبلغوا الآن حولا أو حولين، لا يرى القريب قريبه إلا إن جمعهم عيد أو عرس أو جنازة، ثم تثاقلوا عن إجابة دعوات الأعراس، وشهود جنائز قراباتهم، فكأنهم يجرون إليها جرًّا، ولولا الخوف من ألسن الناس وعيبهم لما حضروا الأعراس، ولا شهدوا الجنائز. إن أمر الصلة عظيم، وشأنها عند الله تعالى كبير، فهي معلقة بالعرش تدعو لمن وصلها، وعلى من قطعها، وتشهد للواصل وعلى القاطع يوم القيامة، وهي سبب طول العمر أو بركته، وسبب نماء الرزق وحصوله، وكان الواجب على الناس لما فتح الله تعالى عليهم وسائل الاتصال والوصال أن يكونوا أكثر صلة لأرحامهم، ومعرفة بأحوال قرابتهم، ولكن جهل كثير من الناس بأهمية الصلة، وعدم علمهم بحقيقتها ووسائلها جعلهم يقطعون كثيرا من أرحامهم؛ فهم يظنون أن الصلة لا تكون إلا بالزيارة، ولا صلة في غيرها، فسدت أبواب من الصلة كثيرة بسبب هذا الفهم الخطأ. إن أعظم الصلة وأنفعها وأخلصها: الصلة بالدعاء وخاصة ما كان بظهر الغيب؛ فإنه ينفع الداعي بدعاء الملك له، وينفع المدعو له. ومن الصلة قصد الرحم بالزيارة في بيته أو عمله، فإن كان في غير بلده فشد رحله لزيارته كان ذلك أعظم أجرا، وأشد أثرا في نفس رحمه، فيفرح به، ويعلم منزلته عنده. ومن الصلة مهاتفته بين حين وآخر، أو مواصلته بالرسائل التي أصبحت بالمجان مع تطور وسائل الاتصال، فيسلم عليه ويسأل عن حاله وأهله وولده، ويشعره باهتمامه به، ويقر له بتقصيره في حقه. ومن الصلة الذب عن عرضه إن ذكر بسوء أمامه، وإسكات المتكلم أو الجواب عن قوله. وإذا كان هذا حقا واجبا لكل مسلم فهو في الرحم أوجب وآكد. ومن الصلة الوقوف معه في مصابه، وتخفيف آلامه، والفرح بخير حازه، وتهنئته به، وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الدية على عاقلة الرجل القاتل، وهم عصباته من الذكور. ورب كلمة طيبة يقولها شخص لذي رحم مصاب، فيخفف بها مصابه، ويزيل همه، ويكون خير معين له في شدته. ومن الصلة عيادته إن مرض، وكل ما ورد من ثواب عيادة المريض فهو في ذي الرحم آكد وأبلغ. وشهود جنازته صلة له بعد وفاته، وهو دليل على محبته ووفائه، ولا سيما إذا كان خالص النية، حسن القصد، يحضرها يريد الأجر لا خوفا من النقد والثلب. ومن عظيم الصلة المتاحة لكبراء الأسر، ورؤوس العشائر، ومن لهم مقام في أقوامهم: إزالة أسباب الخصومة بين المتخاصمين، وإصلاح ذات البين بين الأقربين.. والحقيقة أن هذا المجال العظيم من الصلة قد فرط فيه كبار الناس ورؤوسهم، ولا يأبهون بما يقع من نزاعات بين قراباتهم، تؤدي إلى التقاطع والتباغض بين أرحامهم، ومن زكاة الجاه أن يبذلوه في هذا الجانب، ورحم الله تعالى امرأ قرب بين رحمين متباعدين، ووصل بين متقاطعين. والصلة بالمال أو الهدية هي أشهر ما جاء من الصلة في النصوص، وهي صلة تزيل إحن الصدور، وتغرس المحبة في القلوب، وتقطع الطريق على نقلة السوء من النمامين والكذابين؛ ذلك أن الإحسان يعمل عمله في القلوب، وما استعبد إنسان بمثل الإحسان.. فإن كان رحمه فقيرا كانت له صدقة وصلة، وإن كان غنيا كانت له هدية وصلة. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«الصَّدَقَةُ على الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ على ذي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»رواه أهل السنن إلا أبا داود، من حديث سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه. ولما أراد أبو طلحة رضي الله عنه أن يتصدق ببستانه قال له النبي عليه الصلاة والسلام:«سمعت ما قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الْأَقْرَبِينَ، فقال أبو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ في أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ». رواه الشيخان. وقد استفاد العلماء من هذا الحديث: أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين، وأن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام, وإن لم يجتمعوا إلا في أبٍ بعيد؛ لأن النبي صلى اله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين, فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع. ومما يؤكد هذا المعنى حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ ... فإذا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إلى أَهْلِهَا فإن لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا أو قال ذِمَّةً وَصِهْرًا»رواه مسلم. فأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم. وتأملوا كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر رحم هاجر عليها السلام مع أن بينه وبينها في النسب أكثر من عشرين جدا. ومن عجيب أمر الصلة أنها مقدمة على عتق الرقاب مع أن الإسلام يتشوف إلى تحرير العبيد، وقد شرع عتق الرقاب في كثير من الكفارات، ولكن الصلة مقدمة على العتق، ودليل ذلك أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ رضي الله عنها أَخْبَرَتْ أنها أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً ولم تَسْتَأْذِنْ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يَوْمُهَا الذي يَدُورُ عليها فيه قالت:«أَشَعَرْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قال: أو فعلت؟ قالت: نعم، قال: أَمَا إِنَّكِ لو أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كان أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» رواه الشيخان. وقد رتب الله تعالى إنفاق الرجل فجعل قرابته بعد والديه في الإنفاق وقبل اليتامى والمساكين وابن السبيل مما يدل على أهمية القرابة وصلتهم ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ {البقرة:215} وفي آية أخرى ﴿ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ {البقرة:177} وكذلك في الوصية ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ﴾ {البقرة:181} وعلق رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام عتق عبده بموته ثم احتاج إليه فباعه النبي صلى الله عليه وسلم ودفع قيمته لصاحبه وقال له: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عليها فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ عن أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضَلَ عن ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا يقول فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ» رواه الشيخان واللفظ لمسلم. وحين يقصد الرجل بالصلة قريبا له يناصبه العداء، ويسعى عليه بالسوء، فقد بلغ الغاية في الصلة، وحقق الإخلاص فيها؛ فصلته عن ديانة وتقوى، وإلا فإن كثيرا من الناس يأنسون بقرباتهم فيصلونهم، وقد جاء في حديث أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»صححه ابن خزيمة والحاكم. وذو الرحم الكاشح هو المبغض المعادي. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: ولا شك أن الحنو على القرابة أبلغ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح أوقع في الإخلاص. نسأل الله تعالى أن يكفينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يطهر قلوبنا من أدغالها وأوضارها، وأن يعيننا على ما يرضيه من صلة أرحامنا، إنه سميع قريب. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه ولا تكفروه، ومن شكره سبحانه صلة ما أمر به أن يوصل، وقد أثنى على المؤمنين بذلك فقال سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ {الرعد:21}. أيها المسلمون: خطر قطيعة الرحم كبير، والقاطع ملعون بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ {الرعد:25} وفي آية أخرى ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ {محمد:22-24}. وهذه الآية تدل على أن تدبر القرآن سبب يؤدي إلى الصلة، كما أن ترك تدبره يؤدي إلى القطيعة؛ فإن ما في القرآن من الوعد على الصلة بالجنة يرغب المؤمنين فيها، وتحمل المشقة من أجلها، والصبر على الأذى في تحقيقها، وما فيه من الوعيد لقاطع الرحم، وما يستحقه من لعنة الله تعالى وغضبه وسوء منقلبه منفر من القطيعة، ويحمل قارئه على الصلة خوفا من عذاب الله تعالى. فكيف سيكون حال المؤمن مع الصلة والقطيعة إذا علم أن ثواب الصلة معجل بسعة الرزق وطول العمر، وأن عقوبة القطيعة هي أسرع العقوبات وقوعا على العبد؛ كما في حديث أَبِي بَكَرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ الْعُقُوبَةَ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ"رواه أحمد. ومن تمام التوفيق أن يستفيد المؤمن من إجازة أتيحت له، أو فراغ يجده فيقضيه في صلة رحمه، ويحتسب أجر ذلك ومثوبته. ألا فاتقوا الله ربكم، وصلوا أرحامكم ولو قطعوكم، وأحسنوا إليهم ولو أساءوا إليكم، واحلموا عنهم ولو جهلوا عليكم، فإن المكافئ ليس بواصل، وإنما الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها. وصلوا وسلموا على نبيكم...
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |