|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() رفع الملام عن لحن الأئمة الأعلام د. بلال فيصل البحر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الذين هم معادن العلم وأركان الدين، ومن تبعهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.. وبعد: فقد سُئِلتُ عن ما اشتُهِرَ في كتب النوادر والطِّباق من ذكر حكايات وأخبار يقتضي ظاهرُها وقوعَ اللحن في كلام بعض خواص العلماء والأئمة الكبار، كالذي يروى عن أبي حنيفة وأبي يوسف وربيعة ومالك ونظرائهم من الأئمة الأعيان على ما ذكره القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني في (نوادره) وغيره من المصنفين كأبي بكر الحافظ الخطيب وغيره. وكالذي يروى عن بعض النحاة كالفراء وهشام والقُتَبي وغيرهم، حتى صنف في جمع ذلك جماعة من العلماء كابن شبّة في كتاب (من كان يلحن من النحويين) وأبي العباس المبرد في (كتاب اللُّحَنة) والعسكري في (لحن الخاصة) وغيرهم. فمنه حكاية القُبيسية المشهورة عن أبي حنيفة، وذكر المبرد في كتاب (اللُّحَنة) عن محمد بن القاسم عن الأصمعي قال: دخلت المدينة على مالك بن أنس فما هِبتُ أحداً هيبتي له، فتكلَّم فلحن فقال: مُطرنا البارحة مطراً أيّ مطراً! فخفَّ في عيني، فلما راجعه الأصمعيُّ قال: فكيف لو رأيت ربيعة كنا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيراً بخيراً. وحكي أن مالكاً حضر عند أبي جعفر المنصور أو الرشيد وعنده علوي عليه بُرد من حرير, فلحن مالك في شيء من كلامه. فقال العلوي: أما كان لوالدي هذا درهمان يدفعانه بـهما إلى معلِّم يصلح لسانه؟ فقال مالك: أما كان لوالدي هذا درهم يدفعانه إلى فقيه يعرّفه ما يحل له ويحرم عليه.؟ وقد ذكر أبو القاسم الزجاجيفي (مجالس العلماء) أن أبا يوسف القاضي اجتمع بالكسائي عند الرشيد، فقال الكسائي: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أنْ دخلت الدار؟ فقال أبو يوسف: إن دخلت طلقت. فقال الكسائي: خطأ، إذا فتحت (أنْ) فقد وجب الأمر، وإذا كسرت فإنه لم يقع بعد..قال: فنظر أبو يوسف بعدُ في النحو. وذكر أبو حيان الأندلسي في (تذكرة النحاة) أن أبا يوسف القاضي كان يذم النحو ويقول: وما النحو؟! فاجتمع الكسائي معه عند الرشيد، فقال الكسائي: ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك، وقال آخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيهما كنت تأخذ.؟ فقال: آخذهما جميعاً، فخطّأه الكسائي، فقال أبو يوسف: كيف ذلك.؟ قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِك بالإضافة؛ لأنه فعل ماض، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَك بالنصب، فلا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال تعالى: ﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ ولولا أن المنون مستقبل ما جاز فيه غداً. قال: فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح النحو. والأخبار في هذا المعنى كثيرة في الكتب، فحررت في هذه العجالة جواباً مختصراً بقصد الاعتذار عن هؤلاء السادة بالتنبيه على وجه ما وقع منهم من اللحن بتقدير صحته، وتوجيهه وتبيين معنى ما يروى عنهم في ذلك. ولسنا ندفع وقوع اللحن من بعض العلماء كالذي يروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي الخطاب الطبيب وغيرهما وهو كثير في الرواة، ومن طرائف الأخبار ما حُكي عن أبي شيبة والد أبي بكر وعثمان وكان على قضاء واسط، فجاءَتْهُ ظريفة فقالت: عليَّ كفارة يمين فبأي شئ أُكَفِّر؟ فقال: بخبزاً بدقيقٍ بسويقٍ بتمراً! فقالت: ترك الكفارة والله أهون من استماع هذا اللحن.! وقد كان من العلماء من يدري النحو صناعةً ولا يقيمه إعراباً في كلامه، كالذي ذكره الحافظ ابن كثير عن العلامة صدر الدين ابن المرحل، أنه كان يحفظ (المفصل في النحو) للزمخشري، وكان مع ذلك يلحن.! وليس هذا مما نحن فيه ولا مما يورد علينا، فإن غرضنا من هذا الجزء الكلام على ما يروى من اللحن عن الأئمة الكبار المتقدمين، والاعتذار عنهم بوجوه من العذر لإمامتهم وتقدمهم، فمن وجوه ذلك ومعانيه: الأول: أنه محمول عندهم على التنزل لإفهام العامة، فإن فهم المقاصد والمعاني أولى من مراعاة تراكيب النحو وأساليبه التي قد تستغلق على الناس، فيفوت المقصود الأعظم وهو فهم المعنى وإدراك الحكم. وقد رأيتُ أبا الحسين بن فارس قد اعتذر لمالك بأنه إنما تنزل في كلامه على قدر لغة العوام بقصد إفهامهم, فجرى اللحن في كلامه ووقع له عمداً منه جرياً على لغة العامة, وبمثله يعتذر عن المروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف من اللحن. وهذا اعتذار حسن وهو من جنس قول ابن أبي عبادة اليمني: لعمرُكَ مَا اللَّحنُ من شيمتي ![]() ولا أنا من خطأٍ أَلحَنُ ![]() ولكنني قد عرفتُ الأنَام ![]() فخاطبتُ كلاً بما يَحْسُنُ ![]() وذكر الدكتور محمد جمعة الدربي في باب (نصب المضاف إليه) من كتابه (تعقبات الأصمعي) أنه لحن غير مقصود, وإنما خرج منهم على سبيل مجاراة العوام والتنزل إلى مرتبتهم ليكون أدعى لفهمهم، ولا سيما بعد فشو العامية والمقصود من إفهامهم قد يحصل بالعامية دون الفصحى. الثاني: أن بعض ما يروى عنهم من اللحن لم يقع منهم بل من الراوي أو الناقل أو الناسخ، كما يروى عن المزني أنه كان يقول: من شاء من خلق الله ناظرته أن ما يوجد في كتب الشافعي من الخطأ، فهو من الكاتب لا من الشافعي. الثالث: أن بعض هذا اللحن خرج من هؤلاء الكبار على وجه التسامح كراهية التكلف في الكلام ولا سيما إذا اتَّضح المعنى واستبان المقصود، كما يروى عن أبي العباس ثعلب أنه كان لا يتكلف إقامة الإعراب في كلامه إذا لم يخش لبساً في العبارة، ذكره أبو البركات الأنباري وغيره. الرابع: أن منه ما يخرج منهم مجاراة لواقع أهل المدن الذين يغلب عليهم اللحن، لأن المدائن مجتمع الناس من العرب والعجم الواردين عليها، وقد سمع الرشيدُ لحناً من الفراء فاستفهمه فقال الفراء: : (يا أمير المؤمنين، إن طباع أهل البدو الإعراب، وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا تحفّظتُ لم ألحن، وإذا رجعتُ إلى الطبع لحنت) فاستحسن الرشيدُ قولَه. ولهذا كان منهم من يستهون اللحن كما حُكي عن الإمام إبراهيم الحربي أنه قال وقد ذُكر له اللحن: (أيش يكون إذا لحن في كلامه؟ كان هشام النحوي يلحن في كلامه، وكان أبو هريرة يُكلِّم صبيانه بالنبطية) ذكره أبو الحسن القفطي فيما جمعه من (أخبار أنباه النحاة). الخامس: أنه وقع من الفقهاء على سبيل الاحتياط والورع ، لأن من عادة الفقيه أنـه يحتاط ويراعي المقصود من الفتيا وهو فهم المخاطب واستيعابه للحكم الشرعي كما وقع من أبي يوسف القاضي ومالك وغيرهما، والغالب على المستفتي أن يكون من العوام، ألا ترى أنه لو استفتاه الخواص من العلماء والأمراء فإنه يحرر الجواب مكتوباً أو مشافهة على غاية الاستقامة والإعراب، كما في رسالة مالك إلى الليث بن سعد ورسالته إلى الرشيد. فعُلم بـهذا أن منه ما يكون أيضاً على جهة الاحتياط خشية أن يلتبس الحكم على العامة فيقع الواحد منهم في محظور، كالذي وقع في فتيا ابن عباس في متعة النساء، فإنه لما سمع الأعرابي يُنشد: قد قلتُ للشيخ لمّا طال محبِسُه ![]() يا صاح هل لكَ في فُتيا ابنِ عباسِ ![]() هل لكَ في رُخصةِ الأطراف بهكنةٍ ![]() تكون مثواكَ حتى مصدَر الناسِ ![]() ومعنى بـهكنة أي: ناعمة، فقال ابن عباس: قاتلهم الله، ما أرخصتُ في المتعة إلا كما أرخص الله في الميتة للمضطر. وهذا من جنس ما كان قبل فشو اللحن في العامة، فقد كانوا يراعون الإعجام والنقط في الخط احتياطاً من الغلط في المعنى وسوء الفهم، كالذي روي أن بعض الولاة كتب إلى عامله على الكوفة يقول: احصوا لنا المخنَّثين؟ فقرأها بالمعجمة فدعا بـهم وخصاهم كما تُخصى البهائم.! وهذا كثير في الأخبار وقد اعتنى بجمعه بعض العلماء من أهل المعرفة بالأخبار والنوادر كأبي عمرو الجاحظ وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما. وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: (أكثر من ضلَّ بالعراق من جهلهم بالعربية) يريد لأن كثيراً من العامة يغلطون في فهم المعاني المقصودة للشارع لعدم درايتهم بأساليب الكلام العربي، فيندفعون إلى البدعة لأجل ذلك، وهذا لفشو اللحن فصار العوام يقعون في البدعة من جهلهم بالعربية، فاحتاج أهل العلم إلى مراعاة إفهامهم، فتسامحوا في الكلام حتى تنزلوا إلى أذهانـهم وخاطبوهم بما يعقلون عنهم ويفهمون منهم. والأصل في هذا ما رواه البخاري عن أمير المؤمنين علي أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله) وقال ابن مسعود: (ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولُهم, إلا كان لبعضهم فتنة) ذكره مسلم في مقدمة كتابه. ألا ترى أن عمرو بن عبيد وكان رئيس المعتزلة إنما أنكر الشفاعة وخروج العصاة الموحدين من النار، لأنه توهَّم أن وعيد الله تعالى للعصاة بالنار واجب لا يخلف، فقال له أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أُتِيتَ يا أبا عثمان، إنّ الوعدَ غير الوعيد، إن العربَ لا تعُدُّ عاراً ولا خُلفاً أن لا تفي بالشرِّ، والله عز وجل إذا وعد وفَّى، وإذا أوعد ثم لم يفعل كان ذلك منه كرماً وتفضُّلاً، وإنما الخُلف أن تعِدَ خيراً ثم لا تفعله. فقال عمرو بن عبيد: وأجد هذا في كلام العرب.؟ قال: نعم، أما سمعتَ قول الأول: لا يرهبُ ابنُ العمِّ والجارُ صولتي ![]() ولا أنثني من صَولة المُتهدِّدِ ![]() وإني إذا أوعدته أو وعدته ![]() لمُخلِفُ إيعادي ومُنجِزُ موعدي ![]() السادس: وإيضاً فقد يقع منهم اللحن لاجتناب سخرية السفهاء من العامة، فإن بعض العامة قد كان يسخر من الفصحاء البلغاء ولا سيما بعد فشو العامية وانتشار اللحن، كالذي يقع للواحد منا في زماننا هذا من العامة إذا هو تكلم بالفصحى. وقد حكى ابنُ شاذان قال: بكّر نفطويه إلى درب الرواسين، فلم يعرف الموضع، فتقدّم إلى رجلٍ يبيع البقلَ فقال له: أيها الشيخ كيف الطريقُ إلى درب الرواسين.؟ قال: فالتفتَ البقليُّ إلى جارٍ له فقال: يافلان ألا ترى إلى الغلام فعل الله به وصنع, قد احتبس عليّ.! قال: وما الذي تريد منه.؟ فقال: عوّق السِّلْقَ عليَّ فما عندي ما أصفعُ به هذا العاضَّ بظر أُمّه.! فانسلَّ نفطويه ولم يجبه. ومنه ما حكي أن نحوياً اكترى قارباً يعبر به في دجلة من الكرخ إلى الرصافة، فجعل يفصح في كلامه مع المفلوك حتى قال له حين رأى على وجهه كراهية حديثه: يا هذا أتعرف النحو.؟ فقال المفلوك: لا. قال النحوي: ذهب نصف عمرك.! فعمد المفلوك إلى قاربه فخرقه، وقال للنحوي: أتعرف السباحة.؟ فقال: لا، فقال: ذهب عمرك كله.! والأخبار كثيرة في هذا المعنى في كتب النوادر والتراجم. السابع: أن منه ما له وجه في العربية، كما روي عن أبي حنيفة في الحكاية القُبيسية وهي قوله: لو أن رجلاً ضرب رجلاً بحجر عظيم فقتله، كان على العاقلة ديته، ولو ضربه بأبا قبيس كان على العاقلة. وقد أنكرها عليه أبو العباس المبرد وتبعه ابن عبد ربه وغيره، وهم محجوجون بالسماع عن العرب قولهم (ضربتُ يداه) ومنه حديث البخاري في قصة قتل ابني عفراء لأبي جهل وفيه أن ابن مسعود قال له: (أنتَ أبا جهل..) الحديث. ونقله الأئمة كأبي زيد الأنصاري والكسائي وغيرهما من أهل اللغة عن بعض العرب كربيعة وبلحارث وزبيد وخثعم وهمدان وغيرهم، وأنشدوا: إنَّ أباها وأبا أباها ♦♦♦ قد بلغا في المجد غايتاها وكان القياس أن يقول: غايتيها، ولذا قال العلامة جمال الدين ابن هشام في (التخليص) في ردِّ قول من غلّط أبا حنيفة: (ولم يطّلع ابنُ عبد ربه على لغة القصر في الأب مع شهرتـها، فلحَّنَ بعضَ الأئمة في قوله: ولو ضربه بأبا قبيس).! وقال الوزير أبو الحسن القفطي: (وهذا ليس يقدح في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، فإن الفرقة النازلة بالكوفة من العرب كانوا لا يُظهرون الإعرابَ في تثنية مثل هذا). ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء: (لقد هممتُ أن لا أُلـَحـِّنَ أحداً من سعة العربية) وذكر الشافعي في (الرسالة) أن لسان العرب متَّسع لا يُحيط به إلا نبيٌّ. الثامن: أن منه ما لا يصح عنهم، وقد ردّ العلامة المعلمي في كتاب (الرد على الكوثري) حكاية مالك بالطعن في راويها أبي العيناء وأنه كان يضع الحديث ولم يكن ثقة، وأنـها منكرة المتن لأن الأصمعيَّ كان يعظّم مالكاً ويفتخر بأنه روى عنه. وفيه نظر فإن أبا العيناء هذا هو محمد بن القاسم بن خلاد الضرير معروف بنقل اللغة ورواية الأخبار، وإنما ضعفوه في الحديث خاصة، قال الذهبي في (الميزان): (أخباري شهير صاحب نوادر، حدَّث عن أبي النبيل وطائفة، حدّث عنه الصولي وأحمد بن كامل وابن نجيح، قال الدارقطني: ليس بقوي في الحديث، يقال: مات سنة اثنتين ومائتين). لكنها عندي منكرة المتن فإن اللحن المذكور فيها مما لا يخفى على من يتقفّر العلم من الناشئة ونحوهم, فلا يلحن فيه أحد منهم في ذلك الوقت، فكيف بمثل مالك في إمامته وفضله وعلمه.؟! وهذا كتاب مالك بين ظهرانينا يشهد بفصاحته وبسطته في علوم اللسان, ولو كان لُحَنةً لوقع له فيه شئ من ذلك، ولنبّه عليه الشراح وتكلموا فيه وأصلحوه، ومالك رحمه الله هو القائل: (الإعرابُ حَلْي اللسان، فلا تـمنعوا ألسنتكم حَلْيَها) وبعيد على هؤلاء السادة الأئمة أن يأمروا بشيء ثم لا يفعلونه. وهكذا ما يروى في حكاية امتحان الكسائي للقاضي أبي يوسف فإن معرفة الفرق بين فتح (إن) وكسرها، وبين الإضافة والنصب، مما لا يخفى على نبهاء الطلبة، فكيف بأبي يوسف القاضي في فضله وفقهه وذكاء قريحته وجودة فهمه وثاقب نظره وهذه كتبه كــ(الخراج) وغيره عندنا فأين اللحنُ فيها؟! على أن مثل هذه الدقائق والعُضل مما اشتُهر بـحلها أبو حنيفة وأصحابُه.!؟ وأيضاً فقد أجمع العلماء على أن معرفة اللغة والعلم بأساليب اللسان من شرائط الاجتهاد التي لا يكون من قصر عن تحصيلها مجتهداً، وأجمعوا على أن أبا حنيفة ومالكاً وأبا يوسف ونظراءهم من أئمة الاجتهاد، فينتج أن اللحن عنهم مدفوع ممنوع، وإلا لزم عدم بلوغهم رتبة الاجتهاد، واللازم فاسد فالملزوم مثله. التاسع: أن منه ما يكون بحضرة الملوك فيقع منهم إما هيبة للملوك كما في خبر دخول الفضل بن العباس على كافور الأخشيد، فدعا له بقوله: (أدام الله أيامِ سيدنا) بخفض الأيام! فتبسَّمَ كافور، فقال أبو إسحاق النُجيرمي النحوي يعتذر له: لا غرو أنْ لحنَ الداعي لسيِّدِنا ![]() وغَصَّ من هيبةٍ بالريق والبَهَرِ ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() وغَصَّ من هيبةٍ بالريق والبَهَرِ ![]() فمثلُ سيِّدِنا حالتْ مهابتُهُ ![]() بين البليغ وبين القول بالحَصَرِ ![]() فإن يكُنْ خفَضَ الأيامَ عن دَهَشٍ ![]() من شدَّة الخوف لا من قِلَّة البَصَرِ ![]() فقد تفاءَلتُ من هذا لسيِّدِنا ![]() والفألُ مأثَرةٌ عن سيِّدِ البشَرِ ![]() بأنَّ أيامَهُ خفضٌ بلا نَصَبٍ ![]() وأنَّ دولَتَهُ صفوٌ بلا كَدَرِ ![]() أو خرج منهم مراعاة للأدب في مخاطبتهم بما ليس من منتحلاتـهم منعاً لوقوعهم في الحرج بحضور الناس فتقلّ هيبة الملك في نفوس العامة، إذ كان يقبح في عرفهم أن يلحن الملك أو الأمير. كما روي عن المأمون أن بعض العلماء تكلم في مجلسه بغامض لم يفهمه المأمون، فلما خفَّ المجلس خلا به المأمون وقال له: لا تتكلم في مجلسنا بما لا نُحسنه، وإذا أردت ذلك فأعلمنا به فإنه يقبح بالأمير الجهل.! وذكر أبو بكر الزبيدي عن أبان بن عثمان أنه قال: (اللحن في الرجل السَّريِّ، كالتغيير في الثوب الجديد). وقد ذكر القاضي أبو الفرج المعافى الجريري في (نوادره) أن النضر بن شُميل حضر عند المأمون فجرى ذكر النساء فحدّث المأمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج الرجلُ المرأةَ لدينها وجمالها كان فيها سَداد من عَوز) فأورده بفتح السين.! قال: فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم؛ حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج الرجلُ المرأةَ لدينها وجمالها كان فيها سِداد من عَوز) فأورده بالكسر. قال: وكان المأمون مُتَّكئاً فاستوى جالساً، وقال: يا نضر، كيف قلت: سِداد؟ قلت: نعم، لأن السَّداد ههنا لحن. قال: أو تُلحّنني! قلت: إنما لحن هشيم وكان لحاناً، فتبع أميرُ المؤمنين لفظَه.! قال: فما الفرق بينهما؟ قال فقلت: السَّداد بالفتح: القصد في الدين والسبيل، والسِّداد بالكسر: البُلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سِداد. قال: أو تعرف العرب ذلك.؟ قلت: نعم، هذا العَرْجي يقول: أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ![]() ليوم كريهة وسِداد ثغرِ ![]() كأنِّي لم أكُنْ فيهمْ وسيطًا ![]() ولم تكُ نسبتي في آل عَمْرِ ![]() فقال المأمون: قبّح الله من لا أدبَ له. وحكى القفطي عن الحجاج أنه بلغه أن يحيى بن يعمر يقول: إن الحسن والحسين عليهما السلام من ذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحيى يومئذ بخراسان، فكتب إلى قتيبة بن مسلم: أن ابعث إليَّ بيحيى بن يعمر، فبعث به إليه. فقال: أنت الذي تزعم أن الحسن والحسين من ذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! والله لأُلقيّنَّ الأكثرَ منك شعراً أو لتخرُجَنَّ من ذلك. قال: فإن الله جل وعز يقول: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى..) الاية، وما بين عيسى وإبراهيم أكثرمما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.؟! فقال الحجاج: ما أراك إلا وقد خرجت، والله لقد قرأتـها وما علمت بـها قطّ، خبِّرني عني هل ألحن.؟ فقال: أما إذ سألتني أيها الأمير، فإنك ترفع ما يوضع، وتضع ما يرفع.! فقال الحجاج: ذلك والله اللحن السيئ. فقال يحيى: وتلحن في حروف.! قال: فأين؟ قال: في القرآن، قال: ذاك أشنع ما هو.؟ قال: تقول: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ..) إلى قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) تقرؤها بالرفع.! قال: لا جرم، لا تسمع لي لحناً. وحُكي أن رجلاً دخل على عبد العزيز بن مروان يشكو إليه صهراً له فقال له: (من ختنَك) بالفتح.! فقال الرجل: ليس الختان الذي يختتن الناس.! فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك ما هذا الجواب.؟ فقال: أيها الأمير إنك لحنت، والرجل يعرف اللحنة، وينبغي أن تقول له (من ختنُك) بالضمّ. فقال عبد العزيز: أُراني أتكلّم بكلام لا تعرفهُ العرب، والله لا شاهدتُ الناس حتى أعرف اللحن.! فأقام في بيته جمعةً لا يظهر، ومعه من يُعلِّمهُ العربية، فصلى بالناسِ الجمعة الأخرى وهو من أفصح الناس، ثمَّ كان بعد ذلك يُعطي على العربية ويمنع على اللحن.! بل إن من الملوك من يستعظم اللحن جداً، فكان عمر بن عبد العزيز قد حضر خطبة للوليد بن عبد الملك وكان لحاناً، فقال في خطبته: يا أهلُ المدينة، بالضم، فنكس عمر رأسه واسترجع.! ومما حُكي عن عبد الملك بن مروان أنه أُتيَ بخارجي من الشبيبية فأمر بضرب عنقه وقال له: ألست القائل: ومنا سويدٌ والبطينُ وقعنبُ ♦♦♦ ومنا أميرُ المؤمنين شبيبُ فقال: ما هكذا قلت يا أمير المؤمنين، ولكن قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ ونصب، فأطلقه عبد الملك وعفا عنه.! فإذا كان هذا اللحن يقبح في أيامهم بالملوك فكيف يليق بالأئمة العلماء، وإذا كان ملوك الدنيا يستعظمون اللحن حتى يُجزلون العطاء على اجتنابه وإقامة الإعراب، فكيف بملوك الآخرة، أعني أهلَ العلم.؟! ومن مستملح ما بلغنا من الأخبار أن صدام حسين كان قد نصب ابنَ عمه حسين كامل وزيراً للصناعة وكان جاهلاً أحمق، فزار يوماً مصنعاً للمعدات الحربية فجعل كبيرُ المهندسين يطوف به ويشرح له، ويخاطبه على العادة ببعض المصطلحات الإنجليزية العلمية التي تجري على ألسنة المهندسين. حتى ذكر له أن بعض الصناعات متوقف لعدم القدرة على إنتاج الـ(steam) فظن هو لجهله أنه يريد الـ(سيم) وهو بالعامية ما يُغسل به أطباق الطعام، فقال من فوره: اجمعوا كل ما في السوق من الــ(سيم) فضحك المهندسون ووقع هو في حرج شديد دفعه إلى إصدار قانون بمنع التحدُّث مع الوزير بغير العربية.! ولهذا قال الخليل: أيُّ شيءٍ من اللِّباس على ذي السَّ ![]() رْو أبهى من اللسان البَهيِّ ![]() ينظِمُ الحُجةَ الشَّتيتةَ في السِّلْ ![]() كِ من القول مثل عِقْد الهَدِيِّ ![]() وترى اللحنَ بالحسيب أخي الهي ![]() ئةِ مثل الصَّدَا على المَشْرَفِيِّ ![]() العاشر: ومن اللحن ما يكون مقصوداً لهم وهم يعلمون أنه لحن، لكن جرى منهم على سبيل اتّباع الرواية، كما مر في حديث قتل أبي جهل وقول ابن مسعود له: (أنت أبا جهل) قال ابن علية: قال سُليم هكذا، أي هكذا الرواية والسماع. وأيضاً فقد عُلم أن بعض الرواة كان يكون لُحَنةً لا يُقيم إعراب الغامض من الحروف الواقعة في المرويات، فيرويه ملحوناً فيسمعه منه هؤلاء السادة الأعيان فيروونه كما سمعوه احتياطاً أن يكون موجوداً مروياً في اللغة، ولا يعرفونه لسعة العربية كما تقدَّم. ولأن من مذهب بعضهم منع الرواية بالمعنى لغير العارف بالعربية، وفي غير الألفاظ التي يُتعبد بـها كألفاظ التشهد ونحو لك، وقد قال بعض العلماء: روايةُ الحديث بالمعنى اختلفْ ![]() فيها كثيرٌ من أكابر السلفْ ![]() فذهبتْ لمنعِهِ منهمْ زُمَرْ ![]() موافقو عبد الإله ابنِ عمرْ ![]() والحقُّ أنَّ العارَ كلَّ العار في ![]() تغيير لفظِهِ لغير العارفِ ![]() الحادي عشر: ومن اللحن ما يجري سهواً على ألسنة الكبار فينقله الناس دون فحص ومحص، وتسير به الركبان وما هو بلحن، وإنما زلة لسان وكبوة جواد، وقد قال الفرّاء: سمعتُ الكسائيَّ يقول: (ربما سبقني لساني باللحن فلا يُـمكنني أن أردَّه). وفي حكاية الكسائي مع الرشيد أنه قرأ وهو يؤمه: (لعلهم ترجعين).! فقال الرشيد بعد فراغه من الصلاة وقد تـهيَّب أن يفتح عليه: أهي قراءة.؟ فقال الكسائي: لا، ولكن الجواد قد يعثر. فقال: أما هذا فنعم. ومن عجب أن الكسائي اجتمع واليزيدي عند الرشيد، فحضرت صلاة الجهر فقدَّموا الكسائي فصلى بـهم، فأُرْتِجَ عليه في قراءة: (قل يا أيها الكافرون) فلما سلَّم قال اليزيدي: قارئ أهل الكوفة يُرْتَجُ عليه في (قل يا أيها الكافرون).! فحضرت صلاة الجهر وتقدَّم اليزيدي فصلى، فأُرْتِجَ عليه في سورة الحمد، فلما سلم قال: احفظْ لسانَكَ لا تقولُ فتُبتلى ♦♦♦ إنَّ البلاءَ مُوكَّلٌ بالمنطقِ وما أحسن ما قال العلامة العيني رحمه الله: (ومن شأن المسلم ومقتضى الإسلام أن لا يتكلم في حقِّ إمام من هؤلاء الأئمة، ولا سيما الأئمة الأربعة؛ فإنـهم من خواص الله تعالى وسُرج دينه المتين). آخره والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |