شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 56 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4868 - عددالزوار : 1848984 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4435 - عددالزوار : 1189300 )           »          الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          النقد العلمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          لماذا يشعر بعض المسلمين أحيانا بثقل بعض الأحكام الشرعية وعدم صلاحيتها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          وحدة الأمة الإسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          التراجم: نماذج من المستشرقين المنصِّرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 8537 )           »          أبرز المعالم التاريخية الأثرية والدينية في قطاع غزة كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 581 - عددالزوار : 305173 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #551  
قديم 15-05-2025, 07:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



مراتب الغضب
والغضب له ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: بداية الغضب التي يملك الإنسان فيها نفسه، ويسيطر فيها على مشاعره وأقواله وأفعاله.
المرتبة الثانية: غاية الغضب، بأن يكون كالمجنون، لا يعي ما يقول، بحيث لو تلفظ بالشيء ثم قيل له بعد انتهاء غضبه وانكسار ثورته: إنك قلت: كذا وكذا، لا يتذكر أنه قال هذا الشيء، ولربما ينكر ويقول: ما وقع هذا مني، فهذه غاية الغضب، ففي الحالة الأولى يكون بداية الغضب، والحالة الثانية عكسها: نهاية الغضب.
وهناك مرتبة ثالثة مترددة بين المرتبتين وهي: أن يفقد السيطرة تارة، ويتمالك نفسه تارة، فهو متردد بين التمالك وعدمه؛ فإن كان في الحالة الأولى وهي أن يكون في بداية الغضب فإن طلاقه يقع بإجماع العلماء؛ لأن الإنسان في الأصل لا يطلق امرأته إلا وهو غاضب عليها، فلا يوجد أحد يكون جالسا مع امرأته يضحك معها ويقول لها: أنت طالق.
فالأصل: أن الطلاق لا يكون إلا بسبب، إما لاستثارة من الزوجة، أو أمر يكون بينه وبين زوجته، فالغضب غالبا يكون مصاحبا للطلاق، فإذا: بإجماع العلماء أن بداية الغضب يقع فيها الطلاق.
الحالة الثانية: وهي نهاية الغضب، والتي يصل فيها إلى درجة لا يفرق فيها بين السماء والأرض، بل حتى إن بعضهم -نسأل الله السلامة والعافية- ربما لا يعرف أن التي أمامه زوجته، ويقول: امرأتي طالق، امرأتي طالق، نسائي طوالق ونحو ذلك من شدة ما هو فيه، فهذا النوع الذي وصل إلى غاية الغضب الذي يفقد به عقله -والعياذ بالله- وإدراكه، ولا يستطيع أن يتحكم في تصرفاته، لا ينفذ طلاقه وجها واحدا عند العلماء رحمهم الله، وينازع في ذلك بعض أصحاب المذاهب ويقول: إنه ينفذ مطلقا على الأصل الذي يقرر، فهل تدخل هذه الحالة عندهم أو لا؟ الظاهر من أصول الشريعة: أنها لا تدخل؛ لأن الغضبان في هذه الحالة ينبغي أن يقال: إنه مجنون، ويأخذ حكم الجنون المتقطع؛ لأنه إذا وصل به غضبه إلى درجة لا يعي بها ما الذي أمامه، ولا يستشعر أن التي أمامه زوجه، فهو كالمجنون، ويعرف هذا بقرائن وأدلة، فبعض الناس الذين عرفوا بالعصبية، لا يتوقف أمره على الطلاق، بل يعرف أنه في أي قضية إذا استفزه أحد واستثاره فإنه يصل إلى غاية الغضب؛ ويتكلم ولا يعي ماذا يقول، ولربما يتكلم بالكفر -والعياذ بالله- والردة، فهذا في حكم المجنون؛ ولذلك قال بعض العلماء: إنه إجماع؛ لأنه في الحقيقة ينبغي أن يكون مندرجا تحت مسألة المجنون، وعلى هذا: إذا وصل به الغضب إلى هذه الحالة، وهو يعلم أنه فيما بينه وبين الله لا يتذكر امرأته ولا يعرف ما الذي أمامه، ولا يعي ما الذي قاله؛ فإنه لا ينفذ عليه طلاقه.
الحالة الثانية: وهي المترددة، وتقع مثل ما ذكرنا في السكران، فمنهم من يقول: الأصل فيه أنه مؤاخذ فنستصحب حكم الأصل ونمضي عليه الطلاق، ونقول هنا: هل غضبه أوصله للجنون أو لا؟ فلما خاطب امرأته أمامه وقال: امرأتي فلانة طالق، فمعنى ذلك أن عنده تمييزا وإدراكا، ويعلم أن التي أمامه هي امرأته، ولذلك قالوا: نؤاخذه بطلاقه، وقال بعض العلماء: إذا كان في هذه الحالة المترددة فلا ينفذ عليه طلاقه، واستدلوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق في إغلاق) ، والصحيح: أنه إذا استشعر أنه طلق، واستشعر أنها امرأته، فإنه ينفذ عليه طلاقه في هذه الحالة وهذا هو الأصل، والإغلاق هنا ليس بتام، وإنما يكون الإغلاق مؤثرا إذا تم وفقد معه السيطرة على ألفاظه وكلامه.
وهناك بعض القرائن التي تدل على أن طلاقه يقع، كرجل يكون مع امرأته ويطلقها ويقول: أنا غضبان، فإذا جاء يدعي الغضب تسأله عن حالته فإن قال لك: كنت مع زوجتي فاستثارتني وقلت لها: إن أغضبتيني سأطلقك، أو سيكون طلاقك، فأغضبته ثم طلق، فتعلم أنه في هذه الحالة مدرك لوعيه؛ لأنه أنفذ ما وعد، ففي حالة الغضب: يقع كثير من التلاعب من الناس، وينبغي على العالم أن يكون حذرا فطنا من تلاعب الناس؛ لأن الطلاق أمره عظيم، ومن طلق وتلاعب بطلاقه وادعى أنه لا يعلم، وأنه فاقد لشعوره وأنه وأنه فينبغي الحيطة في أمره؛ فإن الناس فتنة، والرجل إذا طلقت عليه امرأته -خاصة إذا كانت الطلقة الأخيرة- فإنه يصبح كالمجنون -والعياذ بالله- فيحرف في الألفاظ ويغير فيها ويبدل، ويدعي أمورا قد لا تكون حقيقة، ولذلك ينبغي الاحتياط في مثل هذه المسائل.
ولا ينبغي فتح الباب لكل من هب ودب إذا ادعى أنه غضبان أن يقبل قوله، إنما يقبل لو شهد ثقات وأناس من أهله أنه رجل عصبي المزاج، وأنه إذا استثير يصل إلى درجة لا يعي فيها ما يقوله ويفعله، أو شهد زملاؤه في عمله على ذلك أو نحو ذلك من الأدلة التي تثبت أن غضبه مؤثر، فمثل هذا إذا وصل إلى حالة يفقد فيها السيطرة على نفسه واستغلق عليه الأمر فالأشبه أن طلاقه لا يقع.
حكم الوكالة في الطلاق
قال رحمه الله: [ووكيله كهو] .
المطلق لا يخلو إما أن يكون الشخص نفسه، أو وكيله الذي وكله بتطليق زوجته، أو القاضي، أو ولي الصبي، أو يكون الحكمان، فهذه خمسة أحوال للشخص المطلق.
فعادة العلماء رحمهم الله في بيان الطلاق ومسائله: أن يعتنوا ببيان هذا الركن وهو الشخص المطلق، فقال رحمه الله: (ووكيله) فبعد أن بين حكم الأصيل (الزوج) ، شرع في بيان حكم الوكيل.
أحوال الوكيل
والوكيل له حالتان: الحالة الأولى: أن يوكل وكالة مطلقة، والحالة الثانية: أن يوكل وكالة مقيدة، وهو أي: الوكيل، ينزل منزلة الموكل، فبإجماع العلماء أن من وكل شخصا في تطليق زوجته فإنه ينفذ طلاقه كطلاق الزوج، ويكون نفوذ الطلاق في حدود الوكالة، وزمان الوكالة ومكانها إذا قيدت بالزمان أو المكان، وعددها إن قيدت بالعدد؛ فإذا (وكيله كهو) ، أي: وكيل الزوج كالزوج في الطلاق، ينفذ طلاقه إذا وكله وكالة صحيحة.
وهناك: المفوض، الشخص الذي يفوض بالطلاق، فالوكيل يتقيد، والمفوض لا يتقيد، ولذلك ربما أنه لو مات الموكل انفسخت الوكالة؛ لكن في التفويض لا تنفسخ؛ ولذلك المفوض أقوى من الموكل، فمن فوض إليه الأمر ليس كالوكيل، أما الوكيل كهو، أي: كالزوج.
فالتوكيل إما أن يكون مطلقا، وإما أن يكون مقيدا، يقول له: وكلتك في تطليق زوجتي فلانة، هذا توكيل بالطلاق لزوجة معينة، وهذا إن كان عنده أكثر من زوجة، وربما يطلق له ويقول: وكلتك في تطليق نسائي بما شئت ومتى شئت، فهذا توكيل عام، ويكون الوكيل فيه له حق الطلاق عموما.
أما التوكيل المقيد: فإنه يتقيد بالزمان ويتقيد بالمكان ويتقيد بالعدد ونحو ذلك.
يتقيد بالزمان كأن يقول له: وكلتك في تطليق زوجتي اليوم، فإذا انتهى اليوم وغابت شمسه، انفسخت الوكالة؛ فإن لم يطلق قبل غروب الشمس فلا طلاق، وإن طلق قبل الغروب؛ فإنه ينفذ طلاقه ما لم يفسخ الزوج تلك الوكالة.
إذا: إذا قيد بالزمان فلا يقع الطلاق إلا في حدود الزمان، فإن وقع الطلاق بعد الزمان الذي قيد به لم ينفذ، وإن وقع في أثنائه نفذ إلا أن يكون الموكل قد فسخ الوكالة.
ويتقيد بالمكان، يقول له: وكلتك أن تطلق زوجتي في هذا المجلس، فيتقيد بالمكان وما دام أنه في المجلس ينفذ عليه الطلاق، فإن فارق المجلس لم ينفذ عليه الطلاق، وهو موكل بالطلاق ما لم يفسخ الزوج توكيله؛ فإن فسخ الزوج توكيله فإنه ينفسخ، ويكون وجود طلاقه وعدمه على حد سواء.
ويتقيد بالعدد بالنسبة للفظ الطلاق؛ كقوله: وكلتك في تطليق زوجتي طلقة واحدة، ويتقيد بالعدد بالنسبة للنساء، فيقول: وكلتك في تطليق زوجتين من نسائي، أو امرأتين من نسائي، فلانة وفلانة، فيحدد له، فيتقيد بطلاق هاتين، ولا يقع طلاقه إذا كان لغير هاتين المرأتين؛ فالتقييد والإطلاق معتبر، فالوكالة للطلاق تصح مطلقة وتصح مقيدة.
وعلى الوكيل أن يتقي الله عز وجل، فالوكالة ليست بمحل للتلاعب والإضرار والإساءة والأذية، فإنه إذا وكل إليه الطلاق فعليه أن ينصح وأن يتقي الله عز وجل، وهذا كثيرا ما يقع بين الولد مع والده، فيقول له: وكلتك أن تطلق امرأتي، فعلى الوالد أن يتقي الله في ولده، ولربما يقع بين الأخ وأخيه مشاكل بسبب الزوجات فيقول أحدهما لأبيه: وكلتك؛ فعلى الأب أن يتقي الله؛ لأن الله عز وجل جعل الطلاق من حدوده، وحذر عباده أن يستخفوا بهذه الحدود وأن يتعدوا محارم الله فيها.
فعلى المسلم أن يتقي الله سواء كان أصيلا -زوجا- أو وكيلا، فالطلاق أمره عظيم، ومن النصيحة أن يحس أن هذه المرأة كأنها ابنته وكأنها أخته، فهل يرضى طلاقها؟ فعليه أن ينظر في الأصلح وأن يتقي الله عز وجل وأن ينصح لمن وكله.
قوله: (ويطلق واحدة) ويطلق واحدة إن قال له: واحدة، والأصل يقتضي أن له أن يطلق الطلاق كله ثلاث تطليقات، ويملك الثلاث كما يملكها الأصيل (الزوج) ؛ لأن القاعدة: أن الوكيل منزل منزلة الأصيل (الزوج) .
فإذا قال له: وكلتك في تطليق نسائي وأطلق، فلو طلق ثلاثا مضت ثلاثا، ولو طلق طلقتين مضت طلقتين، وأما لو قيد له ذلك وقال: وكلتك أن تطلق نسائي طلقة واحدة فلا إشكال، ويتقيد بهذه الواحدة.
وقوله: (ومتى شاء) .
أي: إن أطلق له، أما لو قيد وقال له: وكلتك مدة جلوسك في المجلس، وكلتك أن تطلق امرأتي في هذا المجلس فليس متى شاء؛ إنما يكون مقيدا بتقييد الأصيل -الزوج- له.
قال رحمه الله: [إلا أن يعين له وقتا وعددا] .
كما ذكرنا.
حكم توكيل المرأة في طلاق نفسها
قال رحمه الله: [وامرأته كوكيله في طلاق نفسها] .
كذلك لو وكل امرأته، وقضى بذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: أنه إذا وكل المرأة أن تطلق نفسها وجعل الطلاق إليها وكالة؛ فإنه يمضي طلاقها وينفذ ما لم يفسخ توكيله لها.



الأسئلة



الوقت المعتبر في حصول الأثر المترتب على الطلاق
السؤال هل المعتبر في وقوع الطلاق إصداره من الزوج أم وقت وصول الخبر للزوجة؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا طلق الرجل امرأته مضى الطلاق ونفذ من حينه، وأما مسألة بلوغ الخبر إليها فإنه لا يؤثر في الإيقاع، فهو واقع من حين أن يتلفظ به، فلو تلفظ به الساعة ثم توفي وبلغها خبر الطلاق بعد شهرين فهي مطلقة من حين تلفظه به، أما لو كان مريضا مرض الموت وطلق فهذا يسمى طلاق الفار، وهو الذي يريد أن يمنع ويحرم امرأته من الميراث، وهذه المسألة قضى الصحابة رضوان الله عليهم فيها بتوريث المرأة.
لكن الكلام هنا لو طلق المرأة الساعة الثانية ظهرا ثم خرج، فوقع له حادث وتوفي، وبلغها الخبر بعد شهر أو شهرين فهي طالق، ويعتبر طلاقا نافذا من حينه لكن مسألة الحداد، يعني: المرأة يتوفى زوجها في شهر شوال ولا يبلغها الخبر إلا بعد أربعة أشهر وعشرا، فهل ما يتعتبر في الحداد غير ما يعتبر في الطلاق، أي: هل العبرة فيه ببلوغ الخبر أم العبرة بالوفاة؟ مثال ذلك: رجل توفي اليوم، وهو في الخارج أو في بلد بعيد، والمرأة لم تعلم بوفاته إلا بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فلما بلغها الخبر وقد مضت مدة الحداد، فهل نقول: الحداد العبرة فيه بالوفاة، فحينئذ انتهى حدادها؛ لأن المدة التي بين بلوغ الخبر وبين الوفاة استغرقت مدة الحداد فلا إشكال؟ هذا وجه في المسألة.
وبناء على ذلك: لو توفي في أول شوال وبلغها الخبر في آخر ذي القعدة؛ فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام لأنه قد مضى عليها نصف المدة؛ لأن العبرة بالوفاة لا ببلوغ الخبر، والصحيح: أن العبرة في الحداد ببلوغ الخبر، فلو بلغها الخبر بعد سنة لزمها الحداد؛ لأن الحداد عبادة ولا يصح إلا بنية، وهي لم تحتد ولم يقع منها حداد ولم تقصد الحداد فلم يقع المأمور به شرعا، والذي أمرت به المرأة هو عبادة لله عز وجل وتقرب، فعلى هذا: العبرة ببلوغ الخبر وليس بالوفاة، فهناك فرق بين الحداد وبين الطلاق من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
الفرق بين قول الزوج لزوجته: (أمرك بيدك) وتوكيلها في طلاق نفسها
السؤال ما الفرق بين قول الرجل لامرأته: أمرك بيدك، وبين توكيل الزوج امرأته في طلاق نفسها؟

الجواب إذا جعل الأمر بيدها أو جعل الخيار لها وقال لها: اختاري نفسك، فهذا يسمى تفويضا، وأما إذا وكلها فهو وكالة، والوكالة لها حكمها، والتفويض له حكمه، وعلى هذا: إن فوض إليها الأمر فالطلاق طلاق تفويض، وإن كان بالوكالة فطلاق وكالة، والله أعلم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجه الكريم وموجبا لرضوانه العظيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #552  
قديم 19-05-2025, 08:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (432)

صـــــ(1) إلى صــ(17)




شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [3]
جعل الله سبحانه الطلاق حقا للزوج يستخدمه عند الحاجة، ولكن لم يجعل له الحرية في التطليق على أي صفة شاء، وإنما قيد هذا الحق بضوابط وقيود حتى لا يكون وسيلة للإضرار بالمرأة.
أنواع الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد ففي هذا الفصل سيتكلم المصنف -رحمه الله- على أنواع الطلاق، فالطلاق له أنواع ذكرها العلماء رحمهم الله، وهي تختلف بحسب اختلاف الاعتبارات المقصودة من التقسيم، فهناك أنواع للطلاق من حيث حكم الشرع، وهناك أنواع من حيث اللفظ، وهناك أنواع من حيث الصيغة، وهناك أنواع من حيث ثبوت الرجعة وعدم ثبوتها.
-
فأما أنواع الطلاق من حيث حكم الشرع فينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الطلاق السني.

والثاني: الطلاق البدعي.
والثالث: الذي هو ليس بسني وليس ببدعي.
فأنواعه من حيث حكم الشرع إما سني وإما بدعي، وإما لا سني ولا بدعي، وسنبين هذا إن شاء الله تعالى أما أنواع الطلاق من حيث اللفظ فينقسم إلى نوعين: النوع الأول: الطلاق الصريح، والنوع الثاني: طلاق الكناية.
كذلك له أنواع من حيث صيغة الطلاق إذا تلفظ بها الزوج، فإما أن تكون منجزة، وإما أن تكون معلقة، أو تكون مضافة، فهذه ثلاثة أنواع: الطلاق المنجز: كأن يقول: أنت طالق.
فينجز عليه الطلاق ويمضي.
الطلاق المضاف: إما للماضي وإما إلى المستقبل: كأن يقول: أنت طالق في آخر الشهر، أنت طالق بالأمس.
الطلاق المضاف إلى الشرط، أو المعلق على الشرط كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن جاء زيد فأنت طالق، إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق، فهذه ثلاثة أنواع: طلاق منجز، وطلاق مضاف، وطلاق معلق.
كذلك هناك أنواع للطلاق من حيث الأثر، هل تثبت معه للزوج الرجعة، أو لا تثبت؟ فينقسم إلى نوعين: النوع الأول: طلاق رجعي، وهو الذي يملك فيه الزوج ارتجاع زوجته في عدتها كأن يطلقها طلقة واحدة بغير عوض ولا خلع وتكون مدخولا بها.
النوع الثاني: وهو الطلاق البائن، وينقسم إلى نوعين: إما بائن بينونة كبرى وإما بائن بينونة صغرى، فالبائن بينونة كبرى: هي التي لا تحل للزوج حتى تنكح زوجا غيره، وهي التي أبانها بالطلقة الثالثة الأخيرة.
وأما بالنسبة للبينونة الصغرى: فهي المطلقة التي لا يملك الزوج معها ارتجاع زوجته إلا بعقد جديد، مثل أن يطلقها قبل الدخول أو يكون طلاق خلع؛ فهذا النوع من الطلاق يسمى بالطلاق البائن بينونة صغرى.
هذه كلها أنواع للطلاق؛ فتارة تجد العلماء يقولون: وهي طلقة بائنة، وتارة يقولون: وهي طلقة رجعية، فهذا تقسيم باعتبار، وتارة يقولون: هذا طلاق السنة، وتارة يقولون: هذا طلاق بدعة.
هذه الأنواع كلها أثبتت نصوص الشريعة التقسيم في أغلبها كما هو الحال في الطلاق السني، والطلاق البدعي كما سيأتي، وكذلك الطلاق البائن والطلاق الرجعي.
أما بالنسبة للتعليق والتنجيز فالأصول تصححه إذا كان منجزا وهو الأصل في الطلاق وهو ماض إعمالا لهذه الأصول، وإن كان معلقا فهذا بينه وبين الله، على ما يفصله العلماء رحمهم الله.
وإذا كان الطلاق ينقسم إلى هذه الأنواع، ويختلف حكمه بحسب اختلافها فلابد للفقيه وطالب العلم من أن يكون على بينة من أنواع الطلاق عند دراسته لأحكامه ومسائله.
أنواع الطلاق من جهة الحكم
فشرع المصنف -رحمه الله- في تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة، وهذا ما يسمى بالتقسيم من جهة الحكم، أي: من جهة حكم الشرع عليه، والطلاق السني مصيب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلق طلاق السنة فإنه لا يندم، قال علي رضي الله عنه: (لا يطلق أحد للسنة فيندم) .
وتوضيح ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بين لعباده الطلاق الذي ينبغي أن تطلق به المرأة على ضوابط سنذكرها -إن شاء الله تعالى- كما في صدر سورة الطلاق، وخاطب بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وبين كذلك أن هذا من حدود الله عز وجل التي ينبغي للمسلم أن يراعيها؛ فلما شدد سبحانه في نوع خاص من المطلقات -وهي المرأة المدخول بها- بقوله: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] أي: المرأة التي لها عدة، لما شدد في هذا النوع من الطلاق كان له حكم خاص؛ ولذلك لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم طلاق ابن عمر لزوجته تماضر رضي الله عنها أنه طلقها في الحيض، وذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يراجعها ورده إلى ظاهر التنزيل، فدل هذا على أن المرأة المدخول بها من ذوات الحيض -أي: ليست بصغيرة ولا كبيرة آيسة- والحائض التي لم تحمل، لها حكم خاص في الطلاق، فينبغي للمسلم أن يطلق بهذه الصفة الشرعية الواردة، فإن أصاب طلاقه هذه الصفة الشرعية كان طلاقا سنيا، أي: مصيبا للسنة وعلى وفق الشرع، وإن خالف فطلق وهي حائض أو طلقها في طهر جامعها فيه فإنه طلاق بدعة، وإذا قيل: إنه طلاق بدعة فهو طلاق الإثم، أي: أن صاحبه آثم لمعصيته لله عز وجل ومعتد لحدود الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) .
إذا ثبت هذا فأولا: ينبغي بيان الطلاق السني، وثانيا: الطلاق البدعي.
شروط الطلاق السني
فأما الطلاق السني: فلابد فيه من أمور لكي نحكم بكون المرأة محلا لطلاق السنة، وهذه الأمور تعتبر بمثابة الشروط المستنبطة من دليل الكتاب والسنة: الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولا بها.
والشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فليست بصغيرة لم تحض بعد، ولا كبيرة انقطع حيضها لليأس.
وثالثا: أن يقع الطلاق حال طهرها.
ورابعا: ألا يكون قد جامعها في ذلك الطهر.
وخامسا: ألا تكون حاملا.
سادسا: أن تكون الطلقة واحدة.
فهذه ستة شروط لا بد من وجودها لكي نحكم بكون الطلاق طلاق سنة: أن تكون المرأة مدخولا بها، وأن تكون من ذوات الحيض: أي بلغت سن المحيض ولم ينقطع حيضها ليأس أو مرض أو نحو ذلك، وثالثا: أن تكون طاهرة، ورابعا: ألا يجامعها في ذلك الطهر الذي يريد أن يطلقها فيه، وخامسا: ألا تكون حاملا، بأن تكون حائلا غير حامل، وسادسا: أن يطلق طلقة واحدة ولا يزيد.
نبدأ بالشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولا بها، بمعنى أن يكون الزوج قد دخل على الزوجة؛ فإن كانت الزوجة لم يدخل بها زوجها وطلقها قبل أن يدخل فطلاقه ليس بمحل لقضية السنة والبدعة، ولذلك يجوز تطليق المرأة قبل الدخول ولو كانت حائضا، والدليل على اشتراط كونها مدخولا بها أن الله سبحانه وتعالى قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، والمرأة غير المدخول بها لا عدة لها، ومعنى الآية: أي: طلقوهن لقبل العدة كما فسره بذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- وكما هو ظاهر السنة في حديث ابن عمر، فأصبح طلاق السنة الملزم به والمأمور به: ينبغي أن يكون في امرأة مدخول بها.
من العلل المستفادة في أن الشريعة منعت من تطليق المرأة وهي حائض: أن هذا يطول عليها العدة، ففيه ضرر على المرأة، وكذلك إذا كانت مدخولا بها في طهر جامعها فيه، ربما طلقها فبانت حاملا منه فيندم ويتألم أنه طلقها وهي أم لولده؛ لكن إذا كانت غير مدخول بها فليس هناك تطويل للعدة، وليس هناك خوف من كونها حاملا، فهو يقدم على الطلاق في بينة من أمره كما لو طلقها وهي طاهر ولم يجامعها.
فإذا: المرأة غير المدخول بها يجوز تطليقها ولو كانت حائضا، فلا يقال: إن المرأة التي لم يدخل بها يجب على من طلقها أن يلتزم السنة في تطليقها؛ فإن أمرها واسع.
إذا الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولا بها، وهذا محل إجماع بين العلماء، أن المرأة التي لم يدخل بها ليست بمحل لطلاق السنة ولا يوصف تطليقها بالبدعة، وهي من النوع الثالث الذي لا سنة ولا بدعة.
الشرط الثاني: أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها ليأس، أو المريضة التي انقطع حيضها بسبب المرض، فالمرأة التي لا تحيض لصغر لا يوصف طلاقها بسنة ولا بدعة مثل غير المدخول بها؛ ولذلك تكون عدتها بالأشهر؛ لأنها لم تحض بعد، والتي يئست كالتي لم تحض فتكون عدتها ثلاثة أشهر، إذا ثبت هذا فإنه لا يوصف الطلاق بكونه سنيا إلا إذا كان في المرأة من ذوات الحيض، وكما ذكرنا أن المرأة الحائض تطول عدتها إن طلقت، وكذلك إذا طهرت من حيضها وجامعها ربما حملت، فإن كانت قد انقطع حيضها أو كانت صغيرة لم تحض؛ فإنه يطلق وهو على بينة من أمره ولا ضرر عليه ولا على الزوجة، فهذا هو الشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط: الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي انقطع حيضها.
الشرط الثالث: أن يطلقها وهي طاهرة، فلا يوصف الطلاق بكونه طلاق سنة، إلا إذا وقع حال الطهر، فلو كانت المرأة حائضا فبالإجماع يعتبر طلاقها طلاق بدعة؛ وذلك لصريح حديث ابن عمر، وظاهر التنزيل في قوله: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] : أي مستقبلات أو في قبل العدة، والمرأة الحائض لا يستقيم فيها ذلك، فإذا الشرط الثالث: أن تكون المرأة طاهرة غير حائض.
الشرط الرابع: ألا يجامعها في ذلك الطهر، فلو أنها طهرت ثم جامعها في ذلك الطهر فإنه يكون طلاقه طلاق بدعة إن وقع بعد ذلك الجماع، فإذا أردنا أن نحكم بكونه طلاق سنة فإنه ينتظر حتى تحيض بعد جماعها، ثم إذا حاضت بعد جماعها وطهرت من حيضها إن شاء طلق وإن شاء أمسك، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليقه لامرأته وهي حائض، قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم يمهلها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسها) ، يعني: قبل أن يجامعها، فدل على أن الطهر الذي جامعها فيه لا يطلقها فيه حتى تطهر منه؛ لأنه ربما جامع فيه فبان حملها فيندم على تطليقها.
فإذا: هنا يخشى أن تحمل المرأة، وغالبا أن الرجل إذا علم أن المرأة حامل منه فإنه يندم على طلاقها ويكون في ذلك ضرر عليه وضرر على ولده، هذا بالنسبة للشرط الرابع.
الشرط الخامس: ألا تكون حاملا: فإذا كانت حاملا؛ فإنه لا يوصف طلاقها ببدعة ولا سنة، فإذا طلقها وهي حامل فإنه حينئذ قد استبان الأمر ويقدم على الطلاق وهو على بينة من أمره وهو مختار لفراقها، والدليل على أن طلاق السنة يكون لغير الحامل قوله عليه الصلاة والسلام: (وليطلقها حائلا أو حاملا) .
قال: (حائلا) أي: في طهر لم يجامعها فيه على التفصيل الذي ذكرناه (أو حاملا) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن الحمل لا يمنع من الطلاق، وأن من حق الرجل أن يطلق زوجته بعد أن علم بحملها؛ فإن طلاقه معتبر وصحيح.
الشرط السادس والأخير: أن يطلق طلقة واحدة ولا يزيد على هذه الطلقة، وهذه الطلقة هي السنة، ومذهب جمهور العلماء على أن من زاد على طلقة واحدة فطلق طلقتين فقال لامرأته: أنت طالق طلقتين أو طالق ثلاثا، أو أنت طالق بالثلاث؛ فإنها بدعة، وقد ارتكب المعصية، فمن يطلق أكثر من طلقة فقد عصى الله ورسوله.
ولذلك ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما وكذلك عن ابن عباس لما جاءه الرجل وقال: (إني طلقت امرأتي مائة فقال له: ثلاث حرمت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزوا) ، وفي رواية: (لعبا) ؛ لأن مثل هذا خلاف الشرع، فالزيادة على الطلقة بدعة ومعصية، وصاحبها آثم شرعا، ومذهب طائفة من العلماء: أن من طلق امرأته أكثر من طلقة، أو طلق امرأته طلاق البدعة فطلقها وهي حائض عالما بحيضها وعلم به القاضي؛ فإن الواجب على القاضي أن يعزره؛ لأنه عصى الله وكذلك اعتدى حدوده، فإذا علم بذلك بإقرار منه وثبت عنده أنه طلق للبدعة فإنه يعزره؛ لمخالفته للسنة.
إذا ثبت هذا فإنه يطلق طلقة واحدة، ولذلك ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل: أنه طلق امرأته ثلاث تطليقات وهي حائض، فقال له: (أما عبد الله بن عمر فقد طلق طلقة واحدة وأما أنت فقد عصيت ربك وبانت منك امرأتك) .
أما أنت فقد عصيت ربك بالبدعة، وبانت منك امرأتك؛ لأن قضاء الصحابة رضوان الله عليهم وجماهيرهم، على أن الثلاث ثلاث.
وبناء على ذلك: فإن الزائد على الطلقة يوصف بالبدعة، ويعتبر طلاق إثم وحرج، ولا يجوز للمسلم أن يتلفظ به، خلافا للشافعية -رحمهم الله- حيث قالوا: إن طلاق الثلاث سنة.
واستدلوا بحديث عويمر العجلاني وهو حديث صحيح: (فإنه لما لاعن امرأته فحلف أيمان اللعان وحلفت امرأته أيمان اللعان فقال: يا رسول الله! إن كذبت عليها فهي طالق بالثلاث) .
فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنها لا تحل له، قالوا: فطلق ثلاثا بحضور النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذا ضعيف، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أن السنة طلقة واحدة وأن الثلاث بدعة، وهل تقع أو لا تقع؟ سيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وذكر أقوال العلماء فيها.
الشاهد: أن طلاق السنة يستجمع هذه الشروط، ومن هنا تستطيع أن تحصر الشروط في ضابطين فتقول: يشترط لطلاق السنة الموضع ويشترط العدد، فلابد من أمرين، أمر يتعلق بالموضع وأمر يتعلق بالعدد، فلا يوصف طلاق بكونه طلاق سنة إلا إذا استجمع هذه.
فأما الموضع: فأن تكون المرأة مدخولا بها طاهرا لم يجامعها في ذلك الطهر، وألا تكون المرأة حاملا، والشرط الذي يتعلق بالعدد أن يطلقها طلقة واحدة، هذا بالنسبة لما ينبغي تحققه للحكم بكون الطلاق طلاق سنة.
قال رحمه الله: [إذا طلقها مرة في طهر لم يجامع فيه] .
إذا طلقها مرة فهذه طلقة واحدة (في طهر لم يجامع فيه) معنى ذلك أنها من ذوات الأطهار، وليست بصغيرة لا تحيض ولا بكبيرة آيسة، فتعد المرأة في هذه الحالة من ذوات الأشهر.
إذا: إذا طلق مرة، أي: طلقة واحدة، (في طهر) فخرج الطلاق في الحيض، وقوله: (لم يجامع فيه) خرج ما إذا جامع في نفس الطهر، وقوله: (في طهر) يستلزم أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فاستجمع -رحمه الله- الشروط بهذا، وقال: (إذا طلق مرة) هذا شرط العدد (في طهر) يجمع شرطين: الشرط الأول: أن تكون المرأة من ذوات الحيض فليست صغيرة ولا كبيرة آيسة؛ وكذلك أن تكون أثناء الطلاق طاهرة، فهنا شرطان: أن تكون من ذوات الحيض؛ لأنه قال: (في طهر) ، ولا تطهر من الحيض إلا الحائض، وأيضا: استلزم شرطا ثانيا مع كونها من ذوات الحيض: أن تكون حال طهرها من الحيض، ولم يجامع فيه؛ وهذا الشرط الرابع، فخرج ما لو جامع المرأة.
أقوال العلماء في حكم الطلاق المجزأ
قال رحمه الله: [وتركها حتى تنقضي عدتها] .
هذه في الحقيقة مسألة تتعلق بتجزئة الطلاق ثلاثا على الأطهار، وتوضيح ذلك: أن بين الجمهور وبين الحنفية -رحمهم الله- خلافا في هذه المسألة، نحن قلنا: إن المرأة يكون طلاقها للسنة بالشروط التي ذكرها المصنف، فقال رحمه الله: (إذا طلق مرة في طهر لم يجامع فيه) ، فنبه على المدخول بها في قوله: (لم يجامع فيه) أي: أنها محل للجماع، ونبه على بقية الشروط على الصورة التي ذكرنا، إذا ثبت هذا فإن الرجل نصفه بكونه مطلقا للسنة إذا وقعت منه طلقة واحدة في الطهر، فلو قال لك قائل: هب أن المرأة حاضت، فلما طهرت من حيضها طلقها طلقة واحدة، فبعد الطلقة ستعتد، وستحيض الحيضة الثانية ثم تطهر بعد حيضتها الثانية فإذا طهرت أردفها طلقة ثانية؛ ثم انتظرت إلى طهرها من الحيضة التي تلي الطلقة الثانية، فلما طهرت منها أردفها الطلقة الثالثة، فجزأ الطلاق ثلاثا، وكل طلقة أوقعها في طهر لم يجامع فيه، فهل يوصف طلاقه بكونه طلاق سنة أو لا يوصف؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فالجمهور: على أنه طلاق بدعة، وأنه ينبغي عليه إذا أراد طلاق السنة أن ينتظر حتى تستتم عدتها أو يراجعها ثم يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، أما أن يردف الطلاق مجزأ على الأقراء فإنه ليس بسنة وإنما هو من طلاق البدعة، وخالف في هذا الحنفية -رحمهم الله- فقالوا: إن طلق مجزئا الطلاق على الأطهار فسنة، فقسموا طلاق السنة عندهم إلى طلاق حسن وأحسن، فعندهم طلاق السنة ينقسم إلى قسمين: طلاق حسن وطلاق أحسن، فالطلاق الأحسن عندهم: أن يطلق طلقة واحدة ولا يردفها بغيرها في الأطهار على الصفة التي ذكرناها عن الجمهور.
والطلاق الحسن: الذي هو دونه في المرتبة والذي اختلفوا فيه، فقالوا: هو أن يجزئ ثلاث تطليقات على ثلاثة أطهار، ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو قال لها: أنت طالق حسن الطلاق، فعند الحنفية: تطلق الطلقة الأولى في طهرها الأول، ثم تطلق الطلقة الثانية في طهرها الثاني؛ ثم تطلق الطلقة الثالثة في طهرها الثالث.
وعند الجمهور: أن الحسن والأحسن شيء واحد، وحينئذ يكون بحسب نيته فإن قصد بالأحسن أنه الثلاث، على أنه الأكمل في نظره حتى ينتهي شرها إن كانت تؤذيه؛ فحينئذ لا إشكال؛ وإلا فالأصل: أن أحسن الطلاق هو طلاق السنة، فينصب على طلقة واحدة، فالحنفية قسموا الطلاق إلى هذين القسمين، وقالوا: من أردف الطلاق في الأطهار، مضى طلاقه وكان طلاق سنة، لكن عند الجمهور يعتبر من طلاق البدعة.
قوله: (حتى تنقضي عدتها فهو سنة) .
(فهو سنة) وذلك لثبوت الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ابن عمر في الصحيحين وفيه: (أنه طلق امرأته تماضر رضي الله عنها طلقة وهي حائض، فرفع ذلك عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن ابنه طلق امرأته وهي حائض، غضب صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر -أي من هذه الحيضة التي طلقها فيها- ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) ، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] الآية.
فأصبح عندنا في هذا دليل على أن السنة أن يقع الطلاق في الطهر على الصفات التي ذكرناها، وأن هذا هو الطلاق السني الذي أصاب صاحبه الوجه المعتبر في الطلاق، ومفهوم ذلك: أنه إذا لم تقع هذه الشروط فإنه لا يوصف بكونه طلاق سنة، فلو طلقها وهي حائض فبالإجماع أنه يعتبر طلاق بدعة، ولو طلقها في طهر جامعها فيه فإنه بالإجماع يعتبر طلاق بدعة، فطلاق البدعة بالإجماع أن يطلق في الحيض أو أن يطلق في طهر جامع فيه.
حكم الطلاق بعد انقضاء الحيضة وقبل الغسل
لكن إذا قلنا إن طلاق الحيض يعتبر طلاق بدعة، فعندنا مسألة: لو أن امرأة حاضت وأراد زوجها أن يطلقها، فهل إذا طهرت من الحيض وانقطع الدم يكون طلاقه طلاقا سنيا بمجرد انقطاع الدم أو لا بد أن تغتسل ثم يطلقها.
قال جمهور العلماء: إنه إذا انقطع الدم ورأت علامة الطهر حل طلاقها؛ ولذلك قالوا في موانع الحيض: منها ما يرجع إلى العبادة مثل كون الحيض يمنع الصلاة والصوم والطواف بالبيت ومس المصحف ودخول المسجد إلى آخر هذه العبادات، ومنها ما يرجع إلى المعاملات مثل: كونه يمنع الطلاق ويوجب الاعتداد به، وحينما ذكروا موانع الحيض قالوا: وما تحل هذه الموانع إلا بعد طهرها واغتسالها إلا ما كان من الصوم والطلاق.
فالصوم لا يشترط له أن تغتسل، والطلاق لا يشترط له أن تغتسل، فلو طلقها قبل أن تغتسل وهي طاهر ورأت علامة الطهر؛ فإنه طلاق سنة، وكذلك الحال لو انقطع عنها الدم، ورأت علامة الطهر فصامت قبل أن تغتسل، كأن يكون انقطع عنها الدم قبل بزوغ الفجر مباشرة؛ ثم بزغ الفجر ونوت الصيام فإنه يصح صومها ويجزئها، ولو اغتسلت بعد طلوع الفجر.
فالطلاق والصوم لا يشترط لهما الاغتسال، لكن مس المصحف، والدخول إلى المسجد، والطواف بالبيت، والصلاة، كل هذا يشترط لجوازه ممن طهرت من الحيضة أن تغتسل، فلا يكفي انقطاع الدم عندها؛ إذا ثبت هذا فإنها تكون مطلقة للسنة إذا انقطع دمها، ولا يشترط أن تنتظر إلى اغتسالها من ذلك الحيض.
حكم الطلاق بالثلاث
قال رحمه الله: [فتحرم الثلاث إذا] .
فلو قال لها: أنت طالق بالثلاث اختل الشرط، ونحن ذكرنا في الشرط السادس أن يطلق طلقة واحدة، فلو طلق ثلاثا مجموعة أو منفردة مجزأة فالكل بدعة، فقوله: فتحرم الثلاث إذا، قوله: (إذا) التنوين هنا: تنوين عوض، أي: إذا كانت المرأة على هذه الصفة فيحرم أن تطلق ثلاثا دفعة واحدة أو مجزأة على الأطهار على الصفة التي ذكرناها.
أقوال العلماء في طلاق الحائض
قال رحمه الله: [وإن طلق من دخل بها في حيض أو طهر وطئ فيه فبدعة يقع وتسن رجعتها] .
(وإن طلق من دخل بها في حيض) فلا يكفي أن تكون دخل بها، بل لا بد أن تكون حائضا وفي الحيض، فإذا: إذا طلق من دخل بها حال الحيض في حيض، أي: وقع طلاقه لها وهي في ظرف ووقت وزمان الحيض فإنه بدعة، فإذا وقع الطلاق حال الحيض فبإجماع العلماء أن الطلاق بدعة، ولكن هل يحكم بوقوعه أو لا يحكم بوقوعه؟ وجهان مشهوران لأهل العلم: جماهير العلماء وجماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة والظاهرية على أنه يقع الطلاق ويحتسب، واستدلوا بالأدلة الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة وبظواهر التنزيل التي دلت أولا على أن الأصل فيمن طلق أن يمضي عليه طلاقه، فكل من تلفظ بالطلاق ظاهر القرآن أن زوجته تطلق منه، هذا من حيث الأصل، قالوا: والعمومات نصت على هذا، وقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، هذا من حيث الإثم وعدمه، وليس له علاقة من حيث الوقوع وعدم الوقوع، لورود الأدلة الأخرى التي تثبت الأصل بالإيقاع، الدليل الثاني: قضية ابن عمر، ففي قضية ابن عمر عدة أدلة تثبت أن الطلاق وقع، أولها: ما يكون مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما صريحا كما جاء في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتسبها له واحدة) ، وهذا الحديث ذكره ابن وهب في مسنده وأشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو حديث ثابت، ويرويه عن حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر.
ثانيا: أنه جاء من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مره فليراجعها) ، فكلمة (ليراجعها) : جاءت من كلامه، ومنطوق لفظه عليه الصلاة والسلام، والرجعة عرف شرعي مبني على الطلاق، خاصة وأن المسألة في الطلاق إذ قد يستخدم لفظ الرجعة في غير الطلاق إذا كان في غير الطلاق؛ أما في داخل الطلاق وفي مسائل الطلاق لا يقال رجعة إلا من طلاق (مره فليراجعها) .
ثالثا: أن ابن عمر رضي الله عنهما وهو صاحب القصة أدرى وأعلم بمضي الطلاق وعدمه؛ فإن ابن عمر نص على وقوع الطلاق وأفتى بذلك، فكان إذا جاءه السائل -كما في الصحيحين- يسأله عن امرأة طلقها في الحيض أمضى عليه الطلاق واحتسبه، والراوي أدرى بما روى، خاصة وأنه صاحب القصة، ناهيك عن ابن عمر الذي عرف بالتزام السنة وعدم خروجه عنها، وقد أدب في طلاقه، فهو أعلم وأدرى بوقوع الطلاق وعدمه؛ ولذلك جاءت الألفاظ عنه عديدة تشير إلى الوقوع، منها ما هو صريح كما في قصة الرجل الذي طلق ثلاثا في رواية الصحيحين، وجاء أيضا عنه رضي الله عنه أنه لما سئل هل احتسبت الطلقة أو لم تحتسب كان يستغرب من السائل، ويقول: (فمه؟) أي: ماذا تظن، وفي رواية: (ما لي إن عجزت واستحمقت؟) وهذا من فقه ابن عمر، يعني: هل تتصور شخصا يقع في البدعة والمعصية ويطلق طلاقا يخالف شرع الله أن لا يمضى عليه الطلاق؟ فمثله أليق بأن يزجر؛ ولذلك يقول له: فمه، يعني: ماذا تظن مع أني أقع في البدعة وأقع في المحظور ولا يمضي علي طلاقي؟! ففي الصحيحين أنه قال له: هل احتسبت؟ قال: فمه؟ وفي رواية أخرى: (ما لي إن عجزت واستحمقت؟) أي: ما لي وما شأني وما المانع أن تنفذ علي طلقتي مع أني قد عجزت واستحمقت.
كذلك أيضا جاء في الرواية الأخرى عن نافع وعن سعيد بن جبير وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين كلها تعضد هذا، وللشيخ ناصر الدين رحمه الله مبحث نفيس، من أنفس ما كتب في هذه المسألة في جمع الأحاديث ورواياتها وألفاظها وبيان صحيحها من ضعيفها في الجزء السابع من (إرواء الغليل) ، وهو بحث في الحقيقة من أنفس ما جمع في المرويات، في مسألة طلاق الحائض، وهل طلق ابن عمر أو لم يطلق، وقد خلص -رحمه الله- إلى أن السنة وقوعه، من حيث المرجحات التي تقوي الوقوع واحتساب الطلقة.
الأمر الأخير الذي يدل على وقوع الطلقة ما ذكرناه: أن الشخص إذا عصى الله ورسوله، وابتدع في شرع الله عز وجل وأحدث في دين الله عز وجل، وخالف ما أمر به وتمرد على الله وعلى كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فخالفه، فإن الأليق به أن يزجر، وأن يعاقب، والأصل يقتضي أن مثله يؤاخذ بتطليقه.
وقال بعض العلماء -وينسب هذا القول إلى بعض العلماء- وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمة الله على الجميع: إن طلاق الحائض لا يقع ولا يمضي، واحتجوا برواية أبي الزبير محمد بن تدرس المكي عن ابن عمر أنه حضره وقد سأله السائل، فقال رضي الله عنه -أي: ابن عمر: (فردها علي ولم يرها شيئا) ، أي لم ير الطلقة شيئا، وهذه الرواية هي التي تمسك بها على أن طلاق الحائض لا يقع، وهذه الرواية قد أجاب عنها أئمة السلف كالإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة، ولأننا أمام روايات عديدة فيها ما يثبت مضي الطلاق، وفيها ما ينفي، فلا بد من معرفة الضوابط في ترجيح هذا على هذا، هل يرجح القول الذي يقول بنفوذ الطلاق، أو يرجح القول الذي يقول بعدم وقوع الطلاق، فعند النظر إلى المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: نجد أن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها) ، هذا المرفوع الذي استدل به من قال بالإيقاع يصنف في المرجحات؛ لأن قول ابن عمر: (فردها علي ولم يرها) ؛ دليل الأصحاب القول الثاني الذي لا يوقع الطلاق، وهذا ليس بشيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قول من قال بالوقوع أقوى ممن يقول بعدم الوقوع.
ثانيا: أن لفظة: (ردها علي، ولم يرها شيئا) هذه تحتمل معنيين، كما يقول الإمام الشافعي،) لم يرها شيئا)، أي: لم يرها شيئا مصيبا للسنة، لا أنه لم يرها طلقة، والسبب في هذا: أن ابن عمر نفسه الذي قال كلمة: (ولم يرها شيئا) يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في فتواه، ولا يتأتى منه أن يقصد أنه لم يطلقها، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها طلقة لما طلق ابن عمر رضي الله عنه وأفتى بالطلاق، فإذا قوله: (لم يرها شيئا) ، تردد بين معنيين، وفي الأصول: أنه إذا تعارضت روايات صريحة لا تحتمل مع غيرها قدمت الصريحة، كما في قوله في بعض الروايات المرفوعة: (هي طلقة) وفي رواية الدارقطني: (احتسبت طلقة واحدة) .
فالرواية الصريحة بالاحتساب جاءت عن ابن عمر نفسه أنه يحتسبها ولا تحتمل، فقوله: (هي طلقة) و (احتسبت طلقة) و (اعتد بها) كما في الرواية عن سالم وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين روايات صريحة في الوقوع والاعتداد.
وقوله: (لم يرها شيئا) متردد بين أن يقصد به عدم الوقوع وبين أن يقصد به عدم موافقة السنة، فلما ترددت بين المعنيين لم تقو على معارضة الصريح الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، وبناء على ذلك من حيث اللفظ رواية الوقوع أقوى من التي تنفي الوقوع.
ثالثا: من ناحية أصولية؛ فإن ابن عمر رضي الله عنه الروايات عنه بالوقوع أكثر من الروايات عنه بعدم الوقوع، ولم يخالف إلا أبو الزبير مع أن هناك شاهدا له في رواية سعيد بن جبير رحمه الله؛ لكن كما يقول الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في حديث القلتين حيث كان يرجح ويقوي بأصحاب ابن عمر فكان يرجح برواية نافع وسالم بن عبد الله؛ لأنهما أدرى وأعلم فـ سالم بن عبد الله بن عمر ونافع تلميذ ابن عمر مثل هذين لا يخفى عليهما، وهما من أوثق أصحاب ابن عمر وأعلم بفقه ابن عمر، حتى كانوا يقولون: فقه ابن عمر عند نافع والسلسلة الذهبية مالك عن نافع عن ابن عمر، فـ نافع له الشأن البعيد واليد الطولى لعلمه بقول صاحبه وهو ابن عمر، فيقدم إذا تعارض مع أبي الزبير مع أن أبا الزبير في الرواية إذا عنعن لا تقبل روايته، إذ هو مدلس، ونافع في مرتبة الرواية عن ابن عمر مقدم حتى ولو عنعن، فإنه الثقة الثبت، فمن حيث الإسناد إذا جئت تنظر إلى الروايات تجد أن من أثبت أقوى سندا من الذي لم يثبت.
وكذلك أيضا من حيث المتن؛ فإن الذي نص على احتساب الطلقة أثبت، والذي لم يرها شيئا لم يثبت، والقاعدة: أن المثبت مقدم على النافي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ؛ ولذلك من حيث السنة ومن حيث الدليل يقوى القول الذي قال به جماهير السلف رحمة الله عليهم والأئمة الأربعة: أن طلاق الحائض واقع، وأن هذا المبتدع ينبغي أن يؤاخذ ببدعته، وأن يلزم بقوله وأن يشدد عليه ولا يخفف عليه، إضافة إلى أن الأصل في الشرع إمضاء الطلاق واحتسابه عليه؛ لأن الدليل لم يقو على نفي ذلك الأصل.
قوله: (أو طهر وطئ فيه) .
فإذا وطئها في الطهر وطلقها فطلاقه يكون للبدعة، ويستوي في ذلك أن يكون وطئا مباحا أو وطئا محرما







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #553  
قديم 19-05-2025, 09:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





أقوال العلماء في حكم مراجعة من طلقت حائضا
قوله: [وتسن رجعتها] .
وتسن رجعتها، بل تجب، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها) ، وهذه مسألة أصولية، فأمر الغير أن يأمر غيره هل هو أمر للمأمور الأول أو للثاني أو لهما معا؟ إن قلنا: إنه أمر للمأمور الثاني فحينئذ يكون دالا على الوجوب، وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام حينما نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء واستفتي لها، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل ثم لتهل) .
فإن قلت: إن الأمر للمأمور أن يأمر غيره أمر للثاني كان حينئذ دالا على الوجوب، ويكون الاغتسال للإحرام للحائض والنفساء واجبا، (مرها فلتغسل) ، وأشكل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم للصلاة لسبع) ، فإنه أمر لمأمور أن يأمر غير المأمور، فإن الصبي لا يتعلق به الوجوب، فلو كان الأمر للشخص أن يأمر غيره أمرا لهذا الغير لما استقام هذا مع حديثنا؛ لأن الصبي غير مكلف، فدل على أن أمر المأمور أن يأمر غيره أمر للمأمور لا لغير المأمور، هذا عند من يقول: إنه ليس أمرا له إلا إذا دل الدليل على الوجوب.
والأولون يقولون: هو أمر للمأمور وأمر لغير المأمور، أمر للمأمور أن يأمر وأمر للمأمور الثاني أن يمتثل، فإن ظهرت القرينة وجاء الدليل على استثنائه -كما في الصبي- حينئذ ينتزع الحكم بعدم الوجوب إلى الثاني، وهذه المسألة معروفة في الأصول عند علماء الأصول؛ ولذلك يقولون: إذا كان أمرا للأول فإنه يأثم بتركه، ومن هنا قالوا: يكلف المكلف بغير المكلف ويأثم به، كأن تمر على نائم فهو غير مكلف؛ فإن كنت مأمورا به؛ فإنك تأثم إن تركته نائما، فلو فاتته الصلاة تأثم؛ لأنه غير مكلف، لكن كونك مأمورا بإيقاظه هذا أمر للمكلف أن يأمر غير المكلف، فهذا وجه وتخريج، والمسألة مشهورة عند علماء الأصول رحمهم الله، والصحيح في هذه المسألة: أنه تجب عليه رجعتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) .
وهذا أمر والأصل في الأمر أن يكون للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وقد أخذ الإمام أحمد رحمه الله بظاهر هذه السنة كعادته، فإنه كان من أعلم الأئمة الأربعة بالسنة، وهذا أمر معلوم عنه رحمه الله؛ فإنه اطلع من السنن والآثار على ما لم يطلع عليه بقية إخوانه من الأئمة، وكان له -رحمه الله- اليد الطولى في علم الحديث وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أورع الأئمة وألزمهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولما جاءته هذه السنة قال بالوجوب لظاهر الأمر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة ولا صارف لهذا الأمر؛ إذا لو كان الأمر تخييريا وابن عمر ليس بملزم وقد علم صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر ما طلق امرأته إلا بسبب، فكيف يلزمه بإرجاع من طلقها؟ فلو كانت الرجعة ليست بواجبة ولا لازمة لما أمر صلى الله عليه وسلم ولا ألزم بها على هذا الوجه، فلا شك أن الحق معه رحمه الله، وقد وافقه على هذا القول طائفة من العلماء من الظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع.
صور الطلاق الذي لا يوصف بكونه سنيا ولا بدعيا
ذكرنا أن الطلاق من حيث حكم الشرع إما أن يكون طلاقا سنيا أو طلاقا بدعيا أو طلاقا لا سنيا ولا بدعيا، هذه ثلاثة أقسام، فمن طلق زوجته إما أن يطلقها وهو مصيب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإما أن يطلقها وقد وقعت البدعة، وإما أن يطلقها طلاقا لا يوصف صاحبه بسنة ولا ببدعة، وقد بينا الطلاق السني والطلاق البدعي وضابط البدعة والسنة.
وبقي السؤال في القسم الثالث، وهو نوع من النساء -كما ذكر المصنف رحمه الله- لا يوصف طلاقهن بالسنة ولا يوصف بالبدعة.
طلاق الصغيرة
قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) أي: إذا طلق الصغيرة التي لم تحض بعد؛ فإن طلاقه لها لا يوصف بكونه سنيا ولا يوصف بكونه بدعيا؛ لأن الصغيرة لا تحيض، وطلاق السنة متعلق بالحيض، بحيث يطلقها في طهر لم يجامعها في ذلك الطهر، فالمفسدة والضرر المترتب على التطليق في الحيض أو المفسدة والضرر المترتب على التطليق في حال طهر جامعها فيه غير موجودة في حال التطليق للصغيرة، فالصغيرة لا تحيض، فلا تطول عليها العدة، ولا يخشى أن تكون حاملا، فهو إذا طلق طلق على بينة من أمره؛ ولذلك تقول: الصغيرة ليس فيها المحابيل.
مثال ذلك: رجل تزوج بنت سبع أو بنت ثمان أو بنت تسع سنين أو بنت عشر سنين ولم تحض بعد، فهذه التي لم تحض بعد إذا كانت في سن العاشرة -مثلا- ولم تحض بعد، فإنه يطلقها ولن تطول عليها العدة؛ لأن عدتها بالأشهر، فبعد طلاقه لها ستحسب الأشهر وينتهي الإشكال وهي ليست بحامل، فلا يخشى أن تكون ليست بطاهر؛ لأن الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه كان بدعة لخشية أن تصبح حاملا فيندم على طلاقها؛ ولذلك قال الصحابة -رضوان الله عليهم- كما هو مأثور عن علي وابن مسعود رضي الله عن الجميع: (لا يطلق أحد للسنة فيندم) ، أي: لا يطلق أحد طلاق السنة ويكون نادما؛ لكن لو طلق طلاقا بدعيا في طهر جامعها فيه لاحتمل أن تكون المرأة حاملا منه فيندم؛ لأنه كيف يطلقها وهي ستصير أما لولده، لأنها ستنجب، فكيف يحصل الفراق بينه وبين أم لولده؟ فقد يقدم الرجل على طلاق امرأة لم تنجب بعد، ولكنه لا يقدم لو علم أنها حامل أو أن ولده سيكون منها.
وعلى هذا فإن هناك ثلاثة أنواع من النساء: الصغيرة، والكبيرة الآيسة التي لم تحض بعد، وغير المدخول بها، وفقه المسألة يدور حول طول العدة وخشية أن تكون المرأة حاملا كما ذكرناه في علة المنع من تطليق المرأة الحائض.
قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) .
هذا القسم الثالث: (لصغيرة) أي: في تطليق صغيرة لم تحض بعد.
والدليل على أن طلاق الصغيرة لا سنة ولا بدعة فيه: قول الله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، والصغيرة ليس لها حيض حتى يقال: (لقبل عدتهن) على التقدير في الآية؛ لأن آية الطلاق فسرتها السنة، وقد ذكر أئمة وعلماء التفسير والتأويل رحمة الله عليهم من السلف وغيرهم أن هذا من تفسير السنة للكتاب؛ فإن الله تعالى لما قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، جاءت السنة مفسرة مبينة لهذا الطلاق الشرعي وأن المراد بقوله سبحانه: (لعدتهن) أي: لقبل عدتهن، أي: مستقبلات عدتهن وذلك بطهر لم يجامعها فيه، ولا يطلقها في حال الحيض.
طلاق الآيسة
قال رحمه الله: قوله: (وآيسة) .
أي: ولا سنة ولا بدعة في آيسة، والمرأة الآيسة من المحيض قد سبق وأن تكلمنا عليها في باب الحيض، فمن العلماء من جعل سنا محددا إذا وصلت المرأة إليه حكم بكونها في حكم الآيسة، ومن العلماء من قال: لا حد لذلك، ويختلف باختلاف النساء، وقد تبلغ المرأة خمسين أو أكثر والحيض معها، فهذا شيء يختلف باختلاف النساء، فلما لم يذكر الشرع حدا أو سنا معينا لليأس؛ فإننا لا نحد سنا معينا، وقد بينا أن هذا هو أرجح الأقوال كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة من أهل العلم أنه لا حد لليأس، وإذا كان لا حد لليأس؛ فالمرأة إذا طلقها زوجها وهي كبيرة فلا تخلو من حالتين: إما أن تكون في المحيض، فحكمها حكم الحائض، فيطلقها في طهر لم يمسها فيه، وتسري عليها أحكام طلاق السنة أو طلاق البدعة؛ لأنها من ذوات الحيض، أما لو طلقها وقد انقطع عنها حيضها على وجه يغلب على الظن أنها آيسة أو تحقق معه أنها آيسة؛ فتسري عليها أحكام الآيسة.
فمثلا: امرأة عمرها خمسون سنة، ومكثت ثلاث سنوات أو أربع سنوات أو خمس سنوات وانقطع عنها الحيض، فما رأت الحيض خلال السنة أو السنتين أو الثلاث أو الأربع الأخيرة، ففي الغالب أنه قد انقطع حيضها وتعتبر آيسة في هذه الحال، وحينئذ نقول لزوجها: إذا أردت طلاقها فطلقها في أي وقت شئت؛ لأنه ليس هناك حيض يلزمك بأن تطلق في طهر لم تجامع فيه.
وفائدة المسألة حينما قال: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) قالوا: لو قال لامرأته الصغيرة: أنت طالق للسنة، فهل تطلق عليه أو لا تطلق؟ وإن كانت تطلق عليه فمتى تطلق؟ قالوا: إذا قال لها: أنت طالق للسنة، فقال طائفة من العلماء: لغو؛ لأن طلاق مثلها لا سنة فيه ولا بدعة، قالوا: فيلغو هذا، كأنه جاء بلفظ لا حقيقة له؛ لأن مثلها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وقال طائفة من العلماء: بل تنتظر فتبقى امرأته إلى أن يأتيها الحيض؛ فإذا حاضت ثم طهرت الطهر الأول بعد الحيض فبمجرد أن تطهر تطلق عليه؛ لأنه علق طلاقها طلاقا سنيا، كأنه يقول: طلقتك طلقة سنية، فبقيت معلقة إلى أن يأتيها الحيض.
أما قوله: (والآيسة) ، فالآيسة النوع الثاني، فإذا أردت أن تضبط المسألة تنظر إلى قاسم مشترك بين الصغيرة والكبيرة ما هو؟ عدم الحيض، فيكون إما بأصله غير موجود كالحال في الصغيرة، وإما كان موجودا ثم زال كما هو الحال في الكبيرة والآيسة، فهذا الطلاق تقول: لا سنة فيه ولا بدعة.
فهذا القسم الثالث، وضابطه: أن تكون المرأة من غير ذوات الحيض، ويشمل ذلك الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها.
طلاق الزوجة غير المدخول بها
قال المصنف رحمه الله: [وغير مدخول بها] .
هناك نوع ثالث يوصف بكون طلاقه لا سنة فيه ولا بدعة، وهي الزوجة التي لم يدخل بها، مثلا: تزوج زيد خديجة وعقد عليها، وقبل الدخول طلقها، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول فإنه لا عدة له عليها لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، وآية الطلاق قالت في طلاق السنة: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، فإذا كانت السنة مرتبطة بالعدة، وهذه المنكوحة لم يدخل بها فلا عدة لها في حكم الشرع، أي: فلا سنة في طلاقها ولا بدعة؛ لأن السنة تثبت في حال وجود العدة بالحيض، حتى لا يندم إذا طلقها في حال طهرها الذي جامعها فيه، وأيضا لا تطول عليها عدتها بالحيض، فإذا كانت بحكم الشرع لا عدة لها؛ فحينئذ نحكم بكونها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، فقال الله تعالى: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] .
وعلى هذا: بعض طلاب العلم يخطئ في بعض فتاويه، فإذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع، يأتيه السائل ويقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فالمنبغي إذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع أن يسأله: دخلت بها أو لم تدخل؟ فإن كانت المرأة لم يدخل بها؛ فإن الطلاق نافذ بالإجماع؛ لأنها ليست بمحل لقضية السنة والبدعة.
وعلى هذا فالنوع الثالث من النسوة اللاتي يعتبر طلاقهن لا سنة فيه ولا بدعة: المطلقة قبل الدخول عليها، فالخلاصة: عندنا الصغيرة، وضدها الكبيرة الآيسة، والمرأة غير المدخول بها.
طلاق من بان حملها
قال رحمه الله: [ومن بان حملها] .
من بان حملها للعلماء فيها وجهان: فإذا بان الحمل واستبان أنها حامل فمذهب طائفة من العلماء أنه لا سنة ولا بدعة في الحامل، سواء كانت في أول أو أوسط أو آخر الحمل، فلا يوصف الطلاق بسنة ولا ببدعة، وقال بعض العلماء: طلاق الحامل طلاق سنة؛ لما ثبت من حديث ابن عمر عند مسلم: (وليطلقها وهي طاهر حائلا أو حاملا) وهذا يعني أنه يطلقها حال طهرها الذي لم يجامعها فيه سواء كانت طاهرا أو كانت حاملا استبان حملها، فقالوا: نظرا لقوله: (أو حاملا) ، وهي رواية صحيحة في رواية سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليق أبيه رضي الله عنه الثابتة في الصحيحين، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أو حاملا) ، دل على أن من طلق الحامل، فقد طلقها بإباحة وإذن الشرع، أما أصحاب القول الأول فقالوا: إن طلاق الحامل قصد به الإذن لأنه قال: (أو حاملا) ، وكلا القولين له وجهه، لكن النظر يقوي الوجه الأول كما ذكرنا.
الأسئلة




الحكمة في إلزام النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر بتطليق امرأته في الطهر الثاني بعد الحيضة
السؤال أشكل علي في قصة تطليق ابن عمر لزوجته قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر) ، وموضع الإشكال هو: لماذا لم يكتف بالطهر الذي يلي الحيض الذي وقع فيه الطلاق حتى تحيض ثانية ثم تطهر؟
الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد طهر المرأة، وذلك أن المراجعة وقعت منه عليه الصلاة والسلام على سبيل الإلزام، فقال له: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) ، أي: تطهر من هذه الحيضة التي طلق فيها، وأكد ذلك بقوله: (ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) ، فيكون الطلاق في طهر لم يقع في حيضه طلاق أيضا، وهذا من باب التأكيد على أنه لا يقع الطلاق إلا في طهر، والله تعالى أعلم.
الرد على حديث عويمر العجلاني وحديث فاطمة في جواز الثلاث تطليقات
السؤال بعد أن قررنا أن طلاق السنة هو الواحدة، فما هو الجواب عن حديث عويمر العجلاني وكذلك حديث فاطمة أن زوجها طلقها البتة؟
الجواب أما بالنسبة لحديث عويمر العجلاني؛ فإن طلاقه لم يصادف المحل، وتوضيح ذلك: أن المرأة إذا لاعنت زوجها فإنه يفرق بينهما فراقا أبديا، قال الزهري رحمه الله في روايته عن سهل رضي الله عنه في قصة المتلاعنين: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا، وعلى هذا فبمجرد ما تنتهي من الأيمان -والعياذ بالله- فإنه تقع الفرقة بينهما، وقال بعض العلماء: تفتقر إلى حكم القاضي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله) ؛ لأنه حلف الأيمان وهي حلفت الأيمان، فحينئذ أحدهما كاذب، إما الرجل وإما المرأة، فتنتقل الحكومة والحكم والخصومة إلى خصومة الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، فخصومة الدنيا لا نملك فيها شيئا لأن ما عندنا شيء ثبت، والأصل البراءة، فترك الأمر إلى الآخرة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقفها ويوقفه عند الموجبة وهي الخامسة ومضت السنة على ذلك، فقال له: (اتق الله، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) ، وقال للمرأة: (اتق الله فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) ، فكادت تعترف ثم قالت -والعياذ بالله-: لا أفضح قومي، فحلفت الموجبة، وكان يقول: إنها الموجبة، يعني: إذا حلف الرجل الخامسة: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور:7] ؛ فإنه تصيبه اللعنة والعياذ بالله.
والمرأة إذا حلفت وقالت في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فإنه -والعياذ بالله- يحل عليها غضب الله عز وجل، ومن حل عليه غضب الله فقد هوى؛ فإذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما بمجرد انتهاء اللعان؛ فعندما فرق بينهما، قال عويمر من شدة الألم: (والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فلما رآها تحلف هذه الأيمان، قال: (يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق بالثلاث) ، فلما وقع طلاقه وقع بعد الفرقة، فهي أجنبية منه محرمة عليه؛ ولذلك المرأة الملاعنة لا تحل إلى الأبد، وقد أثبتنا هذا في المحرمات، أنها لا تحل إلى الأبد، فالتطليق ثلاثا وقع بعد زوال المحل، فلا يستقيم الاستدلال به؛ ولذلك يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم إقراره ليس بوارد أصلا؛ لأن الطلاق وقع في غير موقعه، ومن هنا لا يمكن أن يوصف التطليق ثلاثا بكونه طلاق سنة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
أما بالنسبة لحديث سهيمة في قصة امرأة رفاعة بن رافع القرظي أنه طلقها ثلاثا فبت طلاقها، فهذا أجاب عنه العلماء وأشار الحافظ ابن حجر والحافظ ابن الملقن وغيرهما -رحمة الله على الجميع- إلى أنه ليس بدليل على أن طلاق الثلاث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة واحدة؛ والسبب في ذلك: أن سهيمة أو سهلة -اختلف في اسمها رضي الله عنها وأرضاها- طلقها زوجها الطلقة الثالثة، يعني: كان قد طلقها قبل ذلك طلقتين، فوقعت الطلقة الثالثة التي بها البينونة، فلذلك قال الراوي: (إنه طلقها فبت طلاقها) ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (طلقها آخر تطليقة) يعني: آخر طلقة من طلاقه، وعلى هذا فلم تكن الثلاث مجموعة وإنما كانت مفرقة، فلا يستقيم الاستدلال به على إثبات الطلاق ثلاثا وأنه سنة، والله تعالى أعلم.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #554  
قديم 19-05-2025, 09:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (433)

صـــــ(1) إلى صــ(18)


شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [4]
الطلاق حكم شرعي، ولهذا كانت له ألفاظ مخصوصة اعتنى العلماء ببيانها، وفصلوا فيما يترتب على التلفظ بها من جهة النية وعدمها، ومن الذي يلزمه الطلاق بتلفظه به ومن الذي لا يلزمه.
أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد فيقول المصنف رحمه الله: [وصريحه] .
ذكرنا أن الطلاق له أقسام من حيث حكم الشرع: طلاق سنة وطلاق بدعة، ومن حيث لفظ المطلق: لفظ صريح ولفظ غير صريح، فالآن يشرع المصنف رحمه الله في الجملة الثانية وهي: بيان أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق، ولتوضيح المسائل المتعلقة بهذه الجملة ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي: أن ما يصدر من المكلف يقسمه العلماء إلى قسمين: ظاهر وباطن، فعندنا ظاهر الإنسان وعندنا باطنه، والظاهر يشمل شيئين: القول والفعل، فالفعل كاليد تأخذ أو تضرب، سلبا وإيجابا، أو الرجل تمشي وترفع وتوضع، هذه أفعال، فعندنا في الظاهر القول والفعل، وفي الباطن النية فقط، فالذي يطلق لا بد أن يبحث العلماء فيه اللفظ؛ لأن الطلاق راجع إلى الألفاظ، فكأن باب الطلاق من حيث الأصل مركب على ظاهر المكلف، ومن حيث الاعتداد وعدمه فإن هناك مسائل أجمع عليها العلماء يعتد فيها بالنية، ففي الطلاق ظاهر وباطن، ولذلك يقسم العلماء الطلاق إلى ثلاثة أنواع: طلاق الديانة وطلاق الحكم، وطلاق جامع بين الديانة والحكم.
طلاق الديانة: كرجل تلفظ بكلمة تحتمل الطلاق وغير الطلاق، فسئل فقال للناس: ما قصدت الطلاق، وهو في باطنه قد قصد الطلاق، فبينه وبين الله المرأة عليه حرام، ولو كانت الطلقة الأخيرة فإنه يعيش معها بالزنا -والعياذ بالله- وهذا ديانة فيما بينه وبين الله، وكرجل قال لامرأته: هي طالق، وكانت الطلقة الأخيرة، ولم يخبر أحدا حتى امرأته، فالمرأة فيما بينه وبين الله طالق، فلو عاشرها وهي لا تعلم بتطليقه؛ فإنها طالقة ديانة فيما بينه وبين الله، وإن لم يصدر حكم بطلاقها في الظاهر.
أما بالنسبة للفظ المكلف: فتارة يقول لها: أنت طالق أو طلقتك أو سرحتك أو فارقتك أو أنت خلية، برية، بتة، بتلة، الحرج، أو الحقي بأهلك، أو اغربي عن وجهي، أو اخرجي من بيتي، أو لست لي بامرأة، أو لست بامرأتي، كل هذه ألفاظ فيها احتمال أن يقصد الطلاق واحتمال أن لا يقصد الطلاق، وأيضا هذه الألفاظ إذا تلفظ بها وثبت عند القاضي أنه تلفظ بها؛ فإن القاضي قد يحكم بظاهر بعضها، ويقول: حكمت بأن زوجتك طالق.
أما إن كان في الحقيقة لم يقصد الطلاق كرجل أراد أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، والله يعلم أنه لم ينو الطلاق وأنه قصد طلبتك، وكرجل اشتدت الخصومة بينه وبين امرأته فغضبت المرأة وغضب الرجل، فجرت العادة أن الرجل يطلب من خصمه ومن أساء إليه أن يسامحه، فأراد أن يقول لها: طلبتك أن تعفي عنها، فقال: طلقتك.
ففي هذه الصورة: بساط المجلس بساط غضب، وصعب أن يقول عند القاضي: لم أقصد الطلاق؛ لأن الخصومة قرينة تدل على أنه يريد الطلاق، فجاء بصريح الطلاق، في موقف لا يحتمل غير الخصومة، فصعب أن يقول: ما نويت، فبينه وبين الله لا تزال امرأته زوجة له، مع حكم القضاء أنها طلقة، لكن القضاء لا يحل حراما ولا يحرم حلالا؛ لكن في الظاهر يحكم، مثل الشاهد إذا شهد أنه رأى الزاني -والعياذ بالله- وليس هناك معه شاهد آخر، فشهد شهادة الحق أنه رأى فلانا يزني ولم يكتمل النصاب، فإنه يجلد حد القذف، والله يقول: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور:13] ، أي: في حكمه سبحانه أنهم كاذبون، لكن من ناحية الديانة ومن ناحية الحكم فهو صادق، والرجل مقذوف، لكن يجب عليه الحد.
الشاهد: أن هناك في الطلاق ما هو ديانة وهناك ما هو حكم، والعلماء في كتاب الطلاق تجدهم يقولون: تطلق ديانة وتطلق حكما، وتارة يقولون: ينفعه ديانة ولا ينفعه قضاء، فإذا قالوا: قضاء وحكما، فالمراد الظاهر، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع) .
فأخذ العلماء من هذا أصلا: أن الحكم في القضاء على ما يسمع، أما الحقيقة فأمرها إلى الله، فإن خالف الحكم الحقيقة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة.
أحوال الطلاق من جهة اجتماع اللفظ والنية واختلافهما
من طلق فلا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تجتمع نيته ولفظه على الطلاق.
الحالة الثانية: أن يطلق بالنية ولا يتلفظ.
الحالة الثالثة: أن يطلق باللفظ دون النية.
والقسمة العقلية في الأصل تكون أربعا، لكن في العمل ثلاثا، فإن يطلق في النية وحدها، أي: أن ينوي في قلبه ويعزم على أنه يريد أن يطلق زوجته؛ فهذا طلاق بالنية، وإما أن يتلفظ بلفظ الطلاق وليس في النية أن يطلق، فهذا طلاق اللفظ، وإما أن يجمع بين ظاهره وباطنه، فيطلق بنيته وقوله، والرابع الذي ألغيناه: ألا يطلق لا باللفظ ولا بالنية، فهذا ليس بطلاق؛ فإنه وإن كان التقسيم العقلي يحتمله، لكنه ليس له تأثير في الحكم.
فأما إن طلق بنيته فمثاله: رجل آذته زوجته أو سمع منها أمرا أزعجه، فنوى في قرارة قلبه، وأقدم بكل ارتياث وبكل طمأنينة على أن يطلق، ولم يبق إلا أن يتلفظ، ولكن ما حدث منه اللفظ، فوصل إلى درجة عزم فيها تماما على الطلاق، وقد تقع هذه الصورة في حال الخصومة بين الزوجين، فتقول الزوجة لزوجها: انتظر حتى يأتي والدي ويتفاهم معك، فعزم في قرارة قلبه على طلاقها عند مجيء والدها، فلما حضر والدها وواجهه؛ استحيا أو ذكره بالله، أو جاء مع والدها رجل فذكره بالله، فانصرفت نيته من الطلاق إلى عدم الطلاق، فهذا عزم في نيته ولم يتلفظ بلسانه، فوجد فيه طلاق الباطن دون طلاق الظاهر.
ومن أمثلة ذلك: أن تعزم المرأة أن تشتكي بزوجها في القضاء، فعزم على طلاقها إذا حضرا عند القاضي، فلما حضرا عند القاضي صرف الله قلبه، والله يقلب القلوب ويحول بين المرء وقلبه، فرأى أن المصلحة تقتضي ألا يطلق، ورأى أنه قد أعطى الأمر أكثر مما يستحق، وأن جلوسه بين يدي القاضي من أجل الإنصاف، أو وجد كلاما صرفه، أو وجد قاضيا موفقا، ذكره بالله ووعظه، فجمع الشمل وألف بين القلوب، فانصرفت نيته عن الطلاق، ف
السؤال إذا نوى الرجل أن يطلق زوجته ولم يتلفظ فهل نؤاخذه بهذه النية أو لا؟
حكم نية الطلاق دون التلفظ به
القول الأول: أن نية الطلاق ليست بطلاق، وأن الرجل لو عقد في نيته وعزم عزيمة صادقة على الطلاق ولم يتلفظ؛ فلا طلاق، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله عليه.
القول الثاني يقول: من عزم الطلاق وقويت عزيمته واطمأن قلبه على أن يطلق امرأته، فهي طالق بتلك العزيمة، وهذا القول قال به أئمة من السلف كالإمام محمد بن سيرين رحمه الله، ولما سئل عن فتواه في ذلك قال: قد علم الله أنه يريد طلاق زوجته، فجعل الإرادة والقصد كاللفظ، وقال: أليس الله قد علم واطلع، وما دام أنه عزم فيستوي أن يظهره أو أن يكنه، فالله عز وجل علم منه أنه يطلق فهو مطلق، وكونه يتلفظ أو لا يتلفظ هذا لا يؤثر، وهذا رواية عن الإمام مالك رحمه الله، وبعض العلماء يقول: مذهب مالك في المشهور عدم التطليق بالنية، وهذا أقوى الأقوال، وبعضهم يقول: مشهور مذهب مالك اعتبار النية، وإن كان الأقوى الأول، إذا ثبت هذا ف
السؤال ما هو الدليل على عدم وقوع الطلاق بالنية أو على وقوعه؟ الجمهور الذين يقولون: من نوى لا نطلق زوجته، استدلوا بدليلين: أولهما: أن الله سبحانه وتعالى نص على التطليق فقال سبحانه: {فإن طلقها} [البقرة:230] ، ونحن لا نطلع على النيات، وحكم الشرع في الأصل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكل سرائرهم إلى الله) ، فأصبح الأمر في مرده من حيث الأصل إلى الظاهر لا إلى الباطن في حكم الله عز وجل، وعليه قالوا: إن الله تعالى قال: {وإذا طلقتم النساء} [البقرة:231] ، وهذا لا يكون إلا بأمر بين وهو لفظ المكلف، فمن حيث الأصل الطلاق يحتاج إلى إظهار، والنية ليس فيها ما يظهر بل ما تستكن، وهذا الدليل من أضعف الأدلة التي استدلوا بها.
ثانيهما: أقوى دليل لهم حديث أبي هريرة الثابت الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، ولذلك أئمة الحديث رحمة الله عليهم ذكروا هذا الحديث في باب الاستشهاد على أن من طلق بنيته لا يقع طلاقه، فقوله: (إن الله تجاوز لأمتي) ، فالمجاوزة تدل على عدم المؤاخذة، وقوله: (ما لم تتكلم أو تعمل) ، دل على أنه لا يؤاخذ على النية ما دام أنه لم يتلفظ، وهذا الحديث هو حجة الباب وفيصل المسألة، والعمل على هذا الحديث.
دليل القول الثاني: حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات) ، قالوا: دل الحديث على أن العبرة بالنية، وهذا قد نوى وعزم فتطلق عليه امرأته، وقاسوا هذا على أمور الاعتقاد، وقالوا: إنه لو كان معتقدا للكفر لكفر، فيحكم بالطلاق بالنية كما يحكم بالردة بتغير القلب، أي وجود عمل القلب، قالوا: لجامع كون كل منهما مؤاخذا به، فالطلاق مؤاخذ به، والردة مؤاخذ بها.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوة حجة السنة على مذهبهم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، وأما استدلالهم بحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، فالرد عليه من عدة وجوه، وأنسب هذه الوجوه وأقواها: أن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) عام، وحديث: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها) خاص.
ثم أيضا هناك وجه ثان: أن تقول: (إنما الأعمال بالنيات) ، من حيث الأصل يعني: هو في السلب والإيجاب، الإحسان والإساءة، فمن نوى الخير اعتبرت نيته للخير، ومن نوى الشر اعتبرت نيته للشر، وأما في الطلاق وفي المؤاخذة فيأتي حديث: (إن الله تجاوز لأمتي) ، فاستثنيت المؤاخذات وحدها؛ لأنه لا يؤاخذ إلا إذا وجد اللفظ، فدل على أنه لا يدخل في عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه لوجود ما يخصصه.
وبعبارة مختصرة تقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها) ، دال دلالة واضحة على أن من حدث نفسه بشيء لا يؤاخذ به كما لو حدث نفسه أن يقتل أو يسرق أو يفعل أمرا حراما؛ فإن الله لا يؤاخذه ما لم يتكلم أو يعمل، وعلى هذا فالصحيح: أن من عقد نيته في قلبه على أن يطلق زوجته أنها لا تطلق ما لم يتلفظ.
أقسام اللفظ المعتبر في الطلاق
عرفنا أن الطلاق يحتاج إلى لفظ وأن العمل في الطلاق على اللفظ، فحينئذ يرد الإشكال: هل كل لفظ نحكم بكونه طلاقا أم أن هناك ألفاظا إذا وجدت حكمنا فيها بالطلاق وهناك ألفاظا بعكس ذلك؟ أصل اللفظ: الطرح، ولفظ الطعام إذا طرحه، ولا تصف الشخص بكونه متلفظا إلا إذا خرجت الحروف سواء سرا أو جهرا، أي: تحرك بها اللسان ونطقت بها الشفة سرا أو جهرا، وفي مسألة طلاق الموسوس يأتي الموسوس ويقول: طلقت زوجتي ويقول: في قلبي أحس أني طلقتها وأحس أن اللسان تحرك بذلك، فينبغي أن يتنبه إذا كان الرجل مطمئنا لزوجته؛ لأن الوسواس فيه شيء قهري -نسأل الله السلامة والعافية- فالشيطان إذا أراد أن يستخف بإنسان في أمر؛ حدثه به؛ لأنه عدو ويريد أن يحزن المؤمن، ومن هذا أن الموسوس يريد زوجته ويأتيه الشيطان يحدثه بالطلاق، فمثل هذا إذا تحرك لسانه ونبتت شفته في الوسواس القهري فإنه لا يؤثر ما لم توجد دلائل قوية على أنه فعلا يريد الطلاق، فالمقصود: أن اللفظ لا بد فيه من صوت مشتمل على بعض الحروف الهجائية.
واللفظ تعريفه عند العلماء: هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية كالقول، سواء أفاد أو لم يفد، إذا لا بد أن تكون هذه الحروف قد ظهرت من لسانه ونبتت بها شفتاه، فإذا حصل ذلك فقد وقع اللفظ إذا تلفظ، وبالطلاق فلفظ الطلاق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اللفظ الصريح.
والقسم الثاني: اللفظ غير الصريح، وبعضهم يسميه: الكناية.
فعندنا صريح الطلاق وعندنا كناية الطلاق؛ فأما صريح الطلاق فهو الذي لا يحتمل معنى غير الطلاق، واللفظ الصريح حكمه: أننا نطلق به على الظاهر بينه وبين الله عز وجل، كرجل أراد أن يقول لزوجته: طلبتك فقال: طلقتك، ففي الظاهر لا يملك الفقيه إلا أن يفتي بالطلاق سواء كان مفتيا أو قاضيا.
أقوال العلماء في ألفاظ الطلاق الصريح
بعد أن عرفنا حكم الصريح من حيث الأصل، يأتي
السؤال ما هي ألفاظ الطلاق الصريحة؟ للعلماء قولان: القول الأول: قال بعض العلماء: صريح الطلاق هو مادة طلق وما اشتق منها على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، فصريح الطلاق ثلاثة: الطلاق، الفراق، السراح، فإن قال لزوجته: طلقتك أو فارقتك أو سرحتك؛ فهذه كلها ألفاظ صريحة، نطلق بها المرأة على الظاهر، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، ومذهب طائفة من أهل الظاهر، ويقولون: ليس هناك طلاق إلا بهذه الثلاثة الألفاظ وغيرها ليس بطلاق، واستشكل على قولهم حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دل على اعتبار الكناية في قوله لابنة الجون: (إلحقي بأهلك) ، فهل اعتده طلاق أو لم يعتده طلاق؟! فالظاهرية عندهم ألفاظ الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق، السراح، الفراق؛ لكن الفرق بين الظاهرية وبين الحنابلة والشافعية: الظاهرية قالوا: لا طلاق بغير هذه الألفاظ، فلو قال لرجل لامرأته: أنت بتلة، أو أنت الحرج أو أنت خلية أو أنت برية أو الحقي بأهلك أو لست لي بامرأة، أو اعتدي، أو استبرئي رحمك إلى غير ذلك فليس بطلاق.
وأما القول الثاني في المسألة فقالوا: صريح الطلاق لفظ واحد، وهو الطلاق وما اشتق من مادة طلق على تفصيل سيأتي، وهذا مذهب الحنفية والمالكية من حيث الجملة -رحمة الله على الجميع- وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
ودليل الذين قالوا: إن حيث لفظ الطلاق ثلاث: (الطلاق والفراق والسراح) أن القرآن نص عليها، فقال تعالى: الطلاق مرتان.
[البقرة:229] ، {فإن طلقها} [البقرة:230] ، {وإذا طلقتم النساء} [البقرة:231] ، هذه كلها صريحة على أن لفظ الطلاق هو الذي يحصل به الفراق، فمادة طلق محل إجماع، ومحل الخلاف في لفظي السراح والفراق: هل هما من صريح الطلاق أو من الكنايات المحتملة؟ فقالوا: إن الله تعالى عبر بالسراح عن الطلاق، فقال: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229] وأيضا في الفراق: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [النساء:130] ، وقال سبحانه وتعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق:2] ، وقال: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} [الأحزاب:28] ، أي: أطلقكن، فلفظ السراح من ألفاظ الطلاق الصريحة بلفظ القرآن، ولفظ الفراق ولفظ الطلاق أيضا بدلالة القرآن، قالوا: فجاء في القرآن ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح، فكل من تلفظ بهذه الثلاث نؤاخذه، قصد أو ما قصد، ونعتبرها من الصريح، وهذا المذهب هو أولى المذاهب بالصواب إن شاء الله تعالى؛ فإن الأدلة دالة على أن هذه الثلاثة الألفاظ تستعمل، ويستدل بها على حل العصمة ورفع قيد النكاح.
وأما بالنسبة لقول من قال: يحصر لفظ الطلاق في (طلق) وما اشتق منها، فدليله واضح: أنه يحتج بالآيات التي وردت في الطلاق، ولكن نقول: كما أن ألفاظ آيات الطلاق دلت على الطلاق؛ ينبغي أن تكون ألفاظ السراح والفراق والطلاق دالة على الطلاق أيضا.
قال رحمه الله: [وصريحه لفظ الطلاق] .
كما ذكرنا: طلقتك، أنت مطلقتي، أنت طالق، وما اشتق منه، فهذا كله باسم الفاعل أو باسم المفعول، أنت طالق، أنت مطلقة مني، أو طلقتك، هذا كله يدل على الفراق صراحة، ويؤاخذ به بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو جاء بالصريح في مكان محتمل أو سبق لسان كما سيأتي إن شاء الله، فإن هذا له حكم خاص، لكن من حيث الأصل فإن القاعدة أن باب الطلاق يقوم على لفظ صريح، وهذا اللفظ الصريح مادة (طلق) وما اشتق منها بإجماع العلماء.
قال رحمه الله: [وما تصرف منه غير أمر ومضارع] قوله: (غير أمر) كقوله: طلقي نفسك، فإن أمرها أن تطلق نفسها، فلا يقع الطلاق بتوكيله لها أو بتفويض الطلاق لها إلا إذا طلقت نفسها؛ لأنه وجه الطلاق بصيغة الأمر (طلقي نفسك) فهذا أشبه بأنه فوض إليها أن تطلق نفسها، أو جعل الطلاق إليها، كما لو قال: أمرك بيدك، فلا يقع الطلاق بمجرد قوله: طلقي، أما تعليق الطلاق بالمستقبل كما في الأفعال المضارعة سواء أدخل عليها الأدوات أو الحروف التي تدل على المستقبل أولا، فإنه لا يقع الطلاق في وقته، إلا إذا كان معلقا على المستقبل، ويقع بوقوع ما علق عليه، لكن من حيث الأصل: لو قال لها: سوف أطلقك أو تطلقين، فهذا وعد بالطلاق، وهذا كله لا يقع به الطلاق، فالمضارع والمضاف إلى المستقبل لا يقع به الطلاق إلا إذا كان مقيدا بشرط، وستأتي مسألة تعليق الطلاق وإضافة الطلاق إلى المستقبل، لكنه من حيث الأصل لا يوجب وقوع الطلاق في حينه.
قال رحمه الله: [ومطلقة اسم فاعل] هذا تابع للذي قبله من المستثنيات، كما لو قال بلفظ الأمر: طلقي، والمضارع: سوف أطلقك، فهذا وعد وله أن يخلفه، فلو جاء رجل وسألك: قلت لامرأتي: سأطلقك أو سوف أطلقك، فهذا وعد، إن أراد أن يمضي وعده أمضاه، وإذا رأى أن المصلحة ألا يطلقها فلم يطلقها فلا طلاق، هذا في المضارع، أما أنت مطلقة، فإنها مشتقة من مادة الطلاق، لكن لا توجب الطلاق، لكن لو قال لها: أنت مطلقة مني، وقع الطلاق، وفرق بين قوله: أنت مطلقة، اسم فاعل، وبين قوله: أنت مطلقة مني، فحينئذ قد أوقع الطلاق.
قوله: [فيقع به] .
أي: بالصريح، ففائدة الصريح أنه يحكم قضاء بوقوعه وإن لم ينوه، فالفرق بين الصريح والكناية: أن الصريح لا يحتاج إلى نية، يعني: يطلق القاضي على الظاهر، ما لم يكن هناك بساط المجلس وأمور مستثناة -سنشير إليها- تدل على أنه لم يرد الطلاق.
وهناك فرق بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية، لكن باب الكناية من حيث الأصل يقوم على النية، ولكن الكناية الظاهرة كقوله: أنت بتة، أنت بتلة، أنت خلية، أنت الحرج، فهذه استثنيت في مذهب طائفة من العلماء، لوجود قضاء من الصحابة رضوان الله عليهم فيها، فاعتبروها من الكنايات الظاهرة، وسنتكلم عليها في الكنايات الظاهرة والخفية، لكن الكناية من حيث الأصل يرجع فيها إلى النية، وأما الصريح فإننا نطلق به على ظاهر النص.
وقوله: (ومطلقة اسم فاعل فيقع به) .
أي: يقع الطلاق بما تقدم من مادة (طلق) غير ما استثني من المضارع، ومن الأمر، ومن اسم الفاعل، ولفظ الطلاق الصريح سواء نواه أو لم ينوه فإن الطلاق يقع به، أي: في حكم القضاء، لكن في حكم الديانة يكون ذلك بينه وبين الله، فإن قال: أنت طالق، وقصد: من حبله، أو من وثاقه، فإنه يقع قضاء ولا يقع ديانة.
أقوال العلماء في الفرق ما بين طلاق الهازل وطلاق من سبقه لسانه
قال رحمه الله: [وإن لم ينوه جاد أو هازل] .
قال المصنف رحمه الله: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإنه ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: من تلفظ بالطلاق مع النية، فهذا جاد، يعني: يريد أن يطلق المرأة فعلا، وجمع بين الظاهر والباطن، فهذا طلق جادا.
القسم الثاني: من طلق باللفظ دون النية، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن يقصد اللفظ دون نية الطلاق، فهذا يسمى بالهازل، يعني: تلفظ بلفظ الطلاق قاصدا له، مستشعرا أنه لفظ الطلاق، لكن نيته لا تريد الطلاق، فمن تلفظ بالطلاق قاصدا اللفظ غير ناو له، يسمى بالهازل، فتجده يمزح مع امرأته ويظن أن هذا ينفعه، فيقول لها: أنت طالق، فيكون جاء بمادة (طلق) عالما أنها تفيد الطلاق من حيث الأصل، لكنه لا يريد أثرها ولا يريد أنها طالق، فيقولون: قصد اللفظ ولم ينوه.
ومن هنا: يفرق بين الهازل ومسبوق اللسان بالطلاق: أن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فمسبوق اللسان أرحم ممن يهزل؛ لأن مسبوق اللسان لم ينو بقلبه ولم يقصد أن يتلفظ بلسانه، فالفرق بين الهازل وبين مسبوق اللسان من جهة قصد اللفظ، فلو أراد رجل أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، فهو لم ينو بقلبه ولم يقصد بلفظه، لكن إذا مزح معها وظن أن أمور الطلاق فيها مزاح، فقال لها: طلقتك، فكلمة الطلاق مقصودة، ومادة (طلق) مقصودة، فاللفظ مقصود، فالشريعة والعلماء يفرقون بين من يقصد اللفظ وبين من لم يقصد.
وبعض العلماء يرى بالنسبة لمسبوق اللسان أنه إن وجدت قرائن قوية على أنه لا يريد الطلاق أن طلاقه لا يقع، كرجل جلس مع امرأته وهو في غاية الانبساط والسرور، وهناك اثنان يشهدان على أنه كان مع زوجته على أحسن ما يكون، ثم طلعت على السلم، فأراد أن يقول لها: أنت طالعة، فسبق لسانه وقال: أنت طالقة، فبساط المجلس يدل على أنه لا يريد الطلاق، ومثل هذا ينفعه، فلو قال للقاضي وثبت بشهادة البينة أو بحلف اليمين على أنه ما قصد؛ فلا تطلق عليه امرأته لا قضاء ولا ديانة.
فلما قال بعض العلماء بهذا القول استشكل عليهم الهازل، فالهازل لم يقصد الطلاق، ومسبوق اللسان لم يقصد الطلاق، والشرع يقول: ما دام وجدت كلمة الطلاق فيؤاخذ بها، فردوا عليهم بأن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فالفرق بينهما واضح.
وبناء على ذلك: قال رحمه الله: (جادا) ، يعني: تطلق المرأة إن تلفظ بالطلاق وهو جاد، أو تلفظ به هازلا، والهزل: المزح والمرح، فالطلاق جده جد وهزله جد، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق والعتاق) ، وفي رواية: (والنذر) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعظ الناس ويبين لهم الأحكام: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح والطلاق، والعتاق والنذر) .
فإذا جاء رجل وقال لك: زوجتك ابنتي، وهو يمزح معك، فقلت: قبلت، فحينئذ يلزم، وأيضا لو قال رجل لزوجته: طلقتك، وهو يمزح معها فإنه يلزم بذلك، ولو قال لعبده: أنت حر، على سبيل المزاح، فإنه يعتق عليه، ولو لم يقصد عتقه، وهكذا لو نذرت، والأصل في السنة الثلاث التي سبق التنبيه إليها.
وعلى هذا قال العلماء: إن الهازل تطلق عليه امرأته، وهذا بإجماع العلماء؛ لثبوت السنة بذلك.
وقال بعض العلماء: هنا إشكال، كيف نطلق عليه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، فهو لم ينو الطلاق، فكيف نؤاخذه بالطلاق، قالوا: هذا من باب حكم الوضع وليس من باب حكم التكليف، وحكم الوضع: ما جعله ونصبه الشرع من أسباب وعلامات وموانع تدل على الصحة وتدل على الفساد، فكأن الشرع يقول: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإننا نؤاخذه به قصد أو لم يقصد، نوى أو لم ينو، فكأنه إذا وجد لفظ الطلاق وجد الطلاق، بغض النظر عن القصد والنية وجدت أو لم توجد.
صور من صريح الطلاق لا يقع بها الطلاق
ذكرنا مسألة صريح الطلاق، وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنى غيره، وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في اللفظ الصريح، ورجحنا أن هناك ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأنه إذا تلفظ بها حكم بالطلاق، سواء نوى أو لم ينو؛ ولكن هنا مسألة وهي: أن يأتي اللفظ الصريح ويتكلم به الزوج، ويصرف عن الطلاق ولا نحكم به، وهذا أشبه ما يكون بالاستثناء، فالعلماء رحمهم الله وضعوا لنا قاعدة في ألفاظ الطلاق: أن أقواها الصريح، وأن من تلفظ باللفظ الصريح، فإنه تطلق عليه زوجته.
يبقى
السؤال هل لهذه القاعدة مستثنيات؟
حكم من قال لزوجته: طالق، وقصد من وثاق أو نحو ذلك
قال رحمه الله: [فإن نوى بطالق من وثاق] .
وهذا على صورتين: الصورة الأولى: أن يقول للمرأة ذلك، وتصدقه.
فيقول: قلت لك: طالق، وقصدت من وثاق؛ كأن تكون كفيفة البصر، وكان قد قيدها، فقالت له: هل أطلقتني أو لا؟ فقال لها: أنت طالق، وقصد من وثاق، فإن صدقته أو قامت القرائن على صدقه، فحينئذ لا إشكال، بحيث إنه لا يرتفع الأمر لا إلى القاضي ولا إلى أي مسلم.
فهذا بينه وبين امرأته إذا قال لها: أنت طالق، وقصد من وثاق، وصدقت، فلا تطلق عليه ولا يقع الطلاق؛ لأنه لم يقع لفظ الطلاق الذي هو طلاق.
يعني: هو لم يقصد لفظ طلاق، وليس كالهازل الذي يقصد لفظ الطلاق وإن لم ينو الطلاق.
فهذا الشخص جاء بمادة طلق لا لحل العصمة، وإنما جاء بها لأمر آخر، ومادة (طلق) تستعمل في حل العصمة، وتستعمل في غير حل العصمة.
الحالة الثانية: أن تقوم القرائن على أنه أراد حل العصمة، مثل أن يقول لها في حال الخصومة: أنت طالق، أو يقول لها في حال الغضب: أنت طالق، وحينئذ إذا وقع شجار بينه وبين زوجته.
فقال لها: أنت طالق، ثم ادعى أنه أراد: طالق من وثاق، فالتلاعب موجود، أو يكون الشخص معروفا بالكذب والخداع واللعب، فإذا غضب من امرأته، أو حصل بينه وبين امرأته شيء، فقال لامرأته: أنت طالق، فقالت له: أنا طالق؟! قال: قصدت من وثاق، فحينئذ ينظر إلى هدي الشرع.
وهدي الشرع أن هذا اللفظ -لفظ الطلاق- لفظ خطير لا يحتمل اللعب، ولا يمكن أن يفتح الباب لمن يتلاعب به، بدليل أن الهازل لما مزح مع زوجته ألزم بطلاقها مع أنه لم يقصد الطلاق، فمقصود الشرع أن هذا اللفظ لفظ خطير موجب لحكمه، فإذا كان الشخص معروفا بالكذب والخداع واللعب، وقال: قصدت من وثاق، ولم نلزمه الطلاق فمعنى ذلك أننا نفتح الباب للمتلاعبين، فتطلق عليه زوجته حكما، أي: في الظاهر، وإذا رفع إلى القضاء في هذه الحال، وقال له القاضي: قلت: طالق؟ قال: قلت: طالق، وقصدت من وثاق، فالقاضي يأخذ بظاهر كلامه؛ لأنه إنما أمر أن يأخذ بظواهر الناس وأن يكل سرائرهم إلى الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الحكم في القضاء للظاهر، ولذلك قال: (إنما أقضي على نحو مما أسمع) فهدي الشرع يدل على أن الحكم للظاهر، وقد سبق وأن ذكرنا هذه المسألة في الألفاظ: أنه يلتفت إلى الظاهر، والباطن علمه عند الله، خاصة إذا كان صريحا، والباطن له تأثير في مسائل الكنايات كما سيأتي في الألفاظ المحتملة.
حكم من طلق ونوى به نكاحا سابقا منه أو من غيره
قال رحمه الله: [أو في نكاح سابق منه أو من غيره] .
رجل طلق امرأته الطلقة الأولى، ثم ارتجعها، ثم قال لها يوما من الأيام: أنت طالق، أي: أنك وقع عليك الطلاق مني سابقا.
فقصد بكلمة (أنت طالق) أنه قد وقع منه طلاق سابق، أو كأنه كان يريد أن يقول: أنت كنت يوما من الأيام محلا للطلاق، فطلقتك أو طلقك غيري.
فهو يصفها بهذا، أو يكون معها أثناء الكلام، فيقول لها: أنت مطلقة، أي: سبق وأن طلقت، فحينئذ الشبهة قائمة، لكن حكم القضاء ينفذ الطلاق.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #555  
قديم 19-05-2025, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





حكم من سبقه لسانه في الطلاق
قال رحمه الله: [أو أراد طاهرا فغلط] .
هذا يسمى: مسبوق اللسان، وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق وقصده غير لفظ الطلاق.
فالفرق بين مسبوق اللسان والهازل: أن الهازل يقصد لفظ الطلاق، ويعلم أثر لفظ الطلاق، فيقول لامرأته: أنت طالق، ولكنه لا يريد الطلاق، ولا يريد إيقاعه حقيقة.
فحينئذ قصد اللفظ، ولم يقصد الإيقاع، هذا بالنسبة للهازل.
ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ ولم يقصد الوقوع، فيختلف فيه الأمران، كرجل أراد أن يقول لامرأته: أنت طاهر، فقال لها: أنت طالق، كأن تسأله المرأة: هل أنا نجسة أو طاهرة؟ فقال لها: أنت طالق، يريد أن يقول: أنت طاهر.
فسبق لسانه فتكلم بالطلاق وهو لا يقصده ولم ينوه به، فحينئذ يحكم بكونه مسبوق اللسان.
ومثلا سألته: أنا طالعة أو نازلة؟ فأراد أن يقول: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، أو أراد أن يقول: طلبتك، فقال: طلقتك.
فهذه كلمات متقاربة من بعضها.
فإذا المرأة صدقته أو صدقه أولياؤها، وقامت البينة على صدقه، وانتهى الموضوع فيما بينهم، واقتنع بعضهم بكلام بعض فلا بأس، وهذا بينه وبين الله ينفعه، ولكن في القضاء والفتوى إذا استفتى فإنه ينظر إلى الظاهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) .
قال رحمه الله: (لم يقبل حكما) ومعنى هذا: أنه يقبل ديانة، وعندنا -كما ذكرنا- الطلاق الحكمي والطلاق ديانة.
فديانة: بينه وبين الله، وحكما: في القضاء وعلى ظاهر حاله.
صور من صريح الطلاق غير المباشر
ذكرنا مسألة صريح الطلاق، وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنى غيره، وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في اللفظ الصريح، ورجحنا أن هناك ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأنه إذا تلفظ بها حكم بالطلاق، سواء نوى أو لم ينو؛ ولكن هنا مسألة وهي: أن يأتي اللفظ الصريح ويتكلم به الزوج، ويصرف عن الطلاق ولا نحكم به، وهذا أشبه ما يكون بالاستثناء، فالعلماء رحمهم الله وضعوا لنا قاعدة في ألفاظ الطلاق: أن أقواها الصريح، وأن من تلفظ باللفظ الصريح، فإنه تطلق عليه زوجته.
يبقى
السؤال هل لهذه القاعدة مستثنيات؟
إذا سئل الرجل: هل طلقت زوجتك؟
قال رحمه الله: [ولو سئل: أطلقت امرأتك؟ فقال: (نعم) وقع] .
هذا من ترتيب العلماء رحمهم الله، فاللفظ الصريح يأتي مباشرة: أنت طالق، أو طلقتك أو مطلقة.
إلخ.
ويأتي في بعض الأحيان سبق لسان، فصار عندنا الصريح الذي قصد به ونوى ووقع واعتد به، وعندنا الصريح الذي يكون فيه سبق اللسان، وعندنا حالة ثالثة، وهي: أن يأتي غيره بالصريح فيجيبه موافقا له، وهذا من ترتيب الأفكار كما ذكرنا.
وصورة المسألة، أن يكون سأله رجل، قال: أطلقت امرأتك؟ (أطلقت) الهمزة: للاستفهام، قال: نعم.
أو سأله: هل طلقت امرأتك؟ قال: نعم، فإنه لو لم يكن طلقها من قبل، تطلق عليه.
وهذا الجواب قوله: نعم، أي: هي طالق، أو طلقتها.
والقاعدة عند العلماء تقول: (جواب الصريح صريح) ويقولون: هي فرع من القاعدة: (السؤال معاد في الجواب) .
فالقاعدة الأولى التي هي الأم، تقول: (السؤال معاد في الجواب) ثم تبني عليها قاعدة: (جواب الصريح صريح) ، فعندنا قاعدتان، فقاعدة: (السؤال معاد في الجواب) ، هي التي بني عليها التطليق، وينظر في هذا الجواب، إن كان عن سؤال صريح فهو طلاق صريح، وإن كان عن سؤال كناية فهو لفظ كناية، فلما سأله قال له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، قلنا: السؤال معاد في الجواب، وأصل التقدير: نعم طلقت امرأتي، أو نعم امرأتي طالق.
هذا أصل التقدير.
فهذا معنى قولهم: (السؤال معاد في الجواب) ويدل على ذلك السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له أم سليم: (يا رسول الله! هل على المرأة من غسل؟ قال: نعم، إذا رأت الماء) أي: نعم تغتسل إذا رأت الماء، هذا أصل التقدير، فمن سأله: أطلقت امرأتك؟ وقال: نعم، فقد أجاب (والسؤال معاد في الجواب) ، فكأنه قال: نعم طلقت امرأتي.
هذه القاعدة الأولى.
والقاعدة الثانية: لما سأله: أطلقت؟ لفظ (أطلقت) صريح، والجواب وقع بنعم، فجواب الصريح صريح، إذا نعده من الطلاق الصريح، ويكون من اللفظ الصريح، فاستوى في الصريح أن يكون ابتداء من المكلف نفسه، أو يكون جوابا على سؤال، وعلى هذه القاعدة (السؤال يكون معادا في الجواب) فرعوا مسائل كثيرة، منها: لو أن القاضي سأل الخصم وقال له: هل لفلان عندك عشرة آلاف؟ قال: نعم، حكم عليه بإقراره، ويجب عليه أو تثبت في ذمته العشرة آلاف.
فقولنا: (السؤال معاد في الجواب) يستلزم أن نحكم بكونه قد طلق امرأته إذا أجاب بنعم، ولو سأله: أطلقت امرأتك؟ فقال: لا، لم يقع الطلاق؛ لأنه لم يجبه.
فحينئذ كأنه قال: لا، لم أطلقها.
وهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن هناك حالتين، والمصنف هنا أطلق، وقال: تطلق عليه، لكن في الحقيقة حتى يكون الأمر أوضح: إذا سأل سائل، وقال: أطلقت امرأتك؟ وقال: نعم، لم يخل من حالتين: إما أن يقول: نعم، جادا في الطلاق، فلا إشكال.
وإما أن يقول مازحا هازلا، فالطلاق الأول من باب الجد، والطلاق الثاني من باب الهزل، فإن الهازل يمضي عليه الطلاق في السؤال، وفي صريح اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل طلاق الهازل كطلاق الجاد، ولم يفرق بين كونه معادا في جوابه، أو كونه ملفوظا ابتداء.
إذا سئل الرجل: ألك امرأة؟ فأجاب بالنفي
قال رحمه الله: [أو: ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب، فلا] .
يعني: إذا قال له شخص: ألك امرأة؟ فجوابه: إن قال: نعم، لا يوجد إشكال، وله امرأة، وانتهى الإشكال، لكن المشكلة، إذا قال: لا.
وعنده امرأة.
فإنه إذا قال: لا في جوابه كأنه يقول: لم تعد لي امرأة، وهذا أصل الإشكال.
فكأنه حل عصمة المرأة، وكأنه أخرج المرأة من عصمته.
فهذا الاحتمال الأول.
وحينئذ على هذا الاحتمال يكون طلاقا.
لأن معنى ذلك: لا لم تعد لي امرأة، فكأنه حل عصمة امرأته.
الاحتمال الثاني: أنه لما قال له: هل لك امرأة؟ أو ألك امرأة؟ أو ألك زوجة؟ أو هل لك زوجة؟ قال: لا.
يقصد زوجة كاملة، وزوجة فاضلة، وزوجة لها الصفات التي تستحق هذا الوصف الذي يراه كاملا أو الذي يراه عظيما، فقال: لا، أي: ليس عندي امرأة بتلك الصفات، أو تستحق أن توصف أنها امرأة.
يقول هذا الكلام لكون بينه وبينها شيء، أو يكون فيها صفات تقتضي نقصها عن درجة الكمال.
فإذا: تردد اللفظ بين احتمالين، أو ترددت الكلمة بين احتمالين: فجملة يكون المراد بها الطلاق، فيما لو قيل له: هل لك امرأة؟ قال: لا.
وقصد حل العصمة، وجملة يكون فيها المراد أنها ليست كاملة.
فالأولى تقتضي التطليق، والثانية لا تقتضي التطليق.
فتردد الجواب، وهذا الجواب ليس بصريح.
بخلاف الأول فهو صريح: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم.
لكن هنا السؤال صريح أو الجواب صريح؟!! ألك امرأة؟ يعني: ألك امرأة من حيث هي أو ألك امرأة كاملة.
فلما تردد بين الطلاق وغيره صار كناية.
فانتقل حكم قوله: (ألك امرأة) إلى الكنايات، وتردد بين الطلاق وغيره، فنرجع إلى النية كالحال في طلاق الكناية، فنقول: إن نوى الطلاق بقوله: لا، طلقت، وإن لم ينو الطلاق، لم تطلق عليه امرأته.
ويكون قوله: لا، أي: ليس لي امرأة كاملة الأوصاف.
حكم التصحيف في لفظة (طالق) أو الطلاق بغير اللغة العربية
هناك مسائل يمكن أن تلحق بهذا الفصل، المسألة الأولى: أن يتلفظ باللفظ الصريح لكن مع التصحيف أو العجمة فيحرف لفظ الصريح، أو يصحف منه حرفا أو حرفين، مثال ذلك: أن يصحف الحرف الأول من طالق، فينطق الطاء تاء، ويقول: (تالق) ، أو يصحف الحرف الأخير، ويبدله غينا ويقول: (طالغ) ، أو كاف ويقول: (طالك) .
وبعض الناس يكون لسانه قد درج على هذا، فإذا قال: أنت طالق، يصحف فيقول: تالق أو طالغ أو طالك.
وكل ذلك يوجب الطلاق، فيستوي أن يقع الصريح مصحفا أو يقع على الأصل، ما لم يكن المصحف له معنى آخر، وقصد ذلك المعنى الآخر فلا إشكال؛ لأنه يخرج عن الصريح بالتصحيف.
المسألة الثانية: بالنسبة للفظ الطلاق بغير العربية، كأن يكون لفظا أعجميا، فالألفاظ بحسب كل لسان، وكل قوم على حسب اللفظ الذي تدل عليه لغتهم بحل العصمة، فقالوا في الفارسية: (بهشم) ، أو في التركية: (ستامبوس) ، كل ذلك ذكر العلماء أنه يستوي فيه اللفظ العربي وغير العربي، ما دام أنه يفيد حل العصمة.
فإذا لا يختص اللفظ الصريح بالنسبة للفظ الطلاق باللغة العربية فقط، بل ممكن أن ينتقل إلى لغة غير العربية ما دام أنهم قد تعارفوا على ذلك، وأصبح من لغتهم.
الأسئلة




الفرق بين الحائض والنفساء في العدة
السؤال هل حكم الحائض كالنفساء؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فالمرأة النفساء ليست كالحائض من كل وجه، أما من حيث العلة في إطالة العدة عليها، فإن النفساء تختلف عن المرأة الحائض من جهة أن أمرها قد استبان، فليس هناك حمل، وليست بمحل يشك أن تكون حاملا، إلا أن بعض العلماء قال: إن النفساء تأخذ حكم الحائض فتطول عليها العدة، فتنتظر إلى طهرها من نفاسها، وبعد طهرها من نفاسها تستقبل عدة جديدة، وعلى هذا يقولون: تكون في حكم المرأة الحائض من جهة إطالة العدة، وكلا القولين له وجهه، والله تعالى أعلم.
الجمع بين قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ... ) الآية وبين ما جاء تحريمه بالسنة
السؤال ما معنى قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} [الأنعام:145] ، وهل هي دليل على إخراج غير الأصناف المذكورة في الآية؟

الجواب قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} [الأنعام:145] ، هذه الآية الكريمة أصل عند العلماء رحمهم الله في إباحة ما لم يرد النص بتحريمه، ولكن قد تأتي نصوص أخر وتزيد على هذه الآية؛ لأن الله تعالى يقول: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} [الأنعام:145] ، فإذا نظرت وجدت أن الميتة أو لحم الخنزير أو المذبوح لغير الله ثلاثة أصناف، مع أن السنة زادت محرمات أخر، فمثلا: لحم الحمر الأهلية، فإنها ليست مذكورة في الآية الكريمة، وقد دلت السنة على أنها رجس، ولا يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية، وكذلك أيضا: كل ذي ناب من السباع، فإن السنة قد دلت على حرمة أكله، فهو ليس بميتة من حيث الأصل وليس بلحم خنزير، وليس داخلا في الفسق الذي أهل به لغير الله، ولو أخذت بظاهر هذه الآية لأحللت أكل لحم الأسد والنمر، لكن لما جاءت السنة بتحريم كل ذي ناب من السباع، فإنك تقول بتحريمه، فالمقصود: أن الحصر في بعض الآيات، قد يراد به أصول المحرمات كأن تقول مثلا: {إلا أن يكون ميتة} نبه على أصول المحرم من جهة التذكية، وهو الذي حل أكله في الأصل ولكن حرم لعارض وهو عدم وجود الذكاة، مثلا إذا جئت تنظر إلى بهيمة الأنعام وقد ماتت حتف نفسها بدون ذكاة تقول: إن هذه الآية أصل في تحريم هذا النوع، فكل ما لم يذك ذكاة شرعية فهو مندرج تحت: {إلا أن يكون ميتة} ، إلا ما استثناه الشرع من ميتة البحر لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطهور ماؤه، الحل ميتته) .
كذلك أيضا {أو لحم خنزير} تستطيع أن تقول: لحم الخنزير أصل في تحريم كل مستخبث، فهو جاء بلحم الخنزير نصا ونبه على مثله معنى، وهذا من دقة القرآن؛ أن نصوص الكتاب في بعض الآيات تأتي بأصول المحرمات، فعندما تلتفت إلى لفظ الآية تظن أن السنة زادت أشياء، لكن لو التفت إلى المعنى لاستبعدت ذلك الأمر، وهذا الذي جعل جماهير العلماء يعتبرون القياس فيقولون: لحم الحمر الأهلية كلحم الخنزير، بدليل قوله تعالى: {فإنه رجس} [الأنعام:145] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية: (إنها رجس) ، وكأن الأصل لم يختلف، فتجعل الآية أصلا من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، فتقول: أصول المحرمات لا تخرج عن كون الشيء مستخبثا لذاته مثل الخنزير، أو يكون طيبا في أصله ولكن فقدت فيه الذكاة كالميتة، أو يكون مستخبثا للمعنى؛ أي: فيه شرك؛ لأن الشرك مستخبث من جهة المعاني والاعتقاد، فيحرم الذي فيه شرك أو كان فسقا أهل لغير الله به، فجاءت الآية بمجموع المحرمات، فقل أن تجد طعاما محرما يخرج عن هذه الثلاث، ولذلك حرمنا ذبائح المجوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) ، أين تضع ذبائح المجوس؟ تضعها تحت قوله: {أو فسقا أهل لغير الله به} [الأنعام:145] ؛ لأن الأصل فيهم أنهم يهلون لغير الله عز وجل، وتحرم ذبائح الوثنيين والمشركين لنفس الآية: {أو فسقا أهل لغير الله به} [الأنعام:145] ، وتحرم ما كان أصله حلالا ولكنه لم يذك بالذكاة الشرعية؛ لأن حله موقوف على التذكية، فتقول: هو داخل تحت الميتة، فكل ما لزمت فيه الذكاة ولم تعمل فيه الذكاة فهو ميتة إلا ما خصه الدليل كصيد البحر.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل - وقال بعد- فإن أكل فلا تأكل -أي: إذا أكل الكلب من الفريسة فلا تأكل- فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه) .
فالكلب يذكي، وذكاته أن يمسك الفريسة لك، فلو نهش الفريسة وقتلها بنهشه، حل أكلها؛ لأن هذا النهش مثل السلاح الذي يطلق ويقتل الفريسة، فكما أنك ترسل السلاح الجامد ترسل الحيوان، لكن لو فرضنا أنه أرسله على الفريسة وسمى، فاستوفى الشروط فالله يقول: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4] ، أي لكم، فإذا أمسك وأكل؛ جاءت الشبهة: هل أمسك لنا، فيكون تحت آية الحل، أو أمسك لنفسه؛ فهو قد صاد لنفسه ولم يصد لنا، فحينئذ تقول: حرم أكله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أكل -يعني الكلب- فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه) .
هفل هذا محرم زائد عما في القرآن؟ تقول: أدرجه تحت الميتة؛ لأن الأصل أن هذا الممسوك ميتة، والذكاة تعمل في الحيوان إذا كانت على الوجه المعتبر، فلما كانت ذكاة الكلب على غير الوجه المعتبر؛ ألحقت بالميتات، وأصبحت مندرجة تحت هذا الأصل، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #556  
قديم يوم أمس, 05:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (434)

صـــــ(1) إلى صــ(9)






شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [5]
من المسائل التي بحثها العلماء رحمهم الله في الطلاق ما يكون من الألفاظ الغير صريحة في الطلاق، وما يترتب على هذه الألفاظ مع النية ومع عدم النية.
ألفاظ كناية الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وكنايته] .
قوله: (وكنايته) جمع كناية، والكناية: من كن الشيء، قال تعالى: {من الجبال أكنانا} [النحل:81] .
فالكن: الشيء المستتر؛ لأن الجبال فيها كهوف يستكن بها من المطر والريح والشمس، وكذلك الجبال أكنان؛ لأنها تحفظ من الرياح العاتية، والمقصود أن (الكن) أصله الاستتار، وقالوا: إنه لفظ خفي، فهو يتردد بين الطلاق وبين غيره، فأصبحت الألفاظ التي يطلق بها تنقسم إلى قسمين: ألفاظ صريحة لا تحتمل معنى آخر كالطلاق، وألفاظ ليست صريحة في الطلاق الذي تعارف الشرع بأنه يكون صريحا، وحينئذ تتردد بين الطلاق وغيره.
حكم الطلاق بالكناية
مسألة: هل الطلاق ينحصر فقط في ألفاظه الصريحة، أم أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء وجمهور الأئمة من السلف من الصحابة والتابعين، ومنهم الأئمة الأربعة، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح، واستدلوا له بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي وأبي أسيد الساعدي -رضي الله عن الجميع-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج ابنة الجون) -وهي امرأة عقد عليها رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يدخل بها وكانت جميلة، (قال أبو أسيد: أنزلتها عند حائط بني ساعدة) والأشبه أن تكون سقيفة بني ساعدة، وكان هذا الحائط في الجهة الغربية إلى الشمالية من المدينة، ولا يزال إلى الآن معروفا، وما زالت له بقية- قال: (فألم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها لما دخل عليها: هبي لي نفسك) وهذا من باب كريم معاشرته عليه الصلاة والسلام لزوجاته، فالزوج ربما يتحدث بشيء يحدث عندها نوعا من السكينة ونوعا من الرغبة.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هبي لي نفسك) ومرادنا بشرح هذه الكلمات، الجواب على الظاهرية؛ لأن الظاهرية يرون أن هذه المرأة ليست بمنكوحة وإنما هي مخطوبة، وأن الذي وقع أنها وهبت نفسها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (هبي لي نفسك) وهذا ضعيف؛ لأن هبة النفس تكون قبل الدخول، حتى يحصل الدخول بعد ذلك فتحل له، قال تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب:50] ، وقال تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب:50] ، فكأنه يقول: أحللتها إن وهبت.
فالظاهرية ينفون أن هذا الحديث يدل على هذه المسألة، فهم يضعفونه من جهة أنهم يقولون: إنها وهبت نفسها، ولم يقع بعد النكاح، حتى يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (الحقي بأهلك) ليس من باب الطلاق، فهذا المراد.
ونحن نقول: هبي لي نفسك، من باب الاستئناس والمباسطة من كريم عشرته عليه الصلاة والسلام لأهله.
فقال لها: (هبي لي نفسك) فيقال: إن هذا شيء يقع بين النساء من باب العجب والغرور.
فقالت مغترة بنفسها من باب الإغراء: (وهل تهب العالية) وفي الرواية الصريحة: (هل تهب الملكة نفسها للسوقة) ، هل تهب المرأة العزيزة والشريفة العالية نفسها، وليس المراد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوقة، وإنما مرادها أنها شيء كبير جدا، وأنها أرادت أن تتعزز، والنساء بهن شيء من التعزز من باب الإغراء.
فأرادت أن تغري رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات.
فقالت: (وهل تهب الملكة نفسها للسوقة) أي: العزيزة الكريمة هل تهب نفسها لمن دونها؟
الجواب لا، فكأنها تقول: لا أهب.
وما جاءت بلا، لأنها لو قالت: لا أهب، لحصلت النفرة، فتأتي المرأة دائما بالإغراء بكلمة تتضمن المعنى، وتريد شيئا آخر.
فلما قالت ذلك: (مد يده إليها) إذا لو كان مرادها الإهانة لما مد يده إليها صلى الله عليه وسلم، فإنه أكرم من أن يقبل أن يهان، ولكن علم منها أنها تريد الإغراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات السير وقد تكلم العلماء على هذه الرواية: (أن أمهات المؤمنين قلن لها: إن أردت أن تكوني حظية، فقولي: أعوذ بالله منك -وكانت جميلة وكأنهن غرن منها- فلما مد يده إليها، قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد استعذت بعظيم، الحقي بأهلك) وكانت الحقيقة أنها حرمت من هذا الفضل العظيم.
فوجه الدلالة لما قال: (الحقي بأهلك) فجماهير العلماء والسلف، قالوا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (الحقي بأهلك) الذي هو ليس بصريح الطلاق، فليس بلفظ (طلاق) ولا (سراح) ولا (فراق) جعله طلاقا.
فقال لها: (الحقي بأهلك) ونواه طلاقا، فوقع طلاقا.
فنازع الظاهرية في هذا، وقالوا: (الحقي بأهلك) ؛ صرف من النبي صلى الله عليه وسلم ورد لها إلى أهلها، وهذا ضعيف؛ لأن الرواية في الصحيح تقول: (أمرني رسول الله أن أردها إلى أهلها) وفي الرواية الأخرى: (وألحقها بأهلها) والقائل هو أبو أسيد، فقد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من عندها، فقال: (ألحقها بأهلها، واكسها زارقتين) والتي هي متعة الطلاق، وهذه متعة، والمتعة لا تقع على امرأة ليست بزوجة، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، أنه وقع الطلاق ووقعت متعة الطلاق، فقول الجمهور له قوة من عدة وجوه: الوجه الأول: أنه لا يمكن أن يدخل بها لو كانت واهبة لنفسها قبل أن تقع الهبة صريحة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده إليها، ولا تمتد يده إلى أجنبية، قال: (إني لا أصافح النساء) ولا يمكن أن تمتد يده لامرأة لم تحل له بعد، خاصة وأنه قال لها: (هبي لي نفسك) فلو سلمنا للظاهرية أنها هبة، ولم تقع بعد، فلا يمد يده إلا وقد حصل النكاح، ولا يقع هذا إلا وقد كانت المرأة زوجة.
الوجه الثالث: مما يؤيد مذهب الجمهور، قوله صلى الله عليه وسلم لـ أبي أسيد: (اكسها زارقتين) والزارقتين: ملحفتين -نوع من الثياب- فجعلهما متعة لها، والمتعة لا تكون إلا بالطلاق.
ولذلك قال تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} [الأحزاب:49] ، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، وإذا ثبت هذا فإننا نخلص إلى حكم، وهو أن غير الصريح كالصريح، لكن بشرط وجود النية.
مذاهب العلماء في ألفاظ الكناية
قال رحمه الله: [وكنايته الظاهرة] .
إذا ثبت أن في الطلاق ألفاظ كنايات تدل على الطلاق ليس بصريحها، ولكن باحتمالها.
فإنها تنقسم هذه الألفاظ إلى قسمين: القسم الأول: يدل على الطلاق دلالة قوية، تشبه الصريح.
القسم الثاني: وهو دون ذلك.
وفي مذهب الحنابلة رحمهم الله قسموا الكنايات إلى ثلاثة أقسام: كناية ظاهرة، وكناية خفية، وكناية مختلف فيها.
فهناك ألفاظ اتفق على أنها ظاهرة، وألفاظ اتفق على أنها خفية، وألفاظ ترددت بين الخفي والظاهر.
والحنفية رحمهم الله عندهم العبرة في باب الكنايات بالنية، فألفاظ الكنايات كلها يرجعون فيها إلى النية؛ لكنهم استثنوا (اعتدي) (واستبرئي رحمك) (وأنت حرة) .
فـ (اعتدي) لأن العدة لا تكون إلا من طلاق، (واستبرئي رحمك) لأن الاستبراء من الرحم مثله (وأنت حرة) فالمرأة لا تكون حرة إلا إذا خرجت من عصمة زوجها، فهذه الألفاظ الثلاثة عندهم أقوى ألفاظ الكنايات الدالة على الطلاق.
وأما بالنسبة للمالكية رحمهم الله فهم أوسع المذاهب في وقوع الطلاق؛ لأنه سبق وأن ذكرنا الرواية عنهم أنهم يطلقون بالنية، حتى لو أن اللفظ لا يحتمل الطلاق ألبتة، أو ليس له أي علاقة بالطلاق، ونوى الطلاق به طلقت، ونصوا على أنه لو قال: (اسقيني ماء) ناويا به الطلاق؛ طلقت، فأوسع مذهب في الطلاق هو مذهب المالكية.
فأصبح اللفظ عندهم ضعيفا؛ لأنهم يرون تأثير النية أكثر من اللفظ، ولذلك تجد مسألة الكنايات عندهم ليست كغيرهم ممن يجعل حدودا وضوابط معينة، ويقسم اللفظ إلى الصريح وغير الصريح، ويجعل للفظ تأثيرا كما هو مذهب الجمهور.
أما الشافعية رحمهم الله ففي الحقيقة أن مذهبهم من أقرب المذاهب، والحق يقال في هذا؛ فإنهم قالوا: الأصل أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا إذا نوى، وليس عندهم كناية ظاهرة ولا خفية، وإن كان بعض الألفاظ أقوى من بعضها، لكن باب الكنايات عندهم واحد، فيرون أن الأمر راجع إلى نية المكلف، إن نوى الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، إلا أن الحنابلة في مذهبهم أقوى من الشافعية رحمهم الله لاعتمادهم الروايات عن الصحابة، وقضاء الخلفاء الراشدين، مثلا: قضية (بتة) ، وحكمهم فيها بالثلاث، وكذلك قولهم: (أنت حرام) (وأنت الحرام) ، وقضاء علي رضي الله عنه فيها بالثلاث.
فمذهب الصحابة يؤكد أن هناك ألفاظا هي دالة على الطلاق وإن لم تكن من صريح الطلاق، فعندما يقول الرجل لامرأته: أنت بتة، والمبتوتة -والعياذ بالله- هي المقطوعة، فإذا قال لها: أنت بتة، يعني: قطع ما بينه وبينها، قالوا: هذا ما فيه إشكال أنه يريد الطلاق.
فمثل هذا اللفظ نفسه يدل على الطلاق، ويدل على حل العصمة، ولذلك يقارب الصريح، ومثله (بتلة، برية، أنت الحرج، أنت خلية) ، هذه الألفاظ التي ذكرها المصنف.
كنايات الطلاق الظاهرة
قال رحمه الله: [وكنايته الظاهرة، نحو: أنت خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأنت حرة وأنت الحرج] .
كناية الطلاق الظاهرة إن نوى الطلاق تقع بالثلاث وتحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، وعند الإمام أحمد إن لم ينو بها فواحدة، والألفاظ الظاهرة هي: (أنت بتة، بتلة، برية، بائن، خلية، أنت الحرج، أنت حرة) ، فيزاد على ما ذكره المصنف: (أنت حرة) فتصبح سبعة ألفاظ.
قوله: (أنت بائن) تكون زوجة الرجل في عصمته فيقول لها: أنت بائن.
والبينونة إما بينونة صغرى وإما بينونة كبرى، فإذا قال لها: أنت بائن، إن كان قبل الدخول، فيستقيم أن تكون طلقة إن نواها، فتطلق طلقة واحدة، ولا تكون ثلاثا، كما صرح المصنف.
ولهذا إذا قال لها: (أنت بائن) ولم يكن دخل بها، فإنها تبين بطلقة واحدة، وتكون البينونة الصغرى، وفي هذه الحالة إذا نوى الطلاق فإنها تبين بالواحدة، لكن إن كانت مدخولا بها وقال: قصدت الطلاق، فإنها تطلق ثلاثا؛ لأن المدخول بها لا تكون بائنا إلا بالثلاث، فلا تحرم على زوجها وتكون بائنا إلا ببينونة كبرى، أما البينونة الصغرى فتكون طلقة رجعية ولا تنفذ حتى تخرج من عدتها، والبينونة الصغرى تحل للزوج بعقد جديد، والكبرى لا تحل إلا بعد نكاح زوج آخر، قال تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة:230] والرجعية تحل له بدون عقد.
فهذا الفرق بين الرجعية البائن بينونة صغرى وبين البائن بينونة كبرى.
ولأجل توضيح هذه الصورة: إذا قال لها: أنت بائن، وقصد الطلقة الواحدة بغير المدخول بها استقام القول، ونيته معتبرة، ولا إشكال في كونه قاصدا لذلك.
لكن لو قال لها: أنت بائن، وقد دخل بها، فبينه وبين الله أنه طلقها طلاقا تبين منه، ولا تبين المرأة إن كانت في العصمة إلا بالثلاث، كما هو قضاء عمر بن الخطاب وقضاء الصحابة رضي الله عنهم، والعمل عليه عند الأئمة رحمهم الله.
وإذا قال لها: أنت برية، فالمرأة يبرؤها زوجها إذا خرجت من عصمته، فإن كانت في عصمته وقد دخل بها؛ فإنها لا تكون بريئة بالمعنى التام الكامل إلا بالثلاث.
قوله: (أنت بتة) المبتوتة لا تكون إلا بالثلاث، ولذلك تقول امرأة رفاعة: (فبت طلاقي) ، وقالت فاطمة رضي الله عنها: (أرسل لها آخر التطليقات وبت طلاقها) .
فالمبتوتة هي صاحبة الثلاث.
قوله: (بتلة) كذلك إذا قال لها: أنت بتلة، والبتل: هو قطع الوصال.
فالمرأة البتلة هي التي قطع الوصال بينها وبين زوجها، ولا ينقطع الوصال إلا بالثلاث؛ لأنه لو قلنا في هذه الألفاظ: إنها تعد طلقة واحدة لم تكون مبتوتة من كل وجه، ومن حقه أن يردها، ولم تكن بائنة من كل وجه؛ لأنه من حقه أن يرتجعها.
فقالوا: لا تحمل إلا على الثلاث، وأكدوا ذلك بقضاء علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة في ألفاظ الكنايات.
وأما قوله: (أنت الحرج) فالمرأة لا تكون حرجا على زوجها إلا إذا بانت من عصمته، وانحلت العصمة بدون رجعة، حتى تكون حرجا عليه، فتكون حرجا عليه بالثلاث.
فلو حملناه على الواحدة لم يتفق مع اللفظ الذي قاله، فهو يقول: أنت الحرج.
قوله: (أنت حرة) والمرأة لا تكون حرة خالية من زوجها إلا بالثلاث، فتكون بائنة بينونة كبرى.
قوله: (أنت خلية) .
تكون المرأة خلية من زوجها، إذا خرجت من عصمته بالطلاق البائن أو من عدتها، وتكون حرة حينئذ، لكنها وهي في عصمته وفي نكاحه، إذا قال لها: أنت حرة، كأنه يقول: قصدت أن تخرجي من عصمتي بالكلية، وهذا لا يكون إلا بالثلاث.
فهذا وجه تخصيص هذه الألفاظ: (أنت بتة، بتلة، بائن، برية، أنت حرج، أنت خلية أنت حرة) .
فهذه السبع تعتبر من الكنايات الظاهرة.
كنايات الطلاق الخفية
قال رحمه الله: [والخفية] .
هذا النوع الثاني أدخل المصنف فيه ألفاظا اختلف فيها.
والخفية أضعف من الظاهرة، فالرجل إذا طلق امرأته بالكناية الخفية يرجع إلى نيته، إن نوى الطلاق فالطلاق، وإن لم ينو الطلاق فليس بطلاق.
قال رحمه الله: [فالخفية نحو اخرجي] .
اخرجي، اذهبي، تقنعي، لست لي بامرأة، لست لي بزوجة، هذا بالنسبة للخفية.
واختلف في النوع الثالث وسيذكر المصنف بعض ألفاظه في الخفية؛ لأنه رجح أنه من الخفية، وبعض العلماء يراه من الظاهرة، كقوله: لا سلطان لي عليك، لا سبيل لي عليك، فهذه قيل: إنها ظاهرة؛ لأن المرأة حينما يقول لها زوجها: لا سلطان لي عليك، فمعنى ذلك أنها قد خرجت من عصمته بالكلية؛ لأنه لو قلنا: إنها طلقة واحدة؛ فإنه له سلطان أن يرتجعها بعد الطلقة، ولذلك قالوا: تكون كقوله: أنت بائن، أنت بتة، أنت بتلة إلخ.
كما تقدم.
قال رحمه الله: [نحو اخرجي واذهبي] .
اخرجي من البيت، اذهبي لأهلك، اذهبي لأبيك، اذهبي لأخيك، هذا اللفظ: (اخرجي، اذهبي) يحتمل معنيين: يحتمل أن الرجل في غضب، وفي حال من الانزعاج، ولا يريد أن تكون زوجته عنده حتى لا يحتد الأمر ويصل إلى الطلاق، فقال لها: اخرجي أو اذهبي إلى أهلك، ولعل الله أن يخفف ما به من الغضب، أو يذهب ما به من السخط، فلا يقصد الطلاق، فإذا قال لها: اذهبي، الحقي بأهلك، اخرجي، قاصدا أن تذهب إلى أهلها، ولم يقصد الطلاق، فليس بطلاق، إذا لم ينوه طلاقا، فكان من الخفي.
قال رحمه الله: [وذوقي] .
أي: إن المرأة تتذوق عسيلة الغير، حتى ولو كان المقصود طلقة رجعية؛ فإنها تطلق.
قال رحمه الله: [وتجرعي] .
الذوق يكون في الطعام والشراب، والتجرع يكون في الشراب غالبا، قال تعالى: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه} [إبراهيم:17] ، وكأنه يقول: تجرعي، أي: اذهبي لغيري، من أجل أن يصيبك، فهذا في معنى الطلاق.
وقد يكون من تجرعي بمعنى: الطرد، أو تجرعي بمعنى: أن تفارقه مدة، فتتجرع ألم الفراق عن الزوج، فليس من الصريح، وبعض العلماء يجعلونه من الصريح.
قال رحمه الله: [واعتدي] .
لأن المرأة تعتد بطلقة واحدة.
فهذا ليس من الثلاث، وأيضا قد يقصد به الطلاق، وقد لا يقصد به الطلاق.
قال رحمه الله: [واستبرئي] واستبرئي كذلك.
قال رحمه الله: [واعتزلي] .
فإن المرأة تعتزل زوجها مطلقة، وتعتزل زوجها دون طلاق، فلا يقصد به حل عصمتها.
قال رحمه الله: [ولست لي بامرأة] .
أي: على الكمال أو كما ينبغي أن تكون المرأة لزوجها، وقد يكون المراد (لست لي بامرأة) أي: أنك طالق.
فيتردد بين كونها طالقا وغير طالق، فينظر إلى نيته، فإن قال: لست لي بامرأة ناويا الطلاق فيقع طلاقا، وإن لم ينو به طلاقا فليس بطلاق.
قال رحمه الله: [والحقي بأهلك] .
كـ ابنة الجون، فإن قال لها: اذهبي لأبيك، اذهبي لأهلك، اذهبي لأخيك وقصد به الطلاق فطلاق، وإن قصد بها أن تذهب فترة حتى يسكن غضبه أو يسكن غضبها أو يسكن غضبهما معا فلا طلاق.
قال رحمه الله: [وما أشبهه] .
أي: وما أشبهه من الألفاظ.
وقوع طلاق الكناية بالنية ودلالة الحال
قال رحمه الله: [ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق، إلا بنية مقارنة للفظ إلا حال خصومة أو غضب أو جواب سؤالها] .
بالنسبة للطلاق بالكنايات، قلنا: مرده إلى النية، وبعض العلماء يرى أن الكنايات الظاهرة -كما هو موجود في مذهب المالكية- تقارب اللفظ الصريح، ولا يعتد بها صريحا، فعندهم تضعف النية على هذا الوجه، فالمصنف رحمه الله مشى على المذهب من أنه ينظر فيه إلى النية، فإذا نوى به الطلاق فيشترط أن تكون النية مصاحبة للفظ، كأن يتلفظ بأنت بائن، أو أنت برية أو أنت خلية، أنت حرج وهو ناو الطلاق والنية مصاحبة للفظ.
فإن تأخرت نيته للطلاق عن اللفظ لم تؤثر.
ولكن عندنا في الكناية جانبان ينبغي أن نتنبه لهما، الأول: النية.
والثاني: دلالة الحال.
فأما النية فمثلما ذكر المصنف، وتكون مصاحبة للفظ، إما مقاربة له أو تكون مع اللفظ الذي نيته الطلاق، فإن تأخرت فإنها لا تؤثر كما ذكرنا.
أما دلالة الحال: كأن يقول لها ذلك في الغضب أو يقول لها ذلك في جواب السؤال، هذا يسمى دلالة الحال، ويطلق به في الكنايات، كامرأة قالت لزوجها: طلقني، فقال لها: أنت بائن، أو قالت له: طلقني، فقال لها: أنت خلية أو أنت برية أو أنت خلية أو أنت الحرج أو اعتدي أو استبرئي، فطلاق، هذا إذا كان الحال جواب سؤال، وأما عند الخصومة فكما لو اختصم مع زوجته واشتد الخصام، فقالت له كلمة أغضبته، فقال لها بعد ذلك: أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت حرج، أنت حرة، فحينئذ يحكم بالطلاق.
وقوع الطلاق حكما بالكناية الظاهرة وإن عدمت النية
قال رحمه الله: [فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال، لم يقبل حكما] .
هذا إذا كان تلفظه بالكناية جوابا للسؤال أو كان لفظه من الصريح؛ ولكن بينه وبين الله ينفعه.
فاختلفت الكناية الظاهرة عن اللفظ الصريح من جهة النية، فاللفظ الصريح يطلق به ولو لم ينو ما دام أنه قد قصد اللفظ.
وأما بالنسبة لغير الصريح -الكنايات- فإننا لا نطلق إلا مع النية، ديانة وحكما.
فإن تخلفت النية أخذنا بالظاهر، كما لو سألته زوجته أن يطلقها، فقال لها: أنت بائن.
فإننا نطلق حكما، وبينه وبين الله تنفعه نيته، لكننا نطلق حكما وقضاء.
فمثلا لو قال لها: أنت بتة، ولم ينو الطلاق، وقصد أنت مقطوعة، أي: ما عندك أخوال ولا أعمام ولا أناس يحمونك، أو عندك أبوك وأخوك وقرابتك ولكن لا ينفعونك، فقصد: أنت بتة، يعني: أنت ضعيفة، يريد أثناء الخصومة.
فنحن نعمل بالظاهر على أنه طلاق، لكن بينه وبين الله قصد أنها مبتوتة، أي: ليس لها أحد يحميها أو يكون معها، فينفعه فيما بينه وبين الله، ولا ينفعه قضاء.
وقوع الطلاق بالكناية الظاهرة ثلاثا ولو نوى واحدة
قال رحمه الله: [ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثا وإن نوى واحدة] .
قوله: (بالظاهرة ثلاثا ولو نوى واحدة) إلا ما استثناه بعض العلماء وهو: إذا كان قبل الدخول وقال لها: أنت بائن، فالأشبه في طلاقه لها بالبينونة يتجه أن يكون بينونة صغرى بخلاف المدخول بها؛ فإنه لا بينونة لها على هذا الوجه إلا بثلاث، فلا تنفعه النية.
إذا: إذا طلق بالكناية الظاهرة لم يخل في نيته بالطلاق من حالتين: أن يطلق بالكناية الظاهرة ناويا الثلاث فثلاث، كأن يقول لها: بتة، بتلة، بائن، برية، حرج، حرة، فهذه توجب الثلاث بنيته، فحينئذ لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن قصد بالظاهر الطلاق واحدة، كأن يقول لها: بتة، بتلة، برية، بائن، حرج، حرة، وقصد واحدة فثلاثا؛ لأن هذه لا تحتمل الواحدة فلا توجد واحدة بائنة؛ إلا ما ذكرناه في غير المدخول بها، ولا توجد بريئة بتة مقطوعة من كل وجه بطلقة واحدة فقط، كما ذكرنا بالتفصيل.
قال رحمه الله: [وبالخفية ما نواه] فافترقت الخفية عن الظاهرة من جهة قوة تأثير النية بالخفية دون الظاهرة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #557  
قديم يوم أمس, 05:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (435)

صـــــ(1) إلى صــ(10)





شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [6]
هناك ألفاظ يطلقها الزوج ويختلف الأثر المترتب عليها باختلاف نيته وقصده، وهذه الألفاظ يكثر السؤال عنها وتعم بها البلوى، ولهذا بحث العلماء رحمهم الله هذه الألفاظ وما يتعلق بها.
حكم تحريم الزوج زوجته على نفسه
قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قال: أنت علي حرام أو كظهر أمي؛ فهو ظهار ولو نوى به الطلاق] .
هذه المسألة تعرف بمسألة تحريم الزوجة.
أولا: ما هو لفظ التحريم؟ وما هي صورته التي يقع بها؟ لفظ التحريم يقع عاما ويقع خاصا.
يقع عاما فيقول: ما أحل الله لي فهو حرام علي، أو الحلال حرام علي، هذا اللفظ يعتبر لفظا عاما، ويسمونه: لفظ تحريم عام، والزوجة داخلة تحت هذا العموم.
الحالة الثانية: أن يخص ويخاطب الزوجة، فينقسم إلى التعريف والتنكير، فالتنكير كخطابه لزوجته وقوله لها: أنت حرام، زوجتي حرام، حرمت.
هذه كلها بألفاظ النكرة، والتعريف كقوله: أنت الحرام، علي الحرام منك، ما أحل الله لي منك فهو الحرام علي، أو الحلال حرام بالعموم كأن يقول: الحلال منك حرام علي، هي حرام.
ونحو ذلك، هذه كلها ألفاظ تحريم، وهذا اللفظ حكمه في الشرع أنه زور وإثم على صاحبه -والعياذ بالله- لأن الله حرم على المسلم أن يحرم ما أحل الله له، وأجمع العلماء على أنه آثم، والدليل على ذلك: أولا: قوله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل:116] ، فهو يقول: (حرام) في موضع حلال، فيفتري على الله الكذب، فجعل ما أحل الله حراما وما حرمه حلالا.
فكيف يجعل الحلال حراما والحرام حلالا؟! فكان هذا افتراء وكذبا على الله.
ثانيا: ما ثبت عند أحمد في مسنده وهو حديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فقال: (أحل أشياء فلا تحرموها) فأحل الله له زوجته، والزوجة حلال له بحكم الله عز وجل، قال تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب:50] .
فإذا ثبت أنها حلال له وقال: أنت حرام علي، حرمتك، الحرام يلزمني.
فإنه في هذه الحالة جعل ما أحل الله له حراما، وقد عاتب الله نبيه في هذه المسألة، فقال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] ، والاستفهام في قول الجماهير من المفسرين استفهام يتضمن المعاتبة والإنكار؛ كأنه أنكر على نبيه ذلك، فدل على أنه يحرم على المسلم أن يقول هذه الكلمات.
هذه المسألة الأولى: عرفنا ما هو الحرام، وعرفنا الحكم الشرعي فيه، والواجب على كل طالب علم سمع رجلا يقول: علي الحرام، زوجتي حرام، أنت حرام.
أن يقول له: اتق الله واستغفر الله من هذا الذي تقول، فإن الله لم يأذن لك أن تحرم ما أحل لك، كما لم يأذن لك أن تحل ما حرم عليك.
فلا يجوز لك هذا، وتنصح وتقول له: هذا حرام عليك.
توجيه العلماء وأئمة المذاهب لقول الرجل لزوجته: أنت علي حرام
مسألة إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، أنت حرام، حرمتك، فما الحكم؟! هذه المسألة فيها تفصيل وكلام طويل، فهناك ما يقرب من عشرين قولا للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة التي هي من أطول المسائل، والكلام فيها مستفيض، فقد حكى فيها الإمام القرطبي -من أئمة التفسير- وغيره في كتب أحكام القرآن، وتكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، عليها في أعلام الموقعين وفي الهدي أيضا، وأجاد فيها وأفاد كعادته رحمه الله برحمته الواسعة، وتكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى كلاما نفيسا، واختار ما رجحه بدليله.
فهذه المسألة من مشهورات المسائل والتي طال فيها الكلام بين العلماء، لكن الذي يهمنا هو ما ذكرته المذاهب المشهورة، والتي هي المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية رحمة الله على الجميع؛ لأن هذه المذاهب في الغالب احتوت خلاف الصحابة، وجعل الله لهذه المذاهب من القبول ما لم يجعله لغيرها؛ لأنها شملت أكثر الأقوال، فقل أن تجد مسألة يخرج فيها الخلاف عن هذه الخمسة الأقوال، وقد يوجد لكن يندثر مع طول الزمان، لكن الله عز وجل أبقى هذه المذاهب واعتنى بها لحكمة يعلمها سبحانه، فلله عز وجل في ذلك الحكمة، وهو أعلم بما جعل لعباده.
فالمقصود أننا نقتصر على المشهور، قال الحنفية: لو أن الرجل قال لامرأته: أنت حرام، علي الحرام، الحلال منك علي حرام.
قالوا: إما أن ينوي طلاقا أو ينوي ظهارا أو ينوي يمينا أو ينوي لغوا وكذبا، وفي حكمه ألا ينوي شيئا.
قالوا: إذا قال: زوجتي حرام، أنت علي حرام، حرمتك، قاصدا الطلاق، سألناه: هل تقصد طلقة؟!! فإن أراد واحدة فواحدة رجعية، وإن أراد طلقتين فاثنتين، وإن أراد ثلاثا فثلاثا، وتحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، هذا إذا نوى الطلاق.
وأما إذا نوى الظهار، فعندهم قولان: قيل: يكون ظهارا، وقيل: لا يكون ظهارا.
والخلاف كان بين الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف من جهة، ومع الإمام محمد بن الحسن من جهة أخرى، والمذهب مع قول الإمام أبي حنيفة أنه إذا نوى الظهار صار ظهارا، فإذا قال: أنت علي حرام، يعني: لا أطؤك.
يعني: كظهر أمي، فيحرم وطؤها، ويجعلها كأمه لا يستمتع بها، فإذا نوى ذلك فظهار.
الحالة الثالثة: أن تكون نيته اليمين، فيقول: نويت أن يكون يمينا، فحينئذ تلزمه كفارة اليمين.
الحالة الرابعة والأخيرة: أن يقول لها: أنت علي حرام، أنت حرام، وينوي اللغو أو الكذب، فعندهم فيه وجهان: قيل: إنه لغو مطلقا، وقيل: لغو، وإن رفع إلى القضاء وقال: ما نويت شيئا أو قصدت الكذب أو قصدت اللغو، فإننا في هذه الحالة نلزمه أن يحلف اليمين ليصدق قوله، وليس عليه شيء، وهذا حاصل ما ذكره فقهاء الحنفية.
والشافعية وافقوا فقهاء الحنفية في هذا التفصيل، والفرق بين الحنفية والشافعية في الحالة الأخيرة إذا لم ينو شيئا، فعند الشافعية يكفر كفارتين، وتنعقد يمينا، وعند الحنفية لا تنعقد شيئا.
فالشافعية يوافقون الحنفية إلا في مسألة عدم النية.
القول الثالث: قول المالكية، فرقوا بين النكرة والمعرفة.
في التنكير إذا قال: أنت حرام، حرمتك.
فإنه طلاق بالثلاث، وتحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره.
وأما إذا قال: أنت حرام، وهناك عرف، فننظر إلى العرف الذي هو فيه؛ فإن جرى العرف الذي هو فيه أنه طلاق، فيحتسب بحسب ذلك العرف، إن كان رجعيا فطلاق رجعي، وإن كان بائنا فبائن.
وأما بالنسبة للحنابلة رحمهم الله فأقفلوا الباب في المسألة نهائيا، فقالوا: من قال لامرأته: أنت علي حرام، أنت الحرام، حرمتك؛ فإنه ظهار مطلقا، حتى ولو نوى به الطلاق أو اليمين فظهار.
والذي دعا العلماء إلى هذا الاختلاف كما قرره الإمام القرطبي وغيره من جهابذة العلماء في بيان أن السبب في اختلاف الأقوال وتعددها: أنه ليس هناك نص لا في الكتاب ولا في السنة يبت في هذه المسألة وفي وجوهها، وإن كانت آية التحريم في جانب من الجوانب تقوي بعض هذه الأقوال، لكن بالنسبة لقضاء الصحابة اختلف، فعن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه جعل (أنت علي حرام) طلاقا بالثلاث يوجب البينونة الكبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، والسبب في هذا أنه إذا قال لزوجته: أنت علي حرام، فالمرأة لا تكون حراما على زوجها إلا بالثلاث.
فهذا قضاء علي رضي الله عنه والخليفة الراشد المأمور باتباع سنته.
أما عثمان رضي الله عنه، فإنه كان يرى أن (أنت علي حرام) ظهار، وسبب هذا الاختلاف راجع إلى الأدلة وفهم النصوص، فليس هذا الخلاف عبثا، والصحابة من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم اختلفوا، فـ علي رضي الله عنه عندما جعله ثلاثا نظر إلى كلمة (حرام) فالشرع لا يحرم الزوجة إلا بالثلاث؛ لأنه لو قال: واحدة؛ لم تكن حراما، فهو بينه وبين الله جعل امرأته حراما، فأخرجها من عصمته كما لو قال لها: أنت طالق بالثلاث، هذا قضاء علي.
فإذا نظرت إلى قضاء علي رضي الله عنه، فإن عليا نظر إلى اللفظ والمتلفظ -الذي هو الزوج- وأما عثمان فنظر إلى المحل، فالمحل -المرأة- تعلقت به صفة التحريم، ولذلك وجد في الشريعة جانبان: تحريم خاص: وهو تحريم الاستمتاع، وتحريم عام وذلك بالتطليق ثلاثا، فقال: اليقين عندي أن آخذ بأقل التحريم؛ لأن الأصل أنها زوجته، فأقول: أحرم عليك فقط وطأها ويكون ظهارا، وهو قول عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فكل ينظر إلى جانب، إما أن تنظر إلى محل اللفظ، وإما أن تنظر لدلالة اللفظ، فإن نظرت إلى دلالة اللفظ أنه حرمها وأخرجها من عصمته، فلا تحرم ولا تخرج من عصمته إلا بالثلاث، وإن نظرت إلى أن المحل في حكم الشرع تعلق به تحريم، فالشرع يحرمه بالثلاث، ويحرمه بالظهار، وأيضا يحرمه بالإيلاء، وذلك باليمين.
وقد قضى ابن عباس أنها يمين، ونظر إلى ما يتعلق به التحريم من جهة اللفظ في حلف الرجل المولي فقال: حكمه حكم اليمين، وجعله يمينا.
والحنفية يعملون قول ابن عباس رضي الله عنه في جعله يمينا في بعض الأحوال، ويجعلونه إلى حد الأربعة الأشهر، ويسري عليه حكم الإيلاء من هذا الوجه، هذا بالنسبة لمن قال: إنه ظهار، ومن قال: إنه ثلاث طلقات، ومن قال: إنه يمين.
أما الظاهرية فقالوا: هذا لغو ولا شيء فيه، وما دليل الظاهرية؟ ولماذا قال الظاهرية بهذا؟ قول الظاهرية هو رواية عن ابن عباس، فشركوا الأئمة الأربعة بأن قولهم له أصل أيضا من الصحابة، وإن كان أصل من قال بالثلاث ومن قال بالظهار أقوى في الصحابة؛ لأن عثمان وعليا ليسا كـ ابن عباس رضي الله عنه، ولأن منزلة عثمان وعلي في الأمر باتباع سنتهم تجعل رجحان المروي عنهما أكثر من ابن عباس رضي الله عنه.
فالشاهد أن الظاهرية قالوا: إنه لغو، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنه وقال به بعض أئمة السلف كـ مسروق رحمه الله، واحتجوا بأدلة منها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) فوجدنا أن قوله: (أنت علي حرام) لا يستقيم مع الشرع ألبتة، فالشرع جعلها حلالا، وهو يقول: إنها حرام، فقالوا: في هذه الحالة صار من البدع، ومن المعارض للشرع فهو لغو، ووجوده وعدمه على حد سواء، هذا مذهب الظاهرية ومسلكهم.
والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بالنية، فإن القول بالنية من القوة بمكان؛ لأن الرجل حينما قال لامرأته: أنت علي حرام، فهناك شيء بينه وبين الله، فإن قصد به الثلاث فثلاث كما قضى علي رضي الله عنه، وإن قصد به الظهار صار للمحل؛ والأصل في الشريعة الرجوع إلى اللفظ والمتأثر؛ وهي زوجته، والله جعل الطلاق له، واللفظ صادر منه، فلا يصار إلى المحل -كما اختار بعض العلماء وبعض السلف رحمهم الله- إلا بعد وجود الشبهة التي توجب الانصراف عن المتلفظ؛ لأن الأصل في الشريعة في باب ألفاظ الكنايات إذا وجدت مسألة خلافية أن ترجع إلى أصلها، (فأنت حرام) ليس من الصريح، وإنما هو من الكنايات، وباب الكنايات الأصل فيه النية؛ ولذلك مذهب الشافعية في اعتبار النية في الكنايات هو الذي تطمئن إليه النفس.
وهنا نطبق الأصل الذي رجحناه أننا ننظر إلى نيته فنقول: إذا قال لها: أنت علي حرام، وقصد طلاق الثلاث فكيف نجعله ظهارا؟ لا يمكن، لأن الرجل فيما بينه وبين الله قصد أن يطلق امرأته طلقة أو طلقتين أو ثلاثا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فنص على أن من نوى الشيء كان له، فنقول: هذا متردد بين الظهار واليمين والتحريم والطلاق ثلاثا واللغو، فنعتبر نيته.
يبقى
السؤال إذا كنا نرجح أنه ينظر إلى نيته، لو قال لنا: لا نية لي، فنقول: إن أصح الأقوال في هذا أيضا مذهب الشافعية أنه يكفر كفارة اليمين؛ لأن الله قال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} [التحريم:1 - 2] فكفر عنه عليه الصلاة والسلام بكفارة اليمين، فدل على أن من حرم يكفر كفارة اليمين إن قصد التحريم الموجب لليمين كما ذكرنا إن نواه يمينا، وإن لم ينوه يمينا بقي موجب التحريم الذي أخذ به عليه الصلاة والسلام وألزم بكفارته.
وهذا حاصل ما يقال في مسألة التحريم، والخلاصة: أن من قال لامرأته: حرمتك أو أنت علي حرام، ولم تكن له نية معينة عند قوله ذلك فالراجح أنه يكفر كفارة يمين، كما يحصل في عرف بعض الناس ويكون معتادا عندهم أن يقول أحدهم: علي الحرام، زوجتي حرام، أو

حكم قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ناويا الطلاق

قال رحمه الله: [وإن قال: أنت علي حرام أو كظهر أمي فهو ظهار ولو نوى به الطلاق، وكذلك ما أحل الله علي حرام] جمعها كلها في مسألة واحدة، أنت علي حرام، أو أنت علي كظهر أمي، أما قوله: أنت علي كظهر أمي، فهذا ظهار، وبالإجماع أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أنه ظهار، وإن كان هناك خلاف في مسألة: أنت علي كيد أمي، كرأس أمي، كعين أمي، بذكر أعضاء غير الظهر، وفي حذف الظهر كلية كقوله: أنت كأمي، وهناك خلاف إذا ذكر غير الأم: أنت كأختي، أنت كعمتي، كخالتي ونحو ذلك، فهل يكون ظهارا، كل هذا -إن شاء الله- سنفصله في مسائل الظهار.

حكم قول الرجل: ما أحل الله علي حرام

قال رحمه الله: [وإن قال: ما أحل علي حرام] ما أحل الله علي من امرأتي سواء عموما أو خصوصا، عموما: ما أحل الله علي، وخصوصا: ما أحل الله علي من امرأتي.
قال رحمه الله: [أعني به الطلاق، طلقت ثلاثا، وإن قال: أعني به طلاقا، فواحدة] قوله: (أعني به الطلاق) (ال) للاستغراق، إذا قال: أعني به الطلاق، أي: إني أطلقها؛ فإنها لا تكون حراما عليه إلا بالثلاث، فأعمل الحنابلة في هذا قضاء علي رضي الله عنه يجعل تحريم المرأة طلاقا ثلاثا، فقالوا: هذا قضاء من الصحابة رضوان الله عليهم فتطلق عليه ثلاثا؛ لأنه قصد الطلاق بالاستغراق، لكن لو قصد مطلق الطلاق، قال: أعني به طلاقا، فتكون طلقة واحدة فيفرق بين قوله: (أعني به الطلاق) الذي يدل على الاستغراق، (وأعني به طلاقا) الذي يدل على طلقة واحدة.
حكم من شبه زوجته بالميتة أو الدم أو نحو ذلك
قال رحمه الله: [وإن قال: كالميتة والدم ولحم الخنزير؛ وقع ما نواه من طلاق وظهار ويمين، وإن لم ينو شيئا فظهار] .
هذه المسألة الخلاف فيها بين المالكية والحنابلة، إذا قال لها: أنت علي كالميتة، أو كالخنزير، أولا: هذا إثم ومنكر وزور من القول؛ لأن الله كرم بني آدم، ولا يجوز تشبيه الآدمي بالحيوان، ولا يجوز ذلك إلا للكافر {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان:44] فالأنعام أفضل من الكافر؛ لأن الأنعام تعرف الله، لذلك لو نظرت إلى البهيمة وهي في المخاض تريد أن تضع حملها، تجدها ترفع بصرها إلى السماء، كأنها تستجير بالله سبحانه وتعالى، وتدعو ربها وتستغيث بالله سبحانه وتعالى، وفيها من التوحيد والإيمان والالتجاء والرجوع إلى الله ما لا تجده عند الكافر الذي كفر نعمة الله، ففضلت لهذا، ولذلك الكافر إذا أخذ في الأسر ضرب الرق عليه في الإسلام، وكان حاله أسوأ من البهيمة -أكرمكم الله- فيباع ويشترى؛ لأنه كفر نعمة الله، فخرج عن آدميته، وهذا المعنى ينبغي أن ينتبه له، أنه لا يجوز تشبيه المسلم والمسلمة بالبهيمة.
ولذلك القاضي لو ارتفع إليه مسلم شبه أخاه المسلم ببهيمة قال له مثلا: أنت كالشاة، أو كالبقرة، أو كذا، فإنه يعزره ويؤدبه بما يليق بحاله وحال من خاطبه بهذا، فلا يجوز تشبيه المسلم أو المسلمة بالبهيمة، فالعلماء لما قالوا: إن قال: كالميتة؛ لا يعني أن هذا جائز، فإن هذا لا يجوز بالإجماع، والله تعالى يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ولم يبح للزوج إهانة المرأة، ولم يعطه أن يستبد، وأن يخرج عن طوره إلى ما حرم الله عز وجل عليه، ولذلك حينما يستبد ويخرج عن طوره؛ فإنه يقع في الإثم، والمسلم لا يتعدى حدود الله عز وجل، فلا يجوز قول مثل هذا الكلام؛ لأنه من أشنع ما يكون في إهانة المرأة، فالميتة نجسة، وهذه مسلمة، فلا يجوز تشبيه الطاهر بالنجس، ولا يجوز تشبيه الآدمي بالبهيمة كما ذكرنا، فاللفظ محرم بالإجماع، لكن لو قال لها ذلك؛ كأنه يقول: أنت علي كالميتة، هذا أصل التقدير، والمالكية يجعلونها مطلقة ثلاث تطليقات؛ لأنه شبهها بأقصى درجات التحريم، فإنه إذا قال لها: كالميتة؛ معنى ذلك أنها لا تحل له ألبتة، فقالوا: في المشبه به وصف يقتضي أنها لا تحل له أبدا.
وعلى هذا يقولون: إنها في الأصل ليست بحلال، فالمرأة حرام عليه إلى الأبد، فإذا كأنه يقول: حرام علي إلى الأبد، وليس هناك تحريم إلى الأبد، وإنما هناك تحريم في حكم العدد وهو تحريم الثلاث، فأعطوه غاية التحريم وهو الثلاث.
قوله: (وقع ما نواه من طلاق وظهار ويمين) الحنابلة خففوا في هذه المسألة وقالوا: إن شبهها بهذا رجع إلى نيته، إن قصد اليمين فيمين، وإن قصد تحريم الظهار فظهار، وإن قصد تحريم الثلاث فثلاث، وإن قصد به عددا من الطلاق فبحسب ما نوى.
قوله: (وإن لم ينو شيئا فظهار) لأنه أشبه قوله: أنت علي حرام، فأنت كالميتة كالخنزير كالدم اشتركت هذه الألفاظ مع التحريم من جهة كونها كلها محرمة على المكلف.
حكم من قال: حلفت بالطلاق، وكذب
قال رحمه الله: [وإن قال: حلفت بالطلاق، وكذب؛ لزمه حكمه] أي: إذا قال الزوج للقاضي أو قال لأهل امرأته: حلفت بالطلاق، وهو لم يحلف بالطلاق، فإنه يؤاخذ بظاهره، هذا ما ذكرناه عند كلامنا عن طلاق الديانة وطلاق الحكم، وطلاق الظاهر وطلاق الباطن، كل هذا من هذا الباب؛ لأنه قد تطلق المرأة ديانة فيما بين الإنسان وبين الله، كأن يطلقها وهو جالس لوحده، فيطلقها الطلقة الثالثة والأخيرة ولم يخبرها، فهي حرام عليه ويصبح -والعياذ بالله- زانيا، ولو اعترف عند القاضي لرجمه؛ لأنه وطئها وهي محرمة عليه كالأجنبية، وقد أحصن فيرجم.
فهنا ينفذ الطلاق ديانة، وفي الظاهر ما أحد يعلم؛ لأنه كتمه ولم يخبر به؛ فهي حرام عليه ديانة، فلو أخبر القاضي تحرم عليه ديانة وقضاء.
والعكس: فتحرم عليه قضاء، ولا تحرم عليه ديانة؛ كأن يقول لها: أنت طالقة، وقصد طالعة، فسبق لسانه وقال: طالقة، فشهد الشهود أنه قال لامرأته: أنت طالقة، وقال: قصدت طالعة، فأخذ القاضي بالظاهر وطلقها عليه، فإنها تطلق حكما ولا تطلق ديانة، فلو وطئها فإنه يطأ حلالا عليه، لكن لو ارتفع للقاضي أنه وطئها، وكانت الطلقة الأخيرة وشهد الشهود، وقضى القاضي أنها طلقة، فطلقت عليه قضاء، فجاء وعاشرها بعد تطليق القاضي له، فإن علم القاضي رجمه، ويصبح في هذه الحالة شهيدا كالذي شهد عليه بالزنا ظلما وقتل، فالقاضي يحكم عليه بحكم الزاني ويرجمه، ولكن أمره إلى الله عز وجل، فهذا معنى الحكم قضاء والحكم ديانة.
فهنا إذا قال: حلفت بالطلاق وهو كاذب، وهذا ليس بصحيح، وأخبره بشيء لم يقع؛ فحينئذ لا تطلق ديانة وتطلق قضاء.
قول الزوج لزوجته: أمرك بيدك
قوله: [وإن قال: أمرك بيدك؛ ملكت ثلاثا ولو نوى واحدة] أي: لا يكون أمر المرأة بيدها من كل الوجوه إلا بالثلاث، ولذلك لو طلقت نفسها ثلاثا طلقت عليه ثلاثا، وإن قال لها: أمرك بيدك، ونوى واحدة فلذلك صور: الصورة الأولى: أن يقول: أمرك بيدك وينوي الثلاث طلقات ثلاثا، ولو نوى واحدة وطلقت ثلاثا فثلاثا، هذه بالنسبة لقضية (أمرك) ، فصوب إليها الأمر، وفيه قضاء عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأن الرجل إذا قال لامرأته: أمرك بيدك؛ فقد فوض الأمر إليها، وأنها إذا طلقت في هذه الحالة قضوا بأنها تطلق عليه.
قوله: [ويتراخى ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ] بقي
السؤال إذا قال لها: أمرك بيدك فهل يختص ذلك بالمجلس، فإذا قام عن المجلس ولم تطلق ولم يحدث شيء انتهى التفويض، أم أن (أمرك بيدك) يبقى متراخيا حتى لو بعد المجلس بيوم أو يومين أو ثلاثة
الجواب إذا جاءت وقالت: طلقت نفسي منك أو أردت الطلاق، وأريد الطلاق فطلقت؛ فإنها تطلق عليه ولو متراخيا.

الفرق بين قوله: (أمرك بيدك) وبين قوله: (اختاري نفسك)
قوله: [ويختص: اختاري نفسك بواحدة وبالمجلس المتصل] الفرق بين التفويض -كقوله: أمرك بيدك- والتخيير: أن التخيير يختص بواحدة، وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه {إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} [الأحزاب:28] هذا الخيار الأول، والخيار الثاني: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} [الأحزاب:29] وعظيما من الله ليست بالهين، فخيرهن بين أن يبقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصبرن على ما هو عليه من اختيار الله له من الآخرة، وضيق الدنيا، وبين أن يخترن السراح والفراق، فلما ابتدأ بـ عائشة رضي الله عنها قال لها عليه الصلاة والسلام: (لا تقولي شيئا حتى ترجعي إلى أبويك) يعني: إلى أبيك وأمك، فبدأ بها رضي الله عنها، فقالت: وما ذاك، فأعطاها الخيار امتثالا لأمر الله عز وجل أن يخيرهن، فلما أعطاها الخيار رضي الله عنها وأرضاها قالت: (أفيك أستخير يا رسول الله؟!) أي: هل هذا الأمر يحتاج أن أقوله لوالدي؟! رضي الله عنها وأرضاها، وهذا من مناقبها، فإنها ما ترددت ولا شاورت، وفي الحديث ما يدل على كمال منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علم علم اليقين أنها لو سألت والديها ما ترددا في بقائها معه، وأنها تكون عنده وأنها تختاره عليه الصلاة والسلام، فخشي صغر سنها وخشي أن يكون ضيق الحال مؤثرا عليها فتعجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (حتى ترجعي إلى أبويك) فردها إلى أبويها، فدل على أنه يحبها، وأن لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يحب أن تذهب عنه أو تختار غيره عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على صدق الزوجية وصدق المحبة، وأنه مع كمال نبوته كان يعطي الزوجة حقها من الحب الصادق، ولنا فيه أسوة عليه الصلاة والسلام، في كمال حبه لأزواجه وإكرامه لهن، حتى في المواقف الحرجة حينما قذفت رضي الله عنها واتهمت بالإفك جاء وجلس معها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبا؛ فتوبي إلى الله واستخيريه) فكمال الحب للزوج كان للنبي صلى الله عليه وسلم منه أكمل الحظ وأكمل نصيب؛ لأن هذا من أصدق ما يكون في العشرة والإسلام، ولا يليق بالمسلم أن يكون مع زوجته يأخذ منها حظ الشهوة والوطر وهو يعلم أنها مجبولة على المحبة، وفطرة النساء في المحبة أقوى من الرجال، فيقتصر فقط على قضاء حاجته ونهمته وشهوته، دون أن يعطي من الكلمات والأفعال والتصرفات والمواقف ما يدل على الإلف والحب، وما يدل على صدق المودة التي شهد الله عز وجل أنها الفطرة بين الزوج والزوجة، وجعلها منة من فوق سبع سماوات فقال: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم:21] فأهل العقول وأهل البصائر السوية حينما ينظرون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدونه عليه الصلاة والسلام منحصرا فقط في العبادة، بل كان هديه أكمل الهدي حتى في المعاشرة والمشاعر، حتى إذا جاء المتبجحون من أهل الهوى والمجون والعشق وجاءوا بالغرام الساقط، وجاءوا بالعبارات البذيئة البشعة؛ جئت بالإسلام وقلت لهم: إن الإسلام هذب الفطرة، وهذب الشهوة، فهو يعترف بالشيء الموجود، فلا يدخل عليك الإباحي ويقول لك: أنت تكتم الغريزة، تقول له: كذبت وفجرت ولقمت الحجر، فالإسلام لم يكتم الغريزة ولكن هذبها، وجعلها في مكانها ونصابها، وقدرها فيما أحل الله، ثم جعل لها من البواعث، ومن السياج ما يحفظ ود الزوج مع زوجته، وهذا لا يكون ولن يكون إلا بالمشاعر الصادقة، فحتى في المواطن الحرجة، في حال التخيير، وهذه من أصعب المواقف التي امتحن فيها عليه الصلاة والسلام، ولو جئت تنظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أنها ما خلت من محنة حتى في أمور البيت والزوجية، امتحن في كل شيء صلى الله عليه وسلم، في نفسه وماله، حتى في ولده في فقد العزيز عليه، جميع أنواع وصنوف البلاء كلها عليه الصلاة والسلام صبت عليه؛ لأنه في أعلى المقامات من الحب، والله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فجعل الله لنبيه من الابتلاء أعلاه، ومن ذلك مسألة التخيير التي نعرف، فكان فيها الأحكام والفوائد والأسرار والحكم، ويحتاج الإنسان أن يقرأ سورة الأحزاب، ويقرأ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيره في مسألة التخيير، وكلام العلماء على ذلك، وأيضا في سيرة ابن هشام في تخييره عليه الصلاة والسلام لزوجاته، وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة رضي الله عنها: ما أرى الله عز وجل إلا أنه يكتب لك ما ترضى، يعني الشيء الذي تحبه، ولذلك يقول له: {فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة:144] فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد هذا الشيء، فلما علم أن نبيه يحب ذلك حقق له ما يحبه.
ولما كان يحب عائشة رضي الله عنها ابتدأ بتخييرها وكان يحبها، فجعلها الله عز وجل طوعا له، وجعلها الله عز وجل فوق ما كان يظن، يقول لها: (اجعلي الأمر إلى والديك، قالت: يا رسول الله! أفيك أختار!) تعني: أفيك أستخير؟! من هذا الذي أستخيره فيك! رضي الله عنها وأرضاها، وسرها الله كما سرت نبيه رضي الله عنها، فحق على المسلم أن يترضى عنها، وأن يدعو الله أن يجزيها عن نبيه خير الجزاء، بل وعن الإسلام والمسلمين، بخ بخ هذه النعمة العظيمة التي امتن الله بها على الصديقة، والله عز وجل أعلم حيث جعل الخيرة، فاختار لنبيه الأمهات الطاهرات العفيفات، وصدق الله إذ يقول في كتابه: {والطيبات للطيبين} [النور:26] فرضي الله عنهن وأرضاهن، وجعل أعلى الفردوس مدخلهن ومثواهن، والشاهد من هذا: مسألة التخيير أن الزوج إذا خير زوجته تكون لها طلقة واحدة؛ لأنه يكون بها الخيار، وأيضا يختص التخيير بالمجلس، فلو قامت عن المجلس، انقطع الخيار لها، ويرجع الأمر إلى الزوج.
قال رحمه الله: [ما لم يزدها فيهما] يقول لها: لك طلقتان، لك ثلاثا، فعلى الأصل لها طلقة واحدة، (ما لم يزدها فيهما) أي: في المجلس، وعلى هذا فإنه إذا زادها زادها في المجلس وزادها في العدد، (يزدها فيهما) أي: يزيدها في المجلس في الزمان، وفي العدد، فيقول لها: لك الخيار إلى منتصف الليل، فيكون زادها عن المجلس بالزمان، أو لك الخيار ما دمت في البيت، وهما جالسان في غرفة فتقوم إلى غرفتها، فيكون زاد الخيار في المكان، وزاد الخيار في الزمان، وأما زيادة العدد فيقول: لك أكثر من واحدة، فلك أن تختاري أن تطلقي نفسك اثنتين إن اخترت، أو ثلاثا، فيزيدها على الواحدة.
حالات انقطاع الخيار للزوجة في تطليق نفسها
قال رحمه الله: [فإن ردت] إن قالت: أريدك، فحينئذ يبطل خيارها؛ لأن التخيير خير الأمرين، فإذا حدد أحدهما إما الطلاق وإما البقاء انقطع التخيير وتحتاج إلى تخيير ثان.
قال رحمه الله: [أو وطئ] مكنته من نفسها أن يطأها، فمعنى ذلك أنها قد اختارت أن تبقى معه.
قال رحمه الله: [أو طلق] قبل أن يقع منها التخيير.
قال رحمه الله: [أو فسخ] أي: فسخ النكاح قبل أن يقع التخيير.
قال رحمه الله: [بطل خيارها] لأنه فات محل الخيار.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #558  
قديم يوم أمس, 06:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (436)

صـــــ(1) إلى صــ(19)






شرح زاد المستقنع - باب ما يختلف به عدد الطلاق
جعل الله سبحانه الطلاق حقا للزوج، ولكن يختلف ما يملكه المرء من عدد الطلقات بكونه حرا أو كونه عبدا، وكذلك يختلف العدد بحسب ما تلفظ به وما نواه، وهذا كله بحثه العلماء في هذا الباب.
تعدد الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب ما يختلف به عدد الطلاق] .
تقدم معنا أن الطلاق له ألفاظ مخصوصة، وهذه الألفاظ تارة تكون صريحة في الدلالة على الطلاق بحيث لا تحتمل معنى غير اللفظ، ولا تحتمل معنى غير الطلاق، وقد تكون هذه الألفاظ محتملة، وبينا حكم كل من الصريح والمحتمل.
وبعد هذا شرع المصنف -رحمه الله- في بيان ما يختلف فيه عدد الطلاق، فالمطلق تارة يأتي بلفظ الطلاق الذي هو صريح لفظ الطلاق، ويأتي بجزء اللفظ كأن يقول: أنت طالق نصف طلقة أو ربع طلقة، أو بعض طلقة أو يجزئ المرأة نفسها فيقول: يدك طالق، ورجلك طالق، وروحك طالق، وشعرك طالق، ونحو ذلك؛ ثم هذا اللفظ تارة يكون بصريح الطلاق الذي يدل على عدد معين كأن يصرح بالتحديد فيقول: أنت طالق طلقة واحدة، وتارة يأتي بلفظ يحتمل أكثر، فيقول: أنت الطلاق، أو يلزمني منك الطلاق، ونحو ذلك.
فكل هذه ألفاظ يختلف فيها الحكم، ومن حيث الأصل: تارة تكون النية موافقة للفظ وتارة تكون النية مخالفة للفظ وكل هذا من مباحث بابنا: (باب ما يختلف به عدد الطلاق) ، كأن المصنف -رحمه الله- يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بلفظ الطلاق، يختلف الحكم فيها من حيث العدد، فيحكم تارة بأن الطلقة واحدة، وتارة يحكم بأنها أكثر من واحدة.
الخلاف في تشطير الطلاق على العبد
قال رحمه الله: [يملك من كله حر أو بعضه ثلاثا] .
هذه المسألة تعرف بمسألة تشطير الطلاق، فهناك الأحرار وهناك العبيد، والشرع حينما حكم بضرب الرق على العبد أو على الأمة بسبب الكفر لا يتقيد هذا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، فمن كفر بالله عز وجل وعادى الله وحارب دين الله عز وجل وضرب عليه الرق ضرب عليه عقوبة من الله عز وجل، ونقص عن مستوى الآدمية حتى يباع كالمتاع؛ لأن الله يقول: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، فلا يمكن أن نسوي من حكم الله عز وجل بانتقاصه ونزوله إلى هذه المرتبة بمنزلة من كان على صراط سوي، وآمن بالله وشرع الله عز وجل! فوجدت أحكام في الشريعة شطر فيها الحكم بالنسبة للأرقاء، واختلف الحكم بالنسبة للحر والعبد، وأعداء الإسلام قد يقولون: إن الإسلام فيه عنصرية أو حزازية بأذية الأرقاء أو نحو ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يقيمون للإيمان وزنا، والإسلام قائم على الإيمان والعقيدة، فلما كفر الكافر بالله وضرب عليه الرق عوقب من الله عز وجل بهذه العقوبة، ولا يمكن أن يسوى بين من آمن ومن كفر، فالله عز وجل حكم ويحكم و {لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} [الرعد:41] .
فنص الله في كتابه على أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة الإماء والعبيد: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] .
وبين أن الحكم في العقوبة والمؤاخذة في الزنا يختلف رقا وحرية، واختلف العلماء رحمهم الله: هل يقاس على مسألة العقوبة غيرها من المسائل أو لا يقاس؟ فجاءت القضايا والسنن عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ومنهم الأئمة المأمور باتباع سنتهم كـ عمر وعثمان بمسألة التشطير، فشطروا للعبد كما شطروا له بالنسبة للنساء، فجعلوا الحكم مطردا قياسا، والقياس حجة في الشرع، وقامت الأدلة على أنه حجة، وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله مسألة حجية القياس في كتابه النفيس: (أعلام الموقعين) وبين حجج السنة الكثيرة وقضايا الصحابة على حجية القياس، فكأن الشرع نبه بالمثل على مثله، فإذا نص في العقوبة والحدود على التشطير قالوا: يقاس عليها غيرها، فجاء قضاء بعض الصحابة -كما ذكرنا- بتشطير الطلاق للعبد وإذا قلنا بالتشطير يرد
السؤال هل العبرة بالزوج، أو العبرة بالزوجة، أو العبرة بواحد منهما؟ توضيح ذلك: أنه يباح للرجل أن ينكح أمة إذا خشي العنت ولم يجد حرة، كما هو ظاهر آية إباحة الإماء إذا لم يجد حرة: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض} إلى أن قال: {ذلك لمن خشي العنت منكم} [النساء:25] ، فجاء بشرطين: {ومن لم يستطع منكم طولا} : أي: إذا لم يكن عنده قدرة على أن يتزوج حرة، وخاف على نفسه الزنا يباح له أن يتزوج أمة، فإذا أصبحت زوجة له، فحينئذ نقول: إن الرق يؤثر في عدد الطلاق، لكن هل العبرة بالرجل ولا يتشطر الطلاق، لأن الزوجة أمة وما دام أن الرجل حر يمتلك العدد فالعبرة به؟ هذا قول عمر وعثمان وابن عباس وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو أشبه بمذهب الجمهور، فجمهور العلماء على أن العبرة في التشطير بالرجل، فإن كان الزوج حرا فإنه حينئذ لا يتشطر الطلاق حتى ولو كانت زوجته أمة.
وقال طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- منهم علي بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وهو مذهب الحنفية: أن العبرة بالمرأة لأنها هي محل الطلاق ويتعلق الطلاق بها، فإن كانت حرة طلقت ثلاثا وملك زوجها التطليق ثلاثا، وإن كانت أمة فإنه يطلقها طلقتين، وتكون بائنة بها.
وهناك مذهب ثالث لـ عثمان البتي قال: العبرة بواحد منهما: فإذا كان الرجل عبدا والمرأة حرة تشطر الطلاق، وإن كانت المرأة رقيقة وزوجها حر تشطر الطلاق.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن الله خاطب بالطلاق الرجال، وجعل الطلاق بيد الرجال وهو مسند إلى الرجل، فإذا كان يتشطر فالعبرة بالرجل لا بالمرأة.
فإذا قلنا: إن الطلاق يتشطر، وإن العبرة بالرجل، فحينئذ يرد السؤال: كيف يتشطر الطلاق؟ هل يقال: طلقة ونصف؟!
الجواب الطلاق لا يتشطر، بمعنى: أن المطلق لا يقول: نصف طلقة، بل لو طلق طلقتين وهو رقيق: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة:230] فيكون كالحر إذا طلق ثلاثا، وأما على القول: أنها لا تتشطر وأن الطلاق لا يتشطر، فحينئذ يملك ثلاثا، بغض النظر عن كونه حرا أو رقيقا.
يقول رحمه الله: [يملك من كله حر] .
(يملك) يعني: من حقه أن يطلق.

(من كله حر) يعني: إذا كان الزوج كله حر وليس فيه شبهة الرق.
(أو بعضه).

البعضية مثلا: رجل بين رجلين، يعني: عبد يملك بين رجلين، وهذان الرجلان أحدهما أعتق نصفه وبقي نصف العبد مملوكا، فيصبح في هذه الحالة نصفه حرا ونصفه مملوكا، فيوم يكون فيه عبدا يخدم سيده، ويوم هو حر يفعل ما يشاء، فنصفه حر ونصفه عبد، وربما كان بين ثلاثة أشخاص، فأعتق أحدهم الثلث، وبقي ثلثاه مملوكا فيوم حر ويومان رقيق، يوم يخدم فيه الأول ويوم يخدم فيه الثاني، فلو كان الرقيق بهذه الصفة يقول المصنف -رحمه الله- بمعنى كلامه: أنه لو كان فيه شائبة الحرية -ولو كان المعتق منه أقل- فإنه يملك الثلاث، وقال بعض العلماء: العبرة بأكثره، فإن كان أكثره حرا فإنه حينئذ يملك الثلاث، وإن كان أكثره الرق فإنه لا يملكها ويتشطر.
(ثلاثا) أي: ثلاث تطليقات، فإن طلق ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقالوا: العبرة بالحرية.
قال رحمه الله: (والعبد اثنتي) .
والعبد يملك اثنتين، يعني: إذا كان الرجل أو الزوج رقيقا فيملك اثنتين؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف.
قال رحمه الله: (حرة كانت زوجتاهما أو أمة) .
خلافا لـ عثمان البتي رحمه الله حيث خالف الجماهير وقال: إن العبرة بواحد منهما سواء كان الرجل أو المرأة.

ألفاظ الطلاق الدالة على التعدد أو المحتملة للتعدد
قال رحمه الله: [فإذا قال: أنت الطلاق أو أنت طالق أو علي أو يلزمني وقع ثلاثا بنيتها، وإلا فواحدة] .
قول الرجل لامرأته: (أنت الطلاق)
قبل أن ندخل في التفصيلات -نسأل الله لنا ولكم المعونة-.
أولا: حتى تكون الصورة واضحة، الطلاق إذا وقع فيه اللفظ، فإما أن يتفق مع النية، وإما أن يختلف مع النية فعندنا صورتان: إما أن يتفق لفظ الطلاق الذي يتلفظ به مع الذي نوى، وإما أن يختلف، فتكون نيته شيئا ولفظه شيئا آخر.
الصورة الأولى: أن يتفق لفظ الطلاق ونيته سواء كان بالأقل أو كان بالأكثر أو بينهما.
مثال: أن يقول للمرأة: أنت طالق طلقة واحدة وينوي واحدة، فاللفظ واحد والنية واحدة فاتفقت النية مع اللفظ، فإجماعا تعد طلقة واحدة أو يقول لها: أنت طالق طلقتين، وينوي الطلقتين، فاتفق اللفظ مع النية، أو يقول لها: أنت طالق ثلاثا، وينوي الثلاث، فاتفق اللفظ مع النية.
في هذه الحالة إذا اتفق اللفظ مع النية فلا إشكال أنه ينفذ الطلاق على التفصيل، وجماهير السلف والأئمة من الصحابة والتابعين على الإمضاء؛ لأنه تلفظ بالطلاق ونيته موافقة، فاجتمع دليل الشرع على المؤاخذة؛ لقوله (إنما الأعمال بالنيات) ، وهذه مؤاخذة الباطن، وكذلك قوله: {فإن طلقها} [البقرة:230] ، {وإذا طلقتم النساء} [البقرة:231] ، {وإن طلقتموهن} [البقرة:237] ، وهو تلفظ بالطلاق، هذا بالنسبة لاجتماع اللفظ مع النية.
صورة أخرى: أن يختلف اللفظ مع النية فتكون نيته شيئا، ولفظه شيئا آخر، ونحن لا نتكلم في من لم ينو الطلاق، إنما نتكلم عن شخص نوى الطلاق واختلفت نيته في العدد، أما مسألة أن يأتي بلفظ يحتمل الطلاق أو غيره، أو ينوي بلفظ يحتمل الطلاق أو بغيره، فقد تقدمت معنا في الكنايات وبينا حكمها في الكنايات.
لكنا هنا أمام رجل يتلفظ بلفظ الطلاق، ولكن يتردد لفظه بين الأقل أو الأكثر فقال: ما يختلف به عدد الطلاق، ولسنا في مسألة: أيمضي الطلاق أو لا يمضي؟! فالأمر مفروغ منه، والطلاق ماض -لا شك في ذلك- لكن هل يمضي ثلاثا، أو يمضي اثنتين، أو يمضي واحدة؟! فهنا البحث كله منصب على: هل اللفظ يؤخذ بالأكثر أو الأقل؟ فإذا اختلفت نيته -وهي الصورة الثانية- عن لفظه، فإما أن تكون النية للأقل واللفظ للأكثر، أو يكون اللفظ للأقل والنية للأكثر.
توضيح ذلك: أن تكون نيته لعدد أقل مما تلفظ به: فيقول لها: أنت طالق ثلاثا، وينوي واحدة، فاللفظ مختلف عن النية، النية تنوي الأقل، واللفظ واقع على الأكثر، هذه الحالة الأولى من الصورة الثانية.
الحالة الثانية من الصورة الثانية: أن يكون العكس، يقول لها: أنت طالق طلقة واحدة، وينوي الثلاث، أو أنت طالق طلقة، وينوي الثلاث، فاللفظ للأقل والنية للأكثر، ففي جميع هذه الأحوال يرد
السؤال هل نأخذ بالأكثر أو نأخذ بالأقل؟ هل نأخذ بالأكثر؛ لأن لفظ الطلاق خطير والشرع اعتد باللفظ واعتد بالطلاق حتى أمضاه على الهازل، أو نأخذ بالأقل لأن الأصل أنها زوجته والأصل عدم الطلاق حتى يدل الدليل على أنها خرجت من عصمته بالطلاق؟ ففي بعض الأحيان نغلب النية وبعض الأحيان نغلب اللفظ، وهذا من مباحث اختلاف الظاهر مع الباطن، فالشرع تارة يقوي الظاهر على الباطن، وتارة يقوي الباطن على الظاهر.
ففي الطلاق قوى الظاهر على الباطن في الهازل، فإن الهازل يمزح مع زوجته ويقول لها: أنت طالق، ولا ينوي الطلاق؛ فاعتبر الشرع لفظه، ولم يلتفت إلى نيته، وهكذا إجماع العلماء في ألفاظ يعتدون فيها بالنية، ويجزئه ذلك ديانة بينه وبين الله عز وجل كما تقدم معنا.
فالسؤال الآن: إذا قال لها: أنت الطلاق؟ (أنت الطلاق) للعلماء فيها وجهان - من حيث النظر إلى اللفظ- أحدهما: أن المرأة تطلق وتوصف بكونها طالقا بطلقة واحدة، لكن المشكلة أنه جاء بـ (ال) ، فهل نقول: الطلاق، يعني: كل الطلاق، وكأنه جعل جميع الطلاق لها، وحينئذ يكون قوله: (ال) في (الطلاق) المراد بها: الاستغراق، فيحمل العدد على أتم الأعداد؟ هذا وجه.
الوجه الثاني: أن قوله: (أنت الطلاق) يتردد بين الاستغراق وبين أقل ما يقع ويسقط عليه الطلاق؛ فنأخذ بالأقل ما لم ينو الأكثر، وهذا هو الصحيح، وعليه درج المصنف، أنه لو قال لامرأته: أنت الطلاق سألناه: هل نويت واحدة فتكون واحدة، أو نويت ثلاثا فتكون ثلاثا؟، فإذا قال: لم أنو شيئا، فواحدة، قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الشعراء لم يعتبروا المصدر دالا على الاستغراق في هذا، ولذلك قال أحد الشعراء وكان قد غضب من امرأته، وعاش معها ردحا من الزمن حتى ملها وسئم، وقال: إنك شهرت بي أي: يشتكي عشرته معها وأنها بلغت إلى أسوأ الحالات-: ونوهت باسمي في العالمين وأفنيت عمري عاما فعاما فأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما فما أبقى لها شيئا، وجه الدلالة: أنه لم يقل لها: أنت الطلاق واعتدها ثلاثا، بل كرر اللفظ ثلاث مرات، فدل على أن اللسان العربي يفهم منه أن (أنت الطلاق) وحدها لا تدل على الثلاث؛ لأنها لو كانت وحدها تدل على الطلاق، لم يقل لها: وأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما فلو كان نفس اللفظ يدل على الطلاق لما كرر، فتكراره للفظ يدل على أن هذا المصدر لا يدل على الاستغراق من كل وجه وحينئذ تطلق طلقة واحدة، ويحكم بكونها طالقا طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من واحدة، فإذا قال لها: أنت الطلاق، فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول لها: (أنت الطلاق، أنت الطلاق، أنت الطلاق) فيكرر، أو يقول لها: (أنت الطلاق) ويسكت، فإن قال لها: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) وكرر ونوى واحدة فواحدة، وإن قال: (أنت الطلاق، وأنت الطلاق، وأنت الطلاق) ناويا الثلاث فثلاث، وإن قال: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) ولم ينو شيئا، فللعلماء وجهان كقوله: (أنت طالق طالق طالق) وسيأتي بيانها إن شاء الله.
الخلاصة: أن قوله: أنت الطلاق، لفظ محتمل يتردد بين الاستغراق الموجب للثلاث وبين الدلالة على أقل الطلاق وهي واحدة، وهذا هو الصحيح؛ فإن كرره أو نوى به الثلاث فثلاث وإلا فواحدة.
قول الزوج لزوجته: (أنت طالق)
قوله: [أو طالق] إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فأقل ما يصدق على المرأة أنها طالق: طلقة واحدة، فإذا نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، قال العلماء وهو مذهب الجمهور: طالق ثلاثا، والسبب في هذا أن قوله: أنت طالق، اسم فاعل يقبل الوصف بدليل -عند من يقول: بأن الثلاث تقع، ومذهب جماهير السلف والخلف- أنه لو قال لها: أنت طالق بالثلاث لطلقت ثلاثا، فأصبح اسم الفاعل بقوله: أنت طالق، يحتمل أن يقصد به الأكثر ويحتمل أن يقصد به الأقل، فنقول: كلمة (أنت طالق) كقوله: أنت الطلاق، فأنت طالق إن نوى بها واحدة فتكون واحدة وإن نوى ثلاثا فتكون ثلاثا.
قول الرجل: (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق)
قوله: [أو علي] .
أو (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق) كله بمعنى.
السؤال لماذا جعلنا (أنت الطلاق) و (أنت طالق) و (علي الطلاق) و (يلزمني الطلاق) الأصل فيها أنها واحدة؟ قالوا: لأنه إذا قال لها: (أنت الطلاق) أو قال لها: (أنت طالق) ، فالمرأة التي توصف بكونها طالقا أقل ما توصف به: الطلقة الواحدة، فإذا نحن على يقين أنه طلقها طلقة واحدة، وشككنا هل تقع الثانية أو الثالثة أو لا؟ والأصل بقاء العقد، فلذلك يقال بالبقاء على اليقين، وعليه قالوا: إنها طلقة واحدة ما لم ينو الأكثر.

وقوع الطلاق ثلاثا في مجلس واحد وحكمه

قوله: (وقع ثلاثا بنيتها وإلا فواحدة فأكثر) .
(وقع الطلاق ثلاثا) لكن بشرط نيتها؛ وكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر على السنة يطلقون طلقة واحدة، ثم يراجعون أو يسرحون بإحسان، ثم يطلقون الثانية بعد، ثم يطلقون الثالثة، فيفرقون الطلاق على السنة فلما جاء عهد عمر ودخل الناس في الإسلام، وكثرت الفتوحات، واختلط الحابل بالنابل، وكثرت المسائل ووجدت النوازل، كثر التطليق ثلاثا، وأصبح الناس يجمعون طلاق الثلاث في لفظ واحد، فـ عمر بن الخطاب لما أصبح الأمر منتشرا بين الناس، وانتبه إلى أن الناس كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على السنة وكانوا لا يطلقون إلا طلقة واحدة، فلما جاء عهد عمر رضي الله عنه كما روى ابن عباس في الصحيحين قال: قام عمر بن الخطاب خطيبا -كعادته رضي الله عنه ما كان يبرم أمرا حتى يستشير الصحابة والناس- فقال رضي الله عنه: (أرى الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) ، يعني: أن الله عز وجل أعطى المطلق ثلاث تطليقات مرتبة، يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، حتى تكون الثالثة، فالذي يطلق ثلاثا يستعجل فيما وسع الله عليه، فيبتدع في دين الله ويخالف شرع الله ويضيق على نفسه؛ ويرتكب البدعة -وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله خلافا للشافعي، وقد تقدمت معنا هذه المسألة- فقال رضي الله عنه: (أرى الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناه فلو أنا أمضيناه عليهم) يعني: ما رأيكم هل نبقى على الأصل الشرعي أن من تلفظ بالطلاق نؤاخذه به أو لا؟ لأن الله قد بين له الطلاق، إن شاء طلق ثلاثا، وإن شاء طلق واحدة، فالله أعطاه ثلاثا لزوجته، فأمضاه عمر وأمضاه الصحابة معه، ولذلك قضى بالثلاث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده الصحابة؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى ابن عمر وقال: إني طلقت امرأتي مائة قال: (ثلاثا حرمت بهن عليك وسبع وتسعون اتخذت بهن كتاب الله هزوا) .
وكذلك ابن عباس رضي الله عنه ثبتت الرواية الصحيحة عنه أنه جاءه رجل وقال له: (إني طلقت امرأتي ألفا، فقال: تكفيك منها ثلاث، تحرم زوجتك عليك) وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون، ومذهب الأئمة الأربعة والظاهرية معهم في المشهور من مذهبهم وأصبح العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- على إمضاء الثلاث، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وحسبك أنه قضاء المحدث الملهم) ، أي: حتى لو كان اجتهادا من عمر فحسبك أن عمر رضي الله عنه كان محدثا ملهما.
وعلى هذا مضى العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- أن الثلاث ثلاث وأن المسلم مخير بين أن يقول الثلاث بلفظ واحد فيمضي عليه الثلاث، وبين أن يقولها متفرقة ويصيب السنة بالتفرق دون الجمع، فإن جمعها فإنه مبتدع وآثم بجمعه، ولما ابتدع خالف شرع الله فالأنسب فيه عقوبته، وقد قدمنا هذا: أن من ابتدع وخالف السنة في الطلاق فالأشبه بمثله أن يعاقب ويؤاخذ.
وعلى هذا مضى قضاء الأئمة -رحمهم الله- على ذلك، ودرج المصنف -رحمه الله- على هذا القول المشهور عن جماهير السلف والخلف رحمهم الله.
ألفاظ تفيد تعدد الطلاق
قال رحمه الله: [ويقع بلفظ (كل الطلاق) أو (أكثره) أو (عدد الحصى) أو (الريح) أو نحو ذلك ثلاثا ولو نوى واحدة] .
قال رحمه الله: (ويقع بلفظ (كل الطلاق) .
هنا يكون اللفظ للأكثر، وينوي أن يكون اللفظ للأكثر فيقول: (أنت طالق كل الطلاق) أو يقول: (أنت طالق بالثلاث) ، وينوي واحدة، فإنها ثلاث ولا تؤثر نيته؛ لأن اللفظ لا يحتمل الواحد، وقد جاء باللفظ الصريح الدال على استغراق التطليقات الثلاث؛ فإنه ينفذ عليه كل الطلاق؛ وكلمة: (كل) تفيد العموم، ولذلك لو أن شخصا قال: والله! لا أكلم كل الناس، فإنه يحنث بتكليمه لأي فرد منهم، ونحن في شرع الله نحكم بكونه حانثا ونلزمه بذلك إذا كلم واحدا منهم، فدل على أن كلمة: (كل) تفيد العموم، حتى أن الأصوليين -رحمهم الله- يقولون: إن من ألفاظ العموم لفظة (كل) ، فإذا قال لها: (أنت طالق كل الطلاق) كان كقوله: (أنت طالق بالثلاث) .
(أو أكثره).
أو أكثره، الحقيقة أكثر الطلاق هذا محكم، أكثر الطلاق مشكل.
ولذلك هذه الصورة الأشبه فيها: أن ينوي الأقل مع احتمال في اللفظ -أي أن نيته الأقل مع تردد في اللفظ-؛ لأن الطلاق فيه أقل وفيه أكثر، وأقل الطلاق كطلقة وأكثر الطلاق ثلاث، وبناء على ذلك قال بعض العلماء: إن عندنا كثير وأكثر، فهو إذا قال لها: أنت طالق أكثر الطلاق.
الواحدة أقل الطلاق، والاثنتان أكثر من الواحدة، لكن لما قال: أكثر صيغة أفعل، فالمراد أكثر من كثير -والكثير اثنتان، فأكثر من الاثنتين الثلاث- فتخرج على هذا الوجه أن تكون ثلاثا.
(أو عدد الحصى).
أو (أنت طالق عدد الحصى) : -هذا ما شاء الله! ما أبقى من الطلاق شيئا!! فهذا الظاهر أنه مغتاظ من زوجته -نسأل الله السلامة- إذا قال لها: أنت طالق عدد الحصى، معناه: أنه يريد الثلاث قطعا؛ فتحرم بالثلاث.
(أو الريح).
عدد الريح؛ لأن الريح عددها فوق الثلاث قطعا، فإذا قال لها: (أنت طالق عدد الريح) ، أو (عدد الحصى) أو (عدد الناس) أو (عدد النمل) أو (عدد الجبال) أو (عدد الرمال) .
ونحو ذلك، هذا كله واضح أنه يريد الأكثر وهو الثلاث.
(أو نحو ذلك).
أي: أن يأتي بما يدل على الثلاث فأكثر؛ لأن عدد الريح فوق الثلاث، وعدد الحصى فوق الثلاث، وعدد الرمل فوق الثلاث، وكذا عدد الجبال وعدد الناس، فهو إذا قال لها: أنت طالق عدد الحصى أو عدد الريح، كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثا فأكثر.
اعتماد اللفظ الصريح الدال على التعدد وإن خالفته النية
قوله: [ثلاثا ولو نوى واحدة] .
(لو نوى) وهذه صورة أخرى: نوى الأقل واللفظ للأكثر، فيلتفت إلى اللفظ ولا يلتفت إلى النية؛ لأن الطلاق في العدد صريح، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ولم يقصد الطلاق وهزل معها، فحينئذ نقول: إنها تطلق عليه؛ لأن الشرع جعل صريح اللفظ مؤاخذا به، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالق بالثلاث، ونوى واحدة فإنه يؤاخذ بصريح اللفظ، كالهازل حيث أخذ بصريح لفظه، وبإيضاح أكثر: إذا قال: نويت واحدة -وقد طلق صراحة بالثلاث أو بما يدل على استغراق العدد للثلاث- فإنه لا تنفعه نيته لا قضاء ولا ديانة، حتى بينه وبين الله ليست بزوجته؛ لأن اللفظ صريح، ولو لم ينو ذلك الصريح.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #559  
قديم يوم أمس, 06:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



إسناد الطلاق إلى الأجزاء
قال رحمه الله تعالى: [وإن طلق عضوا أو جزءا مشاعا أو معينا أو مبهما أو قال: نصف طلقة، أو جزءا من طلقة، طلقت] .
الحقيقة: أن العلماء -رحمهم الله- والفقهاء أتوا بأشياء ربما أن الشخص يستغرب منها؛ لكن لو وقفت أمام الناس مفتيا أو قاضيا لجاءتك أمور لا ينتهي فيها العجب، فقد يأتيك شخص يقول لك: قلت لامرأتي: يدك طالق، رجلك طالق، رأسك طالق، فالعلماء يأتون بمسائل -في الحقيقة- قد تظنها غريبة؛ ولكن إذا عشت بين الناس رأيت أن الأمر أكثر من هذا، وأن عند الناس أكثر من هذا، وقد تكون هذه المسائل أصولا لغيرها، فعندنا مسألة تطليق جزء المرأة.
المطلق له حالتان: الحالة الأولى: أن يسند الطلاق إلى المرأة -وهذا هو الأصل- كقوله: أنت طالق، زوجتي طالق، امرأتي فلانة، نسائي أو زوجاتي طوالق مني مثلا، فحينئذ أسند الطلاق إلى المرأة ولا إشكال، هذه الحالة الأولى، والطلاق واقع فيها بواحدة أو أكثر على حسب اللفظ، وعلى حسب ما قررناه فيما مضى؛ لكن
السؤال إذا ذكر جزءا من المرأة؛ فأجزاء المرأة تنقسم إلى أقسام: فهناك أجزاء يعبر بها عن الكل، وأجزاء أخرى لا يعبر بها عن الكل.
القسم الأول: يذكر جزءا من المرأة يعبر به عن كلها.
القسم الثاني: أن يذكر جزءا من المرأة، ولا يعبر به في أصل الوضع عن الكل، إما أن يكون جزءا مشاعا كقوله: نصفك ربعك ثلثك، وإما أن يكون معينا فيقول: يدك، رجلك، رأسك، ظهرك، وجهك، وهذا المعين إما أن يكون مما تدخله الروح وحياته حياة روح، وإما أن يكون من حياة النمو.
فإذا: الأقسام كالتالي: أولا: أن يسند الطلاق إلى المرأة، ويسرح المرأة فلا إشكال إذا كان الطلاق للمرأة كلها.
ثانيا: أن يسنده للبعض، وهذا على أقسام.
الأول: البعض الذي يعبر به عن الكل، وهذا يشمل أربعة ألفاظ هي: النفس والروح والذات والجسد، هذه هي المشهورة.
الثاني: البعض الذي يعبر به عن جزء من أجزائها كما ذكرنا، كاليد والرجل والرأس، فينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يدخله الروح، أو يكون مما لا تدخله الروح.
فنبدأ بالقسم الثاني: أن يذكر جزءا من المرأة وهذا على قسمين: أحدهما: جزء يعبر به عن الكل.
الثاني: جزء لا يعبر به عن الكل في الغالب.
فإن كان الجزء يعبر به عن الكل، مثل: الجسد، الذات، الروح، النفس، فهذا في قول جماهير العلماء -ويكاد يقارب الإجماع- أنها تطلق، إذا قال: روحك مني طالق، جسدك مني طالق، ذاتك مني طالق، نفسك مني طالق، في هذه الأربعة الأحوال يطلق الكل ولا يتبعض الطلاق، فإذا أسند الطلاق إلى جزء يعبر به عن الكل غالبا فإنه يسري الطلاق على الكل، ويكون تعبيره بهذا الجزء كالتعبير بالكل.
الحالة الثانية: أن يكون مما لا يعبر به عن الكل، وحينئذ إما أن يكون جزءا مشاعا معلوما أو مبهما، فيكون جزءا مشاعا كما لو قلنا: النصف، أو يكون جزءا مبهما كبعضك وجزئك، أو مشاعا معينا كقوله: نصفك الأعلى أو نصفك الأسفل، ففي هذه الحالة: إذا أسند الطلاق لجزء مشاع من البدن ولو كان أقل جزء من البدن كقوله مثلا: عشر عشرك مني طالق، فإنه يسري الطلاق للكل؛ لأن الشرع لم يجعل في المرأة حلالا وحراما، فحكم الله في المرأة إما أنها في العصمة كلها وإما أنها ليست في العصمة، فلما تلفظ بالطلاق فإنه يؤاخذ به كله، كما لو قال لها في الطلاق نفسه: أنت طالق نصف طلقة أو ربع طلقة، صار مؤاخذا بالطلقة بكاملها، لأن الشرع لم يجزئ زوجة ويجعل نصفها حلالا للزوج ونصفها حراما!! ويكاد يكون إجماعا، على أنه إذا قال لها: نصفك أو ربعك أو ثلثك أو ثلثاك أو ثلاثة أرباعك أو تسعة أعشارك طالق فإنها طالق كلها، سواء حدد الجزء المشاع الذي هو المعين أو أبهمه.
الحالة الثانية: وهي التي تحتاج إلى نظر وهي مسألة الأعضاء، وهي تنقسم إلى قسمين: أعضاء حياتها حياة الروح، وأعضاء حياتها حياة النمو.
ولابد من ملاحظة هذه التفصيلات من الفقهاء، وهذا التقسيم مبني على اختلاف الشرع في الحكم على أجزاء الإنسان، فإذا أسند الزوج الطلاق إلى جزء فلابد أن نقف مع هذا الجزء الذي أسند إليه، فأجزاء الإنسان إما أن تكون مما يحلها الحياة وحياتها حياة روح، ويشمل هذا اليد والرجل والرأس والعين والأذن وغيرها من الأعضاء، وإما أن تكون حياتها حياة نمو، وهي التي لا إحساس فيها مثل: الشعر، فلو أحرق طرف الشعر لا يحس الإنسان بالألم ولو احترق طرف شعر المرأة ما تحس بالألم في رأسها، وقد يحترق طرف اللحية والشخص لا يعلم؛ لأنه لا إحساس فيها ولا ألم، فحياتها حياة نمو، وهذه الأجزاء تبين من الإنسان، فالشعر منه ما يقص ومنه ما يحلق ويجز وينتف ويسقط؛ إذ ليس بثابت في البدن ولا باق فيه، وإسناد التحريم إليه ليس كإسناد التحريم إلى غيره مما لا يقبل الانفصال عن الإنسان في الأصل.
وهذا التقسيم يعتبر في كثير من المسائل -سيأتي ذكر بعضها- فالذي حياته حياة روح لا إشكال أنه متصل بالبدن وحكمه حكم المتصل في قول جماهير العلماء وهو كذلك في أغلب المسائل، إلا اليد ففيها كلام عند العلماء رحمهم الله، وذكر هذه القاعدة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس: (القواعد) : يد الإنسان هل هي في حكم المتصل أو المنفصل؟ لكن بالنسبة للذي حياته حياة نمو -كما قلنا- لا يأخذ حكم حياة الروح من كل وجه، فيزيد أن نبين حكم إسناد الطلاق إلى أجزاء حياتها حياة روح، وإسناد الطلاق للأجزاء التي حياتها حياة النمو.
المسألة الأولى: لو أسند الطلاق إلى عضو حياته حياة نمو، فقال لها: يدك طالق ورأسك طالق وعينك طالق ورجلك طالق وساقك طالق وظهرك طالق وفرجك طالق وبطنك طالق وصلبك طالق فما الحكم؟ جمهور العلماء على -وعلى هذا العمل- أنه إذا أسند الطلاق إلى يدها أو إلى رجلها أو إلى رأسها أنها تطلق كلها من حيث الإجمال، أما الحنفية فاختاروا أربعة أعضاء: الرأس، والبطن، والفرج، والظهر، هذا عند الحنفية، وجعلوها دالة على الكل، لكن الجمهور لا يفرقون ما دام أن العضو متصل بالبدن، لكن يرد السؤال: كيف حكم بكونها طالقا كلها؟ هناك مسالك في الاستدلال وهذه المسالك تؤثر في الحكم، فبعض العلماء يقول: نحكم بطلاق العضو أولا: فلو قال لها: يدك طالق، فالطلاق يتعلق باليد ثم يسري لبقية البدن، وهذا المذهب يسمى عند العلماء: مذهب السريان ويقررون الدليل كالآتي: يقولون: إذا طلق اليد اجتمع الحاظر واجتمع المبيح، فأصبحت المرأة فيها ما حرم الله؛ لأنه أسند الطلاق وعلقه بيدها، وفيها ما أحل الله، والقاعدة: (إذا اجتمع الحاظر والمبيح فالحكم للحاظر، ويحكم بحظر الجميع) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لـ عدي بن حاتم: (إذا أكل الكلب من الفريسة فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) ، فدل على تقديم الحظر على الإباحة، وقال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك فلا تأكل، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكر اسم الله على كلاب غيرك) ، فهذه قاعدة لها أدلة كثيرة.
الخلاصة: المذهب الأول يقول: طلقها بالسريان، فيدها تطلق فيجتمع الحاظر والمبيح، ثم يسري الطلاق إلى الكل تغليبا للحظر على الإباحة.
المذهب الثاني: يقول: أراد بالجزء الكل؛ لأن الشرع عبر بالجزء عن الكل، فقال تعالى: {تبت يدا أبي لهب} [المسد:1] ، والمراد: تب جميع أبي لهب، فذكر اليد في المؤاخذة والعقوبة وأنزلها على الكل.
وقال: {فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} [الشورى:30] ، والواقع: بما كسبت جوارحكم وبما كسبتم أنتم كلكم فقال: (بما كسبت أيديكم) فعبر بجزء الإنسان عن كله فدل على أن أجزاء الإنسان إذا تعلق بها تحريم سرى التحريم للكل، وهذا المذهب مذهب الجمع، فيجمع بين العضو المطلق والأعضاء الأخرى في حكم واحد، السؤال: ما هي فائدة الخلاف؟ الواقع هناك فائدة، فلو قال لها: إن دخلت الدار فيدك طالق وقطعت يدها قبل دخول الدار، لم تطلق على مذهب السريان، وطلقت على مذهب الجمع؛ لأنه حينما قال لها: إن دخلت الدار فيدك اليمنى طالق، وسرقت قبل دخول الدار، أو جاء الطلاق فلم يصادف محلا، كما لو أسند الطلاق لمنفصل عن البدن؛ لأن اليد صارت منفصلة فالله عز وجل يؤاخذه بلفظ، فبينه وبين الله أنها إن دخلت الدار فيدها حرام عليه، وتطلق عليه؛ فلو قلنا بمذهب السريان وقطعت يدها فليجعل الطلاق حتى مائة طلقة فهي في يدها، لكن البدن انفصل عن هذه اليد المطلقة فلا يسري الطلاق، لكن على مذهب الجمع يكون قوله: يدك طالق، كقوله: كلك طالق، فالفرق بين المذهبين أن الأولين يطلقون الجزء ثم يسري الحكم للكل تبعا، فإذا وقع الطلاق ولم يوجد الجزء الذي تعلق به الطلاق لم تطلق المرأة، والقول الثاني: أنها تطلق لأن الجزء يراد به الكل.
والحق أن التفصيل أقوى في الترجيح بين هذين القولين؛ فإن قصد باليد الكل وعبر باليد ناويا الكل فلا إشكال أنه يسري على الكل، وإن كان لم ينو الكل فأشبه القولين مذهب السريان.
المسألة الثانية: إذا علق الطلاق بعضو مما لا تحله حياة الروح كالشعر والسن، فهناك خلاف بين العلماء في شعر الإنسان وعظمه كالسن ونحوه هل هو في حكم المتصل أو المنفصل؟ قال الإمام ابن رجب رحمه الله في القواعد: شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل؟ وجهان، وكذلك السن والظفر والعظم، يعني: هل نحكم بأن شعر الإنسان في حكم المتصل به أو في حكم المنفصل عنه؟ فلو قال: والله! لا ألمسك، ولمس شعرها؛ فإنه لو كان في حكم المنفصل لم يحنث، وإن كان في حكم المتصل حنث، وهكذا إذا قلنا: إن لمس المرأة يوجب انتقاض الوضوء، فإن قلنا: حكم الشعر كحكم المتصل انتقض وضوءه، وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل لم ينتقض وضوءه، فهناك جملة من مسائل العبادات والمعاملات متعلقة بهذه القاعدة، ومن أراد المزيد من التفصيل فليراجع كتاب القواعد لـ ابن رجب رحمه الله، فعلى هذا: إذا أسند الطلاق إلى الشعر لم تطلق؛ لأنه في حكم المنفصل فالشعر يحلق ويبين
حكم تكرار لفظ الطلاق
قال رحمه الله: [وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، وكرره، وقع العدد إلا أن ينوي تأكيدا يصح أو إفهاما] .
هذه المسألة: تكرار اللفظ، أن يقول: أنت طالق، فإن قاله لامرأة مدخول بها، -ويستوي هنا المدخول بها وغير المدخول بها-؛ لأن غير المدخول بها وإن كرر اللفظ تبين باللفظ الأول، فيأتي اللفظ الثاني على أجنبية، يعني: لو أن رجلا قال لامرأة عقد عليها ولم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق، فقوله: أنت طالق، الأولى تطلق بها طلقة واحدة فأصبحت أجنبية فليست هناك عدة لغير المدخول بها، فتأتي الطلقة الثانية على أنها أجنبية، فهذا وجه كون المصنف يقول: (لمدخول بها) والدليل على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} يعني: عقدتم عليهن {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، ولا مراجعة لغير المدخول بها.
وعلى هذا يقولون: غير المدخول بها بمجرد ما تطلقها طلقة واحدة تبين وتصبح أجنبية، ومعنى: تبين، أي: بينونة صغرى، والبينونة الصغرى لا تحل إلا بعقد جديد، فلو قال لها -أي: غير المدخول بها-: أنت طالق وطالق وطالق، أو طالق ثم طالق ثم طالق أو طالق فطالق فطالق أو طالق طالق طالق، فلما قال: طالق، الأولى بانت منه، فجاءت الثانية والثالثة على أجنبية فلا تطلق إلا طلقة واحدة، فعندنا غير المدخول بها ما فيها إشكال، ويبقى الإشكال في المدخول بها، وهذا داخل في نفس الباب -باب ما يختلف فيه عدد الطلاق- فلنأت إلى مسألة تكرار اللفظ العام.
تكرار اللفظ بدون فاصل
لو قال لامرأة: أنت طالق طالق طالق، فله أحوال: الحالة الأولى: أن يكون ناويا الثلاث، وحينئذ تتفق النية مع لفظ محتمل لتلك النية فتطلق ثلاثا، فلو قال لها: أنت طالق طالق طالق، فإذا نوى الثلاث مضى عليه، ويبقى
السؤال إذا نوى أقل من الثلاث أو لم ينو شيئا، إذا نوى أقل من الثلاث كأن يقول لها: أنت طالق طالق طالق، كما لو كان الرجل عصبيا وجاء يطلق زوجته، ويريد أن يبالغ في كونها طالقا وهو ينوي واحدة، فيقول لها: أنت طالق طالق طالق وقصده طلقة واحدة، لكنه يكرر تأكيدا لذلك الطلاق الذي أوقعه، فكرر اثنتين أو ثلاثا أو أكثر فهي طلقة واحدة؛ لأن اللفظ نفسه محتمل للتأكيد والتأسيس.
فكلمة (طالق طالق طالق) تأتي على صورتين: الصورة الأولى: تأكيد؛ فتعد واحدة.
والصورة الثانية: التأسيس، فتعد ثلاثا، فحينئذ نيته إما أن تكون تأكيدية، وإما أن تكون تأسيسية، والتأسيس معناه: أنه يؤسس الطلاق فيبني الثانية على الأولى، ويبني الثالثة على الثانية، فكأنه يقول: أنت طالق بالثلاث، فلو سألك سائل عن قول الرجل: (أنت طالق طالق طالق) تقول: فيه تفصيل، فإن نوى ثلاثا فتكون ثلاثا، وإن نوى واحدة فتكون واحدة، وإذا لم ينو شيئا فوجهان، قال بعضهم: إذا لم ينو شيئا نغلب الثلاث لأنه كرر، والإنشاء والتأسيس أولى من التأكيد؛ لأن التأسيس يفيد معنى جديدا.
وقال بعضهم: يكون طلقة واحدة؛ لأن الأصل أنها زوجته، ولا نحكم بالطلاق إلا بيقين ونحن على يقين من واحدة فلا نطلق أكثر وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، فمن قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق ولم ينو لا واحدة ولا ثلاثا، فواحدة بناء على ذلك، وإن نوى الثلاث فتكون ثلاثا، وإن نوى واحدة فتكون واحدة، وإذا لم ينو شيئا فإنها واحدة على الصحيح.
تكرار اللفظ مع الفصل بحرف أو غيره
قوله: (طالق طالق طالق) اتضح لنا القول فيه، لكن يبقى: (طالق وطالق وطالق) ، (طالق فطالق فطالق) ، (طالق ثم طالق ثم طالق) ، (طالق بل طالق بل طالق) ، أو أي لفظ ناتج عن إدخال أي حرف في (طالق، طالق) ، بين الأولى والثانية، فهل هذا يؤثر أو لا؟ فقال رحمه الله: [وإن كرره بـ (بل) أو (ثم) أو بـ (الفاء) أو قال: بعدها أو قبلها أو معها طلقة وقع اثنتان] .
كقوله: (أنت طالق فطالق فطالق) ، (طالق ثم طالق ثم طالق) ، (طالق وطالق وطالق) ، ثلاث؛ لأنه إذا عطف فالعطف يقتضي المغايرة، فأصبحت الطلقة الثانية غير الأولى، فإن قال لها: أنت طالق فطالق، أو طالق وطالق، فالطلقة الثانية غير الأولى، وعلى هذا قالوا: تطلق ثلاثا.
(أو قال بعدها أو قبلها أو معها طلقة وقع اثنتان).
قال لها: أنت طالق و (بعدها أو قبلها) طلقة فيقول لها: أنت طالق طلقة، طالق طلقة، طالق طلقة، فحينئذ تطلق ثلاثا؛ لأنه يكون في هذه الحالة كأنه أسس بذكر التأكيد، أو فصل بينهما بما يدل على انفصال الطلقة الأولى عن الثانية، فقال: أنت طالق، ثم قال: طالق طالق، فهذا الفصل يقتضي أنها طلقة قبل الطلقة أو طلقة بعد الطلقة، وهكذا لو قال لها: أنت طالق بعدها طلقة، أو طالق بعد طالق بعد طالق، أو طالق قبلها طلقة، فإنها طلقتان، إذا قال: أنت طالق قبلها طلقة، أو أنت طالق بعدها طلقة، تكون طلقتين، إن قال: طالق قبلها طلقة، فأصبحت (طالق) الثانية ليس فيها معنى التأكيد، فتطلق طلقتين، وإن قال: أنت طالق قبلها طلقة، فإن قوله: (طالق) تكون تأكيدا وطلقة مستقلة.
تكرار الطلاق لامرأة غير مدخول بها
قال رحمه الله: [وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها، والمعلق كالمنجز في هذا] .
الآن بالنسبة للإشكال في طالق (طالق طالق) ، أو (طالق قبلها طلقة) ، أو (طالق بعدها طلقة) ، هل هو للتأكيد؟ أو للتأسيس؟ فالمسألة كلها تكون: هل لمعنى التأكيد أو لمعنى التأسيس؟ ففي الصورة الأخيرة: (أنت طالق قبلها طلقة) ، انظر! فهل وصفه باسم الفاعل: (أنت طالق) مراده الطلقة القبلية، أم أنها طلقة غير الطلقة القبلية؟ فهو ناو في قلبه أن قوله: (طلقة) سبقت (طالق) ، فهل (طالق) الثانية تأكيد أم تأسيس؟ فعلى هذا الوجه ذكر المصنف هذه المسألة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن كرره بـ (بل) أو (ثم) أو بـ (الفاء) أو قال: بعدها أو قبلها أو معها طلقة وقع اثنتان] : وقعت اثنتان، يعني: إذا قال لها: (أنت طالق بل طالق) فتعد طلقتان؛ وطالق فطالق، أنت طالق ثم طالق، كذلك قالوا: إن هذا يعتبر تأسيسا، ولا يمكن أن يقبل التأكيد، فهو إذا قال: (أنت طالق طلقة) ، (أنت طالق بعد طلقة) ، (أنت طالق قبلها طلقة) لكن لاحظ! حينما قال: (أنت طالق قبلها طلقة) أخر المقدم وقدم المؤخر، فهل المؤخر هو المقدم أو لا؟ هذا الإشكال فهل قوله: (طالق) -اسم الفاعل- وصف للمتقدم الذي أخره، فيكون قوله: (طلقة) في الأصل سابقة لـ (طالق) ، فيكون وصفها بكونها طالقا واقعا للمؤخر الذي هو (طلقة) ، فيكون قوله: (أنت طالق قبلها طلقة) ، المراد به: أن تكون طلقة واحدة.
ويحتمل أن يكون قوله: (أنت طالق قبلها طلقة) (أنت طالق) ، طلقت ولا تقبل الإلغاء، ثم: (قبلها طلقة) يقصد به أنه قد طلقها طلقة مع هذه الطلقة، فتكون طلقتان، وحينئذ اختار المصنف أنها طلقتان، وعلى هذا القول فقول الزوج: (أنت طالق قبلها طلقة) ، (أنت طالق بعدها طلقة) ، في الصورتين تكون طالقا بالطلقتين، هذا وجه، وخلاصة الإشكال: هل هي للتأسيس أو للتأكيد؟ فإن قلت، للتأكيد، فلا يتكرر الطلاق، وإن قلت: للتأسيس، تكرر الطلاق على حسب ذلك.
ولو قال لها: (أنت طالق قبلها طلقة، وأنت طالق بعدها طلقة) ، أو قال لها: (أنت طالق قبلها طلقتين) ، فثلاث؛ لأن (أنت طالق) اسم الفاعل وصف، وتكون حينئذ طلقتان على مذهب من يقول: إنه للتأكيد على أنه للوصف، وإن كان للتأسيس فيكون قوله: (أنت طالق قبلها طلقتان) ثلاثا، ويصبح في هذه الحالة وصفها بكونها مطلقة طلقة ثالثة بعد الطلقتين السابقة.
وإن قلت: ليس مراده ذلك، فـ (طالق) اسم فاعل، واسم الفاعل يقبل الوصف، وهو مشتق، فيكون قوله: (أنت طالق قبلها طلقتين) يعني: أنت طالق بالطلقتين، أصفك بكونك طالقا بطلقتين، هذا معنى كونها للتأكيد، وهذا -في الحقيقة- تفنن من العلماء؛ لأن التفنن في اللغة كان -قديما- موجودا، وتجد الرجل يتمسك بالألفاظ، وإذا لحن يؤاخذ، فكانوا الناس ينقلون ويأخذون بألفاظهم كما هي، وكانت اللغة قائمة بدلائلها بالتأسيس والتأكيد، وحروف التأسيس التي لا يمكن حملها على التأكيد، وعلى هذا فصل المصنف -رحمه الله- واختار أن قوله: (أنت طالق قبلها طلقة) ، أو (طالق بعدها طلقة) أنها تطلق طلقتين.
وعلى هذا ممكن أن تطلق ثلاث تطليقات لو قال لها: قبلها طلقتان، أو بعدها طلقتان.
الأسئلة




عدد الطلقات للعبد إذا طلق ثم أعتق
السؤال إذا طلق العبد طلقة ثم أعتق فكم يبقى له من عدد الطلاق؟
الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا طلق العبد طلقة ثم عتق العبد، فإنه بعد ذلك يستأنف الحكم وتكون له ثلاث تطليقات، فيبقى له من تطليقاته طلقتان.
والله تعالى أعلم.
تفصيل حالات أخذ الجزء لحكم الكل والعكس
السؤال في الطلاق نرى أن الجزء آخذ لحكم الكل والقاعدة: أن (الجزء لا يأخذ حكم الكل) فما التوجيه في ذلك؟
الجواب ما شاء الله! -الحقيقة- كم يسر أهل العلم وطلبة العلم حينما تكون الأسئلة فعلا تدل على ربط الفقه بعضه ببعض! سبق وأن ذكرنا أن هناك قاعدة تقول: (الجزء لا يأخذ حكم الكل) ، وذكرنا هذه القاعدة في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) ، فلم يعط اليد حكم الجسم كله، فقالوا: (الجزء لا يأخذ حكم الكل) ، وهذا فيما يقصد فيه الكل.
هنا قلنا: (الجزء يأخذ حكم الكل) ، وهذا في المؤاخذات، وقصد الكل -يعني: فيما يقصد به الكل- مستقيم؛ لأن هذا ورد، وهذا ورد، فالشرع عبر بالجزء عن الكل، ولذلك قال: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة:191] ، والمراد مكة كلها، وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} [الإسراء:1] ، وقد أسري به عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانئ، وهذا يدل على أن الكل يكون في حكم الجزء، وقال: {تبت يدا أبي لهب وتب} [المسد:1] ، كما ذكرنا، فالشرع يعبر بالجزء عن الكل، ويعبر بالجزء عن الجزء، فحينما قلنا: إن الجزء لا يأخذ حكم الكل فهذا بالنسبة لما قصد الشرع فيه الكل كقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فالدخول للكل لا للبعض، فلو أدخل رجله فإنه لا تلزمه التحية؛ لأنه لم يدخل الكل، والجزء لا يأخذ حكم الكل، ولو قال: والله! لا أدخل البيت، فأدخل يده، لم يحنث؛ لأن الحكم هنا في الشرع معلق بالكل، وهكذا لو اعتكف في مسجد فأخرج يده منه لم يبطل اعتكافه؛ لأن الشرع علق الحكم بالكل؛ لكن هنا لا يمكن أن يعلق الحكم بالجزء وحده؛ لأننا ما وجدنا الشرع يقول: المرأة حلال كلها إلا يدها، وما وجدنا الشرع يقول: المرأة نصفها حلال ونصفها حرام، ووجدنا الإجماع قائما على أن تطليق البعض كتطليق الكل، وأن جزء الطلقة ككل الطلقة فتطلق المرأة جميعها، وهذا مثل ما ذكرنا: أن الشرع اختلفت أحكامه فأعطى الكل حكم الجزء في حال، وأعطى الجزء حكم الجزء بالخصوص ولم يعطه حكم الكل في حال، وعليه جعلنا الحكم مرتبا لكل حال بما يناسبه، فنحن نقول: إن الطلاق لا يتعلق بالبعض، فنفهم هنا: أن الجزء كالكل، وأيضا: حينما وجدنا الشرع يعلق الحكم على الدخول وعلى الخروج نقول: دخول البعض ليس كدخول الكل، وخروج البعض ليس كخروج الكل.
والله تعالى أعلم.
تعليق الطلاق أو عدده بمستحيل
السؤال لو قال الرجل لزوجته: أنت طالق بعدد أبنائي، ولم يكن له أولاد، فما الحكم؟
الجواب أنت طالق بعدد أبنائي، بعض العلماء يقول: إنه إذا علق الطلاق على المستحيل يكون لغوا، لو قال لها: أنت طالق بعدد أبنائي، وليس له أبناء، قالوا: يكون هذا من التعليق بالمستحيل، يعني: ليس له أبناء فالطلاق لم يصادف محلا.
وقال بعض العلماء: تطلق عليه طلقة ولا يزاد؛ لأنه قال: أنت طالق -فوصفها بكونها طالقا- بعدد أبنائي، يصبح بعد ذلك الثانية والثالثة بعدد الأبناء، فالأصل أنه طلق، قالوا: فيؤاخذ، وعلى هذا لا يصح إدخاله لعدد الأبناء رافعا للطلاق؛ لأن الطلاق قد وقع.
والمسألة محتملة، ومن يرجح المؤاخذة يقول: إنها تطلق؛ لأنه قال: أنت طالق، فلا إشكال في وقوعه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، أنه إذا قال: أنت طالق بعدد أبنائي تطلق.
لكن يرد الإشكال: لماذا يحكم بالطلاق، وقد قيده -بينه وبين الله- بعدد أبنائه.
وهذه المسألة -في الحقيقة- لو تأملها طالب العلم لعرف أنها تطلق بالنص؛ لأنه حينما قال لها: أنت طالق بعدد أبنائي، وهو يعلم أنه ليس له أبناء فقد هزل بالطلاق، فلما وصفها بقوله: أنت طالق، فقد أمضى على نفسه الطلاق بصيغة اسم الفاعل التي هي أصل للطلاق.
وعلى هذا تطلق لكونه يهزل ويريد الهزل، وحينئذ تكون طلقة واحدة، ولا تطلق عليه أكثر من طلقة.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #560  
قديم يوم أمس, 06:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (437)

صـــــ(1) إلى صــ(15)





شرح زاد المستقنع - فصل الاستثناء في الطلاق
مسألة الاستثناء في الطلاق من المسائل المهمة التي تبحث في كتاب الطلاق، وتتفرع منها مسائل وأحكام أخرى من أهمها: حكم تأثير الاستثناء في الطلاق، والشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق، وحكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات، وكذلك حكم الاستثناء بالقلب في الطلاق.
الاستثناء في الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد كنا قد ذكرنا جملة من الأحكام المتعلقة بتنجيز الطلاق، وقوله رحمه الله: (والمعلق كالمنجز) ، قد عقد المصنف رحمه الله لتعليق الطلاق مباحث وفصولا سيأتي بيانها، وعند العلماء رحمهم الله أن الطلاق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان منجزا، والمقصود بالمنجز الذي يبت الزوج فيه الطلاق فيقول لامرأته: أنت طالق.
فهذا منجز وينفذ حالا، وأما المعلق فإنه يعلق على شرط أو صفة أو زمان ويعلق فيقول: إن دخلت الدار، أو إن خرجت، أو إن ذهبت إلى أهلك، أو إن جاء الغد ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان مسائل التعليق ومباحثها بعد فصلين من هذا الفصل.
أقسام المستثنى منه في الطلاق
قال رحمه الله: [فصل: ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات] .
هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله للاستثناء، والاستثناء في الطلاق مبحث مهم من مباحثه، والمراد بالاستثناء: أن يستثني المطلق من عدد الطلاق شيئا معينا أو يستثني من المطلقات بعضهن، ولذلك ينقسم الاستثناء إلى قسمين: إما أن يكون في عدد الطلاق، وإما أن يكون في المطلقات، فمثال الأول: أن يقول لها: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، ومثال الثاني أن يقول: نسائي طوالق إلا فلانة، والاستثناء في لغة العرب حقيقته: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فلما قال: إلا واحدة، أخرج الواحدة من الثلاث، فقالوا: الاستثناء إخراج بعض، فخرج استثناء الكل من الكل، وهو نوع من أنواع الاستثناء سيأتي بيان حكمه.
والاستثناء مبحث مهم من المباحث الفقهية، ذكره العلماء في الطلاق، ويتكلمون عليه في الأيمان، كرجل يحلف اليمين ويستثني فيقول: والله لا آكل اليوم إلا اللحم، أو والله لا أدخل دار أحد إلا دار فلان، أو والله لا أكلم الناس إلا زيدا ونحو ذلك، وكذلك يكون الاستثناء في مباحث العتق، فيعتق عبيده وإماءه ويستثني بعضا منهم، فمباحث الاستثناء مباحث مهمة يترتب عليها مسائل شرعية في الطلاق والأيمان والنذر والعتق وغير ذلك، ومسألة الاستثناء تستلزم بيان الأصول والقواعد التي يقوم عليها الاستثناء، فهناك مستثنى، ومستثنى منه، وأداة للاستثناء، فأما المستثنى فيكون عددا ويكون شخصا، وهذا في باب الطلاق؛ لأننا قلنا: إما أن يستثني من عدد الطلاق أو من المطلقات.
فلذلك المستثنى إما أن يكون من الأعداد كقوله: أنت طالق طلقتين إلا واحدة، وأنت طالق ثلاث تطليقات إلا واحدة، فقوله: إلا واحدة، المستثنى: واحدة، وهو عدد، أو يكون المستثنى من النساء، وهذا استثناء راجع للمطلقات لا إلى عدد الطلاق، كقوله: نسائي طوالق إلا خديجة، فهذا استثناء من المطلقات.
وأما بالنسبة للمستثنى منه فإن كان الاستثناء عدديا فإنه يكون عدد الطلاق كقوله: ثلاثا إلا واحدة، وإذا كان من المطلقات يكون ذكره لنسائه كلهن فيقول: جميع نسائي طوالق إلا فلانة.
وأما بالنسبة للأداة فهناك الاستثناء بـ (إلا وسوى وعدا وغير وحاشا وخلا) ، فهذه ستة حروف للاستثناء، يقول: نسائي طوالق إلا خديجة، ونسائي طوالق ما عدا خديجة، ونسائي طوالق غير خديجة، سوى خديجة ونحو ذلك؛ لكن هذه الحروف فيها غير، وغير تأتي على وجهين: فإن قال: نسائي طوالق غير خديجة، خرجت واستثنيت إذا جاءت بالنصب، وأما إذا قال: غير خديجة -بالضم- فالجمهور على أنها تكون طالقة مع المطلقات من باب التأكيد كقوله: أنت طالق ثلاثا غير واحدة، أي: أنت لست بطالق طلقة واحدة، وإنما أنت طالق ثلاث تطليقات، وعلى هذا لا تكون دالة على الاستثناء.
حكم تأثير الاستثناء في الطلاق
قال العلماء رحمهم الله: إن الإجماع منعقد من حيث الجملة على أن من استثنى استثناء صحيحا مستوفيا للشروط الشرعية أنه يحكم له بالاستثناء ويعتد به؛ لأن الله سبحانه وتعالى عبر في كتابه المبين بالاستثناء، وثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استثنى، وجعل استخدام هذا الأسلوب العربي موجبا لمخالفة الحكم للمستثنى من المستثنى منه.
وعلى هذا قالوا: إن من استثنى استثناء شرعيا، أي: مستوفيا للشروط المعتبرة شرعا، حكم باستثنائه، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، فلا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) ، فدل على أن الاستثناء له تأثير، وقد جاءت بذلك نصوص الكتاب، فإن الله تعالى جعل الاستثناء مؤثرا في العدد فقال سبحانه: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت:14] ، فكأنه قال: لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما، فدل على أن الاستثناء يؤثر في الأعداد.
وعلى هذا قالوا: كما أن الاستثناء يؤثر في الأعداد فقد ثبت النص بأن الاستثناء يؤثر في الأشخاص الموصوفين كما في قوله تعالى: {إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر:40] ، فاستثنى عباد الله المخلصين، وهذا يدل على أن الاستثناء يقع في الأعداد ويقع في الأشخاص، وبناء عليه، فمن طلق بعدد واستثنى فإنه يصح استثناؤه، ومن طلق نساء واستثنى صح استثناؤه، ولكن إذا استوفى الشروط.
الشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق
الشرط الأول: النية والقصد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، فمن تلفظ بالطلاق وذكر مطلقات أو عددا من الطلاق وأراد أن يستثني، فعليه أن تكون عنده نية لذلك الاستثناء حتى يحكم بالاعتداد بذلك الاستثناء شرعا.
فإذا أراد أن يستثني ونوى، فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته للاستثناء سابقة لتلفظه بالطلاق.
الحالة الثانية: أن تكون نيته للاستثناء مصاحبة للتلفظ بالطلاق.
الحالة الثالثة: أن تكون نية الاستثناء متراخية ومتأخرة عن لفظه بالطلاق.
الحالة الأولى: أن تكون نيته سابقة للطلاق؛ وذلك كأن ينوي أن يطلق امرأته طلقة واحدة، فقبل أن يتلفظ يستحضر في نيته أنه يريد أن يطلقها طلقة، فقبل أن يتلفظ نوى هذه النية ثم قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقة، أي: أنت طالق طلقة واحدة؛ فعلى هذا أجمع العلماء رحمهم الله: أن من كانت نيته سابقة للفظ الطلاق أنها نية معتد بها ومعتبرة للتأثير في الاستثناء.
الحالة الثانية: أن تكون النية مصاحبة للفظ، وذلك بأن ينوي الاستثناء قبل الفراغ من عدد الطلاق الذي يريد أن يستثني منه، وقبل الفراغ من عدد المطلقات اللاتي يريد أن يستثني منهن، فمثلا: إذا كان الاستثناء في العدد قال لها: أنت طالق طلقتين، وقبل أن يتم قوله: طلقتين، نوى الواحدة فقال: طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة في قول جماهير العلماء رحمهم الله لقولهم: إن النية إذا كانت سابقة أو كانت موافقة أو مصاحبة أنها نية معتبرة ومؤثرة شرعا.
الحالة الثالثة: أن تكون النية متراخية ومتأخرة عن الطلاق، فقول جماهير العلماء رحمهم الله: أنه لا تأثير لذلك، فلو أن رجلا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا، ثم طرأ له وبدا له أن يستثني منها شيئا بعد أن تلفظ بالثلاث فقد وجبت الثلاث ولا تأثير لذلك، إلا أن فقهاء الحنابلة والمالكية رحمهم الله استثنوا المصاحب المتصل اتصالا قويا بآخر اللفظ، والأقوى ما ذكرناه، هذا بالنسبة للأول وهو شرط النية.
الشرط الثاني: ألا يكون الاستثناء مستغرقا، والمراد بذلك: أن يفضل شيء بعد الاستثناء الذي استثناه من عدد الطلاق والمطلقات، فمثلا يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا؛ فإنه إذا قال: إلا ثلاثا، أبطل بها الثلاث الأولى وكأنه يبطل لفظ الطلاق، فبالإجماع على أنه إذا كان استثناؤه مستغرقا أنه غير مؤثر ويقع ما تلفظ به.
فلو قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة أو طلقتين إلا طلقتين أو ثلاثا إلا ثلاثا؛ فإنه لا يعتد بالاستثناء، ويقع الذي تلفظ به أولا.
وعرفنا أنه إذا قال: كلكن طوالق إلا جميعكن، لم يصح ويطلق الجميع، ولو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقتين فإنه يلغى استثناؤه ويثبت طلاقه.
لكن
السؤال لو أنه استثنى بعض المستثنى منه ولم يكن مستغرقا، فالسؤال: ما الحكم؟ يأتي ذلك على صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر.
الصورة الثانية: أن يستثني النصف.
الصورة الثالثة: أن يستثني الأكثر.
فعندنا ثلاث تطليقات يستثني الأقل فيقول: إلا طلقة، ويستثني المساوي فيقول: طلقتين إلا طلقة، فاستثنى النصف، ويستثني الأكثر فيقول: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين.
فعندنا ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر، فبإجماع العلماء على أنه إذا استثنى الأقل من الأكثر صح استثناؤه، كقوله: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فيصح استثناؤه وتطلق المرأة طلقتين.
الصورة الثانية: إذا استثنى النصف فقال: أنت طالق طلقتين إلا طلقة فهل هذا يؤثر أو لا يؤثر؟ جمهور العلماء على أنه إذا قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقة فإنه يصح استثناؤه وتطلق طلقة واحدة؛ لأن النص والتنزيل دال على تأثير الاستثناء، والنصوص دالة على أن هذا الاستثناء معتد به في اللسان واللغة، والإجماع منعقد على أنه مؤثر، وإعماله هو الأصل، فيبقى على هذا الأصل حتى يدل الدليل على أن استثناء النصف لاغ، وليس هناك دليل يفرق بين النصف والأكثر.
ويخالف في هذه المسألة بعض فقهاء الحنابلة ويقولون: إنه إذا استثنى النصف لم يصح استثناؤه، والمصنف رحمه الله اختار القول بأنه إذا استثنى النصف فإنه يؤثر وأنه استثناء صحيح، وهو القول الراجح -كما ذكرنا- بدلالة النصوص في الأصل على صحة الاستثناء والاعتداد به.
الصورة الثالثة: إذا استثنى الأكثر فقال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين؛ فإن الطلقتين اللتين استثناهما أكثر من الطلقة التي أبقاها وعلى هذا كانت الاثنتان أغلب وأكثر، فهل يصح أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين ويعتبر ذلك موجبا لرفع الطلقتين وبقاء الطلقة الواحدة؟ قولان للعلماء، وأصحهما: قول الجمهور، أن من استثنى الأكثر صح استثناؤه؛ وذلك لقوة الدليل من الكتاب على صحة هذا النوع من الاستثناء، وقد اختار أئمة اللغة أنه يصح استثناء الأكثر وليس في ذلك مانع، وقد قال الله عز وجل حكاية عن إبليس: {ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر:39 - 40] ، قال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر:42] ، فقوله: (إن عبادي) عباد الله عز وجل الذين هم بنو آدم ليس له عليهم سلطان إلا من اتبعوه من الغاوين، والغاوون أكثر من المهتدين.
فدل هذا على أن استثناء الأكثر من المستثنى منه صحيح؛ لأن القرآن جاء بذلك ونص عليه، وقد خالف في هذه المسألة بعض أئمة اللغة رحمهم الله كـ ابن درستويه، وحكي عن ابن جني والزجاج أنهما يقولان: لا يصح استثناء الأكثر، والصحيح أن استثناء الأكثر صحيح ومعتد به على ما ذكرناه، ولذلك قال الإمام الماوردي رحمه الله: إن هذا المذهب ضعيف، والأقوى والأشبه بالأصول صحة استثناء الأكثر كالأقل.
إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أن من استثنى وكان الذي استثناه مستغرقا للمستثنى منه لم يصح استثناؤه بالإجماع، كقوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا.
وهناك مذهب شاذ لا يعتد به أنه لو قال لها: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا لم تطلق، ولكنه شذوذ.
أما إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أو اثنتين ففيه خلاف: هل يصح استثناء الأكثر والنصف، وقلنا: إن الراجح مذهب الجمهور، وأما بالنسبة للأقل فإنه يكاد يكون الإجماع على أن استثناء الأقل صحيح ومعتد به.
الشرط الثالث: أن يكون الاستثناء متصلا، ولا يفصل بين المستثنى منه والمستثنى بفاصل مؤثر، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، وأراد أن يستثني من الثلاث فينبغي عليه أن يصل ويقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فيجعل الاستثناء متصلا بالمستثنى منه.
وعلى هذا: فلو وقع الفاصل فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون فاصلا يعذر فيه شرعا، كأن يقول: أنت طالق ثلاثا، ثم يصيبه عطاس، فيفصل بعطاس، أو يفصل بانحباس نفس أو نحو ذلك مما هو خارج عن إرادته وقدرته، فبالإجماع لا يؤثر.
الحالة الثانية: أن يكون الفاصل مؤثرا بقول أو فعل أو طول زمان، فهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وجمهرة أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله على أن الفاصل المؤثر يسقط الاستثناء ويثبت الطلاق، ولا يؤثر فيه ذلك الاستثناء، فمثلا: لو قال رجل لامرأته: أنت طالق ثلاثا، في مجلس، ثم خرج إلى مجلس ثان وطال الفصل وقال: إلا واحدة، وقعت الثلاث، واستثناء الواحدة على هذا الوجه لا يؤثر، وهذا هو مذهب الجمهور الذين منهم الأئمة الأربعة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رخص في الفاصل في الاستثناء، وأنه إذا فصل بفاصل إلى شهر فإنه لا يؤثر، وحكي عنه أنه قال: إلى الأبد، وكذلك قال طائفة من أصحابه كـ مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وهو قول بعض أئمة التابعين كـ الحسن البصري، حتى قال مجاهد: له أن يستثني إلى سنتين.
وهذه الأقوال كلها مرجوحة، وقد احتجوا بحديث العباس فإنه لما قال عليه الصلاة والسلام في تحريم مكة: (أن يختلى خلاها ويعضد شوكها وتلتقط لقطتها قال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إلا الإذخر) .
قالوا: فحصل الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومع ذلك جعل الحكم للإذخر خاصا وأثر الاستثناء، قالوا: والاستثناء هو وجود الفصل إما بوجود الجملة للمراجعة بقوله: (يا رسول الله إلا الإذخر) أو بوجود الزمان.
وأجاب عن هذا جمهور العلماء بأن الكلام فيه تقدير، فقوله: (يا رسول الله! إلا الإذخر) ، كأنه سؤال، والسؤال معاد في الجواب، أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها إلا الإذخر) ، ففيه تقدير، وهذا هو الصحيح، وبناء على ذلك لا يكون الحديث حجة على الفصل.
ومن غرائب ما ذكروا عن بعض أئمة الفقه رحمة الله عليهم: أنه ذات مرة دخلت امرأتان من البادية على البصرة، فوجدتا رجلا يبيع، فاشترت إحداهما من ذلك البائع، فقالت إحداهما تخاطب الأخرى: ألم تعجبي من فلان -تعني: من العلماء- يقول: إنه يجوز أن يستثني بعد اليوم واليومين؟ أي: يجوز للإنسان أن يستثني من يمينه وطلاقه وعتاقه بعد يوم أو يومين، قالت: وما العجب في ذلك؟ أي: لأنها امرأة وتحب الاستثناء حتى ولو بعد العمر كله؛ لأن هذا أفضل لها، فقالت لها: وما العجب في ذلك؟ قالت لها: لو كان الأمر كما قال لأمر الله نبيه أيوب أن يستثني، فإنه لما ألزم نفسه كان بالإمكان أن يأمره أن يستثني ويرفع عنه موجب اليمين، وهذا لا شك أنه يدل دلالة واضحة على أن وجود الفصل يؤثر في الاستثناء.
وعلى هذا: فإنه لا يصح أن يستثني مع وجود الفاصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين المستثنى والمستثنى منه، وإنما وقع كلامه على تقدير سؤال العباس رضي الله عنهما.
حكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات
قال رحمه الله تعالى: [ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات] .
يقول رحمه الله: (ويصح منه) أي: من المطلق، (استثناء النصف فأقل) وهذا على أصح القولين في المذهب كما ذكرنا، وكما قلنا: يكاد يكون إجماع القائلين بأن الاستثناء يؤثر من عدد الطلاق، وهذا النوع الأول من الاستثناء يكون عدديا، والنوع الثاني: استثناء المطلقات فيقول: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، فحينئذ يكون استثنى نصف نسائه المطلقات، حيث يكون عنده أربع من النسوة فيستثني منهن اثنتين.
وكذلك يستثنى من عدد الطلاق كأن يقول: أنت طالق طلقتين إلا طلقة، أو نسائي طوالق طلقتين إلا طلقة فهذا استثناء للنصف.
قال رحمه الله: (فأقل) والأقل كما ذكرنا أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، هذا في عدد الطلاق، والأقل في المطلقات أن يكون عنده أربع نسوة فيقول: نسائي طوالق إلا فلانة، فواحدة من أربع أقل، أو يقول: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، فيكون استثنى النصف من عدد المطلقات.
ومفهوم قوله: (استثناء النصف فأقل) الحنابلة رحمهم الله عندهم أنه لا يجوز استثناء الأكثر كما ذكرنا، فلو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين فإنه لا يصح هذا الاستثناء، والصحيح: صحة استثناء الأكثر وهو مذهب الجمهور، فإن ظاهر القرآن دال عليه، فلما قال رحمه الله: (يصح منه استثناء النصف فأقل) ، نفهم أنه إذا استثنى أكثر من النصف فلا يصح هذا على المذهب، ولكن الصحيح ما ذكرنا لقوة الدليل عليه.
قوله: [فإذا قال: أنت طالق طلقتين إلا واحدة وقعت واحدة] .
وهذا استثناء النصف.
ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين، أصبحت مطلقة طلقة واحدة على القول بأن استثناء الأكثر يؤثر.
فإذا قال: إلا اثنتين إلا واحدة، يكون قوله: إلا واحدة، راجعا إلى اثنتين، فيكون قد استثنى واحدة من ثلاث، فاستثنى من الثلاث الأولى طلقتين، ثم استثنى من الطلقتين اللتين استثناهما طلقة واحدة، فبقيت واحدة، فأصبحت طالقا طلقتين، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين إلا واحدة؛ فإن قوله: إلا طلقتين، يوجب ثبوت الطلقة الواحدة، إذا رجع واستثنى من الاثنتين واحدة صار قد استثنى من الثلاث واحدة، والاستثناء الثاني استثناء من الأول؛ لكن لو أنه جعل الاستثناء على هذا الوجه يكون الاستثناء الثاني راجعا إلى الاستثناء الأول، وعلى هذا يقول العلماء: إنها تطلق في هذا الوجه طلقتين، ويكون الاستثناء الثاني من الاستثناء الأول.
اختلاف الاستثناء في النفي والإثبات
قوله: [وإن قال: ثلاثا إلا واحدة فطلقتان] .
الاستثناء يكون تارة بالإثبات وتارة بالنفي، فالاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فأنت لو قلت: ما قام أحد إلا زيدا، فإن الاستثناء من المنفي إثبات، أي: أن زيدا قد قام، فصار الاستثناء من النفي إثبات، والعكس الاستثناء من الإثبات نفي، فإذا قال: جاء الطلاب إلا زيدا، فمعنى ذلك أن زيدا لم يجيء، فأصبح الاستثناء من الإثبات نفي، وعلى هذا استشكلت بعض المسائل على هذا الأصل: أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فإنه قد أثبت الثلاث واستثنى منها واحدة، فيكون نفيا للواحدة.
وعلى هذا لما قلنا: إنه إذا قال لها: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين فقد نفى أن تكون مطلقة ثلاثا، واستثنى هاتين الطلقتين، ثم لما رجع وقال: إلا واحدة، أي: من الاثنتين، فحينئذ كأنه يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة هذا وجهه.
لكن مسألة الاستثناء من النفي إثبات هي في الطلاق جارية عند جمهور العلماء رحمهم الله، ويشكل عليها فقط في مسائل الأيمان، لو قال: والله لا آكل اللحم إلا لحم الدجاج.
فإذا قلنا: والله لا آكل اللحم استثناء، والاستثناء من النفي إثبات، فحينئذ عند الجمهور أنه إثبات لأكل الدجاج، فإذا مضى ذلك اليوم ولم يأكل لحم الدجاج؛ لزمته اليمين وحنث؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات.
وقال طائفة من العلماء كما هو مذهب المالكية: الاستثناء من النفي إثبات إلا في اليمين؛ فإنه لو قال: والله لا آكل اليوم اللحم إلا لحم الدجاج؛ فإنه حينئذ يكون قوله: إلا لحم الدجاج، للإباحة لنفسه، وليس المراد به إثبات كونه يأكل لحم الدجاج، ويكون الخلاف بين القولين فيما لو مضى اليوم كله ولم يأكل لحم الدجاج، فعلى أن الاستثناء من النفي إثبات حنث على قول الجمهور، وعلى أن النفي في باب الأيمان ليس إثباتا فإنه لا يحنث؛ لأن المراد: أنه لا يأكل اللحم إلا أنه رخص لنفسه بأكل لحم الدجاج، فإن أكل فبها ونعمت، وإن لم يأكل فلا شيء عليه، وسيأتي إن شاء الله في الأيمان؛ لأن مسائل الاستثناء تتعلق بالأيمان وبالنذر وكذلك أيضا بالطلاق.
حكم الاستثناء بالقلب من عدد المطلقات والطلقات
قال المصنف رحمه الله: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات] .
سبق وأن ذكرنا في أول الطلاق أن التقسيمات والتفريعات عند العلماء نسبية، فتارة تقول: الطلاق ينقسم من حيث الحكم إلى سني وبدعي، ومن حيث الأثر وحكم الرجعة ينقسم إلى رجعي وبائن، والبائن إلى بائن بينونة صغرى وكبرى على التفصيل الذي قدمناه.
وهنا بالنسبة للاستثناء من حيث الظاهر والباطن -وهي نسبته إلى اللفظ وعدمه- ينقسم إلى استثناء باللفظ واستثناء بالقلب، استثناء باللفظ يقول: نسائي طوالق إلا خديجة، فقد تلفظ بالمستثنى وحينئذ لا إشكال، والنوع الثاني: أن يكون الاستثناء قلبيا؛ فإن كان الاستثناء لفظيا فيؤثر في المطلقات وعدد الطلقات وجها واحدا عند العلماء، وإن كان الاستثناء قلبيا وباطنيا فإنه في هذه الحالة يفرق بين عدد الطلاق وبين المطلقات، ففي عدد الطلاق لا يؤثر على تفصيل عند العلماء سنشير إليه من حيث الجملة، ومن حيث عدد المطلقات يؤثر.
فلو قال: نسائي طوالق، ونوى في قلبه إلا خديجة، أو نوى بنسائه الطوالق اللاتي هن موجودات في الغرفة دون اللاتي خارج الغرفة، أو اللاتي موجودات في المدينة دون اللاتي في مكة، أو في موضع آخر، صح استثناؤه فيمن نوى استثناءها وتطلق الباقيات.
ولكن في مسألة الاستثناء في عدد الطلاق، قالوا: إذا قال: أنت طالق ثلاثا، لو فتحنا الباب وقلنا: إن الاستثناء بالقلب مؤثر لتلاعب السفهاء، والمصلحة تقتضي أنه يؤاخذ بظاهره، إضافة إلى أن أصول الشريعة تؤكد هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) ، فهو لو قال لامرأته أنت طالق طلقتين، أنت طالق ثلاثا، ونوى بقلبه إلا طلقة، قالوا: تطلق طلقتين في الأولى وثلاثا في الثانية، ولا يعتد باستثنائه القلبي، هذا في قول طائفة من العلماء.
وقال بعض العلماء: ينفعه ديانة ولا ينفعه حكما وقضاء، أي: بينه وبين الله عز وجل ينفعه هذا الاستثناء، وبينه وبين الناس وفي حكم القضاء لا ينفعه، والقول الأول لا شك أنه أورع وأشبه وله قوة، بخلاف مسألة شبهة الإسناد لمحل الطلاق فإنه يضعف الإسناد ما لم يسند، فقوي أن يستثني ويعتد بنيته ما لم يكن ذلك في عدد الطلقات.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 356.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 350.31 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]