|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#461
|
||||
|
||||
![]() وهي أصل الكتب التي أُنزِلت على بني إسرائيل وأعظمها، وبها حكم أنبياؤهم، وهي أفضل كتب الله تعالى بعد القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]. ﴿ والإنجيل ﴾: هو الكتاب الذي أنزل الله تعالى على عيسى، وهو متمم ومكمل للتوراة، قال تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]. قوله تعالى: ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. قوله ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «الواو»: عاطفة، و«رسولًا»: مفعول به لفعل محذوف تقديره: يجعله رسولًا إلى بني إسرائيل. و«الرسول»: من أُوحِيَ إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه. فعيسى عليه السلام رسول إلى بني اسرائيل، ورسالته مكملة لرسالة موسى عليه السلام. ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي: قائلًا لهم: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أي: أُرسِلت إليكم بآية، أي: بعلامة من ربكم دالة على صدقي. ﴿ قَدْ﴾: للتحقيق، والباء في قوله: ﴿ بِآيَةٍ﴾للملابسة، أي: مقارنة للآية الدالة على صدقي في هذه الرسالة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63]. ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾:قرأ نافع وأبو جعفر بكسر الهمزة: «إِني» على أن الكلام استئناف لبيان « آية »، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ أَنِّي ﴾ على أنه بدل من قوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾. وهذا وما بعده بيان للآية التي جاء بها عيسى عليه السلام بقوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾. ﴿ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾: قرأ أبو جعفر بالإفراد «كهيئة الطائر»، وقرأ الباقون: ﴿ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾، والطير: اسم يقع غالبًا على الجمع، وقد يقع على الواحد، والكاف بمعنى: مثل، وهي صفة لموصوف محذوف، أي: أخلق لكم شيئًا كهيئة الطير، أي: كصورة الطير. ﴿ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ﴾: قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بالإفراد «فيكون طائرًا»، أي: فيكون طائرًا تشاهدونه يطير، وقرأ الباقون: ﴿ فَيَكُونُ طَيْرًا ﴾، أي: طيرًا حيًّا بعد أن كان صورة على هيئة الطير، والمعنى: فيكون هذا الذي خلقت لكم من الطين على هيئة الطير، ونفخت فيه الروح طيرًا حياًّ يطير بجناحيه؛ لأن القراءتين بمثابة آيتين يُكمل بعضهما بعضًا. ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي: بأمره الكوني الشرعي، فلولا أنَّ الله تعالى قدَّر ذلك كونًا، وأقدر عيسى عليه ما حصل ذلك، ولولا أن الله تعالى أذن لعيسى أن يُصوِّر على هيئة الطير ما فعل ذلك؛ لأن تصوير ذوات الأرواح لا يجوز؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله تعالى؛ كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ومَن أظلم ممَّن ذهب يَخلق كخَلْقي»[3]. وفي قول عيسى عليه السلام: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ إظهار كمال عبوديته لله تعالى، واحتراس من أن يظن أنه يخلق استقلالًا. ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾: معطوف على ﴿ أَخْلُقُ ﴾، و«أُبرئ» من (البرء) وهو الشفاء، أي: وأشفي، قيل: يبرؤهما بالدعاء. و﴿ الْأَكْمَهَ ﴾: الذي وُلِدَ أعمى، وقيل: الأعمى مطلقًا. ﴿ وَالْأَبْرَصَ ﴾: من به برص، وهي بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، وقد تنتشر حتى تعُم الجلد كله، وهو مرض مستقذر. كما في قصة الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى: «فجاء الملك للأبرص، فقال له: أي شيء أحب اليك؟ قال: «لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس»[4]. وخصَّ إبراء الأكمه والأبرص؛ لأنهما أمران مُعضلان أعجزا الأطباء مع كثرتهم في زمنه وحذقهم؛ ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب، وقرن ذلك بالخلق وإحياء الموتى. ﴿ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾: معطوف على ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾، أي: وأُحيي الذين ماتوا بإذن الله الكوني، و(أل) في «الموتى» للجنس، أي: جنس «الموتى» بأن يقف على أي ميت فيأمره فيحيى، وليس المراد بذلك ميتًا بعينه كما قيل إنه أحيا سام بن نوح أو غيره من أناس بأعيانهم؛ فهذا لا دليل عليه. ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ ﴾ أي: أخبركم. ﴿ بِمَا تَأْكُلُونَ ﴾ «ما»: موصولة، أو مصدرية في الموضعين، أي: بالذي تأكلونه اليوم، أو بأكلكم في يومكم. ﴿ وَمَا تَدَّخِرُونَ ﴾ أي: والذي تدَّخرونه، أو ادخاركم ﴿ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾: لغد، أو لما بعده، مما لم أطلع عليه. وهذا من جملة الآيات التي أعطاها لعيسى؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن ارتضى من رسله، كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26، 27]. وكما أن في هذا آية من آيات الله التي منحها الله تعالى لعيسى؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ ففي ذلك حض لهم على الأكل والادخار مما أباح الله تعالى لهم، وتحذير مما حرَّمه الله عليهم؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ﴾: الإشارة لما سبق من قوله تعالى: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾؛ أي: إن في ذلك المذكور لآية لكم، أي: لعلامة على صدقي فيما جئتكم به من الرسالة تدعو إلى الإيمان بذلك. ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي: إن كنتم مصدقين بآيات الله، منقادين لشرعه؛ ففي ذلك آية لكم؛ لأنه لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون بخلاف أهل العناد والمكابرة، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]. قوله تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾. قوله: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ «مصدقًا»: حال، أي: وحال كوني «مصدقًا لما بين يدي من التوراة»، والمصدق: المخبر بصدق غيره، واللام في قوله: ﴿ لِمَا بَيْنَ ﴾: للتقوية، أي: تصديقًا مثبتًا محققًا، والمعنى: ومصدقًا لما تقدم قبلي وسبقني من التوراة، ببيان أنها حق من عند الله، وبكوني مِصداق ما أخبرت به، فأخبرت ببعثته عليه السلام قبل مبعثه، فكان مبعثه مِصداق ما أخبرت به، وأيضًا مصدقًا لها بكون ما جاء به غالبًا موافقًا لِما جاء فيها من أخبار وأحكام. ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ «الواو»: عاطفة، والجملة معطوفة على قوله: ﴿ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، و«اللام»: للتعليل؛ أي: ولأجل أن أحل لكم بعض الذي حُرِّم عليكم في التوراة تخفيفًا عنكم، وقال في الآية الأخرى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63]، والمحرم عليهم ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الأنعام: 146]، وقال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء: 160]. فبسبب بَغيهم وظلمهم، حرَّم الله تعالى عليهم هذه الطيبات، ثم أحل الله تعالى لهم بعضها على لسان عيسى؛ كما قال عليه السلام: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾. و﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تأكيد لقوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وليبني عليه قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾. ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ أي: اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه. ﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾: قرأ يعقوب بإثبات ياء المتكلم «وأطيعوني»، وقرأ الباقون بحذفها، و﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: وأطيعوني بفعل ما آمركم به، وترك ما أنهاكم عنه. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: أمر عيسى قومه بتقوى الله تعالى وطاعته، ثم بيَّن عِلة أمره لهم بذلك، وهو أن الله عز وجل ربه وربهم، يجب عليهم جميعًا تقواه وطاعته وعبادته وحده. قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾: هذه الجملة تعليل للأمر بالتقوى والطاعة، أي: لأن الله ربي وربكم، فلكونه ربهم فهو حقيق بأن يتقوه جل وعلا، ولكونه رب عيسى وأرسله يقتضي تقواه وطاعة رسوله. ﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾ «الفاء»: للسببية، أي: فاعبدوه وحده، وفي هذا دلالة على أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية. وفيه أيضًا تنبيه وإشارة إلى أن عيسى مع ما أُعطيه من الآيات السابقة؛ فهو كغيره من الخلق مربوب لله تعالى، خاضع، منقاد له؛ ولهذا بدأ عليه السلام بنفسه بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي ﴾. والعبادة في اللغة: التذلُّل والخضوع لله تعالى، وهي في الشرع: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة؛ كالصلاة، والزكاة، وبر الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخلاص لله تعالى، والمحبة في الله تعالى والبغض في الله.. وغير ذلك. كما تُطلق العبادة على فعل التعبُّد. ﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: الإشارة إلى ما سبق في قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾، أي: تقوى الله تعالى، وطاعة عيسى عليه السلام، وعبادة الله تعالى هي الصراط المستقيم. ويُحتمل عود الإشارة إلى أقرب مذكور وهو قوله: ﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾. ﴿ هَذَا صِرَاطٌ ﴾ أي: هذا طريق واسع. ﴿ مُسْتَقِيمٌ ﴾: عدل، لا اعوجاج فيه، يؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وإلى الله - عز وجل - وجنته بأقصر مسافة، وأقل وقت. [1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (7/ 65)، والبيهقي في «سننه» (1/ 125). [2] أخرجه البخاري في «التفسير» تفسير سورة طه (4736)، ومسلم في «القدر» (2652)، وأبو داود في «السنة» (470)، والترمذي في «القدر» (2134)، وابن ماجه في «المقدمة» (80)، وأحمد (2/ 268) (392)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] أخرجه البخاري في «اللباس» (5953)، ومسلم في «اللباس والزينة» (2111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [4] أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (3464)، ومسلم في «الزهد والرقائق» (2964)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#462
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.... ﴾ قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 45 - 51]. 1- إثبات وجود الملائكة ووجوب الإيمان بهم، وتكليمهم لمريم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾. 2- بشارة الله تعالى بعيسى عليه السلام؛ لقول الملائكة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾. 3- أن عيسى عليه السلام «كلمة» من الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾، وهو «كلمة الله»، كما قال تعالى: ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ [النساء: 171]؛ لأن الله تعالى خلقه بقوله تعالى: ﴿ كُنْ ﴾ من غير أب، آية من آيات الله العظيمة، ودلائل قدرته التامة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]. 4- تسمية عيسى عليه السلام وتلقيبه بــ﴿ الْمَسِيحُ ﴾؛ لقوله تعالى: ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾. وفي هذا ثناء من الله تعالى عليه؛ لأنه لا يمسح ذا عاهة من عمى أو برص أو غير ذلك إلا برأ بإذن الله تعالى. 5- تكنية عيسى عليه السلام بــ﴿ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾، ونسبته إلى أمه؛ لأن الله خلقه من أم بلا أب؛ لقوله تعالى: ﴿ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾؛ ولهذا يُذ كر في القرآن منسوبًا إلى أمه كثيرًا، بينما لا يُنسب غيره من الأنبياء حتى ولا لآبائهم؛ لأن في ذِكر عيسى عليه السلام منسوبًا إلى أمه تذكيرًا بعظيم قدرة الله تعالى بخلقه من أم بلا أب، فاجتمع في قوله تعالى: ﴿ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ أنواع العَلَم الثلاثة: اللقب، وهو قوله: ﴿ الْمَسِيحُ ﴾، والاسم- وهو قوله: ﴿ عِيسَى ﴾، والكُنية- وهو قوله: ﴿ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾. 6- مكانة عيسى عليه السلام، ووجاهته عند الله، وشرفه في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾. 7- إثبات البعث والدار الآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْآخِرَةِ ﴾. 8- قُرب عيسى عليه السلام من الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾. 9- تكليم عيسى عليه السلام الناس وهو صبي في المهد آية من آيات الله تعالى العظيمة، ومِنة منَّها الله تعالى على عيسى وأمه مريم عليهما السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾. 10- أن تكليم عيسى عليه السلام وهو في المهد كتكليمه وهو كهل من حيث فصاحته وبيانه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَهْلًا ﴾، وفي هذا إعلامٌ بأنه يعيش حتى يصير كهلًا. 11- أن عيسى عليه السلام من جملة الصالحين، بل ممن بلغوا الغاية في الصلاح؛ فهو أحد أُولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. 12- أن الصلاح يوصف به الأنبياء والرسل كما يوصف به غيرهم؛ لأن به وبكماله يبلغ العبد غاية الإيمان، إخلاصًا لله تعالى، ومتابعة لشرعه. 13- ربوبية الله تعالى الخاصة لمريم؛ لقولها: ﴿ رَبِّ ﴾. 14- تعجب مريم عليها السلام أن يكون لها ولد ولم يمسسها بشر؛ للتثبت وزيادة الاطمئنان، وليس من باب الاستبعاد أو الإنكار أو الشك؛ لأنها مصدقة بما بشرها الله به؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾. 15- خطاب الله تعالى لمريم عليها السلام، وفيه تشريف وتكريم لها؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكِ ﴾. 16- قدرة الله تعالى التامة على خلق ما يشاء، سواء كان على وفق الأسباب المعتادة المعلومة، أو على خلاف ذلك، كما خلق تعالى عيسى عليه السلام من أم بلا أب، وجعله يكلم الناس في المهد؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾. 17- إثبات صفة الخلق لله تعالى وصفة المشيئة؛ لقوله تعالى: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾. 18- نفوذ قضاء الله تعالى وأمره الكوني وحدوثه بمجرد قوله تعالى: ﴿ كُنْ ﴾ دون تأخر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾؛ لكمال قدرته وقوته. 19- مِنة الله تعالى على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتب السابقة، والشـريعة وأسرار التشريع، والتوراة والإنجيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾. 20- إثبات إرسال عيسى لبني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، وفي هذا ردٌّ على اليهود الذين كذَّبوا رسالة عيسى عليه السلام. 21- عموم رسالة عيسى عليه السلام لجميع بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾. 22- تأييد الله - عز وجل - عيسى بالآيات الكونية؛ حيث يخلق من الطين كمثل الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرًا حيًّا يطير بإذن الله تعالى، ويُشفي الأعمى والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله، ويُخبِر بني إسرائيل بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. وكما قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 110]. 23- إثبات ربوبية الله تعالى العامة لبني إسرائيل وغيرهم من الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾. 24- استعطاف عيسى عليه السلام لقلوب بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، أي: من المنعم عليكم بنعمة الربوبية مما يوجب عليكم أن تُطيعوه، وتصدَّقوا رسله، ولا تعصوه. 25- في تأييد الله - عز وجل - لعيسى بهذه الآيات الكونية العظيمة التي ليست بمقدور أحد من الخلق إلا بإذن الله - عز وجل - دلالة عظيمة على كمال قدرة الله تعالى. 26- أن الله - عز وجل - قد يُبيح لحكمة فعل أمر كان في الأصل حرامًا لمن يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾، فصنع تمثال على هيئة الطير حرام في الأصل، لكن لما كان بأمر الله تعالى كان مُباحًا، ومثل هذا أمر الله - عز وجل - الملائكة بالسجود لآدم؛ مع أن السجود في الأصل لا يجوز لغير الله، ومثل أمره تعالى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام مع تحريم قتل النفس بغير حق. 27- جواز إطلاق وصف الخلق على المخلوق؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وفي الحديث أنه يُقال للمصورين: «أحيوا ما خلقتم»[1]. والخلق إذا أُضيف إلى المخلوق فمعناه: تحويل الشيء الموجود من حال إلى حال، كتحويل الخشب والحديد إلى باب... ونحو ذلك، أما الخلق بمعنى الإيجاد من العدم فذلك خاص بالله تعالى. 28- قدرة عيسى عليه السلام بإقدار الله تعالى، وإذنه له على أن يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه الروح فيكون طيرًا، وعلى إبراء الأعمى والأبرص وإحياء الموتى، وإخبار قومه بما يأكلون ويدَّخِرون في بيوتهم مما هو غيب لا يعلمه إلا الله أو من ارتضى من رسله. 29- إثبات الإذن الكوني والشرعي لله - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾. 30- أن عيسى عليه السلام عبد مربوب لله تعالى، لا يملك من الربوبية شيئًا كغيره من الرسل وسائر الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، وقوله: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ مرتين، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي ﴾. وفي هذا ردٌّ على النصارى الذين يزعمون فيه المشاركة لله تعالى في الربوبية والألوهية؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الزخرف: 59]، وقال تعالى عنه- عليه السلام- أنه قال لقومه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 51]. 31- في إطلاع الله - عز وجل - عيسى عليه السلام- على ما يأكله بنو إسرائيل وما يدَّخِرونه في بيوتهم ما يُوجِب عليهم الحذر أن يأكلوا ما لا يجوز أكله، أو يدَّخِروا ما لا يجوز ادخاره. 32- تأكيد أن ما جاء به عيسى آية عظيمة، وبخاصة للمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. 33- أن من شرط الإيمان التصديق بآيات الله تعالى الكونية والشرعية، وذلك أيضًا سبب للإيمان. 34- فضل الإيمان وأهله؛ لأنهم المنتفعون بالآيات دون غيرهم؛ لهذا خصَّهم بالذكر، فقال: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. 35- تصديق عيسى عليه السلام لما سبقه من التوراة؛ فهو شاهد بصدقها، وأنها حق ومصداق ما أخبرت به من بعثته، وما جاء به موافق لما جاء فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾. 36- تحليل عيسى عليه السلام بما جاء به من الشرع بعض ما كان محرمًا على بني إسرائيل تخفيفًا عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾. 37- جواز النسخ في الشرائع السماوية، ونسخ بعضها لبعض، فأُحِل في شريعة عيسى بعض ما كان محرمًا في شريعة موسى، وهذا من قبيل النسخ، كما نسخ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم جميع الشرائع السابقة 38- تأكيد عيسى عليه السلام قيام الحُجة على قومه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾. 39- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بأوليائه؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبِّي ﴾. 40- تأكيد عيسى استعطاف قلوب بني إسرائيل بربوبية الله تعالى لهم؛ لقوله: ﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ ليتقوا الله ويطيعوه. 41- وجوب تقوى الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾. 42- وجوب طاعة الرسل عليهم السلام، وأنها من تقوى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾. 43- وجوب عبادة الله تعالى وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾. 44- أن توحيد الربوبية، والإقرار به يستلزم توحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾. 45- أن عبادة الله تعالى وحده دون سواه هي الصراط المستقيم المؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وإلى الفوز بالجنة والنجاة من النار؛ لقوله تعالى: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22]. [1] أخرجه البخاري في البيوع (2105)، ومسلم في اللباس والزينة (2107)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________________
|
#463
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله الله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ... ﴾ قوله الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 53، 54]. قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾. لما ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وما له من المنزلة العظيمة، والقرب من الله تعالى، وما أعطاه الله - عز وجل - من الآيات الشرعية والكونية، وإرساله إلى بني إسرائيل، وتبليغهم آيات الله تعالى، وأمرهم بتقوى الله وطاعته وعبادته وحده، وأن هذا هو الصراط المستقيم - أتبَع ذلك ببيان إطباقهم على الكفر، ولجوء عيسى عليه السلام إلى اختيار الصفوة منهم إعذارًا منه إلى الله تعالى. قوله: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾ الفاء: استئنافية، و«لما»: ظرف بمعنى «حين» متضمن معنى الشرط؛ أي: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾ بعد أن جاءهم بالآيات وبلغهم بالرسالة، وأمرهم بتقوى الله وطاعته وعبادته - عز وجل - وحده. ومعنى ﴿ أَحَسَّ﴾؛ أي: استشعر وأدرك وسمع وعلم وتيقن. ﴿ مِنْهُمُ ﴾؛ أي: من بني إسرائيل الذين أُرسِل إليهم. ﴿ الْكُفْرَ﴾؛ أي: التصميم على الكفر والجحود والتكذيب بآيات الله، والاستمرار على الضلال؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97]. ﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: قال عيسى لعموم بني إسرائيل. ﴿ مَنْ﴾ للاستفهام؛ أي: (من أنصاري منكم)، وأنصار: جمع «نصير»، والأنصار: «الأعوان». ﴿ إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: في دعوتي إلى الله وطريقي إلى الله تعالى. والمعنى: أنه عليه السلام لما تيقَّن منهم الكفر وعدم الإيمان لجأ إلى الاختيار وانتخاب الأكْفَاء؛ تأكيدًا للبلاغ وإعذارًا إلى الله تعالى، فقال: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: من أنصاري منكم في دعوتي وطريقي إلى الله؟ كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج: «ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي»[1]، حتى قيَّض الله تعالى له الأنصار فآوَوه وآزَروه ونصَروه. وفى قول عيسى عليه السلام: ﴿ إِلَى اللَّهِ ﴾ إشارة إلى أن النصرة ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى. ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴾: «الحواريون» جمع «حواريّ» بتشديد الياء، وهو الناصر والصفيّ، أي: قال أنصار عيسى وأصفياؤه وخاصته، قيل: «كانوا اثنى عشر رجلًا»، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريًّا، وإن حواريَّ الزبير بن العوام»[2]. وقد غلب اسم الحواريين على أنصار عيسى عليه السلام. ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾: الجملة مكونة من مبتدأ وخبر، معرّفة الطرفين تفيد الحصر؛ أي: نحن لا غيرنا. ﴿ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾؛ أي: أنصار دينه؛ كما قال تعالى في سورة الصف: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]. ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾؛ أي: صدَّقنا بالله، وأقررنا به، وانقدنا لشرعه. ﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي: كُن شهيدًا لنا على أننا مسلمون، ولم يطلبوا الشهادة على إيمانهم بالله لأنه أمر باطن، وإنما استشهدوه على الإسلام؛ لأنه أمر ظاهر، وذلك من باب التوكيد وإعلان الإسلام تقوية لعيسى عليه السلام. قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾. قوله: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ ﴾؛ أي: يا ربنا صدقنا باطنًا بالذي أنزلت؛ أي: بالإنجيل الذي أنزلت على عيسى- عليه السلام- وبالتوراة التي أنزلت على موسى- عليه السلام- وبجميع الكتب التي أنزلتها على أنبيائك، وبهذا أشهدوا ربَّهم على إيمانهم الباطن بما أنزل على جميع رسله. ﴿ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾: معطوف على ﴿ آمَنَّا ﴾، و«أل» في ﴿ الرَّسُولَ ﴾ للعهد الذهني، أي: الرسول المعهود عندنا؛ أي: رسولنا عيسى- عليه السلام. ويحتمل كون «أل» للعهد الذكري؛ لقوله تعالى فيما سبق: ﴿ ورسولًا ﴾. ويحتمل كونها للجنس؛ أي: جنس الرسل؛ أي: وأقرَرنا بجميع الرسل، واتبعناهم بما جاؤوا به من الدعوة إلى الله، وبهذا أشهدوا ربهم على إيمانهم الظاهر باتباعهم الرسول وانقيادهم له، فجمعوا بين التصديق باطنًا بما أنزَل الله، وبين الاتباع ظاهرًا للرسول، وهو ثمرة الإيمان الباطني. و﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ الفاء: واقعة في جواب شرط مقدر، و﴿ مَعَ ﴾ للمصاحبة، أي: فاكتبنا مع الشاهدين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولكتبك ورسلك بالصدق والحق؛ كما قال تعالى عنهم في سورة المائدة: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]؛ أي: فاكتبنا مع الشاهدين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولكُتبك ورسلك بالحق والصدق؛ كما قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]. وقيل: المراد بـ﴿ الشَّاهِدِينَ ﴾: أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم الذين لهم الشهادة المطلقة على جميع الرسل بالبلاغ، وعلى أُممهم بمواقفهم من رسلهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]. والمعنى على هذا: فاكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرنا به عيسى - عليه السلام - كما قال تعالى عنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]. قوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. قوله: ﴿ وَمَكَرُوا ﴾: الضمير «الواو» يعود إلى الذين كفروا من بني إسرائيل؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾، و«المكر»: هو الكيد والتدبير الخفيّ لإلحاق الضرر بالغير خفية؛ أي: «ومكر بنو إسرائيل وبخاصة اليهود»، أي: كادوا ودبروا بخفية لإنكار رسالة عيسى عليه السلام، وتكذيب دعوته، والكفر بها، ولقتله، فوشَوا به إلى ملكهم، وتمالَؤوا على قتله، ولكن الله أنجاه منهم، فعاد وبال كيدهم عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46]. ولهذا قال: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾، والمكر لا يُضاف ولا يُنسب إلى الله تعالى إلا على سبيل المجازاة للماكرين، كالكيد للكائدين، والاستهزاء بالمستهزئين، والسخرية بالساخرين.. ونحو ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل: 50، 51]؛ أي: ومكر الله بهم، وكاد لهم معاقبةً لهم ومجازاة على مكرهم، فنصر عيسى عليه السلام ومن معه من الحواريين عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]. ومكر عز وجل بهم فنجَّى عيسى عليه السلام منهم حينما تمالؤوا على قتله، ودخلوا عليه يريدون قتله وهو لم يَشعر بذلك، فألقى الله - عز وجل - شبه عيسى على رجل منهم، بل قيل على زعيمهم، أو على رجل من أصحاب عيسى عليه السلام، فظنُّوه عيسى فقتَلوه وصلبوه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]. ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾؛ أي: أقواهم وأشدهم وأعظمهم مكرًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 42]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ [يونس: 21]. ومن أشد مَكره - عز وجل - بهؤلاء الذين همُّوا بقتل عيسى عليه السلام أن يُلقي سبحانه على رجل منهم أو على زعيمهم شبهَ عيسى عليه السلام، فيظنوه عيسى فيقتلوه ويصلبوه، فعاملهم عز وجل بنقيض قصدهم، وقد قيل: «مَن حفَر حُفرة لأخيه وقع فيها»[3]. [1] أخرجه أحمد (3 /322،339)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2847)، ومسلم في فضائل الصحابة (2415)، والترمذي في المناقب (3745)، وابن ماجه في المقدمة (122)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. [3] قيل: كان هذا مكتوبًا في التوراة، روي هذا عن عمرو بن العاص، وعن كعب الأحبار، رواه عنه ابن عباس؛ انظر: «حلية الأولياء» (1 /288)، و«تفسير الثعلبي» (8 /116)، و«تفسير ابن جزي» (2 /177).
__________________
|
#464
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ... ﴾ قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 53، 54]. 1- شدة عتو بني إسرائيل، فمع ما جاءهم به عيسى عليه السلام من الآيات الشرعية والكونية لم ينجع فيهم ذلك ولم يؤمنوا، بل كفر أكثرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾. 2- ينبغي للداعية إلى الله تعالى اختيار ذوي الإخلاص والصدق ليكونوا عونًا له في دعوته إلى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾. 3- التغيير في أسلوب الدعوة أمر مطلوب؛ لأن عيسى عليه السلام لما استعصى عليه إيمانُ كثير من بني إسرائيل وجَّه النداء للمخلصين منهم خاصة. 4- لا ينبغي أن يتطرق اليأس إلى نفس الداعي إلى الله تعالى، فعيسى عليه السلام لما كفر به بنو إسرائيل، وكان يطمع في إيمانهم لم ييئَس، ولم يَثنه ذلك، بل نادى بهم تأكيدًا للبلاغ وإعذارًا إلى الله تعالى قائلًا: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾، فأجابه الحواريون: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ الآية. 5- أن الخير لا يُعدم في الناس، فمع كفر أكثر بني إسرائيل آمن فريق منهم وهم الحواريون، وناصروا عيسى عليه السلام. 6- عدم الاغترار بما عليه الكثرة، فالأكثرون ضد الحق والإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 116]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 24]، وقال تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]. 7- ترغيب المدعوين في نصرة الحق؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: في طريقي إلى الله ونصرة دينه. 8- أن دعوة الرسل عليهم السلام إلى الله وإلى إخلاص العبادة له وحده، والانتصار لدينه، لا لأنفسهم؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾، أي: في طريقي إلى الله ودعوتي إليه. 9- حاجة الرسل إلى النصرة في دعوتهم إلى الله؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ كما قال نوح عليه السلام: ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]، وقال موسى عليه السلام: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴾ [طه: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 62]. 10- أن نصرة الرسل في دعوتهم نصرة لله تعالى؛ لقول الحواريين: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾. 11- فضل الحواريين لمسارعتهم لنصرة دين الله لما دعاهم عيسى لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ الآية. 12- ينبغي نصرة الحق والداعين إليه من الرسل وغيرهم؛ لأن الله امتدح الحواريين بذلك. 13- إطلاق اسم المسلمين على أتباع عيسى عليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾. وهكذا أتباع جميع الرسل يُسمون بذلك، وبعد بَعثة محمد صلى الله عليه وسلم صار الإسلام علمًا على الدين الذي جاء به، والذي لا يقبل الله من أحدٍ سواه بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم. 14- أن الخلق إنما يشهدون على الظاهر، أما الباطن فأمرُه إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾، ولم يقولوا: بأنَّا مؤمنون. 15- أنه ليس من الرياء أو السمعة أن يقول الإنسان: أنا من أنصار الله، أو أنا مؤمن، أو مسلم، أو متبع للرسول إذا كان ذلك على سبيل إعلان الحق والجهر به ونصرته ونصرة الداعي إليه وتقوية جانبه وعزيمته ورفع معنويته؛ لقول الحواريين: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾. 16- التوسل إلى الله - عز وجل - بربويَّته، وبالإيمان بما أنزل، واتباع الرسول؛ لقول الحواريين: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾. 17- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بأوليائه؛ لقوله تعالى ﴿ رَبَّنَا ﴾. 18- أن الإيمان بالله مُقدَّم على غيره من أركان الإيمان والإسلام ؛ لقول الحواريين: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾. 19- أن الواجب الإيمان بكل ما أنزل الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أَنْزَلْتَ ﴾. 20- التلازم بين الإيمان بالله تعالى وبما أنزل وبين الإسلام واتباع الرسول بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾. 21- عِظم منزلة الشاهدين الذين يشهدون بوحدانية الله تعالى وبالحق والصدق لكُتبه ورُسله؛ لقول الحواريين: ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾. 22- مكر بني إسرائيل وكيدهم لعيسى عليه السلام ولدعوته، وتَمالُؤهم على قتْله من حيث لا يشعر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا ﴾. 23- مكر الله - عز وجل - بالذين مكروا بعيسى عليه السلام وأنكروا رسالته وردُّوا دعوته وهمُّوا بقتله مُعاقبةً ومجازاةً لهم، وذلك بنصرة عيسى عليه السلام وأتباعه، وإنجائه منهم واستدراجهم، لقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾. 24- مكر الله - عز وجل - بالماكرين مجازاةً ومعاقبةً لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾، وهو من الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة. 25- أن الله - عز وجل - خير الماكرين وأقواهم وأشدهم مكرًا بالماكرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. 26- أن الله - عز وجل - لا يوصف بالمكر مطلقًا؛ لأن المكر بالإطلاق صفة نقص، وإنما يوصَف به على سبيل المجازاة والمعاقبة للماكرين، وهو بهذا المعنى صفةُ مدح، ولا يقدَح في هذا ما جاء ظاهره الإطلاق؛ كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]، فهو محمولٌ على الوصف المذكور.
__________________
|
#465
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... ﴾ قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 55 - 58]. قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾. قوله: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ﴾ «إذ»: ظرف بمعنى «حين» متعلق بقوله: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 54]، أو بمحذوف تقديره «اذكر»، أي: اذكر يا محمد منوِّهًا بفضل عيسى ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ﴾. ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾: المراد بــ«الوفاة» هنا: الوفاة الصغرى بالنوم، لا الوفاة الكبرى بالموت، أي: إني متوفيك بالنوم، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 60]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42]؛ أي: ويتوفى الأنفس التي لم تَمُت في منامها، أي: يتوفاها حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم، قال: «الحمد الله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»[1]. وهذا لا ينافي قول من قال معنى ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إليَّ ﴾؛ أي: قابضك من الأرض ورافعك إليَّ. وأما قول من قال: معنى ﴿ مُتَوَفِّيكَ ﴾؛ أي: متوفيك وفاة موت، أي: إني مُمِيتك، فهذا يضعفه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من نزول عيسى في آخر الزمان؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتُل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد»[2]. وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليهلنَّ ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرًا، أو ليثنينهما»[3]. وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بيني وبينه نبي - يعني: عيسى- وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحُمرة والبياض، بين مُمصَّرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يُصِبهُ بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتُل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون»[4]. ﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾: الرفع يكون من أسفل إلى أعلى، أي: ورافعك إليَّ في السماء؛ كما قال تعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [الملك: 16، 17]. وقال صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم لسيدها: «أعتقها، فإنها مؤمنة»[5]. والحكمة - والله أعلم - من توفيه بالنوم قبل رفعه: تيسير وتخفيف الانتقال عليه من الأرض إلى السماء. ﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾؛ أي: برفعي إياك إلى السماء، وتبرئتك بما رماك به الذين كفروا من الباطل - وهم اليهود - حيث رَمَوْه بالكذب فيما جاءهم به، وأنكروا رسالته، واتَّهموه بأنه ابن زنا، وأن أمه زانية، وغير ذلك أخزاهم الله؛ كما قال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27، 28]. وفي هذا تعريضٌ بأنه ولد زنا، وأن أمه زانية - عياذًا بالله - كما قال تعالى: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 156]، فأنطقه الله - عز وجل - وهو في المهد بقوله: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]. وفي هذا أعظمُ التطهير له عليه السلام ولأمِّه رضي الله عنهما. ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ الواو: عاطفة، و﴿ جاعل ﴾ أي: وجاعل كونًا وشرعًا ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. و«جاعل» هنا بمعنى «مُصيَّر» تنصب مفعولين: الأول قوله: ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ﴾، و«فوق»: ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لــ «جاعل» تقديره: كائنين فوق الذين كفروا. ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ﴾؛ أي: الذين اتبعوك فيما جئت به من الشرع، وهم الحواريون ومن اتَّبعه بعد ذلك حتى نُسخت شريعته بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]. ﴿ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي: فوق الذين كفروا فوقية معنوية بجعل النصرة والرفعة لهم والظهور كونًا وشرعًا على الذين كفروا بك وجحدوا رسالتك وكذبوا شريعتك. ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾؛ أي: إلى يوم البعث والمعاد والحساب والجزاء على الأعمال. وأتباع عيسى عليه السلام حقًا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيسى عليه السلام بَشَّر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأوجب تصديقه واتباعه، كما قال تعالى: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]. وعلى هذا يدل قوله تعالى: ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، وأن الدين الباقي إلى يوم القيامة هو دين الإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي نسَخ جميع الشرائع السابقة، وكما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أَولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة»، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي»[6]. قال ابن القيم[7]: «فلما كان للنصارى نصيبٌ ما من اتباعه، كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى، كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة». ولهذا فإن عيسى عليه السلام حينما ينزل في آخر الزمان يحكم بالإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقاتل الناس عليه ولا يقبل منهم إلا الإسلام. وعلى هذا فليس لمن كذب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنكر رسالته من النصارى وغيرهم، متمسك في هذه الآية؛ لأنهم ليسوا من أتباع عيسى حقًّا، وليسوا من الذين وُعِدوا بالفوقية على الذين كفروا إلى يوم القيامة، بل هم من الذين كفروا لعبادتهم المسيح، وقولهم هو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بالقرآن الكريم. ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾: الخطاب لعيسى عليه السلام والذين اتبعوه والذين كفروا به، ويجوز كونه خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته أو للجميع، أي: ثم إليَّ مصيركم ومآلكم ومآبكم يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]. ومرجع الخلائق ومصيرهم ومردُّهم كلهم إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 42]. ﴿ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾: المراد بالحكم هنا الحكم الجزائي؛ لأن حكم الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كوني وشرعي وجزائي، أي: فأحكم بينكم بالمجازاة لكل منكم، وإنصافه من الآخر. ﴿ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ «ما»: موصولة، أي: في الذي كنتم فيه تختلفون، فيحكم عز وجل بين أهل الكفر وأهل الإيمان، وبين الرسل وأقوامهم، ويُقيم الرسل البينة على أقوامهم أنهم بلَّغوا رسالات ربهم، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]. قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾. هاتان الآيتان معطوفتان على ما سبق، وفيهما بيان وتفصيل لما أجمل في قوله: ﴿ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾. قوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ «الفاء»: عاطفة للتفريع، و«أما» في الموضعين: شرطية تفصيلية. ﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ «الفاء»: تفريعية، و«العذاب» هو العقاب والنكال، وهو إيقاع المشقة والأذى بالمعَذَّب، فالمعنى: فأعاقبهم عقابًا شديدًا، أي: قويًا عظيمًا، كمًّا وكيفًا ونوعًا، وفي قوله: ﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ ﴾ بضمير المتكلم تعظيم لنفسه - عز وجل - وترهيب وتخويف من عذابه. ﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾: وهو ما يحصل لهم من القتل والجرح والأسر، وزوال الملك، وضرب الذلة والمسكنة عليهم، وأخذ الجزية، ونحو ذلك؛ قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 14]، وكذلك ما يحصل لهم من المصائب والكوارث؛ قال تعالى: ﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الدخان: 10، 11]، وقال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]. وما يحصُل لهم من العذاب المعنوي في قلوبهم من القلق، وضيق الصدور، وقلق النفوس بسبب كفرهم وعدم إيمانهم؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]. ﴿ وَالْآخِرَةِ ﴾: معطوف على ﴿ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: وأعذبهم في الآخرة. وعذاب الآخرة أشد، وهو ما يلقونه فيها من الأهوال التي أعظمها الخلود في النار، وبئس القرار. ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ «الواو»: عاطفة، و«ما»: نافية، و«مِنْ» في قوله: ﴿ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ لتنصيص وتأكيد عموم النفي، أي: وما لهم أيُّ أحد من الناصرين، و﴿ نَاصِرِينَ ﴾: جمع «ناصر» وهو الذي يدفع الضُّر؛ أي: وما لهم من ناصرين يدفعون ويمنعون عنهم عذاب الله قبل وقوعه أو يرفعونه بعد وقوعه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [التوبة: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [الشورى: 8]، والولي الذي يجلب النفع، والنصير الذي يدفع الضُّر. قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾. توعَّد عز وجل في الآية السابقة الكافرين بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، وقدَّم ذِكر وعيدهم لأن السياق فيهم، ثم أتبع ذلك بذِكر ما أعدَّه للذين آمنوا من الأجور الوافية كما هي طريقة القرآن الكريم في ذِكر أهل الكفر وأهل الإيمان، وما أعدَّ لكل منهم جمعًا بين الترغيب والترهيب. قوله: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾؛ أي: وأما الذين صدقوا بقلوبهم بكل ما يجب الإيمان والتصديق به. ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحات، فانقادوا بجوارحهم، فجمعوا بين الإيمان والعمل، وبين العلم النافع والعمل الصالح، وحذف الموصوف في قوله: ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، وهو «الأعمال»؛ لأن شرط العمل أن يكون صالحًا، أي: خالصًا لله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]. وقال صلى الله عليه وسلم: «... فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»[8]. وأن يكون موافقًا للشرع؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ»[9]. وفي لفظ: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رَدٌّ»[10]، ويجمع الشرطين مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 125]؛ أي: أخلص العمل لله، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [النساء: 125] ؛ أي: متبع شرع الله، ولا تتحقق المتابعة إلا إذا وافق العمل الشريعة في أمورٍ ستة: السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والمكان، والزمان. فالموافقة في السبب مثلًا: أن يصلى للكسوف عند وجود سببه، فمن صلى صلاة الكسوف دون حصول الكسوف لم تصح منه. والموافقة في الجنس مثلًا: أن يضحي من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم)، فمن ضحَّى بغيرها لم يُقبل منه. والموافقة في القدر مثلًا: أن يصلي صلاة الظهر أربع ركعات، فمن زاد فيها أو نقص فصلاته باطلة. والموافقة بالكيفية مثلًا: أن يقدم الركوع على السجود في الصلاة، فمن عكس لم تصح صلاته. والموافقة في المكان مثلًا: أن يقف الحاج بعرفة يوم التاسع، فمن وقف خارجها لم يصح حجه. والموافقة في الزمان مثلًا: أن يصلي الصلاة بعد دخول وقتها، فمن صلاها قبل وقتها لم تَصِحَّ منه[11]. ﴿ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ «الفاء»: رابطة لجواب الشرط. قرأ حفص عن عاصم، ورُوِيَ عن يعقوب: ﴿ فَيُوَفِّيهِمْ ﴾ بالياء، وقرأ الباقون بالنون، أي: بنون العظمة، «نوفيهم» وفيها تنبيه على عِظَم الموفَّى لهم من الأجور. والمعنى: فيعطيهم جزاء أعمالهم وافيًا من غير نُقصان؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ﴾ [هود: 109]؛ أي: فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة بدليل مقابله في ضده؛ لقوله: ﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾؛ أي: فيوفيهم أجورهم في الدنيا بالنصر والظفر والحياة الطيبة وحُسن الذِّكر، وفي الآخرة بجنات النعيم والعيش الكريم. وفي قوله في ذِكر العذاب: ﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ ﴾ بينما قال هنا: ﴿ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾: التفات من التكلم إلى الغيبة للتنبيه، وهذه فائدة لفظية كما أن فيه فائدة معنوية، وهي إظهار السلطة والعظمة والعزة في باب ذِكر العذاب، وإظهار الفضل والإحسان للعاملين في باب ذِكر الثواب. وسمَّى الله - عز وجل - جزاءً، وثواب عملهم أجرًا؛ لأنه - عز وجل - تكفَّل به وأوجبه على نفسه، كما أوجب أجرة الأجير على المستأجر، مع أن الله - عز وجل - لا يجب عليه شيء لخلقه، وإنما أوجب ذلك على نفسه تفضلًا منه وكرمًا؛ كما قال عز وجل: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]. ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾: الجملة تعليلية، فيها تعليل لما توعد به الذين كفروا من العذاب الشديد في الدنيا والآخرة، فتوعدهم عز وجل بهذا العذاب الشديد بسبب ظلمهم، وهو سبحانه لا يحب الظالمين بل يبغضهم؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]. وفيها أيضًا تعليل لحكم الله تعالى بين الخلائق، ومجازاة الذين كفروا بالعذاب، ومجازاة الذين آمنوا بتوفيتهم أجورهم، فحكَم بينهم بهذا الجزاء بالعدل؛ لأنه سبحانه لا يحب الظلم وأهله؛ أي: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك بالله وعبادة غيره، وظلموا عيسى عليه السلام وأمه باتهامه أنه ولد زنا وأن أمه زانية. قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾: إشارة إلى ما سبق من ذِكر عيسى عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]، أو إليه وإلى ما سبق من ذِكر آل عمران، أي: من قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، أو إلى كل ما أنزله الله تعالى في القرآن الكريم، فكل هذا مما تلاه الله تعالى وأوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام. وفي الإشارة إليه بقوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ تعظيم له؛ كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 108]. ﴿ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ﴾؛ أي: نقرؤه عليك متتاليًا يتلو بعضه بعضًا، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: نقرؤه عليك بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 - 195]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 17 - 19]. ﴿ مِنَ الْآيَاتِ ﴾ «مِنْ»: بيانية، أي: من الآيات الكونية الدالة على صدقك في دعوى الرسالة، كما قال تعالى: ﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [القصص: 3]. ﴿ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾: معطوف على الآيات، أي: «ذلك نتلوه عليك من الآيات الكونية، ومن الذكر الحكيم، وهو القرآن الكريم، أي: الآيات الشرعية. والقرآن الكريم ذِكرٌ بالمعاني الثلاثة للذكر وهي: أولًا: «الذكر» الذي يتقرب به إلى الله تعالى بتلاوته، وتدبر ألفاظه ومعانيه وأحكامه، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. ثانيًا: «الذكر» بمعنى التذكُّر والاتعاظ؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وقال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ [الأعلى: 9]. ثالثًا: «الذكر» بمعنى الشرف والرفعة، للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه ولكل من تمسك به؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]؛ أي: إنه لشرف عظيم لك ولقومك، وقال تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4]؛ أي: أعلينا قدرك وشأنك ومنزلتك. والقرآن الكريم ذكر يُتذكر به ويُتقرب إلى الله تعالى بتلاوته وتدبره، وتذكرة وعظة يتذكر ويتعظ بها المؤمنون، وشرف ورفعة للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه وأمته، وبه نالت الأمة العزة والرفعة والشرف والظهور حين كانت متمسكة به محكِّمة له. وما ضعفت الأمة وذلت وهان أمرها إلا بعد أن تخلَّت عن كتاب ربها، ولن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو التمسك بكتاب الله تعالى وتحكيمه. ﴿ الْحَكِيمِ ﴾: صفة لــ«الذكر»، أي: الذكر ذو الحكم والحكمة، وهو «فعيل» بمعنى (فاعل)، أي: «حاكم»، وهو «فعيل» بمعنى (مفعل)، أي: «مُحْكم». ومعنى «حاكم» أي: حاكم يحكم بين الناس؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105]. [1] أخرجه البخاري في الدعوات (6312)، وأبو داود في الأدب (5049)، والترمذي في الدعوات (3417)، وابن ماجه في الدعاء (3880)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في البيوع (2222)، ومسلم في الإيمان (155)، والترمذي في الفتن (2233)، وابن ماجه (4078). [3] أخرجه مسلم في الحج (1252). [4] أخرجه أبو داود في الملاحم (4324). [5] أخرجه مسلم في المساجد (537)، وأبو داود في الصلاة (930)، والنسائي في السهو (1218)، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. [6] أخرجه مسلم في الفضائل، باب: [عيسى بن مريم] (2365)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 500). [8] أخرجه البخاري في الإيمان (54)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، والترمذي في فضائل الجهاد (1647)، وابن ماجه في الزهد (4227)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [9] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة (14)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [10] أخرجه مسلم في الأقضية (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [11] انظر كلام الشيخ محمد بن صالح العثيمين في تفسيره على قول الله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 9]، (1/ 153-154).
__________________
|
#466
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... ﴾ قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 55 - 58]. 1- التذكير بعيسى عليه السلام، وما مَنَّ الله تعالى به عليه من تَوَفيه، ورفعه إليه، وتطهيره من الذين كفروا، ونصر أتباعه وإظهارهم على الذين كفروا، تذكيرًا بنعم الله تعالى على رسله وأوليائه، وانتقامه من أعدائه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ﴾ الآية. 2- إثبات القول لله سبحانه، وأنه - عز وجل - يتكلم بحروف وأصوات مسموعة، ويخاطب رسله ومن شاء من خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ الآية. 3- إثبات رسالة عيسى عليه السلام وتشريفه وتكريمه بخطاب الله - عز وجل - له، وتقريبه إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إليَّ ﴾ الآية. 4- إثبات رفع عيسى عليه السلام إلى السماء بجسمه حيًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَافِعُكَ إليَّ ﴾. 5- إثبات علو الله تعالى على خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَافِعُكَ إليَّ ﴾. 6- عناية الله - عز وجل - بعيسى عليه السلام عند رفعه إليه حيث توفاه، أي: أنامه قبل ذلك تخفيفًا عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾. 7- منقبة عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على قوة وثبات قلبه؛ حيث أُسرِيَ به إلى السماوات السبع وهو يقظان، بينما رُفِعَ عيسى عليه السلام وهو نائم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾. 8- إبطال دعوى اليهود أنهم قتلوا عيسى وصلبوه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾؛ كما قال تعالى ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 157 - 159]. والضمير في قوله: ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ عائد إلى عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. 9- تطهير الله - عز وجل - لعيسى وتبرئته مما رماه به الذين كفروا من الكذب والباطل واتهامه بأنه ولد زنا، وأن أمه زانية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. 10- أن من رمى عيسى عليه السلام بهذا السوء فهو كافر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. وفي هذا دلالة على كفر هؤلاء، وأن كل من رماه بما رموه به فهو كافر، كما قال تعالى: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 156]. 11- وعد الله تعالى لعيسى عليه السلام بنصرة أتباعه، وإظهارهم على الكفار إلى يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، وأتباعه حقًّا هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه السلام بَشَّر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بوجوب اتباعه وتصديقه. 12- وعد الله تعالى بالنصرة والرفعة والظهور للمؤمنين في الدنيا والآخرة. 13- إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾. 14- أن مرجع جميع الخلائق إلى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾. 15- إثبات حكم الله - عز وجل - الجزائي بين الخلائق يوم القيامة؛ بين الرسل وأممهم، وبين الأمم، ومجازاتهم على أعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ فهو - عز وجل - الحَكَم، وإليه الحكم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو الحكم وإليه الحكم»[1]. 16- وقوع الاختلاف يوم القيامة والخصومة بين المؤمنين والكافرين، وبين الرسل وأممهم لقوله تعالى: ﴿ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [الزمر: 30، 31]. 17- الوعيد للذين كفروا بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾، عذاب شديد في الدنيا حسي بالقتل والجراح، وأخذ الجزية وأنواع العقوبات والمصائب والكوارث، وعذاب معنوي بالقلق والاضطراب النفسي بسبب الكفر وعدم الإيمان، وهذا عام لجميع الكفار، فمن سلم من الأول لم يسلم من الثاني، وعذاب شديد في الآخرة حسي بالنار، وعذاب معنوي بالتوبيخ وتحطيم المعنويات، ونحو ذلك. 18- حقارة الدنيا؛ لأن الله سماها دنيا لحقارتها. 19- أن عذاب الكفار في الدنيا لا يُخفف أو يُسقِط عنهم عذاب الآخرة، بل يجمع لهم بين العذاب الشديد في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة. 20- إثبات الدار الآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ والآخرةِ ﴾. 21- أن الكفار لا ناصرَ لهم يدفَع أو يمنَع عنهم عذاب الله تعالى قبل نزوله، أو يرفعه بعد نزوله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾. 22- وعد الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بإعطائهم أجور أعمالهم وافية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾. 23- جمع القرآن الكريم بين الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فذكر عذاب الكافرين، وأتبعه بذِكر ثواب المؤمنين. 24- أن الوعيد قد يقدم على الوعد، كأن يكون الكلام والسياق مع الكفار ونحو ذلك؛ لأن الله - عز وجل - قدَّم في هذه الآيات وعيد الكافرين على وعد المؤمنين، وهذا لا ينافي أن رحمة الله - عز وجل - تسبق غضبه. 25- لابد في الإيمان من الجمع بين تصديق الباطن وعمل الجوارح في الظاهر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾. 26- أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحًا، خالصًا لوجهه، موافقًا لشرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ ولهذا حذف الموصوف - وهو الأعمال - وبقيت الصفة؛ لأن المهم في العمل وشرطه أن يكون صالحًا. 27- تكفَّل الله - عز وجل - وضمانه لثواب الصالحين، لهذا سماه «أجرًا»؛ لأنه سبحانه وتعالى أوجبه على نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ أُجُورَهُمْ ﴾. 28- التحذير من الكفر، والترغيب في الإيمان؛ لأن الله - عز وجل - توعد الكافرين بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، ووعد المؤمنين بتوفِّيهم أجورهم. 29- نفي محبة الله تعالى للظالمين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؛ فهو - عز وجل - لا يحب الظالمين بل يبغضهم، ومفهوم هذا أنه –تعالى- يحب أهل الإيمان والحق. 30- التحذير من الظلم ومن الظالمين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾؛ لأن الله تعالى لا يحب الظلم وأهله، بل يبغضهم ويعذبهم، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]. 31- أن الله - عز وجل - حكم عدل، لا يظلم أحدًا من خلقه. 32- تلاوة ما وقع من أخبار وأحوال آل عمران وعيسى عليه السلام وغير ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءتها عليه بواسطة جبريل، وهكذا جميع القرآن الكريم تكلم الله -عز وجل- وتلاه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾. 33- أن في القرآن الكريم أعظم الآيات والدلائل الشرعية والكونية الدالة على عظمة الله - عز وجل - واستحقاقه العبادة دون سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾. 34- أن القرآن الكريم «ذِكرٌ» يُتقرب إلى الله تعالى بتلاوته، وتدبر ألفاظه ومعانيه وأحكامه. و«ذِكرٌ» يُتذكَّر به، ويتعظ به المؤمنون، وهو ذِكر وشرف للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه ولكل من تمكسك به؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالذِّكْرِ ﴾. 35- أن القرآن الكريم «حَكَم» و«حاكِم» يحكم بين الناس، و«مُحْكم» متقن ليس فيه تناقض ولا اختلاف؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَكِيمِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]. 36- تعظيم آيات القرآن الكريم بالإشارة إليه بـ ﴿ ذَلِكَ ﴾، وتسميته بـ «الذِّكر» ووصفه بـ ﴿ الْحَكِيمِ ﴾. 37- إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول الآيات عليه، وتشريفه بذلك وبخطاب الله - عز وجل - له؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 252]. [1] أخرجه النسائي في آداب القضاة (5387)، من حديث شريح بن هانئ عن أبيه هانئ رضي الله عنه.
__________________
|
#467
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون... ﴾ تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آل عمران: 59، 63]. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾. بيَّن الله - عز وجل - في الآيات السابقة خلقه لعيسى عليه السلام من أم بلا أبٍ، ثم شرع في هذه الآيات في إبطال عقيدة النصارى في تأليه عيسى - عليه السلام - وزعْمهم أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. قوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ﴾ «إنَّ»: للتوكيد، و«مثل» بمعنى شبه، أي: إن شبه عيسى في خلق الله تعالى له من أم بلا أب. ﴿ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: في تقدير الله تعالى وحكمه وفي الواقع ونفس الأمر. ﴿ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾: الكاف: للتشبيه، أي: كشبه آدم. ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾: بيان وتفسير لقوله: ﴿ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾؛ أي: كمثل آدم في خلق الله تعالى له ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ بلا أمٍّ ولا أبٍ، ووجهُ الشبه بين آدم وعيسى أن كلًّا منهما في خلقه خرقٌ للعادة، فآدمُ خُلِقَ من غير أبوين، وعيسى خُلِقَ من غير أب. والضمير في ﴿ خَلَقَهُ ﴾ يعود إلى آدم. ﴿ مِنْ تُرَابٍ ﴾؛ أي: ابتدأ خلقَه من تراب، وصوَّر جسده من تراب. ﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ ﴾: أي: كُن بشرًا حيًّا سويًّا كامل الخلق روحًا وجسدًا. ﴿ فَيَكُونُ﴾؛ أي: فيكون بشرًا بمجرد قوله - عز وجل -: «كن» من غير تخلف ولا تأخُّر؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]. قوله تعالى: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾؛ قال ابن القيم[1]: «فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه، فكيف يستنكر وجودَ عيسى من غير أب من يُقر بوجود آدم من غير أب ولا أمٍّ، ووجود حواء من غير أُم، فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به». وقوله: ﴿ فَيَكُونُ﴾ دون أن يقول: «فكان» لاستحضار صورة تَكَوُّنِهِ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [فاطر: 9]». ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ «الحق»: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: ذلك أو هذا الحق من ربك. ﴿ مِنْ رَبِّكَ ﴾: في محل نصب على الحال، أي: حال كونه من ربك. و﴿ الحق ﴾: الشيء الثابت خبرًا كان أو حكمًا، فإن وصف به «الخبر» كان معناه: «الصدق» وإن وصف به «الحكم» كان معناه: «العدل»؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 33]، أي: ثبتت كلمةُ ربِّك. ﴿ مِنْ رَبِّكَ ﴾: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: هذا الذى قص عليك في أمر عيسى وخلقه، هو الحق من ربك الذي لا حق غيره، ولا صحيح سواه. ﴿ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ الفاء: رابطة لجواب شرط مقدر، و«لا»: ناهية، و«تكن»: مجزوم بها وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الواو؛ لأن أصله «تكون». و﴿ الممترين ﴾: جمع «ممتري» والامتراء: الشك والريب، أي: فلا تكن من الشاكين المرتابين فيما جاءك من الحق من ربك، وهو نهي له صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته من باب أَولى وأَحرى، كما أن فيه تعريضًا بأهل الامتراء والشك من النصارى وغيرهم. قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾. ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة شأن عيسى عليه السلام وأَمْر خَلْقه، وأن مثله في خلقه عند الله كمثل آدم، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يباهل من حاجه في أمر عيسى عليه السلام وخَلْقه، بعد بيان الحق له من النصارى وغيرهم. قوله: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ﴾ «الفاء»: عاطفة، و«من»: شرطية، و﴿ حَاجَّكَ ﴾: فعل الشرط، أي: فمن جادلك وخاصمك، وسمَّى ذلك محاجة؛ لأن كل واحد من المتجادلين يدلي بحجته ليغلب الآخر ويخصمه، ومنه الحديث: «حاج موسى آدم»[2]. ﴿ فيه ﴾ الضمير يعود على عيسى عليه السلام، أي: فمن حاجك في شأن عيسى وخلقه، وفيما جاءك فيه من الحق من ربك بالحجج الباطلة، وأنكر أن يكون الله خلقه من أم بلا أبٍ، وادَّعى أنه ابن الله تعالى كما قالت النصارى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30]، قالوا: لأنه خلق من غير أب وتكلم في المهد، وقالوا: أنه الله؛ لأنه يحيي الموتى ويُبرئ المرضى، ويخلق من الطين كهيئة الطير ويخبر بالمغيبات. كما قالوا: إنه ثالث ثلاثة؛ لأن الله تعالى يقول: خلقنا وقضينا وقدَّرنا وأنجينا، قالوا: لو كان واحدًا لقال: خلقت وقدرت وأنجيت... إلخ. ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾: «مِنْ» في قوله: ﴿ مِنْ بَعْدِ ﴾ تدل على المهلة بين مجيء العلم والأمر بالمباهلة؛ لإقامة الحُجة أولًا بالعلم والبيان والإعذار منهم. و«ما»: موصولة، أي: من بعد الذي جاءك من العلم من الله تعالى بالوحي ببيان شأن عيسى - عليه السلام - وبيان ذلك لهم فكابروا وعانَدوا. ﴿ فقُلْ ﴾: جواب شرط «مَنْ»، والفاء: رابطة لجواب الشرط لأنه جملة طلبية. ﴿ تَعَالَوْا﴾ أي: هلُموا وأقبِلوا وائتوا، وجاء بضمير الجمع باعتبار معنى «مَنْ» في قوله: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ ﴾؛ لأن معناها الجمع. ﴿ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ﴾؛ أي: نُحْضِر نحن أبناءنا وتُحْضِرون أنتم أبناءكم، ونحضر نساءنا وتحضرون أنتم نساءكم، أي: يحضر كل منا الأبناء والزوجات لشهود الملاعنة. ﴿ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ﴾؛ أي: ونَحضر نحن وأنتم. وهؤلاء هم أعز ما يكون عند الإنسان في الدنيا، نفسه، وأبناؤه، وزوجاته. ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾ «ثم»: للتراخي الرتبي، و«الابتهال» افتعال من البهل، وهو: الدعاء باللعن، أي: ثم نلتعن، ويُطلق الابتهال على الاجتهاد في الدعاء، ولهذا سُمِّيَ اللعن ابتهالًا لأنه اجتهاد في الدعاء. ﴿ فَنَجْعَلْ ﴾ «الفاء»: عاطفة، أي: فَنُصَيِّر ﴿ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾، ﴿ لَعْنَتَ ﴾: مفعول به أول لـ«نجعل»، ولفظ الجلالة ﴿ الله ﴾ مضاف إليه. ﴿ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ جار وجرور متعلق بمحذوف مفعول به ثان لـ«لنجعل» أي: فتجعل لعنة واقعة على الكاذبين، أي: فندعوا بإيقاع لعنة الله على الكاذبين. و﴿ لَعْنَتَ اللَّهِ ﴾؛ أي: طرده وإبعاده عن رحمته وجنته. ﴿ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾؛ أي: على الكاذبين منا أو منكم. وفي دعوتهم إلى المباهلة إلجاء لهم أن يعترفوا بالحق أو يكفُّوا، ودعوة إنصاف لا يدعو لها إلا من كان واثقًا أنه على الحق. قال ابن كثير[3]: «وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران - أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردًّا عليهم». وقد أشفق هؤلاء الوفد من النصارى من الملاعنة، فلم يقدموا عليها وخافوا الهلكة والاستئصال إن هم لاعَنوا، فعدَلوا إلى المصالحة ودفع الجزية، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرسل معهم رجلًا أمينًا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا فيها في أموالهم، فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله إن كان نبيًّا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال: «لأبعثَنَّ معكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ»، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح»، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمة»[4]. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال أبو جهل: إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تمنوا الموت، لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين باهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون مالًا ولا أهلًا»[5]. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. قوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾: الإشارة لما ذُكِرَ في شأن عيسى عليه السلام، فهو تأكيد لما قصه الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام، ولهذا أُكدت هذه الجملة بثلاثة مؤكدات: «إنَّ» واللام، وضمير الفصل «هو» في قوله: ﴿ لَهُوَ ﴾. كما أن في ضمير الفصل «هو» حصرًا للحق في هذا القصص دون سواه. و﴿ القصص ﴾: مصدر قصَّ يقص قصًّا وقصصًا، ويُحتمل أن يكون هذا مصدرًا بمعنى «الفعل»، وأن يكون مصدرًا بمعنى «اسم المفعول»؛ أي: إن هذا لهو المقصوص الحق، والقصص تتبُّع الوقائع والإخبار عنها شيئًا بعد شيء على ترتيبها، ومنه: «قص الأثر»، وهو اتِّباعه. و﴿ الحق ﴾: صفة للقصص، أي: القصص الثابت الصحيح الصدق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار والقصص، وعدلًا في الأحكام؛ أي: إن هذا الذي ذكره الله في شأن عيسى عليه السلام هو القصص الحق، لا ما تقصه كتب النصارى وعقائدهم. ﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ ﴾: لما أكد عز وجل أن ما قصه بشأن عيسى حق نفى أن يكون إله غير الله ردًّا على النصارى في تأليههم لعيسى- عليه السلام. قوله: ﴿ وَمَا مِنْ ﴾ الواو: عاطفة، و﴿ وَمَا ﴾: نافية، و﴿ من ﴾ زائدة من حيث الإعراب ومؤكدة للنفي من حيث المعنى، للتنصيص والاستغراق في النفي. ﴿ إله ﴾؛ أي: معبود بحق. ﴿ إِلَّا اللَّهُ﴾ «إلا»: أداة حصر، أي: وما من معبود بحق إلا الله تعالى وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه، فهو - عز وجل - وحده المألوه المعبود بحق محبةً وتعظيمًا. ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: الجملة كسابقتها مؤكَّدة بـ«إنَّ» واللام وضمير الفصل «هو». و﴿ الْعَزِيزُ﴾: اسم من أسماء الله تعالى يدل على أنه - عز وجل - ذو العزة التامة بأقسامها الثلاثة: عزة القوة، وعزة القهر والغلبة، وعزة الامتناع. ﴿ الْحَكِيمُ﴾: اسم من أسماء الله - عز وجل - يدل على أنه الحاكم ذو الحكم التام بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، ويدل على أنه سبحانه «المحكم» المتقن لكل ما قدَّر وشرع ذو الحكمة البالغة بقسميها: الحكمة الغائية، والحكمة الصورية. قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾. قوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: التولي: الإعراض بالقلوب والأبدان، أي: فإن تولوا وأعرضوا ونكصوا عن المباهلة وعن اتباع الحق. ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾؛ أي: فإن الله ذو علم واسع بالمفسدين، أي: فإنما هم مفسدون؛ لأنهم إنما قصدوا المعاندة والمكابرة، ولم يتطلبوا الحق، والله عليم بالمفسدين، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل: «عليم بهم»؛ لوصفهم بالمفسدين وتسجيل ذلك عليهم، وليعم هذا الوصف بالإفساد كل مَن تولَّى عن اتباع الحق، ولإظهار عموم علمه - عز وجل - بجميع المفسدين من هؤلاء وغيرهم، وفى ذلك تحذيرٌ ووعيدٌ وتهديدٌ لمن تولَّى عن الحق. [1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 500). [2] أخرجه البخاري في التفسير (4738)، ومسلم في القدر- حجاج آدم وموسى عليهما السلام (2652)، وأبو داود في السنة (4701)، والترمذي في القدر (2134)، وابن ماجه في المقدمة (80)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] في «تفسيره» (2/ 40). [4] أخرجه البخاري في المغازي (4380)، وأخرجه مختصرًا مسلم في فضائل الصحابة (2420)، والترمذي في المناقب (3796)، وابن ماجه في المقدمة (135). [5] أخرجه أحمد (1/ 248).
__________________
|
#468
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... ﴾ قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[آل عمران: 64 - 68]. قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾. قوله: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، و«أهل الكتاب» اليهود والنصارى، وسموا أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى أنزل عليهم الكتاب، فأنزل على اليهود «التوراة»، وأنزل على النصارى «الإنجيل»، وبقيت كتبهم إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وفي تسميتهم أهل الكتاب إشارة إلى أن كونهم أهل كتاب يوجب عليهم قبول الحق وإرشاد الناس إليه لا رده، كما أن في ذلك تعريضًا بقيام الحجة عليهم، وذمهم لما هم عليه من الكفر والشرك وتكذيب رسل الله. ﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ ﴿ تَعَالَوْا ﴾؛ أي: هلمُّوا وأقبلوا وائتوا. ﴿ إِلَى كَلِمَةٍ ﴾ هذه الكلمة هي ما بيَّنه الله تعالى بقوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]. فالمراد بقوله هنا: ﴿ إِلَى كَلِمَةٍ ﴾؛ أي: إلى كلام مفيد، لا إلى كلمة مفردة، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 100]،يعني بها قوله قبل هذا: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، كما يقال: «كلمة التوحيد»، و«كلمة الشهادة» ويراد بذلك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل»[1] ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ هذه الجملة وما عطف عليها بدل من ﴿ كَلِمَةٍ ﴾ بدل كل من كل، فهي بيان وتفسير لـ﴿ كَلِمَةٍ ﴾؛ أي: تعالوا إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وعدم اتخاذ أرباب من دونه. و﴿ إِلَّا ﴾ في قوله: ﴿ إِلَّا اللَّهَ ﴾: أداة حصر، أي: ألا نعبد نحن وأنتم إلا الله وحده. والعبادة في اللغة: التذلل والخضوع لله تعالى، وهي في الشرع: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة. ﴿ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾ هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، وهي قوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ ففي الجملة الأولى إفراد العبادة لله تعالى وحده، ومفهومها نفيها عما عداه، وهو ما صرح به في قوله: ﴿ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾. و﴿ شَيْئًا ﴾: نكرة في سياق النفي، فتعم أيَّ شيء، أي: لا نشرك به شيئًا من الشرك، لا شركًا أصغر ولا شركًا أكبر، ولا شركًا خفيًّا ولا شركًا جليًّا. والشرك الأكبر الجلي: عبادة غير الله، وطلب الحاجات من الأولياء وأصحاب القبور ونحو ذلك. والشرك الأصغر والخفي كالرياء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه فقال: الرياء»[2]. وهو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وأيضًا: ولا نشرك به شيئًا من الأشياء أيًّا كان، لا وثنًا، ولا صنمًا، ولا صليبًا، ولا نارًا، ولا مَلَكًا، ولا وليًّا، ولا شيئًا غير ذلك. والمعنى: تعلوا؛ لنفرد العبادة لله تعالى وحده لا شريك له. ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: نافية، ﴿ يَتَّخِذَ ﴾: منصوب عطفًا على ﴿ نَعْبُدَ ﴾، ﴿ بَعْضُنَا ﴾: «بعض» فاعل و«نا» مضاف إليه. ﴿ بَعْضًا ﴾: مفعول أول لـ﴿ يَتَّخِذَ ﴾، و﴿ أَرْبَابًا ﴾: مفعول ثانٍ له؛ أي: ولا يجعل بعضنا البعض الآخر ﴿ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، وفي التعبير بالبعض إشارة إلى أنهم من جنس واحد، فكيف يكون بعضهم أربابًا لبعض؟! و﴿ أَرْبَابًا ﴾ جمع «رب» أي: أسيادًا نطيعهم بالتحليل والتحريم من دون الله، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]. ولهذا لما قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحلون ما أحل الله فتحلِّونه؟» قال: نعم، قال: «فتلك عبادتهم»[3]. ففي قوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾ نفي عبادة غير الله والإشراك به في العبادة. وفي قوله: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ نفي الإشراك معه في الطاعة والتحليل والتحرير. وعلى هذا اتفقت جميع الرسالات؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه الآية أحيانًا في الركعة الثانية الفجر: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾[4]. ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ أي: فإن تولى أهل الكتاب وأعرضوا عن هذه الكلمة السواء والدعوة النَصَف. ﴿ فَقُولُوا ﴾ أيها المسلمون لهم: ﴿ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾، أي: أشهدوهم على استمراركم على الإسلام واعتزازكم به، من غير اكتراث بمن تولى عنه. كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6]. وقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب بهذه الآية إلى ملوك أهل الكتاب، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما - في حديثه عن أبي سفيان - رضي الله عنه - أن في كتابه صلى الله عليه وسلم لهرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تَسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾»[5]. قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾. قوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾. عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده؛ فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله - عز وجل - فيهم: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾، قالت النصارى: كان نصرانيًّا، وقالت اليهود: كان يهوديًّا. فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية»[6]. قوله: ﴿ لِمَ ﴾: اللام حرف جر، و«ما»: اسم استفهام حذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، كما في قوله تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [النبأ: 1]. والاستفهام في قوله: ﴿ لِمَ تُحَاجُّونَ ﴾ للإنكار والتوبيخ؛ أي: لم تجادلون وتنازعون ﴿ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي: في دين إبراهيم، فاليهود يقولون: إن إبراهيم كان يهوديًّا، والنصارى يقولون: إن إبراهيم كان نصرانيًّا. ويدعي كل منهما أنه على دين إبراهيم، تشبثًا من كل منهما بذلك، وترويجًا ودعوة لدينه، وانتقاصًا من كل منهما لما عليه الآخر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113]. وأيضًا ليخلص كل منهما - أي: اليهود والنصارى - إلى نفي أن يكون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين إبراهيم عليه السلام. ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ﴾ الواو: حالية، و«ما»: نافيه، «إلا»: أداة حصر، والضمير في قوله: ﴿ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ يعود إلى إبراهيم، أي: والحال أنه ما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم، فكيف تحاجون أيها اليهود وتقولون: إن إبراهيم كان يهوديًّا، وكيف تحاجون أيها النصارى، وتقولون: إنه كان نصرانيًّا- علمًا أن التوراة والإنجيل ما أنزلتا إلا من بعده؟! وقد قيل: إن بين إبراهيم وموسى نحو ستمائة إلى ألف سنة، كما أن بين موسى وعيسى على ما قيل نحو ألفي سنة، وقيل غير ذلك. وكيف تحاجون وتقولون: إنكم على دين إبراهيم علمًا أن اليهود منكم شريعتهم التوراة، والنصارى شريعتهم الإنجيل، وإبراهيم سابق لنزولهما، فدينه غيرهما، كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]. وكيف تحاجون وتنكرون أن دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين إبراهيم عليه السلام؟! ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة للاستفهام، ومعناه الإنكار والتوبيخ، والفاء: عاطفة، والجملة معطوفة على مقدر، أي: أغفلتم فلا تعقلون. أي: أفلا يكون لكم عقول تعقلون بها ما تحاجون به، وفي هذا تسفيه لهم، ووصف لهم بالحمق والجهل؛ لأن المنفي هنا عقل الرشد الذي هو مناط المدح والذي يحمل صاحبه على حسن التصرف والتدبير في الأعمال والأقوال والأموال، وجميع الأحوال، وليس المراد به عقل الإدراك الذي هو مناط التكليف، فهذا موجود عندهم، ولولاه ما كلفوا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق»[7]. قوله تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾. قوله: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ ﴾ «ها» في الموضعين للتنبيه، و«أنتم» ضمير فصل في محل رفع مبتدأ، و«أولاء» اسم إشارة للقريب، في محل نصب على النداء، والتقدير: ها أنتم يا هؤلاء، أي: هب أنكم يا هؤلاء. ﴿ حَاجَجْتُمْ ﴾ الجملة: في محل رفع خبر المبتدأ، أي: جادلتم وخاصمتم ونازعتم، ﴿ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ «ما»: موصولة، أي: في الذي لكم به علم، وهو الذي أنتم عليه من الدين والذي في كتبكم وعليه أنبياؤكم. ﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ ﴾ الفاء: عاطفة، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: فلم تجادلون وتحاجون ﴿ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ «ما»: موصولة- كسابقتها- أي: في الذي ليس لكم به علم، وهو أمر إبراهيم وما كان عليه من الدين مما لم يذكر في كتبكم. والمعنى: كان الأجدر بكم أن تحاجوا في الذي تعلمون، وهو ما أنتم عليه من الدين وما في كتبكم وما عليه أنبياؤكم، دون الذي لا تعلمون من دين إبراهيم عليه السلام. ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ الواو: استئنافية، أي: والله ذو علم مستمر دائم، يعلم كل شيء على الدوام، مما كان عليه إبراهيم من الدين وغير ذلك، وقد أخبر عز وجل أن إبراهيم كان على ملة الإسلام، وهي الحنيفية السمحة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في الآية بعد هذه الآية: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123]. ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الواو: عاطفة، أي: وأنتم جهلة لا تعلمون شيئًا؛ ولهذا تحاجون بلا علم. فوصفهم أولًا بالسفه والحمق وعدم العقل، ووصفهم ثانيًا بالجهل وعدم العلم وواحد من هذين الوصفين كافٍ في الذم فكيف إذا اجتمعا، فلا حكمة ولا علم، فهذا غاية الذم. قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. أنكر عز وجل في الآيتين السابقتين على اليهود والنصارى محاجتهم في إبراهيم- وذلك بزعم كل منهما أن إبراهيم كان على دينهم- علمًا أن التوراة والإنجيل لم تنزل إلا من بعده، مبينًا سفههم وعدم رشدهم، ومجادلتهم بما لا علم لهم به، ثم بيَّن في هذه الآية براءة إبراهيم من اليهود والنصارى، وأنه كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين. قوله: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ﴾«ما»: نافية، أي: ما كان إبراهيم يهوديًّا على دين اليهود، كما يزعمون. ﴿ وَلَا نَصْرَانِيًّا ﴾ أي: ولا كان نصرانيًّا على دين النصارى - كما يزعمون - وكرَّر النفي بـ«لا» للتأكيد. ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا ﴾ «لكن»: استدراك؛ لبيان ما كان عليه- عليه السلام. ﴿ حَنِيفًا ﴾ «الحنف» في اللغة: الميل، فمعنى ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي: مائلًا عن الشرك ثابتًا على التوحيد. ﴿ مُسْلِمًا ﴾: مستسلمًا منقادًا لأمر الله ظاهرًا وباطنًا. ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: نافية، أي: وما كان من المشركين الذين يعبدون الأصنام. وفي هذا تأكيد لقوله: ﴿ حَنِيفًا ﴾ ونفي لقول المشركين: إنهم على ملة إبراهيم، وتعريض بأن أهل الكتاب مشركون؛ لقولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]، وقوله تعالى في سورة النحل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، وقوله تعالى عن إبراهيم أنه قال: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. هذا ردٌّ على محاجة أهل الكتاب في إبراهيم وزعمهم أنهم على دين إبراهيم وإنكارهم أن يكون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم. فبيَّن عز وجل أن أولى الناس به عليه السلام هم الذين اتبعوه ومحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه. قوله: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾ ﴿ أَوْلَى ﴾: اسم تفضيل، أي: أشد الناس ولاية بإبراهيم أي: أحق الناس بإبراهيم وأخصهم به وأقربهم منه، سواء كان هؤلاء الناس من أهل الكتاب أو من المشركين أو من المسلمين؛ حيث إن كلًّا من هؤلاء الأصناف يقول: إنه على دين إبراهيم؛ أي: إن أحق الناس بإبراهيم الذين هم على دينه وملته. ﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾: خبر «إنَّ»، واللام تفيد التوكيد، فالجملة مؤكدة بـ«إنَّ» واللام أي: للذين اتبعوه على ما كان عليه من الدين في حياته. ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾: معطوف على قوله: ﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ من عطف الخاص على العام، والإشارة لخاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ معطوف على ما قبله، أي: والذين آمنوا من أصحابه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، ومن بعدهم من المؤمنين. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أولى الناس بإبراهيم؛ لأنهم على ملته الحنيفية ملة الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123]. ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي: والله ولي المؤمنين كلهم: إبراهيم والذين اتبعوه ومحمد والذين آمنوا، أي: والله ولي المؤمنين كلهم ولاية خاصة، يحفظهم وينصرهم ويرزقهم ويوفقهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم في الدنيا وإلى جنات النعيم في الآخرة. قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64]. [1] أخرجه البخاري في المناقب (3841)، ومسلم في الشعر (2256)، وابن ماجه في الأدب (3757)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] أخرجه أحمد (5/ 429)، من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. [3] أخرجه الترمذي (395)، والطبري في «جامع البيان» (11/ 417-418)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/ 1784)، والبيهقي في «سننه» (10/ 116)، وانظر: «تيسير العزيز الحميد» ص(551). [4] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (727)، والنسائي في الافتتاح (944)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [5] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد والسير (1773). [6] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 481)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 384)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (1/ 553). [7] أخرجه أبوداود في الحدود (4398)، والنسائي في الطلاق (3432)، وابن ماجه في الطلاق (2041)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________________
|
#469
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... ﴾ قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 64 - 68]. 1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ الآية؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى الملوك بهذه الآية. 2- شدة عناد أهل الكتاب، ومعالجة القرآن لهم بشتى الأساليب والوسائل، ولم ينجع ذلك فيهم. 3- وسطية القرآن في دعوته أهل الكتاب فلم يكلفهم شططًا، بل دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك والأرباب من دون الله؛ لقوله تعالى:﴿ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾. 4- تنزل القرآن في دعوته أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ بضمير الجمع، وكذا قوله: ﴿ وَلَا نُشْرِكَ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ولم يقل: «ألا تعبدوا إلا الله» «ولا تشركوا» «ولا تتخذوا أربابًا من دون الله». ووجه ذلك أن ضمير الجمع مشعر بكون الفريقين كل منهما يعبد غير الله ويشرك به ويتخذ أربابًا من دون الله، والحقيقة أن الذي يفعل ذلك هم المدعوون أهل الكتاب. 5- قيام القرآن والإسلام على التوحيد والوسطية والعدل. 6- يجب العدل في المناظرة حتى مع العدو، ويحسن التنازل للخصم لإلزامه الحق، وإقامة الحجة عليه. 7- اتفاق الرسل والرسالات على الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾. 8- أنه كما يجب إفراد الله تعالى بالتوحيد والعبادة يجب إفراده بالطاعة والحكم والتحليل والتحريم، وعدم اتخاذ أرباب من دونه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾. 9- التعريض بذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين؛ لما هم عليه من الشرك وعبادة غير الله واتخاذ الأرباب من دونه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، وقوله تعالى عن إبراهيم: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. 10- التلازم بين إفراد الله تعالى بالعبادة دون شريك وبين تحكيم شرعه وطاعته وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، فمن لازم توحيد الله تعالى في العبادة طاعته واتباع شرعه، ومن لازم طاعته واتباع شرعه توحيده في العبادة. 11- وجوب إظهار الحق والتمسك به وإشهاره، وعدم الاكتراث بمن تولى عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾. 12- وجوب اعتزاز المسلم بدينه إعلاءً للحق وإظهارًا له، وإغاظة لأعداء الدين وخصومه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾. 13- يجب ألا يتأثر ولا يكترث من كان على الحق بمن يتولون عنه مهما كثروا، وعليه أن يتمسك بالحق، فالحق أحق أن يتبع. 14- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾. 15- الإنكار على أهل الكتاب وتوبيخهم في محاجتهم في إبراهيم وما هو عليه من الدين، وزعم كل من اليهود والنصارى أنه على دينهم أو أنهم على دينه؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ﴾. 16- فضل إبراهيم عليه السلام، وعلو شأنه ومنزلته بين الأمم، فكل من المسلمين واليهود والنصارى بل والمشركون يقول: إنه على دينهم أو إنهم على دينه. 17- إثبات علو الله على خلقه، وإنزاله التوراة والإنجيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ﴾. 18- إبطال زعم كل من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينهم أو أنهم كانوا على دينه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. 19- أن إبراهيم عليه السلام كان قبل نزول التوراة والإنجيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ الآية. 20- سفه أهل الكتاب وعدم رشدهم، لمحاجتهم بما لا يقبله العقل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، وكما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وكما قال تعالى في وصف أهل جهنم: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]. 21- لا ينبغي إهمال العقل في الاستدلال؛ لأن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح. 22- التنزُّل مع الخصم لإقامة الحجة عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ أي: لو فرض أن محاجتكم كانت فيما لكم به علم وقبلت منكم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، مما لا يمكن قبوله، وهذا على سبيل الفرض، وإلا فإن من يحاج لإبطال الحق ورده لا يمكن أن تكون محاجته عن علم، بل العلم حقًّا مع خصمه صاحب الحق. 23- جواز المحاجة بعلم إذا كانت لإظهار الحق، وبالتي هي أحسن، فإن كانت لإظهار الباطل لم تجز. 24- الإنكار على أهل الكتاب وذمهم لمحاجتهم فيما ليس لهم به علم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾. 25- عدم جواز المحاجة بغير علم وأنها مذمومة حتى لو كانت لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن كانت لإبطال الحق وإظهار الباطل فهي أشد حرمة وذمًا، كما في دعوى أهل الكتاب أنهم هم الذين على دين إبراهيم، وإنكارهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم. 26- إثبات العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أي: إنه - عز وجل - ذو علم واسع، مستمر دائم، ولا يخفى عليه شيء. 27- نفي العلم عن أهل الكتاب المحاجين في إبراهيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾. 28- جمع أهل الكتاب بين الاعتراض على النقل وتكذيبه، وإغفال العقل وإهماله، والجهل وعدم العلم. 29- يجب رد العلم إلى الله تعالى وطلبه منه، فهو ذو العلم سبحانه، يؤتي العلم والحكمة من يشاء. 30- الإشارة إلى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الإسلام هو دين إبراهيم عليه السلام، وهو ما صرح به بعد ذلك. 31- تبرئة إبراهيم عليه السلام من اليهود والنصارى، وما هم عليه من الدين، وتكذيبهم في دعواهم، هم والمشركون أنه منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. 32- إثبات أن دين إبراهيم عليه السلام هو الحنيفية السمحة ملة الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. 33- ثناء الله - عز وجل - على إبراهيم عليه السلام؛ لجمعه بين توحيد الله تعالى، والاستسلام والانقياد له ظاهرًا وباطنًا، والبراءة من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. 34- أنه لابد في التوحيد من إثبات العبادة لله وحده ونفيها عما سواه، والاستسلام لله ظاهرًا وباطنًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. 35- أن أحق الناس بالولاية لإبراهيم والانتساب لملته هم الذين اتبعوه من بني إسرائيل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من أمته؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾، ومفهوم هذا التعريض بعدم إيمان أهل الكتاب. 36- إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾. 37- تشريف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقربه من ربه؛ لأن الله تعالى أشار إليه بإشارة القريب بقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ﴾. 38- فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته حيث كانوا أولى بإبراهيم عليه السلام من بين سائر الأمم. 39- إبطال قول كل من اليهود والنصارى أنهم أولى بإبراهيم، بعد تبرئته منهم ومن دينهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية. 40- إثبات ولاية الله تعالى الخاصة للمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾. 41- الترغيب في الإيمان والازدياد منه؛ لأنه سبب لولاية الله تعالى، وكلما كان إيمان العبد أقوى كانت ولاية الله له أعظم.
__________________
|
#470
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [آل عمران: 69 - 74]. قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾. ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة محاجَّة أهل الكتاب في إبراهيم، وزعْمهم أنه على دينهم، وأنهم على دينه، وأنه أَولى به من محمد صلى الله عليه وسلم وأُمته، وردَّ عليهم وأبطَل زعمهم، وبيَّن أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، ثم بيَّن في هذه الآية السبب الذي يحملهم على هذه المحاجة بالباطل، وهو ما توده طائفةٌ منهم من إضلال المؤمنين، فبيَّن في الآيات السابقة ضلالهم، ثم بيَّن كونهم دعاة إلى الضلالة. قوله: ﴿ وَدَّتْ ﴾، أي: أحبت وتمنت. ﴿ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ «من» للتبعيض، أي: جماعة من بعض أهل الكتاب، وهم رؤساء يهود وأحبارهم. ﴿ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾ «لو»: مصدرية بمعنى «أن» أي: أن يضلوكم، والتقدير: ودت إضلالكم. ومعنى ﴿ يُضِلُّونَكُمْ﴾ الإضلال الإتاهة والإبعاد عن الحق، والضلال: التيه والبُعد عن الحق، أي: ودوا إضلالكم: عن الهدى، وإبعادكم عن الحق، وإرجاعكم إلى دينهم، حسدًا منهم، كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]. وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]. ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ الواو: حالية، و«ما»: نافية، أي: والحال أنهم ما يضلون إلا أنفسهم، و«إلا»: أداة حصر، أي: وما يضلون بمودتهم إضلالكم إلا أنفسهم، ولن يضركم ذلك أيها المؤمنون، فمودتهم إضلالكم إنما هي إضلال لأنفسهم وإهلاك لها في الحال والمآل. أما في الحال فإن مودتهم إضلالكم هي ضلال أوقعوا فيه أنفسهم وأشغلوها به عن طلب هدايتها، وأما في المآل فإن وبال ذلك وعقوبته عليهم لا على غيرهم. ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ الجملة في محل نصب معطوفة على الحال السابقة، والشعور هو إدراك الشيء بإحدى الحواس الخمس، ونفي الشعور معناه عدمه، وإذا انتفى الشعور والإدراك بالحواس انتفى العلم من باب أَولى. فالمعنى: وما يعلمون أنهم بهذا العمل إنما يضلون أنفسهم. قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾. ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة محاجة أهل الكتاب في إبراهيم معرِّضًا بما هم عليه من الشرك وعبادة غير الله، واتخاذ الأنداد، والسفه وعدم العلم ومودتهم إضلال المؤمنين، وهم في الحقيقة لا يضلون إلا أنفسهم، ثم أنكر عليهم ووبَّخهم في هاتين الآيتين على كفرهم بآيات الله مع شهادتهم، ولبسهم الحق بالباطل مع علمهم. قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ التفات إلى خطاب أهل الكتاب، والاستفهام للإنكار، وإعادة ندائهم بقوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ ثانية لتوبيخهم وتسجيل باطلهم عليهم؛ أي: لم تكفرون وتكذبون بآيات الله الشرعية في القرآن الكريم، وفي كتبكم الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنكم تشهدون، أي: تعلمون صحتها وصدقها بشهادة كتبكم بذلك، وعبَّر عن العلم بالشهادة ولم يقل: «وأنتم تعلمون»؛ لأن الشهادة أقوى؛ لأنها تقتضي أن يكون العالم كالمشاهد للشيء بحسه، والمشاهدة بالحس أقوى من العلم، وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان»[1]. قال ابن القيم[2]: «يعني: تكفرون بالقرآن، وبمن جاء به، وأنتم تشهدون بصحته وبأنه الحق، فكفركم كفر عناد وجحود عن علم وشهود، لا عن جهل وجفاء». قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾. قوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾: الاستفهام كسابقه للإنكار والتوبيخ، و«اللبس» بمعنى: الخلط والستر، أي: لم تخلطون وتسترون الحق بالباطل. و«الحق»: الأمر الثابت، وهو ما جاءت به الرسل، ودلَّت عليه الآيات الشرعية والكونية. و«الباطل»: الشيء الزائل المضمحل الزاهق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]. قال لبيد[3]: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ ![]() وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ ![]() ![]() ![]() فأنكَر عز وجل عليهم أولًا كفرهم بآيات الله، ثم أنكر عليهم مخادعتهم في هذا الكفر بخلطهم الحق وستره بالباطل. ومن ذلك: تحريف ما جاء من الحق في كتبهم، وتكذيب ما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهار الإسلام وإبطان الكفر، فيضمون للباطل شيئًا من الحق ويتكلمون بعبارات تحتمل الحق والباطل تمويهًا على الناس ومخادعة لهم؛ لأنهم لو تكلموا بالباطل صراحًا لافتُضِحوا وما قُبِل منهم. وما مثلهم في لبسهم الحق بالباطل إلا كما ذُكر أن رجلًا مَرَّ بشخصين كفيفين مستندين في ظل جدار يقول أحدهما للآخر: يا فلان، الصدق ما يصلح دائمًا، والكذب ما يصلح دائمًا. فقال له الآخر: لماذا؟ فقال: لأنك إن صدقت دائمًا نفد ما عندك، وإن كذبت دائمًا لم تُصدَّق. ﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾: معطوف على ﴿ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ ﴾؛ أي: وتخفون الحق، وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه وما جاء في كتبكم من نعته صلى الله عليه وسلم والبشارة به، كما قال تعالى: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، فجمعوا بين خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق، وبهذا أظهروا الباطل. ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي: والحال أنكم تعلمون، أي: تعلمون الحق وتعرفونه؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]. قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾. ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين، محاولتهم الإضلال وكفرهم مجاهرة، ثم ذكر في هذه الآية محاولتهم الإضلال وكفرهم مخادعة. قوله: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: جماعة منهم ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ أي: صدقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي: صدِّقوا بذلك ظاهرًا واعملوا به، نفاقًا منهم؛ لأنهم لا يؤمنون بذلك حقيقة. ﴿ وَجْهَ النَّهَارِ ﴾ أي: أول النهار، لمقابلته بقوله: ﴿ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ﴾ أي: واكفروا آخر النهار؛ أي: واكفروا بالذي أنزل عليهم آخر النهار. ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الضمير يعود إلى الذين آمنوا، أي: رجاء أن يرجعوا عن دينهم، أو لأجل أن يرجعوا عن دينهم، وهذه مكيدة منهم؛ ليقال عنهم حينما يؤمنون به أول النهار ويكفرون آخره أنهم كفروا عن بصيرة وتجربة، فلولا أنه مخالف للكتب السابقة ما كفروا به بعد الإيمان. قال ابن كثير[4]: «هذه مكيدة أرادوها؛ ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم؛ ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾». وأنَّى لهم أن يرجع المؤمنون عن دينهم بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان، فحال المؤمن حقًّا كما قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يقذف في النار»[5]. وكما في حديث هرقل حين سأل أبا سفيان: «هل يرجع أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد»[6]. قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. قوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هذا من قول الطائفة من أهل الكتاب، فهو معطوف على قوله: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ أي: ولا تصدقوا إلا للذي تبع دينكم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 61]؛ أي: ويصدق للمؤمنين. وقوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هذا من باب الاحتراس بعد قولهم مخادعة: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾؛ أي: ولا تؤمنوا إيمانًا حقًّا، ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم نبيًّا كان أو غيره. أو: ولا تظهروا الإيمان بالذي أنزل عليهم وجه النهار والكفر آخره إلا لمن تبع دينكم، أي: لأجل الحفاظ على أتباعكم وبقائهم على دينهم. أو: ولا تطمئنوا وتظهروا سرَّكم وما أردتم من المكر والخديعة بالإيمان أول النهار والكفر آخره من إرجاع المسلمين عن دينهم إلا لمن تبِع دينكم، أو: ولا تظهروا ما بأيديكم من العلم للمسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم. ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾ هذه الجملة معترضة بين قولهم: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ وقولهم: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ الغرض منها المبادرة بما يفيد ضلالهم؛ لأن الله حرَمهم التوفيق؛ أي: قل لهم: إن التوفيق إلى الهدى بيد الله، والهدى هداه - عز وجل - كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]. والغرض منها تيئيس أهل الكتاب، أي: مهما عملتم من المكر لصد المؤمنين وإرجاعهم عن دين الله وإضلالهم فلن تستطيعوا، فالله سبحانه وتعالى هو الموفق والهادي، وهداه هو الهدى حقًّا، وهو الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه وما تدعون إليه. ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ هذه الجملة من كلام الطائفة من أهل الكتاب، فهي متعلقة بقوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ قرأ ابن كثير «أأن» بزيادة همزة الاستفهام. وهذه الجملة ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ يحتمل أن يكون تعليلًا لقولهم قبله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ بقصد تثبيت أنفسهم على دينهم. فيكون التقدير: لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، كما في قوله تعالى: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ﴾ [النساء: 176]؛ أي: لئلا تضلوا. ويحتمل أن يكون هذا إنكارًا منهم أن يؤتى أحد النبوة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل، فيكون الكلام استفهامًا إنكاريًّا حذفت منه همزة الاستفهام لدلالة السياق، ويؤيده قراءة ابن كثير: «أأن يؤتى». فالمعنى: لا تؤمنوا ولا تصدقوا أن يُؤتى أحدٌ مثل ما أُوتيتم من النبوة والفضائل، أي: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم من ذلك. ﴿ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ «أو»: للتقسيم، وهي عاطفة، فالجملة معطوفة على قوله: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾، وهي على التقديرين السابقين تحتمل التعليل؛ أي: ولئلا يحاجوكم عند ربكم، أو الاستفهام الإنكاري والنفي، أي: كيف يحاجوكم عند ربكم، أي: لا حجة لهم عليكم عند ربكم، أي: ولا تؤمنوا ولا تصدِّقوا أن يحاجوكم عند ربكم؛ لأنكم أكرم على الله منهم بما فضلكم عليهم. والذي حملهم على هذا كله هو الحسد أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةُ أن يُتَّبَعوا على دينهم. قال السعدي[7]: «يعني أن الذي حملهم على هذه الأفعال المنكرة الحسد والبغي وخشية الاحتجاج عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]. ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ هذا مع قوله بعده: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ كقوله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾، ففي هذا بيان أن الهدى هو هدى الله، وبيده سبحانه، وفي قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ خْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ الآية، بيان أن الفضل بيده يخص به من يشاء، وفي هذا وذاك رد على أهل الكتاب، وتيئيس لهم أن يمنعوا هدى الله وفضله عن المؤمنين. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: قل لهم يا محمد ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: الخير كله بيد الله - عز وجل - كما قال صلى الله عليه وسلم: «والخير كله في يديك»[8]، فبيده - عز وجل - الفضل والخير كله، وبيده ومنه التفضل والزيادة والإحسان بالنعم الدينية والدنيوية والأخروية. ﴿ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: يعطيه من يشاء من عباده، وفي هذا إبطال وتكذيب لأهل الكتاب في قولهم لبعضهم: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾. ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾؛ أي: والله ذو سعة في جميع صفاته، فهو - عز وجل - واسع الملك واسع الكرسي، واسع العلم، واسع الحكمة، واسع المغفرة، واسع الرحمة، واسع الحلم، واسع العفو، واسع القدرة، واسع الفضل والغنى والإحسان والجود والعطاء، واسع الإحاطة، واسع جميع الصفات. ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي: ذو علم واسع بكل شيء. يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون. علمه - عز وجل - محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة، قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم، كما قال موسى - عليه السلام - لما سئل عن القرون الأولى قال: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]. قوله تعالى: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾. قوله: ﴿ يَخْتَصُّ﴾ أي: يخص. ﴿ بِرَحْمَتِهِ ﴾؛ أي: برحمته الفعلية الخاصة بأوليائه، ومن ذلك ما خص الله تعالى هذه الأمة من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن ودين الإسلام، وما يخص به أولياءه من توفيقهم وهدايتهم في الدنيا إلى الإيمان، وفي الآخرة إلى الجنان. ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾ «من»: اسم موصول في محل نصب مفعول به، أي: يخص الذي يشاء، أي: الذي يريد كونًا ممن هو أهل لرحمته الخاصة- بعلمه - عز وجل - وحكمته، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: 124]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]. ويجوز كون «من» الموصولة في محل رفع فاعل، ويكون المعنى: والله ينفرد برحمته من يشاؤه، والمعنيان متلازمان، فمن اختصه الله برحمته انفرد بها. ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ ﴾ أي: صاحب الفضل، أي: التفضل والزيادة والإحسان، بلا استحقاق من المتفضَّل عليه ﴿ الْعَظِيمِ﴾ الواسع الكثير، الذي لا أعظم ولا أوسع ولا أكثر من فضله، ولا يقدر عظمة فضله إلا هو سبحانه. [1] أخرجه أحمد (1/ 215)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 500). [3] انظر: «ديوانه» ص(256). [4] في «تفسيره» (2/ 48-49). [5] أخرجه البخاري في الإيمان (16)، ومسلم في الإيمان (43)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4987)، والترمذي في الإيمان (2624)، وابن ماجه في الفتن (4033)، من حديث أنس رضي الله عنه. [6] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2941)، ومسلم في الجهاد والسير- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل (1773)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [7] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 392). [8] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (771)، وأبو داود في الصلاة (760)، والنسائي في الافتتاح (897)، والترمذي في الدعوات (3422)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |