صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1109 - عددالزوار : 128351 )           »          زلزال في اليمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          المسيح ابن مريم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 4765 )           »          ما نزل من القُرْآن في غزوة تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          أوليَّات عثمان بن عفان رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          القلب الطيب: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          رائدة صدر الدعوة الأولى السيدة خديجة بنت خويلد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          طريق العودة من تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          مسيرة الجيش إلى تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-11-2021, 11:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (25)

الخوارج ومقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد الاتفاق الذي تم بيْن أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وأثناء عودة علي -رضي الله عنه- مِن صفين إلى الكوفة انفصل الخوارج في جماعةٍ كبيرة مِن جيش علي -رضي الله عنه-، فأرسل إليهم ابن عباس -رضي الله عنهما- لمناظرتهم، فرجع منهم ألفان بعد مناظرة ابن عباس لهم.

وقد ذكرنا تفاصيل المناظرة في المقال السابق، ثم خرج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بنفسه إليهم، فكلمهم فرجعوا ودخلوا الكوفة؛ إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً؛ بسبب أن الخوارج فهموا مِن علي -رضي الله عنه- أنه رجع عن التحكيم وتاب مِن خطيئته, ثم تدهورت الأمور وتأزمت، فكانت معركة النهروان (38هـ - 658م) بيْن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وبيْن الخوارج.

وسبب المعركة: أن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنه- اشترط على الخوارج ألا يسفكوا دمًا, ولا يروعوا آمنًا, ولا يقطعوا سبيلاً, ونظرًا لأن الخوارج يكفِّرون مَن خالفهم ويستبيحون دمه وماله, فقد بدؤوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام, وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات, وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يدرك أن هؤلاء القوم هم الخوارج الذين عناهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمروق مِن الدين, لذلك أخذ يحث أصحابه أثناء مسيرهم إليهم ويحرضهم على قتالهم, فقد كان -رضي الله عنه- يحث جيشه على البدء بهؤلاء الخوارج, فقال: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (رواه مسلم). وقال -رضي الله عنه- في يوم النهروان: "أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمَارِقُونَ" (أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنة، وصححه الألباني).

وأرسل علي -رضي الله عنه- رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا, وأرسل إليهم البراء بن عازب -رضي الله عنه- يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى), ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله! (المصنف لابن أبي شيبة).

وعندما بلغ الخوارج هذا الحد، وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء, ورفضوا عنادًا واستكبارًا العودة إلى الحق، وأصروا على القتال؛ قام أمير المؤمنين بترتيب الجيش وتهيئته للقتال، وزحف الخوارج إلى علي -رضي الله عنه-, فقال علي لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم, وأقبلت الخوارج يقولون: "لا حكم إلا لله, الرواح الرواح إلى الجنة!"، وبدأ القتال فاستقبلهم الرماة بالنبل, فرموا وجوههم, وعطفت عليهم الخيالة مِن الميمنة والميسرة, ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف, فأناموا الخوارج فصاروا صرعى وقُتِل أمراؤهم، وقد كانت معركة حاسمة وقصيرة أخذت وقتًا مِن اليوم التاسع مِن شهر صفر مِن عام ثمان وثلاثين للهجرة, وأسفرت هذه المعركة الخاطفة عن عددٍ كبيرٍ مِن القتلى في صفوف الخوارج, وكان الحال على عكس ذلك تمامًا في جيش أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه, فقتلى أصحاب علي -رضي الله عنه- فيما رواه مسلم في صحيحه, عن زيد بن وهب رجلان فقط، قال: "وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ" (رواه مسلم). وفي رواية: "وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ اثْنَا عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ" (المصنف لابن أبي شيبة).

ثم وافق أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- في سنة أربعين للهجرة بعد الاتفاق الذي تم بيْن الطرفين بشكل مؤقت أن يكون لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الشام، على أن يكون العراق له، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، وذلك بعد ما جرت بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما (انظر تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- قد تنغصت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله -عز وجل-، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: "ما يحبس أشقاها!"، أي ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ (البداية والنهاية لابن كثير)، وكان علي -رضي الله عنه- في هذا التوقيت يتوجه إلى الله بالدعاء ويطلب منه -عز وجل- أن يعجل منيته، وقال يومًا: "اللهم إني قد سئمتهم وسئموني، ومللتهم وملوني، فأرحني منهم وأرحهم مني، فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم، ووضع يده على لحيته!" (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسندٍ صحيح، وابن سعد في الطبقات).

وتفيد بعض الروايات أن عليًّا -رضي الله عنه- كان على علمٍ مسبق مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيموت مقتولاً، وهو مِن الشهداء بنص أحاديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وقد جمع البيهقي -رحمه الله- هذه الروايات في كتابه (دلائل النبوة)، وجمعها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في كتابه (البداية والنهاية).

فعن علي -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أُؤَمَّرَ، ثُمَّ تُخْضَبَ هَذِهِ -يَعْنِي لِحْيَتَهُ- مِنْ دَمِ هَذِهِ -يَعْنِي هَامَتَهُ-" (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

لقد تركت معركة النهروان في نفوس الخوارج جرحًا غائرًا، فاتفق نفر منهم على أن يفتكوا بعلي -رضي الله عنه-، ويثأروا لمَن قُتِل مِن إخوانهم في النهروان؛ فاجتمع عبد الرحمن بن ملجم الكندي، وكان في وجهه علامة السجود مِن كثرة العبادة -وكان معروفًا بها-، والبُرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التيمي، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئًا، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسهم فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب -وكان مِن أهل مصر-، وقال البرك بن عبد الله: وأنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن أبي بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم، فسموها وتواعدوا لسبع عشرة تخلو مِن رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي صاحبه فيه يطلب، ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت (الكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير)، وقال: هذه الليلة التي واعدتُ أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص.

فجاء ثلاثة نفر، وهم: ابن ملجم، ووردان، وشبيب، وهم مشتملون على سيوفهم، فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي -رضي الله عنه-، وانتظر عبد الرحمن بن ملجم في فجر هذا اليوم حتى خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مِن بيته لصلاة الفجر، وأخذ يمرّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب مِن المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله، ليس لك يا علي ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207)، ونادى علي -رضي الله عنه-: عليكم به، وهرب وردان فأدركه رجل مِن حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، ومُسك ابن ملجم.

وقدَّم عليُّ جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر، وحٌمل علي -رضي الله عنه- إلى منزله، وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بيْن يديه وهو مكتوف -قبحه الله- فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى: قال. فما حملك على هذا: قال؟ شحذته أربعين صباحًا، وسألتُ الله أن يُقتل به شر خلقه، فقال له علي -رضي الله عنه-: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا مِن شر خلق الله، ثم قال: إن مت فاقتلوه، وإن عشتُ فأنا أعلم كيف أصنع به، فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن؟ فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر.

ولما احتضر علي -رضي الله عنه- جعل يكثر مِن قول: "لا إله إلا الله"، لا يتلفظ بغيرها، وقد قيل: إن آخر ما تكلم به (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) (الطبقات لابن سعد، وتاريخ الرسل والملوك للطبري)، وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة والزكاة، وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل، والتفقه في الدين والتثبيت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش، ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرًا دونهما، وكتب ذلك كله في كتاب وصيته -رضي الله عنه وأرضاه-، وقد غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن (الطبقات لابن سعد).

ولما جاء خبر مقتل علي -رضي الله عنه- إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: "أتبكيه وقد قاتلته؟! فقال: ويحك! إنكِ لا تدرين ما فقد الناس مِن الفضل والفقه والعلم!"(1) (البداية والنهاية لابن كثير 8 /133).

وكانت مدة خلافة علي -رضي الله عنه- على قول خليفة بن خياط، أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، ويقال ثلاثة أيام، ويقال أربعة عشر يومًا، فكانت وفاته شهيدًا في شهر رمضان يوم الجمعة لسبع عشرة خلت منه (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وقيل: في اليوم الحادي والعشرين مِن شهر رمضان عام أربعين للهجرة (أخرج البخاري في التاريخ الكبير بسندٍ صحيح).

وأما معاوية -رضي الله عنه-: فقد انتظره البرك بن عبد الله الذي تعهد بقتله في نفس التوقيت، وضربه بالسيف المسموم فتجنّبه معاوية -رضي الله عنه- فأصاب فخذه، فحمله الناس إلى بيته، وقبضوا على البرك بن عبد الله، وداوى الناس معاوية -رضي الله عنه- فشفاه الله، ولم يمت مِن هذه الضربة.

وأما عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: فذهب إليه عمرو بن بكر المتعهد بقتله، وانتظر خروجه لصلاة الصبح، ولكن سبحان مَن بيده ملكوت كل شيء؛ كان مريضًا في هذا اليوم فعهد بالصلاة إلى نائبه خارجة، فلما خرج إلى الصلاة ظنّه الرجل عمرو بن العاص، فذهب إليه وقتله، فأمسكوا به وقتلوه به، ونجّى الله عمرو بن العاص منه، وقال الناس: "أراد عمرًا، وأراد الله خارجة!" فصارت مثلاً لمَن أراد شيئًا وأراد الله شيئًا آخر.

وبعد مقتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أصبح المسلمون بلا خليفة، وبدأ المسلمون يفكرون في اختيار خليفة لهم (الأخبار الطوال للدينوري، وانظر البداية والنهاية لابن كثير).

وهكذا هم الخوارج الذين سعوا في الأرض فسادًا؛ لقد كانت فتنة الخوارج وبدعتهم أول بدعة اعتقادية ظهرت في أواخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانت تتعلق بقضايا الإيمان، فبدعة الخوارج هي أول البدع ظهورًا، وأكثرها تأثيرًا، وأشدها ضررًا على وحدة الأمة؛ بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فتساهلوا في مسألة التكفير، واستحلال دماء المسلمين، مع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال لعلي -رضي الله عنه-: (أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ، مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي) (متفق عليه)، ومع ذلك كفـَّره الخوارج، وقتلوه واستحلوا دمه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ويظنون أنهم يتقربون بذلك إلى الله -عز وجل-!

والله المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ

(1) وهذا يدل على إنصاف الصحابة -رضي الله عنهم- وأنهم مع اختلافهم، لكنهم لا ينكِرون فضل أحدٍ، فرغم ما حدث بينهم إلا أنهم يعرفون فضل بعضهم على بعض ولا ينكرونه، ولا يحملهم ما جرى ووقع بينهم على ألا يعدلوا، فعَن عبد الرَّحْمَنِ بْن مَعْقِلٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، قَالَ: فَقَنَتَ، فَقَالَ فِي قُنُوتِهِ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمُعَاوِيَةَ وَأَشْيَاعِهِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَشْيَاعِهِ، وَأَبِي السُّلَمِيِّ وَأَشْيَاعِهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ وَأَشْيَاعِهِ" (مصنف ابن أبي شيبة).


قال شيخ الإسلام معلقًا على هذا الأثر: "وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ كَانَتْ تَقْنُتُ عَلَى الْأُخْرَى. وَالْقِتَالُ بِالْيَدِ أَعْظَمُ مِنَ التَّلَاعُنِ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَنْبًا أَوِ اجْتِهَادًا: مُخْطِئًا أَوْ مُصِيبًا، فَإِنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ" (منهاج السُّنة 4/ 469)، وقد سمع عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- رجلاً بجواره يقول: "كفر أهل الشام!" فنهاه عمار -رضي الله عنه- عن ذلك وقال: "إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة".






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27-12-2021, 11:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (26)

بيعة الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وتنازله عن الخلافة






كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلما ظهر مِن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه علامات الوداع ومفارقة الدنيا، قال له بعض مَن كانوا حوله: "استخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته، قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم" (رواه البيهقي والبزار). وفي رواية: "أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم" (رواه الهيثمي).
فلما مات، جاء الناس وبايعوا ولده الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وكان أول مَن بايع الحسنَ قيس بن سعد، قال له: "ابسط يدك أبايعك على كتاب الله -عز وجل-، وسنة نبيه، وقتال المُحلِّين -المحل: الذي نقض العهد-، فقال له الحسن -رضي الله عنه-: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي مِن وراء كل شرط: فبايعه وسكت، وبايعه الناس" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
"وقد اشترط الحسن بن علي -رضي الله عنهما- على أهل العراق عندما أرادوا بيعته، فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون مَن سالمت، وتحاربون مَن حاربت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وفي رواية ابن سعد: "إن الحسن بن علي أبي طالب -رضي الله عنه- بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به" (رواه ابن سعد في الطبقات).
ويُستفاد مِن الروايات السابقة ابتداء الحسن -رضي الله عنهما- في التمهيد للصلح فور استخلافه، وقد استمر أمير المؤمنين الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بعد بيعته خليفة على الحجاز، واليمن، والعراق، وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وكانت خلافته هذه مدة خلافة راشدة حقة؛ لأن هذه المدة كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مدتها ثلاثون سنة، فقد روي الترمذي بإسناده إلى سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ثالثًا: الصلح بيْن الحسن بن علي ومعاوية -رضي الله عنهم-:
بويع الحسن -رضي الله عنه-، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعوا لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، وباشر سلطته كخليفة؛ فرتب العمال، وأمّر الأمراء، وجنَّد الجنود، وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية -رضي الله عنه-، وكانت شخصيته الفذة مِن الناحية السياسية، والعسكرية، والأخلاقية، والدينية تساعد على ذلك، مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدي الطائي، وغيرهما مِن قادة المسلمين الذين لهم مِن القدرات القيادية الشيء الكثير؛ إلا أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- مال إلى السلم والصلح؛ لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، ورغبة فيما عند الله وزهدًا في الملك، وغير ذلك مِن الأسباب، وقد قاد الحسن بن علي -رضي الله عنهما- مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وظل زمام الموقف في جانبه وبيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما جاء في رواية البخاري، وقد عبَّر عن ذلك عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما قال: "إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا" (رواه البخاري)، وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "كانت جماجم العرب بيدي تحارب مَن حاربت، وتسالم مَن سالمت" (أخرجه الحاكم في المستدرك)، ولكن الحسن كان ذا خُلُقٍ يجنح إلى السلم، وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة(1).
وهذا الفعل مِن الحسن يُعد عَلَمًا مِن أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري مِن طريق أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (رواه البخاري).
إن صلح الحسن مع معاوية -رضي الله عنهما- مِن الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية، فمن ثمار هذا الصلح: حقن دماء المسلمين، وجمع كلمتهم على إمامٍ واحدٍ بعد سنواتٍ مِن الفرقة، ويٌعد الحسن -رضي الله عنه- أول خليفة يتنازل عن منصبه ويخلع نفسه طواعية، دون إجبار مِن أحدٍ، وذلك مع قدرته على أن يستمر في الحكم، ولكن الحسن -رضي الله عنه- كان ينظر إلى المصلحة العامة للأمة ويريد جمع شتاتها وتوحيد كلمتها، وبعد أن كشف الحسن عن نيته في الصلح مع معاوية -رضي الله عنه- وقعت المحاولة الأولى لاغتياله -رضي الله عنه-، وهذه المحاولة يبدو أنها قد جرت بعد استخلافه بقليل، فإن الحسن بن علي لما استخلف بعد مقتل علي -رضي الله عنه-، فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر، فوقعت في وركه فمرض منها أشهرًا ثم برئ، فقعد على المنبر فقال: "يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنا أمراؤكم وضيفانكم، أهل البيت الذين قال الله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب:33)، قال: فما زال يقول ذلك حتى ما رُئي أحد مِن أهل المسجد إلا وهو يخن -الخنين: البكاء في الأنف- بكاءً" (رواه ابن سعد في الطبقات).
خروج الحسن -رضي الله عنه- بجيش العراق مِن الكوفة إلى المدائن:
بعد أن بايع أهل العراق الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قالوا له: "سر إلى هؤلاء القوم الذين عصوا الله ورسوله، ارتكبوا العظيم وابتزوا -الابتزاز: هو أخذ الشيء بجفاء وقهر، وهو أيضًا الحصول على المال أو المنافع مِن شخص تحت التَّهديد بفضح بعض أسراره أو غير ذلك- الناس أمورهم، فإنا نرجو أن يمكِّن الله منهم، فسار الحسن إلى أهل الشام، وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة في اثنى عشر ألفًا" (رواه ابن سعد في الطبقات).
وبهذا يتضح أن أهل العراق هم الذين دفعوا الحسن -رضي الله عنه- إلى الخروج لقتال أهل الشام مِن غير رغبةٍ منه، وهذا الأمر قد أشار إليه ابن كثير -رحمه الله- بقوله: "ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدًا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعًا عظيمًا لم يُسمع بمثله، فأمّر الحسن بن علي، قيس بن سعد بن عبادة، على المقدمة في اثنى عشر ألفًا بيْن يديه، وسار هو بالجيوش في إثره قاصدًا بلاد الشام، فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بيْن يديه، وقد أظهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعهَ أفقه ودهائه وبصيرته، عندما لم يشأ أن يواجِه أهل العراق مِن البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليمه الأمر؛ لأنه يعرف خفتهم وتهورهم، فأراد أن يقيم مِن مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه" (البداية والنهاية لابن كثير).
خروج معاوية -رضي الله عنه- مِن الشام إلى العراق:
بعد أن وصل خبر خروج الحسن -رضي الله عنه- مِن الكوفة إلى المدائن بجيوشه، أقبل معاوية -رضي الله عنه- في أهل الشام يريد الحسن -رضي الله عنه- حتى نزل جسر منيح -قرية في الجزيرة الفراتية-، ثم أقبل مِن جسر منيح إلى مسكِن -موضع على نهر دجيل عند دير الجاثليق به كانت الوقعة بيْن عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة 72هـ- في خمسة أيام وقد دخل يوم السادس، وقد تأخر خروج معاوية -رضي الله عنه- وكان ذلك بعد سماعه لخروج الحسن بجيوشه، وكان معاوية قد أصيب إصابة بليغة مِن جراء محاولة الاغتيال التي تعرض لها مِن قِبَل الخارجي البرك بن عبد الله التميمي، حين خرج لصلاة الفجر، وهي المحاولةَ التي نفذت في نفس فجر اليوم الذي اغتيل فيه علي -رضي الله عنه-، وهو فجر يوم الجمعة السابع عشر مِن شهر رمضان سنة 40هـ على الصحيح المشهور مِن الأقوال. (البداية والنهاية لابن كثير).
وقد أشار الخلاَّل إلى شدة إصابة معاوية -رضي الله عنه- في الرواية التي أخرجها مِن طريق جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَكْبٍ فَنَزَلَ سَعْدٌ وَنَزَلْتُ، وَاغْتَنَمْتُ نُزُولَهُ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي إِلَى جَانِبِهِ، فَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ طٌعن طَعْنَا بَيْنَنَا لَا أُرَاهَا إِلَّا قَاتِلَتُهُ، وَإِنَّ النَّاسَ -يقصد الخوارج- قَاتِلُونَ بَقِيَّةَ أَصْحَابِ الشُّورَى وَبَقِيَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ وُلِّيتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ، أَوْ تَشُقُّ عَصَاهُمْ، وَأَنْ تُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ، أَوْ تَدَعَهُمْ إِلَى أَمْرِ هَلَكَةٍ. فَحَمِدَ سَعْدٌ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللَّهِ لَا أَشُقُّ عَصَاهُمْ، وَلَا أُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ، وَلَا أَدْعُهُمْ إِلَى أَمْرِ هَلَكَةٍ حَتَّى يَأْتُونِي بِسَيْفٍ. يَقُولُ: يَا سَعْدُ، هَذَا مُؤْمِنٌ فَدَعْهُ، وَهَذَا كَافِرٌ فَاقْتُلْهُ"(السُّنة لأبي بكر الخلال).
وبينما الحسن -رضي الله عنه- في المدائن، إذ نادى منادٍ مِن أهل العراق: إن قيسًا قد قُتل فسرت الفوضى في الجيش، وعادت إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن -رضي الله عنه-، ونهبوا متاعه حتى إنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه، وهنا حدثت حادثهَ لها دلالة كبيرة، فقد كان والي المدائن مِن قِبَل علي -رضي الله عنه-، سعد بن مسعود الثقفي، فأتاه ابن أخيه المختار بن أبي عبيد بن مسعود، وكان شابًا، فقال له: "هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن، وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أَثِبُ على ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأُوثِقُهُ! بئس الرجل أنتَ!" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
فلما رأى الحسن -رضي الله عنه- صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يُرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته منذ البداية، فدفعه ذلك إلى قطع خطوات أوسع والاقتراب أكثر مِن الصلح.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فقد كان بمقدور الحسن أن يقاتِل معاوية بمَن كان معه، وإن كان أقل ممن كان مع معاوية، صنيع الذين قاتلوا خصومهم على قلةٍ مَن كان معهم مِن الأعوان والأنصار، ولكن الحسن كان ذا خُلُقٍ يجنح إلى السلم وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة، جعل الله به رأب الصدع، وجمع الكلمة" (منهاج السُّنة 4/ 536).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-01-2022, 02:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (27)

بيعة الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وتنازله عن الخلافة









كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أن الحسن -رضي الله عنه- لما رأى صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يُرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته منذ البداية، فدفعه ذلك إلى قطع خطواتٍ أوسع، والاقتراب أكثر مِن الصلح.


وقوع الصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-:

لقد سجَّلتْ لنا صفحات التاريخ تلك اللحظات الحرجة مِن تاريخ الأمة المسلمة حين التقى الجمعان؛ جمع أهل الشام، وجمع أهل العراق، وذلك في الرواية التي أخرجها البخاري مِن طريق الحسن البصري، قال: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ، وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولاَ لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالاَ لَهُ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالاَ: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)(1).

فالذي حدث مِن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- هو عَلَم مِن أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فإنه ترك المُلك لا لقلة، ولا لذلة، ولا لعلة، بل لرغبته فيما عند الله؛ لما رآه مِن حقن دماء المسلمين، فراعى مصلحة الأمة.

وفى هذه الرواية: رد على الخوارج الذين كانوا يكفـِّرون عليًّا ومَن معه، ومعاوية ومَن معه، بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالطائفتين بأنهم مِن المسلمين.

وفيها: دلالة على رأفة معاوية -رضي الله عنه- بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب.

وفيها: جواز خلع الخليفة نفسه، إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين" (فتح الباري).

وفي رواية: "أن معاوية -رضي الله عنه- كان يعلم أن الحسن -رضي الله عنه- أكره الناس للفتنة، فلما تُوفي علي -رضي الله عنه- بعث معاوية إلى الحسن، فأصلح الذي بينه وبينه سرًّا، وأعطاه معاوية عهدًا إن حدث به حدث والحسن حي لَيُسَمَيّنًّه -أي يرشحه للخلافة مِن بعده-، وليجعلن هذا الأمر إليه، فلما توثق منه الحسن، قال ابن جعفر -أي عبد الله بن جعفر-: والله إني لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبي، وقال: اقعد يا هناه -أي يا رجل-، واجلس، فجلستُ، قال: إني قد رأيتُ رأيًا وأحب أن تتابعني عليه. قال: قلتُ: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بيْن معاوية، وبيْن هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج -يعني الثغور-، فقال ابن جعفر: جزاك الله عن أمة محمد، فأنا معك على هذا الحديث.

فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين، فأتاه فقال: يا أخي قد رأيت رأيًا وإني أحب أن تتابعني عليه. قال: ما هو؟ قال: فقص عليه الذي قال لابن جعفر قال الحسين: أعيذك بالله أن تكذب عليًّا في قبره وتصدق معاوية. قال الحسن: والله ما أردتُ أمرًا قط إلا خالفتني إلى غيره، والله لقد هممتُ أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضى أمري. قال: فلما رأى الحسين غضبه، قال: أنت أكبر ولد علي، وأنت خليفته، أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك" (الطبقات لابن سعد).

ويُلاحظ مِن الروايتين: أن الرغبة في الصلح كانت موجودة لدى الطرفين، فقد سعى الحسن -رضي الله عنه- إلى الصلح، وخطط له منذ اللحظات الأولى لمبايعته، ثم جاء معاوية فأكمل ما بدأه الحسن، فكان عمل كل واحد منهما مكملاً للآخر -رضي الله عنهما-.

وبعد نجاح مفاوضات الصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، شرع الحسن -رضي الله عنه- في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيبًا ليبيِّن لهم ما تم بينه وبيْن معاوية، وفيما هو يخطب هجم عليه بعض عسكره محاولين قتله! لكن الله -سبحانه وتعالى- أنجاه كما أنجاه مِن قبْل.

وقد أورد البلاذري خطبة الحسن -رضي الله عنه- التي ألقاها في أتباعه، ومحاولة قتله -رضي الله عنه-، فقال: "إني أرجو أن أكون أنصح خلقه لخلقه، وما أنا محتمل على أحدٍ ضغينة، ولا حقدًا، ولا مريدًا به غائلة، ولا سوءًا، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا مِن نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليَّ، غفر الله لي ولكم. فنظر بعض الناس إلى بعض، وقالوا: عزم والله على صلح معاوية، وضعف وخار، وشدوا على فسطاطه، فدخلوه، وانتزعوا مصلاه مِن تحته، وانتهبوا ثيابه، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي جعال الأزدي، فنزع مطرفه -أي رداءه- مِن عاتقه، ثم تعرض للحسن الجراح بن سنان(2)، وكان يرى رأى الخوارج، فقعد للحسن ينتظره فلما مرَّ الحسن ودنا مِن دابته فأخذ بلجامها، أخرج الجراح معولاً -حديدة ينقر بها الصخر- كان معه وقال: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك مِن قبْل، وطعنه بالمعول في أصل فخذه، فشق في فخذه شقـًّا كاد يصل إلى العظم، وهذه محاولة أخرى لاغتيال الحسن -رضي الله عنه-، وضرب الحسن وجهه، ثم اعتنقا وخرا إلى الأرض، ووثب عبد الله بن الخضل الطائي، فنزع المعول مِن يد الجراح، وأخذ ظبيان بن عمارة التميمي بأنفه فقطعه، وضرب بيده إلى قطعة آجرة فشدخ بها وجهه ورأسه حتى مات، وحُمل الحسن إلى المدائن، ثم إن سعد بن مسعود أتى الحسن بطبيب، وقام عليه حتى برئ وحوَّله إلى أبيض المدائن -يسمَّى القصر الأبيض، يقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة-.

وفي بعض الروايات: أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- خطب الناس في قصر المدائن، فقال: "يا أهل العراق، لو لم تذهل نفسي -تسلو نفسي- عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلِكم أبي، ومطعِنكم بغلتي، وانتهابِكم ثقلي -أو قال: ردائي عن عاتقي-، وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا مَن سالمتُ، وتحاربوا مَن حاربت، وإني قد بايعتُ معاوية فاسمعوا له وأطيعوا، قال: ثم نزل فدخل القصر" (الطبقات لابن سعد).

وهنا حدث اضطراب في مقدمة جيش العراق وهم شرطة الخميس، فقد أخرج الحاكم عن أبي الغريف، قال: "كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفًا، تقطر أسيافنا مِن الحدة على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة، فلما أتانا صلح الحسن بن علي ومعاوية كأنما كسرت ظهورنا مِن الحرد -الغضب- والغيظ، فلما قدِم الحسن بن علي الكوفة، قام إليه رجل منا يُكنى أبا عامر سفيان بن الليل. فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال الحسن: لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذل المؤمنين، ولكني كرهتُ أن أقتلهم في طلب المُلك. فبعث الحسن بالبيعة إلى معاوية، فكتب بذلك الحسن إلى قيس بن سعد، فقام قيس بن سعد في أصحابه، فقال: يا أيها الناس، أتاكم أمران، لابد لكم مِن أحدهما: دخول في الفتنة، أو قتل مع غير إمام، فقال الناس: ما هذا؟ فقال: الحسن بن علي قد أعطى البيعة معاوية، فرجع الناس، فبايعوا معاوية".

وقد أشار ابن كثير -رحمه الله- إلى ذلك بقوله: "وبعثَ الحسن بن علي إلى أمير المقدمة قيس بن سعد أن يسمع ويطيع؛ فأبى قيس بن سعد قبول ذلك، وخرج مِن طاعتهما جميعًا، واعتزل بمَن أطاعه، ثم راجع الأمر، فبايع معاوية" (البداية والنهاية).

وتباينت ردود الأفعال بالنسبة لأمراء علي بن طالب -رضي الله عنه- وموقفهم مِن الصلح ما بيْن القبول والاستحسان، أو الرفض ثم القبول، وهناك فريق ثالث دخل في الصلح وهو كاره له، ثم ترك الحسن -رضي الله عنه- المدائن وسار إلى الكوفة، وسار معاوية -رضي الله عنه- مِن مسكن إلى النخيلة -موضع قرب الكوفة على سمت الشام-، ثم خرج الحسن -رضي الله عنه- مِن الكوفة إلى النخيلة ليقابل معاوية -رضي الله عنه- ويسلِّم الأمر له، فعن الشعبي، قال: شهدتُ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بالنخيلة حين صالحه معاوية -رضي الله عنه-، فقال معاوية: إذا كان ذا فقم فتكلم، وأخبر الناس أنك قد سلمتَ هذا الأمر لي، فقام فخطب على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه.

قال الشعبي: وأنا أسمع، ثم قال: أما بعد فإن أكيس -أعقل، والكيس العقل- الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية إما كان حقـًّا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة، وحقن دمائهِم، أو يكون حقًّا كان لامرئ كان أحق به مني ففعلتُ ذلك (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأنبياء:111)" (انظر الطبقات لابن سعد، والمستدرك للحاكم، وحلية الأولياء).

وفي رواية: "قال الحسن بن علي يوم كلم معاوية: ما بيْن جابلص وجابلق -مدينتان: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب- رجل جده نبي غيري، وإني رأيتُ أن أصلح بيْن أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وكنتُ أحقهم بذاك، ألا إنا قد بايعنا معاوية، ولا أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)".

وبتنازل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن الخلافة ومبايعته لمعاوية -رضي الله عنه- تنتهي بذلك فترة خلافة النبوة، وهي ثلاثون سنة، والحجة في ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وقد علـَّق ابن كثير -رحمه الله- على هذا الحديث، فقال: "وإنما كملتِ الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل على الخلافة لمعاوية في ربيع الأول مِن سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة مِن موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة مِن الهجرة، وهذا مِن أكبر دلائل النبوة". (البداية والنهاية).

وبذلك يكون الحسن بن علي -رضي الله عنهما- خامس الخلفاء الراشدين.

وبهذا حقن الحسن دماءَ المسلمين، وقد قال الحسن -رضي الله عنه-: "خشيتُ أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفًا، أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح أوداجهم دمًا، كلهم يستعدي الله فيمَ هُريق دمه" (البداية والنهاية).

فالحسن بن علي -رضي الله عنه- أراد أن يحقن دماء المسلمين قربة إلى الله -عز وجل-، وخشي على نفسه مِن حساب الله يوم القيامة في أمر الدماء، ولو أدى به الأمر إلى ترك الخلافة؛ فكان ذلك دافعًا له نحو الصلح، فهو يعلم -رضي الله عنه- خطورة سفك الدماء بيْن المسلمين؛ لأن ذلك مِن أخطر الأمور التي تهز كيان البشرية، ثم حرص الحسن على وحدة الأمة بتنازله عن عرضٍ زائل مِن أعراض الدنيا حتى سُمي ذلك العام "عام الجماعة".

وهذا يدل على فقه الحسن -رضي الله عنه- في معرفته لاعتبار المآلات، ومراعاته نتائج التصرفات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهده، وكان هذا العام سعيدًا على المسلمين؛ لاجتماع الكلمة ووحدة الصف، وللمرة الأولى منذ ست سنواتٍ يهدأ القتال، وتُجمع الأمة الإسلامية على خليفةٍ واحدٍ، وبهذا قامت الدولة الأموية وتأسست على يد معاوية -رضي الله عنه-، وتصدت الدولة الأموية للخوارج.

ثم عادت حركة الفتوحات المباركة، وتعد الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان -رضي الله عنه- أكبر معوق أصاب الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة أيام أبي بكر -رضي الله عنه-، حيث أدى استشهاد عثمان -رضي الله عنه- إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنةٍ كادت تعصف بالأمة الإسلامية؛ لولا أن تداركتها رحمة الله -سبحانه وتعالى- بصلح الحسن بن علي مع معاوية -رضي الله عن الجميع-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ

(1) شرح بعض ألفاظ الرواية: (بكتائب) جمع كتيبة، وهي الجيش ويقال الكتيبة ما جمع بعضها إلى بعض. (أقرانها) جمع قرن، وهو الكفء والنظير في الشجاعة والحرب. (خير الرجلين) مِن كلام الحسن البصري، وقع معترضًا بيْن قوله: قال له معاوية، وبيْن قوله: أي عمرو، وأراد بالرجلين معاوية وعمرًا، وأراد بخيرهما معاوية، وقال ذلك لأن عمرًا كان أشد مِن معاوية في الخلاف مع الحسن بن علي -رضي الله عنهم أجمعين-. (بضيعتهم) أي مَن يقوم بأطفالهم وضعفائهم الذين لو تركوا بحالهم لضاعوا؛ لعدم قدرتهم على الاستقلال بالمعاش. (أصبنا مِن هذا المال) أي أيام الخلافة حصل لدينا مال كثير وصارت عادتنا الإنفاق على الأهل والحاشية، فإن تركنا هذا الأمر قطعنا عادتنا. (عاثت) قتل بعضها بعضًا فلا يكفون إلا بالمال. (فمن لي بهذا) يتكفل لي بالذي تذكرانه. (ابني) المراد ابن ابنته، ويطلق على ولد الولد أنه ابن.


(2) الجراح بن سنان الأسدى له سابقة في الشر، حيث كان مِن الذين بهتوا سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وسعوا في عزله في الكوفة أيام خلافة عمر -رضي الله عنه-، فدعا عليهم سعد، فكان لهم مِن سوء الخاتمة نصيب (الطبري 4/ 141).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22-01-2022, 09:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (28)

فتنة حُجر بن عدي -رضي الله عنه-






كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه حركة معارضة جديدة قادها حُجر بن عدي الكندي -رضي الله عنه-، وحجر بن عدي مختلف في صحبته، وذكر ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه أنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأخوه هانئ بن عدي، وأما البخاري, وابن أبي حاتم عن أبيه, وخليفة بن خياط, وابن حبان، فذكروه في التابعين.
وكان حجر بن عدي مِن شيعة علي -رضي الله عنه- في الجمل وصفين. وكان رضي الله عنه مِن المعارضين للصلح الذي قام بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليها في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط (مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ص422).
ولم يزل حجر بن عدي منكِرًا على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية -رضي الله عنهم-، فكان يلومه على ذلك، ويقول: "تركتَ القتال ومعك أربعون ألفًا ذوو نيات وبصائر في قتال عدوك"، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه (البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 255).
وكان زياد بن أبيه في خلافة علي واليًا مِن ولاته، وكان حجر بن عدي مِن أولياء زياد بن أبيه وأنصاره يومئذٍ، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار مِن ولاة معاوية صار ينكر عليه، ولما قدِم زياد الكوفة أميرًا مِن قِبَل معاوية -رضي الله عنه- أكرم حجر بن عدي، وأدناه، وشفَّعَه، و قَال له: "قد بلغني ما كنت تصنع بالمغيرة بن شعبة، وما كان يحتمل منك"، ثم لما أراد زياد الانحدار إلى البصرة دعاه، فقال له: "يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلَّغ عنك شيئًا فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمتُ رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأيي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيتُ الله صرف الأمر إلى معاوية، لم أتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيتُ إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك مَن ركب صدورها".
وهذا تحذير مِن زياد لحجر يدل على رغبته على حسم مادة الفتنة؛ ولذلك حرص على اصطحابه معه إلى البصرة، فقال حجر: "إني مريض، ولا أستطيع الشخوص"، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئًا إلا منعوه إياه. (البلاذري، المصدر السابق 4/ 270).
والمقصود مِن كلام زياد أنه كان مِن خواص علي -رضي الله عنه-، ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية -رضي الله عنهما- وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة، وحرص على وحدة الصف، وحذر مِن الفتن، ثم في عام 51هـ حدث تدهور أخر في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكر المؤرخون أن زيادًا -وهو أمير الكوفة- خطب خطبة أطال فيها، فنادى حجر بن عدي: "الصلاة!"، فمضى زياد في خطبته؛ فحصبه حجر وحصبه آخرون معه -أي ألقوه بالحجارة-، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله، وعدَّ ذلك مِن الفساد في الأرض، فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إليَّ (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 169).
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "ولكن حجرًا فيما يُقال رأى مِن زياد أمورًا منكرة فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادًا" (العواصم مِن القواصم).
ويقول محب الدين الخطيب في تعليقه على "العواصم مِن القواصم": "كان حجر بن عدي مِن أولياء زياد وأنصاره، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار مِن ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع، وكان حجر يفعل مثل ذلك مع مَن تولى الكوفة لمعاوية قبْل زياد".
ثم كان مِن أمر معاوية -رضي الله عنه- أنه أمر بقتل حجر بن عدي وبعض أصحابه، وهو لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة مِن علي -رضي الله عنه- كما تزعم بعض الروايات الشيعية المكذوبة، بل استشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم.
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسنادٍ حسن عن ابن عياش، قال: "حدثني شرحبيل بن مسلم قال: لما بُعِث بحجر بن عدي وأصحابه مِن العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت. فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إنا بحصن مِن الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق، ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)، فقال معاوية -رضي الله عنه-: "أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا مِن دمائهم، ورمى بها ما بيْن عيني معاوية". ثم قام المنادي فنادى: أين أبو مسلم الخولاني؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك"، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة مِن أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفُ فقد أحسنت".
فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة، وإن تعفو؛ فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا مَن كان غشومًا ظلومًا، بالليل نؤومًا، عن عمل الآخرة سؤومًا، يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعتْ أوتارها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها"، ثم جلس، ثم قتل معاوية بعضًا واستحيا بعضًا، وكان فيمن قتل حجر بن عدي" (أحمد بن حنبل، المسائل، رواية ابنه صالح 2/ 328، 331).

وقد اعتمد معاوية -رضي الله عنه- في قضائه على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ) (رواه مسلم)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (رواه مسلم). (هَنَاتٌ): جمع هَنَّة، والمراد بها هنا الفتن، والأمور الحادثة.
وعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبتْ أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان، قال: ويحك أدخلني على عائشة، فإنها قد غضبت علَيَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذِنتْ له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: "أٌمّاه فيما وجَدْتِ عليَّ يرحمكِ الله؟ قالت: "وجدتُ عليك في شأن حِجْر وأصحابه أنك قتلتهم". فقال لها: "وأما حِجْر وأصحابه فإني تخوفت أمرًا، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، وتستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء". قالت: "تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله".
وجاء في رواية أخرى: "لما قدِم معاوية دخل على عائشة، فقالت: "أقتلت حجرًا؟". قال: "يا أم المؤمنين، إني وجدتُ قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير مِن استحيائه في فسادهم" (تاريخ دمشق لابن عساكر 4/ 273، 274)، ومع ذلك فقد ذكرتْ بعض المصادر التاريخية أن معاوية -رضي الله عنه- ندم بعد ذلك على قتل حجر بن عدي (تاريخ الطبري 6/ 195، سير أعلام النبلاء 3/ 465).
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "فإن قيل: قتل حجر بن عدي -وهو مِن الصحابة، مشهور بالخير- صبرًا أسيرًا، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله.
قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول: قتله ظلمًا، وقائل يقول: قتله حقـًّا.
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا؛ إلا إذا ثبتْ عليه ما يوجب قتله.
قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق -ولا شك أن الأصل في الدماء أنها معصومة، وذلك ثابت بنصوص الكتاب والسُّنة-، فمَن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لُعن فيه معاوية، وقد كلمته عائشة -رضي الله عنها- في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بيْن يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين".
وقال محب الدين الخطيب: "فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما مِن حكومة في الدنيا تعاقب بأقل مِن ذلك، مَن يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعًا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته مِن الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.
ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد؛ فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر مِن أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة مِن دمائها، وسمعتها، وسلامة قلوبها، ومواقف جهادها، تضحيات غالية كانت في غنى عنها؛ لو أن هيبة الدولة حُفظتْ بتأديب عددٍ قليلٍ مِن أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب، وكما كانت عائشة -رضي الله عنها- تود لو أن معاوية -رضي الله عنه- شمل حجرًا بسعة صدره، فإن عبد الله بن عمر كان يتمنى مثل ذلك، والواقع أن معاوية -رضي الله عنه- كان فيه مِن حلم عثمان -رضي الله عنه- وسجاياه؛ إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان، وما جرَّ إليه تمادي الذين اجترؤوا عليه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ؛ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا" (منهاج السُّنة 2/ 241).

وهكذا مرت هذه الحركة مِن المعارضة دون أن تحقق أدنى مصلحة، ولا بد أن نتعلم مِن التاريخ؛ فهو مرآة الأمم .
والله المستعان.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19-03-2022, 10:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (29)

معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في عهد يزيد بن معاوية









كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

وفاة معاوية ومعارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهم-:

تُمثـِّل معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية نقطة تحول في التاريخ، فهي تٌعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفة عامة وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدةٍ قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا، وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين، وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-.

والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، وتلك الممانعة الشديدة مِن قِبَل الحسين وابن الزبير -رضي الله عنهم-، قد عبَّرت عن نفسها بشكلٍ عملي فيما بعد، فالحسين -رضي الله عنه- كما مر سابقًا، كان معارضًا للصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي، ثم إن الحسين بن علي استمر على صِلاته بأهل الكوفة، وقد كان يعدهم بالمعارضة، ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني، ص 180).

والذي يبدو أن أهل الكوفة كانوا يتخيلون ويتوقعون أن المرشح الأقوى للخلافة بعد معاوية هو الحسين -رضي الله عنه- (أنساب الأشراف للبلاذري 3/ 152)، وكان معاوية -رضي الله عنه- دائم الصلة بالحسين، وكان يوقره ويكرمه، ويغدق له في العطاء، وقيل: إنه أعطاه مرة أربعمائة ألف (المصنف لابن أبي شيبة، وانظر المصدر السابق).

وقد أوصى معاوية -رضي الله عنه- ابنه يزيد، فقال له: "انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه أحب الناس إلى الناس؛ فصل رحمه، وارفق به يصلح لك أمره؛ فإن يك منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمَن قتل أباه، وخذل أخاه" (الطبقات لابن سعد 1/ 244).

وقد كانت هناك وصية جامعة مِن معاوية لابنه يزيد، قال عوانة: "قد سمعنا أن معاوية لما حضره الموت -وذلك في سنة ستين- وكان يزيد غائبًا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري -وكان صاحب شرطته- ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما، فقال: بلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك؛ فأكرم مَن قدم عليك منهم، وتعاهد مَن غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً؛ فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي مِن أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء مِن عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لستُ أخاف مِن قريش إلا ثلاثة: حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمسًا شيئًا قبلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحمًا ماسة، وحقـًّا عظيمًا، وقرابة مِن محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خب -الخب: الخداع- ضب، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزم وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 523).

وهكذا رسم معاوية -رضي الله عنه- ليزيد سياسة التعامل مع الأقاليم المختلفة، وكذلك بعض الأشخاص أيضًا، وبالفعل توافدت الرسائل مِن زعماء الكوفة على الحسين -رضي الله عنه-، والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعًا، أراد أن يطلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقـًّا قدِم عليهم، ولما بلغ أهل الكوفة قدوم مسلم بن عقيل قدموا إليه، فبايعه اثنا عشر ألفًا" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

وتمتْ تلك المبايعة بصورة سرية، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم، كتب إلى الحسين: إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تنظر في كتابي، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة، وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا مِن قبْل، فلما وصل إلى الحسين بن علي كتاب مسلم بن عقيل، والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة، وأن الأمر مهيأ لقدومه؛ تجهز الحسين بن علي، وعزم على المضي إلى الكوفة بأهله وخاصته.

نصائح الصحابة والتابعين إلى الحسين بعدم الخروج إلى الكوفة:

لا شك أن مسألة خروج الحسين -رضي الله عنه- على يزيد كانت محل جدال وخلاف بيْن الكثيرين(1)، وقد حرص كثيرٌ مِن الصحابة على منع الحسين مِن الخروج لكنه أبى.

ومِن الذين عارضوا خروج الحسين -رضي الله عنه-:

محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدِم عليه، وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولستُ أدخر النصيحة لأحدٍ مِن الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لكَ حمدنا الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا مِن هذه الأمصار وتأتي جماعة مِن الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك؛ فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضًا، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسًا، وأبًا وأمًا، أضيعها دمًا، وأذلها أهلًا، فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأيًا، وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبدًا أشكل منها حين تستدبرها استدبارًا، قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديدًا" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 341).

ومِن الصحابة الذين عارضوا خروج الحسين -رضي الله عنه-:

عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس، أتاه وقال: "يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين -إن شاء الله تعالى-. فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين: إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك مِن كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج، ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك؛ لذا جاء ابن عباس إلى الحسين مِن الغد، فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا أصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر؛ فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونًا وشعابًا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائرًا؛ فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: وقد اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة، وهو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره مِن مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة، وقد نصح الحسين قائلاً: "أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك، وطعنوا أخاك؟! فقال له الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا، أحب إلي مِن أن تستحل بي -يعني مكة-" (المصنف لابن أبي شيبة 15/ 95).

عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: فقد نصح الحسين -رضي الله عنه- في أكثر مِن موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما، وقال: "أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان" (الطبقات لابن سعد).

ولما قدِم المدينة، وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين، فقال: "أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم. قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خيَّر نبيه بيْن الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله مِن قتيل" (سير أعلام النبلاء 3/ 292).

وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول بعد ذلك: "غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى مِن الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير" (مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 7/ 138).

وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيُقدِم عليه الحسين -رضي الله عنه- بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذير شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأيٍ مِن الطرفين.

ومِن هؤلاء:

- أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- حيث قال: "غلبني الحسين على الخروج، وقد قلتُ له: اتقِ الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك" (البداية والنهاية لابن كثير).

- وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "كلمتُ حسينًا، فقلتُ له: اتقِ الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني" (الطبقات لابن سعد).

ولم تتوقف المحاولات الهادفة بيْن الحسين -رضي الله عنه- وبيْن خروجه إلى الكوفة؛ فكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: "أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك مِن الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك" (تاريخ الأمم والملوك للطبري).

ولكن الحسين -رضي الله عنه- رفض الرجوع، وقد حاول كثيرٌ مِن أهل الرأي والحكمة منع الحسين -رضي الله عنه-، وكتب إليه المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- وأبو واقد الليثي، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبد الله بن مطيع، وسعيد بن المسيب، وعمرو بن سعيد بن العاص، وابن عياش، ويزيد بن الأصم، والأحنف بن قيس، وعمرة بنت عبد الرحمن، وغيرهم.

ومِن الملاحظ: إجماع كل مَن نصح الحسين -رضي الله عنه- على ألا يخرج للعراق، ولا يثق في أهل الكوفة، وإجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم، وكذلك يلفت الانتباه: إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك مِن أسفهم عليه، وكلمات التوديع له؛ وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين مِن العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق مِن أحداثٍ جَرَت إبان الفتنة بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- عرفوا مِن خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة مِن إثارة الإحن ودوام الفتن. (الدولة الأموية: عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار ص 465).

وكل هذه النصائح لم تؤثِّر على الحسين -رضي الله عنه- في قراره بالخروج إلى الكوفة، فعقد العزم على الخروج، وأخذ يجهز نفسه وأهل بيته للخروج، وبالفعل خرج في يوم التروية "الثامن مِن ذي الحجة" سنة 60 هـ - 680م، وخرج معه أهل بيته، وقيل خرج معه ستون شيخ مِن أهل الكوفة،.

وهنا تكررت بعض المحاولات مِن كثيرٍ مِن الناصحين أثناء سير الحسين -رضي الله عنه- إلى الكوفة، ولكنها دون جدوى؛ فالحسين رغم كل ما سمعه مِن المقربين المخلصين لا يتراجع عن قراره؛ فهذا قدر الله وهذا حكمته، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

ولعل مِن الأسباب التي جعلت الحسين -رضي الله عنه- لا يتراجع عن رأيه: هو الواقع الذي يراه الحسين -رضي الله عنه-، فيزيد لن يترك الحسين هكذا دون بيعة، وربما توقع الحسين أن يزيد سيحمله على البيعة في أقرب وقت ممكن، ولن يرضى أن تكون له حرية التصرف دون بيعة، ولعل الحسين -رضي الله عنه- شعر بالحرج مِن وجوده في مكةٍ دون بيعة الخليفة، دون أن يكون له ما يبرر موقفه بشكلٍ واضح.

أضف إلى ذلك: الخوف مِن تأصيل القيصرية والهرقلية والتوريث في الأمة، وهذا يعد مِن أنواع الفساد بلا شك، وكان موقف الحسين مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض منذ البداية.

والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، ثم الصورة المشجعة التي نقلها له ابن عمه مسلم ابن عقيل لحالة الكوفة، وأن أهلها جميعًا ينتظرون الحسين، والنصر يتوقف على حضور الحسين فقط، فربما كانت هذه بعض الأسباب التي جعلت الحسين -رضي الله عنه- اتخذ قراره بلا رجعة. والله أعلى وأعلم. (مواقف المعارضة في خلافة يزيد، للشيباني، ص 302).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الله -تعالى- بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة مِن الخلفاء: كيزيد، وعبد الملك، والمنصور، وغيرهم؛ فإما أن يُقال: يجب منعه مِن الولاية وقتاله حتى يُولى غيره كما يفعله مَن يرى السيف، فهذا رأى فاسد؛ فإن مفسدة هذا أعظم مِن مصلحته، وقلَّ مَن خرج على إمامٍ ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله مِن الشر أعظم مما تولد مِن الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء إما أن يُغلبوا، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي، وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا.

والله -تعالى- لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك مِن أولياء الله المتقين، ومِن أهل الجنة؛ فليسوا أفضل مِن علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يُحمد ما فعلوه مِن القتال، وهم أعظم قدْرًا عند الله وأحسن نية مِن غيرهم" (منهاج السُّنة).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 02-08-2022, 12:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (31)

موقف يزيد بن معاوية مِن قتل الحسين -رضي الله عنه- ومِن أهل الحسين وذريته










كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تٌمثل نقطة تحول في التاريخ، فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفةٍ عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا!

وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين.

وقد ألقينا الضوء على تفاصيل خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن المدينة وحتى مقتله في كربلاء، وموقف يزيد مِن أحداث الكوفة، وموقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه-، وبعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث، ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى، وقال: "كنتُ أرضى مِن طاعتكم -أي أهل العراق- بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق، لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوتُ عنه، فرحم الله الحسين" (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وفي رواية أنه قال: "أما والله، لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببتُ أن أدفعه عنه!" (الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجورقاني، بسندٍ كل رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا بيْن الشعبي والمدائني)، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها (الطبقات لابن سعد).

ومِن هنا يُعلم: أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكلٍ مؤلم أو أنه حملهم مغللين كما ورد في بعض الروايات، وقد مرَّ معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزلٍ منعزل، وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد، قالت فاطمة بنت الحسين: "يا يزيد: أبنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا؟! قال: بل حرائر كرام" اٌدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلتِ. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: "يا حبيب، إن أباك قطع رحمي وظلمني، فصنع الله به ما رأيت".

وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحُمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء، فرد علي بن الحسين على يزيد: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، ثم طلب يزيد مِن ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدرِ خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وهناك بعض الروايات تفيد بأن أبناء الحسين -رضي الله عنه- وبناته تعرضن للمهانة، وكأنهن في مزادٍ علني! فهذا مِن الكذب البيِّن الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت مِن إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور ليختر ما يشاء (الشيباني، مواقف المعارضة في خلافة يزيد).

وأرسل يزيد إلى كل امرأة مِن الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين (الطبقات لابن سعد).

وبعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السنِّ مِن موالي بني هاشم ومِن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين -رضي الله عنه- وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها (الطبقات لابن سعد).

ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم (سير أعلام النبلاء للذهبي).

وقبْل أن يغادروا، قال يزيد لعلي بن الحسين: "إن أحببتَ أن تقيم عندنا، فنصل رحمك، ونعرف لك حقك فعلت"، ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم يزيد أبناء الحسين وخيّرهم بيْن المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة (تاريخ الرسل والملوك للطبري، ومنهاج السُّنة النبوية لابن تيمية).

وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار مِن علي بن الحسين، وقال: "لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفدٌ مِن موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارسًا، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا، وخرج آل الحسين مِن دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

قال ابن كثير -رحمه الله- في يزيد: "وأكرم آل بيت الحسين، وردَّ عليهم جميع ما فُقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين" (البداية والنهاية).

وهكذا قُتل الحسين -رضي الله عنه-، وقد حَمَّل العلماء مسئولية قتل الحسين لعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وشمر بن ذي الجوشن، وحمَّلوا كذلك أهل الكوفة مسئولية مقتله؛ فهم الذين كاتبوا الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ثم خذلوه!

واختلف العلماء في أمر يزيد: هل يتحمل دم الحسين أم لا؟ فلقد قٌتل الحسين في خلافته، وعلى أرضٍ تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يٌحمّل نفسه مسئولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام(1)، علمًا بأنه لم يأمر بقتله، بل ولم يشر إلى ذلك، ولكن يؤخذ على يزيد أنه ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، بل ولم يعزله أو يعاقبه على قتله للحسين -رضي الله عنه-! (البداية والنهاية لابن كثير، ومنهاج السُّنة لابن تيمية).

وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارِض منذ البداية، والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، فالحسين اعترض على فكرة التوريث دفاعًا عن الشورى، ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار مَن تريد، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله؛ فإنه -رضي الله عنه- لم يفارِق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضًا عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك؛ فكيف لا تجب إجابة الحسين -رضي الله عنه-؟!(2).

وأما عن مكان رأس الحسين -رضي الله عنه-: فإن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين -رضي الله عنه- عند عامة الناس، إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين، والتي أقيمتْ في عصور التخلف الفكري والعقدي، وكلها تدعي وجود رأس الحسين -رضي الله عنه-، ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين -رضي الله عنه- جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في ادعاء وجود الرأس عندها!

وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس، فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة "كربلاء"، فلقد ثبت أن رأس الحسين -رضي الله عنه- حُمل إلى ابن زياد، فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الحُسَيْنِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، فَقَالَ أَنَسٌ: "كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه البخاري).

ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافًا بينًا بشأن رأس الحسين -رضي الله عنه-، فهناك بعض الروايات التي ذكرتْ أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية، وهي روايات ضعيفة، ولم تثبت(3).

ثم كان مما ترتب على مقتل الحسين -رضي الله عنه- التفاف الناس حول ابن الزبير حتى قاد حركة المعارضة في الحجاز، وقيام حركات ثورية في الكوفة وغيرها، مثل حركة التوابين، وحركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلها نادت بالثأر للحسين -رضي الله عنه-؛ فضلًا عن بعض الانحرافات الفكرية التي تولدت عند البعض.

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ

(1) وقد سئل ابن الصلاح -رحمه الله- عن يزيد، فقال: "لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين -رضي الله عنه-، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك مِن شأن المؤمنين، وقد ورد في الحديث المحفوظ: (وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) (متفق عليه)" (البخاري مع الفتح 10/ 479).

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "افْتَرَقَ النَّاسُ فِي "يَزِيدَ" بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثَلَاثُ فِرَقٍ: طَرفان ووَسٌط، أَحدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا، وَأَنَّهُ سَعَى فِي قَتْلِ سَبْطِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَفِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَانْتِقَامًا مِنْهُ، وَأَخْذًا بِثَأْرِ جَدِّهِ عتبة، وَأَخِي جَدِّهِ شَيْبَةَ، وَخَالِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عتبة، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا؛ وَقَالُوا: تِلْكَ أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وَآثَارُ جَاهِلِيَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْلٌ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ فَتَكْفِيرُ يَزِيدَ أَسْهَلُ بِكَثِيرِ.

وَالطَّرَفُ الثَّانِي: يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَإِمَامٌ عَدْلٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ "الصَّحَابَةِ" الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَمَلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ "الْحُسَيْنِ"، وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا، وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ، وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ، وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد، وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ... وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّأَلُّمُ لِقَتْلِهِ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُحْمَلْ الرَّأْسُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ إلَى ابْنِ زِيَادٍ" (مجموع الفتاوى بتصرف).

وقال أيضًا في الوصية الكبرى: "وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا: مَقْتَلُ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الحسين، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ، فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ، وحض الشمر بن ذي الجوشن الجيوش عَلَى قَتْلِهِ لعبيد الله بن زياد؛ فَاعْتَدَى عليه عبيد الله بن زياد، وأمر عمر بن سعد بقتاله، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يَجِيءَ إلَى يزيد، أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا، أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ فَمَنَعُوهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عمر بن سعد بِقِتَالِهِ فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ قَتْلُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ قَتْلَ الحسين، وَقَتْلَ عثمان قَبْلَهُ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ" (انتهى).

وقال في منهاج السُّنة: "إِنَّ يَزِيدَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ. وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَنْصُرُونَهُ وَيَفُونَ لَهُ بِمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا قَتَلُوا مُسْلِمًا وَغَدَرُوا بِهِ وَبَايَعُوا ابْنَ زِيَادٍ، أَرَادَ الرُّجُوعَ فَأَدْرَكَتْهُ السَّرِيَّةُ الظَّالِمَةُ، فَطَلَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى الثَّغْرِ، أَوْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، فَامْتَنَعَ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا مَظْلُومًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ أَظْهَرَ التَّوَجُّعَ عَلَى ذَلِكَ، وَظَهَرَ الْبُكَاءَ فِي دَارِهِ، وَلَمْ يَسْبِ لَهُ حَرِيمًا أَصْلًا، بَلْ أَكْرَمَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَجَازَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ، ويزيد هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية، وقد روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) (انتهى بتصرف)"، وبهذا قال جمع مِن أهل العلم، كابن طولون في كتاب "قيد الشريد"، وكذا قال الطيب النجار، ويوسف العش وغيرهما.

(2) قال شيخ الإسلام: "ولهذا لما أراد الحسين -رضي الله عنه- أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين: كابن عمر، وابن عباس، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يُقتل حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله مِن قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة وتخطيء أخرى، فتبيَّن أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة مِن سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله مِن الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده مِن تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشرٍ عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الصبر على جَوْر الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن مَن خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصِّل بفعله صلاحٌ، بل فسادٌ.

ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) (رواه البخاري)، ولم يثنِ على أحدٍ لا بقتالٍ في فتنة، ولا بخروجٍ على الأئمة، ولا نزع يدٍ مِن طاعة، ولا مفارقةٍ للجماعة" إلى أن قال: "وكذلك الحسن كان دائمًا يشير على أبيه وأخيه بترك القتال، ولما صار الأمر إليه ترك القتال وأصلح الله به بيْن الطائفتين المقتتلتين، وعلي -رضي الله عنه- في آخر الأمر تبيَّن له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله.

وكذلك الحسين -رضي الله عنه- لم يُقتل إلا مظلومًا شهيدًا، تاركًا لطلب الإمارة، طالبًا للرجوع؛ إما إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى المتولي على الناس يزيد، وإذا قال القائل: إن عليًّا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.

قيل له: وهذا بعينه هو الحِكْمَة التي راعاها الشارع -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرَّة، وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم مِن مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا" (منهاج السُّنة 4/ 527).

(3) وقد ذهب ابن كثير -رحمه الله- إلى ذهاب الرأس إلى يزيد، فقد قال: "وقد اختلف العلماء في رأس الحسين: هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين، الأظهر منهما أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة، والله أعلم".

وقال ابن كثير في موضع آخر: "والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام" (انظر البداية والنهاية 11/ 580)، والقول بإرسالها إلى الشام هو ما ذهب إليه الذهبي (تاريخ الإسلام).


وقال قال ابن تيمية -رحمه الله- بضعف الراويات التي تقول بإرسال الرأس إلى الشام، وقد اُختلف في المكان المقبور به رأس الحسين -رضي الله عنه-، وهي ما بيْن دمشق والرقة وعسقلان والقاهرة وكربلاء والمدينة، وأقرب الأقوال: أن الرأس بالمدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسنادٍ جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم إن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن إذا قتل الرجل منهم -لم يكن منهم- سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما مِن الحروب أعظم بكثير مما كان بيْن الحسين وبين خصومه" (انتهى). وبهذا قال الزبير بن بكار، ومحمد بن سعد وهما مِن المؤرخين، وانظر أيضًا: (أنساب الأشراف للبلاذري، ومواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 29-08-2022, 02:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات من ذاكرة التاريخ (32)

معارضة أهل المدينة في عهد يزيد وموقعة الحرَّة (عام 63 هـ -683م)










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكما هو معلوم فإن المدينة هي عاصمة الإسلام الأولى، ومدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وموطن المهاجرين والأنصار، ولها أهمية كبرى، وفيها تكونت الدولة المسلمة، ومهما تعددت العواصم في العالم الإسلامي تبقى المدينة هي العاصمة الروحية للمسلمين؛ ففيها وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المأوى والأمن، والتأييد والنصرة مِن الأنصار -رضي الله عنهم-.

وبعد أن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، استمرتْ هي العاصمة للخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، وفي المدينة يوجد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولما آلت الخلافة إلى معاوية -رضي الله عنه- واتخذ دمشق عاصمة للدولة، ظلت المدينة تحتفظ بقيمتها ومكانتها في قلوب المسلمين، وكان معاوية -رضي الله عنه- يعلم ذلك جيدًا، وكان يوقـِّر ويحترم ويكرم أهل المدينة، وأوصى بذلك ولده يزيد.

إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير -رضي الله عنهما- التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60 هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقًا لإعادة الشورى وتمكينها بيْن الناس، وعندما قتل الحسين -رضي الله عنه- بتلك الصورة الشنيعة ومعه إخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد أحس الكثير مِن أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأتْ تمارسه الدولة؛ الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفعه شعار الشورى، ورفضه مبدأ التوريث، في الوقت الذي لم يحاكم يزيدٌ عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشِرين عن الجريمة النكراء التي لحقتْ بالحسين -رضي الله عنه- وأهله في كربلاء، واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد مِن قِبَل ابن عمه يزيد بن معاوية.

ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه بتلك الصورة قد أغضب الناس جميعًا، وولد لديهم شعورًا بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني ص 452).

وعند دراسة معارضة أهل المدينة يلاحظ أن الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة، وقد ظهر في هذه الحادثة الفارق الكبير ما بيْن جيش منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وبيْن أناس تجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها!

ومِن الأسباب التي أدت إلى معارضة أهل المدينة إضافة لمقتل الحسين: أن بعض أبناء الصحابة يرون أنهم أحق مِن يزيد بأمر الخلافة، ثم إن البعض له بعض المآخذ على شخصية يزيد بن معاوية، فهناك مَن اتهمه بشرب الخمر وترك الصلاة وغير ذلك، مع أن هذا لم يثبت على يزيد، ولكنه كلام يتردد بيْن الناس.

معارضة أهل المدينة وخلع يزيد بن معاوية:

أخرج أهل المدينة عامل يزيد، عثمان بن محمد مِن المدينة كما أخرجوا مروان بن الحكم وسائر بني أمية، وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان مِن أهل المدينة مِن خلعه والميل إلى ابن الزبير؛ فأعد جيشًا لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري (تاريخ خليفة بن خياط، ص 237).

وقد اعترض بعض علماء المدينة على خلع يزيد والخروج عليه ولم يؤيدوا مَن قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي مِن أهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل: عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه، وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده، وقال: إني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ)، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. (رواه البخاري).

فقد عارض ابن عمر -رضي الله عنهما- مَن خرج مِن أهل المدينة لسببين:

الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضا واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين -رضي الله عنه-، حيث كان موقفه واضحًا منذ البداية، ولم يعطِ البيعة، وذلك عند ابن عمر -رضي الله عنهما- خيانة وغدر!

ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (رواه مسلم).

الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم، وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة: كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر -رحمه الله- بموقف ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق والأحاديث التي استشهد بها، على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع مِن الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق، وتبع ابن عمر في موقفه أيضًا: محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية)؛ فإنه لم يرَ خروج أهل المدينة على يزيد، ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم، بل كان يجادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد.

فقال له ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب.

فقال لهم: ما رأيتُ منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسُّنة.

قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك.

فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع، فأطلعكم على ما تذكرون مِن شرب الخمر؟! فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.

قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف:86)، ولستُ مِن أمركم في شيء!" (البداية والنهاية لابن كثير).

قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعًا ولا متبوعًا. قالوا: فقد قاتلتَ مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، ولما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدا يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له مِن أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة؛ لذلك قرر ترك المدينة وتوجَّه إلى مكة (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد سار أهل بيت النبوة على هذا الطريق، ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد، وهو الذي قال فيه الزهري: "كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة"، وقال عنه: "لم أدرك مِن آل البيت أفضل مِن علي بن الحسين" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة، كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل آل بيت النبوة في زمانهم، ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة، ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر مِن غيرهم.

وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه: الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري -رضي الله عنه-، وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام؛ فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج، ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان -رضي الله عنه- لذلك، وقدِم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوَّفهم الفتنة، وقال لهم: "إنه لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله مِن أمرنا؟! فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بيْن الفريقين، قد هربتَ على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلَّفت هؤلاء المساكين يٌقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم؛ فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وهذا موقف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: فقد كان بالشام عندما عزم يزيدٌ أن يبعث جيشًا إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن يتدخل في الأمر ليجنِّب أهل المدينة شرَّ القتال، فكلَّم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتل بهم نفسك، وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فإني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقًا ولا يقاتلهم، فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلًا لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك، ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم (الطبقات لابن سعد).

وكان ردهم عليه: "لا يدخلها علينا عنوةً"، وكذلك سعيد بن المسيب -رحمه الله-، فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمرًا مِن أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل، والناس في قتالهم أيام الحرة (الطبقات لابن سعد، وسير أعلام النبلاء)، وهكذا لم يقبل أهل المدينة مِن المعارضين جميع النصائح مِن أهل العلم والفضل، وعقدوا النية على القتال.

معركة الحرَّة:

تولى القيادة على قريش وقبائل المهاجرين في المدينة،عبد الله بن مطيع، وتولى القيادة على الأنصار عبد الله بن حنظلة، واتفق المعارضون على أن يكون القتال داخل المدينة وألا يخرجوا منها، وبدأوا في حفر بعض الخنادق داخل المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني، ص 521).

واشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصَرون في دار مروان بن الحكم، فأراد أن يخلصهم مِن هذا الحصار قبْل أن يُقتلوا أو يحل بهم مكروه، وكانوا ألف رجل؛ فعزَّ عليه أن يٌقتل هؤلاء دون أن يقدِّم لهم عونًا، فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة، وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبدًا، أقتل ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأغزو البيت، ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

واجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة، فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثًا، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرتَ عليهم فأبح المدينة ثلاثًا، ثم اكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيرًا، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيءٍ مما دخلوا فيه، وأمر مسلمًا إذا فرغ مِن المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني (البداية والنهاية لابن كثير).

واستعرض مسلم بن عقبة جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، وسار مسلم إلى المدينة، فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، ومِن الواضح جدًّا عدم التكافؤ بيْن الجيشين، فعدد الجيش الشامي اثنا عشر ألفًا، بينما عدد أهل المدينة ألفا رجل (الطبقات لابن سعد).

وارتحل الناس مع مسلم حتى نزل المنزل الذي أمره به عبد الملك، فصنع فيه ما أمره به، ثم مضى في الحرة حتى نزلها، فأتاهم مِن قِبَل المشرق، ثم دعاهم مسلم بن عقبة، فقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثًا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه، وانصرفتُ عنكم وسرتُ إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليك، ولما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة، قد مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: لا تفعلوا، بل ادخلوا في الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق مِن كل أوب، فقالوا لهم: يا أعداء الله، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فيه، وتستحلوا حرمته! لا والله لا نفعل (المحاسن والمساوئ للبيهقي).

وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِن شهر ذي الحجة 63 هـ - 683م وقعت المعركة: فوجَّه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، واختل نظام الدفاع لأهل المدينة وتراجعوا وتفرقوا، وانتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير مِن القادة ووجوه الناس، وكان القتل ذريعًا في المدنيين، وقد شبهتهم الرواية بنعام الشُّرَّد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه (الطبقات لابن سعد).

وقد قتل في هذه المعركة عددٌ مِن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: "وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم تبقِ مِن أصحاب بدر أحدًا، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرَّة- فلم تبقِ مِن أصحاب الحديبية أحدًا" (تاريخ خليفة بن خياط).


ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: "فجميع مَن أصيب مِن قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال"، وقد تابعه على ذلك أبو العرب (المحن لأبي العرب)، والأتابكي (النجوم الزاهرة)، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك -رحمه الله- قال فيها: "إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل مِن حملة القرآن"، وقال الراوي: "وحسبتُ أنه قال: "وكان معهم ثلاثة أو أربعة مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (المحن لأبي العرب).

وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22-10-2022, 11:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (33)

وماذا بعد موقعة الحرَّة؟!










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق تفاصيل معركة الحرَّة بعد خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ونقضهم البيعة وما آلت إليه الأمور في جيش أهل المدينة بعد هزيمتهم.

أعمال مسلم بن عقبة بعد معركة الحرَّة:

- نهب المدينة:

لقد اشتٌهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام مِن شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا؛ وذلك لأن معركة كانت لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة، وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الانتهاب، فقد قال: "وظفر مسلم بن عقبة بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثًا" (الطبقات الكبرى لابن سعد).

وقد وردتْ لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسئولية انتهاب المدينة، فعندما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد، قال: "هو الذي فعل بالمدينة ما فعل!"، قلتُ: "وما فعل؟"، قال نهبها" (السُّنة للخلال).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فبعث إليهم -أي أهل المدينة- جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا" (الوصية الكبرى لابن تيمية)، وذهب إلى ذلك ابن حجر (تهذيب التهذيب)، وبهذا قال ابن كثير (البداية والنهاية)، وأبو الفدا(1)، وغيرهم.

ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب مِن المدينة، والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فقد هرب مِن المدينة ودخل غارًا والسيف في عنقه، ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: "لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه، فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمي وإثمك. قال: أنت أبو سعيد الخدري؟! قال: نعم. قال: فاستغفر لي، فخرج" (تاريخ خليفة لابن خياط).

ونود أن نشير إلى أن النهب لم يشمل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيرهما مِن الذين لم يقفوا بجانب المعارضين، وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال، وتعرف فيه معارضة للحكم الأموي (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، ثم إن الذين قاموا بالنهب فئة مِن الجيش وليس الجيش كله؛ لأن الجيش يضم أخلاطـًا مِن الناس، فالجيش الشامي تعداده حوالي اثني عشر ألف مقاتل (المرجع السابق).

ما قيل حول انتهاك الأعراض:

بعد التتبع لكتب التاريخ التي تُعد بمثابة العٌمدة حول أحداث موقعة الحرة، مثل: (تاريخ الطبري، وأنساب الأشراف للبلاذري، وتاريخ خليفة بن خياط، وطبقات ابن سعد)، لم نجد ما يشير إلى وقوع انتهاك أعراض النساء مِن قِبَل جيش يزيد، وأول مَن أشار إلى انتهاك الأعراض: المدائني -المتوفى سنة 225هـ- حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان، قال: "وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة مِن غير زوج!"، ويعتبر ابن الجوزي هو أول مَن أورد هذا الخبر في تاريخه مِن طريق هشام بن حسان، قال: "ولدت ألف امرأة بعد الحرة مِن غير زوج" (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي).

وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة، المتوفى في القرن العاشر الهجري، وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي مِن طريق يعقوب بن سفيان، قال: "حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء! ومِن الجدير بالذكر أن كل مَن أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط، وكلاهما لا تصح ولا تثبت(2).

ويبدو أن الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خياط، وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة، وقد أورد هذا الخبر أيضًا ابن كثير (البداية والنهاية)، وقد أقر بوقوع انتهاك الأعراض أيضًا ابن تيمية(3)، وابن حجر (الإصابة)، ومع ذلك لم يوردا مصادرهما التي استقيا منها معلوماتهما تلك، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة لا تثبت أي نوع مِن الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت انتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض، ومِن المعلوم أن وقوع حالات الاغتصاب هي أعظم وأشد مِن النهب، فلو كانت واقعة مع حالات النهب لذكرها الرواة الذين ذكروا وقوع النهب.

ثم إن المدينة في هذا التوقيت كانت تضم بيْن جنباتها كثيرًا مِن الصحابة وأهل التقوى والصلاح، فكيف يسكت هؤلاء على وقوع هذا الجٌرم دون إنكار؟! ولم يرد ذكر انتهاك الأعراض على لسان كبار الصحابة الذين شهدوا الواقعة، ولم يٌعرف عن أحدٍ مِن المسلمين الوقوع في هذا الفعل حتى مع الكافرات، منذ عصر الرسالة وحتى عصر الفتوحات، وذلك مع كثرة الفتوحات؛ فكيف يكون هذا مع المسلمات العفيفات؟! فلا بد مِن وجود أدلة صريحة وصحيحة، واعتراف مِن أهل الزمان والمكان للاعتراف بوقوع هذا الجرم العظيم (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

أخذ البيعة مِن أهل المدينة ليزيد بن معاوية ووفاة مسلم بن عقبة:

تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة مِن المدنيين مِن أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبيِّن أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة مِن أهل المدينة على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، وتضيف إحدى الروايات: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم (أنساب الأشراف للبلاذري).

وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة مِن أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيدٍ ليزيد في طاعة الله ومعصيته! وهذه الرواية سندها ضعيف (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمَن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم مِن الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟! والذي يبدو مِن خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت مِن جميع الناس (تاريخ دمشق لابن عساكر).

فعن جابر بن عبد اللَّه قال: لما قدم مسلم بن عقبة المدينة بايع الناس -يعني بعد وقعة الحرّة- قال: "وجاءه بنو سلمة فقال: لا أبايعكم حتى يأتي جابر، قال: فدخلت على أم سلمة أستشيرها، فقالت: إني لأراها بيعة ضلالة، وقد أمرت أخي عبد اللَّه بن أبي أمية أن يأتيه فيبايعه. قال: فأتيته فبايعته"(4)، ولعل بني أمية بايعوا ليزيد ليكونوا قدوة للناس وتأكيدًا على طاعتهم له، حتى إن علي بن الحسين قد أٌتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل على أن أهل المدينة جميعًا، الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة (البداية والنهاية لابن كثير).

ولقد وردت روايات أخرى تبيِّن أن هذه البيعة كانت لفئةٍ معينة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة (المحاسن والمساوئ للبيهقي)، فالله أعلى وأعلم بالصواب، وقد قام مسلم بقتل ثلاثة مِن قادة حركة المعارضة، وهم: يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، ومعقل بن سنان الأشجعي.

وفي النهاية بايع الجميع ولو مكرهًا أو خوفًا مِن القتل؛ لا سيما مع القسوة والشدة مِن قِبَل مسلم بن عقبة، وبهذا تم القضاء على حركة المعارضة، ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته (البداية والنهاية لابن كثير)، علمًا بأن مسلمًا لم يفاجئ أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، وحاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلمًا امتنع مِن حصار المدينة المحرمة وقتال أهلها، ولكنه دخل معهم في معركة طاحنة، وأنزل بأهل المدينة روعًا عظيمًا، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وانتهت المعركة واستسلمت المدينة.

وفي أوّل المحرم مِن عام 64 هـ - 683م بعد فراغ مسلم مِن حرب المدينة، سار إلى مكة قاصدًا قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش -مكان مرتفع مِن طريق مكة، قريبة مِن الجحفة يرى منها البحر- بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني. ثم دعا به فقال: احفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبْل ثلاث، ثم مات ودفن بالمُشلل -بيْن مكة والمدينة-.

قراءة وتحليل حول موقعة الحرَّة:

لا شك أن القتال الذي حدث بيْن المسلمين في القرن الأول الهجري هو مِن الفتن والمصائب التي حلَّت بالمسلمين؛ لأنه اشتبه على كثيرٍ مِن الناس الحق والباطل؛ لذا قد اعتزل كثيرٌ مِن الصحابة أحداث موقعتي الجمل وصفين، وذلك نظرًا لالتباس الأمور عليهم وعدم وضوح الحق، أو حقنًا لدماء المسلمين؛ لأن المنازع هو مِن المسلمين وقد حٌرم دمه وماله وعرضه، وقد اعتمد هؤلاء على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟! قَالَ: (كُنْ كَابْنِ آدَمَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ولا شك أن معركة الحرَّة كانت مؤسفة للغاية، وهو خطأ بلا شك قد وقع فيه كثيرون مِن أهل المدينة، وجٌرم ارتكبه بعض أهل الشام، وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، وكذلك أهل المدينة يتحملون مسئولية كبيرة؛ لأنهم أصروا على موقفهم، ولم يسمعوا نصيحة أكابر الصحابة حول نقضهم البيعة، لكن ما حدث لا يدعونا إلى الإنكار لهذه الأحداث بالكلية.

وكذلك لا نقبل التضخيم والتهويل، ولا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظنَّ أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدادت المفسدة، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!

وهناك أسباب كثيرة أدتْ إلى هزيمة أهل المدينة، منها:

عدم وجود القائد الحكيم الذي يستطيع أن يزن الأمور بميزانها الصحيح المعتبر، فلا بد للقائد أن يجيد فهم الواقع، وأن يجيد الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وأن يجيد فقه الحركة، بمعنى: متى يتقدم؟ ومتى يتأخر؟ ومتى يثبت مكانه؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. فَإِذَا تَوَلَّى خَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ: كَيَزِيدَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْمَنْصُورِ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ مَنْعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَقِتَالُهُ حَتَّى يُوَلَّى غَيْرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرَى السَّيْفَ؛ فَهَذَا رَأْيٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْقِتَالِ(5)، وَهُمْ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ نِيَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ".

وإذا تأملنا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- نلحظ أنه كان دقيقًا جدًّا في اختيار ألفاظه، فلقد قال: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ".

ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير، كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذي حلَّ بآخر خلفاء عصر بني أمية، ولما حلَّ الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامتْ بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية، وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفىة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكلية فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ؛ فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء؛ لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد.

ومِن أهم أسباب الفشل أيضًا: تعدد القادة؛ لأن تعدد القوّاد في المعركة مِن دواعي الهزيمة، وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سئل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أميران؟ هلك القوم!" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

ثم تأمل البون الشاسع بيْن الجيشين، جيش كبير منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وجيش آخر يرفع جنوده بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع، ومآلات الأمور وعواقبها.

ولا بد للقائد أن يكون ملمًا بكل شيء يحدث مِن حوله، ويجيد السياسة والحنكة أثناء المفاوضات إن وجدت، وأثناء التعامل مع الخصم، ولا بد أن يكون شجاعًا مضحيًّا في سبيل ما يؤمن به، ولكننا إذا تأملنا -على سبيل المثال- حال عبد الله بن مطيع نراه على العكس مِن ذلك تمامًا، فلقد فرَّ هاربًا إلى مكة بعد ما أيقن وقوع الهزيمة في أهل المدينة، وترك أتباعه يقتلون على أبواب الدور والمساجد، وهكذا عبْر الأزمنة تجد مَن يحرِّض الناس ويحثهم ويشجعهم على القتال والثبات حتى الموت، ثم تراه يفر هاربًا مِن ساحة القتال، فسبحان الله! فالتاريخ يتكرر كما هو في كثيرٍ مِن الأحداث.

ومِن دواعي الفشل: قلة ما تحت أيديهم مِن الأرزاق، ولو استمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس مِن الجوع؛ لأن ما بها مِن الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أيامًا، وجٌل طعامها يأتيها مِن التجارة، أو مِن بساتين خارج حدود المدينة، ثم إن زعامة المدينة المنورة لم تكن راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان مِن المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم، وعلى رأس آل الخطاب شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم: عبد الله بن عمر، ومِن آل هاشم: عبد الله بن العباس، وعلى بن الحسين، ومحمد بن الحنيفة.

وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث -كما ذكرنا-، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، والله المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

(1) أبو الفدا: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفى 732هـ) المختصر في أخبار البشر، الناشر: المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، عدد الأجزاء: 4 (1/192).

(2) قد قام الشيباني بدراسة عميقة حول هذا الموضوع، وأثبت ضعف هذه الروايات، انظر أسباب رد الخبرين مِن جهة السند (الشيباني، المرجع نفسه، ص 549).

(3) قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والأمر الثاني: نقض أهل المدينة لبيعة يزيد، فقد نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم يزيد جيشًا لإخضاعهم، وأمر القائد إذا لم يطيعوا ولم يرجعوا إلى الطاعة خلال ثلاثة أيام أن يدخلها بالسيف، وأن يبيحها مدة ثلاثة أيام، فمن زنى أو سرق أو قتل فلا يقام عليه الحد، هذا معنى الإباحة، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون مَن شاءوا، وينهبون ما شاءوا، ويفتضون الفروج المحرمة، ثم أرسل يزيد جيشًا إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة؛ لأن فيها عبد الله بن الزبير، فتوفي يزيد وهم يحاصرون مكة" (انظر الوصية الكبرى، ص 45).


(4) الإصابة لابن حجر (4/ 12) بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر: "ويحتمل في هذا أن يكون الصواب: فأمرتُ ابن أخي... ".

(5) يرى شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للقتال كان هو الأولى، وجمهور العلماء يقولون إن عليًّا -رضي الله عنه- كان على الحق، والنصوص تثبت ذلك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 25-12-2022, 11:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (34)

الأحداث السياسية بيْن عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان








كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير:

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد، واختار الذهاب والاستقرار بمكة، ومكة هي المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة؛ وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليستْ مناسبة، فالعراق بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين -رضي الله عنه- خير دليل على ذلك.

وكان ابن الزبير يعي ذلك تمامًا حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق (نسب قريش للزبيري، ص239)، فقال له: "أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!"، أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم، وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.

ثم إن مكة بلد حرام، لا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمَن يعتصم بها حماية مِن القتل؛ إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب ذلك، ثم إن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين، ثم إنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف مِن المسلمين مِن مختلف الأقاليم، ويمكن مِن خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم آخر.

وأخيرًا، فإن معارضة ابن الزبير يقويها ويعضدها معارضة أهل المدينة لبني أمية، وبالتالي كان مِن المناسِب أن يكون ابن الزبير قريبًا مِن المدينة؛ ليضمن استمرار تأييد أهلها له، ولكي يتمكن مِن الاتصال المستمر بهم.

وكان معاوية -رضي الله عنه- على معرفة بطبيعة ابن الزبير، وأنه لن يبايع ليزيد، وقد طلب ابن الزبير مِن معاوية -رضي الله عنه- أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها، ثم طلب مِن معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلًا منه فيبايعه، ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه مِن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آنٍ واحد(1)، ثم قال: "وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا كان في الأرض خليفتان؛ فاقتلوا أحدهما".

وقد قال معاوية -رضي الله عنه- في وصيته ليزيد: "وأما ابن الزبير فإنه خب ضب -الخب: الخداع-، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزمٍ وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان مقصد ابن الزبير -رضي الله عنهما- ومَن معه، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين: كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم مِن فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، وكان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يرى أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله، ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة؛ ولهذا لم يدعُ لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).

وكان ابن الزبير يخطب ويقول: "والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا ألتمس جمع مال ولا ادخاره"، ثم إن ابن الزبير يرى في نفسه أنه أهل لمنصب الخلافة بعد وفاة معاوية؛ لما يتمتع به مِن بعض الخصائص والصفات، إضافة لِنَسَبه الكريم، حيث أبوه الزبير ابن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين -رضي الله عنها-، وجده مِن جهة أمه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وهو أول مولود يُولد للمسلمين بعد الهجرة، وارتجت المدينة بالتكبير عند مولده.

وكان معاوية -رضي الله عنه- يعرف قدر ابن الزبير ومكانته، وكان يحترمه ويقدره، وقد أدرك ابن الزبير مكانة معاوية وحلمه ولينه، وكيف كان معاوية يقابل شدتهم باللين، وقسوتهم بالرفق، وكان ابْنُ الزُّبَيْرِ يقول بعد وفاة معاوية: "للَّهِ دَرُّ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَتَخَادَعُ لَنَا وَإِنَّهُ لأَدْهَى الْعَرَبِ، مَعَ حِلْمٍ لا يُنَادَى وَلِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَتَضَاعَفُ لَنَا وَهُوَ أَنْجَدُ الْعَرَبِ!" (أنساب الأشراف للبلاذري).

وعندما سمع ابن الزبير بمقتل الحسين -رضي الله عنه- قام خطيبًا في مكة، وترحَّم على الحسين وذم قاتليه، وقال: "أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيرًا في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد -يعرّض بيزيد-، فسوف يلقون غيًّا".

ونظرًا للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عمومًا بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-؛ فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير، ولاحَظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة للأرزقي).

ولم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملًا مِن شأنه أن يُعقّد النزاع مع ابن الزبير؛ ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: "أذكرك الله في نفسك، فإنك ذو سن مِن قريش، وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق مِن اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى، ولا تبطل ما قدَّمتَ مِن حسن، وادخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرَّم الله، فأبى أن يبايع" (أنساب الأشراف للبلاذري).

لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته، وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولًا (أنساب الأشراف للبلاذري)، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحًا تقيًّا ورعًا، يجنح للسلم ويخشى مِن سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر على رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة مِن أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة مِن فضة، وبرنس خز (تاريخ خليفة ابن خياط، وتاريخ دمشق لابن عساكر). وفي رواية أخرى: "أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلةٍ مِن فضة وقيد مِن ذهب" (الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم).

وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: "يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم -يعني عثمان بن عفان- ونصرتك إياه يوم الدار ما لا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان مِن إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنسًا فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يُخالف في ولاية ولا مال" (أنساب الأشراف للبلاذري).

استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- فقالت: "يا بني عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكِّن بني أمية مِن نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن مِن هذا" (أخبار مكة للأزرقي).

ثم جاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع، وبعد ما أجاب ابن الزبير على الوفد بالمنع، قال لابن عضاة: "إنما أنا بمنزلة حمام مِن حمام مكة أفكنت قاتلًا حمامًا مِن حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه وأسهمه، فأخذ سهمًا فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد، وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟! والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعًا أو مكرهًا أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء(2)، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم و البيت؟! قال: إنما يحله مَن ألحد فيه" (الأغاني للأصفهاني، وأنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم، وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد، وقال: "لقد بلغني أنه يصبح سكرانًا ويمسي كذلك"، ثم قال: "يا ابن عضاة: والله ما أصبحتُ أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينةٍ مِن ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فالله يعلم إرادتي وكراهيتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي"، وأجاب الباقين بنحو جوابه. (أنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "اللهم إني عائذ ببيتك" (الطبقات لابن سعد)، ولقَّب نفسه عائذ الله (الإصابة لابن حجر)، وكان يسمَّى العائذ (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ

(1) (تاريخ خليفة لابن خياط، ص214)، و(حلية الأولياء) بإسنادٍ حسن (1/ 330-331)، وقد علَّق محب الدين الخطيب على هذا فقال: "ابن الزبير أذكى مِن أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معًا في حياة معاوية".

(2) حديث: "نِعْمَ الْحَيُّ الْأُسْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ لَا يَفِرُّونَ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَغُلُّونَ، هُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ" (الحديث ضعفه الألباني وشعيب الأرنؤوط).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 16-02-2023, 10:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ
(35) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

حملة عمرو بن الزبير:

فقد ذكرنا في المقال السابق محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وقد أصر ابن الزبير على موقفه؛ فلقد علم أن رفضه لمطالب يزيد وبسط لسانه وتنقصه والنيل منه، سيعقبه شدة وقسوة مِن يزيد؛ لا سيما بعد ما تفوه به على رؤوس أشراف أهل الشام، فقام ابن الزبير بجمع مواليه ومَن تألف معه مِن أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم الزبيرية (أخبار مكة للأزرقي، بسندٍ كل رجاله ثقات).

وهنا رأى يزيد أنه لابد مِن القيام بعملٍ عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقَسَم يزيد، ووضع الأغلال في عنقه، ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنة -والمرجح سنة إحدى وستين- حج ابن الزبير معه، فلم يصلِّ بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته (أنساب الأشراف للبلاذري).

وهذا العمل مِن ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة دولة يزيد وعدم الاعتراف بها، وخصوصًا أن إقامة الحج تمثـِّل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي مِن أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائبًا لعمرو بن سعيد على أهل مكة (البداية والنهاية لابن كثير)، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمرًا دون المسور بن مخرمة -المسور بن مخرمة بن نوفل له ولأبيه صحبة-، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات والجمع، ويحج بهم (تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة ابن الزبير).

فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجِّه له جُندًا؛ فعيَّن عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله، وقام بضرب كل مَن كان يتعاطف مع ابن الزبير، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته: أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، فسار أنيس بن عمرو الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره مِن القتال في البلد الحرام (تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام للذهبي).

وكان عمرو بن الزبير يخرج مِن معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله، وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف؛ فأما أن تجعل في عنقي جامعة -الجَامِعَةُ: الغُلُّ يجمع اليدين إِلى العُنُق-، ثم أٌقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيتُ أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه، ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها.

وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكرًا في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله: أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن آذاه في المدينة (الطبقات لابن سعد، وأنساب الأشراف للبلاذري)، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل مَن ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك. وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيبٍ شديدٍ مِن جراء ذلك، ومات تحت الضرب (تاريخ الإسلام للذهبي).

لقد أثبت ابن الزبير -رضي الله عنه- أنه يملك ذكاءً ودهاءً بارزين، الأمر الذي مكّنه مِن تحويل القضية لصالحه، بعد ما كانت في يد يزيد بن معاوية (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمتْ ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولابد مِن مشاركة الناس، وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يُذكر؛ فخلال سنتين أو أكثر مِن معارضته ليزيد لم يحدث أي تغيير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز؛ فضلاً عن غيره مِن الأقطار.

ولقد ارتكب يزيد خطأً فادحًا عندما أقسم أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل مِن صحابي جليل تجاوز الستين مِن عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية؟!

ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط، ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلتْ هذه الحادثة من ابن الزبير في نظر الكثير مِن المترددين في موقفهم مِن ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته، والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير مِن التعاطف هو موقف أمير المدينة -عمرو بن سعيد- فكان هذا الأمير -كما تذكر الروايات- شديدًا على أهل المدينة معرضًا عن نصحهم، متكبرًا عليهم، ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير الذي تذكره الروايات أيضًا بأنه عظيم الكبر، شديد العجب، ظلومًا قد أساء السيرة، وكان يضرب بالسياط، فكان ممن ضرب: المنذر بْن الزبير، ومحمد بْن المنذر، وعثمان بْن عبد اللَّه بْن حكيم بْن حزام، وخبيب بْن عبد اللَّه بْن الزبير، ومحمد بْن عمار بْن ياسر، وغيرهم، وكان يُقال: عمرو لا يُكلم، مَن يكلمه يندم! (أنساب الأشراف للبلاذري).

ومِن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه: "غزو مكة بجيش"؛ فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقي المنبر في أول يوم مِن ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف مَن رغم (تاريخ خليفة لابن خياط).

ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه، وذكّروه بحرمة الكعبة، وبحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان حرمتها، ولكنه رفض السماع لنصحهم (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد مِن غزو البيت، وقال له: لا تغزو مكة، واتقِ الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر؛ هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج -كثير الإلحاح-، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف مَن رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني (البداية والنهاية).

وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقبًا مؤثرًا حين أطلق على نفسه: "العائذ بالله"، فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون، وكان لا بد مِن الدفاع عن مكة، في وجه جيشٍ يريد استحلال حرمتها!

وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفًا مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله، وتدافع الناس نحو ابن الزبير مِن نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم (أنساب الأشراف للبلاذري).


وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز؛ الأمر الذي جعله يحقق نصرًا ساحقًا وسهلًا على جيش عمرو بن الزبير، ومِن الأمور التي انتقدها يزيد على عمرو بن سعيد، كيف أنه لم يبادر بطلب جندٍ مِن أهل الشام حين جهز حملة عمرو بن الزبير؟! (أنساب الأشراف للبلاذري).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 240.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 234.52 كيلو بايت... تم توفير 5.86 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]