|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (46) ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81هـ كتبه/ زين العابدين كامل فهذه فتنة سياسية جديدة تقع في أرض العراق في عصر الدولة الأموية، وهي إحدى الثورات القوية التي قام بها أهل العراق، وقد قام أهل العراق بهذه الثورة على واليهم الحجاج بن يوسف، والتفوا جميعًا حول عبد الرحمن بن الأشعث الذي تولى قيادة هذه الثورة. بداية الأحداث: كان الحجاج قد أرسل جيشًا قويًّا بلغ عدده أربعين ألف مقاتل مِن أهل البصرة والكوفة، بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث لقتال "رتبيل" ملك سجستان الذي امتنع عن دفع الجزية، وبالفعل تحرك الجيش بقيادة ابن الأشعث لتأديب رتبيل وكان ذلك عام 80 هـ، وقد استطاع الجيش أن يحقق نصرًا عظيمًا في بلاد الترك، وتمكن مِن السيطرة على بعض البلاد، وكان ابن الأشعث كلما فتح بلدًا عيَّن عليها نائبًا، وأوغل جدًّا في بلاد رتبيل وغنم كثيرًا مِن الأموال والبقر والغنم (البداية والنهاية 9/ 35). ثم رأى ابن الأشعث أن يتوقف عن التوغل في تلك البلاد حتى يصلحوا ما بأيديهم مِن البلاد المفتوحة، وأن يقيموا في هذه البلاد حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويصفه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتمًا بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثانٍ ثم ثالث مع البريد، وكتب في جملة ذلك: "يا ابن الحائك الغادر المرتد، امضِ إلى ما أمرتك به مِن الإيغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق"، وهدده بالعزل أيضًا، وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث ويقول: "هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذي سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم بن عقيل حتى قتله"، وكان عبد الرحمن يشعر بأن الحجاج يبغضه، وكان يضمر للحجاج السوء ويتمنى زوال الملك عنه. وهنا غضب ابن الأشعث مِن كتاب الحجاج وقال: "يكتب إليَّ بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون مِن بعض جندي، ولا مِن بعض خدمي لخوره وضعف قوته!"، ثم إن ابن الأشعث جمع رءوس أهل العراق وقال لهم: "إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم؛ أما أنا فلستُ مطيعه، ولا أنقض رأيًا رأيته بالأمس"، ثم قام فيهم خطيبًا فأعلمهم بما كان رأى مِن الرأي له ولهم، وهو إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلدًا بلدًا إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء، ثم طلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: "بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع" (البداية والنهاية، 9/37). ثم قاموا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه بدلًا مِن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان، ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلًا مِن سجستان إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا: "إن خَلْعنا للحجاج خلع لابن مروان" فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله، وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين. ومِن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث، وتُعد هذه الثورة هي أخطر الثورات التي قامتْ على الدولة الأٌموية، ثم سار الجيش في طريقه إلى العراق قاصدًا الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج كتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة. وكتب المهلب بن أبي صفرة إلى ابن الأشعث يقول له: "إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، أبقِ على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلتَ أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه مِن الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك"، ولكن لم يعر ابن الأشعث نصح المهلب أدنى اهتمام. وكتب المهلب إلى الحجاج: "أما بعد، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر مِن علوٍّ ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم -إن شاء الله-" (تاريخ الرسل والملوك 6/ 339). معركة الزاوية: ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود مِن الشام إلى العراق في نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه، وكان في مشورته النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحًا ومساءً، أين نزل؟ ومِن أين ارتحل؟ وأي الناس إليه أسرع؟ وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث مِن كل جانب، حتى قيل: إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس، ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج في جنود الشام مِن البصرة نحو ابن الأشعث، وقد قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث ومَن معه قبْل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب، ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها، وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فارًّا بنفسه ومَن معه مِن أهل الشام، ونزل بالزاوية -لفظ يطلق على عدة أماكن، والمراد به هنا موضع قرب البصرة-؛ عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له، فقال: "لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي فلم نقبل" (تاريخ الرسل والملوك، 6/346). وفي شهر المحرم عام 82هـ كانت وقعة الزاوية بيْن ابن الأشعث والحجاج، وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم توافقوا يومًا آخر، فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها وقَتل خلقا كثيرًا مِن القراء مِن أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخرَّ الحجاج لله ساجدًا بعد ما كان جثى على ركبتيه وسل شيئًا مِن سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير، ويقول: "ما كان أكرمه حتى صبر نفسه للقتل" (البداية والنهاية 9/ 40). قال الواقدي: "ولما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة، فقال القراء: أيها الناس ليس الفرار مِن أحد بأقبح منكم، فقاتلوا عن دينكم ودنياكم". وقال سعيد بن جبير نحو ذلك. وقال الشعبي: "قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة". ثم قاتلوا فانهزموا، ولم يقاتلوا كثيرًا علمًا بأن هناك طائفة كبيرة مِن أهل العلم والصلاح قد اشتركوا في ثورة ابن الأشعث؛ بسبب ظلم الحجاج وانتهاكه للحرمات، وهذا ما سنوضحه في الصفحات التالية بعد معركة دير الجماجم، وكان ابن الأشعث يحرِّض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ مَن اتبعه وانسحب. ثم رجع ابن الأشعث بمَن بقي معه ومَن تبعه مِن أهل البصرة؛ فسار حتى دخل الكوفة فبايعه أهل الكوفة ولحق به كثيرٌ مِن أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالِح -جمع مَسلَحة والمَسْلَحُ: القومُ المسلَّحون في ثغرٍ أَو مخفرٍ- والثغور" (تاريخ الإسلام للذهبي، 6/5). وقد قيل: "إن الحجاج قتل يوم الزاوية أحد عشر ألفًا" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 6/ 380)، ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان مِن نفس السَّنة.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (49) ثورة يزيد بن المهلب عام 102هـ كتبه/ زين العابدين كامل فهذه فتنة سياسية جديدة وثورة مسلحة وقعتْ أيضًا في أرض العراق في عصر الدولة الأموية، تبدأ فيها الأحداث بسبب خلاف وقع بيْن المهلّب والحجّاج بن يوسف، فذهب يزيد إلى عبد الملك فأمنّه، ثم لما أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك سنة 96هـ عيَّن يزيد بن المهلب(1) على خراسان، فافتتح جرجان وداغستان، ثم رجع إلى العراق، فبلغه وفاة سليمان بن عبد الملك، وخلافة عمر بن عبد العزيز، فعزله عمر -رحمه الله- وأمر بالقبض عليه، ولما مثل يزيد بن المهلب بيْن يدي عمر، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. ثم قال له: "ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتقِ الله وأدِّ ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها"، ثم أمر بحبسه في السجن. فقد كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم، ثم هرب يزيد مِن السجن في مرض عمر، وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "اللهم إن كان يريد بهذه الأمّة شرّه، فاكفهم شّره، واردد كيده في نحره" (وفيات الأعيان لابن خلكان). ولما تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة خرج يزيد بن المهلّب وخلع بيعته، واستولى على البصرة، فجهّز يزيد بن عبد الملك لقتاله جيشًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنودٍ لا قِبَل ليزيد بها، فجمع يزيد بن المهلّب جموعًا كبيرة، والتقى الطرفان بالعقر مِن أرض بابل، ودارت بينهما معركة رهيبة دامت ثمانية أيّام، فهزم أهل البصرة أهل الشام، ثم اشتد أهل الشام فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة، وكان مع يزيد نحو مِن مائة ألف وعشرين ألفًا، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، ومَن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومَن خالفنا قاتلناه. وكان الحسن البصري -رحمه الله- في هذه الأيام يحرِّض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة، وينهاهم أشد النهى، وذلك لما وقع مِن القتال الطويل العريض في أيام ابن الأشعث، وجعل الحسن يخطب الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك بن المهلب، فقام في الناس خطيبًا فأمرهم بالجد والجهاد، والنفر إلى القتال، ثم قال: "ولقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس، أما والله ليكفن عن ذلك أو لأفعلن ولأفعلن"، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال: "أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه". ولما اشتد القتال فرَّ أهل العراق سريعًا، وبلغهم أن الجسر الذي جاءوا عليه حٌرق فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب: "ما بال الناس ولم يكن مِن الأمر ما يفر مِن مثله؟!"، فقيل له: "إنه بلغهم أن الجسر الذي جاءوا عليه قد حٌرق. فقال: قبحهم الله". وفي النهاية: قٌتل يزيد بن المهلب وعّدد مِن إخوته، وخلق كبير مِن جيشه، وتفرق سائر جيشه وأهل بيته فلوحقوا وقتلوا بكّل مكان، وكان ذلك سنة 102هـ" (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وجاءوا برأس يزيد إلى مسلمة بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما في معسكر يزيد بن المهلب، وأسر منهم نحوًا مِن ثلاثمائة، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، ولما جاءت أخبار هزيمة ابن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمد إلى نحو مِن ثلاثين أسيرًا في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عدي بن أرطاة -رحمه الله- وابنه، وجماعة مِن الأشراف (البداية والنهاية لابن كثير). وقد أورد الذّهبي -رحمه الله- أن الحسن البصري -رحمه الله- قال في فتنة يزيد بن المهلب: "هذا عدو الله يزيد بن المهلب، كلما نعق بهم ناعق اتبّعوه". وفي رواية أخرى: "أنه دعا عليه بأن يصرعه الله، وذكر ما كان يفعل مِن انتهاك المحارم وقتل الأنفس، وأكل أموال الناس". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم، فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!" (منهاج السُّنة). وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول، ويسهل سفك الدماء، وتكثر المفاسد، وتعطل الثغور، ولا يثبت إلا أهل العلم والفقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ (1) وُلد عام 53هـ في خلافة معاوية، ولي المشرق بعد أبيه، ثم ولي البصرة لسليمان بن عبد الملك، ثم عزله عمر بن عبد العزيز بعدي بن أرطاة، وطلبه عمر وسجنه، وكان الحجاج مزوجًا بأخته، وكان يدعو: "اللهم إن كان آل المهلب براء فلا تسلطني عليهم ونجهم"، وله أخبار في السخاء والشجاعة. قيل: هرب يزيد مِن الحبس فمرَّ بعُرَيْبٍ في البرية، فقال لغلامه: استسقنا منهم لبنًا فسقوه، فقال: أعطهم ألفًا! قال: إن هؤلاء لا يعرفونك، قال: لكني أعرف نفسي". قال شعبة بن الحجاج: "سمعتُ الحسن البصري يقول في فتنة يزيد بن المهلب: هذا عدو الله يزيد بن المهلب، كلما نعق بهم ناعق اتبعوه" (تاريخ دمشق لابن عساكر).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (14) استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ ففي هذا المقال نستكمل أحداث يوم الدار بعد أن استعرضنا في المقال السابق موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- خلال الأحداث. يوم الدار واستشهاد عثمان -رضي الله عنه-: استدعى عثمان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء أحبُّ إليَّ مِن الحج، قال له: عزمتُ عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين(1)، وكتب عثمان كتابًا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الذين خرجوا عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه، وفي آخر أيام الحصار وهو اليوم الذي قتل فيه، نام -رضي الله عنه- فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم، ثم قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا عثمان أفطر عندنا؛ فأصبح صائمًا، وقُتل مِن يومه(2). وهاجم المتمردون الدار؛ فتصدى لهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، ومَن كان مِن أبناء الصحابة أقام معهم؛ فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل مِن نصرتي؛ فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه َمن كف يده منهم فهو حر(3). وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل مَن رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه(4)، ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقًا مِن استشهاده بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بذلك؛ ولذلك أراد ألا تُراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بيْن المسلمين، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفرٍ حجوا معه؛ فأدرك عثمان قبْل أن يُقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟! فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة؛ فثار أهل الدار وعثمان -رضي الله عنه- يصلي حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة؛ فأبلوا أحسن البلاء، وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه:1-3)، وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبْل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137)(5). وأصيب يومئذٍ أربعة مِن شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم, وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج مِن الدار، وخلى بينه وبيْن المحاصرين، فلم يبقَ في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حامٍ مِن الناس، وفتح -رضي الله عنه- باب الدار(6)، وبعد أن خرج مِن في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر -رضي الله عنه- المصحف بيْن يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائمًا، فإذا برجل مِن المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان -رضي الله عنه- فقال له: بيني وبينك كتاب الله, فخرج الرجل وتركه(7)، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل مِن بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان -رضي الله عنه- بيده فقطعها، فقال عثمان، أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل(8)، وذلك أنه كان مِن كتبة الوحي، وهو أول مَن كتب المصحف مِن إملاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل -رضي الله عنه- والمصحف بيْن يديه، وعلى إثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بيْن يديه يقرأ منه، وسقط على قوله -تعالى-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137). ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن(9)، وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت، فغمز أوراكها(10). ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يُسمَّى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحًا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله؛ فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان. ولما تم قتل عثمان -رضي الله عنه- نادى منادٍ القوم السبئيين قائلاً: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله؛ ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادًا، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويُدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك مِن عجيزة ما أتمك(11)؛ فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعد ما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحدٌ إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان مِن طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه(12). حقق المجرمون السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير مِن أتباعهم مِن الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادًا. وقد علـَّق كبار الصحابة على مقتل عثمان؛ فقال الزبير بن العوم -رضي الله عنه-، لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله -تعالى-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) (سبأ:54). وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (الحشر:16-17)(13). وقال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا . ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) (الكهف:103-106)، ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم(14). واستجاب الله دعوة سعد وكان مستجاب الدعوة، فقد أٌخذ كل مَن شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد(15). قٌتل عثمان -رضي الله عنه- في شهر ذي الحجة في السنة الخامسة بعد الثلاثين مِن الهجرة، توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، وقام نفر مِن الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة مِن أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصلوا عليه صلاة الجنازة، وقد دفنوه ليلاً، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بيْن المغرب والعشاء -رضوان الله عليه-(16). لقد كانت فتنة قتل عثمان سببًا في حدوث كثير مِن الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته، وكان مقتل عثمان مِن أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بيْن الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم(17)؛ فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزًا عنها، وعجز عن الخير والصلاح مَن كان يحب إقامته، ثم بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-. ثم تمت مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أحق الناس بالخلافة حينئذٍ، وأفضل مَن بقي, لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة مِن كل ما يريدون مِن الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام كثيرون. إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق مِن أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (الكهف:59)، وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان -رضي الله عنه- المعتدين عليه يجد أن الله -تعالى- لم يفلتهم, بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم؛ فلم ينجُ منهم أحد! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ (1) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- للصلابي، ص 386. (2) حصة بنت عبد الكريم الزيد، موقف الصحابة مِن أحداث العنف في عهد الخلفاء الراشدين، منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات، ص30. (3) البداية والنهارية لابن كثير (7/ 190). (4) العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص137. (5) تاريخ دمشق لابن عساكر، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 80 (64/ 245). (6) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/ 188). (7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 405). (8) المصدر السابق (5/ 399). (9) الطبقات لابن سعد (3/ 76). (10) الطبري، المصدر نفسه (5/ 407). (11) عَجِيزَةُ الْمَرْأَةِ: مُؤَخِّرَتُهَا. (12) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي (المتوفى: 200هـ) الفتنة ووقعة الجمل، دار النفائس، ط 1993، ص73. (13) التميمي، المصدر السابق، ص74. (14) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 194). (15) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/410)، وأخرج أحمد بإسنادٍ صحيح، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ أَرْطَاةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: "خَرَجْتُ مَعَ عَائِشَةَ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ وَرَأَيْنَا الْمُصْحَفَ الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ فِي حِجْرِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلُ قَطْرَةٍ قَطَرَتْ مِنْ دَمِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَوِيًّا". فضائل الصحابة (1/ 501) بإسنادٍ صحيح. وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما علمتُ أحدًا أشرك في دم عثمان، ولا أعان عليه، إلا قـُـتِـل!"، وفي رواية أخرى: "لم يدع الله الفَسَـقة "قتلة عثمان" حتى قتلهم بكل أرض!"، انظر: تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/ 1252). (16) الطبقات لابن سعد (3/ 78). (17) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/ 303).
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (15) نظرة حول منهجية الحكم الصحيحة زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فبعد أن استعرضنا فترة حكم أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- وما تخللها مِن أحداث نقول: إنه لا بد للحاكم أن يحكم أمور الدولة بكل حزم، لأنه لا يَجترئ على فعل المُحرمات والتعدي على حقوق الناس ومُمتلكاتهم، ونَشر الفوضى وأعمال العنف، والتمادي في الإجرام؛ إلا مَن أمِن العقوبة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، واللين في موضع الشدة ضعف، والشدة في موضع اللين عنف. وها هو عثمان -رضي الله عنه- يذكر كيف تلقى بعض الناس رفقه ولينه معهم ذلك بعد فترة مِن حكمه، فقد روى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان -رضي الله عنه- أن يكلِّم الناس على المنبر ويشاورهم في أمر توسعة المسجد، قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور. قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنتُ لهم حتى أصبحت أخشاهم. قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك(1). وروى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أن أباه قال: "لقد عتبوا على عثمان أشياءً لو فعلها عمر ما عتبوا عليه". وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان شاهد عيان لخلافة عثمان مِن أولها إلى آخرها، وهو يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه كان يحتمل أن يكون مِن عمر -وهو أبوه-، ولو كان ذلك مِن عمر لما عتب أو اعترض عليه أحد؛ فقوة عمر -رضي الله عنه- وحزمه وشدته المتزنة الممزوجة بالحكمة كان لها تأثير بالغ في أحواله مع الرعية؛ فكان عمر -رضي الله عنه- قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، و كان عثمان ألين طبعًا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر حتى يقول عثمان نفسه: "يرحم الله عمر، ومَن يطيق ما كان عمر يطيق" وقد أدرك عثمان ذلك أيضًا حين قال لأقوام سجنهم: "أتدرون ما جرأكم عليَّ؟! ما جرأكم عليَّ إلا حلمي!"، فهذا اللين وهذه الرأفة مِن مميزات عثمان -رضي الله عنه-، لكن بعض الناس لم يحسنوا أن يقابلوا ذلك بالإحسان والطاعة. هذا ومع وجود اللين والرفق مع مَن استحق ذلك مِن الرعية، فلا بد مِن التوازن بيْن الشدة واللين، ولا تكون الشدة إلا في موضعها، وكذلك اللين يكون في موضعه، ونؤكِّد على أن الحلم واللين مع الرعية كان مِن حسنات عثمان -رضي الله عنه-، ولم يكن أبدًا مِن سيئاته كما يظن البعض، ولا يٌعد حلمه ورحمته مِن النقائص والمعايب، بل كان العيب في الذين لم يحسنوا أن يعيشوا في كنف الحلم واللين والرحمة، ولم يحسنوا أن يقابلوا الإحسان بالطاعة، بل كانوا على العكس مِن ذلك تمامًا! ثم إننا نشير أن رقعة الدولة قد توسعتْ وازدادت في عصر عثمان -رضي الله عنه-، ودخل كثير مِن الناس الإسلام بثقافاتٍ وطباع مختلفة، وهذا أيضًا كان له أثر بالغ في المجتمع؛ لذا وجب على الحاكم أن يراعي تنوع ثقافات الناس واختلاف طباعها، لا سيما مَن تعود منهم على أسلوب المُلك وهو بلا شك يختلف عن أسلوب الخلافة، ثم إنه كان ينبغي على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- ألا يحدِّث الناس على المنبر في أمر توسعة المسجد وغيره، بل كان عليه أن يتخذ مجلس شورى مِن الثقات يستشيرهم ويكتفي بذلك، ثم لا بد أن نعلم أن فترة الخلافة هي بالطبع أفضل مما بعدها مِن فترات الملك. ولا بد أيضًا مِن وجود سياسة الاستيعاب بحكمةٍ واعتدال دون إفراط أو غلو، ومَن تدبر منهج معاوية -رضي الله عنه- في الحكم علم ذلك جيدًا؛ فلقد استطاع معاوية -رضي الله عنه- أن يحكم الدولة الواسعة المترامية الأطراف بكل حزمٍ وحكمة، وقد سٌئل معاوية -رضي الله عنه-: "كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة؟! فقال: "إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعتْ، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها"(2). فقد امتاز معاوية -رضي الله عنه- بالعقلية الفذة, فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب, فكان يستفيد مِن كل ما يمر به مِن الأحداث, ويعرف كيف يتوقاها, وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة منذ ولاه عمر -رضي الله عنه- الشام, فكانت ولايته على الشام عشرين سنة أميرًا, وعشرين سنه خليفة للمسلمين, هذه الفترة الطويلة التي تقلب فيها بيْن المناصب العسكرية والولاية، أكسبته خبرة في سياسة البلاد, والاستفادة مِن كل الظروف والأوضاع التي تمر بها, حتى استطاع أن يسير بالدولة عشرين سنة دون أن ينازعه منازع؛ لذا أثنى كثير مِن الصحابة وأهل العلم على معاوية وسياسته في الحكم. يقول الشيخ الخضري: "أما معاوية نفسه, فلم يكن أحد أوفر منه يدًا في السياسة, صانع رؤوس العرب, وكانت غايته في الحلم لا تدرك, وعصابته فيه لا تنزع، ومرقاته(3) فيه تزل عنها الأقدام(4), ومِن المعلوم أن السياسة الناجحة تتوقف على القدرة على ضبط النفس عند الغضب, واحتواء الشدائد حتى تنجلي, واستخدام الأساليب المتنوعة حسب الأحداث والمتغيرات، ولمعاوية في ذلك نصيب، وكانت تلك سياسته مع العامة والخاصة, قال عمر بن الخطاب: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية". ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه!". وفي رواية: "ما رأيتُ أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم"(5). ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلاً كان أخلق بالملك مِن معاوية"(6). وقال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: "وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين". ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة(7)، وقال: فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نُسبت أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل". وذكر ابن تيمية -رحمه الله- قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز -رحمه الله- فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه, قال لا والله في عدله"(8). وهكذا يجب أن يكون الحكام في كل موطن، وفي كل وقت، يتعاملون مع الواقع بما يتناسب معه، إذن لا بد مِن وجود قدرٍ مِن الحزم والقوة، وقدرٍ مِن اللين والحلم، وقدرٍ مِن الاستيعاب بحكمة. أما استعمال صفتي اللين والحلم مع الجميع بمختلف التوجهات؛ فهذا ربما يقابله البعض بالإجرام والتمادي في الظلم، وهذا حتمًا سيؤثر بالسلب على أمن العباد والبلاد، والله تعالى أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى للسمهودي (2/83). (2) العقد الفريد لابن عبد ربه (1/25). (3) مِرْقاة: جمع مَرَاقٍ: وهو موضع الرُّقِيّ والصُّعود أو أداته كالدَّرجة مِن درجات السُّلَّم. (4) الصلابي: تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص175 نقلاً عن الدولة الأموية للخضري، ص 377. (5) البداية والنهاية لابن كثير (11/ 430). وأسود أي: أحكم، والأسْوَدُ مِن الناس: أكثرهُم سيادة، انظر معجم المعاني. ورواه أبو بكر بن الخلال في السُّنة. (6) ابن كثير، المصدر السابق (11/ 439). (7) ابن تيمية، الفتاوى (4/ 478). (8) ابن تيمية، منهاج السُّنة (6/ 232)، (3/ 185).
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (16) موقعة الجمل "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا يَنطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- بوقوع الفتن، بل وحدد موطنها، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ، يَقُولُ: (أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) (متفق عليه). وقد حدث ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمِن العراق ظهر الخوارج، والشيعة، والروافض، والباطنية، وغيرهم، ومِن جهة الفرس خرجت القاديانية، والبهائية، وغيرها مِن الفرق! وكذا مِن جهة المشرق "مسيلمة الكذاب" و"الدجال". ومنذ أن مات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، والفتن لم تتوقف، وقد أخبر بذلك أيضًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبدأت الفتن تشتعل بموت أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. وها نحن نبيِّن الآن ما حدث بيْن الصحب الكرام بعد موت عثمان -رضي الله عنه-؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى ما حدث؟ وما هي النتائج التي ترتبت على هذه الأحداث؟ أولاً: بيعة علي -رضي الله عنه- وتوليه أمر الخلافة: بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب، أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-، والناس يلتمسون مَن يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه؛ فعن محمد ابن الحنفية قال: كنتُ مع علي بن أبي طالب وعثمان محصر، قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال: فقام علي -رحمه الله-، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفًا عليه فقال: خلَّ لا أم لك، قال: فأتى على الدار، وقد قٌتل الرجل -رحمه الله-، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه، فقالوا: إن هذا قد قُتل، ولا بد للناس مِن خليفة ولا نعلم أحدًا أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا. فقالوا: لا والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك. قال: فإن أبيتم عليَّ فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد؛ فبايعه الناس. وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد ابن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس مِن إمام، ولا نجد أحدًا أحق بها منك؛ أقدم مشاهد، ولا أقرب مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال علي: لا تفعلوا فإني لكم وزيرًا خير مني أميرًا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفيًا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين. فقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: لقد كرهتُ أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس، وكان فيهم طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، فأتوا عليًّا فقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، وتمت البيعة منهما، وهكذا تمتْ بيعة علي -رضي الله عنه- بالخلافة بطريقة الاختيار بعد خروج البغاة على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-. ثانيًا: اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- حول مسألة القِصاص مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-: بعد أن تمت البيعة لعلي -رضي الله عنه-، ذهب طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلبا منه أن يقيم القصاص على قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ فاعتذر أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-. ومِن هنا بدأ الخلاف: فلقد رأى علي -رضي الله عنه- بفهمه وفقهه واجتهاده ومراعاته للمصالح والمفاسد أن يٌؤجِّل إقامة القصاص على قتلة عثمان؛ لا سيما وأن مثل هذه الأمور يصعب فيها أولاً تحديد الجناة، وهذا يحتاج إلى تحقيقٍ واسع للتعرف على الجناة؛ لا سيما مع صعوبة التثبت في أوقات الفتن والفوضى، ثم إن ذلك يحتاج إلى قوة واستقرار في الدولة للقدرة على إقامة القصاص لو ثبتت شروطه. وهنا رفض طلحة والزبير -رضي الله عنهما- هذا الاجتهاد، وقررا الخروج إلى مكة حيث مقام أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعد أن أدت فريضة الحج، ثم استأذن طلحة والزبير عليًّا في العمرة؛ فأذن لهما، فلحقا بمكة، ثم أرسلت نائلة زوج عثمان -رضي الله عنه- قميصه الذي قُتِل فيه إلى معاوية بن أبي سفيان في بلاد الشام، ووضعت فيه أصابعها التي قٌطعت وهي تدافع عن زوجها أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-. ونود أن نؤكِّد على: أن الخلاف الذي نشأ بيْن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- مِن جهةٍ، وبيْن طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- مِن جهةٍ أخرى، ثم بعد ذلك بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- لم يكن سببه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين؛ فقد كان هذا محل إجماع بينهم. قال ابن حزم -رحمه الله-: "ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه- على البيعة، ورأى نفسه أحق بمطلب دم عثمان". وهكذا اعتذر علي -رضي الله عنه- عن أخذ الثأر، وقال: "إن قتلة عثمان لهم مدد وأعوان"، وقد تعصب لهم كثيرٌ مِن الناس وبلغ عددهم ما يقرب مِن عشرة آلاف، وهم متفرقون في المدينة والكوفة ومصر. ولما سمعت السيدة عائشة -رضي الله عنها- بموت عثمان في طريق عودتها مِن مكة إلى المدينة، رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر فتستَّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس إن الغوغاء مِن أهل الأمصار، وأهل المياه، خلجوا -تحركوا واضطربوا-، وبادروا بالعدوان؛ نبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لأصبع عثمان خير مِن طباق الأرض أمثالهم، فنجاة -أي اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم- مِن اجتماعكم عليهم حتى يَنْكل بهم غيرهم، ويشرَّد مَن بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا نخلُص منه كما يخلص الذهب مِن خبثه أو الثوب مِن درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء. وجاء في رواية: أن عائشة -رضي الله عنها- حين انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي -أمير مكة-، فقال لها: ما ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردي أن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر؛ فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام. وقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة ثناء عائشة -رضي الله عنها- على عثمان -رضي الله عنه-، ولعنها لمَن قتله في رواياتٍ متعددة. ثم قدِم طلحة والزبير -رضي الله عنهما- إلى مكة ولقيا عائشة -رضي الله عنها-، وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر مِن مقتل عثمان -رضي الله عنه- تقريبًا، أي في ربيع الآخر مِن عام 36هـ، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة -رضي الله عنها- للخروج، وقد كانت هناك ضغوط نفسية كبيرة على الذين وجدوا أنفسهم لم يفعلوا شيئًا لإيقاف عملية قتل الخليفة المظلوم، فقد اتهموا أنفسهم بأنهم خذلوا الخليفة، وأنه لا تكفير لذنبهم هذا -حسب قولهم- إلا الخروج للمطالبة بدمه، علمًا بأن عثمان -رضي الله عنه- هو الذي نهى كل مَن أراد أن يدافع عنه في حياته تضحية في سبيل الله! فعائشة -رضي الله عنها- تقول: إن عثمان -رضي الله عنه- قُتل مظلومًا، والله لأطالبن بدمه. وطلحة -رضي الله عنه- يقول: إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يُسفك دمي في طلب دمه! والزبير -رضي الله عنه- يقول: نُنهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يَبْطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا؛ إذا لم يُفطم الناس عن أمثالها لم يبقَ إمام إلا قتله هذا الضرب. وبعد أن دار حوار بينهم حول الجهة التي يتوجهون إليها، قال بعضهم: نتوجه إلى المدينة، ومِن هؤلاء عائشة -رضي الله عنها-، وظهر رأي آخر يطلب التوجُّه إلى الشام ليتجمعوا معًا ضد قتلة عثمان، وهناك مَن رأى الذهاب إلى الكوفة، وبعد نظرٍ طويل استقروا على البصرة؛ لأن المدينة فيها كثرة ولا يقدرون على مواجهتهم لقلتهم؛ ولأن الشام صار مضمونًا لوجود معاوية، ومِن ثَمَّ يكون دخولهم البصرة أولى؛ لأنها أقل البلدان قوة وسلطة، ويستطيعون مِن خلالها تحقيق خطتهم. وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبْل خروجهم أو أثناء طريقهم أو عند وصولهم إلى البصرة، وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ مِن حدود الله, وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ فسيكون كل إمام معرضًا للقتل مِن أمثال هؤلاء. وسمي يوم خروجهم مِن مكة نحو البصرة بـ"يوم النحيب"، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له مِن ذلك اليوم! فلما خرجتْ إلى البصرة، وبلغ ذلك عثمان بن حنيف، وهو والي البصرة مِن قِبَل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقالت: "إن الغوغاء مِن أهل الأمصار، ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا مِن قتل إمام المسلمين بلا تِرَة ولا عذر؛ فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجنود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين، غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون؛ فخرجتُ في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأتْ: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء:114)، فنهض في الإصلاح ممن أمر الله -عز وجل- وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروفٍ نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره". وقد كادت عائشة -رضي الله عنها- أن تعود وترجع أثناء سيرها في الطريق إلى البصرة، فعن قيس ابن حازم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأزواجه: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ؟) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وبالفعل مرت عائشة -رضي الله عنها- في الطريق على بعض مياه بني عامر ليلاً؛ فنبحت عليها الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: ماء الحوأب، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ؟)، فقال لها الزبير: أترجعين؟ عسى الله -عز وجل- أن يُصلح بك بيْن الناس. ولما أرسل عليٌّ القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- لعائشة -رضي الله عنها- ومَن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بيْن الناس. هذا وقد كانت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارًا مِن الفتنة، فلما بلغ الناس بمكة أن عثمان -رضي الله عنه- قد قُتل أقمن بمكة، وكن قد خرجن منها فرجعن إليها، وجعلن ينتظرن ما يصنع الناس ويتحسسن الأخبار، فلما بويع علي خرج عددٌ مِن الصحابة مِن المدينة كارهين المقام بها بسبب الغوغاء مِن أهل الأمصار، فاجتمع بمكة منهم خلق كثير مِن الصحابة وأمهات المؤمنين. وبقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة -رضي الله عنها- على السير إلى المدينة؛ فلما اتفق رأي عائشة -رضي الله عنها- ومَن معها مِن الصحابة على السير إلى البصرة، رجعن عن ذلك، وقلن: لا نسير إلى غير المدينة، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين -رضي الله عنها- قد وافقت عائشة -رضي الله عنها- على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله مِن ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس بصحبة عائشة -رضي الله عنها- في ألف فارس، وقيل تسعمائة فارس مِن أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فساروا في ثلاثة آلاف رجل. ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ المراجع: - فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، محمد غبان. - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش. - تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري. - البداية والنهاية لابن كثير. - أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للصلابي. - تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (18) موقعة الجمل "الأسباب والنتائج" زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق ما اتفق عليه الطرفان مِن أمر الصلح، وذكرنا الدور العظيم الذي قام به القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- في إقناع أهل الكوفة. دور السبئية في نشوب الحرب: كان في عسكر علي -رضي الله عنه- مِن أولئك الطغاة الذين قتلوا عثمان -رضي الله عنه- مَن لم يُعرف بعينه، ومَن تنتصر له قبيلته، ومَن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومَن في قلبه نفاق لم يتمكن مِن إظهاره, وحرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا مِن القصاص. فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا؛ خرج علي وخرج طلحة والزبير -رضي الله عنهم- فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرًا هو أمثل مِن الصلح وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع عليٌّ إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه؛ ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان -رضي الله عنه-؛ فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، لا يذكرون ولا ينوون إلا الصّلح. وبات الذين أثاروا الفتنة بشرِّ ليلة باتوها قط؛ إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرِّ، واستسروا بذلك خشية أن يُفتضح أمرهم، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم؛ وذلك حين طلب مِن الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشيء، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا مع علي؛ فعلى دمائنا، وتكلم عبد الله بن سبأ فقال: يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فانشبوا القتال؛ فاجتمعوا على هذا الرأي بإنشاب الحرب في السّر. وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، فنهضوا مِن قبْل طلوع الفجر وهم قريب مِن ألفي رجل؛ فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، وقتلوا مجموعة كبيرة مِن الفريقين، وصاحوا وصرخوا أن كلاً مِن الفريقين: البصرة والكوفة قد هجم على الآخر(1)، وفزع الناس مِن نومهم إلى سيوفهم، وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه مِن وجوب الصلح؛ فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس مِن منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ مِن أصحاب علي -رضي الله عنه-؛ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان(2)، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت مِن الأمر في ظلام الليل, وفي الجانب الآخر ينادي طلحة وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف! فراش نار، وذباب طمع! ومِن خلال هذا العرض يتبين أثر ابن سبأ وأعوانه في المعركة، ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على الإصلاح وجمع الكلمة، وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس، ونحن قد ذكرنا سابقًا خطورة النفاق والمنافقين على المجتمع المسلم. نشوب القتال بيْن الطرفين: زاد السبئيون في الجيشين مِن جهودهم في إنشاب القتال، وإغراء كل فريق بخصمه وتهييجه على قتاله، ونشبت المعركة عنيفة قاسية، وكانت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر مِن جمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين في منطقة "الزابوقة" قرب البصرة، وحزن عليٌّ -رضي الله عنه- لِما جرى، ونادى مناديه: كفوا عن القتال أيها الناس، ولم يسمع نداءه أحدٌ؛ فالكل كان مشغولاً بقتال خصمه(3). وكانت معركة الجمل على جولتين: الجولة الأولى كان قائدا جيش البصرة فيها طلحة والزبير، واستمرت مِن الفجر حتى قبيل الظهيرة, ونادى علي -رضي الله عنه- في جيشه، كما نادى طلحة والزبير -رضي الله عنهما- في جيشهما: لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تلحقوا خارجًا مِن المعركة تاركًا لها(4)، وقد كان الزبير -رضي الله عنه- أوصى ابنه عبد الله بقضاء دينه فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلومًا، وإن أكبر همي دَيْنِي!(5). وأثناء ذلك جاء رجل إلى الزبير -رضي الله عنه- وعرض عليه أن يقتل عليًّا -رضي الله عنه-، وذلك بأن يندس مع جيشه، ثم يفتك به، فأنكر عليه بشدة، وقال: لا؛ لا يفتك مؤمن بمؤمن، أو إن الإيمان قيَّد الفتك(6)، وهذا يدل على عدم عزمه على القتل، وقد تقابل أمير المؤمنين عليٌّ والزبير -رضي الله عنهما-، فكلمه عليٌّ و ذكَّره بحديث سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له -أي الزبير-: (يَا زُبَيْرُ, أَمَا وَاللهِ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ)(7)، وهنا قرر الزبير -رضي الله عنه- أن ينصرف، ويغادر أرض المعركة. وبعض الروايات ترجع السبب في انصراف الزبير -رضي الله عنه- قبيل المعركة لما علم بوجود عمار بن ياسر -رضي الله عنه- في الصف الآخر، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ)(8), وبعضها يرجع السبب في انصرافه إلى شكه في صحة موقفه مِن هذه الفتنة(9)، وفي رواية ترجع السبب في انصرافه إلى أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ذكره بالقرابة القوية مِن علي -رضي الله عنه-؛ إذ قال له: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب؟! فخرج الزبير مِن المعركة؛ فلقيه ابن جٌرمٌوز فقتله -كما سيأتي تفصيله بإذن الله-. فالزبير -رضي الله عنه- كان على وعي لهدفه "وهو الإصلاح"، ولكنه لما رأى حلول السلاح مكان الإصلاح رجع ولم يقاتل، وعلى إثر هذا الحديث انصرف الزبير وترك الساحة(10). وأما طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- القائد الثاني لجيش البصرة؛ فقد أصيب في بداية المعركة إذ جاءه سهم غرب لا يعرف مَن رماه، فأصابه إصابة مباشرة، ونزف دمه بغزاره فقالوا له: يا أبا محمد، إنك لجريح؛ فاذهب وادخل البيوت لتعالَج فيها، فقال طلحة لغلامه: احملني، وابحث لي عن مكان مناسب، فأدخل البصرة، ووضع في دار فيها ليعالج، ولكن جرحه ما زال ينزف حتى توفي في البيت، ثم دفن في البصرة -رضي الله عنه-(11), وأما الرواية التي تشير إلى تحريض الزبير وطلحة -رضي الله عنهما- على القتال، وأن الزبير -رضي الله عنه- لما رأى الهزيمة على أهل البصرة ترك المعركة ومضى؛ فهذه الرواية لا تصح(12)، وهذا يخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح؛ فكيف يستقيم هذا الفعل مِن الزبير -رضي الله عنه- مع الهدف الذي خرج مِن مكة إلى البصرة مِن أجله؛ ألا وهو الإصلاح بيْن الناس؟! وبالفعل فإن موقف الزبير -رضي الله عنه- كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة، وكذلك طلحة؛ فقد جاءا مِن أجل الإصلاح وليس مِن أجل إراقة الدماء! وهكذا خرج الزبير -رضي الله عنه- مِن ميدان المعركة، ومات طلحة -رضي الله عنه-، وأما عن مقتل طلحة -رضي الله عنه-؛ فقد كان عند بدء القتال كما صرَّح بذلك الأحنف بن قيس(13). وبسقوط القتلى والجرحى مِن الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى مِن معركة الجمل، وكانت الغلبة فيها لجيش علي -رضي الله عنه-، وكان علي -رضي الله عنه- يراقب سير المعركة، ويرى القتلى والجرحى في الجانبين؛ فيتألم ويحزن، وأقبل علي على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكي ويقول له: يا بُني، ليت أباك مات قبْل هذا اليوم بعشرين عامًا. فقال الحسن: يا أبتِ، لقد كنتُ نهيتك عن هذا، فقال علي: ما كنتُ أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يُرجى بعد هذا؟!(14). وصل الخبر إلى أم المؤمنين -رضي الله عنها- بما حدث مِن القتال، فخرجتْ على جملها تحيط بها القبائل الأزدية، ومعها كعب الذي دفعتْ إليه مصحفًا يدعو الناس إلى وقف الحرب؛ تقدمت أم المؤمنين -رضي الله عنها- وكلها أمل أن يسمع الناس كلامها لمكانتها في قلوب الناس؛ فتحجز بينهم وتطفئ هذه الفتنة التي بدأت تشتعل, وحمل كعب بن سور المصحف، وتقدم أمام جيش البصرة، ونادى جيش علي قائلاً: يا قوم، أنا كعب بن سور، قاضي البصرة، أدعوكم إلى كتاب الله، والعمل بما فيه، والصلح على أساسه. وخشي السبئيون في مقدمة جيش علي أن تنجح محاولة كعب فرشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فمات والمصحف في يده(15)، وأصابت سهام السبئيين ونبالهم جمل عائشة -رضي الله عنها- وهودجها، فصارت تنادي، وتقول: يا بني، الله، الله، اذكروا الله ويوم الحساب، وكفوا عن القتال. والسبئيون لا يستجيبون لها! وهم مستمرون في ضرب جيش البصرة! وكان علي -رضي الله عنه- مِن الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقدامًا وهجومًا وقتالاً، ولما رأت عائشة -رضي الله عنها- عدم استجابتهم لدعوتها، ومقتل كعب بن سور أمامها، قالت: أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وصارت عائشة تدعو على قتلة عثمان وتلعنهم، وضج أهل البصرة بالدعاء على قتلة عثمان وأشياعهم، ولعنهم، وسمع علي الدعاء عاليًا في جيش البصرة فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان، والناس يدعون معها. قال علي: ادعوا معي على قتلة عثمان وأشياعهم والعنوهم. وضجّ جيش علي بلعن قتل عثمان والدعاء عليهم(16), وقال علي: اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل(17). ثم اشتدت الحرب واشتعلت، وتشابك القوم وتشاجروا بالرماح، ثم استلوا السيوف فتضاربوا بها, ودنا الناس بعضهم مِن بعض(18), ووجَّه السبئيون جهودهم لعقر الجمل، وقتل عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ فسارع جيش البصرة لحماية عائشة -رضي الله عنها- وجملها، وقاتلوا أمام الجمل، وكان لا يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قُتِل، حيث كانت المعركة أمام الجمل في غاية الشدة والقوة، حتى أصبح الهودج كأنه قٌنفٌذ(19) مما رمي فيه مِن النبل(20), وقتل حول الجمل كثير مِن المسلمين مِن الأزد، وبني ضبة، وأبناء وفتيان قريش بعد أن أظهروا شجاعة منقطعة النظير(21), وقد أصيبت عائشة -رضي الله عنها- بحيرة شديدة وحرج؛ فهي لا تريد القتال، ولكنه وقع رغمًا عنها،، وصارت تنادي بالكف، فلا مجيب، وكان كل مَن أخذ بخطام الجمل قُتل؛ فجاء محمد بن طلحة "السجاد"(22)، وأخذ بخطامه وقال لأمه -أم المؤمنين-: يا أماه ما تأمرين؟ فقالت: كن كخيري ابني آدم، أي كف يدك، فأغمد سيفه بعد أن سله، فُقتل -رحمه الله-(23), وأما عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- فقد قاتل قتالاً شديدًا، ورمى بنفسه بيْن السيوف، فقد استخرج مِن بيْن القتلى وبه بضع وأربعون ضربة وطعنة، كان أشدها وآخرها ضربة الأشتر؛ إذ مِن حنقه على ابن الزبير لم يرضَ أن يضربه وهو جالس على فرسه، بل وقف في الركابين فضربه على رأسه ظانًا أنه قتله(24)، واستحر القتل أيضًا في بني عدى وبني ضبة والأزد، وقد أبدى بنو ضبة حماسة وشجاعة وفداء لأم المؤمنين -رضي الله عنها-، وكان علي -رضي الله عنه- يردد: اللهم ليس هذا أردتُ، اللهم ليس هذا أردتُ!(25). ثم فكر علي -رضي الله عنه- كيف يقف هذا القتال؟ وأيقن أن في بقاء الجمل استمرارًا للحرب، وهلاكًا للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين -رضي الله عنها- في الميدان، كما أن في بقائها خطرًا على حياتها؛ فالهودج الذي هي فيه أصبح كالقنفذ مِن السهام, فأمر علي نفرًا مِن جنده، منهم محمد بن أبي بكر "أخو أم المؤمنين" وعبد الله بن بديل أن يعرقبا(26) الجمل، ويخرجا عائشة -رضي الله عنها- مِن هودجها إلى الساحة، فعقروا الجمل, واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام علي، فأمر به علي، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل, وهنا بدأت الأمور تهدأ، وأخرجت أم المؤمنين مِن الميدان(27)، ولو لم يتخذ هذا الإجراء لاستمرت الحرب إلى أن يَفنى جيش البصرة أصحاب الجمل، أو ينهزم جيش علي -رضي الله عنه-. وعندما بدأت الهزيمة نادى علي أو مناديه في جيشه: أن لا يتبعوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يغنموا إلا ما حمل إلى الميدان أو المعسكر مِن عتاد أو سلاح فقط، وليس لهم ما وراء ذلك مِن شيء، ونهاهم أن يدخلوا الدور؛ ليس هذا فحسب، بل قال لمن حاربه مِن أهل البصرة: مَن وُجد له شيئًا مِن متاع عند أحدٍ مِن أصحابه؛ فله أن يسترده! وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وهكذا ظهر جليًّا أن القتال الذي وقع بيْن الصحب الكرام -رضي الله عنهم- وقع رغمًا عنهم. ونستكمل ما حدث بعد انتهاء المعركة في المقال القادم -بإذن الله تعالى-. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) محمد سهيل طقوش، تاريخ الخلفاء الراشدين، الفتوحات والإنجازات السياسية، ص440. (2) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص156. (3) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 540. (4) نفس المصدر ج5 ص544. (5) رواه ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)، المصنف في الأحاديث والآثار، المحقق: كمال يوسف الحوت، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة: الأولى: 1409، عدد الأجزاء: 7 ج7 ص541. (6) أخرجه أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416 هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 8 ج3 ص19، ومعنى الحديث أن الإيمان يمنع مِن الفتك الذي هو القتل بعد الأمان غدرًا كما يمنع القيد مِن التصرف، انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، "باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم". (7) أخرجه الحاكم وغيره، وقد اختلف العلماء في صحته، وقال الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة: "صحيح بمجموع طرقه"، وانظر: أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ) المطَالبُ العَاليَةُ بِزَوَائِدِ المسَانيد الثّمَانِيَةِ، الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: 1998م، عدد الأجزاء: 19 ج18 ص135. (8) أخرجه البخاري، الجامع المسند الصحيح، حديث رقم 447. (9) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 506، وانظر الصلابي: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ص 572. (10) محمد محمد حسن شٌراب، المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي، دار القلم: دمشق، الطبعة الأولى، 1415هـ، عدد الأجزاء 3 ج2 ص 324. (11) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 253. (12) الطبري، المصدر السابق ج5 ص540. (13) تاريخ خليفة بن خياط، أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني العصفري البصري (المتوفى:240هـ)، المحقق: د.أكرم ضياء العمري، الناشر: دار القلم مؤسسة الرسالة - دمشق، بيروت، الطبعة: الثانية، 1397هـ ص 185. (14) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 521. (15) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص253. (16) المصدر السابق ج7 ص 253. (17) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة،ج7 ص538. (18) الطبقات لابن سعد، ج5 ص2. (19) معنى تَقَنْفَذُ: تقبَّض. و(القُنْفُذ): دويْبَّة مِن الثَّدييات ذات شوك حادّ، يلتفُّ فيصير كالكرة، وبذلك يقي نفسه مِن خطر الاعتداء عليه. انظر المعجم الوسيط، ج2 ص760. (20) تاريخ خليفة بن خياط ص 190. (21) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 254. (22) هو محمد بن طلحة بن عبيد الله الملقب بالسجاد لعبادته، والده هو طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة. وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقُتِلَ شَابّاً يَوْمَ الجَمَلِ, لَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُوْهُ حَتَّى سَارَ مَعَهُ. وَأُمُّهُ: هِيَ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي، ج5 ص215. (23) التاريخ الأوسط للبخاري، هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256هـ)، المحقق: محمود إبراهيم زايد، الناشر: دار الوعي , مكتبة دار التراث - حلب , القاهرة، الطبعة الأولى 1397 هـ - 1977م، عدد الأجزاء: 2 ج1 ص185. (24) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة، ج7 ص 528، بسندٍ صححه ابن حجر في الفتح (13/ 57، 58). (25) المصدر السابق،ج7 ص541. (26) أي يضربا قوائم الجمل بالسيف. (27) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 540.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (30) مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في عهد يزيد بن معاوية كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تُمثِّل نقطة تحول في التاريخ؛ فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثَّرت حادثة مقتل الحسين -رضي الله عنه- على المجتمع الإسلامي بصفة عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفةٍ خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرونٍ طويلة، بل إلى يومنا هذا! وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين، وقد ألقينا الضوء على وجهة نظر كبار الصحابة والتابعين حول مسألة خروج الحسين -رضي الله عنه- ونصائحهم له بعدم الخروج إلى الكوفة، وذكرنا الدوافع التي كانت وراء خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن وجهة نظره. موقف يزيد مِن أحداث الكوفة: لم يغب عن يزيد تحركات الحسين -رضي الله عنه-، وخروجه مِن المدينة رافضًا البيعة، واستقراره بمكة وعلاقته مع الكوفيين، لكنه كان يريد العمل بوصية أبيه معاوية مع الحسين -رضي الله عنه- وهي الرفق به؛ لذا لم يحرِّك يزيد ساكنًا مع معرفته بما يحدث، لكنه لما تأكد مِن تصميم الحسين -رضي الله عنه- على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين، قائلًا: "ونحسب أن رجالًا أتوه مِن المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة". ثم كتب بهذه الأبيات إليه، وإلى مَن بمكة والمدينة مِن قريش: يا أيـهـا الـراكـب الــغـادي لـطـيـتـه على عُـذَافـرةِ فـي ســيــرها قـحــم أبلغ قريـشًا على نـأي الـمـزار بهـا بيني وبين حـسيـن الـلـه والـرحــم إلى أن قال: يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خـمدت وأمسكوا بـجـبال السلم واعتصموا لا تركبوا البغي إن البغي مـصرعه وإن شــارب كـأس الـبـغـي يـتـخـم فـقـد غـرّت الـحـرب مَن كان قبلـكم مِن القرون وقـد بـادت بـهـا الأمـم فـأنصـفـوا قـومكم لا تهلكوا بـذخــًا فــرب ذي بــذخ زلــت بــه الــقـدم "طيته: أي: حاجته. عذافرة: الناقة الشديدة العظيمة. قحم: أي سريعة تطوى المنازل وتقتحمها منزلة بعد منزلة" (البداية والنهاية). فكتب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتُطفى به الثائرة" (سير أعلام النبلاء للذهبي). وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعد ما أخذ الشيعة يلتفون حول مسلم بن عقيل ليبايعوا الحسين -رضي الله عنه-، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس، وقال: "اتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال". وقال: "إني لن أقتل مَن لم يقاتلني، ولن أثب على مَن لا يثب عليَّ، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون مَن يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل". ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله مِن ولاية الكوفة، وعين بدله عبيد الله بن زياد واليه على البصرة؛ وذلك لأن بعض المقربين مِن يزيد أخبروه أن النعمان يميل إلى السلم، وقد ظهر هذا في حديثه وخطبته، وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها، فلما نزل في القصر نودي: "الصلاة جامعة"؛ فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم، ووعد مَن أطاع منهم خيرًا، وتوعَّد مَن خالف وحاول الفتنة منهم شرًّا" (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وكان عبيد الله يتمتع بشخصية قوية، وقد بدأ بمراقبة وحصر الفئات المؤيدة لمسلم بن عقيل، والذين يؤمِّنون له السكن والمأوى والاجتماعات، وقد نجح عبيد الله بهذا في تحجيم تحركات مسلم بن عقيل، ونجح في ضبط الأمن في الكوفة، وبدأ الخوف يدب في قلوب بعض المؤيدين لابن عقيل، واستطاع عبيد الله أن يصل إلى مكان اختباء ابن عقيل (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وحرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وعلم بنزول مسلم بن عقيل في دار هانئ بن عروة (الأخبار الطوال للدينوري). واستطاع عبيد الله بحيلة أن يأتي بهانئ في قصر الإمارة، وواجهه بما يعرف؛ فأنكر هانئ في البداية، لكنه اعترف بعد ذلك؛ لأنه أيقن أن عبيد الله علم بكل شيء، ثم قام عبيد الله فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وسال منه الدم وأمر به فأدخل بيتًا وتم سجنه فيه (أنساب الأشراف للبلاذري). ولما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانئ بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حضروا أربعة آلاف رجل. وتقدَّم مسلم بهذه الجموع صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد مِن أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه في القصر، وكان قد جمعهم عنده، فطلب منهم أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفوهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون مِن العطاء، وسيساقون إلى الثغور، وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصورًا على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دور كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم؛ إضافة إلى الآباء وكبار السن، فقد كان لهم نفس الدور، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: "انصرف، الناس يكفونك"، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه، ويقول: "غدًا يأتيك أهل الشام" فما تصنع بالحرب والشر، انصرف. (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وأمام هذه الإجراءات السريعة مِن ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية مَن انضموا إلى مسلم بن عقيل؛ أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلًا، ثم حدثت معركة بيْن الطرفين لم تدم طويلاً، ولما أمسى المساء تفرَّق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيدًا في طرقات الكوفة (تاريخ الرسل والملوك للطبري). ثم أمر ابن زياد بقتل مسلم، واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانئ فأخرج إلى السوق وقُتل، وظل هانئ يصيح لقبيلته، ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانئ ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين مِن الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضًا! وكان مسلم بن عقيل يدعو عليهم عند قتله، ويقول: "اللهم احكم بيننا وبيْن قوم غرٌّونا وكذبونا، ثم خذلونا وقتلونا". موقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه- ومعركة كربلاء: خرج الحسين -رضي الله عنه- مِن مكة يوم التروية الموافق لثمان مِن ذي الحجة سنة ستين، وأدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف، فأرسل وفدًا إلى الحسين -رضي الله عنه-، وعلى رأسهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاص، فحاولوا أن يثنوه عن عزمه، ولكنه رفض فنادوه: "يا حسين، ألا تتقي الله؟! تخرج عن جماعة المسلمين وتفرِّق بيْن هذه الأمة"، فردَّ الحسين -رضي الله عنه- بقول الله -تعالى-: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:41)، فخرج الحسين -رضي الله عنه- متوجهًا إلى العراق في أهل بيته وستين شيخًا مِن أهل الكوفة (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وكتب مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد بن العاص إلى ابن زياد ينهيانه عن التعرض للحسين -رضي الله عنه-، وأن يكون حذرًا في تعامله مع الحسين -رضي الله عنه-؛ فهو الحسين ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا مِن الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك (الطبقات لابن سعد). وفي الطريق إلى الكوفة: قابل الحسين -رضي الله عنه- "الفرزدق" الشاعر المشهور بذات عرق -ذات عرق على مرحلتين مِن مكة، وهو ميقات أهل العراق، وهو الحد بيْن نجد وتهامة-، فسأله الحسين بن علي -رضي الله عنهما- عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحًا أكثر، وقال: "هذه كتبهم معي"، فرد عليه الفرزدق: "يخذلونك؛ فلا تذهب، فإنك تأتي قومًا، قلوبهم معك وأيديهم عليك" (البداية والنهاية لابن كثير). واستمر الحسين -رضي الله عنه- في مسيره إلى الكوفة، وهو لا يعلم شيئًا عن التغيرات التي حدثتْ، واتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بيْن أهل الكوفة وبيْن الحسين -رضي الله عنه-، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرَّق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم، ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تميم صاحب شرطته بأن يقبض على كل مَن ينكره، ثم أمر ابن زياد بمراقبة جميع الطرق ما بيْن مكة والشام والبصرة، وأرسل خيله إلى حدود الكوفة ومنافذها، ولم يترك أحدًا يدخل أو يخرج، وبهذا قطع الاتصالات بيْن الكوفة والحسين (البداية والنهاية لابن كثير). وكانت لتلك الإجراءات الأمنية الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين -رضي الله عنه-، فهم يرون أن مَن كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل، وعلى أبشع صورة فأصبح مَن يفكر في نصرة الحسين -رضي الله عنه- فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، ولما بلغ الحسين زبالة -زبالة: منزل معروف بطريق مكة مِن الكوفة بيْن واقصة والثعلبين-، وقيل: شراف -شراف: بيْن واقصة والقرعاء على ثمانية أميال مِن الإحساء-، جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين -رضي الله عنه-، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قُتلوا، وأهل الكوفة تخاذلوا في نصرته (تاريخ الرسل والملوك للطبري). ولما بلغ الحسين -رضي الله عنه- مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه؛ أعلم الحسين مَن معه بذلك، وقال: "مَن أحب أن ينصرف فلينصرف"؛ فتفرق الناس عنه يمينًا وشمالًا، وقال له بعض مَن ثبتوا معه: "ننشدك الله إلا ما رجعت مِن مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!". وهنا راجع الحسين أمره، وفكَّر في الوضع الراهن والواقع في الكوفة، وهمَّ أن يتراجع، وشاركه في رأيه ابنه الأكبر علي (الطبقات لابن سعد)، فوثب بنو عقيل إخوة مسلم، وقالوا: "والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم! ثم قال له بعض مِن حوله: إنك لست كمسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لأسرع الناس إليك" (تاريخ الرسل والملوك للطبري). فواصل الحسين -رضي الله عنه- سيره، وكان ابن زياد قد أمر الحرّ بن يزيد -وكان يقود ألف فارس- أن يعسكر في شراف، وأن يلازم الحسين عندما يدركه، ولا يأذن له بالانصراف حتى يدخله الكوفة، وقد أدرك الحرُّ بن يزيد الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه قريبًا مِن شراف، ولما طلب منه الحسين -رضي الله عنه- الرجوع منعه، وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقًا يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك مِن أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره. وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية، واتجه شمالًا على طريق الشام، وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة، ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين -رضي الله عنه- يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة (تاريخ الرسل والملوك). ولما وصل الحسين -رضي الله عنه- إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكونًا مِن أربعة آلاف مقاتل، ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، وبدأ الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيّن الحسين أنه لم يأتِ إلى الكوفة إلا بطلبٍ مِن أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، وأشار إلى حقيبتين كبيرتين تتضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين. وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه مِن الحسين، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألتُه عما أقدمه، وماذا يطلب؟ فقال: كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم"، فلما قرئ على ابن زياد تمثـَّل قول الشاعر: الآن إذا عـلـقــت مــخـالـبـنـا بــه يرجو النجاة ولات حين مـنـاص! ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأيْنا رأينَا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب مِن تعنت، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة (تاريخ الرسل والملوك للطبري). ورفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب مِن عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضًا آخر يتمثـّل في إجابته واحدة مِن ثلاث نقاط: أ- أن يتركوه فيرجع مِن حيث أتى. ب- وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام، فيضع يده في يد يزيد بن معاوية. جـ- وإما أن يسيّروه إلى أي ثغرٍ مِن ثغور المسلمين، فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم (تاريخ الرسل والملوك). وقد أكَّد الحسين -رضي الله عنه- موافقته للذهاب إلى يزيد، وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتابٍ أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة، وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد؛ لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالسًا في المجلس حين وصول الرسالة، فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيَّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب مِن الحسين أن ينزل على حكمه -أي ابن زياد- حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه. فلما وصل الخبر إلى الحسين -رضي الله عنه- رفض الطلب، وقال: "لا والله، لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدًا!"، وقال لأصحابه الذين معه: "أنتم في حلٍّ مِن طاعتي"، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته، والمقاتلة معه حتى الشهادة. (تاريخ الرسل والملوك). واتخذ ابن زياد إجراءً احترازيًّا حين خرج إلى النخيلة -النخيلة: تصغير نخلة، وهي موضع قرب الكوفة-، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحدًا يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص مِن الكوفة بدأوا يتسللون مِن الكوفة إلى الحسين (الطبقات لابن سعد)، وانضم الحر بن يزيد إلى الحسين ليكفر عن فعله، فهو الذي منع الحسين مِن الرجوع إلى المدينة، وانضم إليه أيضًا ثلاثون رجلًا مِن جيش عمر بن سعد. وفي صباح يوم الجمعة مِن شهر المحرم عام 61 هـ-680م نظـَّم الحسين -رضي الله عنه- أصحابه، وعزم على القتال، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا، وأربعون راجلًا،، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسين -رضي الله عنه- بحطبٍ وقصبٍ؛ فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم مِن خلفهم، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكونًا مِن أربعة آلاف مقاتل، وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وكانت المقاومة شديدة مِن قِبَل أصحاب الحسين -رضي الله عنه-، حيث إن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة (تاريخ الرسل والملوك). وكان الحسين -رضي الله عنه- في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه، ولما قٌتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله، وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين -رضي الله عنه- لم يبدِ شيئًا مِن الليونة، بل كان -رضي الله عنه- يقاتلهم بشجاعةٍ نادرة؛ عندئذٍ خشي شمر بن ذي الجوشن مِن انفلات زمام الأمور؛ فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويُقال: إن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رٌقاد الجنبي، ويقال: إن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي(1)، ولا تعارض بيْن الروايات؛ فهؤلاء جميعًا اشتركوا في قتل الحسين -رضي الله عنه- (الشيباني، مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية)، ولكن الثابت: أن سنان بن أنس هو مَن قتله (المعجم الكبير للطبراني). وكان قتله -رضي الله عنه- في محرم، في العاشر منه، سنة إحدى وستين، وقٌتل مع الحسين -رضي الله عنه- اثنان وسبعون رجلًا، وقتل مِن أصحاب عمر ثمان وثمانون رجلًا، وكان الذين قتلوا مع الحسين -رضي الله عنه- مِن آل أبي طالب، سبعة عشر شابًا، منهم خمسة مِن إخوته، وقٌتل مِن أولاده عبد الله وعلي الأكبر(2) (تاريخ الخلفاء للسيوطي)، وبعد انتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحدٌ بسوءٍ (الطبقات لابن سعد). وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه، ومَن كان معه الصبيان إلى ابن زياد، ولما وصل نساء الحسين وصبيانه أمر لهم بمنزلٍ في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة (أنساب الأشراف للبلاذري). وهناك روايات كثيرة تتحدث عن صفة مقتله وتأثر الكون كله بمقتله -رضي الله عنه-، وعن الذلة والمهانة التي تعرض لها أهله ونساؤه بعد مقتله، وهذا كله كذب وباطل لم يثبت(3). ونشير إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر فيما روي عنه أن الحسين -رضي الله عنه- سيٌقتل بشط الفرات، وهذه مِن معجزات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(4). وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ (1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (6/ 355). قلتُ: لقد قتل الحسين -رضي الله عنه- في يوم عاشوراء عام 61هـ، وقد قٌتل عبيد الله بن زياد المتحمل ا?ول لدم الحسين أيضًا في يوم عاشوراء عام 67هـ على يد إبراهيم بن ا?شتر الذي قطع رأس ابن زياد وأرسل بها إلى المختار الثقفي، وتم تتبع كل مَن شاركوا في قتل الحسين -رضي الله عنه-، وتم قتل معظمهم في الكوفة. (2) علي الأكبر غير عليّ زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله. ومِن أبناء أبناء الحسن، قُتل: عبد الله، والقاسم، وأبو بكر. ومِن أولاد عقيل قُتل: جعفر، وعبد الله، وعبد الرحمن. ومسلم بن عقيل قُتل بالكوفة، وعبد الله بن مسلم. ومِن أولاد عبد الله بن جعفر، قُتل: عون ومحمد. فقيل: قٌتل ثمانية عشر رجلًا كلهم مِن بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قتلوا في هذه المعركة. (تاريخ خليفة بن خياط ص234). (3) وليس صحيحًا كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيءٍ صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزلٍ في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقًا، وأمر لهن بنفقةٍ وكسوة. وقال ابن تيمية -رحمه الله- في رده على بعض كذابي الشيعة: "وأما ما ذكره مِن سبي نسائه، والدوران بهن على البلدان، وحملهن على الجمال بغير أقتاب؛ فهذا كذب وباطل، وما سبى المسلمون -ولله الحمدـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا". بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت؟ أو ماذا ركبت؟ وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: "لوددتُ والله أنه ليس مِن بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسينًا لم يُقتل!" فلا ينكر عليه عبيد الله قوله. وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبًا فاحشًا، مِن كون الشمس كُسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضًا، وأمطرت السماء دمًا أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبْل يومئذٍ، ونحو ذلك. وروى ابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دمًا، وأن الأرض أظلمتْ ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذٍ إلا احترق مِن مسه، ولم يرفع حجر مِن حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها مِن إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم! إلى غير ذلك مِن الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء" (البداية والنهاية 8/ 2019). (4) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُجَيٍّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- وَكَانَ صَاحِبَ مِطْهَرَتِهِ, فَلَمَّا حَاذَى نِينَوَى وَهو مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ, نَادَى عَلِيٌّ -رضي الله عنه- بِشَطِّ الْفُرَاتِ: اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ, اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ, ثُمَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ, فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَغْضَبَكَ أَحَدٌ؟ مَا شَأنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ فَقَالَ: (بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ, فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ, فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ, فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا, فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا) (رواه أحمد، وقال الألباني: هذا إسناد ضعيف، نجي والد عبد الله لا يدرى مَن هو، كما قال الذهبي، ولم يوثقه غير ابن حبان، وابنه أشهر منه، فمَن صحح هذا الإسناد فقد وهم. والحديث، قال الهيثمي (9/ 187): "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا. قال الألباني. يعني أن له شواهد تقويه، وهو كذلك). وعن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، قال وكيع: شك هو -يعني عبد الله بن سعيد- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لإحداهما: (لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ قَبْلَهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ مِنْ تُرْبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ) (رواه أحمد، وقال الألباني: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين).
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (47) ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81هـ كتبه/ زين العابدين كامل فقد ذكرنا في المقال السابق سبب ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وأهل العراق، وما حدث في معركة الزاوية، ونستعرض في هذا المقال أحداث معركة دير الجماجم -تقع دير الجماجم على سبعة فراسخ مِن الكوفة مِن طريق البصرة-. معركة دير الجماجم: لما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج وقالوا: "إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم"، فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلدٍ شاء مِن العراق ويكون واليًا، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال (تاريخ الرسل والملوك 7/ 245). ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له، ولا أوجع لقلبه مِن هذا الأمر، فلقد أحزنه وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان بعد كل ما قدَّمه له مِن خدماتٍ (العالم الإسلامي في العصر الأموي، لعبد الشافي محمد عبد اللطيف)، وكتب إليه يذكره بما حدث مِن أهل العراق مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلًا حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، وأخذ يعدد له بعض مواقف أهل العراق. ومما قاله له: "إن الحديد بالحديد يفلح، كان الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك"، فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، وبالفعل عرض عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان الأمر على أهل العراق، فقالوا: ننظر في أمرنا غدًا، ونرد عليكم الخبر عشية ثم انصرفوا، فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث فقام فيهم خطيبًا وندبهم إلى قبول ما عُرض عليهم مِن عزل الحجاج عنهم، وبيعة عبد الملك وإبقاء الأعطيات، وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج، ومما قاله لهم: "فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة"، فنفر الناس مِن كل جانب وقالوا: "لا والله لا نقبل ذلك، نحن أكثر عددًا، وهم في ضيقٍ مِن الحال وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا، والله لا نجيب إلى ذلك أبدًا!"، ثم جددوا خلع عبد الملك. وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص مِن الحجّاج، وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسُّنة، ولكن يبدو أن بعض القواعد الشرعية كانت غائبة عن كثيرٍ منهم، فلم يفكروا في مآلات الأمور ولم يحسنوا الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، لقد كان مِن الأولى أن يحافظ هؤلاء على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، إذن فلابد مِن مراعاة قاعدة: "تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما"، وقاعدة: "ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما"، وقاعدة: "اعتبار المآلات"، لكن مِن الواضح أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظاتٍ سيطرت فيها العاطفة الثورية ولم تكن نتيجة معرفة تامة بالواقع وموازين القوى الحقيقية. وهنا يُلاحظ: أن الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة، فلقد توحد هؤلاء وتجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها! ولا شك أن حلم التغيير يراود كثيرًا مِن المخلصين العاملين لدين الله -عز وجل-، ويتمنى هؤلاء تغيير الواقع المملوء بالظلم وانتشار المنكرات، ويتمنون لو أنهم حكموا شرع الله -عز وجل- في كل شؤون الحياة، ولكن يتحتم على الجميع أن يكونوا على درايةٍ كافيةٍ بمنهج التغيير الصحيح الموافق للضوابط الشرعية والقواعد التي ذكرناها آنفًا، ثم يتحتم على الحركات الإصلاحية أن تقوم بدراسةٍ عميقةٍ للتاريخ الإسلامي وما حوته صفحات التاريخ مِن أحداثٍ وثوراتٍ نجح بعضها وفشل البعض الآخر؛ فلابد مِن تحليل الأحداث التاريخية ودراسة أسباب النجاح والفشل، فلقد كانت هذه الثورة في وقتٍ مِن الأوقات هي أقوى، بل وأنجح الثورات في التاريخ الأموي، وكان بإمكان أصحابها أن يقوموا بتغيير الواقع الذي يعيشونه إلى واقعٍ أفضلٍ بكثير، ولكن في لحظةٍ معينةٍ أخطأ الثوار وأخطأ أيضًا قائدهم، فكانت النتيجة أن سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج، وقالا: "شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع" (تاريخ الرسل والملوك 7/ 246). وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء مِن أهل المصرين لقتال الحَجاج، وجاءت الحجاج أيضًا أمداده مِن قِبَل عبد الملك وخندق كل مِن الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقًا يمتنع به مِن الوصول إليهم، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالًا شديدًا في كل حين، واشتد القتال بيْن الفريقين واستمر القتال لعدة أشهر حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع مِن جمادى الآخرة سنة 83هـ (تاريخ الرسل والملوك 7/ 254). ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان مِن نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضًا، ثم ولى هاربًا إلى رتبيل في سجستان، ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل، فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَ ابن الأشعث بغدر رتبيل ألقى بنفسه مِن فوق القصر الذي كان فيه، فمات فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85هـ. وقيل: إن رتبيل أرسله مقيدًا إلى الحجاج فلما قرب ابن الأشعث مِن العراق، ألقى نفسه مِن قصر خراب أنزلوه فوقه فهلك. وقيل: إنه أٌصيب بمرض السٌل حتى مات فأرسل رتبيل رأسه إلى الحجاج، وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف مِن المسلمين (سير أعلام النبلاء).
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (48) أسباب مشاركة بعض العلماء وأهل الفضل في ثورة ابن الأشعث كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلقد شارك عددٌ كبيرٌ مِن أهل الفضل في ثورة ابن الأشعث، منهم العلماء، ومنهم القٌراء، ومنهم العٌباد والزٌهاد المشهورين بكثرة التعبد، ومنهم مَن كان يحرِّض على الحجاج، ولكنه لم يخرج مع ابن الأشعث ولم يبايعه، ويذكر خليفة بن خياط، أن عددهم بلغ خمسمائة عالم، ولعل هذا العدد يشمل العلماء والقراء وأهل الصلاح (تاريخ خليفة بن خياط)، فقد ذكر الذهبي أن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، الصحابي الجليل، قد كان ممَن يؤلب على الحجّاج ويدعو إلى الانضمام إلى ابن الأشعث (سير أعلام النبلاء). وذكر ابن كثير -رحمه الله-: أن الحجاج توهم أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- كان له مداخلة في الأمر (البداية والنهاية)، ومِن الذين شاركوا أبو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي -رحمه الله-، فقد شارك مع ابن الأشعث، وقيل: قتل يوم الزاوية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه الله-، كان مِن كبار المشاركين في تلك الحركة المحرضين على القتال فيها، وتوفي بوقعة الجماجم حيث اقتحم به فرسه الفرات فغرق -رحمه الله- (الطبقات لابن سعد)، وكذا الإمام الشعبي -رحمه الله- حيث قال: فلم أزل عنده -أي الحجّاج- بأحسن منزلة حتى كان شأن ابن الأشعث، فأتاني أهل الكوفة، فقالوا: "يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم" (سير أعلام النبلاء). ومنهم: سعيد بن جبير، ممَن شارك مع ابن الأشعث، وكان يحضض على القتال، ونجا مِن القتل وتوارى عن الحجّاج مدة، ولكن تمكن منه عندما قبض عليه والي مكة وأرسله إليه فقتله الحجّاج سنة 94هـ(1)، وقد كان لمشاركة العلماء في هذه الحركة -بهذا الحجم- أثر كبير على الحركة، كما كان للعلماء المشاركين أثر كبير في ميدان القتال، فكانت لهم كتيبة خاصة بهم تسمَّى كتيبة القراء، وقد لقي الحجّاج وجيشه عنتًا ومشقة مِن كتيبة القراء. هذا وقد انضم إلى ابن الأشعث طوائف كثيرة وفئات متنوعة، تحركها دوافع مختلفة، ولكن الدوافع التي حركت العلماء كانت دوافع شرعية بحسب ما وصل إليه اجتهادهم، وقد كان القاسم المشترك لكل هذه الدوافع شخصية الحجّاج، الظالمة الجائرة المتغطرسة، المتعطشة لسفك الدماء، ولذلك كان العلماء ينقمون على الحجّاج تعديه لأعظم الحدود في الإسلام وانتهاكه لحرماته، وتساهله في سفك الدماء، وكانوا ينقمون عليه سوء معاملته وظلمه للجميع بمَن فيهم العلماء (أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية، لعبد الله الخزعان). ولقد وصل الحجاج في إسرافه في القتل إلى أنه كان يقتل بأدنى شبهة، فقد روى أبو داود بسندٍ صحيحٍ عن عاصم قال: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ(2)، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ، لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا مِنْ بَابٍ آخَرَ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ رَبِيعَةَ بِمُضَرَ لَكَانَ ذَلِكَ لِي مِنَ اللَّهِ حَلَالًا!". وقال ابن كثير -رحمه الله- معلقًا على بعض تجاوزات الحجّاج -مما يبيِّن سبب استهانته بالقتل-: "فإن الحجّاج كان عثمانيًّا أمويًّا، يميل إليهم ميلًا عظيمًا، ويرى خلافهم كفرًا، ويستحل بذلك الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم"(البداية والنهاية لابن كثير). وقال في موضع آخر: "أعظم ما نقم عليه وصح مِن أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-" (البداية والنهاية لابن كثير). وقد أنكر العلماء على الحجّاج هذا الإسراف في القتل، فروي عن الإمام عبد الرحمن بن أبي نعم أنه قال للحجّاج: "لا تسرف في القتل إنه كان منصورًا". فقال الحجّاج: "والله لقد هممت أن أروي الأرض مِن دمك". فقال: إن مَن في بطنها أكثر ممَن في ظهرها" (حلية الأولياء). وكان جواب سعيد بن جبير -رحمه الله- للحجّاج عندما سأله عن رأيه فيه فقال: "نعم ظهر منك جور في حد الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله" (صفة الصفوة لابن الجوزي). ومِن تجاوزات الحجّاج: تطاوله على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسوء تعامله مع العلماء؛ فلقد تجاوز في معاملته مع ابن عمر، وابن الزبير وأسماء بنت الصديق -رضي الله عنهم جميعًا-. ومِن ذلك: تطاوله على عبد الله بن مسعود وهو متوفى -رضي الله عنه-، فعن الصلت بن دينار قال: سمعتُ الحجاج على منبر واسطٍ يقول: "عبد الله بن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لأسقيت الأرض مِن دمه!". قال: وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (ص:35)، قال: "والله إن كان سليمان لحسودًا!"، وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر: قبحه الله وأخزاه، وأبعده وأقصاه"(3). وقد رٌوي أن الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد -رضي الله عنه- يريد إذلاله فِي سنة أربع وسبعين، فقال: "ما منعك مِن نصر أمير المؤمنين عُثْمَان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فخٌتم(4) فِي عنقه"، وخٌتم أيضًا فِي عنق أنس حتى ورد كتاب عَبد المَلِك فيه(5)، وخٌتم فِي يد جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-؛ لأنه لم يمد يده إليه في السلام، فكان يريد إذلالهم بذلك، وأن يجتنبهم الناس ولا يسمعوا منهم(6)؛ هذا فضلًا عن تأخيره للصلاة عن وقتها، ومع تأخيره الصلاة فهو لا يقبل تنبيه أحد مِن العلماء أو إبداء النصح له في ذلك، وهذا مأخذ آخر أخذه العلماء على الحجّاج وهو عدم قبوله لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! وبهذا يتضح: لماذا شارك بعض العلماء والفقهاء والقراء في ثورة ابن الأشعث؟! وإن كان بداية الفتنة سببها الخلاف الذي حدث بيْن الحجاج وابن الأشعث حول التوغل في بلاد الترك؛ إلا أن ظلم الحجاج وبغيه هو الأصل الذى تحركت الجماهير مِن أجله. معارضة بعض العلماء لثورة ابن الأشعث: هناك طائفة أخرى مِن العلماء عارضوا الثورة واعتزلوها، ولم يروا المشاركة فيها، ومِن أبرز هؤلاء: أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي، وأبو قلابة الجرمي، فلم يشارك، وكان يعتب على غيره ممَن شارك، ومنهم: إبراهيم النخعي، فلم يشارك وكان يعيب على سعيد بن جبير مشاركته فيها، وقد قيل له: أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي. قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ مَن لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله"، وممَن لم يشارك في حركة ابن الأشعث أيوب السختياني، ومنهم: طلق بن حبيب، فكان معتزلاً الفتنة وكان يقول: "اتقوها بالتقوى"، ومنهم: مطرف بن عبد الله الشخير فقد امتنع عن المشاركة في هذه الفتنة، وحين جاءه ناس يدعونه للمشاركة امتنع، فلما أكثروا عليه قال: "أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهادًا في سبيل الله؟ قالوا: لا. قال: فإني لا أخاطر بيْن هلكة أقع فيها وبيْن فضل أصيبه"، ومنهم مجاهد بن جبر -ويقال: ابن جبير-، فإنه لم يشارك، وحين دعي للمشاركة قال لمَن دعاه: "عٌده بابًا مِن أبواب الخير تخلفتُ عنه"، ومنهم: خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ومحمد بن سيرين، ويٌعد الحسن البصري واحدًا مِن العلماء الثقات الذين عايشوا هذه الفتنة، لكنه كان يدعو إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، وينهي عن الإثارة والفرقة، ويدعو إلى السمع والطاعة للولاة، وكان يرى وجوب الموازنة بيْن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووحدة الجماعة. ولقد عاصر الحسن البصري معظم فترات الحكم الأموي، وتأثر بالواقع السياسي في هذه الفترة، فأصبح يمثِّل مدرسة سياسية في عصره؛ فهو يرى أن حكم بني أمية فيه ظلم وجور، ولكنهم في نفس الوقت يملكون القوة العسكرية، وموازين القوى في صالحهم، كما أن الفئة الراغبة في التغيير والشاكية من الظلم، ينقصها التنظيم والإعداد والقوة والصبر، ويرى أن الذين يحملون راية الخروج على حكم بني أمية إما مخلص لدينه، ولكنه لا يصلح للحكم ولا يقدر على إحداث التغيير، وإما رجال يستخدمون الدين والدعوة للتغيير لأغراضٍ دنيوية، منها حبهم للسلطة والحكم، فليسوا بأحسن حال مِن الأمويين، وكان إذا قيل له: "ألا تخرج فتغير؟! فكان يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف". ومِن أقواله: "يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع"، وقدم عليه جماعة مِن العلماء يناقشونه في الخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ولكنه رفض الخروج وقال: "أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة مِن الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم"، ولكنهم لم يسمعوا كلامه ولم يأخذوا برأيه فخرجوا مع ابن الأشعث، فقتلوا جميعًا (سير أعلام النبلاء). وهكذا اجتهد العلماء في الخروج، فمنهم مَن أصاب، ومنهم مَن اخطأ، وقد ترتب على فشل ثورة ابن الأشعث ازدياد ظلم الحجاج وبطشه(7). ومِن اللافت للنظر: أن العلماء الذين عاصروا هذه الفتنة وقد اختلفوا في حكم المشاركة فيها، لم يطعن بعضهم في بعضٍ أو يخوِّن بعضهم بعضًا؛ وذلك لأنهم رغم اختلافهم إلا انهم يعلمون أن مسألة المشاركة هذه، مِن مسائل الاجتهاد، فهي مسألة اجتهادية ليس فيها مخالفة للنصوص أو الإجماع أو القياس الجلي، فالعلماء لا تحرِّكهم العواطف، ولكن تحرِّكهم الضوابط الشرعية، فما أحوجنا أن نسير على درب السلف؛ لاسيما في أوقات الفتن. والله المستعان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ (1) لما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة، فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة، فبعث به إلى الحجاج، فعن عمر بن سعيد قال: "دعا سعيد بن جبير حين دعي ليقتل فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة". وعن الحسن قال: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: "أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير. قال: بل أنت الشقي ابن كسير قال: كانت أمي أعرف باسمي منك. فقال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك نارًا تلظى! قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهًا غيرك، قال: ما تقول في محمدٍ؟ قال: تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم. قال: سيد ولد آدم، المصطفى، خير مَن بقي وخير مَن مضى. قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مضى حميدًا وعاش سعيدًا، ومضى على منهاج نبيه -صلى الله عليه وسلم- لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميدًا على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلمًا، المجهز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنتيه، زوَّجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحيٍ مِن السماء. قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأول مَن أسلم، وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين. قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بث بعلمك. قال: إذاً نسوءك ولا نسرك. قال: بث بعلمك. قال أعفني. قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك. قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، ترى مِن نفسك أمورًا تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك، وسترد غدًا فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدًا قبلك ولا أقتلها أحدًا بعدك. قال: إذًا تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك. قال: يا غلام السيف والنطع. فلما ولى ضحك. قال: قد بلغني أنك تضحك. قال: قد كان ذلك. قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: مِن جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك. قال: يا غلام اقتله. فاستقبل القبلة فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79)، فصرف وجهه عن القبلة فقال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة:115)، قال: اضرب به الأرض. قال: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55)، قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم، فذٌبح مِن قفاه. فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: "اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج"، فما بقي إلا ثلاثًا حتى وقع في جوفه الدود فمات. وعن خلف بن خليفة عن أبيه، قال: "شهدتُ مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قالها الثالثة فلم يتمها"، وعاش بعده خمسة عشر يومًا. وفي رواية: ثلاثة أيام. وكان يقول: "ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي!"، وعن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه. وفى رواية: "فكان الحجاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه، ويقول: يا عدو الله فيمَ قتلتني؟ فيقول الحجاج: ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد بن جبير؟ وكان مقتل سعيد بن جبير عام 94هـ" (صفة الصفوة لابن الجوزي، والبداية والنهاية). (2) يعني: اسمعوا وأطيعوا بدون استثناء، ومعلوم أن السمع والطاعة لولاة الأمور فيها استثناء، وليستْ على إطلاقها، بل ذلك في حدود طاعة الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، فيسمع له ويطاع في حدود طاعة الله ورسوله، وليس على الإطلاق (انظر: شرح سنن أبى داود لعبد المحسن البدر). (3) قال ابن كثير -رحمه الله-: "كان ناصبيًّا يبغض عليًّا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارًا عنيدًا، مقدامًا على سفك الدماء بأدنى شبهة .وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوعٍ مِن زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدًّا لوجوه، وربما حرَّفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات، وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء مِن التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعًا في سفك الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها ." وقال أيضًا: "وأعظم ما نُقم عليه وصح مِن أفعاله: سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-، وقد كان حريصًا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرًا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمائة درهم، وكانت فيه شهامة عظيمة، وقد ذهب جماعة مِن الأئمة إلى كفره -وإن كان أكثر العلماء لم يروا كفره-، وكان بعض الصحابة: كأنس وابن عمر يصلون خلفه، ولو كانوا يرونه كافراً لم يصلوا خلفه، فعن قتادة قال: "قيل لسعيد بن جبير: خرجتَ على الحجاج؟ قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر". وقال الأعمش: "اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدًا، فقال: تسألون عن الشيخ الكافر". وقال الشعبي: "الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم". وقال القاسم بن مخيمرة: "كان الحجاج ينقض عرى الإسلام". وعن عاصم بن أبي النجود قال: "ما بقيتْ لله -تعالى- حرمة إلا وقد انتهكها الحجاج!" (البداية والنهاية). قلتُ: والذي يظهر مِن كلام ابن كثير -رحمه الله- أن مَن كفَّروا الحجاج، كفروه بسبب بعض أقواله الشنيعة التي يكفر قائلها، وليس بسبب سفكه للدماء، والله أعلم. (4) وهذا الختم جاء في بعض الروايات أنه عبارة عن خيط فيه رصاص، انظر كتاب "المحن" لأبي العرب التميمي (ص 334)، ويحتمل أن يكون المراد به هو "الوسم"، والوسم في اللغة: هو الكي بحديدة تترك أثر علامة أو كتابة على مكان الكيّ. (5) قال حنبل بن إسحاق: ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد، قال: "كنتُ في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك، فقال الحجاج: هي يا خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضـب. قال: يقول أنس: إياي يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله سمعك"، قال: فاسترجع أنس، وشغل الحجاج، فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: "لولا أني ذكرت ولدي -وفي رواية: لولا أني ذكرت أولادي الصغار- وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يتسخفني بعده أبدًا". وقد ذكر أبو بكر بن عياش: "أن أنسًا بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا مَن خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله عشر سنين". فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابًا فيه كلام جد، وفيه: "إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضّاه، وقبِّل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه". فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همَّ أن ينهض إليه فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة (البداية والنهاية). (6) انظر (تهذيب الكمال في أسماء الرجال)، لكن هذه الروايات لا يمكن الجزم بصحتها، فأكثر كتب التاريخ تنقلها عن الواقدي، والواقدي وإن كان يُستأنس به في الروايات التاريخية إلا أنه ليس بثقة؛ فروايته ليست بحجة.ٍ قال الذهبي -رحمه الله-: "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره مِن غير احتجاج، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجةٍ، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله" (انتهى مِن سير أعلم النبلاء)، ولكن لا يٌستبعد حصولها؛ لأنها لا تتعارض مع ما اشتهر عن الحجاج مِن الجرأة على الدماء، وظلمه وبغيه، وعدم احترامه وتوقيره للعلماء. (7) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة: "وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم، فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا، والله -تعالى- لا يأمر بأمرٍ لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك مِن أولياء الله المتقين ومِن أهل الجنة، فليسوا أفضل مِن على وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يُحمد ما فعلوه مِن القتال، وهم أعظم قدْرًا عند الله وأحسن نية مِن غيرهم". وعن أبي الحارث قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ، وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: "يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الدِّمَاءَ، الدِّمَاءَ، لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ، قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ، أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى هَذَا، وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ" (السنة الخلال). وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "فَالصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ أَولَى مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي مُنَازَعَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالَ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ وَإِرَاقَةَ الدِّمَاءِ، وَانْطِلَاقَ أَيْدِي الدَّهْمَاءِ، وَتَبْيِيتَ الْغَارَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الجائر، وروى عبد الرحمن بن هدي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قال: قال ابن عُمَرَ حِينَ بُويِعَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: إِنْ كَانَ خَيْرٌ رَضِينَا، وَإِنْ كَانَ بَلَاءٌ صَبَرْنَا". إذن، فإن مسألة خلع السلطان تدور حول اعتبار المصالح والمفاسد؛ فلابد مِن النظر في مثل هذه الأمور إلى عدة مسائل، منها: أمر المصلحة والمفسدة، ومنها: أمر القدرة والعجز، ومنها: اعتبار الضرر الخاص والضرر المتعدي، فلو وجد منكر فلا يجوز إزالته بمنكر أعظم؛ وذلك لأن المقصود إزالة منكرات الشرع كلها، والله -عز وجل- لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، فإذا ترتب على إنكار منكر فساد أعظم كان ذلك مما لا يحبه الله -عز وجل-، والموازنة بيْن المصالح والمفاسد إنما تكون بميزان الشريعة، ولا شك أن سفك الدماء المعصومة مع بقاء المنكرات كما هي فيه عدم تقدير للمصالح والمفاسد، والقدرة والعجز. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ". ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذى حلَّ بآخر خلفاء عصر بنى أمية، ولما حل الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامت بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية، ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية. وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكليةٍ فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ، فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء! لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وهذا الترجيح هو مِن مسائل الاجتهاد. والله أعلم.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (50) ثورة زيد بن علي بن الحسين عام 122هـ كتبه/ زين العابدين كامل فقد استقرت الأوضاع السياسية في أرض الحجاز إلى حدٍّ بعيدٍ بعد مقتل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- عام 73هـ - 693م، ومِن حينها استقر الأمر بعدها لعبد الملك بن مروان، وسيطر على أرض الحجاز دون أي توتراتٍ سياسيةٍ، وظل الأمر كذلك إلى أن ظهرت حركة معارضة جديدة يقودها زيد بن علي بن الحسين -رحمه الله-. ولقد نشأ زيد -رحمه الله- بالمدينة، وكانت منارة العلم بما كان فيها مِن الصحابة والتابعين، فحفظ القرآن وتعلم العلوم الشرعية، وقد ساهمت أسباب عديدة في خروجه على هشام بن عبد الملك. ومِن هذه الأسباب: تأثره بما حدث لأهل بيته مِن تقتيل وتشريد، وقتل جده الحسين بن علي -رضي الله عنه-، وتعرضه هو أيضا لبعض الإهانات مِن بعض ولاة هشام بن عبد الملك، بل ومِن هشام نفسه، وتغير حكم الشورى إلى حكم الملك العضوض مع مجيء الأمويين، ثم شعوره بالمظالم الواقعة على الناس، وللمنكرات التي انتشرتْ في زمانه، وقد حدثت عدة اتصالات بيْن أهل الكوفة وزيد بن علي عام 121هـ - 740م. قدم زيد الكوفة وأقام بها مستخفيًا ينتقل في المنازل، وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة منهم وكانت بيعته: "إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وردّ المظالم، ونصْر أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ قالوا: نعم"، فبايعه خمسة عشر ألفًا. وقيل: أربعون ألفًا، فأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل مَن يريد أن يفي له ويخرج معه ويستعدّ ويتهيّأ، فشاع أمره في الناس (الكامل في التاريخ لابن الأثير). وقد اعترض بعض الناس على خروج زيد، منهم: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقد كتب كتابًا إلى زيدٍ جاء فيه: "أما بعد، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ نَفْخُ الْعَلَانِيَةِ، خَوَرُ السَّرِيرَةِ، هَرَجٌ فِي الرَّخَاءِ، جَزَعٌ فِي اللِّقَاءِ، تَقَدَمُهُمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَا تُشَايِعُهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَلَقَدْ تَوَاتَرَتْ إِلَيَّ كُتُبُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ، فَصَمَمْتُ عَنْ نِدَائِهِمْ، وَأَلْبَسْتُ قَلْبِي غِشَاءً عَنْ ذِكْرِهِمْ يَأْسًا مِنْهُمْ وَاطِّرَاحًا لَهُمْ، وَمَا لَهُمْ مَثَلٌ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خِرْتُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى مَشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ!" (الكامل في التاريخ لابن الأثير). وجاء داود بن علي ناصحًا لزيدٍ، قال: "يا بن عمّ، إن هؤلاء يغرّونك مِن نفسك، أليس قد خذلوا مَن كان أعز عليهم منك جّدك علي بن أبي طالب حتى قتل؟ والحسن مِن بعده بايعوه ثّم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أوَليس قد أخرجوا جّدك الحسين وحلفوا له وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ فلا ترجع معهم". وجاء كذلك سلمة بن كُهَيْل فذكر لزيدٍ قرابته مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقّه فأحسن، ثم قال له: "ننشدك الله كم بايعك؟ قال: أربعون ألفًا. قال: فكم بايع جَدَّك؟ قال: ثمانون ألفًا. قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جَدّك؟ قال: جدّي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يَفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجّدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم" (الكامل في التاريخ لابن الأثير). واستمر زيد في حشد الأنصار، وكانت الأجهزة الأمنية الأموية تتابع الأحداث ومجريات الأمور، وفي المقابل: اشترك عددٌ مِن أهل الفضل في ثورة زيد. وقيل: "إن أبا حنيفة -رحمه الله- كان يحرِّض على الخروج"، فعن عبد الله بن مالك بن سليمان، قال: "أرسل زيد إليه يدعوه إلى البيعة، فقال: لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه؛ لأنه إمام حق، ولكني أعينه بمالي فبعث إليه بعشرة آلاف درهم"، وقال للرسول: "أبسط عذري عنده". وفي رواية: "اعتذر إليه بمرض يعتريه"، ولا منع مِن الجمع، وسُئل عن خروجه فقال: "ضاهى خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر. فقيل له: لمَ تخلفت؟! قال: حبسني عنه ودائع الناس عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن أموت مجهلًا"، وكان كلما ذكر خروجه بكى (الجواهر المضية في طبقات الحنفية). وكذا منصور بن المعتمر، فقد ورد أنه كان يحرِّض على الخروج مع زيد، فعن عقبة بن إسحاق قال: "كان منصور بن المعتمر يأتي زبيد بن الحارث، فكان يذكر له أهل البيت ويعصر عينيه يريده على الخروج أيام زيد بن علي" (سير أعلام النبلاء). الشيعة الروافض ينشقون عن زيدٍ ويغدرون به: ولما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وأخذ مَن كان يريد الوفاء له بالبيعة يتجهزّ، وصل الأمر إلى والي العراق يوسف بن عمر، فاستنفر أجهزة الدولة للقضاء على زيدٍ، وعندما خرج زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبد الملك، فأظهر بعض مَن كان في جيشه مِن الشيعة الطعن على أبي بكر وعمر فمنعهم مِن ذلك، وأنكر عليهم فرفضوه، فسموا بالرافضة وسميت الطائفة الباقية معه بالزيدية. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن أول ما عُرف لفظ الرافضة في الإسلام عند خروج زيدٍ بن علي في أوائل المئة الثانية، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما فرفضه قوم فسموا رافضة. ومِن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى: "رافضة"، و"زيدية"؛ فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فترحم عليهما رفضه قوم فقال لهم: "رفضتموني؟!"، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي مَن لم يرفضه مِن الشيعة زيديًّا؛ لانتسابهم له" (مجموع الفتاوى لابن تيمية). هذه هي عقيدة زيد بن علي في الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأنه لا يمكن أن يشذَّ عن المنهج الذي كان عليه والده زين العابدين علي بن الحسين، ومِن قبْله والده ثم جدّه علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في حبهم الصادق لأبي بكر وعمر وعثمان والصحابة جميعًا. مقتل زيد بن علي -رحمه الله-: ثم إن زيدًا -رحمه الله- عزم على الخروج بمَن بقي معه مِن أصحابه، فواعدهم ليلة الأربعاء مِن مستهل صفر مِن هذه السَّنة، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء، قبْل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه النيران، وجعلوا ينادون: "يا منصور، يا منصور"، فلما طلع الفجر وقد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلًا، فجعل زيد يقول: "سبحان الله! أين الناس؟ فقيل: هم في المسجد محصورون". وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضًا في طائفةٍ كبيرةٍ مِن الناس، والتقى الطرفان وانتصر زيد في بداية الأمر، وكلما لقي طائفة هزمهم، وجعل أصحابه ينادون: "يا أهل الكوفة، اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا"، ثم لما أمسوا انضم إليه جماعة مِن أهل الكوفة، وقد قٌتل بعض أصحابه في أول يوم، فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة مِن أهل الشام، فقتل منهم سبعين رجلًا، وانصرفوا عنه بشر حال، ثم عبأ يوسف بن عمر جيشه جدًّا، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة -موضع بالبصرة-، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا جدًّا، حتى كان جنح الليل رٌمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، وأٌدخل زيد في دارٍ، وجيء بطبيبٍ فانتزع ذلك السهم مِن جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات مِن ساعته -رحمه الله-. (البداية والنهاية لابن كثير)، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش؛ خوفًا مِن أن يمثِّل الوالي الأموي بجثته، ولكن تم الوصول إلى قبره فنبشوا قبره وصٌلب جثمانه، وأرسل يوسف برأسه إلى هشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، ولما وصل رأس زيد إلى هشامٍ استاء مِن قتله وكان لا يحب القتل (الدولة الأموية ليوسف العش). وبعد مقتل زيد توجه ابنه يحيى إلى خراسان، فأقام بها مدة إلى حين وفاة هشام بن عبد الملك، وولاية الوليد بن يزيد فخرج، وسرعان ما قٌتل أيضًا، ويرى الذهبي أن يحيى قٌتل بخراسان في عهد هشام (سير أعلام النبلاء)، وقال الليث بن سعد: "قٌتل يحيى سنة 125هـ - 743م، وقد تأثر هشام لمقتل زيد ويحيى ودخله مِن مقتلهما أمر شديد حتى قال: "وددت لو كنتُ افتديتهما"، وهكذا انتهت ثورة زيد بن علي سريعًا كما بدأت سريعًا. أثر مقتل زيد على الدولة الأموية: كان لثورة زيد بن علي تأثير مهم في سير الأحداث التي وقعتْ في العصر الأموي، وتمخضت عنها نتائج بعيدة المدى، وكان فشلها بمثابة الدافع لحركاتٍ أخرى حذت حذوها، فقد هرب يحيى بن زيدٍ إلى خراسان، وأعلن الثورة على الأمويين هناك، ومع أن يحيى فشل في القضاء على الحكم الأموي كما فشل أبوه مِن قبْل إلا أن هاتين الثورتين مهدتا بصورةٍ غير مباشرة الطريق للقضاء على الدولة الأموية، واستغل العباسيون العطف الذي لقيه يحيى بن زيد في خراسان لكسب الأتباع والأنصار لهم، وحين قٌتل يحيى بن زيد ظل أهل خراسان يبكون بالليل والنهار (ثورة زيد بن علي لناجي حسن، والدولة الأموية للصلابي). وبعد وفاة هشام بن عبد الملك عام 125هـ - 743م دبَّ الوهن والصراع داخل البيت الأموي نفسه، وكثر النزاع على العرش وولاية العهد، واتجهت الدولة نحو التصدع والانهيار، وبرز هذا التصدع منذ ولاية الوليد بن يزيد عام 125هـ، ثم يزيد بن الوليد بن عبد الملك عام 126هـ - 744م، ثم إبراهيم بن الوليد عام 126هـ - 744م، ثم مروان بن محمد عام 127هـ - 745م وعلى يديه سقطت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية عام 132هـ - 750م، وذلك بعد أكثر مِن تسعين عامًا حفلت بالفتوحات والأحداث الجسام. ولقد أدت تلك الثورات الكثيرة إلى تصدع البيت الأموي وسقوط الدولة الأموية، وبذلك غربت شمس الأمويين التي سطعتْ على بلاد المسلمين أكثر مِن تسعين عامًا، حفلت بالفتوحات والأمجاد، وبرزت فيها الثورات، وأصبحت أعمالهم تاريخًا يقرأ وصفحات تطوى، وذكريات تحكى، ودروس وعظات، فسبحان مَن بيده الملك يؤتيه مَن يشاء، وينزعه ممَن يشاء، وهو على كل شيء قدير. وهكذا التاريخ يعلمنا: أن التغيير له أصول وضوابط، فلابد مِن دراسة الواقع دراسة متأنية، ودراسة موازين القوى، والقدرة والعجز، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، فاحذروا مِن التهور والتسرع، واعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولا شك أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وتاريخنا الإسلامي تاريخ مشرق في جملته، يمتلئ بالصفحات المشرقة رغم ما فيه مِن بعض الأحداث المؤلمة كبعض الأحداث التي وقعتْ في القرن الأول، فليس هناك أمة على وجه الأرض سار تاريخها على منوالٍ واحدٍ مِن الانتصارات والفتوحات والازدهار والحضارات المشرقة، فلكل أمة كبوة في فترةٍ مِن الزمن طالت أو قصرت. إننا بحاجةٍ إلى إعادة صياغة التاريخ الإسلامي؛ لنبيِّن حسنات هذه الأمة ومظاهر حضارتها، ونعيد فتح صفحات أمجادها بعد أن قام البعض بتشويه تاريخ أمتنا؛ وذلك عن طريق دس الأكاذيب والضلالات والأخبار الموضوعة في بعض كتب التاريخ؛ مما أدى إلى تشويهه، فإن هذه الفترة التاريخية التي تناولتها في هذه السلسلة هي مِن أكثر الفترات التي تعرضت للتشويه وطمس الحقائق. وإن الناظر والمتأمل في الأحداث بعين العدل والإنصاف يعلم علم اليقين أن مسألة الحٌكم مِن أشد الأمور تعقيدًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في نهاية عصر أمير المؤمنين عثمان، وفي مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-. قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ، فللبيئة مِن التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية: أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع، والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، وتقدير مواطن القوة والضعف، ولابد مِن مراعاة المصالح العليا للعباد والبلاد، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ثم إن الواجب علينا في الفتنة بيْن الصحابة هو الإمساك عما شجر بيْن الصحابة إلا فيما يليق بهم -رضي الله عنهم-؛ لما يسببه الخوض في ذلك مِن توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين، ويجب على كل مسلمٍ أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم، ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم، وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهادٍ، والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده، وأن القاتل والمقتول مِن الصحابة في الجنة. وقد سئل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عن القتال الذي حدث بيْن الصحابة، فقال: "تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أحب أن أخضب بها لساني". وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واتفق أهل السُّنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ مِن الصحابة؛ بسبب ما وقع لهم مِن ذلك، ولو عرف الحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ"(1). وختامًا: فهذا ما يسره الله لي مِن جمع وترتيب في هذه المقالات الخمسين، وما كان مِن خطأ أو زللٍ فمني ومِن الشيطان، وما كان مِن توفيقٍ فمِن الله وحده؛ فهو محض فضل الله عليَّ، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد عند الرضا، وله الحمد بعد الرضا، وإذا كان شرف العلم في موضوعه وغايته ومسائله وبراهينه وشدة الحاجة إليه، فإن بلوغ هذا الشرف درب طويل، وأمانة ثقيلة؛ نجاح أدائها هو شرف الدنيا وعز الأخرة، وبهذه الثورة نكون قد انتهينا -بفضل الله تعالى- مِن عرض جميع أحداث الفتن السياسية منذ الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وحتى مقتل زيد بن علي -رحمه الله-. والله المستعان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ (1) قال ابن خلدون -رحمه الله-: "هذا هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السّلف مِن الصّحابة والتّابعين، فهم خيار الأمّة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمَن الذي يختصّ بالعدالة، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه)، مرّتين أو ثلاثا، فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه، فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحدٍ منهم، ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم، والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت، فهم أولى النّاس بذلك، وما اختلفوا إلّا عن بيّنةٍ، وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ، واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمَن بعدهم مِن الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمَن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله، فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه، واعلم أنه على كلّ شيء قدير، وإليه الملجأ والمصير، والله تعالى أعلم" (انظر مقدمة ابن خلدون، ص 272).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |