|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#601
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ الصافات من صــ 97 الى صــ 106 الحلقة (601) قوله تعالى : {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً } أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في "الأنبياء" بيانه فـ {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً } تملؤونه حطبا فتضرمونه ، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وملأوه نارا وطرحوه فيها. وقال ابن عمرو بن العاص : فلما صار في البنيان قال : حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في {الجحيم} تدل على الكناية ؛ أي في جحيمه ؛ أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري : أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك ، وهو الذي جاء فيه الحديث : "بينما رجل يمشى في حلة له يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" والله أعلم. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً } أي بإبراهيم. والكيد المكر ؛ أي احتالوا لإهلاكه. {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } المقهورين المغلوبين إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها ، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم. الآية : 99 - 101 {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه {سَيَهْدِينِ } فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة ، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام. وقيل : ذاهب بعملي وعبادتي ، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في "الكهف" مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبيت القدس. وقيل : خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل : قال ذلك لمن فارقه من قومه ؛ فيكون ذلك توبيخا لهم. وقيل : قاله لمن هاجر معه من أهله ؛ فيكون ذلك منه ترغيبا. وقيل : قال هذا قبل إلقائه في النار. وفيه على هذا القول تأويلان : أحدهما : إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي. الثاني : إني ميت ؛ كما يقال لمن مات : قد ذهب إلى الله تعالى ؛ لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار ، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها ، إلى أن قيل لها : {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً } فحينئذ سلم إبراهيم منها. وفي قوله : {سيهدين} على هذا القول تأويلان : أحدهما : {سيهدين} إلى الخلاص منها. الثاني : إلى الجنة. وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم : لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب ؛ فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول : اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا ؛ فلما ذهب به ليطرح في النار { قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} . فلما طرح في النار قال : "حسبي الله ونعم الوكيل" فقال الله تعالى : {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً } [الأنبياء : 69] فقال أبو لوط وكان ابن عمه : إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني. فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه. قوله تعالى : {رب هب لي من الصالحين} لما عرفه الله أنه مخلصه دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في "آل عمران" القول في هذا. وفي الكلام حذف ؛ أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين ، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد ؛ لأن الصغير لا يوصف بذلك ، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في "هود" . ويأتي أيضا في "الذاريات" . الآية : 102 - 113 {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الآيه : [103] {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} الآيه : [104] { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الآيه : [105] { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} الآيه : [106 { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الآيه : [107] { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} الآيه : [108] { سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} الآيه : [109] { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الآيه : [110] { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الآيه : [111] { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} الآيه : [112] { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } فيه سبع عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي فوهبنا له الغلام ؛ فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . وقال مجاهد : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال الفراء : كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال ابن عباس : هو احتلام. قتادة : مشى مع أبيه. الحسن ومقاتل : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. ابن زيد : هو السعي في العبادة. ابن عباس : صام وصلى ، ألم تسمع الله عز وجل يقول : {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } [الإسراء : 19] . واختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق. وممن قال بذلك العباس بن عبدالمطلب وابنه عبدالله وهو الصحيح عنه. روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال : الذبيح إسحاق. وهو الصحيح عن عبدالله بن مسعود أن رجلا قال له : يا ابن الأشياخ الكرام. فقال عبدالله : ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم وسلم" . وروى أبو الزبير عن جابر قال : الذبيح إسحاق. وذلك مروي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن عبدالله بن عمر : أن الذبيح إسحاق. وهو قول عمر رضي الله عنه. فهؤلاء سبعة من الصحابة. وقال به من التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبدالرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبدالله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس ، كلهم قالوا : الذبيح إسحاق. وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى ، واختاره غير واحد منهم النحاس والطبري وغيرهما. قال سعيد بن جبير : أرى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة ، حتى أتى به المنحر من منى ؛ فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه ، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال. وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين. وقال آخرون : هو إسماعيل. وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا ، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة. وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد : إن الذبيح هديت إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل شرف به خص الإله نبينا ... وأتى به التفسير والتأويل إن كنت أمته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصه التفضيل وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن الذبيح" إسماعيل "والأول أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين. واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر عن إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال : {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } أنه دعا فقال : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } فقال تعالى : {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [مريم : 49] ؛ ولأن الله قال : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق ؛ لأنه قال : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } ، وقال هنا : {بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. احتج من قال إنه إسماعيل : بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قوله تعالى : {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الأنبياء : 85] وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [مريم : 54] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ؛ ولأن الله تعالى قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً } فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا ، وأيضا فإن الله تعالى قال : {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود : 71] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس. وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع ؛ أما قولهم : كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأنه يكون نبيا ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى : وبشرناه بنبوته بعد أن كان من أمره ما كان ؛ قال ابن عباس وسيأتي. ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحاق يعقوب. قال : لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق. وأما قولهم : ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس ، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدم. وقال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح. وهذا مذهب ثالث." الثانية : قوله تعالى : {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات. وقال محمد بن كعب : كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا ؛ فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع ، قال صلى الله عليه وسلم : "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" . وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ؛ واستدل بهذه الآية. وقال السدي : لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح. فقيل له في منامه : قد نذرت فف بنذرك. ويقال : إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك ؛ فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان ؟ فسمي يوم التروية. فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر. وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر. فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم : الله أكبر والحمد لله ؛ فبقي سنة. وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر. الثالثة : فقال أهل السنة : إن نفس الذبح لم يقع ، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح ، ولو وقع لم يتصور رفعه ، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل ؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. وقوله تعالى : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } : أي حققت ما نبهناك عليه ، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل به في هذا الباب. وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه ؛ لأن معنى ذبحت الشيء قطعته. واستدل على هذا بقول مجاهد : قال إسحاق لإبراهيم لا تنظر آلي فترحمني ، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض ؛ فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقة فانقلبت. فقال له ما لك ؟ قال : انقلبت السكين. قال اطعني بها طعنا. وقال بعضهم : كان كلما قطع جزءا التأم. وقالت طائفة : وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس ، وكان كلما أراد قطعا وجد منعا. وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح ، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل وإبراهيم صلوات الله عليهما ، وكان أولى بالبيان من الفداء. وقال بعضهم : إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم ، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي ، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم. وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء. الرابعة : قوله تعالى : {انْظُرْ مَاذَا تَرَى } قرأ أهل الكوفة غير عاصم {ماذا ترى} بضم التاء وكسر الراء من أرِى يُري. قال الفراء : أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره ، وإنما قال العلماء ماذا تشير ؛ أي ما تريك نفسك من الرأي. وأنكر أبو عبيد {تُرى} وقال : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة. وكذلك قال أبو حاتم. النحاس : وهذا غلط ، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور ، يقال : أريت فلانا الصواب ، وأريته رشده ، وهذا ليس من رؤية العين. الباقون {ترى} مضارع رأيت. وقد روي عن الضحاك والأعمش {ترى} غير مسمى الفاعل. ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ؛ أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله فـ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء ؛ كقوله : {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل : 59] أي اصطفاهم على ما تقدم. و {ما} بمعنى الذي. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } قال بعض أهل الإشارة : لما استثنى وفقه الله للصبر. وقد مضى الكلام في {يَا أَبَتِ } [يوسف : 4] وكذلك في {يَا بُنَيَّ } [ يوسف : 5] في "يوسف" وغيرها الخامسة- قوله تعالى : {فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي انقادا لأمر الله. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي وضوان الله عليهم {فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي فوضا أمرهما إلى الله. وقال ابن عباس : استسلما. وقال قتادة : أسلم أحدهما نفسه لله عز وجل وأسلم الآخر ابنه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } قال قتادة : كبه وحول وجهه إلى القبلة. وجواب "لما" محذوف عند البصريين تقديره {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } فديناه بكبش. وقال الكوفيون : الجواب {ناديناه} والواو زائدة مقحمة ؛ كقوله : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا } [يوسف : 15] أي أوحينا. وقول : {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } [الأنبياء : 96] . {واقترب} أي اقترب. وقوله : {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ } [الزمر : 73] أي قال لهم. وقال امرؤ القيس : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي انتحى ، والواو زائدة. وقال أيضا : حتى إذا حملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم الفاجر الخب أراد قلبتم. النحاس : والواو من حروف المعاني لا يجوز أن تزاد. وفي الخبر : إن الذبيح قال لإبراهيم عليه السلام حين أراد ذبحه : يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب ؛ واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، وأسرع مر السكين على حلقى ليكون الموت أهون علي وأقذفني للوجه ؛ لئلا تنظر إلى وجهي فترحمني ، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع ، وإذا أتيت إلى أمي فأقرئها مني السلام. فلما جر إبراهيم عليه السلام السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس ، فلم تعمل السكين شيئا ، ثم ضرب به على جبينه وحز في قفاه فلم تعمل السكين شيئا ؛ فذلك قوله تعالى : {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } كذلك فال ابن عباس : معناه كبه على وجهه فنودي {يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } فالتفت فإذا بكبش ؛ ذكره المهدوي. وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته ، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل ؛ هذا بهيئة الذبح ، وهذا بصورة المذبوح ، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين. وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم. والله أعلم. قال الجوهري : {وتله للجبين} أي صرعه ؛ كما تقول : كبه لوجهه. الهروي : والتل الدفع والصرع ؛ ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : "وتركوك لمتلك" أي لمصرعك. وفي حديث آخر : "فجاء بناقة كوماء فتلها" أي أناخها. وفي الحديث : "بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي" قال ابن الأنباري : أي فألقيت في يدي ؛ يقال : تللت الرجل إذا ألقيته. قال ابن الأعرابي : فصبت في يدي ؛ والتل الصب ؛ يقال : تل يتل إذا صب ، وتل يتل بالكسر إذا سقط. قلت : وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه ، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ ؛ فقال للغلام : "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء" فقال الغلام : لا والله ، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال ؛ فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ؛ يريد جعله في يده. وقال بعض أهل الإشارة : إن إبراهيم ادعى محبة الله ، ثم نظر إلى الولد بالمحبة ، فلم يرض حبيبه محبة مشتركة ؛ فقيل له : يا إبراهيم اذبح ولدك في مرضاتي ، فشمر وأخذ السكين وأضجع ولده ، ثم قال : اللهم تقبله مني في مرضاتك. فأوحى الله إليه : يا إبراهيم لم يكن المراد ذبح الولد ، وإنما المراد أن ترد قلبك إلينا ، فلما رددت قلبك بكليته إلينا رددنا ولدك إليك. وقال كعب وغيره : لما أرى إبراهيم ذبح ولده في منامه ، قال الشيطان : والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل الشيطان لهم في صورة الرجل ، ثم أتى أم الغلام وقال : أتدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : لا. قال : إنه يذهب به ليذبحه. قالت : كلا هو أرأف به من ذلك. فقال : إنه يزعم أن ربه أمره بذلك. قالت : فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه. ثم أتى الغلام فقال : أتدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : لا. قال : فإنه يذهب بك ليذبحك. قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك. قال : فليفعل ما أمره الله به ، سمعا وطاعة لأمر الله. ثم جاء إبراهيم فقال : أين تريد ؟ والله إني لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك. فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله ، فوالله لأمضين لأمر ربي. فلم يصب ، الملعون منهم شيئا. وقال ابن عباس : لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى. واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل : بمكة في المقام. وقيل : في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله ؛ قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب. وحكي عن سعيد بن جبير : أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى. وقال ابن جريج : ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين. والأول أكثر ؛ فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أنه ذبحه بمكة. وقال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام ، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام : لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة. والله أعلم. قوله تعالى : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه. وقد يقال بلاه. قال زهير : فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فزعم قوم أنه جاء باللغتين. وقال آخرون : بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره ، ولا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه ، ولا يقال من الابتلاء يبلوه. وأصل هذا كله من الاختبار أن يكون بالخير والشر ؛ قال الله عز وجل : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء : 35] . وقال أبو زيد : هذا من البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه ؛ قال : وهذا من البلاء المكروه. ![]()
__________________
|
#602
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ الصافات من صــ 107 الى صــ 116 الحلقة (602) السابعة- قوله تعالى : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح ؛ كالطحن اسم المطحون. والذبح بالفتح المصدر. {عظيم} أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح ؛ أو لأنه متقبل. قال النحاس : عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف ، أو المتقبل. وقال ابن عباس : هو الكبش الذي تقرب به هابيل ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وعنه أيضا : أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه ، وهذا قول علي رضي الله عنه. فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه. وقال : يا بني اليوم وهبت لي. وقال أبو إسحاق الزجاج : قد قيل أنه فدي بوعل ، والوعل : التيس الجبلي. وأهل التفسير على أنه فدي بكبش. في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهذا مذهب مالك وأصحابه. قالوا : أفضل الضحايا الفحول من الضأن ، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز ، وفحول المعز خير من إناثها ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر. وحجتهم قوله سبحانه وتعالى : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي ضخم الجثة سمين ، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة. وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل : إني نذرت أن أنحر ابني ؟ فقال : يجزيك كبش سمين ، ثم قرأ : {وفديناه بذبح عظيم} . وقال بعضهم : لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين. وأكثر ما ضحي به الكباش. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال : الذبح العظيم الشاة. واختلفوا أيهما أفضل : الأضحية أو الصدقة بثمنها. فقال مالك وأصحابه : الضحية أفضل إلا بمنى ؛ لأنه ليس موضع الأضحية ؛ حكاه أبو عمر. وقال ابن المنذر : روينا عن بلال أنه قال : ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه - هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به. وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل. وبه قال مالك وأبو ثور. وفيه قول ثان : إن الضحية أفضل ؛ هذا قول ربيعة وأبي الزناد. وبه قال أصحاب الرأي. زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا : الضحية أفضل من الصدقة ؛ لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. فال أبو عمر : وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ؛ فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم" قال أبو عمر : وهو حديث غريب من حديث مالك. وعن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة" ذكره أبو عمر في كتات التمهيد. وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا" قال : وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم. وهذا حديث حسن. الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف. وقال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما ، ويقول : من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس. قال أبو عمر : ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم ؛ لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض ، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم ؛ لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته ، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. وقد حكى الطحاوي في مختصره : وقال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ، ولا تجب على المسافر. قال : ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه. وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا : ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. قال : وبه نأخذ. قال أبو عمر : وهذا قول مالك ؛ قال : لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما ، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى. وقال الإمام الشافعي : هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة. وقد احتج من أوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى ؛ لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة. احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى" قالوا : فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضي. وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال. والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية : وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. قال ابن المنذر : وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال : يضحى ببقرة الوحش عن سبعة ، وبالظبي عن رجل. وقال الإمام الشافعي : لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية ، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية. وقال أصحاب الرأي : جائز ؛ لأن ولدها بمنزلة أمه. وقال أبو ثور : يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام. وقد مضى في سورة "الحج" الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى. وفي صحيح مسلم عن أنس قال : "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" في رواية قال : "ويقول بسم الله والله أكبر" وقد مضى في آخر "الأنعام" حديث عمران بن حصين ، ومضى في "المائدة" القول في التذكية وبيانها وما يذكى به ، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى. وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به" فقال لها : "يا عائشة هلمي المدية" ثم قال : "اشحذيها بحجر ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال :" بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد "ثم ضحى به. وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية : بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان. وقال مالك : إن فعل ذلك فحسن ، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه. وقال الشافعي : والتسمية على الذبيحة بسم الله ، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله ، أو صلى على محمد عليه السلام لم أكرهه ، أو قال اللهم تقبل مني ، أو قال تقبل من فلان فلا بأس. وقال النعمان : يكره أن يذكر مع اسم الله غيره ؛ يكره أن يقول : اللهم تقبل من فلان عند الذبح. وقال : لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح. وحديث عائشة يرد هذا القول. وقد تقدم أن إبراهيم عليه السلام قال لما أراد ذبح ابنه : الله أكبر والحمد لله. فبقي سنة." روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال : "أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي" لفظ مالك ولا خلاف فيه. واختلف في اليسير من ذلك. وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. قال : والمقابلة ما قطع طرف أذنها ، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن ، والشرقاء المشقوقة ، والخرقاء المثقوبة ؛ قال هذا حديث حسن صحيح. وفي الموطأ عن نافع : أن عبدالله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن والتي نقص من خلقها. قال مالك : وهذا أحب ما سمعت إلي. قال القتبي : لم تسنن أي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا. وهذا كما يقال : فلان لم يلبن أي لم يعط لبنا ، ولم يسمن أي لم يعط سمنا ، ولم يعسل أي لم يعط عسلا. وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء. قال أبو عمر : ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة ؛ فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها ؛ لأنه عيب غير خفيف. والنقصان كله مكروه ، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "استشرقوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" ذكره الزمخشري. ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه ؛ قال ابن عباس. وعنه رواية أخرى : ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبدالمطلب ابنه ؛ روى الروايتين عنه الشعبي. وروى عنه القاسم بن محمد : يجزيه كفارة يمين. وقال مسروق : لا شيء عليه. وقال الشافعي : هو معصية يستغفر الله منها. وقال أبو حنيفة : هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شيء. قال محمد : عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث. وذكر ابن عبدالحكم عن مالك فيمن قال : أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي. قال : ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه. قال : ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه ؛ قال القاضي ابن العربي : يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة ؛ لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا ، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد ، وأخرجه عنه بذبح شاة. وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة ؛ لأن الله تعالى قال : {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج : 78] والإيمان التزام أصلي ، والنذر التزام فرعي ؛ فيجب أن يكون محمولا عليه. فإن قيل : كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز. قلنا : هذا اعتراض على كتاب الله ، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام ، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام ، وقد قال الله تعالى : {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك : أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان ، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال ، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال ، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء ، ولهذا قال الله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } في الصبر على ذبح الولد والنفس ، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية. فإن قيل : كيف يصير نذرا وهو معصية. قلنا : إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء ؟ فإن قيل : فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء ؟ قلنا : لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره ؛ لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا. قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده ؛ فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه. وقيل : هو دعاء إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [الشعراء. 84] . وقال عكرمة : هو السلام على إبراهيم أي سلاما منا. وقيل : سلامة له من الآفات مثل : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [الصافات : 79] حسب ما تقدم. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي من الذين أعطوا العبودية حقها حتى استحقوا الإضافة إلى الله تعالى. قوله تعالى : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن عباس : بشر بنبوته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين ؛ فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } أي ثنينا عليهما النعمة وقيل كثرنا ولدهما ؛ أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده ، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه. وقد قيل : إن الكناية في {عليه} تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح. قال المفضل : الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل ، وذلك أنه قص قصة الذبيح ، فلما قال في آخر القصة : {وفديناه بذبح عظيم} ثم قال : {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } قال : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي على إسماعيل {وَعَلَى إِسْحَاقَ } كنى عنه ؛ لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال : {ومن ذريتهما} فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق ، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. قلت : قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل ، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل ؛ فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق ، وبشر به إبراهيم مرتين ؛ الأولى بولادته والثانية بنبوته ؛ كما قال ابن عباس. ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و {نبيا} نصب على الحال والهاء في {عليه} عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه. وأما ما روي من طريق معاوية قال : سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن الذبيحين ؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال معاوية : إن عبدالمطلب لما حفر بئر زمزم ، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله ، فسهل الله عليه أمرها ، فوقع السهم على عبدالله ، فمنعه أخواله بنو مخزوم ؛ وقالوا : أفد ابنك ؛ ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح ، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه ؛ لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛ ولأن العرب تجعل العم أبا ؛ قال الله تعالى : {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة : 133] وقال تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } [يوسف : 100] وهما أبوه وخالته. وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح إسناده فكيف وفي الفرزدق نفسه مقال. قوله تعالى : {مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ } لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال : منهم محسن ومنهم مسيء ، وإن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة ؛ فاليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق ، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل ، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر ، وفي التنزيل : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة : 18] الآية ؛ أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلا. وقد تقدم. الآية : 114 - 122 {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ، وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } قوله تعالى : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } لما ذكر إنجاء إسحاق من الذبح ، وما من به عليه بعد النبوة ، ذكر ما من به أيضا على موسى وهرون من ذلك. وقوله : {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } قيل : من الرق الذي لحق بني إسرائيل. وقيل من الغرق الذي لحق فرعون. { وَنَصَرْنَاهُمْ } قال الفراء : الضمير لموسى وهرون وحدهما ؛ وهذا على أن الاثنين جمع ؛ دليله قوله : {وآتيتاهما} {وهديناهما} . وقيل : الضمير لموسى وهرون وقومهما وهذا هو الصواب ؛ لأن قبله {ونجيناهما وقومهما} . و {الكتاب المستبين} التوراة ؛ يقال استبان كذا أي صار بينا ؛ واستبانه فلان مثل تبين الشيء بنفسه وتبينه فلان. و "الصراط المستقيم" الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. {وتركنا عليهما في الآخرين} يريد الثناء الجميل. {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } تقدم. الآية : 123 {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } قوله تعالى : {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } قال المفسرون : إلياس نبي من بني إسرائيل. وروي عن ابن مسعود قال : إسرائيل هو يعقوب وإلياس هو إدريس. وقرأ : {وإن إدريس} وقاله عكرمة. وقال : هو في مصحف عبدالله : {وإن إدريس لمن المرسلين} وانفرد بهذا القول. وقال ابن عباس : هو عم اليسع. وقال ابن إسحاق وغيره : كان القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوقنا ثم حزقيل ، ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان من دونه ، فبعث الله إليهم إلياس نبيا وتبعه اليسع وآمن به ، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يريحه منهم فقيل له : اخرج يوم كذا وكذا إلى موضع كذا وكذا فما استقبلك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج ومعه اليسع فقال : يا إلياس ما تأمرني. فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى ، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، وكان ذلك آخر العهد به. وقطع الله على إلياس لذة المطعم والمشرب ، وكساه الريش وألبسه النور ، فطار مع الملائكة ، فكان إنسيا ملكيا سماويا أرضيا. قال ابن قتيبة : وذلك أن الله تعالى قال لإلياس : "سلني أعطك" . قال : ترفعني إليك وتؤخر عني مذاقة الموت. فصار يطير مع الملائكة. وقال بعضهم : كان قد مرض وأحس الموت فبكى ، فأوحى الله إليه : لم تبك ؟ حرصا على الدنيا ، أو جزعا من الموت ، أو خوفا من النار ؟ قال : لا ، ولا شيء من هذا وعزتك ، إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك! ويذكرك الذاكرون بعدي ولا أذكرك! ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم! ويصلي المصلون ولا أصلي!! فقيل له : "يا إلياس وعزتي لأؤخرنك إلى وقت لا يذكرني فيه ذاكر" . يعني يوم القيامة. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد : إن إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان في كل عام ببيت المقدس يوافيان الموسم في كل عام. وذكر ابن أبي الدنيا ؛ إنهما يقولان عند افتراقهما عن الموسم : ما شاء الله ما شاء الله ، لا يسوق الخير إلا الله ، ما شاء الله ما شاء الله ، لا يصرف السوء إلا الله ؛ ما شاء الله ما شاء الله ، ما يكون من نعمة فمن الله ؛ ما شاء الله ما شاء الله ؛ توكلت على الله حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد مضى في "الكهف" . وذكر من طريق مكحول عن أنس قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر ، إذا نحن بصوت يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفور لها ، المتوب عليها ، المستجاب لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أنس ، انظر ما هذا الصوت" . فدخلت الجبل ، فإذا أنا برجل أبيض اللحية والرأس ، عليه ثياب بيض ، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فلما نظر إلي قال : أنت رسول النبي ؟ قلت : نعم ؛ قال : ارجع إليه فأقرئه مني السلام وقل له : هذا أخوك إلياس يريد لقاءك. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه ، حتى إذا كنا قريبا منه ، تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت ، فتحدثا طويلا ، فنزل عليهما شيء من السماء شبه السفرة فدعواني فأكلت معهما ، فإذا فيها كمأة ورمان وكرفس ، فلما أكلت قمت فتنحيت ، وجاءت سحابة فاحتملته فإذا أنا أنظر إلى بياض ثيابه فيها تهوي ؛ فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي! هذا الطعام الذي أكلنا أمن السماء نزل عليه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "سألته عنه فقال يأتيني به جبريل في كل أربعين يوما أكلة ، وفي كل حول شربة من ماء زمزم ، وربما رأيته على الجب يملأ بالدلو فيشرب وربما سقاني" . قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } يعني لبني إسرائيل {لا تَتَّقُونَ } يعني الله عزوجل وتخافون عقابه {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك ![]()
__________________
|
#603
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ الصافات من صــ 117 الى صــ 126 الحلقة (603) قال ثعلب : اختلف الناس في قوله عز وجل ها هنا {بعلا} فقالت طائفة : البعل ها هنا الصنم. وقال طائفة : البعل ها هنا ملك. وقال ابن إسحاق : امرأة كانوا يعبدونها. والأول أكثر. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال : صنما. وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال : ربا. النحاس : والقولان صحيحان ؛ أي أتدعون صنما عملتموه ربا. يقال : هذا بعل الدار أي ربها. فالمعنى أتدعون ربا اختلقتموه ، و {أتدعون} بمعنى أتسمون. حكى ذلك سيبويه. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي : البعل الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال : من بعل هذه ؟ . أي من ربها ؛ ومنه سمي الزوج بعلا. قال أبو دواد : ورأيت بعلك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا مقاتل : صنم كسره إلياس وهرب منهم. وقيل : كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام. وبه سميت مدينتهم بعلبك كما ذكرنا. {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي أحسن من يقال له خالق. وقيل : المعنى أحسن الصانعين ؛ لأن الناس يصنعون ولا يخلقون. {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } بالنصب في الأسماء الثلاثة قرأ الربيع بن خيثم والحسن وابن أبي إسحاق وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى أبو عبيد أنها على النعت. النحاس : وهو غلط وإنما هو على البدل ولا يجوز النعت ها هنا ؛ لأنه ليس بتخلية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال أبو حاتم : بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس : وأولى مما قال - أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع أولى وأحسن ؛ لأن قبله رأس آية فالاستئناف أولى. ابن الأنباري : من نصب أو رفع لم يقف على {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } على جهة التمام ؛ لأن الله عز وجل مترجم عن {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } من الوجهين جميعا. قوله تعالى : {فَكَذَّبُوهُ } أخبر عن قوم إلياس أنهم كذبوه. {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي في العذاب. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي من قومه فإنهم نجوا من العذاب. وقرئ {المخلصين} بكسر اللام وقد تقدم. {وتركنا عليه في الآخرين} تقدم. {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } قراءة الأعرج وشيبة ونافع. وقرأ عكرمة وأبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي : {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } . وقرأ الحسن : {سلام على الياسين} بوصل الألف كأنها ياسين دخلت عليها الألف واللام التي للتعريف. والمراد إلياس عليه السلام ، وعليه وقع التسليم ولكنه اسم أعجمي. والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني : العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا ؛ فياسين وإلياس والياسين شيء واحد. الزمخشري : وكان حمزة إذا وصل نصب وإذا وقف رفع. وقرئ : {على إلياسين} و "إدريسين وإدرسين وإدراسين" على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. النحاس : ومن قرأ : {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } فكأنه والله أعلم جعل اسمه إلياس وياسين ثم سلم على آله ؛ أي أهل دينه ومن كان على مذهبه ، وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقال الله تعالى : {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر : 46] . ومن قرأ {إلياسين} فللعلماء فيه غير قول. فروى هرون عن ابن أبي إسحاق قال : إلياسين مثل إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له. وأبو عبيدة يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل بيته سلم عليهم ؛ وأنشد : قدني من نصر الخبيبين قدي يقال : قدني وقدي لغتان بمعنى حسب. وإنما يريد أبا خبيب عبدالله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه. وغير أبي عبيدة يرويه : الخبيبين على التثنية ، يريد عبدالله ومصعبا. ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا ؛ قال : فإن العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم ، فيقولون : المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال : فعلى هذا {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} سمي كل رجل منهم بإلياس. وقد ذكر سيبويه عي كتابه شيئا من هذا ، إلا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على جهة النسبة ؛ فيقولون : الأشعرون يريدون به النسب. المهدوي : ومن قرأ {إلياسين} فهو جمع يدل فيه إلياس فهو جمع إلياسي فحذفت ياء النسبة ؛ كما حذفت ياء النسبة في جميع المكسر في نحو المهالبة في جمع مهلبي ، كذلك حذفت في المسلم فقيل المهلبون. وقد حكى سيبويه : الأشعرون والنميرون يريدون الأشعريين والنميريين. السهيلي : وهذا لا يصح بل هي لغة في إلياس ، ولو أراد ما قالوه لأدخل الألف واللام كما تدخل في المهالبة والأشعريين ؛ فكان يقول : {سلام على الإلياسين} لأن العلم إذا جمع ينكر حتى يعرف بالألف واللام ؛ لا تقول : سلام على زيدين ، بل على الزيدين بالألف واللام. فإلياس عليه السلام فيه ثلاث لغات. النحاس : واحتج أبو عبيد في قراءته {سلام على إلياسين} وأنه اسمه كما أن اسمه إلياس لأنه ليس في السورة سلام على {آل} لغيره من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، فكما سمي الأنبياء كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو وهو غير لازم ؛ لأنا بينا قول أهل اللغة أنه إذا سلم على آله من أجله فهو سلام عليه. والقول بأن اسمه {إلياسين} يحتاج إلى دليل ورواية ؛ فقد وقع في الأمر إشكال. قال الماوردي : وقرأ الحسن {سلام على ياسين} بإسقاط الألف واللام وفيه وجهان : أحدهما أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن عباس. والثاني أنهم آل ياسين ؛ فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان : أحدهما : أنها زيدت لتساوي الآي ، كما قال في موضع : {طُورِ سَيْنَاءَ } [المؤمنون : 20] وفي موضع آخر {وَطُورِ سِينِينَ } [ التين : 2] فعلى هذا يكون السلام على أهله دونه ، وتكون الإضافة إليه تشريفا له. الثاني : أنها دخلت للجمع فيكون داخلا في جملتهم فيكون السلام عليه وعليهم. قال السهيلي : قال بعض المتكلمين في معاني القرآن : آل ياسين آل محمد عليه السلام ، ونزع إلى قول من قال في تفسير {يس} يا محمد. وهذا القول يبطل من وجوه كثيرة : أحدها : أن سياقة الكلام في قصة إلياسين يلزم أن تكون كما هي في قصة إبراهيم ونوج وموسى وهارون وأن التسليم راجع عليهم ، ولا معنى للخروج عن مقصود الكلام لقول قيل في تلك الآية الأخرى مع ضعف ذلك القول أيضا ؛ فإن {يس} و {حم} و {الم} ونحو ذلك القول فيها واحد ، إنما هي حروف مقطعة ، إما مأخوذة من أسماء الله تعالى كما قال ابن عباس ، وإما من صفات القرآن ، وإما كما قال الشعبي : لله في كل كتاب سر ، وسره في القرآن فواتح القرآن. وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لي خمسة أسماء" ولم يذكر فيها {يس} . وأيضا فإن {يس} جاءت التلاوة فيها بالسكون والوقف ، ولو كان اسما للنبي صلى صلى الله عليه وسلم لقال : {يسن} بالضم ؛ كما قال تعالى : {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [يوسف : 46] وإذا بطل هذا القول لما ذكرناه ؛ فـ {إلياسين} هو إلياس المذكور وعليه وقع التسليم. وقال أبو عمرو بن العلاء : هو مثل إدريس وإدراسين ، كذلك هو في مصحف ابن مسعود. {وإن إدريس لمن المرسلين} ثم قال : {سلام على إدراسين} . {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } تقدم. الآية : 133 - 138 {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } قوله تعالى : { وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } تقدم قصة لوط. { ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } أي بالعقوبة. {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ } خاطب العرب : أي تمرون عل منازلهم وآثارهم {مصبحين} وقت الصباح {وبالليل} تمرون عليهم أيضا بالليل وتم الكلام. {أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي تعتبرون وتتدبرون. الآية : 139 - 144 {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } فيه ثمان مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } يونس هو ذو النون ، وهو ابن متى ، وهو ابن العجوز التي نزل عليها إلياس ، فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر ويونس صبي يرضع ، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتؤانسه ، ولا تدخر عنه كرامة تقدر عليها. ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت فلحق بالجبال ، ومات ابن المرأة يونس ، فخرجت في أثر إلياس تطوف وراءه في الجبال حتى وجدته ، فسألته أن يدعو الله لها لعله يحيى لها ولدها ؛ فجاء إلياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يوما من موته ، فتوضأ وصلى ودعا الله فأحيا الله يونس بن متى بدعوة إلياس عليه السلام. وأرسل الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ثم تابوا ، حسبما تقدم بيانه في سورة "يونس" ومضى في "الأنبياء" قصة يونس في خروجه مغاضبا. واختلف في رسالته هل كانت قبل التقام الحوت إياه أو بعده. قال الطبري عن شهر بن حوشب : إن جبريل عليه السلام أتي يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم. قال : ألتمس دابة. قال : الأمر أعجل من ذلك. قال : ألتمس حذاء. قال : الأمر أعجل من ذلك. قال : فغضب فانطلق إلى السفينة فركب ، فلما ركب السفينة احتبست السفينة لا تتقدم ولا تتأخر. قال : فتساهموا ، قال : فسهم ، فجاء الحوت يبصبص بذنبه ؛ فنودي الحوت : أيا حوت! إنا لم نجعل لك يونس رزقا ؛ إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. قال : فالتقمه الحوت من ذلك المكان حتى مر به إلى الأبلة ، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة ، ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى. حدثنا الحارث قال حدثنا الحسن قال حدثنا أبو هلال قال حدثنا شهر بن حوشب عن ابن عباس قال : إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت ؛ واستدل هؤلاء بأن الرسول لا يخرج مغاضبا لربه ، فكان ما جرى منه قبل النبوة. وقال آخرون : كان ذلك منه بعد دعائه من أرسل إليهم إلى ما أمره الله بدعائهم إليه ، وتبليغه إياهم رسالة ربه ، ولكنه وعدهم نزول ما كان حذرهم من بأس الله في وقت وقته لهم ففارقهم إذ لم يتوبوا ولم يراجعوا طاعة الله ، فلما أظل القوم العذاب وغشيهم - كما قال الله تعالى في تنزيله - تابوا إلى الله ، فرفع الله العذاب عنهم ، وبلغ يونس سلامتهم وارتفاع العذاب الذي كان وعدهموه فغضب من ذلك وقال : وعدتهم وعدا فكذب وعدي. فذهب مغاضبا ربه وكره الرجوع إليهم ، وقد جربوا عليه الكذب ؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد مضى هذا في "الأنبياء" وهو الصحيح على ما يأتي عند قوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147] . ولم ينصرف يونس ؛ لأنه اسم أعجمي ولو كان عربيا لانصرف وإن كانت في أول الياء ؛ لأنه ليس في الأفعال يفعل كما أنك إذا سميت بيُعفر صرفته ؛ وإن سميت بيَعفر لم تصرفه. الثانية : قوله تعالى : {إِذْ أَبَقَ } قال المبرد : أصل أبق تباعد ؛ ومنه غلام آبق. وقال غيره : إنما قيل ليونس أبق ؛ لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل مستترا من الناس. {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي المملوءة {والفلك} يذكر ويؤنث ويكون واحدا وجمعا وقد تقدم. قال الترمذي الحكيم : سماه آبقا لأنه أبق عن العبودية ، وإنما العبودية ترك الهوى وبذل النفس عند أمور الله ؛ فلما لم يبذل النفس عندما اشتدت عليه العزمة من الملك حسبما تقدم بيانه في "الأنبياء" ، وآثر هواه لزمه اسم الآبق ، وكانت عزمة الملك في أمر الله لا في أمر نفسه ، وبحظ حق الله لا بحظ نفسه ؛ فتحرى يونس فلم يصب الصواب الذي عند الله فسماه آبقا ومليما. الثالثة : قوله تعالى : {فَسَاهَمَ } قال المبرد : فقارع ، قال : وأصله من السهام التي تجال. {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } قال : من المغلوبين. قال الفراء : دحضت حجته وأدحضها الله. وأصله من الزلق ؛ قال الشاعر : قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون أي المغلوبين. {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } أي أتى بما يلام عليه. فأما الملوم فهو الذي يلام ، استحق ذلك أو لم يستحق. وقيل : المليم المعيب. يقال : لام الرجل إذا عمل شيئا فصار معيبا بذلك العمل. {فلولا أنه كان من المسبحين} قال الكسائي : لم تكسر "أن" لدخول اللام ؛ لأن اللام ليست لها. النحاس : والأمر كما قال ؛ إنما اللام في جواب لولا. {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } أي من المصلين {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي عقوبة له ؛ أي يكون بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. واختلف كم أقام في بطن الحوت. فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان : أربعين يوما. الضحال : عشرين يوما. عطاء : سبعة أيام. مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام. وقيل : ساعة واحدة. والله أعلم. روى الطبري من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما أراد الله تعالى ذكره - حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر ؛ فلما أنتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا ؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه وهو في بطن الحوت :" إن هذا تسبيح دواب البحر "قال :" فسبح وهو في بطن الحوت "قال :" فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة "قال :" ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر "قالوا : العبد الصالح الذي كان" يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال نعم. فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت بقذفه في الساحل كما قال تعالى : {وَهُوَ سَقِيمٌ } ". وكان سقمه الذي وصفه به الله - تعالى ذكره - أنه ألقاه الحوت على الساحل كالصبى المنفوس قد نشر اللحم والعظم. وقد روي : أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالما لم يغير منه شيء فأسلموا ؛ ذكره الزمخشري في تفسيره. وقال ابن العربي : أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني : أنه سئل عن الباري في جهة ؟ فقال : لا ، هو يتعالى عن ذلك. قيل له : ما الدليل عليه ؟ قال : الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا تفضلوني على يونس بن متى "فقيل له : ما وجه الدليل في هذا الخبر ؟ فقال : لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينا. فقام رجلان فقالا : هي علينا. فقال لا يتبع بها اثنين ؛ لأنه يشق عليه. فقال واحد : هي علي. فقال : إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت ، فصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ، ونادى {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] كما أخبر الله عنه ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر وارتقى به صعدا ، حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام ، ومناجاه ربه بما ناجاه به ، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله تعالى من يونس في بطن الحوت في ظلمة البحر." ذكر الطبري : أن يونس عليه السلام لما ركب في السفينة أصاب أهلها عاصفة من الريح ، فقالوا : هذه بخطيئة أحدكم. فقال يونس وعرف أنه هو صاحب الذنب : هذه خطيئتي فألقوني في البحر ، وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم. {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } فقال لهم : قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي. وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين ، وأنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا سهامهم الثالثة فكان من المدحضين. فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر ، وذلك تحت الليل فابتلعه الحوت. وروي أنه لما ركب في السفينة تقنع ورقد فساروا غير بعيد إذ جاءتهم ريح كادت السفينة أن تغرق ، فاجتمع أهل السفينة فدعوا فقالوا : أيقظوا الرجل النائم يدعوا معنا ؛ فدعا الله معهم فرفع الله عنهم تلك الريح. ثم انطلق يونس إلى مكانه فرقد ، فجاءت ريح كادت السفينة أن تغرق ، فأيقظوه ودعوا فارتفعت الريح. قال : فبينما هم كذلك إذ رفع حوت عظيم رأسه إليهم أراد أن يبتلع السفينة ، فقال لهم يونس : يا قوم هذا من أجلي فلو طرحتموني في البحر لسرتم ولذهب الريح عنكم والروع. قالوا : لا نطرحك حتى نتساهم ، فمن وقعت عليه رميناه في البحر. قال : فتساهموا فوقع على يونس ؛ فقال لهم : يا قوم اطرحوني فمن أجلي أوتيتم ؛ فقالوا : لا نفعل حتى نتساهم مرة أخرى. ففعلوا فوقع على يونس. فقال لهم : يا قوم اطرحوني فمن أجلي أوتيتم ؛ فذلك قول الله عز وجل : {فساهم فكان من المدحضين} أي وقع السهم عليه ؛ فانطلقوا به إلى صدر السفينة ليلقوه في البحر ، فإذا الحوت فاتح فاه ، ثم جاؤوا به إلى جانب السفينة ، فإذا بالحوت ، ثم رجعوا به إلى الجانب الآخر ، فإذا بالحوت فاتح فاه ؛ فلما رأى ذلك ألقى بنفسه فالتقمه الحوت ؛ فأوحى الله تعالى إلى الحوت : إني لم أجعله لك رزقا ولكن جعلت بطنك له وعاء. فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة فنادى في الظلمات : {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 87] وقد تقدم ويأتي. ففي هذا من الفقه أن القرعة كانت معمولا بها في شرع من قبلنا ، وجاءت في شرعنا على ما تقدم في "آل عمران" قال ابن العربي : وقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن. الأول : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم ، فأقرع بينهم ؛ فأعتق اثنين وأرق أربعة. الثالث : أن رجلين اختصما إليه في مواريث قد درست فقال : "اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه" . فهذه ثلاثة مواطن ، وهي القسم في النكاح ، والعتق ، والقسمة ، وجريان القرعة فيها لرفع الإشكال وحسم داء التشهي. واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات في الغزو على قولين ؛ الصحيح منهما الإقراع ؛ وبه قال فقهاء الأمصار. وذلك أن السفر بجميعهن لا يمكن ، واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة. وكذلك في مسألة الأعبد الستة ؛ فإن كل اثنين منهما ثلث ، وهو القدر الذي يجوز له فيه العتق في مرض الموت ، وتعيينهما بالتشهي لا يجوز شرعان فلم يبق إلا القرعة. وكذلك التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق إلا القرعة ، فصارت أصلا في تعيين المستحق إذا أشكل. قال : والحق عندي أن تجري في كل مشكل ، فذلك بين لها ، وأقوى لفصل الحكم فيها ، وأجلى لرفع الإشكال عنها ؛ ولذلك قلنا : إن القرعة بين الزوجات في الطلاق كالقرعة بين الإماء في العتق. الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز. وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه ، وزيادة في إيمانه ؛ فإنه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار أو البحر ، وإنما تجرى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته. وقد ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم ، فيطرح بعضهم تخفيفا ؛ وهذا فاسد ؛ فإنها لا تخف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال ، ولكنهم يصبرون على قضاء الله عز وجل. أخبر الله عز وجل أن يونس كان من المسبحين ، وأن تسبيحه كان سبب نجاته ؛ ولذلك قيل : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. قال ابن عباس : {من المسبحين} من المصلين. قال قتادة : كان يصلي قبل ذلك لحفظ الله عز وجل له فنجاه. وقال الربيع بن أنس : لولا أنه كان له قبل ذلك عمل صالح {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قال : ومكتوب في الحكمة - إن العمل الصالح يرفع ربه إذا عثر. وقال مقاتل : {من المسبحين} من المصلين المطيعين قبل المعصية. وقال وهب : من العابدين. وقال الحسن : ما كان له صلاة في بطن الحوت ؛ ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء ، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه ، وإذا عثر وجد متكأ. ![]()
__________________
|
#604
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ الصافات من صــ 127 الى صــ 136 الحلقة (604) قلت : ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : "من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل" فيجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله ، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويخبؤها بجهده ، ويسترها عن خلقه ، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه. وقد خرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "بينما ثلاثة نفر - في رواية ممن كان قبلكم - يتماشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم..." الحديث بكماله وهو مشهور ، شهرته أغنت عن تمامه. وقال سعيد بن جبير : لما قال في بطن الحوت : {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] قذفه الحوت. وقيل : {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } من المصلين في بطن الحوت. قلت : والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان ، وعليه يدل حديث أبي هريرة المذكور قبل الذي ذكره الطبري. قال : فسبح في بطن الحوت. قال : فسمعت الملائكة تسبيحه ؛ فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. وتكون {كان} على هذا القول زائدة ؛ أي فلولا أنه من المسبحين. وفي كتاب أبي داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد مضى هذا في سورة [الأنبياء "فيونس عليه السلام كان قبل مصليا مسبحا ، وفي بطن الحوت كذلك. وفي الخبر : فنودي الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقا ؛ إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. وقد تقدم." الآية : 145 - 148 { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } قوله تعالى : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة : طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطينة ؛ فقلنا : يا أبا هريرة وما اليقطينة ؟ قال : شجرة الدباء ؛ هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو هشاش الأرض - فتفشج عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج به - يعني الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر ، فطرحه مثل الصبي المنفوس لم ينقص من خلقه شيء. وقيل : إن يونس لما ألقاه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة من يقطين ، وهي فيما ذكر شجرة القرع تتقطر عليه من اللبن حتى رجعت إليه قوته. ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها يبست ، فحزن وبكى عليها فعوتب ؛ فقيل له : أحزنت على شجرة وبكيت عليها ، ولم تحزن على مائة ألف وزيادة من بني إسرائيل ، من أولاد إبراهيم خليلي ، أسرى في أيدي العدو ، وأردت إهلاكهم جميعا. وقيل : هي شجرة التين. وقيل : شجرة الموز تغطى بورقها ، واستظل بأغصانها ، وأفطر على ثمارها. والأكثر على أنها شجرة اليقطين على ما يأتي. ثم إن الله تبارك وتعالى اجتباه فجعله من الصالحين. ثم أمره أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله تعالى قد تاب عليهم ، فعمد إليهم حتى لقي راعيا فسأله عن قوم يونس وعن حالهم وكيف هم ، فأخبره أنهم بخير ، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم. فقال له : فأخبرهم أني قد لقيت يونس. قال : وماذا ؟ قال : وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك لقيت يونس ، قال : وماذا ؟ قال وهذه الشجرة تشهد لك أنك لقيت يونس. وأنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا فقال : لا تعجلوا علي حتى أصبح ، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس ، فاستنطقها فأخبرتهم أنه لقي يونس ؛ واستنطق الشاة والشجرة فأخبرتاهم أنه لقي يونس ، ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك. ذكر هذا الخبر وما قبله الطبري رحمه الله. {فَنَبَذْنَاهُ } طرحناه. وقيل : تركناه. {بِالْعَرَاءِ } بالصحراء ؛ قال ابن الأعرابي. الأخفش : بالفضاء. أبو عبيدة : الواسع من الأرض. الفراء : العراء المكان الخالي. قال : وقال أبو عبيدة : العراء وجه الأرض ؛ وأنشد لرجل من خزاعة : ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي وحكى الأخفش في قوله : {وهو سقيم} جمع سقيم سقمى وسقامى وسقام. وقال في هذه السورة : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ } وقال في {نون وَالْقَلَمِ } [القلم : 1] : {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} [ القلم : 49] والجواب : أن الله عز وجل خبر ها هنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولولا رحمة الله عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم ؛ قاله النحاس. وقوله : {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } يعني {عليه} أي عنده ؛ كقوله تعالى : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } [الشعراء : 14] أي عندي. وقيل : {عليه} بمعنى له. {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } اليقطين : شجر الدباء : وقيل غيرها ؛ ذكره ابن الأعرابي. وفي الخبر : "الدباء والبطيخ من الجنة" وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال المبرد : يقال لكل شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض يقطينة نحو الدباء والبطيخ والحنظل ، فإن كان لها ساق يقلها فهي شجرة فقط ، وإن كانت قائمة أي بعروق تفترش فهي نجمة وجمعها نجم. قال الله تعالى : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن : 6] وروي نحوه عن ابن عباس والحسن ومقاتل. قالوا : كل نبت يمتد ويبسط على الأرض ولا يبقى على استواء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل فهو يقطين. وقال سعيد بن جبير : هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه فيدخل في هذا الموز. قلت : وهو مما له ساق. الجوهري : واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه. الزجاج : اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان إذا أقام به فهو يفعيل. وقيل : هو اسم اعجمي. وقيل : إنما خص اليقطين بالذكر ، لأنه لا ينزل عليه ذباب. وقيل : ما كان ثم يقطين فأنبته الله في الحال. القشيري : وفي الآية ما يدل على أنه كان مفروشا ليكون له ظل. الثعلبي : كانت تظله فرأى خضرتها فأعجبته ، فيبست فجعل يتحزن عليها ؛ فقيل له : يا يونس أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن على شجيرة ، فأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة ، وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس أنا أرحم الراحمين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول : "إنها شجرة أخي يونس" وقال أنس : قدم للنبي صلى الله عليه وسلم مرق فيه دباء وقديد فجعل يتبع الدباء حوالي القصعة. قال أنس : فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. أخرجه الأئمة. قوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وقد تقدم عن ابن عباس أن رسالة يونس عليه السلام إنما كانت بعد ما نبذه الحوت. وليس له طريق إلا عن شهر بن حوشب. النحاس : وأجود منه إسنادا وأصح ما حدثناه عن علي بن الحسين قال : حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا عمرو بن العنقزي قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال عن يونس النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أن يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا بين كل والدة وولدها ، وخرجوا فجأروا إلى الله عز وجل واستغفروا ، فكف الله عز وجل عنهم العذاب ، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئا - وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل - فخرج يونس مغاضبا ، فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه ، فلما دخل السفينة ركدت السفينة والسفن تسير يمينا وشمالا ؛ فقالوا : ما لسفينتكم ؟ فقالوا : لا ندري. فقال يونس عليه السلام : إن فيها عبدا آبقا من ربه جل وعز وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك. قال : فأقرعوا فمن قرع فليقع ، فاقترعوا فقرعهم يونس فأبوا أن يدعوه ، فال : فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع. فاقترعوا فقرعهم يونس ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله به جل وعز حوتا فابتلعه وهو يهوي به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] قال : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. قال : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } قال : كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. قال : وأنبت الله عليه شجرة من يقطين فنبتت ، فكان يستظل بها ويصيب منها ، فيبست فبكى عليها ؛ فأوحى الله جل وعز إليه : أتبكي على شجرة يبست ، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال : وخرج رسول الله يونس فإذا هو بغلام يرعى ؛ قال : يا غلام من أنت ؟ قال : من قوم يونس. قال : فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال : إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم تكن له بينة فمن يشهد ؟ قال : هذه الشجرة وهذه البقعة. قال : فمرهما ؛ فقال لهما يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فأشهدا له. قالتا نعم. قال : فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة وكان له إخوة ، فأتى الملك فقال : إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام. قال : فأمر به أن يقتل ؛ فقالوا : إن له بينة فأرسلوا معه. فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما : نشدتكما بالله جل وعز أتشهدان أني لقيت يونس ؟ قالتا : نعم قال : فرجع القوم مذعورين يقولون له : شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا. قال عبدالله : فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبدالله : فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. قال أبو جعفر النحاس : فقد تبين في هذا الحديث أن يونس كان قد أرسل قبل أن يلقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب ؛ لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم العذاب إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا ببن كل والدة وولدها ، وضجوا ضجة واحدة إلى الله عز وجل. وهذا هو الصحيح في الباب ، وأنه لم يكن حكم الله عز وجل فيهم كحكمه في غيرهم في قول عز وجل : {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } [غافر : 85] وقول عز وجل : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } [النساء : 18] الآية. وقال بعض العلماء : إنهم رأوا مخائل العذاب فتابوا. وهذا لا يمنع ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا في سورة "يونس" فلينظر هناك. قوله تعالى : {أَوْ يَزِيدُونَ } قد مضى في "البقرة" محامل "أو" في قوله تعالى : {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] . وقال القراء : {أو} بمعنى بل. وقال غيره : إنها بمعنى الواو ، ومنه قول الشاعر : فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما أي ورزاما. وهذا كقوله تعالى : {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77] . وقرأ جعفر بن محمد {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ َوَ يَزِيدُونَ } بغير همز ؛ فـ {يزيدون} في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي وهم يزيدون. النحاس : ولا يصح هذان القولان عند البصريين ، وأنكروا كون {أو} بمعنى بل وبمعنى الواو ؛ لأن بل للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده ، وتعالى الله عز وجل عن ذلك ، أو خروج من شيء إلى شيء وليس هذا موضع ذلك ؛ والواو معناه خلاف معنى {أو} فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لبطلت المعاني ؛ ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائتي ألف أخصر. وقال المبرد : المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر ، وإنما خوطب العباد على ما يعرفون. وقيل : هو كما تقول : جاءني زيد أو عمرو وأنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب. وقال الأخفش والزجاج : أي أو يزيدون في تقديركم. قال ابن عباس : زادوا على مائة ألف عشرين ألفا. ورواه أبي بن كعب مرفوعا. وعن ابن عباس أيضا : ثلاثين ألفا. الحسن والربيع : بضعا وثلاثين ألفا. وقال مقاتل بن حيان : سبعين ألفا. {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} أي إلى منتهى آجالهم. الآية : 149 - 157 {فاستفتهم فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قوله تعالى : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } لما ذكر أخبار الماضين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم احتج على كفار قريش في قولهم : إن الملائكة بنات الله ؛ فقال : {فَاسْتَفْتِهِمْ } . وهو معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت بينهم المسافة ؛ أي فسل يا محمد أهل مكة {ألربك البنات} وذلك أن جهينة وخزاعة وبني مليح وبنى سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله. وهذا سؤال توبيخ. {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي حاضرون لخلقنا إياهم إناثا ؛ وهذا كما قال الله عز وجل : {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } [الزخرف : 19] . ثم قال : {ألا إنهم من إفكهم} وهو أسوأ الكذب {ليقولون ، ولد الله وإنهم لكاذبون} في قولهم إن لله ولدا وهو الذي لا يلد ولا يولد. و {إن} بعد {ألا} مكسورة ؛ لأنها مبتدأة. وحكى سيبويه أنها تكون بعد أما مفتوح أو مكسورة ؛ فالفتح على أن تكون أما بمعنى حقا ، والكسر على أن تكون أما بمعنى ألا. النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول يجوز فتحها بعد ألا تشبيها بأما ، وأما في الآية فلا يجوز إلا كسرها ؛ لأن بعدها الرفع. وتمام الكلام {كاذبون} . ثم يبتدئ {أصطفى} على معنى التقريع والتوبيخ كأنه قال : ويحكم {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } أي اختار البنات وترك البنين. وقراءة العامة {أصطفى} بقطع الألف ؛ لأنها ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ، فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوح مقطوعة على حالها مثل : {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } على ما تقدم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وحمزة {اصطفى} بوصل الألف على الخبر بغير استفهام. وإذا ابتدأ كسر الهمزة. وزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها ؛ لأن بعدها {ما لكم كيف تحكمون} فالكلام جار على التوبيخ من جهتين : إحداهما أن يكون تبيينا وتفسير لما قالوه من الكذب ويكون {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } منقطعا مما قبله. والجهة الثانية أنه قد حكى النحويون - منهم الفراء - أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما قال جل وعز : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } [الأحقاف : 20] . وقيل : هو على إضمار القول ؛ أي ويقولون {أصطفى البنات} . أو يكون بدلا من قوله : {ولد الله} لأن ولادة البنات واتخاذهن اصطفاه لهن ، فأبدل مثال الماضي من مثال الماضي فلا يوقف على هذا على {لَكَاذِبُونَ } . {أَفَلا تَذَكَّرُونَ } الكلام جار على التوبيخ من جهتين : إحداهما : أن يكون تبيينا وتفسير لما قالوه من الكذب ويكون {ما لكم كيف تحكمون} منقطعا مما قبله. والجهة الثانية : أنه قد حكى النحويون - منهم الفراء - أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما قال جل وعز : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } [الأحقاف : 20] . وقيل : هو على إضمار القول ؛ أي ويقولون {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } . أو يكون بدلا من قوله : {ولد الله} لأن ولادة البنات واتخاذهن اصطفاه لهن ، فأبدل مثال الماضي مثال الماضي فلا يوقف على هذا على {لَكَاذِبُونَ } . {أفلا تذكرون} في أنه لا يجوز أن يكون له ولد. {أم لكم سلطان مبين} حجة وبرهان. {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ } أي بحججكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم. الآية : 158 - 160 {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } قوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } أكثر أهل التفسير أن الجنة ها هنا الملائكة. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قالوا - يعني كفار قريش - الملائكة بنات الله ؛ جل وتعالى. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : فمن أمهاتهن. قالوا : مخدرات الجن. وقال أهل الاشتقاق : قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد : إنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وروي عن ابن عباس. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : إنما قيل لهم جنة لأنهم خزان على الجنان والملائكة كلهم جنة. {نسبا} مصاهرة. فال قتادة والكلبي ومقاتل : قالت اليهود لعنهم الله إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم. وقال مجاهد والسدي ومقاتل أيضا. القائل ذلك كنانة وخزاعة ؛ قالوا : إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم ، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن. وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه. قلت : قول الحسن في هذا أحسن ؛ دليله قوله تعالى : {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 98] أي في العبادة. وقال ابن عباس والضحاك والحسن أيضا : هو قولهم إن الله تعالى وإبليس أخوان ؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي الملائكة {إِنَّهُمْ } يعني قائل هذا القول {لَمُحْضَرُونَ } في النار ؛ قال قتادة. وقال مجاهد : للحساب. الثعلبي : الأول أولى ؛ لأن الإحضار تكرر في هذه السورة ولم يرد الله به غير العذاب. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تنزيها لله عما يصفون. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } فإنهم ناجون من النار. الآية : 161 - 163 {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } {ما} بمعنى الذي. وقيل : بمعنى المصدر ، أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام. وقيل : أي فإنكم مع ما تعبدون من دون الله ؛ يقال : جاء فلان وفلان. وجاء فلان مع فلان. {ما أنتم عليه} أي على الله بمضلين. النحاس. أهل التفسير مجمعون فيما علمت على أن المعنى : ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدّر الله عز وجل عليه أن يضل : فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لنا فاتنا أي مضلا. الثانية- في هذه الآية رد على القدرية. قال عمرو بن ذر : قدمنا على عمر بن عبدالعزيز فذكر عنده القدر ، فقال عمر : لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة ، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله عز وجل ، عرفه من عرفه ، وجهله من جهله ؛ ثم قرأ : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } إلا من كتب الله عز وجل عليه أن يصلى الجحيم. وقال : فصلت هذه الآية بين الناس ، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي ، ولو علم الله جل وعز أنه يهتدي لحال بينه وبينهم ؛ وعلى هذا قوله تعالى : {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [الإسراء : 64] أي لست تصل منهم إلى شيء إلا إلى ما في علمي. وقال لبيد بن ربيعة في تثبيت القدر فأحسن : إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل قال الفراء : أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل ، وأهل نجد يقولون أفتنته. روي عن الحسن أنه قرأ : {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } بضم اللام. النحاس : وجماعة أهل التفسير يقولون إنه لحن ؛ لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة. ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت علي بن سليمان يقول ؛ قال : هو محمول عل المعنى ؛ لأن معنى. {من} جماعة ؛ فالتقدير صالون ، فحذفت النون للإضافة ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وقيل : أصله فاعل إلا أنه قلب من صال إلى صايل وحذفت الياء وبقيت اللام مضمومة فهو مثل {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [التوبة : 109] . ووجه ثالث أن تحذف لام {صال} تخفيفا وتجري الإعراب على عينه ، كما حذف من قولهم : ما باليت به بالة. وأصلها بالية من بالي كعافية من عافي ؛ ونظيره قراءة من قرأ ، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن : 54] ، {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ } [الرحمن : 24] أجرى الإعراب على العين. والأصل ني قراءة الجماعة صالي بالياء فحذفها الكاتب من الخط لسقوطها في اللفظ ![]()
__________________
|
#605
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ ص من صــ 137 الى صــ 146 الحلقة (605) الآية : [164] {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الآية : [165] { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الآية : [166] { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } هذا من قول الملائكة تعظيما لله عز وجل ، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم. { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ . وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} قال مقاتل : هذه الثلاث الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى ، فتأخر جبريل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أهنا تفارقني" فقال ما استطيع أن أتقدم عن مكاني. وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة : {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الآيات. والتقدير عند الكوفيين : وما منا إلا من له مقام معلوم. فحذف الموصول. وتقديره عند البصريين : وما منا ملك إلا له مقام معلوم ؛ أي مكان معلوم في العبادة ؛ قال ابن مسعود وابن جبير. وقال ابن عباس : ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي سبح. وقالت عائشة رضي الله عنها : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم" . وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله لوددت أني كنت شجرة تعضد" خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال : لوددت أني كنت شجرة تعضد. ويروى عن أبي ذر موقوفا. وقال قتادة : كان يصلي الرجال والنساء جميعا حتى نزلت هذه الآية : {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } . قال : فتقدم الرجال وتأخر النساء. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } قال الكلبي : صفوفهم كصفوف أهل الدنيا في الأرض. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد ؛ فقال : "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها" فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال ؟ : "يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف" وكان عمر يقول إذا قام للصلاة : أقيموا صفوفكم واستووا إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها ويقرأ : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } تأخر يا فلان تقدم يا فلان ؛ ثم يتقدم فيكبر. وقد مضى في سورة [الحجر] بيانه. وقال أبو مالك : كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله تعالى : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا. وقال الشعبي. جاء جبريل أو ملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ؛ إن الملائكة لتصلي وتسبح ما في السماء ملك فارغ. وقيل : أي لنحن الصافون أجنحتنا في الهواء وقوفا ننتظر ما نؤمر به. وقيل : أي نحن الصافون حول العرش. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } أي المصلون ؛ قال قتادة. وقيل : أي المنزهون الله عما أضافه إليه المشركون. والمراد أنهم يخبرون أنهم يعبدون الله بالتسبيح والصلاة وليسوا معبودين ولا بنات الله. وقيل : {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للمشركين ؛ أي لكل واحد منا ومنكم في الآخرة مقام معلوم وهو مقام الحساب. وقيل : أي منا من له مقام الخوف ، ومنا من له مقام الرجاء ، ومنا من له مقام الإخلاص ، ومنا من له مقام الشكر. إلى غيرها من المقامات. قلت : والأظهر أن ذلك راجع إلى قول الملائكة : {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } والله أعلم. الآية : 167 {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ، لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاد إلى الإخبار عن قول المشركين ، أي كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إذا عيروا بالجهل قالوا : {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ } أي لو بعث إلينا نبي ببيان الشرائع لاتبعناه. ولما خففت {إن} دخلت على الفعل ولزمتها اللام فرقا بين النفي والإيجاب. والكوفيون يقولون : {إن} بمعنى ما واللام بمعنى إلا. وقيل : معنى {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً } أي كتابا من كتب الأنبياء. {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي لو جاءنا ذكر كما جاء الأولين لأخلصنا العبادة لله. {فكفروا به} أي بالذكر. والفراء يقدره على حذف ، أي فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر فكفروا به. وهذا تعجيب منهم ، أي فقد جاءهم نبي وأنزل عليهم كتاب فيه بيان ما يحتاجون إليه فكفروا وما وفوا بما قالوا. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } قال الزجاج : يعلمون مغبة كفرهم. الآية : 171 - 179 {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } قوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } قال الفراء : أي بالسعادة. وقيل : أراد بالكلمة قوله عز وجل : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [المجادلة : 21] قال الحسن : لم يقتل من أصحاب الشرائع قط أحد {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } أي سبق الوعد بنصرهم بالحجة والغلبة. {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } على المعنى ولو كان على اللفظ لكان هو الغالب مثل {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } [ص : 11] . وقال الشيباني : جاء ها هنا على الجمع من أجل أنه رأس آية. قوله تعالى : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي أعرض عنهم. {حَتَّى حِينٍ } قال قتادة : إلى الموت. وقال الزجاج : إلى الوقت الذي أمهلوا إليه. وقال ابن عباس : يعني القتل ببدر. وقيل : يعني فتح مكة. وقيل : الآية منسوخة بآية السيف. {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } قال قتادة : سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار. وعسى من الله للوجوب وعبر بالإبصار عن تقريب الأمر ؛ أي عن قريب يبصرون. وقيل : المعنى فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة. {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } كانوا يقولون من فرط تكذيبهم متى هذا العذاب ؛ أي لا تستعجلوه فإنه واقع بكم. قوله تعالى : {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } أي العذاب. قال الزجاج : وكان عذاب هؤلاء بالقتل. ومعنى {بساحتهم} أي بدارهم ؛ عن السدي وغيره. والساحة والسحسة في اللغة فناء الدار الواسع. الفراء : {نزل بساحته} ونزل بهم سواء. {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب. وفيه إضمار أي فساء الصباح صباحهم. وخص الصباح بالذكر ؛ لأن العذاب كان يأتيهم فيه. ومنه الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال : لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي ، فقالوا : محمد والخميس ، ورجعوا إلى حصنهم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" وهو يبين معنى : {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } يريد : النبي صلى الله عليه وسلم. {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ } كرر تأكيدا. {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } تأكيدا أيضا. الآية : 180 {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {سُبْحَانَ رَبِّكَ } نزه سبحانه نفسه عما أضاف إليه المشركون. {رَبِّ الْعِزَّةِ } على البدل. ويجوز النصب على المدح ، والرفع بمعنى هو رب العزة. {عَمَّا يَصِفُونَ } أي من الصاحبة والولد. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى "سبحان الله" فقال : "هو تنزيه الله عن كل سوء" وقد مضى في "البقرة" مستوفى. الثانية : سئل محمد بن سحنون عن معنى {رَبِّ الْعِزَّةِ } لم جاز ذلك والعزة من صفات الذات ، ولا يقال رب القدرة ونحوها من صفات ذاته جل وعز ؟ فقال : العزة تكون صفة ذات وصفة فعل ، فصفة الذات نحو قوله : {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } وصفه الفعل نحو قوله : {رَبِّ الْعِزَّةِ } والمعنى رب العزة التي يتعاز بها الخلق فيما بينهم فهي من خلق الله عز وجل. قال : وقد جاء في التفسير إن العزة ها هنا يراد بها الملائكة. قال : وقال بعض علمائنا : من حلف بعزة الله فإن أراد عزته التي هي صفته فحنث فعليه الكفارة ، وإن أراد التي جعلها الله بين عباده فلا كفارة عليه. الماوردي : {رَبِّ الْعِزَّةِ } يحتمل وجهين : أحدهما : مالك العزة ، والثاني : رب كل شيء متعزز من ملك أو متجبر. قلت : وعلى الوجهين فلا كفارة إذا نواها الحالف. الثالثة : روي من حديث أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل أن يسلم : {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ } إلى آخر السورة ؛ ذكره الثعلبي. قلت : قرأت على الشيخ الإمام المحدث الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك البكري بالجزيرة قبالة المنصورة من الديار المصرية ، قال أخبرتنا الحرة أم المؤيد زينب بنت عبدالرحمن بن الحسن الشعري بنيسابور في المرة الأولى ، أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن أبي بكر القارئ ، قال حدثنا أبو الحسن عبدالقادر بن محمد الفارسي ، قال حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد الإسفرايني ، قال حدثنا أبو سليمان داود بن الحسين البيهقي ، قال حدثنا أبو زكرياء يحيى بن يحيى بن عبدالرحمن التميمي النيسابوري ، قال حدثنا هشيم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . قال الماوردي : روى الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم : {سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين} . ذكره الثعلبي من حديت علي رضي الله عنه مرفوعا." "صفحة رقم 142" الرابعة قوله تعالى : وسلام على المرسلين أي الذين بلغوا عن الله تعالى التوحيد والرسالة وقال أنس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين ) وقيل : معنى وسلام على المرسلين أي أمن لهم من الله جل وعز يوم الفزع الأكبر والحمد لله رب العالمين أي على إرسال المرسلين مبشرين ومنذرين وقيل : أي على جميع ما أنعم الله به على الخلق أجمعين وقيل : أي على هلاك المشركين دليله : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين قلت : والكل مراد والحمد يعم ومعنى يصفون يكذبون والتقدير عما يصفون من الكذب تم تفسير الصافات تفسير سورة ص مكية في قول الجميع ، وهي ست وثمانون آية. وقيل ثمان وثمانون آية. سورة ص بسم الله الرحمن الرحيم الآية : [1] { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } الآية : [2] { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } الآية : [3] { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قوله تعالى : {ص} قراءة العامة {ص} بجزم الدال على الوقف ؛ لأنه حرف من حروف الهجاء مثل : {الم} و {المر} . وقرأ أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم {صاد} بكسر الدال بغير تنوين. ولقراءته مذهبان : أحدهما : أنه من صادى يصادي إذا عارض ، ومنه { فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى } أي تعرض. والمصاداة المعارضة ، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية. فالمعنى صاد القرآن بعملك ؛ أي عارضه بعملك وقابله به ، فاعمل بأوامره ، وانته عن نواهيه. النحاس : وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسر به قراءته رواية صحيحة. وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته. والمذهب الآخر أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين. وقرأ عيسى بن عمر {صاد} بفتح الدال مثله : {قاف} و {نون} بفتح آخرها. وله في ذلك ثلاثة مذاهب : أحدهن : أن يكون بمعنى أتل. والثاني : أن يكون فتح لالتقاء الساكنين واختار الفتح للإتباع ؛ ولأنه أخف الحركات. والثالث : أن يكون منصوبا على القسم بغير حرف ؛ كقولك : الله لأفعلن ، وقيل : نصب على الإغراء. وقيل : معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا {صادِ} بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم ، وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله. ويجوز أن يكون مشبها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع : {صادُ} و {قافُ} و {نونُ} بضم آخرهن : لأنه المعروف بالبناء في غالب الحال ، نحو منذ وقط وقبل وبعد. و {ص} إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف ؛ كما أنك إدا سميت مؤنثا بمذكر لا ينصرف وإن قلت حروفه. وقال ابن عباس وجابر بن عبدالله وقد سئلا عن {ص} فقالا : لا ندري ما هي. وقال عكرمة : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن {ص} فقال : {ص} كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار. وقال سعيد بن جبير : {ص} بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال الضحاك : معناه صدق الله. وعنه أن {ص} قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى. وقال السدي ، وروي عن ابن عباس. وقال محمد بن كعب : هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد. وقال قتادة : هو اسم من أسماء الرحمن. وعنه أنه اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد : هو فاتحة السورة. وقيل : هو مما استأثر الله تعالى بعلمه وهو معنى القول الأول. وقد تقدم جميع هذا في "البقرة" . قوله تعالى : { وَالْقُرْآنِ } ؤ خفض بواو القسم والواو بدل من الباء ؛ أقسم بالقرآن تنبيها على جلالة قدره ؛ فإن فيه بيان كل شيء ، وشفاء لما في الصدور ، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. { ذِي الذِّكْرِ } خفض على النعت وعلامة خفضه الياء ، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوى على فعل. قال ابن عباس : ومقاتل معنى {ذِي الذِّكْرِ} ذي البيان. الضحاك : ذي الشرف أي من آمن به كان شرفا له في الدارين ؛ كما قال تعالى : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي شرفكم. وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره. وقيل : { ذِي الذِّكْرِ } أي فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين. وقيل : { ذِي الذِّكْرِ } أي فيه ذكر أسماء الله وتمجيده. وقيل : أي ذي الموعظة والذكر. وجواب القسم محذوف. واختلف فيه على أوجه : فقيل جواب القسم {ص} ؛ لأن معناه حق فهي جواب لقوله : { وَالْقُرْآنِ } كما تقول : حقا والله ، نزل والله ، وجب والله ؛ فيكون الوقف من هذا الوجه على قوله : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } حسنا ، وعلى { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } تماما. قال ابن الأنباري. وحكى معناه الثعلبي عن الفراء. وقيل : الجواب { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } لأن {بل} نفي لأمر سبق وإثبات لغيره ؛ قاله القتبي ؛ فكأنه قال : {والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق} عن قبول الحق وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم. أو { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب ؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة بل هم في تكبر عن قبول الحق. وهو كقوله : { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا } . وقيل : الجواب { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } كأنه قال : والقرآن لكم أهلكنا ؛ فلما تأخرت {كم} حذفت اللام منها ؛ كقوله تعالى : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ثم قال : { قَدْ أَفْلَحَ } أي لقد أفلح. قال المهدوي : وهذا مذهب الفراء. ابن الأنباري : فمن هذا الوجه لا يتم الوقف على قوله : { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } . وقال الأخفش : جواب القسم { إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } ونحو منه قوله تعالى : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وقوله : { وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } إلى قوله { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ } . ابن الأنباري : وهذا قبيح ؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما وكثرت الآيات والقصص. وقال الكسائي : جواب القسم قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ابن الأنباري : وهذا أقبح من الأول ؛ لأن الكلام أشد طولا فيما بين القسم وجوابه. وقيل الجواب قوله : { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } وقال قتادة : الجواب محذوف تقديره { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } لتبعثن ونحوه. قوله تعالى : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ } أي تكبر وامتناع من قبول الحق ؛ كما قال جل وعز : {وإذا وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ } أخذته العزة بالإثم والعزة عند العرب : الغلبة والقهر. يقال : من عز بز ؛ يعني من غلب سلب. ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أراد غلبني. وقال جرير : يعز على الطريق بمنكبيه ... كما ابترك الخليع على القداح أراد يغلب. { وَشِقَاقٍ } أي في إظهار خلاف ومباينة. وهو من الشق كأن هذا في شق وذلك في شق. وقد مضى في "البقرة" مستوفى. قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء. و { كَمْ} لفظة التكثير { فَنَادَوْا } أي بالاستغاثة والتوبة. والنداء رفع الصوت ؛ ومنه الخبر : "ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا" أي أرفع. { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. النحاس : وهذا تفسير منه لقوله عز وجل : {ولات حين مناص} فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال : ليس بحين نزو ولا فرار ؛ قال : ضبط القوم جميعا قال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض مناص ؛ أي عليكم بالفرار والهزيمة ، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص ؛ فقال الله عز وجل : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال القشيري : وعلى هذا فالتقدير : فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه ؛ أي ليس الوقت وقت ما تنادون به. وفي هذا نوع تحكم ؛ إذ يبعد أن يقال : كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار. وقيل : المعنى { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي لا خلاص وهو نصب بوقوع لا عليه. قال القشيري : وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ؛ أي ساعة لا منجى ولا فوت. فلما قدم {لا} وأخر {حين} اقتضى ذلك الواو ، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا ؛ مثل قولك : جاء زيد راكبا ؛ فإذا جعلته مبتدأ وخبر اقتضى الواو مثل جاءني زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : { فَنَادَوْا } . والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص ؛ أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص. قال الفراء : أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص يقال : ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ. النحاس : ويقال : ناص ينوص إذا تقدم. قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد ، والنوص الحمار الوحشي. واستناص أي تأخر ؛ قاله الجوهري. وتكلم النحويون في { وَلاتَ حِينَ } وفي الوقف عليه ، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود. فقال سيبويه : {لات} مشبهة بليس والاسم فيها مضمر ؛ أي ليست أحياننا حين مناص. وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول : ولات حين مناص. وحكي أن الرفع قليل ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب ؛ أي ولات حين مناص لنا. والوقف عليها عند سيبويه والفراء {ولات} بالتاء ثم تبتدئ { حِينَ مَنَاصٍ } هو قول ابن كيسان والزجاج. قال أبو الحسن بن كيسان : والقول كما قال سيبويه ؛ لأن شبهها بليس فكما يقال ليست يقال لات. والوقوف عليها عتد الكسائي بالهاء ولاه. وهو قول المبرد محمد بن يزيد. وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة ، كما يقال ثُمه ورُبه. وقال القشيري : وقد يقال ثُمت بعني ثُم ، وربت بمعنى رب ؛ فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا لاه ، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء. وقال الثعلبي : وقال أهل اللغة : و { وَلاتَ حِينَ } مفتوحتان كأنهما ![]()
__________________
|
#606
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ ص من صــ 147 الى صــ 156 الحلقة (606) كلمة واحدة ، وإنما هي {لا} زيدت فيها التاء نحو رب وربت ، وثم وثمت. قال أبو زبيد الطائي : طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء وقال آخر : تذكر حب ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب قد قطع القرينا ومن العرب من يخفض بها ؛ وأنشد الفراء : فلتعرفن خلائقا مشمولة ... ولتندمن ولات ساعة مندم وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن {ولات حين} التاء منقطعة من حين ، ويقولون معناها وليست. وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين. وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : الوقف عندي على هذا الحرف {ولا} والابتداء { تَحِينَ مَنَاصٍ } فتكون التاء مع حين. وقال بعضهم : {لات} ثم يبتدئ فيقول : { حِينَ مَنَاصٍ } . قال المهدوي : وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين وهو غلط عند النحويين ، وهو خلاف قول المفسرين. ومن حجة أبي عبيد أن قال : إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن ؛ وأنشد لأبي وجزة السعدي : العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ابن المطعم وأنشد لأبي زبيد الطائي : طلبوا صلحنا ولا تأوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء فأدخل التاء في أوان. قال أبو عبيد : ومن إدخالهم التاء في الآن ، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان معك. وكذلك قول الشاعر : نولي قبل نأي داري جمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا فال أبو عبيد : ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام - مصحف عثمان - فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين. قال أبو جعفر النحاس : أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فرواه العلماء باللغة على أربعة أوجه ، كلها على خلاف ما أنشده ؛ وفي أحدها تقديران ؛ رواه أبو العباس محمد بن يزيد : العاطفون ولات ما من عاطف والرواية الثانية : العاطفون ولات حين تعاطف والرواية الثالثة رواها ابن كيسان : العاطفونةَ حين ما من عاطف جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج ، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث. الرواية الرابعة : العاطفونهُ حين ما من عاطف وفي هذه الرواية تقديران ؛ أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب ؛ كما تقول : الضاربون زيدا فإذا كنيت قلت الضاربوه. وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه ، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر العاطفون على أن الهاء لبيان الحركة ، كما تقول : مر بنا المسلمونه في الوقف ، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف ؛ كما قرأ أهل المدينة : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه ؛ لأنه يوقف عليه : ولات أوان ، غير أن فيه شيئا مشكلا ؛ لأنه يروى : ولات أوان بالخفض ، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا. وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } بكسر التاء من لات والنون من حين فإن الثبت عنه أنه قرأ { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } فبنى { وَلاتَ } على الكسر ونصب { حِينَ } . فأما : ولات أوان ففيه تقديران ؛ قال الأخفش : فيه مضمر أي ولات حين أوان. قال النحاس : وهذا القول بين الخطأ. والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال : تقديره ولات أواننا فحذف ، المضاف إليه فوجب ألا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين. وأنشده محمد بن يزيد ولات أوان بالرفع. وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائله ولا تصح به حجة. على أن محمد بن يزيد رواه : كما زعمت الآن. وقال غيره : المعنى كما زعمت أنت الآن. فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث ابن عمر ، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له : اذهب بها تلان إلى أصحابك فلا حجة ، فيه ؛ لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى. والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه : اذهب فاجهد جهدك. ورواه آخر : اذهب بها الآن معك. وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام { تَحِينَ } . فلا حجة فيه ؛ لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها ، وفي المصاحف كلها { وَلاتَ } فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص. الآية : [4] { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } الآية : [5] { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } قوله تعالى : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } {أن} في موضع نصب والمعنى من أن جاءهم. قيل : هو متصل بقوله : { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أي في عزة وشقاق وعجبوا ، وقوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } معترض. وقيل : لا بل هذا ابتداء كلام ؛ أي ومن جهلهم أنهم أظهروا التعجب من أن جاءهم منذر منهم. { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ } أي يجيء بالكلام المموه الذي يخدع به الناس ؛ وقيل : يفرق بسحره بين الوالد وولده والرجل وزوجته { كَذَّابٌ } أي في دعوى النبوة. قوله تعالى : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } مفعولان أي صير الآلهة إلها واحدا. { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي عجيب. وقرأ السلمي : { عُجَابٌ } بالتشديد. والعجاب والعجّاب والعجب سواء. وقد فرق الخليل بين عجيب وعجاب فقال : العجيب العجب ، والعجاب الذي قد تجاوز حد العجب ، والطويل الذي فيه طول ، والطوال ، الذي قد تجاوز حد الطول. وقال الجوهري : العجيب الأمر الذي يتعجب منه ، وكذلك العجاب بالضم ، والعجاب بالتشديد أكثر منه ، وكذلك الأعجوبة. وقال مقاتل : { عُجَابٌ } لغة أزد شنوءة. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه ، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، قال : وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ فقال : "يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم" فقال : وما هي ؟ قال : "لا إله إلا الله" قال : فقالوا { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } قال : فنزل فيهم القرآن : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } حتى بلغ { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ } خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال : هذا حديث حسن صحيح. وقيل : لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا : اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تمل كل الميل على قومك. قال : "وماذا يسألونني" قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم" فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا لا إله إلا الله" فنفروا من ذلك وقاموا ؛ فقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} الآية : [6] { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } الآية : [7] { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ } الآية : [8] { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } الآية : [9] { أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } الآية : [10] { أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } الآية : [11] { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ } قوله تعالى : { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } {الملأ} الأشراف ، والانطلاق الذهاب بسرعة ؛ أي انطلق هؤلاء الكافرون من عند الرسول عليه السلام يقول بعضهم لبعض : { أَنِ امْشُوا } أي امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه. { وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } وقيل : هو إشارة إلى مشيهم إلى أبي طالب في مرضه كما سبق. وفي رواية محمد بن إسحاق أنهم أبو جهل بن هشام ، وشيبة وعتبة أبناء ربيعة بن عبد شمس ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، وأبو معيط ؛ وجاؤوا إلى أبي طالب فقالوا : أنت سيدنا وأنصفنا في أنفسنا ، فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه ، فقد تركوا ألهتنا وطعنوا في ديننا ؛ فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن قومك يدعونك إلى السواء والنصفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة" فقال أبو جهل وعشرا. قال : "تقولون لا إله إلا الله" فقاموا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } الآيات. { أَنِ امْشُوا } {أن} في موضع نصب والمعنى بأن امشوا. وقيل : {أن} بمعنى أي ؛ أي { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ } أي أمشوا ؛ وهذا تفسير انطلاقهم لا أنهم تكلموا بهذا اللفظ. وقيل : المعنى انطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام : { امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } أي على عبادة آلهتكم. {إنَّ هَذاَ} أي هذا الذي جاء به محمد عليه السلام { لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي يراد بأهل الأرض من زوال نعم قوم وغِيَر تنزل بهم. وقيل : { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } كلمة تحذير ؛ أي إنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا ، ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد ، فاحذروا أن تطيعوه. وقال مقاتل : إن عمر لما أسلم وقوي به الإسلام شق ذلك على قريش فقالوا : إن إسلام عمر في قوة الإسلام لشيء يراد. قوله تعالى : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } قال ابن عباس والقرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي : يعنون ملة عيسى النصرانية وهي آخر الملل. والنصارى يجعلون مع الله إلها. وقال مجاهد وقتادة أيضا : يعنون ملة قريش. وقال الحسن : ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان. وقيل : أي ما سمعنا من أهل الكتاب أن محمدا رسول حق. { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} ْ أي كذب وتخرص ؛ عن ابن عباس وغيره. يقال : خلق واختلق أي ابتدع. وخلق الله عز وجل الخلق من هذا ؛ أي ابتدعهم على غير مثال. قوله تعالى : { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } هو استفهام إنكار ، والذكر ها هنا القرآن. أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم. { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } أي من وحيي وهو القرآن. أي قد علموا أنك لم تزل صدوقا فيما بينهم ، وإنما شكوا فيما أنزلته عليك هل هو من عندي أم لا. { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي إنما اغتروا بطول الإمهال ، ولو ذاقوا عذابي على الشرك لزال عنهم الشك ، ولما قالوا ذلك ؛ ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ. و { لَمَّا } بمعنى لم وما زائدة كقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } . قوله تعالى : { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } قيل : أم لهم هذا فيمنعوا محمدا عليه السلام مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة. و { أَمْ } قد ترد بمعنى التقريع إذا كان الكلام متصلا بكلام قبله ؛ كقوله تعالى : {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } وقد قيل إن قوله : { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } متصل بقول : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } فالمعنى أن الله عز وجل يرسل من يشاء ؛ لأن خزائن السموات والأرض له : { أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي فإن ادعوا ذلك : { فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ } أي فليصعدوا إلى السموات ، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد. يقال : رقي يرقى وارتقى إذا صعد. ورقى يرقي رقيا مثل رمى يرمي رميا من الرقية. قال الربيع بن أنس : الأسباب أرق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى. والسبب في اللغة كل ما يوصل به إلى المطلوب من حبل أو غيره. وقيل : الأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها ؛ قاله مجاهد وقتادة. قال زهير : ولو رام أسباب السماء بسلم وقيل : الأسباب السموات نفسها ؛ أي فليصعدوا سماء سماء. وقال السدي : { فِي الأَسْبَابِ } في الفضل والدين. وقيل : أي فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة. وهو معنى قول أبي عبيدة. وقيل : الأسباب الحبال ؛ يعني إن وجدوا حبلا أو سببا يصعدون فيه إلى السماء فليرتقوا ؛ وهذا أمر توبيخ وتعجيز. ثم وعد نبيه صلى النصر عليهم فقال : { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ } { مَا } صلة وتقديره هم جند ، فـ {ـجُنْدٌ } خبر ابتداء محذوف. { مَهْزُومٌ } أي مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم ؛ لأنهم لا يصلون إلى أن يقولوا هذا لنا. ويقال : تهزمت القربة إذا انكسرت ، وهزمت الجيش كسرته. والكلام مرتبط بما قبل ؛ أي : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } وهم جند من الأحزاب مهزومون ، فلا تغمك عزتهم وشقاقهم ، فإني أهزم جمعهم وأسلب عزهم. وهذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقد فعل بهم هذا في يوم بدر. قال قتادة : وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر. و { هُنَالِكَ } إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : المراد بالأحزاب الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى ذلك في {الأحزاب} . والأحزاب الجند ، كما يقال : جند من قبائل شتى. وقيل : أراد بالأحزاب القرون الماضية من الكفار. أي هؤلاء جند على طريقة أولئك كقوله تعالى : { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } أي على ديني ومذهبي. وقال الفراء : المعنى هم جند مغلوب ؛ أي ممنوع عن أن يصعد إلى السماء. وقال القتبي : يعني أنهم جند لهذه الآلهة مهزوم ، فهم لا يقدرون على أن يدعوا لشيء من آلهتهم ، ولا لأنفسهم شيئا من خزائن رحمة الله ، ولا من ملك السموات والأرض. الآية : [12] { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ } الآية : [13] { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } الآية : [14] { إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } ذكرها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له ؛ أي هؤلاء من قومك يا محمد جند من الأحزاب المتقدمين الذين تحزبوا على أنبيائهم ، وقد كانوا أقوى من هؤلاء فأهلكوا. وذكر الله تعالى القوم بلفظ التأنيث ، واختلف أهل العربية في ذلك على قولين : أحدهما : أنه قد يجوز فيه التذكير والتأنيث. الثاني : أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه ، إلا أن يقع المعنى على العشيرة والقبيلة ، فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيها عليه ؛ كقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } ولم يقل ذكرها ؛ لأنه لما كان المضمر فيه مذكرا ذكره ؛ وإن كان اللفظ مقتضيا للتأنيث. ووصف فرعون بأنه ذو الأوتاد. وقد اختلف في تأويل ذلك ؛ فقال ابن عباس : المعنى ذو البناء المحكم. وقال الضحاك : كان كثير البنيان ، والبنيان يسمى أوتادا. وعن ابن عباس أيضا وقتادة وعطاء : أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها. وعن الضحاك أيضا : ذو القوة والبطش. وقال الكلبي ومقاتل : كان يعذب الناس بالأوتاد ، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات حتى يموت. وقيل : كان يشبح المعذب بين أربع سوار ؛ كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت. وقيل : ذو الأوتاد أي ذو الجنود الكثيرة فسميت الجنود أوتادا ؛ لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت. وقال ابن قتيبة : العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد ، يريدون دائما شديدا. وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقال الأسود بن يعفر : ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد وواحد الأوتاد وتد بالكسر ، وبالفتح لغة. وقال الأصمعي : يقال وتد واتد كما يقال : شغل شاغل. وأنشد : لاقت على الماء جذيلا واتدا ... ولم يكن يخلفها المواعدا قال : شبه الرجل بالجذل. { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ } أي الغيضة. وقد مضى ذكرها في {الشعراء} . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : { لْيكَةِ } بفتح اللام والتاء من غير همز. وهمز الباقون وكسروا التاء. وقد تقدم هذا. { أُولَئِكَ الأَحْزَابُ } أي هم الموصوفون بالقوة والكسرة ؛ كقولك فلان هو الرجل. { إِنْ كُلٌّ } بمعنى ما كل. { إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } أي فنزل بهم العذاب لذلك التكذيب. وأثبت يعقوب الياء في {عذابي} و {عقابي} في الحالين وحذفها الباقون في الحالين. ونظير هذه الآية قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } فسمى هذه الأمم أحزابا. الآية : [15] { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } الآية : [16] { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } قوله تعالى : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } { يَنْظُرُ } بمعنى ينتظر ؛ ومنه قوله تعالى : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } . { هَؤُلاءِ } يعني كفار مكة. إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً أي نفخة القيامة. أي ما ينتظرون بعد ما أصيبوا ببدر إلا صيحة القيامة. وقيل : ما ينتظر أحياؤهم الآن إلا الصيحة التي هي النفخة في الصور ، كما قال تعالى : { مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فلا فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت. وقيل : أي ما ينتظر كفار آخر هذه الأمة المتدينين بدين أولئك إلا صيحة واحدة وهي النفخة. وقال عبدالله بن عمرو : لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله عز وجل على أهل الأرض. { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } أي من ترداد ؛ عن ابن عباس. مجاهد : ما لها رجوع. قتادة : ما لها من مثنوية. السدي : مالها من إفاقة. وقرأ حمزة والكسائي : { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } بضم الفاء. الباقون بالفتح. الجوهري : والفَواق والفُواق ما بين الحلبتين من الوقت ؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. يقال : ما أقام عنده إلا فواقا ؛ وفي الحديث : "العيادة قدر فواق الناقة" . وقوله تعالى : { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } يقرأ بالفتح والضم أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة. والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين : صارت الواو ياء لكسر ما قبلها ؛ قال الأعشى يصف بقرة : حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا والجمع فيق ثم أفواق مثل شبر وأشبار ثم أفاويق. قال ابن همام السلولي : وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعل والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء ، فهو يمطر ساعة بعد ساعة. وأفاقت الناقة إفاقة أي اجتمعت الفيقة في ضرعها ؛ فهي مفيق ومفيقة - عن أبي عمرو - والجمع مفاويق. وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما : { مِنْ فَوَاقٍ } بفتح الفاء أي راحة لا يفيقون فيها ، كما يفيق المريض والمغشي عليه. و { مِنْ فَوَاقٍ } بضم الفاء من انتظار. وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين ![]()
__________________
|
#607
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ ص من صــ 157 الى صــ 166 الحلقة (607) قلت : والمعنى المراد أنها ممتدة لا تقطيع فيها. وروى أبو هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في طائفة من أصحابه... الحديث. وفيه : "يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها يقول الله عز وجل : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } وذكر الحديث ، خرجه علي بن معبد وغيره كما ذكرناه في كتاب التذكرة." قوله تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } قال مجاهد : عذابنا. وكذا قال قتادة : نصيبنا من العذاب. الحسن : نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. وقال سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة قط. قال الفراء : القط في كلام العرب الحظ والنصيب. ومنه قيل للصك قط. وقال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط ؛ قال الأعشى : ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق يعني كتب الجوائز. ويروى : بأمته بدل بغبطته ، أي بنعمته وحال الجليلة ، ويأفق يصلح. ويقال : في جمع قط أيضا قططة وفي القليل أقط وأقطاط. ذكره النحاس. وقال السدي : سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به. وقال إسماعيل بن أبي خالد : المعنى عجل لنا أرزاقنا. وقيل : معناه عجل لنا ما يكفينا ؛ من قولهم : قطني ؛ أي يكفيني. وقيل : إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتهم التي يعطونها بأيمانهم وشمائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } وأصل القط القط وهو القطع ، ومنه قط القلم ؛ فالقط اسم للقطعة من الشيء كالقسم والقس فأطلق على النصيب والكتاب والرزق لقطعه عن غيره ، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالا وأقوى حقيقة. قال أمية بن أبى الصلت : قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلم { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد. وكل هذا استهزاء منهم. الآية : [17] { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } قوله تعالى : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر لما استهزؤوا به. وهذه منسوخة بآية السيف. قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ } لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم ، وسلاه بكل ما تقدم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء ؛ ليتسلى بصبر من صبر منهم ؛ وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء. وقيل : المعنى اصبر على قولهم ، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء ؛ لتكون برهانا على صحة نبوتك. وقول : { عَبْدَنَا } إظهارا لشرفه بهذه الإضافة { ذَا الأَيْدِ } ذا القوة في العبادة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشد الصوم وأفضله ؛ وكان يصلي نصف الليل ، وكان لا يفر إذا لاقى العدو ، وكان قويا في الدعاء إلى الله تعالى. ويقال : الأيد والآد كما تقول العيب والعاب. قال : لم يك يناد فأمسى أنادا ومنه رجل أيد أي قوي. وتأيد الشيء تقوى ، قال الشاعر : إذا القوس وترها أيد ... رمى فأصاب الكلى والذوا يقول : إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. { إِنَّهُ أَوَّابٌ } قال الضحاك : أي تواب. وعن غيره : أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة" . ويقال آب يؤوب إذا رجع ؛ كما قال : وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به. الآية : [18] { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } فيه أربع مسائل : الأولى- قوله تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } { يُسَبِّحْنَ } في موضع نصب على الحال. ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل : كان داود إذا ذكر الله جل وعز ذكرت الجبال معه ، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال ابن عباس : { يُسَبِّحْنَ } يصلين. وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه. وقال محمد بن إسحاق : أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن ، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه ، فهذا تسبيح الجبال والطير. وقيل : سخرها الله عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها ؛ لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين. وقد مضى القول في هذا في {سبأ} وفي {سبحان} عند قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال. والله أعلم. { بِالْعَشِيِّ وَالأِشْرَاقِ } الإشراق أيضا أبيضاض الشمس بعد طلوعها. يقال : شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت. فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها. الثانية- روي عن ابن عباس أنه قال : كنت أمر بهذه الآية : { بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } ولا أدري ما هي ، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى صلاة الضحى ، وقال : "يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق" . وقال عكرمة قال ابن عباس : كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } . قال عكرمة : وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد. وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس : إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين. فقال ابن عباس : وأنا أوجدك في القرآن ؛ ذلك في قصة داود : { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } . الثالثة- صلاة الضحى نافلة مستحبة ، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي ، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ؛ ويرتفع كدرها ؛ وتشرق بنورها ؛ كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال" الفصال والفصلان جمع فصيل ، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل. والرمضاء شدة الحر في الأرض. وخص الفصال هنا بالذكر ؛ لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها ، وذلك يكون في الضحى أوبعده بقليل وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها ؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي. ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا ، لأجل شغله فيخسر عمله ؛ لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له. الرابعة- روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة" قال حديث غريب. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مئل زبد البحر" . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر" لفظ البخاري. وقال مسلم : "وركعتي الضحى" وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة. والله أعلم. وأصل السلامى : "بضم السين" عظام الأصابع والأكف والأرجل ، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله. وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس ، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" قال أبو توبة : وربما قال : "يمسي" كذا خرجه مسلم. وقوله : "ويجزي من ذلك ركعتان" أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان. وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد ؛ فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل. والله أعلم. الآية : [19] { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } الآية : [20] { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قوله تعالى : { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } معطوف على الجبال. قال الفراء : ولو قرئ { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } لجاز ؛ لأنه لم يظهر الفعل. قال ابن عباس : كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه. فاجتماعها إليه حشرها. فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح الله معه. وقيل : أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه. أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور. { كُلٌّ لَهُ } أي لداود { أَوَّابٌ } أي مطيع ؛ أي تأتيه وتسبح معه. وقيل : الهاء لله عز وجل. قوله تعالى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي قويناه حتى ثبت. قيل : بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب. وقيل : بكثرة الجنود. وقيل : بالتأييد والنصر. وهذا اختيار ابن العربي. فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان. وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا. كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله. والملك عبارة عن كثرة الملك ، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك ؛ فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية. وقد مضى هذا المعنى في {براءة} وحقيقة الملك في {النمل} مستوفى. قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } فيه مسألتان : الأولى- قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي النبوة ؛ قال السدي. مجاهد : العدل. أبو العالية : العلم بكتاب الله تعالى. قتادة : السنة. شريح : العلم والفقه. {وفصل الخطاب} قال أبو عبدالرحمن السلمي وقتادة : يعني الفصل في القضاء. وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس : بيان الكلام. علي بن أبي طالب : هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا. وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا : هو قوله أما بعد ، وهو أول من تكلم بها. وقيل : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } البيان الفاصل بين الحق والباطل. وقيل : هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول علي رضي الله عنه يجمعه ؛ لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى. الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد ، وفصل منه مؤكد ، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ؛ ففي الحديث : "أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" . وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال ، عارفا بالحلال والحرام ، ولا يقوم بفصل القضاء. يروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد ؛ فوقع فيها الأسد ؛ وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر ، وتعلق الآخر بآخر ، حتى صاروا أربعة ، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا ، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال ؛ قال فأتيتهم فقلت : أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة إناس! تعالوا أقض بينكم بقضاء ؛ فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم ، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بالقضاء. فجعل للأول ربع الدية ، وجحل للثاني ثلث الدية ، وجعل للثالث نصف الدية ، وجعل للرابع الدية ، وجعل الديات على حفر الزبية على قبائل الأربعة ؛ فسخط بعضهم ورضي بعضهم ، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة ؛ فقال : "أنا أقضي بينكم" فقال قائل : إن عليا قد قضى بيننا. فأخبروه بما قضى علي ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القضاء كما قضى علي" في رواية : فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء علي وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال : إن ابن أبي ليلى - وكان قاضيا بالكوفة - جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة. فقال : أخطأ من ستة أوجه. قال ابن العربي : وهذا الذي قال أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء. فأما قضية علي فلا يدركها الشادي ، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادى. وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها ، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة ، فله الدية بما قتل ، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم. وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالإثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة. وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف ؛ لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه. وهذا من بديع الاستنباط. وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرأها ستة : الأول أن المجنون لا حد عليه ؛ لأن الجنون يسقط التكليف. وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون ، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته. والثاني قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد ، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد القذف يتداخل ، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى ، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي ، فيتعدد بتعدد المقذوف. الثالث أنه جلد بغير مطالبة المقذوف ، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى ، ومن يقول إنه حق الآدمي. وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي ؛ إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى. الرابع أنه والى بين الحدين ، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما ، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب ، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر. الخامس أنه حدها قائمة ، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة ، قال بعض الناس : في زنبيل. السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعا. وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف. قال القاضي : فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء ، الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي : "أقضاكم علي" . وأما من قال : إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم دون العرب ؛ وقد بين هذا بقوله : "وأوتيت جوامع الكلم" . وأما من قال : إنه قوله أما بعد ؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : "أما بعد" . ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل ، وهو أول من آمن بالبعث ، وأول من توكأ على عصا ، وعمر مائة وثمانين سنة. ولو صح أن داود عليه السلام قالها ، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم ، وإنما كان بلسانه. والله أعلم. الآية : [21] { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } الآية : [22] { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } الآية : [23] { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } الآية : [24] { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } الآية : [25] { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } فيه أربع وعشرون مسألة : الأولى : قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } { الْخَصْمِ } يقع على الواحد والاثنين والجماعة ؛ لأن أصله المصدر. قال الشاعر : وخصم غضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا النحاس : ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به ها هنا ملكان. وقيل : { تَسَوَّرُوا } وإن كان اثنين حملا على الخصم ، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعا له ، مثل الركب والصحب. وتقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصم. ومعنى : { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } أتوه من أعلى سوره. يقال : تسور الحائط تسلقه ، والسور حائط المدينة وهو بغير همز ، وكذلك السور جمع سورة مثل بسرة وبسر وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن ؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة : ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب يريد شرفا ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي : والسؤر الوليمة بالفارسي. وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب : "إن جابرا قد صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم" . والمحراب هنا الغرفة ؛ لأنهم تسوروا عليه فيها ؛ قاله يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة : إنه صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد. وقد مضى القول فيه في غير موضع. { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ } جاءت { إِذْ } مرتين ؛ لأنهما فعلان. وزعم الفراء : أن إحداهما بمعنى لما. وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينا لما قبلها. قيل : إنهما كانا إنسيين ؛ قاله النقاش. وقيل : ملكين ؛ قاله جماعة. وعينهما جماعة فقالوا : إنهما جبريل وميكائيل. وقيل : ملكين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته. فمنعهما الحرس الدخول ، فتسوروا المحراب عليه ، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين ؛ وهو قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب ؛ قال سفيان الثوري وغيره. وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم. فقيل له : انك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه ، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير ، فجعل يدرج بين يديه. فهم أن يتناوله بيده ، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب ، فدنا منه ليأخذه فطار ، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل ، فلما رأته غطت جسدها بشعرها. قال السدي : فوقعت في قلبه. قال ابن عباس : وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان ، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا ، فقدمه فيهم فقتل ، فلما انقضت عدتها خطبها داود ، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده ، وكتبت عليه بذلك كتابا ، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل ، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب ، وتسور الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه. ذكره الماوردي وغيره. ولا يصح. قال ابن لعربي : وهو أمثل ما روي في ذلك. ![]()
__________________
|
#608
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ ص من صــ 167 الى صــ 176 الحلقة (608) قلت : ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي ، سمع أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه ، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقدم فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة" . وقال سعيد عن قتادة : كتب إلى زوجها وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب ، وفيه الموت الأحمر ، فتقدم فقتل. وقال الثعلبي قال قوم من العلماء : إنما امتحن الله داود بالخطيئة ؛ لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم ، ويعطيه نحو ما أعطاهم. وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام ، يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه ، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال : يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي ، فأوحى الله تعالى إليه : إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها ؛ ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بالذبح ، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك. فقال داود عليه السلام : فابتلني بمثل ما ابتليتهم ، وأعطني مثل ما أعطيتهم ، فأوحى الله تعالى إليه : إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة. فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه ، وجعل يصلي ويقرأ الزبور. فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فيها من كل لون حسن ، فوقف بين رجليه ، فمد يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير ، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها ، فامتد إليها ليأخذها فتنحت ، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها فطارت ونظر داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها ، فنظر امرأة في بستان على شط بركة تغتسل ؛ قاله الكلبي. وقال السدي : تغتسل عريانة على سطح لها ؛ فرأى أجمل النساء خلقا ، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده إعجابا بها. وكان زوجها أوريا بن حنان ، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود ، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا ، وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد. فقدمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك. قال الكلبي : وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود ، وكان إذا ضرب ضربة وكبر كبر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، وكبرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش ، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره. قال : وكان. سيوف الله ثلاثة ؛ كالب بن يوفنا في زمن موسى ، وأوريا في زمن داود ، وحمزة بن عبدالمطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه : أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت ؛ ففتح الله عليه ، فقتل في الثالث شهيدا. فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدتها. فهي أم سليمان بن داود. وقيل : سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة شيء. قال الحسن : إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء ؛ جزء لنسائه ، وجزءا للعبادة ، وجزءا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم ، ويوما للقضاء. فتذاكروا هل يمر على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك ؛ فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته ، وأمر ألا يدخل عليه أحد ، وأكب على قراءة الزبور ، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدم قال علماؤنا : وفي هذا دليل وهي : الثانية- على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم ، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في "النساء" . وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. وقد قال عليه السلام لعبدالله بن عمر : "إن لزوجك عليك حقا..." الحديث. وقال الحسن أيضا ومجاهد : إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلف : والله لأعدلن بينكم ، ولم يستثن فابتلي بهذا. وقال أبو بكر الوراق : كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال : هل في الأرض أحد يعمل كعملي. فأرسل الله إليه جبريل ؛ فقال : إن الله تعالى يقول لك : أعجبت بعبادتك ، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب ، فإن أعجبت ثانية وكلتك إلى نفسك. قال : يا رب كلني إلى نفسي سنة. قال : إن ذلك لكثير. قال : فشهرا. قال : إن ذلك لكثير. قال : فيوما. قال : إن ذلك لكثير. قال : يا رب فكلني إلى نفسي ساعة. قال : فشأنك بها. فوكل الأحراس ، ولبس الصوف ، ودخل المحراب ، ووضع الزبور بين يديه ؛ فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه ، فكان من أمر المرأة ما كان. وقال سفيان الثوري : قال داود ذات يوم : يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم ، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم. فأوحى الله إليه : يا داود منك ذلك أو مني ؟ وعزتي لأكلنك إلى نفسك. قال : يا رب اعف عني. قال : أكلك إلى نفسك سنة. قال : لا بعزتك. قال : فشهرا. قال : لا بعزتك. قال : فأسبوعا. قال : لا بعزتك. قال : فيوما. قال : لا بعزتك. قال : فساعة. قال : لا بعزتك. قال : فلحظة. فقال له الشيطان : وما قدر لحظة. قال : كلني إلى نفسي لحظة. فوكله الله إلى نفسه لحظة. وقيل له : هي في يوم كذا في وقت كذا. فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة ، ووكل الأحراس حول مكانه. قيل : أربعة آلاف. وقيل : ثلاثين ألفا أو ثلاثة وثلاثين ألفا. وخلا بعبادة ربه ، ونشر الزبور بين يديه ، فجاءت الحمامة فوقعت له ، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان. وأرسل الله عز وجل إليه الملكين بعد ولادة سليمان ، وضربا له المثل بالنعاج ؛ فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخر ساجدا أربعين ليلة على ما يأتي. الثالثة- قوله تعالى : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم. وقيل : لدخولهم عليه بغير إذنه. وقيل : لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. قال ابن العربي : وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع ، بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته ، مع أعوان يكثر عددهم ، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا : إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك : { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها ، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا ؛ وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان ؛ لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي. قال الثعلبي : وقد قيل : كان المتسوران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة : فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي : والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل. قلت : وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل : كيف يجوز أن يقول الملكان { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } وذلك كذب والملائكة عن مثله منزهون. فالجواب عنه أنه لا بد في الكلام من تقدير ؛ فكأنهما قالا : قدرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ، وعلى ذلك يحمل قولهما : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل ؛ والله أعلم. الرابعة- إن قيل : لم فزع داود وهو نبي ، وقد قويت نفسه بالنبوة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة ؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } فقال الله عز وجل : { لا تَخَافَا } . وقالت الرسل للوط : لا تخف { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وكذا قال الملكان هنا : { لا تَخَفْ } . قال محمد بن إسحاق : بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلا ضربه الله ولأوريا فرآهما واقفين على رأسه ؛ فقال : ما أدخلكما علي ؟ قالا : { لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } فجئناك لتقضي بيننا. الخامسة- قال ابن العربي : فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما ، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن ؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه : الأول : أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن ، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام ، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني : أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب ، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث : أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه ، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا ؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه ؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة ، ومثل ضربه الله في القصة ، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع : أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد. قلت : وقول خامس ذكره القشيري ؛ وهو أنهما قالا : لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب ، توصلنا إلى الدخول بالتسور ، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم ، وأصغى إلى قولهم. السادسة- قوله تعالى : { خَصْمَانِ } إن قيل : كيف قال : { خَصْمَانِ } وقبل هذا : { إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } فقيل : لأن الاثنين جمع ؛ قال الخليل : كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي : جمع لما كان خبرا ، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة ، خبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج : المعنى نحن خصمان. وقال غيره : القول محذوف ؛ أي يقول : { َخَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } قال الكسائي : ولو كان بغى بعضهما على بعض ، لجاز. الماوردي : وكانا ملكين ، ولم يكونا خصمين ولا باغيين ، ولا يتأتى منهما كذب ؛ وتقدير كلامهما ما تقول : إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل : أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر ، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان ، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر. والبغي التعدي والخروج عن الواجب. يقال : بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى ، إلى ما يفحش ، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة. السابعة- قوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ } أي لا تجُر ؛ قال السدي. وحكى أبو عبيد : شططت عليه وأشططت أي جرت. وفي حديث تميم الداري : "إنك لشاطي" أي جائر علي في الحكم. وقال قتادة : لا تمل. الأخفش : لا تسرف. وقيل : لا تفرط. والمعنى متقارب. والأصل فيه البعد من شطت الدار أي بعدت ؛ شطت الدار تشط وتشط شطا وشطوطا بعدت. وأشط في القضية أي جار ، وأشط في السوم واشتط أي أبعد ، وأشطوا في طلبي أي امعنوا. قال أبو عمرو : الشطط مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث : "لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط" أي لا نقصان ولا زيادة. وفي التنزيل : { لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي جورا من القول وبعدا عن الحق. { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } أي أرشدنا إلى قصد السبيل. الثامنة- قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا { إِنَّ هَذَا أَخِي } أي على ديني ، وأشار إلى المدعى عليه. وقيل : أخي أي صاحبي. { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } وقرأ الحسن : { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة ، وهي الصحيحة من قراءة الحسن ؛ قال النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ؛ لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة ، لأن الكل مركوب. قال ابن عون : أنا أبوهن ثلاث هنَّه ... رابعة في البيت صغراهنه ونعجتي خمسا توفيهنه ... ألا فتى سمح يغذيهنه طي النقا في الجوع يطويهنه ... ويل الرغيف ويله منهنه وقال عنترة : يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي ... فتجسسي أخبارها لي واعلمي قالت رأيت من الأعادي غرة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتم فكأنما التفتت بجيد جداية ... رشأ من الغزلان حر أرثم وقال آخر : فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل : هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا ، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق ، كأنه قال : نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة ؛ كما تقول : رجل يقول لامرأته كذا ، ما يجب عليه ؟ قلت : وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره : "هو لك يا عبد بن زمعة" على نحو هذا ؛ قال المزني : يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد ، ولا على زمعة قول ابنه إنه ولد زنى ، لأن كل ، واحد منهما أخبر عن غيره. وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في ، قصة داود والملائكة ؛ إذ دخلوا عليه ففزع منهم ، قالوا : لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين ، ولاكان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم في هذه القصة على المسألة ، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث ؛ فإنه عندي صحيح. والله أعلم. التاسعة- قال النحاس : وفي قراءة ابن مسعود { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى} و {كان} هنا مثل قول عز وجل : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } فأما قوله : {أنثى} فهو تأكيد ، كما يقال : هو رجل ذكر وهو تأكيد. وقيل : لما كان يقال هذه مائة نعجة ، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير ، جاز أن يقال : أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها. وفي التفسير : له تسع وتسعون امرأة. قال ابن العربي : إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه ، وإن كن إماء فذلك شرعنا. والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد ، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، لضعف الأبدان وقلة الأعمار. وقال القشيري : ويجوز أن يقال : لم يكن له هذا العدد بعينه ، ولكن المقصود ضرب مثل ، كما تقول : لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك ، أي مرارا كثيرة. قال ابن العربي : قال بعض المفسرين : لم يكن لداود مائة امرأة ، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا ؛ المعنى : هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها. وهذا فاسد من ، وجهين : أحدهما : أن العدول عن الظاهر بغير دليل ، لا معنى له ، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا. الثاني : أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال : "لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله" وهذا نص قوله تعالى : { وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } أي امرأة واحدة : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي أنزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس : أعطنيها. وعنه : تحول لي عنها. وقال ابن مسعود. وقال أبو العالية : ضمها إلي حتى أكفلها. وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي. { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غلبني. قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني. يقال : عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه. وفي المثل : من عزيز ؛ أي من غلب سلب. والاسم العزة وهي القوة والغلبة. قال الشاعر : قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح وقرأ عبدالله بن مسعود وعبيد بن عمير : { وَعَازَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غالبني ؛ من المعازة وهي المغالبة ؛ عازه أي غالبه. قال ابن العربي : واختلف في سبب الغلبة ؛ فقيل : معناه غلبني ببيانه. وقيل : غلبني بسلطانه ؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له : سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت : أما إذا كان عدلا فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته ، كما عجب من جوابي له واستغربه. الحادية عشرة- قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } قال النحاس : فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام ؛ لأنه قال : لقد ظلمك من غير تثبت ببينة ، ولا إقرار من الخصم ؛ هل كان هذا كذا أولم يكن. فهذا قول. وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا ، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس : فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم ؛ منهم عبدالله بن مسعود وابن عباس ، فإنهم قالوا : ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر : فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه ، وليس هذا بكبير من المعاصي ، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال : في كتاب إعراب القرآن. وقال : في كتاب معاني القرآن له بمثله. قال رضي الله عنه : قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا ، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده ، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبدالله بن مسعود قال : ما زاد داود عليه السلام على أن قال : { أَكْفِلْنِيهَا } أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال : ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال : { أَكْفِلْنِيهَا } أي تحول لي عنها وضمها إلي. قال أبو جعفر : فهذا أجل ما روي في هذا ، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته ، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته ، فنبهه الله عز وجل على ذلك ، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها ، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي : وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا ؛ فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه ، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه : انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك ، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة ؛ كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما : إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما ؛ فقال له : بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه ، وليس في القرآن أن ذلك كان ، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ، ولا ولادتها لسليمان ، فعمن يروى هذا ويسند ؟ ! وعلى من في نقله يعتمد ، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة {الأحزاب} نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة ، وذلك قوله : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } يعني في أحد الأقوال : تزويج داود المرأة التي نظر إليها ، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ؛ إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال الزوج في فراق ، بل أمره بالتمسك بزوجته ، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها. فكانت ، هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم. ولكن قد قيل : إن معنى { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق. وقيل : أراد بقوله : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره. وهذا أصح الأقوال. وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة ؛ وهذا نص القرآن. وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية ؛ وربك أعلم.وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } الآية : ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر ، أن داود عليه ![]()
__________________
|
#609
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ ص من صــ 177 الى صــ 186 الحلقة (609) السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره ، يقال : هو أوريا ؛ فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه ، وزاهدين في الخاطب الأول ، ولم يكن بذلك داود عارفا ، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة ، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك ، من حيث أعجب بها إما وصفا أومشاهدة على غير تعمد ؛ وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير ، وذلك الخاطب لا امرأة له ، فنبه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين ، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض ؛ لكى يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة ، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة. الثانية عشرة- قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين ، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول. قال ابن العربي : وهذا مما لا يجوز عند أحد ، ولا في ملة من الملل ، ولا يمكن ذلك للبشر. وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين أدعى والآخر سلم في الدعوى ، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضى لأحدهما حتى تسمع من الآخر" وقيل : إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل : تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك. والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه. قلت : ذكر هذين الوجهين القشيري والماوردي وغيرهما. قال القشيري : وقوله : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل ؛ فيمكن أن يقال : إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه. وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته ، فهذا معلوم من قرائن الحال ، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول ، فسكته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه. قال ويحتمل أن يقال : كان من شرعهم التعويل على قول المدعي عند سكوت المدعى عليه ، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول. وقال الحليمي أبو عبدالله في كتاب منهاج الدين له : ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت ، أوكانت خافية فظهرت : السجود لله عز وجل. قال والأصل في ذلك قول عز وجل : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إلى قوله : { وَحُسْنُ مَآبٍ } . أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام : أنه سمع قول المتظلم من الخصمين ، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر ، إنما حكى أنه ظلمه ، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول ، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم ؛ فقال له مستعجلا : { لَقَدْ ظَلَمَكَ } مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول : كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا ، فسرق مني هذه النعجة ، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها ، وما قلت له أكفلنيها ، وعلم أني مرافعه إليك ، فجرني قبل أن أجره ، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره ، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه ، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت ، وهو الفتنة التي ذكرناها ، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه ، فاستغفر ربه وخر راكعا لله تعالى شكرا على أن عصمه ، بأن اقتصر على تظليم المشكو ، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما ، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم ، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه ؛ فقال : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة ، التي توخاه بها بعد المغفرة ، أن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم ، والمبادرة إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه. ثم جاء عن ابن عباس أنه قال : سجدها داود شكرا ، وسجدها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا ، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم. { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } أي بسؤاله نعجتك ؛ فأضاف المصدر إلى المفعول ، وألقى الهاء من السؤال ؛ وهو كقوله تعالى : { لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ } أي من دعائه الخير. الثالثة عشرة- قوله تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ } يقال : خليط وخلطاء ، ولا يقال طويل وطولاء ؛ لثقل الحركة في الواو. وفيه وجهان : أحدهما : أنهما الأصحاب. الثاني : أنهما الشركاء. قلت : إطلاق الخلطاء على الشركاء. فيه بعد ، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء فقال أكثر العلماء : هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدلو والمراح. وقال طاوس وعطاء : لا يكون الخلطاء إلا الشركاء. وهذا خلاف الخبر ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجحان بينهما بالسوية" وروي : "فإنهما يترادان الفضل" ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء ؛ فاعلمه. وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه. ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون الصدقة على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة. وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي : إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة. قال مالك : وإن أخذ المصدق بهذا ترادوا بينهم للاختلاف في ذلك ، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه. الرابعة عشرة- قوله تعالى : { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي يتعدى ويظلم. { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فإنهم لا يظلمون أحدا. { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } يعني الصالحين ، أي وقليل هم فـ {ما} زائدة. وقيل : بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم. وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه : اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر : ما هذا الدعاء. فقال أردت قول الله عز وجل : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } فقال عمر : كل الناس أفقه منك يا عمر! الخامسة عشرة- قوله تعالى : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي ابتليناه. { وَظَنَّ } معناه أيقن. قال أبو عمرو والفراء : ظن بمعنى أيقن ، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين. والقراءة { فَتَنَّاهُ } بتشديد النون دون التاء. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { فَتَنَّاهُ } بتشديد التاء والنون على المبالغة. وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميقع { فَتَنَّاهُ } بتخفيفهما. ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو ، والمراد به الملكان اللذان دخلا على داود عليه السلام. السادسة عشرة- قيل : لما قضى داود بينهما في المسجد ، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود ؛ فأحبا أن يعرفهما ، فصعدا إلى السماء حيال وجهه ، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، ونبهه على ما ابتلاه. قلت : وليس في القران ما يدل على ، القضاء في المسجد إلا هذه الآية ، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد ، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك. ويقول : انصرفا إلى موضع القضاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد ، وقد قال مالك : القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور. ولا بأس أن يجلس في رحبته ؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض ، ولا يقيم فيه الحدود ؛ ولا بأس بخفيف الأدب. وقد قال أشهب : يقضي في منزله وأين أحب. السابعة عشرة- قال مالك رحمه الله : وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم ، وأول من استقضى معاوية. قال مالك : وينبغي للقضاة مشاورة العلماء. وقال عمر بن عبدالعزيز : لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى ، مستشيرا لذوي الرأي ، حليما نزها. قال : ويكون ورعا. قال مالك : وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل ، وأن يكون عالما بالشروط ، عارفا بما لا بد له منه من العربية ؛ فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له. وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب : أبقيت لك حجة ؟ فإن قال لا حكم عليه ، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أوبينة. وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع. الثامنة عشرة- قوله تعالى : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة : الأول : أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها. قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنته النظرة. قال أبو إسحاق : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، فصارت الأولى له والثانية عليه. الثاني : أنه أغزى زوجها في حملة التابوت. الثالث : أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع : أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا. فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها. وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. الخامس : أنه لم يجزع على قتل أوريا ، كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله تعالى على ذلك ؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله. السادس : أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر. قال القاضي ابن العربي : أما قول من قال : إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء ، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال : إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال ؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة ، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة ؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. قال الثعلبي : وقال الحارث الأعور عن علي : من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين ؛ لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله ، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين ، وحجة للمجتهدين. قال ابن العربي : وهذا مما لم يصح عن علي. فإن قيل : فما حكمه عندكم ؟ قلنا : أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل ، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة ، فقد اختلف نقل الناس في ذلك ؛ فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته ، فإنه يناقض التعزير المأمور به ، فأما قولهم : إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة ، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها ، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة ؛ لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها ، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها. وأما قولهم : إنه. نوى إن مات زوجها تزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت ، وأما قولهم : إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها. وقد روى أشهب عن مالك قال : بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود عليه السلام وهي من ذهب ، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده ، ثم صنع مثل ذلك مرتين ، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي ، تغتسل ولها شعر طويل ؛ فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه. قال ابن العربي : وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة ؛ لأنه مباح فعله ، لا سيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة ، وإنما أتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه ، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة. أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه ؛ لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح : "إن أيوب عليه السلام كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه ، فقال الله تعالى له :" يا أيوب ألم أكن أغنيتك "قال :" بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك ". وقال القشيري : فهم داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت ؛ وقاله الثعلبي أيضا وقد تقدم." التاسعة عشرة- قوله تعالى : { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } أي خر ساجدا ، وقد يعبر عن السجود بالركوع. قال الشاعر : فخر على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع ها هنا السجود ؛ فإن السجود هو الميل ، والركوع هو الانحناء ، وأحدهما يدخل على الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئه ، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر ، فسمي السجود ركوعا. وقال المهدوي : وكان ركوعهم سجودا. وقيل : بل كان سجودهم ركوعا. وقال مقاتل : فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل. أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة ، ثم وقع من الركوع إلى السجود ؛ لاشتمالهما جميعا على الانحناء. { وَأَنَابَ } أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله. وقال الحسن بن الفضل : سألني عبدالله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله عز وجل : { وَخَرَّ رَاكِعاً } فهل يقال للراكع خر ؟ . قلت : لا. قال : فما معنى الآية ؟ قلت : معناها فخر بعد أن كان راكعا أي سجد. الموفيه عشرين- واختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا ؟ فروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود" ونزل وسجد. وهذا لفظ أبي داود. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال : {ص} ليست من عزائم القرآن ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال : { ص } توبة نبي ولا يسجد فيها ؛ وعن ابن عباس أنها توبة نبي ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به. قال ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به. ومعنى السجود أن داود سجد خاضعا لربه ، معترفا بذنبه. تائبا من خطيئته ؛ فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية ، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه ، وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد. والله أعلم. الحادية والعشرون- قال ابن خُوَيزِمَنداد : قوله : { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } فيه دلالة على ، أن السجود للشكر مفردا لا يجوز ؛ لأنه ذكر معه الركوع ؛ وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا فأما سجدة مفردة فلا ؛ وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده ، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا ، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة. قلت : وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين. وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله. وهذا قول الشافعي وغيره. الثانية والعشرون- روى الترمذي وغيره واللفظ للغير : أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ : {ص والقرآن ذي الذكر} فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة ، فسمعها وهي تقول : اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا ، وارزقني بها شكرا. قلت : خرج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل فقال : إني رأيت البارحة فيما يرى النائم ، كأني أصلي إلى أصل شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها تقول : اللهم أحطط بها عني وزرا ، واكتب لي بها أجرا ، وأجعلها لي عندك ذخرا. قال ابن عباس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {السجدة} فسجد ، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة. ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري ؛ قال : قلت يا رسول الله رأيتني في النوم كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ {ص} فلما بلغت السجدة سجدت فيها ، فسمعتها تقول في سجودها : اللهم أكتب لي بها أجرا ، وحط عني بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "أفسجدت أنت يا أبا سعيد" فقلت : لا والله يا رسول الله. فقال : "لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة" ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {ص} حتى بلغ السجدة فسجد ، ثم قال مثل ما قالت الشجرة. الثالثة والعشرون- قوله تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي فغفرنا له ذنبه. قال ابن الأنباري : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } تام ، ثم تبتدئ { وَإِنَّ لَهُ } وقال القشيري : ويجوز الوقف على { فَغَفَرْنَا لَهُ } ثم تبتدئ { ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ } كقوله : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } أي الأمر ذلك. وقال عطاء الخراساني وغيره : إن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى من حر جوفه وغمر رأسه ، فنودي : أجائع فتطعم وأعار فتكسى ؛ فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه ، فغفر له وستر بها. فقال : يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته ، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل ، تركت أولادهم أيتاما ، ونساءهم أرامل ؟ قال : يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة. قال : يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة. ثم قيل : يا داود ارفع رأسك. فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض ، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها. رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء. قال الوليد : وأخبرني منير بن الزبير ، قال : فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله. قال الوليد قال ابن لهيعة : فكان يقول في سجوده سبحانك هذا شرابي دموعي وهذا طعامي في رماد بين يدي. في رواية : إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ، فبكى حتى نبت العشب من دموعه. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : يا رب داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده فقال له جبريل بعد أربعين سنة يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به" وقال وهب : إن داود عليه السلام نودي أني قد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال : لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا. فقال الله لجبريل : اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه ، فأنا أسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى يا أوريا فقال : لبيك ! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال : أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حل فإني عرضتك للقتل قال : عرضتني للجنة فأنت في حل. وقال الحسن وغيره : كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، ويقول : تعالوا إلى داود الخطاء ، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه ، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول : هذا أكل الخاطئين. وكان قبل الخطيئة يقوم نصف اليل ويصوم نصف الدهر. ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله. وقال : يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته منقوشة في كفه. فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رأها فأبكته ، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء ، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه. وروى الوليد بن مسلم : حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض" . قال الوليد : وحدثنا عثمان بن ابن العاتكة أنه كان في قول داود. إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين أن كان يقول : اللهم لا تغفر للخطائين. ثم صار إلى أن يقول : اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم ؛ سبحان خالق النور. إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني. إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها ؛ سبحان خالق النور. إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي ، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلى روحي. وفي الخبر : أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته ؛ فكان ينادي : إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلي روحي ؛ رب اغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم. وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها. وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران : ألا إن هذا يوم نوح داود ، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده ؛ فيهبط السياح من الغيران والأودية ، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكف ؛ وبنو إسرائيل حول منبره ؛ فإذا أخذ في العويل والنوح ، وأثارت الحرقات منابع دموعه ، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء ، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم. ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة ؛ أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل ؛ ![]()
__________________
|
#610
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (15) سُورَةُ ص من صــ 187 الى صــ 196 الحلقة (610) فقال : جئت لأقبض روحك. فقال : دعني حتى أنزل أو أرتقي. فقال : مالي إلى ذلك سبيل ؛ نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا. قال : فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال. وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وقيل : تسع وسبعون ، وعاش مائة سنة ، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة. الرابعة والعشرون- قوله تعالى : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } قربة بعد المغفرة. { وَحُسْنَ مَآبٍ } قالا : والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود. وقال مجاهد عن عبدالله بن عمر : الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. وعن مجاهد : يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده : فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى. قال : ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له ها هنا ؛ ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا ؛ حتى يقرب فيسكن فذلك قوله عز وجل : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } ذكره الترمذي الحكيم. قال : حدثنا الفضل بن محمد ، قال حدثنا عبدالملك بن الأصبغ قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبدالملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره. قال الترمذي : ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله : { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا } والقط الصحيفة في اللغة ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } : وقال لهم : "إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم" قالوا : { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا } أي صحيفتنا { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } قال الله تعالى : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ } فقص قصة خطيئته إلى منتهاها ، فكنت أقول : أمره بالصبر على ما قالوا ، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه ، حتى هداني الله له يوما فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم ، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله ؛ وقالوا : { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } فأوجعه ذلك من استهزائهم ، فأمره بالصبر على مقالتهم ، وأن يذكر عبده داود ؛ سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه ، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه ، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم ، وأن الله تبارك وتعالى آسمه يستوهبه منه ، وهو حبيبه ووليه وصفيه ؛ فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا ، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه ، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود ، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف ، وقد أخبر الله عنهم فقال : { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها. وقد روينا في الحديث : إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له ها هنا ، ثم يرى فيقلق ثم يقال ها هنا ، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن. الآية : [26] { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } فيه خمس مسائل : الأولى- قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في {البقرة} القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله. الثانية- قوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } أي بالعدل وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله ، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا ؛ فاحكم بين الناس بالعدل { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى } أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله. { فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي عن طريق الجنة. { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي يحيدون عنها ويتركونها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في النار { بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أي بما تركوا من سلوك طريق الله ؛ فقوله : { نَسُوا } أي تركوا الإيمان به ، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين. ثم قيل : هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة. وقيل : بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته. الثالثة- الأصل في الأقضية قوله تعالى : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وقوله تعالى : { ِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } الآية. وقد تقدم الكلام فيه. الرابعة- قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } قال : إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى ، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلح على صاحبه ، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع ، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أوصداقة ، أوغيرهما. وقال ابن عباس : إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام ، لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد : بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل ، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علما ، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك ؛ وإذا هو قصر عرف ذلك ، فقيل له : ادخل منزلك ، ثم مد يدك في جدارك ، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا ؛ فإذا أنت قمت من مجلس القضاء ، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه ، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه ، وإن قصرت عن الحق قصر بك ، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق ، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا ، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط ، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب. فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء ، أقبل إليه رجلان يريدانه : فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه ، وكان أحدهما له صديقا وخدنا ، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له ، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه ، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم ، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف ، وإذا هو لا يبلغه فخر ساجدا وهو يقول : يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده فبينه لي. فقيل له : أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك ، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به ، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره.وعن ليث قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما ، ثم عادا فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهما ، فقيل له في ذلك ، فقال : تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه ، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك ، ثم ، عادا فوجدت بعض ذلك له ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما. وقال الشعبي : كان بين عمر وأُبيّ خصومة ، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت ، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته ، فقال عمر : هذا أول جورك ؛ أجلسني وإياه مجلسا واحدا ؛ فجلسا بين يديه. الخامسة- هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه ؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر ؛ قال : لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له : احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد ؛ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسا فجحده البائع ، فلم يحكم عليه بعلمه وقال : "من يشهد لي" فقام خزيمة فشهد فحكم. خرج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في {البقرة} . الآية : [27] { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } الآية : [28] { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } الآية : [29] { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } أي هزلا ولعبا. أي ما خلقناهما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا. { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلا. { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } ثم وبخهم فقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } والميم صلة تقديره : أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات { كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ } فكان في هذا رد على المرجئة ؛ لأنهم يقولون : يجوز أن يكون المفسد كالصالح أو أرفع درجة منه. وبعده أيضا : { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } أي أنجعل أصحاب محمد عليه السلام كالكفار ؛ قاله ابن عباس. وقيل هو عام في المسلمين المتقين والفجار الكافرين وهو أحسن ، وهو رد على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد. قوله تعالى : { كِتَابٌ } أي هذا كتاب { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } أي { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } يا محمد { لِيَدَّبَّرُوا } أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال. وفي هذا دليل على ، وجوب معرفة معاني القرآن ، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ ؛ إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار. وقال الحسن : تدبر آيات الله اتباعها. وقراءة العامة { لِيَدَّبَّرُوا } . وقرأ أبو حنيفة وشيبة : { لِيَدَّبَّرُوا } بتاء وتخفيف الدال ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفا { وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول واحدها لب ، وقد جمع على ألب ، كما جمع بؤس على أبؤس ، ونعم على أنعم ؛ قال أبو طالب : قلبي إليه مشرف الألب وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر ؛ قال الكميت : إليكم ذوي آل النبي تطلعت نوازع من قلبي ظماء وألبب الآية : [30] { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } الآية : [31] { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } الآية : [32] { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } الآية : [33] { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } لما ذكر داود ذكر سليمان و { أَوَّابٌ } معناه مطيع. { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } يعني الخيل جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر ؛ كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها ؛ يقال : قوم أجواد وخيل جياد ، جاد الرجل بماله يجود جودا فهو جواد ، وقوم جود مثال قذال وقذل ، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة ، وأجواد وأجاود وجوداء ، وكذك امرأة جواد ونسوة جود مثل نوار ونور ، قال الشاعر : صناع بإشفاها حصان بشكرها ... جواد بقوت البطن والعرق زاخر وتقول : سرنا عقبة جوادا ، وعقبتين جوادين ، وعقبا جيادا. وجاد الفرس أي صار رائعا يجود جودة بالضم فهو جواد للذكر والأنثى ، من خيل جياد وأجياد وأجاويد. وقيل : إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق ؛ لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فراهتها. وفي الصافنات أيضا وجهان : أحدهما : أن صفونها قيامها. قال القتبي والفراء : الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أوغيرها. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار" أي يديمون له القيام ؛ حكاه قطرب أيضا وأنشد قول النابغة : لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن وهذا قول قتادة. الثاني أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث كما قال الشاعر : ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا وقال عمرو بن كلثوم : تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا وهذا قول مجاهد. قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس ، وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقال الحسن : بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة. وقاله الضحاك. وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة. ابن زيد : أخرج الشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر ، وكانت لها أجنحة. وكذلك قال علي رضي الله عنه : كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. وقيل : كانت مائة فرس. وفي الخبر عن إبراهيم التيمي : أنها كانت عشرين ألفا ، فالله أعلم. فقال : { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } يعني بالخير الخيل ، والعرب تسميها كذلك ، وتعاقب بين الراء واللام ؛ فتقول : انهملت العين وانهمرت ، وختلت وخترت إذا خدعت. قال الفراء : الخير في كلام العرب والخيل واحد. النحاس : في الحديث : "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" فكأنها سميت خيرا لهذا. وفي الحديث : لما وفد زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : "أنت زيد الخير" وهو زيد بن مهلهل الشاعر. وقيل : إنما سميت خيرا لما فيها من المنافع. وفي الخبر : إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب ، وقيل له : اختر منها واحدا فاختار الفرس ؛ فقيل له : اخترت عزك ؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسمي خيلا ؛ لأنها موسومة بالعز. وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شيء خبطا وتناولا. وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي فصارت له نحلة من الله ؛ فسمى عربيا. و { حُبَّ } مفعول في قول الفراء. والمعنى إني آثرت حب الخير. وغيره يقدره مصدرا أضيف إلى المفعول ؛ أي أحببت الخير حبا فألهاني عن ذكر ربي. وقيل : إن معنى { أَحْبَبْتُ } قعدت وتأخرت من قولهم : أحب البعير إذا برك وتأخر. وأحب فلان أي طأطأ رأسه. قال أبو زيد : يقال : بعير محب ، وقد أحب إحبابا وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. وقال ثعلب : يقال أيضا للبعير الحسير محب ؛ فالمعنى قعدت عن ذكر ربي. و { حُبَّ } على هذا مفعول له. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أحببت بمعنى لزمت ؛ من قوله : مثل بعير السوء إذ أحبا قوله تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني الشمس كناية عن غير مذكور ؛ مثل قوله تعالى : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي على ظهر الأرض ؛ وتقول العرب : هاجت باردة أي هاجت الريح باردة. وقال الله تعالى : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } أي بلغت النفس الحلقوم. وقال تعالى : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } ولم يتقدم للنار ذكر. وقال الزجاج : إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر ، وقد جرى ها هنا الدليل وهو قوله : { بِالْعَشِيِّ } . والعشي ما بعد الزوال ، والتواري الاستتار عن الأبصار ، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق ؛ قاله قتادة وكعب. وقيل : هو جبل قاف. وقيل : جبل دون قاف. والحجاب الليل سمي حجابا لأنه يستر ما فيه. وقيل : { حَتَّى تَوَارَتْ } أي الخيل في المسابقة. وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل ، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة ؛ لأن الشمس لم يجر لها ذكر. وذكر النحاس أن سليمان عليه السلام كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات فلما فرغ من صلاته قال : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً } أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان : أحدهما : أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها ، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله. وقال قائل هذا القول : كيف يقتلها ؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له. وقيل : المسح ها هنا هو القطع أذن له في قتلها. قال الحسن والكلبي ومقاتل : صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه ، وكانت ألف فرس ؛ فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر ، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم ؛ فقال : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } فردت فعقرها بالسيف ؛ قربة لله وبقي منها مائة ، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل. قال القشيري : وقيل : ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر ، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها. وكان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا ، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا ، فتذكر سليمان تلك الصلاة الفائتة ، وقال على سبيل التلهف : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أي عن الصلاة ، وأمر برد الأفراس إليه ، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها ، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس ؛ إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة ، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة. ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار ، ثم ذبحها في الحال ، ليتصدق بلحمها ؛ أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله ، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله ، فأثنى الله عليه بهذا ، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح ، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا. وقد قيل : إن الهاء في قوله : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } للشمس لا للخيل. قال ابن عباس : سألت عليا عن هذه الآية فقال : ما بلغك فيها ؟ فقلت سمعت كعبا يقول : إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة ، قال : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أي آثرت { حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } الآية { رُدُّوهَا عَلَيَّ } يعني الأفراس وكانت أربع عشرة ؛ فضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما ؛ لأنه ظلم الخيل. فقال علي بن أبي طالب : كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : { رُدُّوهَا } يعني الشمس فردوها حتى صلى العصر في وقتها ، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون. قلت : الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس ، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ومتعلق بذكرها ، حسب ما تقدم بيانه. وكثيرا ما يضمرون الشمس ؛ قال لبيد : حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها والهاء في { رُدُّوهَا } للخيل ، ومسحها قال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حبا لها. وقال الحسن وقتادة وابن عباس. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رئي وهو يمسح فرسه بردائه. وقال : "إني عوتبت الليلة في الخيل" ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |