|
ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() الحكمـة ضالـة المؤمن (71) -من طلب ما لم يَعْنِهِ فاته ما يعنيه خلق الله تعالى الإنسان لغاية عظيمة، وهي أن يعبد الله تعالى وحده، ويعمل بطاعته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وسخر الله تعالى للإنسان السموات والأرض والمخلوقات ليتفرغ لعبادته، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}. وقال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، فالسعيد من أدرك غايته، وسعى لها بلا كسل ولا انحراف، والمحروم من لم يعرف غايته، أو اشتغل بما خلق لخدمته عمن خلقه لعبادته.وهذه الكلمة الحكيمة: «من طلب ما لم يعنه فاته ما يعنيه»؛ هي من نفائس كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقرر فيها أمرا عظيما، وخلقا كريما ألا وهو أن من طلب ما ليس بمهم له أضاع وقته وجهده على حساب ما هو مهم له وضروري لدنياه وآخرته، فهو يحثنا على البصيرة في الدين، والفطنة في الدنيا بأن يطلب الإنسان ما فيه صلاح دينه ودنياه، ولا يضيع وقته وجهده في أمور لا تعنيه، بل قد تضره وتؤخره، فالواجبات كما قيل أكثر من الأوقات، والمسلم مطالب بحقوق كثيرة لله تعالى ولعباد الله، ومن اشتغل بذلك لم يجد وقتا لفضول الكلام، أو كثرة المخالطة، أو الاشتغال بعيوب الناس وانتقادهم. وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد هذا المعنى ويقرره، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيه» أخرجه الترمذي. قال ابن رجب: «ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه: أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام؛ ولهذا جعله من حسن الإسلام؛ فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال؛ فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات كما قال[: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وإذا حسن الإسلام، اقتضى ترك كل ما لا يعني من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه». ويبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما يعين على هذا الخلق فيقول: «من عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه»، قال ابن رجب: «وهو كما قال، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله، فيجازف فيه، ولا يتحرى». وعن الحسن قال: «من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه». وقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «مَنِ اشْتَغَلَ بِمَا لا يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا يَكْفِيهِ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُغْنِيه»، وقيل: «بترك الفضول تكمل العقول». ويبين ابن القيم رحمه الله خطورة الاشتغال بما لا يعني الإنسان فيقول: «اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فإياك ثم إياك أن تمكن الشيطان من أفكارك فإنه يفسدها عليك إفسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك الوسواس، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، إياك أن تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمثالك معه كمثال صاحب رحـى يطحن فيها الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونك، فإن طردته ولم تمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون أفسد عليك ما في الطاحون من الحب فخرج الطحين كله فاسدا». يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك الزور، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته». ودخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: «ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليما». فعمر الإنسان ثمين، ووقته عزيز، والمطالب الدينية كثيرة، وأبواب الخير عديدة، والمرء لا يملك الوقت الكافي ولا الجهد المعين على القيام بتلك الواجبات، فكيف يضيع وقته في مجالس فارغة، وأسواق ملهية، وكلام في أمور ماضية لا يملك تغييرها، أو أمور مستقبلة الله أعلم بها، وهو مستغرق في مضغ وتكرار أمور لا يريدها من سلبيات المجتمع وأخطاء الناس، وكسول ومتراخ عن أمور يريدها ويطمح بها من علم نافع، وعمل صالح، ومال حلال، وأسرة مطمئنة، وراحة بال، وطيب عيش، كل ذلك وهو يعيش في دائرة السلبيات والحديث عن الأخطاء، ولا يحرك ساكنا، ولا يبذل أدنى جهد لإصلاح ما يقدر على إصلاحه في حياته وأسرته وما يدخل تحت سلطانه. فالطريق طويل، والسفر شاق، والحمل ثقيل، والعقبة كؤود، والموفق من استعد لعبورها بالإيمان والعمل الصالح والعلم النافع والتخفف من أثقال الذنوب والمعاصي، والمحروم من اشتغل بعيوب الآخرين عن إصلاح نفسه ودينه وأخراه، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 30-09-2024 الساعة 07:46 PM. |
#2
|
||||
|
||||
![]() الحكمـة ضالـة المؤمن (74) - شر الناس ذو الوجهين يحث الإسلام أتباعه المؤمنين على الصدق في الأقوال والأفعال، والوضوح في المواقف، والثبات على المبادئ، فقال تعالى:{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويحذر من التلون والتقلب في المواقف حسب المصالح الدنيوية والأهواء الشخصية، ويعد هذا من صفات المنافقين كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}. قال الشيخ ابن سعدي: «فهذه الأوصاف المذمومة تدل -بتنبيهها- على أن المؤمنين متصفون بضدها من الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا». وللأسف تجد بعض الناس ليس له شخصية مستقلة، ولا رأي ثابت، بل هو أقرب ما يكون شبها بالسائل الشفاف يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه، فهذا النوع من الناس إذا جلس مع المتدينين أظهر التدين والصلاح وانتقد غير المتدينين وعابهم، وإذا جمعه المجلس مع غير المتدينين وافقهم في أخلاقهم وأقوالهم وربما استهزأ بالمتدينين وانتقصهم. ووقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ولا سيما إذا صاحب ذلك نميمة أو غيبة أو إفساد ، فقد أخرج الشيخان عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ». ويوضح الباجي سبب وصفه بذي الوجهين فيقول: «وصف بذلك لأنه يأتي هؤلاء بوجه التودد إليهم والثناء عليهم والرضا عن قولهم وفعلهم، فإذا زال عنهم وصار مع مخالفيهم لقيهم بوجه من يكره الأولين ويسيء القول فيهم والذم لفعلهم وقولهم». ويذهب القرطبي إلى أبعد من ذلك فيعد ذلك من أحوال المنافقين فيقول: «إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق؛ إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس». ومثله الإمام النووي رحمه الله إذ يقول: «ذو الوجهين: هو الذي يأتي كل جماعة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع، وتحايل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة». ومما يؤكد خطورة هذه الخصلة الذميمة ما ورد في شأنها من وعيد شديد، فعن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني . وظاهر أن هذا الجزاء من جنس العمل كما علله في «عون المعبود» فقال: «معناه: أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار كما كان له في الدنيا لسان عند كل طائفة». وهذا الحكم يستوي فيه الدخول على مجالس العامة ومجالس الوجهاء والأمراء على حد سواء، فقد قال أناس لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: «كنا نعده نفاقا». أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك). وذكر الحافظ أن في بعض الروايات أنهم قالوا: «إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال ابن عمر: «كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم»؟ وهذا للأسف ما يفعله بعض الناس، حيث يدخل على الحكام والمسؤولين فيمدحهم ويتزلف لهم، فإذا خرج من عندهم بادر بانتقاصهم واغتيابهم وذكر مساوئهم، فيقال له: ما منعك من نصحهم سرا في مجلسهم أداء للأمانة ونصحا لأئمة المسلمين وعامتهم؟! أم إنه الجبن والتلون وموافقة الجلساء في الغيبة والخوف من مخالفتهم لأجل الحق والمبادئ؟! وينبغي التفريق بين التلون في المواقف والتنازل عن المبادئ -وهو المداهنة- واستعمال الحكمة عند مخالطة الناس، والترفق بهم للإصلاح والتوعية -وهي المداراة- قال أبو حاتم البستي: «الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة؛ إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه». قال النووي: «فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود»، ونقل ابن حجر عن غيره الفرق بينهما: أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليها ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح». وقال ابن القيّم مبينا الفرق بين المداراة والمداهنة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمّ، والفرق بينهما أنّ المداري يتلطّف بصاحبه حتّى يستخرج منه الحقّ أو يردّه عن الباطل، والمداهن يتلطّف به ليقرّه على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النّفاق. وقد ضرب مثل لذلك مطابق، وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطّبيب المداوي الرّفيق، فتعرّف حالها ثمّ أخذ في تليينها، حتّى إذا نضجت أخذ في بطّها برفق وسهولة، حتّى إذا أخرج ما فيها وضع على مكانها من الدّواء والمرهم ما يمنع فسادها، ثمّ تابع عليها بالمراهم الّتي تنبت اللّحم، ثمّ يذرّ عليها بعد نبات اللّحم ما ينشّف رطوبتها، ثمّ يشدّ عليها الرّباط، ثمّ لم يزل يتابع ذلك حتّى صلحت، أمّا المداهن فقال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخرقة، ثمّ أله عنها، فلا تزال مدّتها تقوى وتستحكم حتّى عظم فسادها». وقال البخاري في كتاب الأدب باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم»، قال ابن حجر: «والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله: ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك». ثم أخرج بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: «يا رسول الله، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟» فقال: «أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه». قال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط; لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك». فعلى المسلم أن يكون صادقا مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين، ثابتا في مواقفه ومبادئه، حكيما في دعوته إلى الله تعالى، متوسطا بين الحزم والرفق، مفرقا بين الصراحة والوقاحة، وموازنا بين المصالح والمفاسد، جامعا بين العلم والعمل، والله تعالى الموفق لكل خير وسداد. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 12-10-2024 الساعة 07:50 PM. |
#3
|
||||
|
||||
![]() الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(97) - الدعاء هو العبادة (1-2) العبودية معنى عظيم، ومفهوم كبير، أساسها الانقياد لله تعالى وحده حبا وخوفا ورجاء، ومظاهرها متعددة وصورها متنوعة، يجمعها التذلل لله تعالى وإظهار الافتقار إليه، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى. والدعاء من أبرز مظاهر العبودية؛ إذ تتجلى فيه الرغبة والرهبة، والمحبة والإخلاص، والخوف والرجاء، لذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدعاء وحثهم على الاستكثار منه فقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60). قال ابن كثير: «هذا من فضله -تبارك وتعالى- وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة»، كما كان سفيان الثوري يقول: «يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب».وأخرج الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع الله يغضب عليه»،؛ لأن كل الخلق مفتقرون إلى الله تعالى، محتاجون إلى فضله وإنعامه، فعدم السؤال يدل على الاستغناء عن فضل الله تعالى، وهو أمر لا يليق بالعبد الفقير الضعيف، فمن فعله استحق الغضب. ويوضح الراغب الأصفهاني إطلاقات لفظ الدعاء في القرآن فيقول: «والدعاء يطلق بمعنى النداء، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}(الإسراء: 52). ويطلق بمعنى التسمية، تقول: دعوت ابني زيدا أي: سميته، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}(النور: 63)، حثا على تعظيمه، فلا يقال: يا محمد. والدعاء بمعنى السؤال، تقول: دعوت الله تعالى، أي: سألته، قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}(البقرة: 69). والدعاء إلى الشيء بمعنى الحث على قصده، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ}(يونس: 25). ويطلق الدعاء بمعنى القول، كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا}(الأعراف: 5)، أي: قولهم. والدعاء بمعنى العبادة، قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}(الأنعام: 71). وفي السنة يطلق الدعاء على أمور منها: الدعاء بمعنى النداء كقوله صلى الله عليه وسلم : «تداعت عليكم الأمم»، والدعاء بمعنى الإدعاء في النسب، كقوله: «ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه» وهل ينتسب الإنسان لغير أبيه؟ والدعاء بمعنى السؤال كقوله صلى الله عليه وسلم : «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات: لا إله إلا الله...» الحديث. وأما الدعاء في الاصطلاح: فهو الرغبة إلى الله عز وجل بالسؤال والتضرع في تحقيق المطلوب. كما قال الطيبي: «هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له». وقال الخطابي: «حقيقة الدعاء استدعاء العبد من ربه العناية واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة التي له، وهو سمة العبودية وإظهار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه». أنواع الدعاء: قال العلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: «كل ماورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين- يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة. وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء. ويدل على عموم ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60)، أي: أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60)، فسمى ذلك عبادة، وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسؤوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة ذنوبه بلسان الحال. فلو سألت أي عابد مؤمن: ما قصدك بصلاتك وصيامك وحجك وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً قبل أن يجيبك لسانه -: بأن قصدي من ذلك رضى ربي ونيل ثوابه والسلامة من عقابه، ولهذا كانت النية شرطاً لصحة الأعمال وقبولها، وإثمارها الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة». فالدعاء نوعان: دعاء المسألة ودعاء العبادة: أما دعاء المسألة فهو: طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه، فإذا توجه العبد بسؤاله ودعائه إلى الله وحده: كمن يقول: اللهم ارحمني واغفرلي، فهذا من العبادة لله والتوحيد، وأما إذا سأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يطلب من ميت أو غائب؛ أن يطعمه، أو ينصره، أو يغيثه، أو يشفي مرضه، فهذا شرك أكبر. وأما سؤال غير الله فيما يقدر عليه المسؤول: كأن يطلب من حي قادر حاضر أن يطعمه، أو يعينه فهذا جائز. قال ابن سعدي : ومن هذا قوله سبحانه في قصة موسى عليه السلام {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}(القصص: 15). وأما دعاء العبادة فهو: التقرب إلى الله بجميع أنواع العبادة، الظاهرة والباطنة، من الأقوال والأعمال، والنيات والتروك، التي تملأ القلوب بعظمة الله وجلاله؛ لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله ربَّه قبول تلك العبادة، والإثابة عليها؛ فهي العبادة بمعناها الشامل،ومن أعظم ما يدخل فيها ذكر الله، وحمده، والثناء عليه-عز وجل- بما هو أهله. فضل الدعاء: القيام بالدعاء أداء لعبادة عظيمة، وامتثال لأمر الله تعالى وطاعة لرسوله الكريم، ومع ذلك فله فضل عظيم من ذلك: 1- أن الدعاء أكرم شيء عند الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي: ليس شيء أفضل عند الله،لأن فيه إظهارالفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته». 2- أن الدعاء يرد القدر بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل يحرم الرزق بخطيئة يعملها» أخرجه ابن ماجه، وقال صلى الله عليه وسلم : «لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله» أخرجه أحمد. قال ابن القيم: «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء؛ يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاثة مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء؛ فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا.الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة». ويبين ابن القيم دلالة الحديث وعدم معارضته للقدر السابق فيقول: «إن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر سببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء. كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب، ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه؛ كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستنصر به - أي بالدعاء - على عدوه، وكان الدعاء أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء. وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمتم الدعاء، فإن الإجابة معه». اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(101) { إنا كل شيء خلقناه بقـدر} (2-2) والإيمان بالقدر يتحقق بالإيمان بأربعة أمور: الأول: الإيمان بعلم الله الشامل: يؤمن المسلم بأن الله تعالى يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجودات والممكنات والمعدومات والمستحيلات، ويعلم كل شيء عن خلقه قبل أن يخلقهم، يعلم أعمالهم وأرزاقهم ومصيرهم في الجنة أم في النار، ومن الأدلة على ذلك: قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(الأنعام: 59). وآيات كثيرة تقرر أن الله تعالى عليم قد وسع كل شيء علما ولا يخرج عن علمه شيء مطلقا.وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(الأنعام: 27 - 28) ولا أحد يعلم ذلك إلا الله وحده سبحانه. الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب كل شيء: يؤمن المسلم بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، قال تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍﮆ}(الأنعام: 38)، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يس: 12)، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}(القمر: 52 - 53)، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}(الحديد: 22). وفي مسلم عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». قال: «وكان عرشه على الماء». وقال صلى الله عليه وسلم : «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» أخرجه أبو داود. تنبيه: الكتابة هنا لا تعني الإجبار على الأعمال، وإنما هي كتابة علم. بمعنى أن الله تعالى علم ما سيكون إلى يوم القيامة فكتب هذا العلم، وعلم الله تعالى صادق وشامل لا يخطئ ولا يغيب عنه شيء، كما أن علمه سبحانه منه ما هو إجباري على الإنسان كولادته وحياته وصفاته ومرضه ونحو ذلك مما لا دخل للإنسان به، ومنه ما يتعلق بالأمور الاختيارية التي يفعلها الإنسان بمحض إرادته كشربه وأكله وعبادته أو معصيته، فكل هذا مما كتبه الله تعالى ولا يفهم من ذلك الإجبار بل كتب الله تعالى كل ما سيجري على الإنسان من أمور إجبارية واختيارية. الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة: دلت النصوص الكثيرة على أن كل شيء إنما يحدث بمشيئة الله تعالى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}(القصص: 68)، وقال سبحانه: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(آل عمران: 40)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ }(آل عمران: 6)، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}(النساء: 90)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}(الأنعام: 112). تنبيه: ضرورة التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية: يظن بعض الناس أن معنى لفظ الإرادة والمشيئة واحد في كل المواضع التي يردان فيها في النصوص الشرعية، وأن ذلك يتضمن رضا الله ومحبته، وهذا غير صحيح، بل دلت النصوص الشرعية على أن إرادة الله تعالى نوعان؛ إرادة كونية، وإرادة دينية، فعدم التمييز بينهما يوقع لبسا في الفهم وخطأ في الحكم؛ لذا لابد من التفريق بينهما كما سيأتي: أولاً: الإرادة الكونية القدرية: وهي فعله سبحانه، وهي إرادة شاملة لجميع المخلوقات، فلا يخرج شيء عنها، وهذه الإرادة لا تتخلف؛ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس: 82)، وقال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(الحج: 14). وهذه الإرادة لا علاقة لها بالمحبة، فقد يريد الله تعالى أشياء لا يحبها، لكنه أذن أن تقع في ملكه بمشيئته وإرادته مثل وجود إبليس والشياطين والكفر والكفار ونحوها من الشرور والأفات، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(الزمر: 7) وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(البقرة: 205)، والكفر والفساد واقعان كما هو مشاهد، فقد أذن الله بوقوع ذلك وهو لا يحبه لحكمة يعلمها سبحانه. ثانياً: الإرادة الشرعية الدينية: وهي أمره ونهيه تعالى، وهذه الإرادة متعلقة بمحبته، فما أراده شرعا فهو يحبه، وما نهى عنه فهو يكرهه، قال تعالى: {يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة: 185)، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْﭤ}(النساء: 28). وهذه الإرادة قد تتخلف ولا تقع، فقد أمر الله تعالى الناس بالإسلام فمنهم من أسلم ومنهم من كفر، وهكذا الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي منهم من استجاب ومنهم من عصى، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(التغابن: 2). تنبيه: تعرف إرادة الله تعالى بخبره أو بوقوعها، أما قبل ذلك فلا يمكن معرفة ذلك. يزعم بعض الناس أن هذه إرادة الله تعالى، والحق أن إرادة الله تعالى غيب اختص سبحانه بعلمه، وإنما تعلم إرادته بخبره في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتعلم كذلك إذا وقعت، فنعلم أن الله تعالى أراد كذا أو لم يرده، وليس قبل ذلك لأنه يكون من القول على الله بغير علم. الرابع: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء: يؤمن المسلم بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ولا خالق غيره، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(الزمر: 62)، { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(الفرقان: 2). وكلمة الخلق تأتي مرة بمعنى الإيجاد كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، وتأتي بمعنى التقدير كما قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}(العنكبوت: 17) أي تقدرونه وتهيئونه. والله خالق العباد وخالق أفعالهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(الصافات: 96)، ومع أن الله تعالى خالق كل شيء فإن للعبد إرادة ومشيئة وقدرة بها يفعل قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}(النبأ: 39)، وقال تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(البقرة: 223)، وأثبت للعبد قدرة كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}(التغابن: 16)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﯤ}(البقرة: 286). ومشيئة العبد وقدرته ليست مطلقة وإنما هي تابعة لمشيئة الله تعالى وقدرته، كما قال سبحانه: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}(التكوير: 28 - 29). وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد، فالعبد هو الذي يوصف بفعله، فهو المؤمن والكافر، وهو البر والفاجر، وهو المصلي والصائم، والله خلقه وخلق فعله؛ لأنه هو الذي خلق فيه القدرة والإرادة اللتين بهما يفعل، وخالق السبب التام خالق للمسبب والنتيجة. ومع ذلك فالله تعالى أمد المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع كما قال صلى الله عليه وسلم : «أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة»، وكذلك خذل الفاسقين ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم أعرضوا وتولوا فولاهم ما تولوا. والاحتجاج بالقدر على الشرك والمعاصي فعل الكفار والشيطان، كما قال تعالى عن إبليس أنه احتج بالقدر على معصيته: {قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(الأعراف: 16). وقال تعالى عن حجة المشركين في عدم اتباع المرسلين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿148﴾}(الأنعام: 148). وإنما يحتج بالقدر عند المصائب كما قال صلى الله عليه وسلم : «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» أخرجه مسلم. والمطلوب من المسلم العمل الصالح والأخذ بأسباب النجاة، وعدم الاتكال على القدر أو الاحتجاج به؛ وذلك لعدم علمه به، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة» فقال رجل من القوم ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: { فأما من أعطى وأتقى}(الليل: 5) الآية وفى لفظ لمسلم «فكل ميسر لما خلق له». قال ابن القيم: «النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر»، وقال: «والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة وقد تقدم قوله: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» وإن العاجز من لم يتسع للأمرين». ونختم هنا بسؤال وهو هل يجب أن يرضى العبد بالقدر؟ والجواب أنه لابد من التفصيل كما ذكره ابن القيم في كتابه النفيس شفاء العليل: أولاً: القدر صفة الله تعالى، علمه وكتابته وإرادته وقدرته وخلقه فهذا من تمام الإيمان بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا، فيجب الرضا به. ثانياً:القدر؛ حيث المقدر والمقضي فهو أنواع: النوع الأول: المقدر الديني وهو شرع الله وأمره الذي قضى به وحكم به، فهذا يجب الرضا به؛ لأنه من لوازم الإسلام كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا}(الليل: 3). فإذا رضيه الله لنا فيجب علينا أن نرضى به، وقال صلى الله عليه وسلم : «من قال: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ وجبت له الجنة». النوع الثاني: المقدر الكوني وهو فعل الله تعالى وخلقه الذي قضى أن يقع في الكون، وهو قسمان: - الأول: ما لا يجوز الرضا به: وهو المعايب والذنوب التي يكرهها الله، فالمسلم يكره الكفر والبدع والمعاصي والكفار والفساق والظلمة، وإن كانت بقدر الله وقضائه، ولهذا شرع الله تعالى إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتغيير هذه المنكرات والمفاسد. - الثاني: ما يستحب الرضا به: وهو المصائب والأمور التي يكرهها الإنسان كالأمراض والموت ونحوها، فالواجب هو عدم التسخط وعدم الاعتراض على قدر الله، أما الرضا فهو مقام أعلى فيستحب ولا يجب. ولو سأل سائل:كيف يرضى العبد بالمصائب مع كرهه لها؟ فالجواب أن الشيء قد يكون محبوبا من جهة ومكروها من جهة أخرى مثل: شرب الدواء المر فالمريض يكره الدواء لأنه مر، ويرضى به لأنه محتاج إليه، ومثله صوم اليوم الحارفالمسلم يكره الجوع والعطش والحر، ويرضى به لما فيه من الأجر. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() الحكمة ضالة المؤمن(105) {ويدرؤن بالحسنة السيئة} حث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصفح والعفو فقال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم» أخرجه أحمد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين في القرآن الكريم والسنة المطهرة بصفات عديدة، وأخلاق كريمة، تدل على حبه سبحانه لها، وندبه عباده للتحلي بها، ومن جملة ما مدح الله تعالى عباده الصالحين بأنهم يدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس بالإحسان إليهم، كما قال تعالى: {{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}(الرعد: 22)}(الرعد: 22)، قال ابن زيد: «يدفعون الشر بالخير، فلا يكافئون الشر بالشر، ولكن يدفعونه بالخير»، وقال الحسن: «إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا»، وقال القتبي: «إذا سفه عليهم حلموا»، وقال ابن جبير: «يدفعون المنكر بالمعروف». قال الشيخ ابن سعدي: «أي: من أساء إليهم بقول أوفعل لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه، فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء».وقال ابن كثير: يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا، وصفحا وعفوا كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}(فصلت: 34- 35)، ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهؤلاء الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار. وحيث إن الإساءة متجددة وقد تحصل مرة بعدة أخرى، جاء التعبير القرآني بالفعل المضارع {ويدرؤون بالحسنة السيئة} كما يقول ابن عاشور إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء; لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات. ولا شك أن المسلم معرض للإساءة قليلة كانت أم كثيرة، مقصودة كانت أم عفوية وعلى كل حال فله ثلاثة مواقف من هذه الإساءة، كما ذكر الشيخ ابن سعدي أن مراتب العقوبات على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقصاً، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. مع مراعاة ما يجوز في المقابلة بالسيئة وما لا يجوز، فلا يجوز أن يقتص المسلم من غيره بأمر محرم، فلا يكذب على من كذب عليه، ولا يسرق من سرقه، ولايعتدي على عرض من اعتدى على عرضه؛ لأن هذه محرمات لحق الله تعالى، وإنما يستوفي حقه بالطرق المشروعة بالتراضي أو التقاضي. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(الشورى: 40). يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به. وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشورى: 40). الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. وقال بعضهم: لما كانت الأقسام ثلاثة: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فذكر المقتصد وهو الذي يفيض بقدر حقه لقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(الشورى: 40)، ثم ذكر السابق بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ثم ذكر الظالم بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين} (الشورى: 40) فأمر بالعدل ، وندب إلى الفضل ، ونهى من الظلم. وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى - مبيحا للعدل ونادبا للفضل والإحسان- {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ}(النحل: 126)، من أساء إليكم بالقول والفعل { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }(النحل: 126)، من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ}(النحل: 126)، عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(النحل: 126)، من الاستيفاء، وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة». والقرآن الكريم يؤكد هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ َ}(المؤمنون: 96)، قال ابن سعدي: «هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}(المؤمنون: 96)، أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(الشورى: 40). ومنها قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }(الفرقان: 63) قال ابن كثير: «أي: إذا سفه عليهم الجهال بالسيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما». وقال سبحانه: {أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }(القصص: 54)، قال الطاهر: «وعد الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال، وذكر منها درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير، وأدعاها إلى حسن المعاشرة». وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}(فصلت: 34). قال الشيخ الطاهر: «وإنما أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم - بذلك لأن منتهى الكمال البشري خلقه كما قال صلى الله عليه وسلم : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وقالت عائشة لما سئلت عن خلقه: «كان خلقه القرآن»؛ لأنه أفضل الحكماء». وحث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصفح والعفو فقال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم» أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر. وقال أبو بكر: «بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فليقم، فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس». ففي هذا الزمان نحتاج إلى التحلي بهذا الخلق الكريم، فيعفو بعضنا عن بعض، ويسمو بأخلاقه فيقابل الإساءة بالإحسان فذلك أفضل أخلاق المؤمن العفو كما قال الحسن، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(106) - الميزان بيد الرحمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني. الله تبارك وتعالى ملك عظيم، ورب جليل، له الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة، والقدرة التامة، خلق كل شيء بأمره، وأحاط بكل موجود علمه، له الخلق والأمر، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، فهو على كل شيء قدير، وكل مخلوق إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، وأدلة الكتاب العزيز والسنة المطهرة عامرة بتقرير هذه الحقيقة، وتأكيد هذه العقيدة، فمن ذلك قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. آل عمران قال ابن سعدي: «يقول الله لنبيه[ {قل اللهم مالك الملك}، أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها، فقال: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع،ثم قال تعالى: {وتعز من تشاء} بطاعتك {وتذل من تشاء} بمعصيتك {إنك على كل شيء قدير} لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك».وقال تبارك وتعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن}، قال ابن كثير: «وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن». وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الشأن المذكور في الآية فقال: «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» أخرجه ابن أبي عاصم وصححه الألباني. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني. قال المناوي: «أي جميع ما كان وما يكون بتقدير خبير بصير، يعلم ما يؤول إليه أحوال عبادة فيقدر ما هو أصلح لهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط كما تقتضيه الحكمة الربانية». وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده» وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع». قال ابن حجر: «قوله: (وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع) أي يخفض الميزان ويرفعه، وفي حديث أبي موسى عند مسلم وابن حبان: «إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام، يخفض القسط ويرفعه» وظاهره أن المراد بالقسط: الميزان، وهو مما يؤيد أن الضمير المستتر في قوله «يخفض ويرفع» (للميزان)». وقال الداودي: معنى الميزان أنه قدر الأشياء ووقتها وحددها فلا يملك أحد نفعا ولا ضرا إلا منه وبه». وقال النووي: «وقيل هو عبارة عن تقدير الرزق؛ يقتره على من يشاء، ويوسعه على من يشاء، وقد يكونان عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعز والذل». والله تعالى يرفع بعض خلقه درجات ومراتب على بعض كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال ابن سعدي: «{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في القوة والعافية، والرزق والخَلْق والخُلُق». وقال الطبري: «يقول: وخالف بين أحوالكم, فجعل بعضكم فوق بعض, بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا, وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى, فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا». وقد يكون الرفع بالنبوة والاصطفاء على سائر الناس كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}، ورفع الرسل بعضه على بعض كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين {وآتينا عيسى ابن مريم البينات}، الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه». وقد يكون الرفع بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح كما قال تعالى: {نرفع درجات من نشاء} قال القرطبي: «أي بالعلم والفهم والإمامة والملك». وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به. وعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال له عمر: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا. فقال عمر بن الخطاب: فاستخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: «أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين» (أخرجه مسلم). فخزائن كل شيء بيد الله سبحانه، والمسلم يسأل الله من فضله، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، ويأخذ بالأسباب الشرعية للرفعة الحقيقة في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(111) - الوالد أوسط أبواب الجنة إن كان الجهاد فرض كفاية فجمهور الفقهاء يرون وجوب استئذان الوالدين قبل الخروج وعليه ترك الخروج إذا منعاه من ذلك بر الوالدين من أعظم الواجبات على العباد بعد القيام بواجب العبودية لله تعالى، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تقرير هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام: فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14) وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (الأحقاف: 15). وقال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿23﴾وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23-24). وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النِّساء: 36). وقال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.(البقرة: 83) وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(الأنعام: 151). قال القرطبي: «أمر الله تعالى بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير}. والإحسان إلى الوالدين كلمة جامعة، تعني إيصال كل خير مستطاع إليهما، ومنع كل ما يمكن منعه من أذى عنهما، واقتران ذلك بالشفقة والعطف والتودد. يوضح ابن عباس معنى الإحسان فيقول: «البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع الصوت عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما». وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال القرطبي: «فأخبرصلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام». وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنفه» ثلاثا، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة». وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه». وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ لِيَ امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ»، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ .أخرجه الترمذي قوله: «الوالد أوسط أبواب الجنة» قال القاضي: أي خير الأبواب وأعلاها، والمعنى أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة ويتوسل به إلى وصول درجتها العالية مطاوعة الوالد ومراعاة جانبه، وقال غيره: إن للجنة أبوابا وأحسنها دخولا أوسطها، وإن سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو محافظة حقوق الوالد انتهى. فالمراد بالوالد الجنس، أو إذا كان حكم الوالد هذا فحكم الوالدة أقوى وبالاعتبار أولى (فأضع) فعل أمر من الإضاعة (ذلك الباب) بترك المحافظة عليه (أو احفظه) أي داوم على تحصيله. قال المناوي: «الوالد أوسط أبواب الجنة» أي: طاعته، وعدم عقوقه مؤدٍ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها، ذكره العراقي. وقال بعضهم: خيرها، وأفضلها، وأعلاها، يقال: هو من أوسط قومه، أي من خيارهم. ويضاد الإحسان إلى الوالدين (العقوق)، وهو كل ما يصدر من الولد مما يتأذى به أحد الوالدين من قول أو فعل إلا ما كان في ترك طاعتهما في شرك أو معصية. وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر باتفاق الفقهاء، فقد أخرج الشيخان عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وطاعة الوالدين ليست مطلقة بل لها حدود بينتها النصوص الشرعية؛ فيجب على الولد طاعة والديه فيما أمرا به من المباحات فعلا أو تركا، ما لم يترتب على طاعتهما ضرر بالغ أو هلاك محقق. فإن أمرا بمعصية سواء أكانت تركا لواجب أو فعلا لمحرم فلا طاعة لهما، لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنما الطاعة في المعروف»، وقوله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». فإن أمرا بترك مندوب وفي ذلك مصلحة لهما، كأن يطلبا من الولد مصاحبتهما وفي ذلك تركه لقيام الليل أو قراءة القرآن فإنه تجب طاعتهما، ودليل ذلك استجابة الله تعالى دعاء أم جريج في ابنها الصالح؛ حيث عاقبه الله لعدم تلبيته لندائها، قال النووي في فقه الحديث: «فيه قصة جريج وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، قال العلماء: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها؛ لأنه كان في صلاة نفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته. وإذا أمراه بترك واجب كفائي كترك غسل الميت أو ترك الجهاد ونحو ذلك، فإن تعين عليه القيام بذلك العمل لعدم وجود غيره أو لأن القائمين به لا يكفي جهدهم لإقامته فلا يطاعان في ذلك، أما إذا وجد من يكفي فإنه يجب برهما وطاعتهما. وإذا وجب الجهاد على الولد وتعين لم يعتد بإذن الوالدين؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية، وكذلك كل ما وجب مثل الحج وصلاة الجماعة والسفر للعلم الواجب، قال الأوزاعي: لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجُمَعِ والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه. أما إن كان الجهاد فرض كفاية فجمهور الفقهاء يرون وجوب استئذان الوالدين قبل الخروج وعليه ترك الخروج إذا منعاه من ذلك، ودليلهم ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي رفاستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال نعم قال: «ففيهما فجاهد»، وفي رواية لأبي داود: جاء رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبواي يبكيان، قال صلى الله عليه وسلم : «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»، وعن أبي سعيد: أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، قال: «أذنا لك؟» قال: لا، قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما» أخرجه أبو داود. قال النَّووي: «هذا كلُّه دليلٌ لعظم فضيلة برِّهما وأنَّه آكد من الجهاد، وفيه حجةٌ لما قاله العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلميْن». قال ابن قدامة: لأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. نسأل الله تعالى أن يرزقنا بر الوالدين، ويحفظنا من العقوق، ويمنن علينا بالسداد والقبول. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(113) - خالِص المؤمن وخالِق الفاجر للمسلم أخلاق كريمة، وآداب جميلة، تتجلى في تصرفاته وتعامله مع غيره؛ سواء أكان غيرة من المؤمنين الصالحين، أم من الفاسقين العاصين، أم كان من غير المسلمين، فالمسلم يلتزم حدود ما أنزل الله -تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ من العلم والعدل والرحمة الذي أرشدت إليه النصوص الشرعية، وأكدته القواعد الدينية. وقد نقل الشَّعْبِيِّ عن صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ أنه قال لابْنِ يَزِيدَ: «خَصْلَتَانِ أُوصِيكَ بِهِمَا فَاحْفَظْهُمَا مِنِّي، خَالِصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَالِقِ الْفَاجِرَ، فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَأَنَّهُ يَحَقُّ عَلَيْنَا أَنْ نُخَالِصَ الْمُؤْمِنَ». فهذه الحكمة الموجزة دلت على الموقف المطلوب من المسلم حين يخالط ويتعامل مع صنفين من الناس؛ وهما المسلم الصالح، والآخر المسلم الفاجر.أما المسلم الصالح فقد أمر الشرع بالنصح والإخلاص له، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم. يبين النووي كيفية النصيحة لعامة المسلمين وذلك بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط همهم إلى الطاعات. وقال الشيخ ابن سعدي: «وأما النصيحة لعامة المسلمين فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله». أما الصنف الآخر ـ وهو المسلم الفاجر ـ الذي قد يبتلى به الإنسان في عمل أو جوار أو غير ذلك من أحوال الدنيا، ويتأذى من سوء خلقه أو سلاطة لسانه، فالمطلوب من المسلم أن يتحلى بالمداراة وحسن الخلق، وأن يقف حيث أوقفه الشرع، فلا يقبل مجاراة الآخرين في أخلاقهم وسوء أعمالهم. فعن عروة بن الزبير أنَّ عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقالصلى الله عليه وسلم : «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ، ثم ألنتَ له في القول. فقال: «أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه - أو ودعه - الناس اتقاء فحشه» رواه البخاري ومسلم. قال النووي: «وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه، ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام». والمداراة مصدر دارى، أي: لاطفه ولاينه، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك . قال ابن بطال: «المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول»، وقال ابن حجر: «المراد به الدفع برفق»، وقال المناوي: «المدَاراة: الملاينة والملاطفة». وقال ابن القيم مبينا الفرق بين المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن فهو يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق». وقال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين؛ وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك» . وتأمل أدب إبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا}(مريم: 41 - 45). قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو:ليس عندك من العلم شيء، وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها». وانظر توجيه الله -تعالى- لموسى وهارون عليهما السلام قال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلا لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه: 43 - 44). قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين». قال الحسن البصري: «كانوا يقولون:المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه». وقال: «المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله». وقال محمد بن السماك: «من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المدَاراة ترك المماراة». فالمسلم على بصيرة من دينه، وحكمة في تصرفه، يتخذ الموقف المناسب الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد وفق الضوابط الشرعية، فعليه أن يكون حليما رفيقا في موضع الرفق، ويكون حازما صريحا في موقف الحزم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرفق والحزم كلا في موضعه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم مداهنا، ولا منفرا، بل كان حكيما رحيما صلى الله عليه وسلم . اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(128) - إن للإسلام صوى ومنارا الإسلام دين كامل، ومنهج شامل، شرعه الله -تعالى- هداية للناس كافة، لتستقيم عقائدهم، وتصلح عباداتهم ومعاملاتهم، وتحسن أخلاقهم وآدابهم، ويرتقوا في درجات الإنسانية إلى أعلى غاية، ويسموا في المكارم إلى أرفع مكانة، وقد أمرنا الله -تعالى- بالدخول في جميع شعائر الإسلام الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة:208) قال ابن كثير: «يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك». وقد دلت النصوص الشرعية على أن فروع الدين كثيرة، ومجالاته متعددة، ففيها مسائل الإيمان، وأبواب العبادات، وأنواع المعاملات المالية وغير المالية، والكثير من الآداب والأخلاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شُعْبة، فأفضلُها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبة من الإيمان» متفق عليهفهذا الحديث يبين أن الإيمان بمعناه العام يشمل الاعتقادات الباطنة، والأعمال الظاهرة، والأخلاق الكريمة، وتلك هي حقيقة الدين الإسلامي. وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِلإِسْلامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَسْلِيمُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَا لَقِيتَهُمْ، فَإِنْ رَدُّوا عَلَيْكَ رَدَّتْ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ، وَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْكَ رَدَّتْ عَلَيْكَ الْمَلائِكَةُ، وَلَعَنَتْهُمْ أَوْ سَكَتَتْ عَنْهُمْ، وَتَسْلِيمُكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ، فَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنَ الإِسْلامِ تَرَكَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ فَقَدْ نَبَذَ الإِسْلامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ».أخرجه الحاكم وصححه الألباني في السلسلة (333). يوضح ابن الأثير معنى الصوى فيقول: «الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطريق واحدتها صوة كقوة, أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها». وقد ظن بعض الناس أن الإسلام هو فقط في الأركان الخمسة المذكورة في حديث ابن عمر مرفوعا: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان» متفق عليه. والإسلام غير قاصر على هذه الأمور الخمسة، بل يشمل أعمالا وشعبا كثيرة كما تقدم، وإنما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر هذه الأركان الخمسة؛ لأنها بمنزلة الدعائم للبنيان، ويؤكد ابن رجب شمول الدين للأعمال الظاهرة غير الأركان الخمسة فيقول: «وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام. وإنما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها. ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال: «أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». وصح عن حذيفة قال: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والجهاد سهم، وصوم رمضان سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وخاب من لا سهم له». وقوله: «الإسلام سهم» يعني الشهادتين، لأنهما علم الإسلام، وبهما يصير الإنسان مسلما. وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا». قال أبو عبيد القاسم بن سلام موضحا شمول الدين للكثير من الخصال والأعمال كما وردت في النصوص: «فظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد منها، وهي - بحمد الله ورحمته- بعيدة عن التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقة، فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، كذلك في الحديث المثبت عنه أنه قال: «الإيمان بضعة وسبعون جزءا، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». ويوضح ابن القيم -رحمه الله- كيف أن زوال بعض أعمال الإسلام يؤثر في نقص الدين حتى يزول بالكلية إذا زال أساسه فيقول: «الكفر والإيمان متقابلان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر, ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً: فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء، والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين, ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق, وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً, منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب». والخلاصة أن الإسلام اعتقادات قلبية، وأعمال بدنية، وأخلاق كريمة، الأخذ بها استقامة ونجاة، والإعراض عنها سبيل للهلاك، فهي منارات تهدي المسلم إلى سواء السبيل، وعلامات ترشده إلى الصراط المستقيم، أوصانا بالتمسك بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في وصيته الجامعة، فعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد». رواه ابن ماجه قال الشيخ الألباني: صحيح. وأخرج الحاكم بسنده عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الزم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكم بهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ». وأخرج البيهقي أيضا بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدا؛ كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض» وأخرجه الحاكم في المستدرك. اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |