|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد الشيخ محمد محمد مخيمر الأصل الأول: دخول الجنة والخلود فيها جزاءً على العمل وفضلاً من الله. الأصل الثاني: دخول النار والخلود فيها جزاءً على العمل وعدلاً من الله. الأصل الثالث: جزاء العمل مقصور على صاحبه لا يتعداه. قال الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 52]. اعلم أن الأعمال صالحة كانت أو غيرها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عمل ينقضي بانقضاء أجل صاحبه. وعمل يبقى ما بقيت الدنيا. وعمل يبقى في الدنيا والآخرة. فأما الأعمال التي تنقضي بانتهاء أجل صاحبها فهي أعمال الجوارح المتجددة، كالأقوال والأفعال الظاهرة التي يباشرها العباد كالصلاة والصوم والذكر والاستغفار، والتسبيح والقراءة من الأعمال الصالحة؛ وكالغيبة والنميمة، والسب والقذف؛ والأمر بالمنكر؛ والنهي عن المعروف؛ وما شاكلها من الأعمال السيئة. وأما الأعمال التي تبقى ببقاء الدنيا ويجري جزاؤها على صاحبها بعد انقضاء أجله، فكالصدقة الجارية، والكتب الدينية النافعة التي يتركها أصحابها لانتفاع من بعدهم، وإحياء سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم التي يحب الله ورسوله بقاءها. إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة التي تبقى ما شاء الله عز وجل. وكإحداث عمل يكره الله ورسوله وجوده في دار الدنيا لأنه فاسد، وكترك كتب تحوي علوما فاسدة وعقائد زائغة؛ وكوقف دار أو عقار على جهة شر تقتضي بقاء المعاصي. إلى غير ذلك من الأعمال السيئة. ويسمى هذا النوع من الأعمال في عرف القرآن آثاراً، لأنها تخلف أصحابها وتبقى بعدهم. وإلى هذين القسمين يشير قوله عز وجل في سورة يس: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾. وأما القسم الثالث وهو الذي يبقى إلى الدار الآخرة فهو العقائد القلبية كاعتقاد حقيقة الصلاة والزكاة وغيرها من شعائر الله، واعتقاد الحلال حلالا والحرام حراما؛ والفرض فرضاً والسنة سنة، والإيمان؛ والكفر، والتوحيد والشرك. وغير ذلك من العقائد الثابتة التي يعبر عنها بأصول العقائد. وقد بين الله عز وجل في القرآن الكريم، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث لا تحصى أن جزاء الأعمال يتفاوت بتفاوتها ذهابا وبقاءً، وأن من هذه الأعمال التي لا تبقى تكون درجات النعيم والعذاب متفاوتة بتفاوتها، قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 132] أي لكل من أهل الجنة والنار يوم القيامة درجات من جزاء ما عملوا. ومنها آية الأحقاف: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأحقاف: 19]. وبيان الأدلة على أن الله عز وجل يخلد المؤمنين في الجنة جزاء أعمالهم الصالحة؛ والكافرين في النار جزاء أعمالهم الفاسدة؛ كما يدخلهم الدارين بهذه الأعمال نفسها، قوله تعالى في سورة الأعراف ﴿ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 49] وقوله تعالى في سورة النحل ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32] وقال تعالى في ذكر نعيم المقربين في سورة الواقعة ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الواقعة: 17 - 24] [السجدة: 10، 17] وقال تعالى في سورة الدهر بعد ذكر نعيم الأبرار من أهل الجنة ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ وقال تعالى في سورة النبأ ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴾[النبأ: 31 - 36] وقال تعالى في سورة الطور - في شأن المعذبين من أهل النار ﴿ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الطور: 16] وقال تعالى في سورة يونس ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ فأنت ترى من هذه الآيات وأمثالها أن ما يلحق أهل الدارين من النعيم والعذاب إنما يلحقهم جزاءا على أعمالهم، إحقاقا للفضل والعدل على الجانبين. ولا ينافي كون النعيم جزاء على العمل، ولا كون دخول الجنة والخلود فيها جزاء على العمل: قوله عز وجل بعد ذكر نعيم المتقين في سورة الدخان ﴿ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الدخان: 56، 57] لأن قبول العمل من العاملين رحمة وفضل من الله عز وجل فهو فضل وجزاء معا. "يتبع"
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد(2) الشيخ محمد محمد مخيمر عرف من الكلمة السابقة أن دخول الجنة والخلود فيها ودخول النار والخلود فيها: جزاء وفضل في الأولى. وجزاء وعدل في الثانية. وأن العمل سبب في دخول الجنة. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته". وظاهره معارض لمثل قوله عز وجل ï´؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [النحل: 32]. والجواب: أن الباء في مثل هذه الآية للسببية، أي أن العمل سبب في دخول الجنة. أما النفي في الحديث فهو المقابلة والمعاوضة؛ أي أن دخول الجنة ليس في مقابلة العمل، ولا لمجرده. بل لابد مع العمل من تفضل الله تعالى بقبوله. وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "إلا أن يتغمدني الله برحمته" فرجع الأمر إلى محض فضل الله عز وجل وأنه هو الذي جعل الدخول جزاء على العمل. وإلا فلو حاسب الله تعالى عباده على أعمالهم وعلى ما أولاهم من نعمه في دار الدنيا لما وفت الأعمال ببعض تلك النعم. وبهذا البيان يعلم أنه لا معارضة بين الآيات وبين هذا الحديث الصحيح. وهنا نشرع في إيراد الأدلة على أن خلود أهل الدارين فيهما جزاء على العمل. فمنها قوله عز وجل في سورة الأحقاف ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [الأحقاف: 13، 14] وقوله تعالى ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ï´¾ [البينة:7، 8]. فهاتان الآيتان تبينان أوضح البيان أن خلود أهل الجنة فيها إنما هو جزاء على ما عملوا. وفي قوله سبحانه ï´؟ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ï´¾ إشارة لطيفة إلى عمل المؤمنين الدائم بدوام الجنة، وهو خشيتهم الله عز وجل مع وجود أعمال صالحة غير تلك الخشية، لا تنقطع في الجنة وإن لم تكن على سبيل التكليف، كحمدهم لله تعالى وتسبيحهم ودوام شكرهم. كما يشير إليه قوله تعالى في سورة يونس ï´؟ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [يونس: 10] وقوله تعالى في سورة فاطر ï´؟ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ï´¾ [فاطر: 34، 35] وقوله تعالى في سورة الزمر ï´؟ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ï´¾ [الزمر: 74]. ويوضح لك أن إعطاء الأجر لا يشترط أن يكون على عمل تكليفي أن عمل الصبي قبل بلوغه أعمالا صالحة يعطيه الله سبحانه وتعالى عليها الأجر وإن لم يكن مكلفاً رحمة منه وفضلاً فكذلك عمل المؤمنين في الجنة. فظهر بهذا أن الخلود لأهل الجنة فيها جزاء على أعمالهم مع كونه فضلا من الله عز وجل. بيان الأدلة على أن خلود أهل النار فيها جزاء على أعمالهم: 1- قوله تعالى ï´؟ سيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ï´¾ [التوبة: 95] فقوله ï´؟ مَأْوَاهُمْ ï´¾ أي سكنهم الذي لا يخرجون منه؛ وذلك معنى الخلود. 2- وقوله عز وجل ï´؟ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ï´¾ [فصلت: 28] وهذه الآية من أصرح الدلائل على أن خلود الكفار في دار العذاب إنما هو جزاء وفاق؛ فإن الجحود المشار إليه في آخر الآية عمل لا يفارق قلوبهم ما دامت الدار الآخرة حتى لو ردهم الله إلى دار الدنيا وبعث إليهم رسله بأضعاف المعجزات التي بعثهم بها إليهم في هذه الدار التي نحن فيها، لم يؤمنوا كما بيّن الله عز وجل في ذلك في سورة الأنعام بقوله عز وجل ï´؟ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ï´¾ [الأنعام: 27 ،28 ] فهذا الجحود الذي لا يفارقهم، وذلك الكفر الذي لا يغادر قلوبهم، يستلزمان خلودهم في جهنم بالا انتهاء. 3– وقوله تعالى في المثل الذي ضربه ليهود بني قريظة والمنافقين من أهل المدينة حين خذلوهم وأخلفوهم وما وعدوهم به ï´؟ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ï´¾ [الحشر: 16، 17] أي الكافرين. فالإشارة في الآية راجعة إلى الخلود وهو جزاء كل كافر لأن المبتدأ والخبر منصبان على شيء واحد. 4- وقال تعالى في سورة النبأ ï´؟ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا ï´¾ [النبأ:21، 26] وهذه الآيات المحكمات التي سقناها من سورة براءة وفاطر والحشر والنبأ تضع بين عينيك وفي صحيفة قلبك أن الخلود في العذاب لمن استحقوه جزاء مساو لأعمالهم، وعدل موافق لاستمرار كفرهم. فاحفظ هذه الأدلة في أهل الدارين؛ وتأمل هدانا الله وإياك فيما علقنا به عليها، فإنك واصل به إن شاء الله تعالى إلى صحة ما تضمنته الكلمة الأولى من الحق في بعض أصول العقائد. والله يتولى هدانا وهداك إلى صراطه المستقيم. للبحث بقية..
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد(3) الشيخ محمد محمد مخيمر أسلفنا في الكلمة السابقة أن خلود أهل كل دار فيها، وما يلقون من النعيم والعذاب جزاء مساوٍ لأعمالهم. كما أنه فضل من الله في جانب أهل الجنة؛ وعدل منه في جانب أهل النار. ونريد أن نبين هنا أن ما تطبعه الأعمال الصالحة أو الأعمال السيئة في نفوس أصحابها حتى يصير صورة ثابتة لتلك النفوس تنطبع به تلك النفوس لا يفارقها، بحيث يصير وصفاً ذاتياً لها: هو ميزان جزائها في الآخرة. يرشدك إلى هذا إذا تدبرته تمام التدبر: قوله عز وجل في سورة الأنعام ï´؟ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ï´¾ [الأنعام: 139] أي أنه تعالى سيعطي الجزاء عباده في الدار الآخرة على حسب الوصف الذي تطبعه الأعمال في نفوسهم حسناً وقبحاً، بحسب قوة هذا الوصف وضعفه. وفي هذه الجملة حذف تقديره: سيجزيهم وصفهم ربهم من تعظيمه أو جحوده. تقول العرب: إذا تمكنت الصفة في عضو من الأعضاء، كالكذب في اللسان؛ والحسن في الوجه، وصف لسانه الكذب ووجهها يصف الحسن، وعينها تصف السحر. ومنه قوله عز وجل ï´؟ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ï´¾ [النحل: 116] الآية. وهذا المعنى شائع في كلام العرب نظما ونثرا. قال الشماخ يصف ناقته بسرعة السير حين تسري به ليلا: إذا ما أدلجت وصفت يداها ![]() لها الإدلاج ليلة لا هجوعا ![]() وقال المعري: سرى برق المعرة بعد وهن ![]() فبات برامة يصف الكلالا ![]() فدلت الآية على أن الجزاء مساو لهذا الوصف الذي تطبعه الأعمال بحيث يقال وصفت نفس المؤمن تعظيم الله عز وجل وهيبته ومعرفته وخوفه، واستمر هذا الوصف لها في حياتها الدنيا، وبعد خروجها من الجسم، وبعد ردها إليه بالبعث، فاستحقت ما تلقاه من النعيم والخلود جزاء لها على هذا الوصف، كما يقال مثله تماما في نفس الكافر لكن الفرق بين المؤمنين والكافرين: أن المؤمنين يتفضل الله عليهم مع ثواب أعمالهم المستمر بمضاعفة جزاء أعمالهم في الجنة إلى أضعاف كثيرة حسب مشيئته وأمره وهذا فضل محض وكرم خالص، خارج عن جزاء الأعمال الصالحة. وسنسوق لك من النصوص ما يدل لك على هذا المعنى: مضاعفة جزاء الأعمال الصالحة فضلا وكرما دون الأعمال السيئة عدلا وحكمة قال تعالى في سورة النساء ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ï´¾[النساء: 40] وقال تعالى ï´؟ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ï´¾ [البقرة: 245] وقال ï´؟ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 261] وقال تعالى ï´؟ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ï´¾ [الأنعام: 160]. وأما السنة ففيها أحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومنها حديث ابن عباس وأبي هريرة عند البخاري وغيره واللفظ للبخاري "ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة". وهذه النصوص تدل دلالة قاطعة على أن لا مضاعفة في جانب السيئة، وعلى المضاعفة في جانب الحسنة؛ وتلك المضاعفة محض فضل من الله عز وجل متفق مع رحمته ورأفته بالمؤمنين. كشف شبه شرعية: أوردها الرازي في تفسيره لآخر الآيات التي أوردناها، وإنما تعرضنا لها لقوتها، وضعف ما أجاب به عنها لنوقفك على أجوبتها الصحيحة بعد بيان فسادها وفساد ما أجاب به عليها: قال في الشبهة الأولى ما نصه: كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ؟ ثم أجاب عنها بأنه لما كان الكافر على عزم أن لو عاش أبدا بقي على هذا الاعتقاد فلذلك استحق عقاب الأبد بخلاف المؤمن المذنب فإنه لما كان على عزم أن ينقطع عن الذنوب انقطعت عقوبته. وأقول: هذا الجواب فاسد من وجوه: (1) فإنا لا نسلم أن كل كافر عنده هذا العزم وإنما ذلك يتأتى في المعاندين فقط والكفر لا ينحصر في العناد للحق ولا ينحصر الكفار في المعاندين. (2) ماذا يقول في الذين كفروا جهلا، مع تقصيرهم في البحث عن الحق مع إمكان الوصول إليه كأهل الفترة. (3) وماذا يقول في الأحاديث التي تدل على عذاب أطفال الكفار بعد الامتحان الذي يجريه الله عز وجل يوم القيامة لمن لم يدركوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ولكن الجواب الحق الذي تنهار به هذه الشبه من أساسها هو ما قدمناه لك من وصف قلوب الكفار الذي لا يفارقهم كما يشير إليه قوله عز وجل ï´؟ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ï´¾ [الأنعام: 27] وقد سبق الكلام على هاتين الآيتين. (الشبهة الثانية): قال فيها ما نصه: إعتاق الرقبة جعل مرة بدلا عن صيام ستين يوما، وذلك في كفارة الظهار؛ ومرة بدلا من صيام أيام قلائل، وذلك يوجب عدم اعتبار المساواة. والمراد بقوله بدل صيام أيام قلائل يعني في كفارة الأيمان؛ حيث جعل بدلا من صيام ثلاثة أيام. ثم أجاب عن هذه الشبهة بقوله: إن المساواة إنما تعبر بوضع الشارع وحكمه. ومعنى جوابه: أن الشارع هو الذي جعل هذه المساواة وحكم بها؛ وهو جواب العاجز الحائر الغافل؛ عن بقية الحكم في مشروعية الإعتاق. والجواب الحق: أن إعتاق الرقبة نلاحظ فيه تخليصها من الرق ما أمكن، ويدل على ذلك تفاوت الكفارة فيما عدا الإعتاق، لانتفاء الحكمة السابقة في غيره. ومما يدل على صحة جوابنا: أن الله تعالى جعل إعتاق الرقبة في كفارة الظهار أساساً. ضرورياً وأمرا حتميا لا يجوز للمظاهر الانتقال عنه إلا عند العجز لعظم ذنب الظهار لتتساوى العقوبات مع مقتضياتها. وجعله في كفارة اليمين أمراً تخييريًا، وفاوت في الصوم والإطعام بين الظهار واليمين تفاوتاً بليغاً حيث جعلها في اليمين صيام ثلاثة أيام عند العجز عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم. وجعل كفارة الظهار فيما عدا الإعتاق صيام شهرين متتابعين مقدماً على الإطعام. وجعل الإطعام في الظهار لستين مسكينا تحقيقا للتساوي الملحوظ بين الأحكام وعقوباتها. ومما يدل على أن كفارة الظهار مفارقة تمام المفارقة لكفارة اليمين، وأن ذكر الإعتاق في كفارة اليمين إنما هو لحرص الشارع على تخليص الرقبة من الرق: أنه قد يطلب من الحالف في باب الأيمان أن يعدل عن المضي في يمينه وأن يوقعها ويكفر عنها إذا رأى غيرها خيرا منها، ولا يتصور ذلك في المظاهر، لأن صورة يمينه تتضمن تحريم حلال، ولهذا قال الله تعالى في المظاهرين ï´؟ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ï´¾ [المجادلة: 2]. فتدبر هذه الدقائق في أحكام الله عز وجل وعقوباتها فإن له تعالى الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ولو شاء لهداكم أجمعين. وموعدنا بإيراد الشبهتين الأخريين المقال الآتي إن شاء الله تعالى وبه المستعان وفقنا الله جميعا إلى تدبر أحكامه والوقوف على مصادرها ومواردها وتحقيق موازينها ومقاصدها إنه خير مأمول وأكرم مسئول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد(4) الشيخ محمد محمد مخيمر قد أسلفت في الكلمة السابقة كشف شبهتين من الشبه الأربع التي أوردها الرازي على المساواة المفهومة من قوله تعالى في آخر الآيات في سورة الأنعام: ï´؟ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ï´¾ الشبهة الثالثة قال فيها ما نصه: أحدث موضحتين فصارتا موضحة واحدة أخذ منه أرش موضحة واحدة. وقال في الجواب عنها: وهذا من تعبدات الشارع وتحكماته. الموضحة هي ضربة تكشف العظم وتزيل ما فوقه من اللحم، وأرشها ديتها وخلاصة الشبهة وجوابه عنها: أنه لو جنى إنسان على آخر بضربة كشفت العظم وفعل ذلك بموضعين غير متصلين فزال ما بينهما من الاتصال سواء أكان ذلك بفعل الجاني أو المجني عليه أو غيرهما تغير الحكم، وأخذ من الجاني تعويض موضحة واحدة بدلاً من موضحتين؛ ثم زعم في جوابه: أن هذا من تعبدات الشارع وتحكماته. وأقول: كان يتم له هذا الجواب لو أتى بنص من الشارع على الحكم الذي ذكره، ولا سبيل له إلى هذا، بل هو في مصادمة قوله صلى الله عليه وسلم "في الموضحة خمس من الإبل" وعلى هذا فلا نوافقه على الحكم الذي ذكره، ولو وافقه عليه ألف فقيه مثله ما دام في مصادمة النص السابق، بل الحكم الشرعي: أنه لو صارت عشر موضحات موضحة واحدة، أخذ منه عشرة تعويضات؛ أي خمسون من الإبل. الشبهة الرابعة: لو أتلف يد إنسان عمداً كان فيها الدية. وقد سوّى الشرع بين ذلك وبين إتلاف النفس، حيث أوجب فيها الدية. وأجاب عن هذه الشبهة بعين الجواب السابق في الشبهة الثالثة. وأقول: إن أراد أن الشرع سوَّى بين اليد والنفس في الإتلاف عمداً حكما فباطل لأن موجب القتل القصاص لا الدية حال العمد، فلا مساواة. وإن أراد أنه سوى بين إتلاف اليد عمداً وبين قتل النفس خطأ فباطل أيضا؛ لأن أخذ الدية في القتل الخطأ غير ملحوظ فيه المجازاة، بل الملحوظ فيه مصلحة أولياء الدم. اهـ. هذه هي الشبه. والآن نناقشه مناقشة إجمالية تعم الشبه كلها بالنقض: فمن الذي قال له أو لغيره: أن أمور الدنيا معيار لأمور الآخرة، مع أن الملحوظ في العقوبات في الدنيا استقرار الأمن والمحافظة على مصالح المجتمع الإنساني، فإن قصد المفسد للإتلاف في الأموال أو الأنفس أو الأطراف هو الذي كان سببا في تنويع العقوبات الدنيوية؛ وهذا القصد منتف في الآخرة؛ وبهذا ظهر الفرق بين الدارين، وكما تبين أن المساواة حاصلة في الجزاء فيهما من جهة العقوبة. إذا انكشفت لك هذه الشبه فلنرجع إلى أصل البحث فنقول: قد سبقت الإشارة في الكلمة السابقة إلى أن التضعيف في الجزاء مخصوص بجزاء الحسنات، منتف في جزاء السيئات تحقيقاً للفضل والعدل في الجانبين، إلا أن المتكلمين اختلفوا: هل الحاصل من الثواب جزاء على العمل أعظم، أم الحاصل من مضاعفة الحسنات؟. فإلى الأول ذهب المعتزلة، وإلى الثاني ذهب الأشاعرة وأكثر المتكلمين. قال الجبائي في الاستدلال على صحة مذهب المعتزلة: لو لم يكن الحاصل جزاء على العمل أعظم من الحاصل بالمضاعفة لا نتفت فائدة التكليف، ولكان العذاب بحصول مشقته في الدنيا خاليا عن الفائدة. والجواب: أن فائدة التكليف في هذه الحالة شيئان، الأول: تمييز الصادقين من الكاذبين في الانقياد إلى طاعة الرسل بالقلوب. الثاني: أن حصول التضعيف موقوف على وجود أصل الجزاء على العمل الصالح، لأنه علاوة لا وجود لها إلا بعد ثبوت الجزاء على العمل لصاحبها. وأمثال هذه المجادلات لا فائدة فيها للمسلمين. لكن ينبغي أن يتنبه هنا إلى أن المساواة في الجزاء أو عدمها مبنية على أصل آخر وهو: هل يجوز الظلم على الله أو لا؟ وهذا هو الذي تنبغي العناية بتحقيق الحق فيه؛ وموعدنا به الكلمة الآتية إن شاء الله تعالى.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد(5) الشيخ محمد محمد مخيمر قلت في خاتمة الكلمة السابقة: إن المساواة في الجزاء وعدمها أمرٌ مبني على أصل، وهو: "هل يجوز الظلم على الله عقلاً أم لا؟ وهذا هو الذي ينبغي العناية بتحقيق الحق فيه"؛ ا .هـ. وإني بعون الله مفصل هذا الأصل تفصيلاً شافيًا، كما أني مُبين ما انبنى عليه من الفروع، فأقول وبالله المستعان وعليه التُّكلان: اختلف المتكلمون في: هل يجوز الظلم على الله تعالى أم لا؟ ومنشأ هذا الأصل في رأينا قول بعض السلف رضي الله عنهم: ((لو عذَّب تعالى أهل سمواته وأرضه، لم يكن ظالِمًا لهم))، وهذا معناه صحيح؛ من حيث إنه تعالى غمَرهم بنِعَمه، ولكنهم لم يقوموا بشكرها مهما كانوا عاملين، فهم من ناحية عظمته وجلاله، وعدم تناهي نِعَمه في أدنى درجات التقصير في الشكر، ومن هذه الناحية لو عذَّبهم على هذا التقصير، ما كان ظالِمًا لهم، وإن كان لا يقع منه ذلك، بل يستحيل وقوعه كما يشير إليه تصدير العبارة بكلمة لو، أما أنه تعالى يجوز عليه الظلم شرعًا - فضلاً عن الوقوع - فهو مُحال، وقد بيَّن الله تعالى ذلك في غير موضع من كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ï´¾ [النساء: 40]، ï´؟ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ï´¾ [الكهف: 49]، ï´؟ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ï´¾ [فصلت: 46]، ï´؟ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ï´¾ [الحج: 10]، إلى غير ذلك من الآيات. وأما السُّنة، فمنها الحديث القدسي عند مسلم: قال الله عز وجل: "يا عبادي، إني قد حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرمًا؛ فلا تَظالَموا". أما صيغ المبالغة التي تقدَّمت في الآيات، فالظاهر أن كلمة "ظلاَّم" فيها للنَّسب؛ على حدِّ قولهم: عطَّار، ولبَّان، ويكون معنى الآية: ليس منسوبًا إلى الظلم، فضلاً عن جوازه أو وقوعه منه. هذا من ناحية النقل، وهو موضع اتفاق بين مَن سلِمت عقولهم من البشر، وأما من ناحية العقل - وهو الذي اختلفوا فيه - فنحن مع الفريق الذي يقول باستحالة جواز الظلم على الله تعالى، أو وقوعه منه؛ لأنه لو جاز عليه الظلم، لم يكن تامَّ الحكمة، ولا كامل العدل، ولا مُنزَّهًا من النقائص، وهذه كلها محالات، وجواز الظلم كذلك؛ لأنه عبث ونقص يَتنافى مع تمام الحكمة وكمال العدل، والتنزُّه عن النقص، ولنترك لهم ما جادَل به بعضهم بعضًا؛ فإنه لا خير فيه للمسلمين على طوله وحِدَّة النقاش فيه. فإن قلت: أين المساواة في غفران كبائر الذنوب بصغائر الأعمال الصالحة؛ كما في حديث: (غُفِر لامرأة مومس بسَقي كلبٍ! قلت: إن الغفران إنما ترتَّب على ما وقَر في نفسها من الرفق بمخلوقات الله تعالى، ومن استحضار هيبة الله وعظمته، حتى عمِلت هذا العمل، وقد سبقت الإشارة إلى أن الجزاء تابعٌ إلى ما يطبعه العمل في النفس من الأثر، فقد يعمل العبد عملاً صغيرًا، لكن يترك في نفسه أثرًا كبيرًا، بل قد يعمل اثنان عملاً متساويًا، فيختلف جزاؤهما عند الله تعالى، تبعًا لاختلاف أثر العمل قوةً وضَعفًا؛ ولهذا قال بعض السلف: ما سبق أبو بكر بقية الصحابة بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، وإنما سبقهم بما وقَر في قلبه. وإذا عرَفت استحالة الظلم على الله تعالى، فاعلم أن ما بنوه على جواز الظلم من قولهم بجواز إثابة العاصي، وتعذيب المطيع - فاسد؛ فإن تعذيب الطائع من حيث كونه طائعًا، وإثابة العاصي من حيث كونه عاصيًا، عملٌ من أظلم الظلم، ولا يعكِّر على هذا قولهم: إنه تعالى مالك يتصرَّف في ملكه كيف يشاء؛ لأن معناه أنه يتصرف كيف يشاء على حسب عدله وحكمته، ومتى رُوعِيتْ هذه الأوصاف الثلاثة، استحالت إثابة العاصي وتعذيب المطيع! فإن قلت: ما تقول في إسلام الأطفال ولم يَجنوا شيئًا من الذنوب؟ قلت: ذلك لرفع درجاتهم يوم القيامة؛ كابتلائه تعالى أنبياءَه والمخلصين من عباده، وليُثيب آباءهم إذا صبَروا، كما يُكفِّر عنهم ذنوبهم بهذا الصبر. ولعل هذا هو السر في اشتداد الأمر على سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه عند دَفنه؛ كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما نزَل مع سعد بن معاذ قبره، كرب كربًا شديدًا، ومكث في القبر زمنًا طويلاً، ولما استبطأه أصحابه كبَّروا، فلما فرغ من دفنه، وخرَج عليهم وسألوه عن مُكثه هذه المدة في القبر - قال صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت كاليوم، سبحان الله، لقد ضُيِّق على هذا العبد الصالح، فلم أزَل أدعو الله حتى كشَف عنه، ولو أن أحدًا كان ناجيًا من ضمَّة القبر، لنجا منها سعد بن معاذ)). والذي نراه في حكمة هذا التضيُّق أن الله أعطاه درجات رفيعة لا يُوصله إليها عمله، فلذلك ابتلاه بما ابتلاه به؛ إسناده صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه، وهو في مسند أحمد رحمه الله. انتهى هذا البحث بحمد الله تعالى وتيسيره، ونسأله أن يَجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفعَ به مَن قرأه، أو استمَع إليه. المجلة السنة العدد التاريخ الهدي النبوي الثانية الثالث والعشرين صفر سنة 1358 هـ
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |