
10-02-2021, 07:36 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,055
الدولة :
|
|
بر الوالدين
بر الوالدين
الشيخ د. : عبد الحي يوسف
عناصر الخطبة
1/ فضائل بر الوالدين 2/ بر الأنبياء لآبائهم 3/ بر الوالدين مقدم على الجهاد غير الواجب 4/ الجزاء من جنس العمل 5/ ما حق الآباء الراحلين عن الدنيا علينا؟ 6/ جزاء من بر والديه.
اقتباس
يا معشر الشباب، يا معشر الفتيات، من أراد بحبوحة الجنة من أراد رضوان الله -عز وجل-، من أراد شفاعة محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من أراد سعادة الدنيا والآخرة فعليه ببر والديه أحياءً وأمواتًا، عليك ببر الوالدين كليهما وبر ذوي القربى وبر الأباعد ولا تصحبن إلا تقيًّا مهذبًا عفيفًا زكيًا منجزًا للمواعيد. يا أيها الشاب! لا تصحب إلا من يأمرك ببر والديك، إلا من يحضك على طاعتهما، إلا من يزين لك الإحسان إليهما، واعلم أن كل دعوة سوى ذلك فهي دعوة باطلة، فهي هراء لا قيمة لها في ميزان الشرع.
الخطبة الأولى:
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:1- 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا وقدوتنا وأسوتنا محمد رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير والبشير النذير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عذروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: أيها المسلمون عباد الله: فإن موضوعًا تحدث عنه القرآن، وتواترت به النصوص لابد من طرقه، والتذكير به في هذه الأيام، هذه الأيام التي عظُمت فيها الفتن وتتابعت على الناس فيها المحن، وانبهمت المقاصد على كثير من الشباب، فقدموا ما حقه التأخير وأخّروا ما حقه التقديم، وغابت عنهم كثير من التعاليم والمفاهيم.
أيها المسلمون عباد الله: بر الوالدين قرين بعبادة الله -عز وجل- في آيات القرآن، فإن ربنا -سبحانه وتعالى- لما أمرنا بعبادته أمرنا بأن نحسن إلى الوالدين، وأن نطيع أمرهما، وأن نعظّم شأنهما، وأخبر أن ذلك في الشرائع من قبلنا: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [البقرة: 83]، وقال سبحانه: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36]، وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].
ولما أخبر -جل جلاله- عن المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع ونزلت في كل كتاب وحذر منها كل رسول ذكر في ذلك حق الوالدين: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الأنعام: 151]، لا يكون شكر الله -عز وجل- إلا بشكر الوالدين (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14].
قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ثلاث آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلاَثٍ لاَ تُقْبَلُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا: إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [الْمَائِدَةِ: 92]، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعِ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [الْبَقَرَةِ: 43]، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُزَكِّ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [الرَّعْدِ: 14]، فَمَنَ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرِ الْوَالِدَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ".
أيها المسلمون عباد الله: إن صنفًا من الشباب يقول أحدهم: إن والدي عاصيان لله -عز وجل- مجترئان على حدوده، منتهكان لحرمته… نقول لهذا الصنف: عليك ببر أبويك والإحسان إليهما والدعاء لهما، وصحبتهما بالمعروف ولو كانا مشركين، فالشرك لا ذنب أعظم منه (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، ومع ذلك أمرك الله -أيها الشاب أيها المسلم- ببر والديك ولو كانا مشركين.
يقول -جل جلاله- في سورة العنكبوت (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) [العنكبوت: 8]، ويقول في سورة لقمان: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15].
أيها المسلمون عباد الله: إن الطيبين الذين تقبل الله أعمالهم ورفع درجاتهم وتجاوز عن سيئاتهم إنما كان ذلك ببرهم لآبائهم وأمهاتهم (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) هكذا بعدما بلغ مبلغ الرجال، ولربما ولدت أولاده فصار جدًّا، ما شغله ذلك عن الدعاء لوالديه: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15].
هذا الذي يدعو لوالديه ما جزاؤه عند الله؟ قال الله -عز وجل-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف:16].
أيها المسلمون عباد الله: إن ربنا -جل جلاله- لما حكى مآثر النبيين ومناقب المرسلين، ذكر من ذلك برهم بآبائهم وأمهاتهم، فهذا الخليل -عليه السلام- يدعو أباه إلى الله يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر في عبارة قشيبة وأدب رفيع: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم:42- 45].
أبوه كان قاسيًا فظًّا غليظًا، يقول له: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46]، فلا يقابل إساءة أبيه بمثلها، ولا يقابل الفظاظة بمثلها، ولا الغلظة بمثلها بل يقول له (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 47].
ماذا كان جزاؤه أيها المسلمون عباد الله: كان جزاؤه في الدنيا أن رزقه الله -عز وجل- غلامًا تقيًّا عابدًا زكيًّا مؤدبًا مهذبًا مطيعًا حتى في حال الموت يقول لأبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]، (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم: 49- 50].
هذا نبي الله يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام يثني عليه ربه -جل جلاله- فيقول: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم: 14]، والمسيح -عليه السلام- حينما نطق في المهد قال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 30- 32].
هذه آيات القرآن -أيها المسلمون عباد الله- يا معشر الشباب، السنة هي التي تفسّر القرآن هي التي تقيّد مطلقه، وتخصّص عامّه، وتبين مجمله، وتوضح مشكله، ماذا نجد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
ألا فاعلموا أن السنة ناطقة بأن بر الوالدين مقدم على الجهاد، بر الوالدين -يا معشر الشباب- مقدم على الجهاد ما لم يتعين، والحديث في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله.
والحديث عند أبي داود من رواية أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أهل اليمن، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "هجرت الشرك ولكنه الجهاد"، ثم قال له: "هل باليمن أبواك أو أحدهما؟" قال: بلى يا رسول الله، قال: "هل أذنا لك؟" قال: لا، قال: "ارجع إليهما، فإن أذنا لك، وإلا فبرهما"، ارجع إليهما إلى والديك فإن أذنا لك في الجهاد وإلا فبرهما، عليك ببرهما.
وكذلك الحديث عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: "إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه"، إما أنه عجز ببدنه أو أنه عجز بماله أو أن شيء يحول بينه وبين الجهاد، إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل أحد من والديك حي؟" قال: أمي، قال "ارجع إليها فبرها وقابل الله في برها، فإن فعلت فأنت حاجّ ومعتمر ومجاهد"، إن فعلت إن قمت بما أوجب الله عليك من بر أمك، فأنت حاج ومعتمر ومجاهد.
ألا فاعلموا يا معشر الشباب أن من قال لكم بأن تغادروا دياركم، وأن تخرجوا إلى مكان كذا أو كذا دون إذن من والديكم أنه ليس لكم بناصح، ما اتقى الله فيكم، ولا عرف دين الله؛ إما أنه جاهل غرّ، وإما أنه متعمد فضيّع دنياكم وآخرتكم.
أيها المسلمون عباد الله: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علّمنا أن حق الأم في البر آكد، فعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك"، قلت: ثم من؟ قال: "أمك"، قلت: ثم من؟ قال: "أمك"، قلت: ثم من؟ قال: "أباك ثم أدناك أدناك".
الأم حقها آكد؛ لأنها هي التي حملت وهي التي وضعت وهي التي أرضعت وهي التي سهرت وتعبت فحقها أعظم من حق الأب.
عن أبي الطفيل -رضي الله عنه- قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِالْجِعِرَّانَةِ يقسم لحمًا؛ إذ أقبلت امرأة فبسط لها ردائه، ردائه عليه الصلاة والسلام الذي يستر به نصفه الأعلى خلعه وبسطه فجلست عليه تلك المرأة، فقلت: من هذه؟ قالوا "أمه التي أرضعته" حليمة السعدية -رضي الله عنها- التي شرّفها الله بأن تكون مرضعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبسط لها ردائه من أجل أن تجلس عليه، وليسمع هذا الكلام ناس الواحد منهم إذا علا كعبه، وعظم قدره، وتسمن من المناصب مكانًا رفيعًا، أو فتح الله عليه من المال شيئًا كثيرًا، فإنه لربما يترفع عن بر أبيه وأمه، لربما يترفع عن الخضوع لهما والذل بين أيديهما، لا والله.
يا أيها المسلمون: اسمعوا ما رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أن رجلاً من أهل اليمن كان يحمل أمه على ظهره يطوف بها حول الكعبة المشرفة، وهو يقول: "إني لها بعيرها المدلل إذا ذعرت ركابها لم أذعر، وما حملتني أكثر، ثم قال لابن عمر: أتراني جزيتها؟ هذه أمي أحملها على ظهري أطوف بها صرت لها كالبعير أتراني قد وفيتها؟ فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لا، ولا بزفرة واحدة من زفرات الولادة".
لا نوفّي أمهاتنا حقوقهن، ولا نؤدي واجبنا نحوهن مهما فعلنا، البر أيها المسلمون عباد الله لا ينقطع بعد الموت، فإن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هل بقي علي شيء من بر أبوي بعد موتهما؟ قال عليه الصلاة والسلام: "الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما".
هذا كله مطلوب "الصلاة عليهما" بمعنى الدعاء (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
هذا أبو هريرة -رضي الله عنه- الإمام العلامة كان إذا أصبح يأتي فيقف على باب أمه يقول لها: "السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته"، فتقول له: "وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته" يقول لها: "رحمك الله كما ربيتني صغيرًا"، فتقول له: "رحمك الله كما بررتني كبيرة".
الجزاء من جنس العمل، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإكرام صديقهما وصلة رحمهما وإنفاذ عهدهما، هكذا يأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
ألا فاعلموا أيها المسلمون عباد الله أن بر الوالدين جزاؤه الجنة وجزاؤه في الدنيا كذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم".
بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، من بر والديه بره أولاده، ومن عق والديه عقه أولاده، ولا يظلم ربك أحدًا، كما تدين تُدان.
أيها المسلم كما تفعل يُفعل بك، من سره أن يكون أبناؤه به بارين وله مطيعين، فعليه أن يبر والديه وأن يحسن إليهما، قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما من مسلم يكون له والدان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله له بابين إلى الجنة، وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه".
قيل له: يا ابن عباس "وإن ظلماه"؟ ألا فاسمعوا هذا الكلام، فإن شبابًا يشكو الواحد منهم أن أباه يظلمه، وإن فتاة تشكو أن أمها تظلمها، ربما قست عليها، ربما قست عليها بلسانها تقول ظلمتني، يقول الشاب ظلمني أبي، قال ابن عباس: "وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه"، وإن تكرر الظلم مرة بعد مرة، وإن لم ينفق عليك أبوك فبرّه واجب، وإن أساءت إليك أمك فبرها واجب.
هذا الذي يأمرنا به شرع الله، وهذا الذي يفتي به من تفقهوا في دين الله، وهذا هو السبيل الذي يسلكه من أراد رضوان الله.
اللهم أعنا على بر آبائنا، اللهم أعنا على الإحسان إليهما، اللهم أعنا على طاعتهما، اللهم اجعلنا عاملين في مرضاتهم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، توبوا إلى الله واستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين بعثه الله بالهدى واليقين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون فاتقوا الله حق تقاته وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، واعلموا إخوتي في الله أن بر الوالدين خاصة الأم يبلغ بصحابه مبلغًا عظيمًا، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي صحابته الكبار ومنهم الفاروق عمر المحدث الملهم الذي ما رآه الشيطان سالكا فجًّا إلا وسلك فجًّا آخر.
كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: "أفيكم أويس بن عامر؟" حتى أتى على أويس فقال: "أنت أويس بن عامر؟" قال: "نعم" قال: "من مراد ثم من قرن؟" قال: "نعم"، قال: "فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟" قال: "نعم" قال: "لك والدة؟" قال: "نعم" قال: "سمعت رسول الله يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ لو أقسم على الله لأبره؛ فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل؛ فاستغفر لي"، فاستغفر له".
بأي شيء بلغ أويس تلك المنزلة -رضي الله عنه-؟ لأنه كان بارًّا بأمه لازمًا غرسها ملازمًا رجليها، امتنع من الهجرة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يقابله؛ لأنه كان مشغولاً ببر أمه، هذا هو الجزاء أيها المسلمون عباد الله.
وكذلك رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحبًا له يقال له حارثة سمع قرع نعليه في الجنة، وبشر أمه قال له: هكذا البر يا أم حارثة.
يا معشر الشباب، يا معشر الفتيات، من أراد بحبوحة الجنة من أراد رضوان الله -عز وجل-، من أراد شفاعة محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من أراد سعادة الدنيا والآخرة فعليه ببر والديه أحياءً وأمواتًا، عليك ببر الوالدين كليهما وبر ذوي القربى وبر الأباعد ولا تصحبن إلا تقيًّا مهذبًا عفيفًا زكيًا منجزًا للمواعيد.
يا أيها الشاب لا تصحب إلا من يأمرك ببر والديك، إلا من يحضك على طاعتهما، إلا من يزين لك الإحسان إليهما، واعلم أن كل دعوة سوى ذلك فهي دعوة باطلة، فهي هراء لا قيمة لها في ميزان الشرع.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يفقهنا في ديننا .. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها..
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|