|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (واجبات الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (98) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [1] شرع الله السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، ويشرع كذلك لأجل الشك في الصلاة، وهو سجدتان يسجدهما المصلي قبل السلام أو بعده على تفصيل معلوم في ذلك، ولا يسجد للسهو إلا من نسيان أو شك، أما العمد فليس فيه سجود سهو. [أحكام سجود السهو] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب سجود السهو]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالسهو في الصلاة، ويعبِّر عنه العلماء بـ (باب سجود السهو)، والأصل أن يقال: باب السهو.لكن لما كان هذا السهو يترتب عليه الأمر بسجدتي السهو قالوا: (باب سجود السهو)، و (باب سجدتي السهو) كما يعبر عنه بعض العلماء، وبعضهم يقول: (باب السهو في الصلاة)، أو (أحكام السهو في الصلاة)، فيجعل الباب عاماً، لكن لو جُعِل خاصاً فإن هذا هو الأصل الذي ورد الدليل فيه.فمن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا ما يشرع له سجود السهو في هذا الموضع، ويذكرون أحكام السهو العامة، فمن يعبر ويقول: (باب أحكام السهو في الصلاة)، يُعبر بالعموم، ومن يعبر فيقول: (باب سجود السهو)، يُعبر بالخصوص، ثم يتبع بالخاص الذي ورد الدليل فيه بقية الأحكام لمكان المجانسة؛ لأن من عادة الفقهاء أن يذكروا أجناس الأحكام المتقاربة مع بعضها في أبوابها أو فصولها ومباحثها.وسجود السهو المراد به سجدتان، وهاتان السجدتان تكونان قبلية وتكونان بعدية، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، وتُشرع هاتان السجدتان بتكبير للسجدة الأولى ورفع، ثم تكبير للثانية ورفع، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسلِّم من هذا السهو كما سيأتي إن شاء الله تعالى. [خلاف العلماء في التشهد بعد سجدتي السهو] للعلماء وجهان في التشهد بعد سجود السهو إذا وقع بعد السلام: قال بعض العلماء: إذا سجد بعد السلام سجدتي السهو تشهد، وفيه حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في قصة ذي اليدين أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرجع إلى مقامه فصلى ما تركه، ثم سلم، ثم كبر فسجد، ثم تشهد، ثم سلم)، لكن زيادة (تشهد) انفرد بها أشعث عن أصحاب ابن سيرين الحفاظ، ولذلك قالوا بأنها شاذة.والعمل عند طائفة من المحققين من أهل الحديث على شذوذ ذكر التشهد، وإن كان الحافظ ابن حجر يقول: لو قال قائل بتحسين الحديث لوجود شواهد أخرى تقويه فإنه له وجه وقوَّى ذلك العلائي أيضاً فقال: إن التحسين له وجه، خاصة وأن ابن مسعود فعله، فقد جاء عنه بسند صحيح كما روى ابن أبي شيبة في المصنف.وعلى ذلك فلو فعل الإنسان التشهد خروجاً من الخلاف فلا حرج عليه خاصة وأن له أصلاً، ولو تركه فلا حرج عليه. [حكم سجود السهو] للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: سجود السهو جميعه زيادةً ونقصاً واجب.وهذا قول الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك لو أن المكلف زاد في الصلاة أو نقص منها، وتذكَّر أنه زاد أو نقص فلم يسجد للسهو فإنه يُحكم ببطلان صلاته إذا تركه متعمداً، فعند أصحاب هذا القول أنه واجب من واجبات الصلاة، فلو قلت للإمام: إنك زدت. فقال: علمت أني زائد. فقلت له: اسجد للسهو. فقال: لا أريد أن أسجد.وتركه متعمداً بطلت صلاته وصلاة من صلى وراءه لتركه متعمداً. القول الثاني: سجود السهو سنَّة، وبه قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه، فعنده إن فعل فقد أحسن، وإلا فإن الصلاة يُحكم بصحتها والاعتداد بها. القول الثالث: التفصيل، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله عليه، قال: إن كان السجود سجود نقص فواجب؛ لأنه يجبر نقصاناً في الصلاة فكأنه من الصلاة، فحل محل الواجب من الصلاة، وإن كان السجود لزيادة فسنة، ولا يحكم ببطلان صلاة المكلف؛ لأنه قد جاء بالصلاة كاملة.والصحيح أن سجود السهو واجب، وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، فإن أمره بالسجود يدل على الوجوب، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً.فثنى رجليه وسجد سجدتين ... )، ثم ذكر الحديث وفيه: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم).فهذه أوامر، والقاعدة في الأصول أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه.فلما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسجد سجدتي السهو دلّ ذلك على وجوبها ولزومها، وأنه إذا تَركها المكلَّف فقد ترك الواجب، وحكمه حكم تارك الواجب سواءً بسواء.وإذا قلنا بالوجوب وأنه هو الصحيح، فإنه لو أن إنساناً صلَّى ونسِي واجباً من واجبات الصلاة، ثم سلَّم وقام من مصلاه وهو في المسجد إلى حلقة علم، أو قام إلى موضع ثانٍ، وتذكَّر بعد قيامه فعلى القول بالوجوب يلزمه أن يستقبل القبلة وأن يكبر ويسجد، وذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عبد الله بن مسعود قال: (فثنى رجليه وسجد سجدتين) الحديث، فإنه عليه الصلاة والسلام تداركه حين كان في المسجد، فلذلك إذا تذكر السجديتن وهو في المسجد يقضي، وهكذا لو كان في بيته في مكان الصلاة، أما لو خرج من المسجد وتذكَّر بعد خروجه فإنه لا يُلزَم بالرجوع، وقد مضت صلاته وصحَّت، وتسقط عنه السجدتان لمكان العذر؛ لأن المكان قد فارقه المكلف، ولا يمكن بمفارقته التدارك فتصح صلاته وتجزيه. [الحكمة من سجود السهود في الصلاة] شرع الله عز وجل السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد في الصحيح: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان).فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أحكاماً، منها أن سجود السهو إن كان لزيادة أبطل الزيادة، فكأن المصلي لم يفعلها.وقال بعض العلماء: في سجود الزيادة إغاظة الشيطان، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان)، وبناءً على ذلك قالوا: إن السهو كان من الشيطان، فكونه يسجد أبلغ في رد الأذية التي كانت من الشيطان. ولذلك ثبت في الحديث أنه: (إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار)، فيكون ذلك أبلغ في الأذية والتحقير والإرغام له.ومن حكم الله تعالى في تشريعه لهذا السجود الرفق بالمكلف؛ فإنه لو قيل: إن المكلف إذا نقص من صلاته فصلاته باطلة، وإذا زاد في صلاته فصلاته باطلة، فكيف سيكون حال الناس؟ فإن الإنسان ضعيف، فربما دخل الصلاة وهو مشوّش الفكر بهمٍّ في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو تجارته، ومن مظان ضعفه أن يضعف أمام الوساوس والخطرات، فالسهو لا بد منه، ولا بد وأن يقع، وقل أن تجد إنساناً يسلم من هذا السهو، وقد حصل لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه وهو أكمل الناس خشوعاً وتقوى لله عز وجل، فما بالك بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فلو أن الشريعة حكمت على كل من زاد في صلاته أو نقص ساهياً ببطلان صلاته فكيف ستكون صلاة الناس؟ وكيف يكون حالهم؟! خاصة من ابتلي بالوسوسة أو كان عنده شك، فإنه تضيق به الأرض، وتصعُب عليه عبادته حتى يكون أصعب ما يكون عليه أن يصلي، أو يقف بين يدي الله عز وجل، مع أن الصلاة طمأنينة القلوب، وفيها انشراح الصدور وحصول الخير للإنسان بوقوفه بين يدي ربه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فتنقلب الصلاة هماً على المكلف بدلاً من كونها انشراحاً لصدره ورحمة به. [التفصيل في محل سجود السهو] المسألة الأخيرة في سجود السهو: السهو يكون بالزيادة ويكون بالنقص، وبعض السجود يكون قبل السلام وبعضه بعد السلام، فهل المكلف مطالب بالسجود على وتيرة واحدة، بمعنى أنه يسجد السجود كله بعد السلام، أو كله قبل السلام، أو فيه تفصيل؟ للعلماء رحمة الله عليهم ثلاثة أقوال في محل السجود: القول الأول: أن السجود جميعه بعد السلام.وهذا القول مأثور عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فجميع السجود عندهم يكون بعد السلام، وبهذا القول قالت الحنفية رحمة الله عليهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ومروي عن عمار بن ياسر، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، وحكاه بعض العلماء عن سعد بن أبي وقاص.وعند هؤلاء أيضاً أنك إذا سجدت للسجدتين فإنك تتشهد، فيقولون بالتشهد بعد السلام أيضاً، لما ذكرناه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. القول الثاني: أن السجود كله يكون قبل السلام، وهذا القول مروي عن أبي هريرة، وبه قال الليث بن سعد فقيه مصر رحمة الله عليه، وهو مذهب الأوزاعي، ومذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، فيقولون: جميع السهو يكون قبل السلام سواءٌ أكان المكلف قد زاد في صلاته أم نقص منها، لكن استثنى الحنابلة أنك لو سلمت ونسيت السجود قبل السلام فإنك تسجد بعد سلامك ولا حرج عليك. القول الثالث: التفصيل بين النقص والزيادة، فقالوا: إن سها بنقص فالسجود قبل السلام، وإن سها بزيادة فسجوده بعد السلام، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله على الجميع. فعندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بأن السجود كله يكون بعد السلام، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص، وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمة الله عليهم. وقوله: أن السجود كله يكون قبل السلام، وبه يقول فقهاء الشافعية والحنابلة، ومروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.وقول: بالتفصيل، إن كان نقصاً فقبل السلام، وإن كان السهو زيادة فبعد السلام، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله على الجميع. واحتج الذين قالوا: جميع السجود يكون قبل السلام بأحاديث: أولاً: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب، وكونه قبل أن يسلم يدل على ظرفية الأمر وهو كونه واقعاً قبل السلام. ثانياً: حديث ابن عباس، وهو بنحو حديث أبي سعيد، وأصله في الصحيح. ثالثاً: حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من الثنتين من الظهر ولم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، وهذا حديث أيضاً في الصحيح.ومثله ما أخرجه الترمذي وصحَّحه أن المغيرة صلى بالناس وسها فلم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له فأشار إليهم أن: قوموا.فلما فرغ من تشهده سجد السجدتين ثم سلم) ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ما فعل. قالوا: هذه الأحاديث كلها تدل على أن السجود كله يكون قبل السلام، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، فهذا مذهب الشافعية والحنابلة كما قلنا.وأما الذين يرون أن السجود كله بعد السلام -وهم الحنفية- فقد احتجوا بأحاديث: أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي - أي: الظهر أو العصر- فسلَّم من ركعتين، ثم قام وشبك بين أصابعه واستند إلى الجذع، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاب الناس أن يكلموه، وكان رجل من بني سلمة يقال له ذو اليدين -واسمه الخرباق - فقال: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، قال: فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع).ووجه الدلالة أن السجدتين وقعتا من النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، ثانياً: حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وهذا الحديث مثل حديث أبي هريرة في قصة التسليم من الركعتين، وأنه بعد أن أتم الصلاة وسلَّم كبر فسجد ثم رفع، قال الراوي: (وأُنبِئت أن عمران قال: (ثم سجد سجدتين بعدما سلم). ثالثاً: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً ورواه الجماعة- قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟! قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه وسجد سجدتين).ووجه الدلالة أن هذا الحديث وقع فيه سجود النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فدل على أن السهو كلَّه يكون بعد السلام، ولا يكون قبله. وأما أصحاب القول الثالث فجمعوا بين النصوص فقالوا: تأمَّلنا هذه الأحاديث فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري في الشك، والشك خارج عن أصل المسألتين؛ لأن مسألة الشك تُستثنى، والكلام عن الزيادة والنقص. قالوا: وحديث عبد الله بن مالك بن بحينة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الجلسة التي للتشهد، فهذا نقص، فسجد عليه الصلاة والسلام قبل السلام، وحديث ذي اليدين زاد فيه التسليم، فحينما صلى ركعتين وسلم قام ثم سجد بعد السلام، وأكَّده حديث عبد الله بن مسعود أنّه صلَّى خمساً فاتجه إلى القبلة فسلَّم، فاتفقت عندنا الأحاديث؛ لأنها كلها من مشكاة واحدة، فوجدناه يسجد للنقص قبل السلام، ووجدناه يسجد للزيادة بعد السلام.ولما كانت حالة الشك مترددة بين النقص والزيادة أُلحِقت بالنقص لأنه الأصل لاحتمال أن تكون ناقصةً، فلذلك قالوا: حينئذٍ نقول: إن نقص من الصلاة فقبل السلام، وإن زاد في الصلاة فبعد السلام، فوجدنا النظر يُقوي الأثر، وذلك أن النقص من الصلاة سيُجبر في الصلاة، والزيادة خارجة عن الصلاة، فيكون ترغيم الشيطان بها بعد الصلاة، فقالوا: نجمع بين النصوص على وجهٍ لا تعارض فيه.وبهذا يكون مذهبهم قد أخذ بهذه النصوص كلها؛ لأنك إن قلت: السجود قبل السلام عارضتك أحاديث ما بعد السلام، وإن قلت: السجود بعد السلام عارضتك أحاديث ما قبل السلام، مع أن القاعدة أنه لا يعارض بين الأحاديث إلا باتحاد موردها، فوجدنا المورد مختلفاً، وأنا أميل إلى هذا القول، فما كان من نقص فقبل السلام، وما كان من زيادة فبعد السلام، على التفصيل الذي يميل إليه أصحاب هذا القول. [مشروعية سجود السهو] قال المصنف رحمه الله: [يشرع لزيادة ونقص وشك]. قوله: (يشرع) الضمير فيه عائد إلى سجود السهو، أي أن سجود السهو شرعه الله عز وجل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة ونقص وشك. وقوله: (لزيادة) أي: من أجل الزيادة. وقوله: (ونقص) معطوف على الزيادة، أي: يشرع سجود السهو للنقص كما يشرع للزيادة، فإن وقع سجود السهو لزيادة ألغى الزيادة، فلو أن إنساناً صلى الصبح ثلاث ركعات ثم علم بعد انتهائه منها أن الذي صلاه إنما هو ثلاث، فإنه بفعله للسجدتين يلغي الركعة الزائدة، وهكذا لو زاد ركوعاً أو سجوداً أو ركناً قولياً، كأن يكرر الفاتحة مرتين، فإن قوله: (لزيادة) معناه أن الله شرع هاتين السجدتين إذا زاد المكلف في صلاته، سواءٌ أزاد واجباً، أم زاد ركناً، أم ركعة متضمنة للأركان، فمن زاد في صلاته وسجد هاتين السجدتين فإنها تلغى الزيادة، وهذا محله إذا زاد في صلاته سهواً لا قصداً. وقوله: (ونقص) أي: ويشرع سجود السهو للنقص، والانتقاص من الشيء الأخذ منه، فلما كان الله عز وجل قد حدّ في الفرائض حدوداً فجعلها على عدد معين، فإن المكلف ينتقص إما من أركانها وإما من واجباتها، فإن انتقص الأركان فلا بد من الإتيان بها، لكن إن انتقص الواجبات فإن انتقاصه للواجبات يوجب جبره لها بسجدتي السهو، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وشك) أي: ويشرع سجود السهو لمكان الشك، والشك مأخوذٌ من: شك في الشيء: إذا تردد بين الأمرين، تقول: أشك في وجود محمد.أي أنك متردد بين كونه موجوداً أو غير موجود، فالشك استواء الاحتمالين. فالإنسان إذا صلى لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يتم صلاته ويجزم بتمامها.الحالة الثانية: أن يزيد في صلاته ويجزم بالزيادة. الحالة الثالثة: أن ينتقص منها ويجزم بالنقص. الحالة الرابعة: أن يتردد بين كونه قد صلى على التمام، أو أن صلاته ناقصة أو زائدة.فهذا الشك هو استواء الاحتمالين، فيتردد بين كونه قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، وكونه ركع أو لم يركع، وكونه سمع أو لم يسمع، وكونه حمد أو لم يحمد، ونحو ذلك مما يعتري الإنسان من الشك.فيشرع سجود السهو إما لزيادة في الصلاة، أو نقص فيها، أو شك يحدث للمكلف في أعداد الركعات، أو في أركانها، أو في واجباتها. [أدلة مشروعية سجود السهو للزيادة] ثبت في سجود السهو للزيادة أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة ذي اليدين المشهورة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر وإما العصر- فسلم من ركعتين، ثم قام كالغضبان -صلوات الله وسلامه عليه- وشبّك بين أصابعه واستند إلى الجذع، فهاب أصحابه رضي الله عنهم أن يكلموه، ورأوا الغضب في وجهه -وكان صلوات الله وسلامه عليه مهاباً بينهم- فلما هابوه قال رجل في القوم يقال له ذو اليدين: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك، فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فرجع وأتم الركعتين، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين بعدما سلم) وهذا الحديث فيه زيادة؛ لأنه لما جلس للتشهد الأول صلوات الله وسلامه عليه زاد أمرين: الأمر الأول: الدعاء؛ لأنه ظن أنه في التشهد الأخير. الأمر الثاني: التسليم، فسلم من الصلاة، والتسليم ركن.فهذه الزيادة للدعاء والسلام اقتضت أن تجبر بسجدتين، فسجد بعد سلامه صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا الحديث على مشروعية السجود للزيادة. ومما يدل على مشروعية السجود للزيادة حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم)، وأصل الحديث في الصحيح.فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن الزيادة في الصلاة يشرع لها سجود السهو. [أدلة مشروعية سجود السهو للنقص] وأما السجود للنقص ففيه أحاديث، ومن أشهرها ما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وعن أمه، فكلهم صحابة رضوان الله عليهم، فقد ذكر هذا الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فقام في الركعتين، فسبحوا فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، فدل هذا الحديث على أن فوات الواجب يجبر بسجود السهو، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك الركعتين -كما في الحديث السابق- رجع وفعلها، ولما ترك الواجب هنا -وهو التشهد الأول- جبره بسجود السهو، فدل على أن الأركان في النقص لا تجبر إلا بالفعل إذا أمكن التدارك.وأما الواجبات فإنها تجبر بسجدتي السهو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على السجدتين جبراناً للنقص الحاصل من كونه لم يجلس في التشهد الأول، فدل هذا الحديث على مشروعية سجود السهو للنقص. ومن أدلة السجود للنقص: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه، حيث صلى بأصحابه، فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس، فسبّح من خلفه، فأشار إليهم أن: قوموا.فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم).فالحديث الأول -وهو حديث عبد الله بن مالك بن بحينة - عند النسائي وغيره، والثاني -وهو حديث المغيرة - عند الترمذي، وصححه غير واحد من أهل العلم.فهذان الحديثان الثابتان يدلان على أن نقص الواجبات يجبر بسجدتي السهو، وأما الأركان فلابد وأن تأتي بالركن، فإن فات تدارك الإتيان بالركن فإنك تقضي الركعة كاملة. [أدلة مشروعية سجود السهو للشك] وأما السجود للشك ففيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)، وهذا الحديث في الصحيح، ونفهم منه أن الإنسان إذا شك فإنه يبني على الأقل، وأنه ببنائه على الأقل يلزم بالإتيان بما يوجب الكمال والتمام، فإذا فعل هذا - أعني: الإتيان بما يوجب الكمال- أُلزم بالسجدتين قبل أن يسلم، وهاتان السجدتان اللتان تشرعان في حال الشك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة منهما، فإنك إن صليت الفجر وشككت هل الركعة التي تصليها الأولى أو الثانية، فإنك تبنى على أنها الأولى، ثم تضيف ركعة، ثم تسجد قبل أن تسلم سجدتين، فإن كانت الركعة التي أضفتها توجب تمام عدد الفجر، بمعنى أنك فعلت الصحيح وأنك لم تزد في صلاتك، كانت السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأن الشيطان إذا رأى ابن آدم يسجد يتولى يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار.وكلما رأى ابن آدم يسجد كلما ازداد غيظاً، وكان ذلك أبلغ في إرغامه.وإن كان الذي صليت زيادة فالسجدتان تلفيان الركعة الثالثة، فكأنها لم تكن، وتكون الصلاة تامة كاملة من هذا الوجه. فدل هذا الحديث على مسائل: أولاً: مشروعية السجود للشك، وهذا هو المطلوب. ثانياً: أن هذا السجود يكون ترغيماً للشيطان إن كان الذي فعلته على التمام، ويكون إلغاء للزيادة إن كان الذي فعلته زائداً.ومثل حديث أبي سعيد رضي الله عنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو في الصحيح.فهذان الحديثان الصحيحان يدلان على مشروعية سجود السهو في الحالة الثالثة وهي حالة الشك. فقول المصنف: (يشرع لزيادة ونقص وشك) من باب ترتيب الأفكار، حيث بيّن محل سجود السهو، وبيّن مشروعيته في قوله: (يشرع) أي: يشرع سجود السهو، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا تكلموا على أمر أن يبينوا موقف الشرع منه، فقال: (يشرع)، فالأصل في سجود السهو أنه مشروع، لكن مشروعية هذا السجود لموجب، أي: ليست مشروعية مطلقة، وذلك لقوله: (يشرع لزيادة ... )، أي: أنها مشروعة في حد، أو في مكان معين، ولذلك يكون ابتداؤه رحمه الله بذكر الزيادة والنقص والشك من باب بيان المحل الذي يشرع فيه فعل هاتين السجدتين. [حكم سجود السهو في حال التعمد] قال رحمه الله تعالى: (لا في عمد).أي أن سجود السهو إنما يشرع في حال النسيان والشك، أما في حال التعمد والقصد فلا يشرع.كما لو صلى الظهر فزاد قراءة الفاتحة مرتين متعمداً، فهذه زيادة ركن قولي، أو زاد ركوعاً مع الركوع الذي شرعه الله في أي ركعة من ركعات الظهر، وهذه زيادة ركن فعلي.ففي هاتين الحالتين تبطل صلاته، ويكاد يكون بإجماع العلماء أن من زاد في صلاته ركناً واحداً متعمداً فقد أحدث وابتدع وترتب عليه أمران: الأمر الأول: أنه آثم لإحداثه في دين الله وابتداعه، ومعلوم ما للبدعة من سوء عاقبة والعياذ بالله، فإن صاحبها يفتن، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] ويصرف عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالمبتدع لا يسقى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يزيد ركعة، أو يحدث في صلاته ركناً زائداً، أو واجباً زائداً، فإنه قد أحدث في دين الله ما لم يأذن الله عز وجل به، ويحكم ببطلان صلاته؛ لأنه لم يصل كما أمره الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام -وهو يبين تأقيت الصلاة وتحديدها وأنها عبادة لا مجال فيها للرأي والاجتهاد-: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي: لا تجتهدوا من عند أنفسكم.أما لو اجتهد العالم في إثبات حكم في الصلاة بناءً على كتاب أو سنة فلا حرج؛ لأنه من الدين، أما أن يأتي إنسان ويقول: أصلي الظهر بدل ركعتين ثلاثاً.فقد حبط عمله وكان من الخاسرين، فصلاته رد عليه. الأمر الثاني: قال بعض العلماء: زيادة الأركان وزيادة الركعات استهزاء واستخفاف -والعياذ بالله-، والاستخفاف بهذه الشعيرة أمره عظيم، ولذلك يخشى على صاحبه. فقوله: (لا في عمد) أي: أن سجود السهو لمكان السهو والنسيان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ضعف الإنسان، وأنه لا بد أن يعتريه ما يعتري هذا البشر الناقص من الخلل والنسيان، فانظر رحمك الله لو أن الله أوجب علينا أن لا نؤدي الصلاة إلا كاملة، وأن من شك في أقل شك ينبغي عليه أن يعيد صلاته، كيف يكون حال الناس، خاصة وأن الإنسان ربما دخل في صلاته مهموماً بكرب في نفسه أو في جسده أو في أهله أو في ولده أو في ماله، فيتشتت ذهنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في انبجانية أبي جهم التي أهداها إليه: (فإنها ألهتني عن صلاتي آنفاً)، والانبجانية: الخميصة التي لها الأعلام.فالإنسان بشر يعتريه ما يعتري البشر، فلو أن الله سبحانه وتعالى ألزم المكلف أن يوقع الصلاة كاملة لحصل له من الضنك ما الله به عليم، فسجود السهو لا يشرع إلا عند السهو والنسيان، أما عند التعمد والقصد فلا.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (واجبات الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (102) صـــــ(9) إلى صــ(17) [حكم سجود السهو] قال رحمه الله تعالى: [وسجود السهو لما يبطل عمده واجب].أي أن سجود السهو لجبر الواجبات وجبر الأركان واجب. وقد اختلف العلماء في حكم سجود السهو: فمنهم من قال: إنه واجب. ومنهم من قال: إنه سنة.ومنهم من يفصل بين سجود الزيادة وسجود النقص، فيوجبه في النقص ولا يوجبه في الزيادة. والصحيح وجوبه على العموم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فليسجد سجدتين)، فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.فالأصل في سجود السهو أنه للوجوب، لكن هذا الوجوب يتقيد في جبر الواجبات؛ والأركان لا تجبر إلا بفعلها.وبناءً على ذلك فإن سجود السهو لجبر الواجبات واجب، أما لو سها في صلاته بزيادة ذكر في غير موضعه كقراءة الفاتحة في حال الركوع أو السجود فإنه يشرع ولا يجب، على التفصيل الذي ذكرناه عند كلام المصنف رحمه الله على زيادة الأقوال المشروعة في غير موضعها. قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه].سجود النقص إذا تركه متعمداً بطلت صلاته إذا كان السجود قبل السلام، أما عند من يقول بالسجود بعد السلام فإنه يمكن أن يتدارك بعد سلامه، فلو تعمد ترك السجود عند من يقول بوجوبه فهو كترك واجبات الصلاة، وهذا المذهب صحيح، فمن ترك واجباً كالتسميع والتحميد وتكبيرات الانتقال، ثم علم أنه ترك هذا الواجب ناسياً، وتعمد ترك سجود السهو قبل السلام بطلت صلاته كما لو ترك واجباً متعمداً، وذلك أن سجدتي السهو جبر، لهذا الواجب، فكونه يترك سجدتي السهو متعمداً كما لو تعمد ترك هذا الواجب أصالة، وبناءً على ذلك تبطل صلاته بترك سجود السهو من هذا الوجه. وقوله: [وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه] أي: إن نسي سجود السهو جبره إن قرب زمانه، كالحال في الأركان، فإذا كانت الركعات يمكن تداركها مع قرب الزمان فإن الواجبات من بابٍ أولى وأحرى. مثال ذلك: لو صليت فنسيت تكبيرات الانتقال أو التسميع أو التحميد، أو نسيت التشهد الأول، ثم صليت وسلمت ونسيت أنك قد نسيت هذا الواجب فلم تسجد للسهو، ومكثت في مصلاك، ثم تذكرت قبل أن يطول الفصل فإنك تسجد سجدتي السهو وتسلم، ولا يلزمك شيء.وكذلك الحال لو أنه قام من مصلاه -على القول بأنه ما دام في داخل المسجد- ثم تذكر، فإنه يستقبل القبلة ويسجد سجدتي السهو، ويصح ذلك منه ويجزيه. [تكرار السهو في الصلاة] قال رحمه الله تعالى: [ومن سها مراراً كفاه سجدتان]. أي: من ترك أكثر من واجب فإنه تكفيه سجدتان، ويدل على ذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول كان التشهد مشتملاً على الجلوس للتشهد، وعلى تشهده، وعلى التكبير الجلسة؛ لأن تكبيره الذي قام فيه للركعة واقع بعد التشهد.وبناءً على ذلك فقد حصل هنا أن ثلاثة واجبات قد تركت، فتداخلت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبرها بمثابة الواجب الواحد، فهكذا الحال لو ترك واجبات متفرقة فيسجد لها سجدتين وتجزيه، ويتداخل السهو في هذه المسألة. الأسئلة [حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة] q رجل صلى الفجر، وفي قراءة السورة التي بعد الفاتحة سجد للتلاوة، ثم بعد الرفع سها وقرأ الفاتحة وسورة بعدها وتذكر قبل التسليم، فما الحكم في ذلك؟ a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فإن هذا قد زاد ركناً قولياً وهو قراءته للفاتحة بعد قيامه من سجود التلاوة، ويلزمه أن يسجد بعد السلام، على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، وصلاته صحيحة إن شاء الله. والله تعالى أعلم. [حكم استئناف الصلاة من جديد إن علم نقصانها بعد الصلاة] qرجل صلى الفجر وسلم بعد ركعة واحدة، وأخبر قبل أن يبرح من مكانه، ولكنه لم يتم بل استأنف الصلاة من جديد، فما هو الحكم؟ a هذا الفعل خلاف السنة، وبناءً على ذلك فلا شك أنه لو علم بالسنة وتعمد هذا الفعل فقد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدث وتنطع، وذلك أنه لم يجتزئ بالرخصة التي وسّع الله على عباده؛ لأنه كان يكفيه أن يستقبل قبلته ويتم ركعة واحدة، فتنطع واعتقد عدم الإجزاء فزاد على الشرع، ولذلك يعتبر فعله هذا من الحدث والابتداع، أما لو كان جاهلاً ولم يعلم الحكم وأحب أن يحتاط ويستبرأ فحينئذٍ يجزيه فعله، ولا حرج عليه.إلا أن بعض العلماء قال: إنه يعتبر منتهياً من الصلاة بالركعة الأولى من الركعتين الأخيرتين؛ لأنه لما قام وجاء بركعة تمت صلاته الأولى فيسجد حينئذٍ للسهو، وتجزئه صلاته في هذه الحالة لمكان العذر بالجهل، كما لو سها وزاد ركعة على صلاة ثنائية فصلاها ثلاثاً، فبهذا يكون قد صلى مرة واحدة على هذا القول، لكن القول الثاني يرى أنه قد صلى صلاتين: الصلاة الأولى لاغية والصلاة الثانية مستأنفة. والله تعالى أعلم. [موضع سجود السهو في الزيادة والنقص] q صليت الظهر وأدركت مع الإمام الركعة الأخيرة، فلما سلم أكملت الصلاة، فلما قمت من الركعة الثانية نسيت التشهد، ثم في الركعة الثالثة جلست للتشهد سهواً، ثم قمت للرابعة، فهل السجود هنا قبل السلام أم بعده؟ a هذه المسألة اجتمع فيها سجود السهو للزيادة والنقص، أما النقص فلكونك قمت بعد الركعة الأولى من قضائك؛ لأن الأصل أنك بعد الركعة الأولى من القضاء تجلس للتشهد؛ لأن أصح أقوال العلماء أن من فاته شيء مع إمامه أنه يبني على صلاته على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيح، فكان يلزمك أن تجلس لهذا التشهد الأول، ويعتبر هذا تشهداً أولاً بالنسبة لك، وقد سهوت وأنت ترى هذا القول، فتكون قد تركت واجباً، فهذا هو النقص في صلاتك، ثم لما قمت إلى الركعة الثانية من القضاء والثالثة بالنسبة للصلاة كان يلزمك بعد سجدتها الثانية أن تقوم للركعة الرابعة، ولكنك جلست ساهياً على سبيل السهو، فحدثت زيادة التشهد بين الركعتين الأخريين، وليس في الأخريين من الظهر أو العشاء أو العصر تشهد بينهما، فهذا هو مكان الزيادة في صلاتك، فاجتمع في صلاتك وصف الزيادة ووصف النقص، فبعض العلماء يقول: إذا اجتمعت الزيادة والنقص اجتزأ بسجدتين قبل السلام، خاصة على مذهب المصنف ومن وافقه في كون السجود كله قبل السلام، وأما على مذهب من يرى التفصيل فهذا هو الذي يقع فيه الإشكال، فهل يغلب النقص فيسجد قبل السلام، أم يغلب الزيادة فيسجد بعد السلام، أم يجمع بينهما فيسجد قبلياً وبعدياً؟ فالوجه الأقوى عندهم: أنه يغلب جانب النقص لاتصاله بالصلاة ويسجد السجدتين، وتكون بهذا صلاته تامة صحيحة. والله تعالى أعلم. [صلاة من لا يجيد قراءة الفاتحة] q هناك امرأة كبيرة في السن ولا تعرف أن تصلي بغير الفاتحة، وقد لا تجيد الفاتحة كذلك، ولا تحسن الحفظ لكبر سنها، فما هو العمل مع هذه المرأة الكبيرة؟ a إذا كان الشخص لا يستطيع أن يُعلّم الفاتحة لمكان صمم أو نحو ذلك أو لا يستطيع أن يضبط الفاتحة لكبر سنه وضعف ذاكرته، فإنه يحفظ قدر ما يستطيع، ويجزيه ذلك القدر الذي يمكنه حفظه ولو آية من الفاتحة، فإذا حفظه أجزأه.ثم قال بعض العلماء: يسبح ويكبر ويذكر الله عز وجل على قدر ركن الفاتحة؛ لأن الله أوجب عليه أمرين: الأمر الأول: قراءته للفاتحة.الأمر الثاني: إن تعذر عليه أن يقرأ الفاتحة في الوقت المستغل للفاتحة فعليه أن يقرأ قدر ما يستطيع من الآيات، ثم يذكر الله بقدر قراءة الفاتحة، ثم يركع، ثم يفعل ذلك في بقية الركعات الأخر. والله تعالى أعلم. [تحية المسجد لمن فارق المسجد بنية الرجوع إليه] q من خرج من المسجد وفي نيته الرجوع كمن أراد الوضوء، فهل تجب عليه تحية المسجد، أثابكم الله؟ a جماهير أهل العلم على أن من خرج من المسجد ولو خطوة واحدة يلزمه أن يصلي ركعتي التحية، وهذا القول هو الذي دلت عليه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فقوله: (إذا دخل) يعيد ذلك، فإن الإنسان بمجرد خروجه من الباب ورجوعه ثانية يصدق عليه أنه دخل، وبناءً على ذلك يستوي أن يطول الزمان أو يقصر.أما القول بأنه إذا كان في نيته أن يرجع فلا يصلي تحية المسجد فهذا القول محل نظر؛ لأنه ما من إنسان صلى فرضاً من الفروض إلا وفي نيته أن يرجع ليصلي الفرض الذي بعده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين) وأمره أن يترك الاستماع للجمعة من أجل هاتين الركعتين لكونه دخل المسجد، ولم يقل له: هل كان في نيتك أن تعود إلى المسجد، أو لم يكن في نيتك؟ ثم إن التفصيل بأنه إذا قرب العهد كما لو ذهب ليتوضأ ورج لا يصلي، وإن طال العهد يصلي، تفصيل وتفريق بدون دليل؛ لأن الطول والقصر يحتاج إلى دليل باعتبار الأصل، والأصل لم يقم عليه دليل، فلا وجه للتفريق بين طول الزمان وقصره؛ لأنه استحسان، والاستحسان لا يعارض العموم، فإن عموم النص: (إذا دخل أحدكم المسجد) يلزم المكلف بأداء هذه الصلاة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كل داخل إلى المسجد، وهذا القول لا شك أنه قول جماهير العلماء، وهو أولى بالصواب لدلالة السنة عليه.وبعض العلماء يستثني النية، وهذا مذهب مبني على تغليب الباطن على الظاهر، فيقولون: في الظاهر أنه دخل، لكن كونه في نيته أن يعود فإنه في حكم الجالس في المسجد.وهذا محل نظر؛ فإنه بخروجه عن المسجد لا يعطى حكم المصلي، فخرج عن كونه في المسجد أصلاً، ولذلك لو فعل الأفعال التي تخالف مقصود المسجد من بيع وشراء صح منه ذلك وأجزأه، ولا عتب عليه ولا ملامة؛ لأنه خارج عن كونه في المسجد، وتغليب الباطن على الظاهر لا يقع إلا في صور، وليست هذه الصور منها، أي: كونه في نيته أن يرجع، فهذا تغليب للباطن على الظاهر، ولا شك أن إعمال الظاهر الذي دلت عليه السنة أقوى وأولى. والله تعالى أعلم. [الأحكام المترتبة على سقوط الجنين وهو ابن ثلاثة شهور] qما هي الأحكام المترتبة على سقوط جنين عمره نحو ثلاثة شهور، لم تتضح أعضائه، وذلك فيما يتعلق بصيام المرأة التي أسقطت وصلاتها؟ a إذا أسقطت المرأة وكان الذي أسقطت ليس فيه صورة الخلقة واسترسل معها الدم، فإن هذا الدم دم استحاضة وليس بدم نفاس على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، فالعبرة بالتخلق، فإن وجد في هذا الذي سقط منها صورة الآدمي، أو صورة أعضائه وأجزائه أخذت حكم النفاس وامتنعت مما تمتنع منه النفساء.أما لو لم تكن فيه صورة الخلقة فإن هذا الدم لا يعتبر دم نفاس ما لم تميزه، فإن ميزت أنه دم حييض دخلت في حكم الحيض، كأن يجري معها يومين أو ثلاثة أيام ثم ترى أوصاف دم الحيض، فتكون قد انتقلت من الاستحاضة التي كانت عقب الإسقاط إلى الحيض الذي دخلت فيه بصفته. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب صلاة التطوع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (107) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [3] السنن الراتبة التي تصلى قبل الصلوات المفروضة وبعدها من أفضل صلاة التطوع، وقد شرعت لحكم عظيمة، منها: الاستعداد لأداء الفريضة، وجبر النقص الواقع في الفريضة، وهي ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء، ومن فاته شيء منها سن له أن يقضيه.ومن أفضل صلاة التطوع صلاة الليل، وخاصة في الثلث الأخير منه. [السنن الراتبة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم السنن الراتبة]. السنن الراتبة: مجموعةٌ من الصلوات ثبت في الشرع الحث والحض عليها، وسميت راتبة؛ لأن الشرع رتبها، وهذه السنن الراتبة تفعل مع الفرائض إما قبل، وإما بعد، وإما قبل وبعد، ولذلك قسّم الشرع هذه السنن بهذا الترتيب، فجعل لبعض الصلوات المفروضة سنناً قبلها ولم يجعل لها شيئاً بعدها كالفجر، وجعل لبعضها سنناً بعدها ولم يجعل لها سنناً راتبة قبلها كما في المغرب والعشاء، فإن السنة الراتبة فيهما بعد وليست قبل، وجعل للظهر سنة راتبة قبل وسنة راتبة بعد، وجعل لبعض الصلوات رواتب ولم يجعل لبعض الصلوات لا قبلية ولا بعدية على سبيل الترتيب وهي العصر، وإن كان للعصر سنة عامة، وهي داخلة في السنن العشرين، فهناك السنن العشر الراتبة التي ذكرت هنا، وبعضهم يجعلها اثنتي عشرة ركعة على تفصيل سنذكره، وهناك السنن المطلقة التي رتبت لكن لم تكن على سبيل التقييد بالوصف الذي ذكرناه، ويجعلونها عشرين ركعة، وهي: الأربع قبل الظهر والأربع بعدها، والأربع قبل العصر، والأربع بعد المغرب، والأربع بعد العشاء، فهذه عشرون ركعة وردت بها الأحاديث وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم. [حكمة مشروعية السنن الراتبة] والسنن الراتبة هذه شُرعت لفضائل وحكم عظيمة؛ فإن المصلي إذا دخل إلى الفريضة مباشرة يكون في حالة أدنى من الخشوع والخضوع واستحضار القلب مما لو سبق الفريضة بسنة قبلية، كما هو الحال في صلاة الظهر، فإن الناس في الظهر يكونون على عناء العمل وشظف طلب العيش، فإذا دخلوا إلى الصلاة وهم حديثو عهد بالتجارات ونحوها فإنهم يكونون أقل خشوعاً مما لو قدموا بسنة ثم دخلوا الفريضة بعد السنة، فإن الطاعة تشرح الصدر وتيسر الذكر، وهذا محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما أراد أن يقوم الليل عليه الصلاة والسلام استفتح بركعتين خفيفتين، قالوا: لأن هذا الاستفتاح يهيئ النفس للإطالة، وللاستحضار وللخشوع، فكان في السنة الراتبة نفس المعنى، وهذا مجرب في الشخص الذي يأتي متأخراً في الصلوات، أو يأتي مع الإقامة، فإنه إذا دخل لا تجده في الخشوع كحالته حين يدخل بين الأذان والإقامة فيصلي الراتبة ويذكر الله، فإن الحسنة تدعو إلى أختها، فتجده بعد انتهائه من الراتبة أشرح صدراً وأكثر طمأنينة في قلبه، فهذا يقوّيه على فعل الفريضة بنفس أقوى وحضور أبلغ، وهذا إذا كانت الراتبة قبلية، وكذلك الحال إذا كانت بعدية، فإن فيها كمال خضوع وكمال تعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الرواتب ليست بواجبة، فكونه بعد فراغه من الفريضة يتعلق بربه سبحانه وتعالى وينيب إليه بقيامه بهذه الصلاة الراتبة البعدية فهذا فيه كمال ذكر وكمال إنابة إلى الله عز وجل أبلغ مما لو انصرف إلى أمور دنياه بعد انتهائه من فريضته. [عدد السنن الراتبة] ثبت عن عبد الله بن عمر في الصحيح أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.فهذه في الأوصاف خمس ركعتان ركعتان، وعددها عشر، وهي ثابتة وصحيحة. وحمل بعض العلماء هذه الرواتب على حديث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في كل يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً)، وفي رواية: (بني له بيت في الجنة)، قالوا: إنها هي الرواتب.وأضافوا إليها الأربع قبل الظهر، فتكون أربعاً قبل الظهر وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فيكون المجموع ثنتي عشرة ركعة. [مسائل في راتبة الفجر] المسألة الأولى: أفضل هذه الرواتب وآكدها راتبة الفجر، وهي التي تسمى بالرغيبة، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أنه يصليها ويخفف فيها صلوات الله وسلامه عليه، حتى كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (لا أدري أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ). وقال بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث: إنه لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والصحيح أنه يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ)، وقولها: (لا أدري) لا يعتبر نافياً للأصل، ولذلك يبقى على الأصل، ويحمل قولها: (لا أدري) على التجوّز؛ فإن قول عائشة لا يقوى على معارضة النص بالإلزام بالفاتحة.وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم الليل فإذا بلغ السحر أوتر، ثم يترك السحر للاستغفار والراحة عليه الصلاة والسلام، فإن كانت له حاجةٌ إلى أهله فعل، وإن كانوا مستيقظين حدّثهم صلوات الله وسلامه عليه حتى يؤذن المؤذن بالصبح، ثم يصلي ركعتين وهما رغيبة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن صلوات ربي وسلامه عليه، قال العلماء: إنما اضطجع على شقه الأيمن لأجل أن يرتاح من قيام الليل وعناء الليل.فقد كان يقوم حتى تفطرت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يضطجع هذه الضجعة على شقه الأيمن، ولا ينام فيها، وإنما هي ضجعة، ولذلك سنّ فعل هذه الضجعة لمن قام آخر الليل، أما من كان نائماً ثم أذن عليه الصبح فإنه لا يعتبر فيه المعنى الذي كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم.وثبت عنه أنه قرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص، وقرأ فيهما آيتين: أولاهما من البقرة وهي قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، والثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.} [آل عمران:64]، فهذا بالنسبة لهديه عليه الصلاة والسلام في القراءة فيها، وكان يخفف فيهما عليه الصلاة والسلام، ويتجوّز فيهما، ولكن مع إتمام الأركان من الركوع والسجود. المسألة الثانية: السنة في هذه الرغيبة أن تقع بين الأذان والإقامة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز فعلها بعد الإقامة، ووردت في فعلها بعد الإقامة بعض الأحاديث الضعيفة، ولا تصلح للاستمساك بها في معارضة النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وهذا النص ورد في صلاة الفجر، ولذلك لما رأى رجلاً يتنفل بركعتين بعد الإقامة، قال: (يا هذا! بأي الصلاتين اقتديت: أبصلاتك معنا، أم بصلاتك وحدك؟!)، وفي الحديث الآخر عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، فلا وجه لإنشاء هاتين الركعتين بعد الإقامة، أما لو أقيمت الصلاة وأنت في الرغيبة فأنت على حالتين: فإن كنت قريباً من السلام، أو تستطيع أن تتمها وتدرك الإمام قبل تأمينه حتى تحصل فضيلة التأمين فحينئذٍ تتم، على ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].وأما إذا غلب على ظنك فوات الركعة فإنك تقطع الرغيبة، ويكون قطعك بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وإذا قطعتها بسلام كتب لك الأجر كاملاً؛ لأنك قطعت بعذرٍ على صورةٍ شرعية، فيكون تسليمك في موضعه، كأنك سلمت من الصلاة بعد كمالها في الحكم من ناحية الفضل، أما إذا قطعتها بدون تسليم فإنه لا يكون لك أجر العمل السابق، وذلك لأنه بمثابة الإلغاء للركعتين.وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع هاتين الركعتين حضراً ولا سفراً، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا نام عن صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين قبل أن يفعل صلاة الفجر، ففي الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه لما عرّس عليه الصلاة والسلام ونام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في الوادي، في مقفله إلى المدينة، وقام وقد ارتفعت الشمس أمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين -وهما رغيبة الفجر- ثم أمره فأقام فصلى الصلاة. وفي هذا دليل على مسائل: الأولى: أنه يجوز لك أن تتنفل قبل أن تفعل الفرض إذا كان وقت قضاء الفرض موسعاً، ومن هنا تخرّج قول من يقول: يجوز أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي رمضان بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ من نومه كان في الأصل مخاطباً بصلاة الفجر، وفي ذمته فريضةٌ هي صلاة الفجر، فاشتغل بالنافلة قبل القضاء؛ لأن الصورة صورة قضاء، فكذلك يجوز لك أن تشتغل بالنافلة بستٍ من شوال مع تعلق الذمة بقضاء رمضان لمكان التوسع في القضاء. المسألة الثالثة: أن قضاء الفجر موسع إذا كان بعد طلوع الشمس، ووجه ذلك أنه يجوز لك أن تؤخر القضاء، وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تحول من الوادي إلى موضع آخر وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، وصلى رغيبة الفجر وهذا نوع تأخير، فأخذ منه بعض العلماء دليلاً على أن من استيقظ بعد طلوع الشمس وكان عنده أمرٌ ضروري واحتاج أن يفعله مع أنه عازمٌ على أن يفعل الصلاة بعد انتهائه من هذا الأمر ما لم يدخل وقت الظهر فلا حرج عليه في ذلك، على ظاهر هذا الحديث، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من الوادي لكونه حضره فيه الشيطان، وهذا على سبيل الفضل وليس على سبيل اللزوم والوجوب، ولذلك أجمعوا على أن من نام في موضعٍ لا يجب عليه أن يتحول عن ذلك الموضع ليصلي. المسألة الثالثة: لو فرض أنك استيقظت على قربٍ من طلوع الفجر، بحيث لو صليت الرغيبة خرج وقت الفجر وطلعت الشمس فحينئذٍ يجب عليك أن تبتدئ بالفجر، وأن تلغي ركعتي الرغيبة وتجعلهما من بعد طلوع الشمس. المسألة الرابعة: أنه يُسنّ قضاء رغيبة الفجر، وقضاء رغيبة الفجر لا يخلو من حالتين: إما أن لا يمكنك أن تصليها قبل الفجر، كأن تستيقظ عند الإقامة، فتأتي ولا يمكنك أن تصلي قبل صلاة الفجر، أو تخشى فوات الجماعة، ففي هذه الحالة هل بعد سلامك مع الإمام تقوم وتأتي بالرغيبة، أو تنتظر إلى طلوع الشمس؟ فأقوى ما دلت عليه النصوص أن تنتظر إلى طلوع الشمس؛ لورود المعارض من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.فإن صليت بعد الفجر ففيها أحاديث اختلف في أسانيدها، وإن كان تحسينها مقبولاً عند جمع من المحققين رحمة الله عليهم، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من قضى ركعتي الفجر بعد صلاة الفريضة.والأفضل والأولى أن تصلي بعد طلوع الشمس، لكن إذا كان عند الإنسان عمل، أو غلب على ظنه أنه لو أخر القضاء إلى بعد طلوع الشمس فربما لا يتمكن من القضاء لوجود المشاغل، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يصليها بعد صلاة الصبح، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك في حال طلوع الشمس؛ فإنه في حال طلوع الشمس لا يجوز إيقاع النوافل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة)، وثبت في الحديث الصحيح: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا، ثم ذكر منها: إذا طلعت الشمس)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا طلعت فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فهذا بالنسبة لرغيبة الفجر وما فيها من أحكام. [راتبة الظهر] قال رحمه الله: [ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها].السنة أن تصلي أربعاً قبل الظهر، وهي المذكورة في الحديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر حرمهُ الله على النار)، وهذا فيه فضل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الظهر أربعاً، وسألته أم المؤمنين فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عملٌ صالح)، قال بعض العلماء: إن مراد عائشة: بقبل الظهر أي: فيما بين الأذان والإقامة، أي: قبل فعله لصلاة الظهر، وقال بعض العلماء: (قبل الظهر) أي: وقت الضَحَى، أي: قبل أن يدخل وقت الظهر، وكلاهما وجهان للعلماء. [التنفل قبل الجمعة] الركعتان اللتان هما قبل الظهر في غير الجمعة، أما في الجمعة فليس للجمعة قبلية، وإنما يسن لك إذا مضيت إلى الجمعة أن تتنفل، وأن تستكثر من النوافل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التبكير إلى الجمعة أنه قال: (من غسّل واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم صلى ثم دنا وأنصت ... ) الحديث، قالوا: فقال: (صلى)، فدل على أن الأفضل أنك إذا دخلت المسجد في الجمعة أن تستكثر من الصلاة، حتى يأتي وقت الخطبة، ولا حرج عليك أن تصلي في حال الأذان الأول أو بين الأذان الأول والثاني، فهذا لا حرج فيه، لكن لو كنت جالساً وقصدت أن تصلي بين الأذان الأول والثاني فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال فقهاء الشافعية: لا حرج -أو يسن- أن يصلي بين الأذان الأول والثاني. واستدلوا لهذا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (بين كل أذانين صلاة)، قالوا: والأذان الأول أذان مشروع؛ لأنه سنةٌ راشدة ثبت النص باعتبارها؛ لأنه فعلها عثمان، وعمل السلف الصالح رحمة الله عليهم بها دون أن ينكرها أحد، وأجمعت الأمة على هذا الأذان الثاني. ومن قال: إنه بدعة فقوله لم يسبق إليه، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له؛ فإن هذه السنة فعلها خليفة راشد أمر باتباعه، وعلماء الأمة كلهم ليس فيهم واحد يقول: إنها بدعة، فلا شك أنه أمرٌ من السنة بمكان، وأثرٌ يتعين اقتفاؤه ولزومه، ولا شك أن اعتبار قول هذه الطائفة من المؤمنين التي تتابعت جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل أنه أولى وأحرى من حيث الأصل في الأذان الثاني، ولا يحكم ببدعيته في أي زمان، وذلك لأن السلف الصالح رحمة الله عليهم أقروا ذلك، ولم ينكروه، ولم يوجد عالم من علماء السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الأذان الثاني بدعة، إنما هو سنة ثابتة، ولا إشكال في ثبوتها، وأما قصد الصلاة فقلنا: إن بعض فقهاء الشافعية يرى ذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين)، قالوا: الأذان الأول ثبتت مشروعيته بالسنة؛ لأن الشرع وصف سنة الخلفاء الراشدين بكونها سنة، فإذا ثبت أنه أذان مسنون، وأجمعت الأمة على اعتباره فإنه يصدق عليه ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة). وقال الجمهور: إنه لا يسن التنفل بين الأذان الأول والثاني. وهذا هو الأرجح بمعنى: لا يسن أن يقصد الإنسان التنفل قصداً، لكن لو أنك قمت تصلي وأطلت الصلاة بحيث استغرقت الأذان الأول ووقعت صلاتك بين الأذان الأول والثاني اتفاقاً لا قصداً فإن ذلك مشروع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلى ثم دنا وأنصت)، فإن قوله: (فصلى ثم دنا وأنصت) يدل على مقاربة الصلاة للخطبة، ولذلك قالوا: إنه وقت فضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى الاستكثار من النافلة يوم الجمعة، وقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي ... ) الحديث، قالوا: فهذا يدل على أن الشرع قصد الاستكثار من النافلة في هذا اليوم، وبناءً على ذلك لا حرج أن يستطيل الإنسان في قيامه حتى يصيب هذا الفضل، ويخرج أيضاً من الخلاف، ولا شك أن مذهب الجمهور، أنه لا يسن قصد فعل ركعتين بين الأذان الأول والثاني، أما فعل النوافل المطلقة فلا حرج. وبناءً على ذلك يكون قوله: (ركعتان قبل الظهر) في الأصل في الظهر، وعلى هذا فالمريض لو ترك الجمعة شُرِع له أن يصلي قبل ظهره ركعتين وأربعاً على الصورة التي ذكرناها. يتبع
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب صلاة الجماعة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (113) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [1] فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وأوجب عليهم أن يؤدوها جماعة مع المسلمين، فصلاة الجماعة واجبة على الرجال دون النساء، ولها حكم وفوائد عظيمة، وأحامها معلومة في بابها، ومنها: حكم صلاة الجماعة في البيت، وصلاة أهل الثغور في المسجد الجامع وغيرها. أحكام صلاة الجماعة [مشروعية صلاة الجماعة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجماعة].وهذه الترجمة تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وذلك في قوله [صلاة الجماعة]، وقد تقدم معنا تعريف الصلاة لغة واصطلاحا.وأما الجماعة فإنها مأخوذة من قولهم: جمع الشيء إلى الشيء إذا ضمهإليه، فأصل الاجتماع الانضمام، وسميت الجماعة جماعة لانضمام أفرادها بعضهم إلى بعض.وقد ائتسى العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم في هذه الترجمة برسول الله صلى الله عليه وسلم في تسميته لهذا النوع من الصلوات التي تقع على صورة الاجتماع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين) وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة)، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة بهذا الوصف، فمن الفقهاء من يقول: (باب صلاة الجماعة) مراعاة لهذا الحديث، ومنهم من يقول: (باب الإمامة) وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لـ مالك بن حويرث وأخيه الذي كان معه من قومه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما)، فقال: (وليؤمكما)، وقال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فعبر بالإمامة. فبعض العلماء يقول: (باب صلاة الجماعة)، وبعضهم يقول: (باب الإمامة) والمعنى واحد، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة الجماعة، وتقوم الجماعة على ربط المأموم صلاته بالإمام، فيتابعه قولا وفعلا كما يتابعه مكانا، فلا يتقدم على الإمام من جهته، وذلك مراعاة لهذا الائتمام.والإمامة مأخوذة من أم الشيء يؤمه إذا قصده. وهي هنا: ربط المأموم صلاته بالإمام، ويقع هذا الربط بصورة مخصوصة بين الشرع حكمها كما في دليل الكتاب في صلاة الخوف، وكذلك أدلة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وقد شرع الله صلاة الجماعة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعيتها. أما دليل الكتاب على مشروعية هذا النوع من الصلاة فقوله سبحانه وتعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالطائفة، وذلك في صلاة الخوف، وإذا كانت الجماعة مشروعة في حال الخوف فمن باب أولى وأحرى أن تشرع حال الأمن والطمأنينة، ولذلك دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية صلاة الجماعة، كما يقول العلماء، واحتج بعض أهل العلم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]، ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة أمرت بني إسرائيل أن يركع بعضهم مع بعض، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهنا ورد شرعنا بما يوافقه.وأما دليل السنة فأحاديث صحيحة، منها حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية صلاة الجماعة، وأنها أفضل من صلاة الفذ، وذلك لما ذكر من الدرجات، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما، وليؤمكما أكبركما)، فدلت هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الجماعة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة، بل إنه حين وطئت قدمه طيبة الطيبة بعد نزوله من قباء كان أول ما فعل أن اختط مسجده صلوات الله وسلامه عليه تأكيدا لأهمية الصلاة في المساجد وفي بيوت الله عز وجل.فالصلاة إذا ثبتت مشروعيتها، وتبين لنا أنها مشروعة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنه قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على مشروعيتها.وهذه المشروعية لها فضائل ونوائل تعود على الإنسان بالخير في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: شرع الله صلاة الجماعة وجعل فيها الخير للفرد وللمجتمع وللأمة كلها، وهذا الخير لا يقتصر على خير الدين بل يشمل حتى خير الدنيا، ويقولون: إن صلاة الجماعة تعود على الإنسان بالخير في دينه، فمن خيراتها في دينه أن الله يكفر بها سيئاته ويرفع بها درجاته، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد)، وإنما يأتي الإنسان إلى المساجد تحصيلا لصلاة الجماعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفضل من كونها تكفر خطايا العبد وترفع درجاته، وكفى بذلك فضلا ونبلا للإنسان، مع أن فيها إيمانا واهتداء، ولذلك يعمر المسلم بيوت الله بشهود صلاة الجماعة، وأثنى الله عز وجل على من كان متخلقا بذلك ومتصفا به بقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة:18]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه من أهل الإيمان، وأن مآله إلى الاهتداء، وكان العلماء رحمة الله عليهم إذا لمسوا من الإنسان ضعفا في دينه سألوه عن الصلاة مع الجماعة.فصلاة الجماعة جعل الله فيها هذه الخيرات الدينية للفرد والمجتمع، فبها يتواصل الناس ويتراحمون؛ لأن الإنسان إذا غاب عن المسجد لمرض أو عاهة أو بلاء علم الناس ذلك واطلعوا عليه وأدركوه بتخلفه عن الصلاة مع الجماعة، خاصة إذا كان من المحافظين والمداومين عليها، ومع ما فيها من جوار لله عز وجل، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)، فهذه نعم عظيمة وخيرات كثيرة، وبشهود الناس لصلاة الجماعة تتحقق أواصر المحبة للمجتمع، فهذا يلقى أخاه يسلم عليه، ويسأله عن حاله، ويعين الضعيف، ويفرج كربة المكروب، إلى غير ذلك من الخيرات التي جعلها الله عز وجل في هذه الصلاة. [حكم صلاة الجماعة] قال المصنف رحمه الله تعالى: [تلزم الرجال للصلوات الخمس لا شرط]. قوله: (تلزم) الضمير عائد إلى صلاة الجماعة، أي: تجب.والمراد بالتعبير باللزوم الدلالة على أنها واجبة لازمة في ذمة المكلف، لكنه قال: (تلزم الرجال)، ومفهوم قوله: (الرجال) أنها لا تلزم النساء، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان من تعبير العلماء أن قالوا: ليس على النساء جمعة ولا جماعة. أي: ليس على النساء أن يشهدن الجمعة ولا الجماعة، وهذا من باب درء المفاسد؛ إذ إنه لو أذن للنساء كلهن بالخروج لكان في ذلك مفاسد عظيمة وأضرار كثيرة لوجود العبء عليهن بالخروج. وقوله: (تلزم الرجال) هذه الجملة ظاهرها أن كل مسلم بالغ من الرجال يجب عليه أن يشهد الصلاة مع الجماعة، والمراد بذلك الصلوات الخمس، وهذا الحكم اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد وداود الظاهري -وهو قول مأثور عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان- إلى أن صلاة الجماعة واجبة على كل بالغ ذكر، وأنه إذا تخلف عنها من غير عذر يعتبر آثما.ووافقه على هذا القول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي رحمة الله على الجميع، فعند أصحاب هذا القول أن صلاة الجماعة لازمة، ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا وجد عنده عذر من مرض يحبسه أو نحو ذلك. القول الثاني: أن الصلاة ليست واجبة على الرجل.وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع. وقد استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بالوجوب بدليل الكتاب والسنة والأثر: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قال: (فلتقم طائفة منهم معك) وهذا أمر، والأمر للوجوب، ثم أمر الطائفة الثانية التي تخلفت بالشهود فقال تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} [النساء:102]، قالوا: فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، وذلك في حال الخوف، فلأن تجب في حال الأمن والسلامة من باب أولى وأحرى.وكذلك استدلوا بدليل السنة، وذلك بأحاديث: الأول: حديث أبي هريرة رضي الله الثابت في صحيح مسلم: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد.فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة) رواه مسلم.ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هذا الرجل الأعمى مع وجود المشقة والعناء عليه بشهود الجماعة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، فدل على أنها واجبة لازمة، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فأجب)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وقال: (فإني لا أجد لك رخصة)، فدل على اللزوم، وأن من تخلف عن الجماعة آثم. الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أنه سيعاقب من تخلف عن الجماعة، وأنه هم بمعاقبة من لا يشهد هذه الصلاة، ولا ترد العقوبة إلا على ترك واجب أو على فعل محرم، فدل على أن شهود الجماعة واجب، وأن التخلف عنها من غير ضرورة ولا عذر محرم. الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة وغيره.ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن من لم يشهد الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر، فدل على أنها واجبة لازمة، فهذا حاصل ما احتج به أصحاب القول الأول من دليل الكتاب والسنة. وأما دليلهم من الأثر فما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتموها لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين فيقام في الصف.ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا الصحابي الجليل الموسوم بالفقه والعلم والعمل أخبر عن أهمية هذه الصلاة، وأنها بمثابة اللازم الواجب الذي لو ترك لضل العبد بتركه، وهذا كله يؤكد وجوبها ولزومها؛ لأنه لا يوصف بالضلالة إلا على ترك الهدى اللازم والواجب على المكلف.فهذا حاصل ما استدل به أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب. أما من قال بعدم الوجوب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر كلتا الصلاتين، وجعل لصلاة الفرد فضلا، فدل على أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبة لما ورد الفضل لضدها، أعني صلاة الفرد.والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب صلاة الجماعة، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.وأما ما استدل به من قال بعدم الوجوب فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما غاية ما دل عليه إثبات الأجر لصلاة الفذ، وذلك لا يستلزم عدم وجود الإثم المترتب على التخلف عن صلاة الجماعة. ووجه ذلك أن يقال: إن الأحاديث التي أمرت بصلاة الجماعة دلت على وجوبها، وحديث أبي هريرة دل على المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، فكأن حديث أبي هريرة خرج عن موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع في الدلالة على الوجوب أو عدم الوجوب، وكون الأجر يرد على هذا أقل من غيره، أو يرد على هذا أكثر من غيره فهذا خارج عن موضع النزاع، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج عن موضع النزاع لم يصلح دليلا على عين المسألة المختلف فيها.وبهذا يترجح القول القائل بالوجوب. وقوله: [للصلوات الخمس] أي: تلزم في الصلاة المكتوبة، وهي الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولذلك قيد المصنف رحمه الله إطلاق الوجوب واللزوم بهذه الصلوات الخمس على ظاهر النصوص؛ لأنها إنما وردت في الصلاة المفروضة والمكتوبة، وأما جماعة النوافل كصلاة التراويح والصلاة على الجنازة إذا كانت جماعة فهذه ليست بلازمة ولا واجبة على المكلف. وقوله: [لا شرط] أي: صلاة الجماعة شهودها مع الجماعة واجب ولازم، ولكن ليس شرطا في صحة الصلاة.ونحن ذكرنا أن العلماء رحمة الله عليهم -الظاهرية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية- الذين قالوا بوجوب صلاة الجماعة انقسموا إلى طائفتين: فطائفة أوجبت صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى لوحده صحت صلاته.وطائفة قالت بوجوب صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى فردا من دون عذر لم تصح صلاته.وإذا ثبت أن صلاة الجماعة واجبة، فهل وجوبها وشهودها شرط في صحة الصلاة أو ليس شرطا؟ في المسألة قولان عند من يقول بالوجوب: قال الحنابلة، والحنفية والشافعية الذين يوافقونهم على وجوب صلاة الجماعة: إنها ليست بشرط في صحة الصلاة، فمن صلى منفردا صحت صلاته وأجزأت ويأثم؛ لأنه لم يشهد الجماعة.وقال الظاهرية -وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع- إنها واجبة وشرط في الصحة.فلو صلى منفردا بدون عذر فإن صلاته باطلة على هذا القول.وقد استدل الذين قالوا بالوجوب وأنها ليست بشرط في الصحة بأدلة الوجوب التي ذكرناها؛ لأن الأصل أن من أدى صلاته كاملة بأركانها وشرائطها وواجباتها فصلاته صحيحة حتى يدل الدليل على البطلان. فلو سألك سائل: ما الدليل على أن الأصل فيمن أدى الصلاة بأركانها وواجباتها أن يحكم بصحة صلاته تقول: حديث المسيء صلاته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين له ما يجب في الصلاة قال له: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فإذا صلى المنفرد وأدى الصلاة بأركانها وواجباتها انطبق عليه ما ورد في هذا الحديث. أما فقهاء الظاهرية ومن وافقهم فقد استدلوا على بطلان صلاة المنفرد بدون عذر بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة، وهذا الحديث مختلف في إسناده وفيه كلام، ولكن على القول بصحته، قالوا: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: فلا صلاة صحيحة.فدل هذا الحديث على بطلان صلاة المنفرد؛ لأنه صلى بدون عذر. وأما الذين قالوا بصحتها فإنهم يقولون: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: كاملة، والذين يقولون بعدم صحتها يقولون: فلا صلاة صحيحة، فأصبح حديث ابن عباس مترددا بين نفي الكمال ونفي الصحة.والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بصحة صلاة المنفرد ولو كان تاركا للجماعة بدون عذر، وذلك لما يلي: أولا: لصحة ما احتج به أصحاب هذا القول. ثانيا: أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث ابن عباس يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإنه معارض لما هو أصح منه، مع ما فيه من الطعن في روايته. الوجه الثاني: من جهة المتن، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة له) يتردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، وال [صلاة الجماعة في البيت] قال رحمه الله تعالى: [وله فعلها في بيته]. قوله: (وله) أي: للمكلف، (فعلها) أي: فعل صلاة الجماعة في بيته، بأن يجمع أهله، فيصلي بامرأته أو ببناته، أو يصلي بإخوانه وأخواته، أو يصلي بأبنائه وبناته، وقس على هذا، فلا حرج عليه على هذه الرواية. ومن الأصحاب من قال: إن كان تخلفه عن المسجد لا يؤدي إلى ضعف الجماعة فإنه يجوز له أن يتخلف ويصلي مع جماعته في المنزل، واحتجوا بحديث الرحل -وهو ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام-: أنه صلى بالناس بخيف منى، فرأى رجلين لم يصليا، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا.إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة).ووجه الدلالة أنهما تركا جماعة المسجد لجماعة الرحل والبيت، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك. وهناك من العلماء من قال: إن هذا لا يشمل صلاة الرجل في أهله، وإنما هو وارد في صلاة السفر، والجماعة في السفر ساقطة عن المسافر لهذا الحديث، فلا تشمل من جمع في أهله.وهذا القول من القوة بمكان، أعني أنه لا يشرع للإنسان أن يتخلف عن الصلاة مع الجماعة ويجمع بأهله؛ لأنه لو فتح هذا الباب لفات كثير من مقاصد الشريعة بإيجاب الجماعة، ولذلك يحمل حديث الرحل على المسافرين؛ لأنهما كانا بخيف منى فكانا في حكم المسافرين، ولذلك صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصرا، فالحديث وارد في المسافرين، وأحاديث الجماعة إنما هي في المقيم، وعلى هذا نقول: إن المسافر لا تجب عليه الجماعة إن كان يصلي في رحله رفقا وتوسعة من الله عز وجل على هذا النوع من المكلفين. يتبع
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |