|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() بين النفس والعقل (1) حسام بن عبدالعزيز الجبرين الحمد لله العزيز الغفار، الرحيم الجبار، القدير القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا غنى إلا بالافتقار لرحمته، ولا عز إلا بالتذلل لعظمته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فأيام حياتنا أوقات بذر وزرع، والحصاد يكون يوم لقاء الله؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30]. عباد الرحمن، لو أن عظيمًا من عظماء الناس جاء فأقسم ثلاثًا، فإن الناس ستشرئب أعناقهم لمعرفة كلامه، وسوف يعتني به أكثر مَن يخصه الكلام، وأنا أطرح بين يديك يا عبدالله تساؤلًا: ما أطول قسم لرب العزة سبحانه في القرآن؟ وعن ماذا كان؟ أحد عشر قَسَمًا متتابعًا كان جوابها: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وكانت النفس ضمن ما أقسم الله به. معشر الكرام، خلق الله في الإنسان عقلًا ونفسًا، خلق الله العقل ليدل ويهدي ويتفكر ويُري صاحبه الطريق، وأما النفس فخُلقت لتشتهي وتهوى؛ فتحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، والعقل يريها الصحيح من الخطأ، ويميز لها الخير من الشر، والنافع من الضار من طبائعها وشهواتها وأغراضها. عباد الله، نفوس الناس تختلف في نوع ما تشتهي ومقداره، لكنها تشترك في النهم وطلب المزيد؛ كحب المال مثلًا؛ ولذا خلقت العقول وأنزلت الشرائع حتى تضبطها، فالشرائع الربانية فيها ضبط عام يستوي فيه الجميع. والعقل يدله الوحي وينيره؛ كالعين فإنها وإن كانت سليمة لا تبصر الأشياء في الظلماء مع وجودها، ولكن إذا أضيء المكان أبصرت الأشياء، فالعقل يضل في عبادته من دون الوحي؛ قال الحق سبحانه: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. عباد الرحمن، ولم يذمَّ الله العقل لذاته، ولكن جاء ذم النفس، فإذا ذُكر العقل ذم عدم استعماله في التفكير؛ قال تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65]، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 46]، ﴿ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50]، وأما النفس فيتوجه إليها الذم؛ لأنها تأمر العقل بالخطأ والسوء؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]، فدخل الاستثناء عليها؛ لأن الأصل فيها الأمر بالسوء؛ ولأجل هذا جاء التحذير من النفس كثيرًا ولم يأتِ التحذير من العقل ولو مرة. ولم يستعذ النبي صلى الله عليه وسلم من عقله، ولكن جاءت الاستعاذة من شر النفس؛ ففي خطبة الحاجة يقول: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا))، وقال: ((أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان))؛ [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي]. والنفس قد تُعطَى الخير فترفضه وقد تزين الشر؛ ولذا شرعت الاستعاذة من شرها؛ قال تعالى: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]، وقال السامري: ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96]، ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ [يوسف: 83]، وقال تعالى عن اليهود: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، فالمشكلة في نفوسهم الحاسدة المتكبرة، تأمل الآية: ﴿ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وجاء في آية أخرى أن الحسد سبب كفرهم: ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [البقرة: 90]، وكذلك نفوس المشركين مبتلاة بالهوى؛ فهم ينكرون نبوة البشر ويعبدون ربًّا من حجر؛ قال سبحانه مخبرًا عن حقيقة إنكار فرعون وقومه للآيات: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]. بارك الله لي ولكم في القرآن. ♦ ♦ ♦ الحمد لله، دلت على ربوبيته جميع مخلوقاته، وعجائب مصنوعاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: فإن اختلاف النفوس سنة إلهية للكون، يحصل به توازن وتدافع، ويتعامل الناس فيما بينهم، ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع. عباد الرحمن، ومن لطف الله بعباده أن جاءت التكاليف الشرعية منسجمة مع طبائع النفوس، فالمرأة البكر المطبوعة على الحياء؛ لذا فإن ((إذنها صماتها))؛ لأن شجاعتها في الرفض قوية، أما في الموافقة فلا؛ ولذا جاء اشتراط الولي عند النكاح؛ ليكون في مقابل الزوج عند التفاوض على الزواج رجلٌ يحفظ لها حقها، ولذا لا يشترط لها ولي عند رفض الزواج من رجل لا ترغبه، والمَحْرَم يَكْسِر حدة ضعف النفس في الخلوة، وأيضًا لم يكن مناسبًا وضع المرأة في مواضع الشدة والنزاع والخصومات، ليس لأجل ضعف عقلي؛ وإنما لأجل الطبع النفسي المؤثر، فلو أُنيط بها إقامة الحدود وتنفيذ العقوبات لتعطل ذلك، وسبب ذلك عدم مناسبة تلك التكاليف لطبائعها، فسبحان الله وبحمده؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]. عباد الرحمن، وصراع النفس مع العقل يظهر عند شهواتها، فإنها إذا تمكنت في النفس، تعاملت النفس مع العقل بمقدار ما لديه من علم وخبرة وإيمان، وتسعى للتحايل عليه حتى تحقق مرادها، ومداخلها حال قوة الإيمان غير مداخلها حال ضعف الإيمان، وإذا عجزت عن تحقيق رغباتها بالخطأ الصريح مزجت الخطأ بشيء من الصحة. وللحديث عن النفس بقية إن شاء الله في خطبة أخرى. ثم صلوا وسلموا على البشير النذير.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() بين النفس والعقل (2) حسام بن عبدالعزيز الجبرين الحمد لله الخالق البارئ المصور، المهيمن المقدم المؤخر، العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، افترض الله على العباد طاعته وتوقيره، ومحبته وتعزيره، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]. عباد الرحمن، كان حديثنا الجمعة الماضية (بين النفس والعقل)، وحديثنا اليوم إكمال له. عبدالله، إن تسألت: ما النفس؟ فالذي يظهر من الأدلة أنها هي الروح، وقال بعضهم: أن النفس هي الروح مع الجسد؛ قال سبحانه: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42]، وفي الحديث: ((فإذا اضطجع فليقل: باسمك ربي، وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، فإذا استيقظ، فليقل: الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ عليَّ روحي، وأذِن لي بذكره))؛ [أخرجه الترمذي والنسائي، وحسنه الألباني]، وقد ثبت في الصحيح أن الشهداء: ((أرواحهم في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديلَ معلقة بالعرش))، وعالم الأرواح عالم عجيب؛ فمع علمنا بها وكونها في أبداننا، فإننا لا نعرف كنهها؛ قال سبحانه: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، وفي الحديث: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))؛ [رواه مسلم]. أيها الأحبة، جاء في القرآن ذكر النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "النفوس ثلاثة أنواع: النفس الأمارة بالسوء وهي: التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي. والنفس اللوامة وهي: التي تذنب وتتوب، فعندها خير وشر، ولكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب والمعاصي، ولأنها تتلوم؛ أي: تتردد بين الخير والشر. والنفس المطمئنة: وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خُلقًا وعادة وملكة، فهذه صفات وأحوال لِذَاتٍ واحدة، وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه"؛ [انتهى كلامه رحمه الله، الفتاوى، 9/ 294]. وقال العثيمين رحمه الله: "والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحيانًا نزعة خير، يحب الخير، يفعله، هذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحيانًا في نفسه نزعة شر يفعله، هذه نفس أمارة بالسوء، تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية". وقال ابن القيم: "بل إن النفس ربما تتقلب في اليوم الواحد بل في الساعة الواحدة". إخوة الإيمان، خلق الله العقل ليدل ويتفكر ويُري صاحبه الطريق، والنفس خُلقَت لتشتهي وتهوى وترغب، تحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، والعقل يميز لها الخير من الشر، والنافع من الضار من طبائعها وشهواتها وأعراضها بحسب ما فيه من علم ومعرفة، وخبرة وتجربة في هذه الحياة. عباد الله، ليس كل ما تشتهي النفس يصح أن تُعطاه على النحو الذي تحب وبالقدر الذي تريد، بل لا بد من عقل يضبطها؛ فالمريض ببعض أمراض الجلد تحب نفسه الحك ما دام يستمتع بالحكة ويجد تخفيفًا للألم، ولكن العقل يمنعه من القدر الزائد لئلا يتضرر. والعقل ليس عدوًّا للنفس ولو حرمها، ولكنها هي قد تكون عدوة للعقل؛ فالمبتلى بإدمان المخدرات مثلًا يأمره عقله باجتنابها وفي ذلك مصلحته، ولكن نفسه تأمره بمزاولة ما اعتادته وألفته ولو كان ضارًّا مهلكًا، وتزين ذلك مع الشيطان؛ ولذا في الحديث: ((أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان...))؛ [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي]. إخوة الإيمان، استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، وقد فسَّره الإمام أحمد بفقر النفس، والنفس الفقيرة هي النفس المأسورة بالشهوات، وإذا كانت النفس فقيرة لم ينفع الغنيَّ غناه، وإذا اغتنت لم يتضرر الفقير بفقره؛ لأن غنى النفس بقناعتها بما عندها؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس))؛ [أخرجه الشيخان]، واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس لا تشبع. نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة، وبما فيهما من الآي والحكمة، واستغفروا الله إنه كان غفارًا. ♦ ♦ ♦ الحمد لله القائل: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، وصلى الله وسلم على رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد: إخوة الإسلام، فالنفوس لها طباع، والطبائع النفسية منها ما يُخلق عليها الإنسان ويُصبغ عليها كالنفس العَجِلة أو الغضوبة أو المتأنية أو الحليمة، وقد شُبِّهت تلك الطبائع التي يخلق عليها الإنسان بمعادن الأرض التي خلقت فيها؛ ففي الحديث: ((الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا))؛ [رواه مسلم]. وللنفوس شهواتٌ يشترك الناس في بعضها ويختلفون في بعضها، وما يتفقون فيه يتفاوتون في مقدار تعلق نفوسهم به، فهم مثلًا يشتركون في حب المال والطعام والجاه والسمعة الطيبة، ولكنهم يتفاوتون في مقدار تعلقهم بذلك، والمحذور من شهواتها ما يصل بصاحبه إلى مخالفة الشرع، كأن يصل به حب المال إلى تحصيله عن طريق الغش أو الرشوة أو الشح، وأمُّ شهوات النفس حبها للجاه، والمقصود: حب الجاه الزائد الذي يجعله الغاية ومنتهى المطالب؛ ولذا فبعض النفوس مع حبها للمال، فإنها قد ترخصه وتجود به لتحصل على الجاه عند الناس، بل قد تقدم على الموت لتحصل على مدح الناس؛ وفي حديث: ((أول من تسعر بهم النار يوم القيامة)) عند مسلم، نجد صنفًا بذل حياته: ((ولكنك قاتلت ليُقال: فلان جريء))، وصنفًا بذل ماله: ((ولكنك فعلت ليقال: هو جواد))، وآخر بذل وقته: ((ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ))، فكلهم لم يخلصوا لله التعبد، وغايتهم الجاه، نسأل السلامة والعفو والعافية، ومن ابتُليَ بحب الجاه ابتلي بالكبر والحسد؛ أما الكبر؛ فلأن النفس تريد بالجاه علوًّا؛ ولذا قال أبو جهل: "والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبدمناف تبعًا؟"، وفيه نزل قول الله: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]، فالإقرار بما جاءت به الرسل يكسر جاهَ تلك النفوس المتكبرة؛ قال الله عن فرعون وقومه: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، وقال سبحانه عن بني إسرائيل: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ [البقرة: 87]، وفي الحديث: ((الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس))؛ [رواه مسلم]، فالكبر يجعل الإنسان لا يخضع للحق ولو تبين له. وإذا زاد حب الجاه جلب الحسد؛ فإذا وجد المنافس أو الأعلى، أحبت النفس أن يتأخروا ليظهر تقدمها فيراها الناس؛ كالنور أمام الأعين لا يرى الأضعف مع الأقوى، وعلامة الحسد في النفس: أنها تفرح بأخطاء منافسيها أكثر من فرحها بصوابهم؛ لأنها تريد نزولهم لا صعودهم، فهي ترى تأخرهم يقدمها ولو كانت في مكانها، أما النفوس الزكية فهي التي تطلب أسباب الفضل، ولا تقصد الجاه بذاته، وإن أتاها تبعًا، حمدت الله واستعاذت من فتنته، واحتاطت من تغير القصد ولو بعد حين. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() بين النفس والعقل (3) حسام بن عبدالعزيز الجبرين تزكية النفس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]. إخوة الإيمان، كان حديثنا الجمعة الماضية حول النفوس وبعض شهواتها، وحديثنا اليوم عن تزكيتها؛ فالجنة جعلها الله جزاء لمن زكى نفسه؛ قال سبحانه: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 76]، والتزكية لها معنيان: الأول: التطهير وإزالة الخبث، والثاني: نماء الخير فيها. والنفس عباد الرحمن تزكو بفعل الطاعات وترك المعاصي والتوبة منها، وقد جاء في بعض العبادات خاصة النصُّ على التزكية فيها؛ ففي الصدقة قال سبحانه: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، وفي ذكر الله والصلاة قال سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: 14، 15]، وفي غض البصر والعفاف قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [النور: 30]، عباد الله، ومن المهم ذكر وسائل لتزكية النفس والتغلب على طبائعها وشهواتها؛ ومن أهمها: قوة الإيمان؛ فالإيمان إذا كان قويًّا، فإنه يضبط اندفاع النفس ويحول بينها وبين التغلب على العقل؛ لأن المؤمن يوقن بحق الله عليه في أمره ونهيه. ومن وسائل التغلب على النفس: العلم والخبرة؛ فإنهما كابحان لجماح الشهوات النفسية، وكلما كان الإنسان أعلم بعواقب شهواته، كان أقوى على حرمان نفسه من تلك الشهوات. ومن وسائل تزكية النفس: محاسبتها، ومما يعين على محاسبة النفس ومخالفة هواها إذا خالف الحق أن يعرف أنه كلما اجتهد في مجاهدتها اليوم استراح غدًا، وأن ربح بهذه التجارة سكنى الفردوس. ومن أعظم ما يعين على التغلب على النفس: الدعاء والاستعانة بخالق النفس أن يزكيها ويقيَ شرها؛ وفي الأدعية النبوية: ((اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها))؛ [رواه مسلم]، وقال أبو بكر: يا رسول الله، مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: ((قل: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشَرَكِهِ، قله إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك))؛ [أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والترمذي]، ويقول في خطبة الحاجة: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا)). ومن أعظم الأسباب لتزكية النفس: البيئة الطيبة والرفقة الصالحة؛ ففي حديث الذي قتل مائة نفس وتاب قال له العالِم: ((انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء))؛ [مسلم]، وثمامة بن أثال رُبط في سارية المسجد وهو كافر وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعطَ منه ما شئت، ثم قال: سأله اليوم الثاني مثل ذلك وأجاب بمثل جوابه، وفي اليوم الثالث كذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أطلقوه فأطلقوه، ثم ذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل وجاء فأعلن إسلامه))، لقد عاش قبيل إسلامه في بيئة طيبة إيمانية في المسجد؛ حيث الصلاة والأذان، والذكر والقرآن، والدعاء ونحو ذلك. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، واستغفروا الله إنه كان غفارًا. ♦♦♦♦ الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: أيها الأحبة، فغذاء الجسد الطعام والشراب، وغذاء الروح الإيمان والذكر، وأعظمه القرآن؛ ولذا والله أعلم سمى الله القرآن روحًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52]، وقال عز وجل: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، أما حين تكون النفس خالية معرضة عن ذكر الله، فإنها تشقى؛ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]. ومن رحمة الله وحكمته أن شرع للعباد التوازن وعدم تحميل النفس ما لا تطيق؛ كما في الحديث: ((إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه))؛ [البخاري]. أيها الأحبة، والإنسان مأمور بالحفاظ على قرار نفسه وسلامتها من الأعراض السيئة؛ كالغضب والحزن الذي لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة؛ وقد جاء في القرآن مواضع كثيرة تنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن: ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ [آل عمران: 176]، ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ﴾ [يونس: 65]، ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ﴾ [لقمان: 23]، ونوديت مريم: ﴿ أَلَّا تَحْزَنِي ﴾ [مريم: 24]، وأخبر سبحانه عن مقصد الشيطان من النجوى: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المجادلة: 10]، واستقرار النفس نعمة؛ لأن كمال أداء العقل والجسد مرتبط بذلك؛ ولذا استوجب ذهاب الحزن شكر الله على ذلك: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ [فاطر: 34]، واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن كما في الصحيح، ورغب النبي عليه الصلاة والسلام من وحشي قاتل عمه حمزة أن يغيبَ عنه؛ لئلا يجدد عليه حزنه، والله أعلم. ومن حزن ولم يقترن بحزنه محرم، لا يأثم؛ كمن يحزن على المصائب؛ كما في الحديث: ((إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم))؛ [أخرجه الشيخان]، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84]؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه، ويحمد عليه، ويكون محمودًا من تلك الجهة، لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا، فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد، وجلب منفعة، ودفع مضرة منهيٌّ عنه"؛ [الفتاوى (10/ ص: 16)]، وقال الشاعر: والنفس كالطفل إن تهمله شب على ![]() حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ ![]() وخالف النفس والشيطان واعصهما ![]() وإن هما محضاك النصح فاتهمِ ![]() ولا تطع منهما خصمًا ولا حكمًا ![]() فأنت تعرف كيد الخصم والحكمِ ![]() أستغفر الله من قول بلا عمل ![]() لقد نسبتُ به نسلًا لذي عقمِ ![]() وبعد، عباد الله صلوا وسلموا على خير البرية.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |