مشكلات الحدود في البيوت والأراضي بين الجيران: صورها وأسبابها وعلاجها - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كيف تعاتب دون إحراج؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          خواطر ومواقف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          الهدف من حياتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 5825 )           »          قل مع الكون: لا إله إلا الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 6 - عددالزوار : 1350 )           »          إلى من يجهله ويطعن فيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 2738 )           »          قواعد في الدعوة إلى الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 6 - عددالزوار : 1484 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 9929 )           »          الوجود الإسرائيلي في إفريقيا دوافعه وأدواته- نظرة تاريخية (1) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 80 )           »          صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 2783 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-08-2023, 11:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,167
الدولة : Egypt
افتراضي مشكلات الحدود في البيوت والأراضي بين الجيران: صورها وأسبابها وعلاجها

مشكلات الحدود في البيوت والأراضي بين الجيران: صورها وأسبابها وعلاجها
عبدالله بن عبده نعمان العواضي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:
أيها المسلمون، لقد عظَّم شرعنا الحنيف حق الجار أيما تعظيم، ودعا في خطابي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إلى الإحسان إليه وتكريمه، ونهى عن إيذائه والتعدي عليه، فقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: 36]، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)[2].

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها؟ قال: (لا خير فيها، هي في النار)، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار-اللبن المجفف- وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي أحدًا، قال: (هي في الجنة)[3].

عباد الله، لقد كان العرب السابقون في الجاهلية وفي الإسلام كذلك يحفظون للجار حقه، ويبتعدون عن إيصال الأذى إليه، وأشعارهم وقصصهم وأخبارهم في ذلك لا تُحصى، من ذلك قول حسان:
فما أحدٌ منا بمُهْدٍ لجارِهِ
أذاةً ولا مُزرٍ به وهو عائدُ
لأنَّا نرى حقَّ الجوارِ أمانةً
ويحفظُهُ منَّا الكريمُ المعاهدُ[4]



وقول الخنساء تمدح أخاها صخرًا بحمايته جاره:
وجارُكَ محفوظٌ منيعٌ بنجوةٍ
من الضيمِ لا يؤذى ولا يتذلل[5]





غير أن بعض المسلمين قصَّروا في حقوق الجوار، فظهرت اليوم مشكلات بينية بينهم أدى بعضها إلى نتائج سيئة، وعواقب وخيمة، ألا وإن من تلك المشكلات المستمرة الوقوع: مشكلة الحدود في البيوت والأراضي بين الجيران؛ الجيران في الديار والأبنية، والجيران في الأراضي غير المبني فيها، والجيران في المحلات التجارية والأسواق.

هذه المشكلة التي أدت إلى الكراهية والحقد، والتقاطع والهجران، والخوف والهم، وكدر الحياة وضيقها، وبذاءة القول وسوء الخطاب، والنميمة والغيبة والتجسُّس؛ بل وصلت الحال أحيانًا إلى العراك والجراح والقتل.

فما أبرز صور هذه المشكلة، وما الأسباب التي أدت إليها، وما علاجها؟
عباد الله، إن من صور هذه المشكلة: تغيير معالم الحدود بين الأراضي والبيوت.

فعلامات التمييز بين الأملاك قد تكون واضحة بمعالم يمكن تغييرها ونقلها كالأحجار والأخشاب ونحوها، فيقوم بعض الجيران -ممن قَلَّ خوفُهم من الله- بنقل المعلَم على الملكين من مكانه إلى غيره بتقديم أو تأخير ليتَّسع ملكه ويضيق ملك جاره، أو يسعى إلى تزوير أوراق توثيق الملكية بتغيير معالم الحدود.

وهذا الفعل ظلم وغصب لملك الناس، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، ملعون فاعله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ)[6]، وفي رواية: (وَلَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ).

ومن صور هذه المشكلة كذلك: السطو على نصيب الجار وأخذه قهرًا؛ إما لغياب الجار وبعده عن أرضه، وإما لضعفه وعدم قدرته على دفع الاعتداء على ملكه.

فهناك جيران سوء لا يردعهم إيمان ولا خوف ولا خلق كريم عن أخذ أموال جيرانهم بغيًا، ولا يفكرون في عواقب هذا الظلم، ولا يعتبرون بأحداث الحياة وتقلُّباتها.

فماذا سيستفيد الجار المتعدي على أرض جاره فأخذ مترًا أو مترين أو مئة أو مئات من الأمتار وهو يعلم أنه سيموت وبعد ذلك سيحاسب على تعديه وظلمه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنِ اقْتَطَعَ أَرْضًا ظَالِمًا، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)[7]، وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)[8].

وبعض الجيران الظلمة قد لا يكون له قوة يستطيع بها أخذ حق جاره، ولكنه يلجأ إلى اليمين الكاذبة، والحيل المُحرَّمة حتى يتملك من نصيب جاره، لا سيما إذا رفعت القضية إلى المحكمة.

فإلى كل جار وصل إلى ملك جاره بيمين كاذبة اسمع ما يقول رسول الله: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)[9].

واسمعوا هذه القصة ليعتبر من أراد أن يعتبر، وينزجر بها باغي الشر إذا شاء أن ينزجر، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، اللهُمَّ، إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، قَالَ: "فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا "[10].

ومن صور هذه المشكلة: تصرف الجار في ملك جاره بغير إذنه بل بما يؤذيه أو يضر ملك جاره أو يضيق عليه؛ كتصريفه مياه الصرف الصحي ومخلفات البناء وفضلات الطعام والغسيل وغير ذلك إلى أرض جاره، مستغلًّا بذلك ضعف جاره أو غيابه، ولو كانت الأرض أرضه لما رضي بذلك من غيره فيها.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ)[11].

ومن صور هذه المشكلة: منع الجار من الانتفاع بجدار جاره بما لا يضر المالك؛ كأن يمد إليه أو عليه خشبة، أو موصل كهرباء، أو قناة ماء صغيرة، وغير هذا مما ينتفع به الجار المحتاج، ولا يتضرر به الجار المالك.

والسماح بهذا من المعروف المأجور عليه، ومن حق الجار على جاره، وقد دل على هذا قول رسول الله عليه الصلاة والسلام وحكم الصحابة رضي الله عنهم؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ)، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ"[12].

عَنْ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا لَهُ مِن الْعُرَيْضِ، فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ؟ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَلَا يَضُرُّكَ، فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَدَعَا عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ؟ تَسْقِي بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَهُوَ لَا يَضُرُّكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ[13].

وبعض الجيران قد تُتلى عليه هذه النصوص فلا يستجيب لها، ولكن انظروا حال من يقف عند نصوص الشرع وينقاد لها إذا بلغته دون تردد.

فقد روى أحمد وابن ماجه والبيهقي بإسناد حسن عن عِكْرِمَةَ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ أَخَوَيْنِ حلف أحدهما أَلَّا يَغْرِزَ خَشَبًا فِي جِدَارِهِ، فَأَقْبَلَ مُجَمِّعُ بْنُ يَزِيدَ وَرِجَالٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ) فَقَالَ الحالفُ: "يَا أَخِي، إِنَّكَ مَقْضِيٌّ لَكَ عَلَيَّ، وَقَدْ حَلَفْتُ، فَاجْعَلْ أُسْطُوَانًا دُونَ حَائِطِي أَوْ جِدَارِي، فَاجْعَلْ عَلَيْهِ خَشَبَكَ، فَفَعَلَ الْآخَرُ، فَغَرَزَ فِي الْأُسْطُوَانِ خَشَبَةً.

أرأيتم كيف استجاب الحالف للنص بعد أن بلغه، وهكذا الإيمان يصنع بصاحبه.

أيها الإخوة الكرام، إن حصول هذه المشكلة بين الجيران في الصور السابقة ونحوها لها أسباب تؤدي إليها، فمن تلك الأسباب:
الجهل بالحكم الشرعي في تلك المسائل، فبعض الناس لا يعرف ما يجب عليه نحو جاره، وما ينهى عنه معه، وقد يعرف الحكم الشرعي ولكنه يجهل العقوبة وعظم خطرها.

ومن الأسباب أيضًا: ضعف الإيمان وقلة الخوف من الله تعالى، فمن كان مؤمنًا وعنده خوف من ربه وعقابه؛ فإنه لا يظلم أحدًا ويستمر على ظلمه بلا توبة، فكيف بظلم جاره والعدوان عليه؟!

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ) قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ)[14].

ومن الأسباب كذلك: شدة الحرص على الدنيا والغفلة عن الآخرة، فكم ساق حب الدنيا صاحبه إلى ركوب الخطايا، وكم جرت الغفلة عن الآخرة أهلها إلى اقتراف ما يوبقهم فيها، فوالله لو سَلب ذلك المعتدي الدنيا كلها فكم سيتمتع فيها، وما ربحه منها وهناك حساب عسير ينتظره!

ومن الأسباب التي أدت إلى نشوب المشكلات بين الجيران على حدود البيوت والأراضي: قلة التحرِّي عند الشراء لمعرفة المالك الحقيقي وحدود ملكه مع جيرانه، فقد يشتري إنسان أرضًا دون أن يتحرَّى فيظهر مالك جديد، ويدَّعي جار أن له نصيبًا من تلك الأرض، وهذا سبب كثير الوقوع.

ومن الأسباب كذلك: قلة إحكام توثيق الشراء، وتوثيق حدود العَقار المشترَى، أو التسويفُ والإهمال للقيام بذلك التوثيق، وحين تستعر نار الخصومة يدرك حينئذٍ المهمل والمسوِّف أهمية التوثيق التام.

ومن الأسباب أيضًا: التخلي عن الأخلاق الكريمة، والتقوِّي بعزة المال والرجال والقبيلة أو النفوذِ السلطوي، لا سيَّما إذا كان الجار المظلوم رقيق الحال قليل المال، ضعيف الرجال، مع أن أصحاب الأخلاق الكريمة لا يظلمون الجار ولو كان ضعيفًا، بل يصير بهم قويًّا عزيزًا، كما قال الشاعر:
تُعَيِّرُنَا أنَّا قَليلٌ عَديدُنا
فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَمَا ضَرَّنا أنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا
عَزِيْزٌ وَجَارُ الأكْثَرِيْنَ ذَلِيْلُ


وقال الآخر:
وإنَّ هوانَ الجَارِ للجَارِ مُؤلِمٌ
وفاقرةٌ تأوي إليْها الفَوَاقِرُ


نسأل الله أن يجعلنا من الواقفين عند حدوده، العاملين بشرائع دينه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله رب الورى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأوفياء، أما بعد:
أيها المسلمون، إن هذه المشكلة التي تحصل بين بعض الجيران في حدود الأرضين والبيوت مشكلة مجتمعية كثيرة الحدوث، وإذا لم تحل فستؤدي إلى نتائج سيئة؛ لذلك كان من الحزم والعقل أن نضع أمورًا تحول دون وقوعها، أو تخفف بعض صورها، وأن نذكر حلولًا تعالج ما قد حصل منها.

فمن الأمور المُهِمَّة التي تريح الجار من قوع هذه المشكلة: أن يتحرَّى قبل شرائه أمورًا:
الأول: صحة ملك الأرض لمن سيبيعها له، أو سلامة وكالته عليها.
الثاني: كونها ليس فيها مشكلات بين ورثة أو جيران أو مالكين.

والثالث: أن يسأل عن جيران الأرض التي يرغب في شرائها، فإن كانوا جيران سوء بحث عن أرض أخرى، فالجار قبل الدار، قال الشاعر:
اطلبْ لنفسِك جيرانًا توافقُهمْ
لا تصلحُ الدارُ حتى يصلحَ الجارُ.


ومن الأمور المهمة كذلك: توثيق ملك الأرض أو البيت بما يتضح به الحق، ويتميَّز ولا يبقى فيه لبس مع جار أو مالك، وتركُ الإهمال والتسويف والتأخير لذلك، فالحزم مطية السلامة من الندامة.
وَخَلِّ الهُوَيْنَى لِلضَّعِيْفِ وَلَا تَكُنْ
نَؤُوْمًا فَإِنَّ الحَزْمَ لَيْسَ بِنَائِمِ

ومن سبل الوقاية كذلك: العلم بأن مال الإنسان معصوم لا يحل لأحد أن يتعدى على شيء منه ظلمًا ولو كان يسيرًا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)[15].

ومتى كانت الأرض أو البيت أو جزء منه قد أُخِذ بالظلم فإنه لا يحل البقاء فيه؛ بل أبطل بعض العلماء الصلاة فيه؛ لكونه مغصوبًا.

ومن سُبُل الوقاية كذلك: الخوف من الله تعالى ومن عقوبته على ذنب الاعتداء على حق الجار، وعلى إيذائه، فمَن تسوُّل له نفسه السطو على حق جاره فليتذكَّر عقاب الله تعالى؛ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)[16]، وعَنْ ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)، قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَكَ بَيِّنَةٌ)، قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: (احْلِفْ)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77] [17].

عباد الله، إذا حصل الخلاف بين الجيران على الحدود فليكن شرع الله تعالى، وتحكيم العقل، والتفكر في العواقب السيئة للظلم على البال، والرجوع إلى العرف الحميد وما جرت به عادة الناس نوع من الحلول ما لم يخالف شرع الله تعالى.

وإذا اشتدَّ الخصام وخيف سوء مغبته، فتنازلُ الجارِ عن بعض حقه لجاره إذا لم يكن فيه ضرر كبير عليه؛ حل مناسب؛ فقد اختلف الزبير بن العوام رضي الله عنه مع جار له على سقي أرضيهما، وكان الحق للزبير أن يستوفي نصيبه من الماء حتى يرجع الماء من الجدار، ولكن رسول الله طلب من الزبير أن يتنازل عن بعض حقه، فقال له: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إلى جَارِكَ)[18].

أخيرًا نقول لكل آخذٍ حق جاره ظلمًا عُرف الجار أم لم يعرف، وسواء أخذه الظالم بقوة أم بحيلة أم بيمين أم بقضاء لم يوافق الصواب، نقول له: اعلم أن قوتك وحيلك وسلطانك ومالك لن ترد عنك أثر دعوة المظلوم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)[19].

وتذكر جيدًا ما أعَدَّ الله لظلمة الأراضي يوم القيامة من العقوبة؛ قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)[20]، وقال: (مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إلى سَبْعِ أَرَضِينَ)[21]، وقال: (أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِن الْأَرْضِ، كَلَّفَهُ اللهُ - عز وجل - أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرَضِينَ، ثُمَّ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إلى الْمَحْشَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ)[22].

فاتقوا الله -عباد الله- في الأراضي والبيوت أن يدخل في نصيبكم منها حق لجار أو غيره ظلمًا.

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ- وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، اجْتَنِبِ الأَرْضَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)[23].

وليراجع نفسه كُلُّ من كان لديه حق لمظلوم من أرض أو بيت أو حانوت أو غيرها، قبل أن يؤديه يوم القيامة من حسناته، فإن فنيت حسناته حمل من سيئات مظلوميه.

نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، ويغنينا بفضله عمَّن سواه، وأن يميتنا وليس في رقابنا مظلمة لمخلوق.

هذا وصلوا وسلموا على خير الورى.

[1] ألقيت في جامع الشوكاني في: 4/ 1/ 1445هـ، 22/ 7/ 2023م.

[2] متفق عليه.

[3] رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح.

[4] ديوان حسان بن ثابت (ص: 58).

[5] ديوان الخنساء (ص: 90).

[6] رواه مسلم.

[7] رواه مسلم.

[8] رواه البخاري.

[9] رواه مسلم.

[10] رواه مسلم.

[11] رواه البخاري.

[12] متفق عليه.

[13] رواه مالك والشافعي والبيهقي، وهو صحيح.

[14] رواه البخاري.

[15] رواه أحمد والبيهقي والطبراني في الكبير، وهو صحيح.

[16] رواه مسلم.

[17] متفق عليه.

[18] متفق عليه.

[19] متفق عليه.

[20] متفق عليه.

[21] رواه البخاري.

[22] رواه أحمد وابن حبان، وهو حسن.

[23] متفق عليه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 69.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 67.43 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]