«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 294 - عددالزوار : 42106 )           »          أفضل الكلام وأحبه إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 174 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 15418 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 15924 )           »          السؤال عن علة الحكم مرفوض فى الشريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          الإجماع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          المقدمات المحتاج إليها قبل النظر ​ فى علم أصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          فقه المآل بين أهل الظاهر وغيرهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          السنن تنقسم ثلاثة أقسام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          من قواعد الإجتهاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-07-2025, 01:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [آل عمران: 69 - 74].

1- منة الله تعالى على هذه الأمة بفضح أعدائها من أهل الكتاب وبيان مكرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ الآيتين.

2- شدة عداوة أهل الكتاب للمسلمين ومودتهم إضلالهم بغيًا منهم وحسدًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].

3- علِم الله - سبحانه وتعالى - بما تنطوي عليه القلوب وما تكنه الضمائر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ ﴾، والمودة محلها القلب.

4- وجوب الحذر من أهل الكتاب وخداعهم ومكرهم؛ لأنهم يودون إضلال المسلمين وصدهم عن دينهم، وأن يتبعوهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

5- أن ما عليه أهل الكتاب، وما يودونه من إضلال المؤمنين هو إضلال لأنفسهم، ووبال ذلك وعقوبته عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، وفي هذا تثبيت لقلوب المؤمنين وطمأنة لهم.

6- أن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان، ومن حفر لأخيه حفرة وقع فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾.

7- عدم شعور أهل الضلال والإضلال بأنهم إنما يضلون أنفسهم بسبب انطماس بصائرهم وعمى قلوبهم، فيرون الضلال هدى، والباطل حقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، وصدق الله العظيم: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].

8- الإنكار الشديد على أهل الكتاب وتوبيخهم على كفرهم بآيات الله، وهم يشهدون؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾.

9- أن كفر أهل الكتاب وبخاصة اليهود لم يكن عن جهل بل عن علم وشهادة؛ ولهذا شدد النكير عليهم.

10- كفر أهل الكتاب بآيات الله كلها حتى لو ادَّعوا الإيمان بما جاء في كتبهم؛ لأن كفرهم بالقرآن كفر بما جاء في كتبهم؛ لأنها مبشرة بالقرآن.

11- مخادعة أهل الكتاب ولبسهم الحق بالباطل تمويهًا على الناس، وإنكار الله عليهم وتوبيخه لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾.

فيخلطون مع الباطل بعض الحق، ويُلبسون الباطل ثوب الحق، ويتكلمون بما ظاهره الحق وهم يبطنون الباطل.

12- أن الناس بفطرهم السليمة يقبلون الحق، ويرفضون الباطل، ولهذا يُلبِّس عليهم هؤلاء بإلباس الباطل ثوب الحق.

13- الإنكار على أهل الكتاب في كتمانهم الحق وهم يعلمونه، ومن ذلك كتمانهم ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

14- أن كتمان الحق مع العلم به أشد وأشنع.

15- ينبغي الحذر من خداع أهل الكتاب ومكرهم وتمويههم، ومن مسالكهم من لبس الحق بالباطل وكتمان الحق مع العلم به.

16- كيد أهل الكتاب للمسلمين لصدهم عن دينهم وإخراجهم منه بشتى الحيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.

17- إقرار أهل الكتاب بأن الله أنزل آيات على الذين آمنوا؛ لقولهم: ﴿ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

18- أن في أهل الكتاب منافقين؛ لقولهم: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾؛ أي: آمنوا ظاهرًا ونفاقًا، وليس مقصودهم الإيمان، إذ لو كان مقصدهم الإيمان الحق ما أمروهم بالكفر آخر النهار.

19- تعصب أهل الكتاب لدينهم مع ضلالهم وبطلان ما هم عليه؛ لقولهم: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾.

20- أن التوفيق إلى الهدى بيد الله، وأن الهدى هداه- سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾.

فمهما حاول أهل الكتاب وغيرهم إرجاع المؤمنين عن دينهم وصد الناس عن الإسلام فلن يستطيعوا ذلك.

21- حسد أهل الكتاب لغيرهم وإعجابهم بأنفسهم وتكبرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54].

22- إيمان أهل الكتاب بربوبية الله تعالى، وبالبعث والحساب والتخاصم عند الله؛ لقولهم: ﴿ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾.

23- أن الفضل بيد الله والعطاء منه – سبحانه - يعطي من يشاء من عباده، لا راد لفضله؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

24- إثبات اليد لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ بِيَدِ اللَّهِ ﴾ وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها»[1].

25- إثبات الأفعال الاختيارية لله - عز وجل - المتعلقة بالمشيئة، كالإيتاء والعطاء والمنع، والبسط والقبض، والرضا والغضب، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

26- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

27- إثبات صفة الواسع لله - عز وجل - فهو - عز وجل - واسع الصفات كلها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾.

28- إثبات صفة العلم الواسع لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾.

29- أن الله - عز وجل - يختص برحمته الخاصة مَن يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

ومن ذلك ما خصَّ الله تعالى به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته من بعثته منهم، وإنزال القرآن الكريم عليه، ودين الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].

30- أن الله - عز وجل - يعطي مَن يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله.

31- أن الله - عز وجل - ذو الفضل العظيم، لا يقدر عظم فضله إلا هو، وهو العظيم سبحانه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.

[1] أخرجه مسلم في التوبة (2759).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-07-2025, 12:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:

﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 75 - 80].

قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

ذكر عز وجل في الآيات السابقة مودة طائفة من أهل الكتاب إضلال المؤمنين، وخيانتهم في الأمور الدينية من لبسهم الحق بالباطل، وكتمانهم الحق وكفرهم، ثم أتبع ذلك في ذكر خيانتهم في تعاملهم في الأمور الدنيوية استمرارًا بفضحهم، وبيان دخائلهم.

قوله: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ الواو: استئنافية، ﴿ مِنْ ﴾: تبعيضية.

﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ «مَن»: موصولة، أي: الذي إن تأمنه، و﴿ إِنْ ﴾: شرطية، و﴿ تَأْمَنْهُ ﴾: فعل الشرط، والخطاب في قوله: ﴿ تَأْمَنْهُ ﴾ لكل من يصلح خطابه، ﴿ بِقِنْطَارٍ ﴾: أي: على قنطار، فالباء بمعنى: «على»؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 11]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ [يوسف: 64]، و(القنطار): المال الكثير.

﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾: قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر: «يؤدِّهْ» بإسكان الهاء، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ يُؤَدِّهِ ﴾.

و﴿ يُؤَدِّهِ ﴾: جواب شرط مجزوم بحذف حرف العلة الياء؛ لأن أصله «يؤديه».

أي: يرده إليك من غير خيانة، كما في الحديث: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك»[1].

والمعنى: ومن أهل الكتاب من هو أمين إن أمنته على مالٍ كثير مهما كثر يؤدهِ إليك كاملًا من غير نقص ولا مماطلة، أي: هذه حال فريق منهم، وإذا كان لا ينقص من المال الكثير شيء مع أنه لو أخذ منه الشيء القليل لا يتبين، فأمانته على المال القليل أولى وأحرى.

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: ومِن أهل الكتاب من هو خائن، وهو الذي إن تأمنه بدينار لا يؤدهِ إليك، أي: الذي إن أمِنته على مالٍ قليل مهما قلَّ ولو كان دينارًا واحدًا لا يؤدهِ إليك، أي: هذه حال فريق منهم.

و(الدينار): هو الوحدة من النقد الذهبي، وهو المسمى بـ «الجنيه»، وأصله «دِنَّا» ووزنه أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراط ثلاث حبات شعير معتدلة، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.

﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ أي: لا يرده إليك.

﴿ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرع من أعم الأوقات أو الأحوال، أي: لا يؤده إليك في وقتٍ من الأوقات، أو في حالٍ من الأحوال إلا في وقت دوام قيامك عليه، أو في حال قيامك عليه بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك.

وإذا كان هذا صنيعه في القليل كالدينار ونحوه، ففي الكثير من باب أولى وأحرى.

وقدَّم الجار والمجرور ﴿ عَلَيْهِ ﴾ على متعلقه ﴿ قَائِمًا ﴾ للتأكيد، أي: إذا لم يكن قيامك عليه لم يرجع لك أمانتك.

وذكر القنطار والدينار من باب التمثيل فقط، فمثَّل للمال الكثير بالقنطار، ومثَّل للمال القليل بالدينار.

وقد قيل: «المأمون على الكثير هم النصارى؛ لأن الخيانة فيهم قليلة، والخائن في القليل هم اليهود؛ لأن الغالب عليهم الخيانة».

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ﴾ «ذلك»: إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله: ﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾.

﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ الباء: للسببية، أي: بسبب أنهم.

وضمير الجمع في «أنهم» يعود إلى معنى «مَن» في قوله: ﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾؛ أي: إن ترك هذا الفريق للأداء وخيانتهم الأمانة بسبب أنهم ﴿ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾؛ أي: بسبب قولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.

ويعنون بالأُميين «العرب»؛ لأنهم لا يقرؤون ولا يكتبون، كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]؛ يعني في العرب.

وكما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].

وقال صلى الله عليه وسلم: «نحن أمة أمية لا نكتُب ولا نحسب»[2].

والأُمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ كما قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78].

﴿ سَبِيلٌ ﴾: حرج أو مؤاخذة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93].

والمعنى: ليس علينا في ديننا في معاملة العرب، ومَن ليس من أهل الكتاب حرج ولا مؤاخذة في أكل أموالهم وأخذ حقوقهم وظلمهم، فيرون إعجابًا منهم بأنفسهم، واحتقارًا لغيرهم أن مَن سواهم لا حُرمة لهم، وقد أكذبهم الله تعالى في هذا المقال.

﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾، الجملة: مستأنفة، أي: ويفترون على الله الكذب بقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾؛ لأنهم ينسبون ذلك إلى الله تعالى وإلى دينه، أي: ليس علينا في ديننا، وفيما جاء في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا.

﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنهم يعلمون أنهم يكذبون فيتعمدون الكذب على الله تعالى، وفي الحديث: «إن يهود قوم بُهت»[3].

فجمعوا بين الخيانة وبين احتقار غيرهم، وبين الكذب على الله تعالى وهم يعلمون ذلك، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24].

قوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.

﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ ﴾ «بلى»: حرف جواب مختص بإبطال النفي، فهو هنا لإبطال ما نفوه بقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ وإثبات ضده، أي: بلى عليهم سبيل في الأُميين فلا يجوز لهم أكل أموالهم وظلمهم وأخذ حقوقهم.

و﴿ مَنْ ﴾: شرطية، ﴿ أَوْفَى ﴾: فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾، و﴿ أَوْفَى ﴾ فيها ثلاث لغات: «أوفى» بإثبات الهمزة، و«وفَّى» بحذف الهمزة مع تخفيف الفاء وتشديدها، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].

وجملة: ﴿ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ ﴾: استئنافية مقررة للجملة التي دلَّت عليها ﴿ بَلَى ﴾؛ حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يفِ بالعهود مطلقًا.

﴿ بِعَهْدِهِ ﴾: يُحتمل أن يعود الضمير في ﴿ بِعَهْدِهِ ﴾ إلى الله؛ لقوله قبله: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ؛ أي: بلى من أوفى بعهد الله، ويُحتمل أن يعود على ﴿ مَنْ ﴾؛ أي: بلى من أوفى بعهده الذي عاهد عليه.

أي: أتم عهد الله الذي عاهده عليه من الإيمان بالله وكتبه ورسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وامتثل ما أمر الله تعالى به من أداء الأمانة وغير ذلك، وأتم ما بينه وبين الخلق من عهود وعقود، وهي أيضًا مما أوجب الله الوفاء به، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40].

﴿ وَاتَّقَى ﴾ أي: واتقى الله في البعد عما نهى الله تعالى عنه من نقض العهود والأيمان، ونكثها، والخيانة.. وغير ذلك.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾: جواب الشرط «من»، وربط الفاء؛ لأنه جملة إسمية، أي: فإن الله يحب المتقين الذين اتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والوفاء بعهده وعدم نقضه.

وأظهر في موضع الإضمار، ولم يقل: «فإن الله يحبه»، بل قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾؛ لبيان علة الحكم؛ أي: يحبهم لتقواهم، وليعم هذا الحكم كل من اتقى فإن الله يحبه، إضافة إلى ما في الإظهار مقام الإضمار من تنبيه المخاطب.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

سبب النزول:
عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجرٌ؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان»، فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»؟ قلت: لا، فقال لليهودي: «احلف» قلت: يا رسول الله، إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ الآية»[4].

وعن عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعط؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ الآية»[5].

امتدح الله سبحانه وتعالى من أوفى بعهده واتقى الله، وبيَّن محبته للمتقين، ثم أتبع ذلك بذم ووعيد الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا في إشارة إلى أهل الكتاب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾، وهكذا كل من سلك طريقهم.

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾؛ أي: إن الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، والعهد: الميثاق والعقد.

و«عهد الله»: ما أخذه عليهم من الميثاق من الإيمان به، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وبيان ما عندهم من العلم في كتبهم في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، وقال تعالى: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].

وأيضًا ما بينهم وبين الخلق من عهود وعقود؛ فهي من عهد الله؛ لأن الله تعالى أوجب الوفاء بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].

﴿ وَأَيْمَانِهِمْ ﴾: معطوف على «عهد الله»، أي: ويشترون بأيمانهم، و«الأيمان» جمع (يمين) وهو الحلف، أي: ويأخذون بحلفهم وأيمانهم الكاذبة الفاجرة ثمنًا قليلًا.

والمعنى: إن الذين يعتاضون بعهد الله وبأيمانهم عوضًا زهيدًا من المال وحطام الدنيا ومتاعها الزائل، فينقضون عهد الله، وينكثون في أيمانهم، ويحلفون الأيمان الكاذبة من أجل ذلك، فيدَّعون ما ليس لهم ويحلفون على ذلك، وينكرون ما يجب عليهم ويحلفون على ذلك.

﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ «أولئك»: خبر «إنَّ» في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ﴾، والإشارة فيها إلى الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا.

و«الخلاق»: الحظ والنصيب؛ كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 200، 201].

فقابل عز وجل بين قوله: ﴿ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ وقوله: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ [البقرة: 202]، فدل على أن (الخلاق) هو النصيب.

والمعنى: أولئك الذين يشترون بعهدهم وأيمانهم ثمنًا قليلًا لا حظ ولا نصيب لهم في ثواب الدار الآخرة ونعيمها، وهذا يدل على كفرهم بسبب هذا العمل؛ لأنه لا يُنفى نصيب الآخرة إلا عمن كان كافرًا.

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، هذا معطوف على قوله: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾.

ونفي تكليم الله تعالى لهم في الآخرة ونظره إليهم، وتزكيته لهم هو من أعظم نصيب الآخرة الذي حرموه، ونصَّ عليه والله أعلم؛ لبيان عِظَم ما حُرِمُوه.

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: لا يكلمهم الله تعالى تكليم لُطف بهم ورضا عنهم، وبما يَسُرُّهم، كما في تكليم الله - عز وجل - للمؤمنين، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله - عز وجل - يُدْنِي الْـمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ»[6]، فيقرره بذنوبه، ويقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول عز وجل: «إِنِّي سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم»[7].

وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ قال: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟...» الحديث[8].

أما تكليم الله - عز وجل - لهؤلاء المذكورين وغيرهم من الكفار تكليم سخط وإهانة وتقريع وتوبيخ لهم، وبما يسوؤهم، فهو ثابت كما في قوله تعالى مخاطبًا أهل النار: ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108]، وغير ذلك.

﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾: قرأ حمزة بضم الهاء «إليهُم»، وقرأ الباقون بكسرها، أي: ولا ينظر إليهم نظر رحمة ورأفة.

﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي: يوم البعث والمعاد والحساب والجزاء، وسُمِّي يوم القيامة لقيام الناس فيه من قبورهم لرب العالمين، كما قال الله تعالى في سورة المطففين: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4 - 6]، ولقيام الحساب فيه، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].

ولقيام الأشهاد فيه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].

ولقيام العدل والقسط فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، والله تعالى لا ينظر إليهم نظر رحمة ورأفة لا في الدنيا ولا يوم القيامة، لكن حرمانهم من ذلك يوم القيامة أعظم عليهم؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وكرباته وعذابه.

﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾؛ أي: ولا يطهرهم مما تلبَسُّوا به من رجس الكفر ودنس المعاصي والذنوب، ولا يغفر لهم يوم القيامة، كما أنه لا يطهرهم في الدنيا بسبب كفرهم وعدم إيمانهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110].

﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: وهو عذاب النار، والعذاب: النكال والعقوبة.

﴿ أَلِيمٌ ﴾: على وزن «فعيل» بمعنى «مفعل»، أي: مؤلم موجِع حسيًّا ومعنويًّا، فرتب الله تعالى على هذا الفعل- وهو الشراء بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا - خمس عقوبات.

وهي: حرمانهم من أي نصيب في الآخرة، ومن تكليم الله لهم تكليم رضا، ومن نظر الله لهم نظر رحمة ورأفة وعطف، ومن تزكية الله لهم، مع توعدهم بالعذاب الأليم.

فهؤلاء وإن نالوا باستبدالهم بعهد الله وأيمانهم قليلًا من حطام الدنيا ومتاعها الحقير الفاني، فقد حرموا نصيب الآخرة التي هي دار الحياة الحقة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28-07-2025, 12:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 75-80].

1- أن من أهل الكتاب من هو أمين، لو ائتمَن على مال مهما كثر أدَّاه كاملًا من غير نقص، وأن منهم من هو خائن لو اُؤتِمن على أقل القليل من المال لم يؤدِّه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾.

2- إنصاف القرآن لأهل الكتاب، وبيانه أن منهم من هو أمين لو اُئتِمن على مالٍ مهما كثر أدَّاه كاملًا ولم يُنقِص منه شيئًا، وذمِّهِ لفريق منهم وهم الخونة.

3- أن من كان أمينًا عل المال الكثير لا يُنقِص منه شيئًا مع كثرته التي قد لا يظهر معها النقص القليل، فهو من باب أولى أمين على المال القليل الذي يظهر فيه أدنى نقص منه.

4- أن مَن لم يكن أمينًا على المال القليل الذي يظهر أدنى نقص منه فهو من باب أَولى لا يؤمن على المال الكثير الذي قد لا يظهر النقص القليل منه.

5- جواز التعامل مع أهل الكتاب. وقد توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير[1].

6- ينبغي الحذر في التعامل مع أهل الكتاب؛ لأن منهم من طُبِع على الخيانة وعدم الأمانة؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾.

وهكذا كل من يخشى خيانته ينبغي مراقبته، والقيام عليه حِفظًا للأموال والحقوق.

كما يجب الحذر منهم أشدَّ فيما يتعلق بمسؤوليات المسلمين ومصالحهم العامة، فلا يجوز الاعتماد عليهم في شيءٍ منها، ولا الثقة بهم؛ لأنهم حرب للإسلام وأعداء للمسلمين منذ عهد الرسالة، مهما أظهروا خلاف ذلك، قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].

ولهذا رُوِيَ أن أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - وكان واليًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إلى عمر في تولية كاتب نصراني في بيت المال، فكتب له عمر - رضي الله عنه - بعزله، وقال له: كيف تأمن من خوَّنه الله؟! فكتب له أبو موسى في شأنه مرة ثانية، وأثنى بمعرفته الكتابة والحساب وأنه لا يوجد مثله، ونحو ذلك، فكتب عمر - رضي الله عنه - بطاقة لم يزد فيها على قوله: «مات النصراني.. والسلام»[2]؛ أي: افترض أن النصراني مات، هل يتعطل بيت المال أو يتعطل شأن الدولة الإسلامية؟! بمعنى أن المسلمين في غِنىً عنه، فرضى الله عنك يا عمر وأرضاك.

7- تكبَّر أهل لكتاب وإعجابهم بأنفسهم واحتقارهم لغيرهم؛ لقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.

8- أن العجب والتكبر قد يحمل على أذية الآخرين واحتقارهم وغمط حقوقهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطرُ الحق، وغمطُ الناس»[3]؛ أي: احتقارهم.

9- جرأة أهل الكتاب على الكذب على الله وهم يعلمون؛ حيث يقولون: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ؛ أي: إن الله أباح لنا شرعًا استباحة أموال الأُميين وظلمهم، وهذا كذب على الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

10- أن من حَكَم أو أفتى بغير ما أنزل الله، ونسَب ذلك إلى حُكم الله وشرعه فقد كذب على الله تعالى، وفيه شبه من أهل الكتاب.

11- أن من كذب على الله تعالى وهو يعلم؛ أشد عدوانًا وإثمًا ممن لا يعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: وهم يعلمون أنهم يكذبون ويتعمَّدون ذلك.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»[4]، والكذب على الله أشد وأعظم.

12- إبطال دعوى أهل الكتاب أنه ليس عليهم في الأُميين سبيل، لقوله تعالى: ﴿ بلى ﴾، أي: بلى عليهم سبيل ومُحاسبون في الاعتداء على الأُميين وعلى غيرهم.

13- الترغيب في الوفاء بالعهد، والثناء على أهله، وأنه من التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى ﴾.

14- الترغيب في تقوى الله، وأنها سببٌ لمحبة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.

15- أن خيانة الأمانة وعدم أدائها نقض للعهد ومنافٍ لتقوى الله.

16- إثبات صفة المحبة لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].

17- ذم أهل الكتاب وبخاصة أحبارهم وعلمائهم؛ لأخذهم بعهد الله وأيمانهم عِوضًا قليلًا، واستبدال الآخرة بالدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾.

وذلك أن الكلام معهم والسياق فيهم، وكما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

18- تهديد الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا من أهل الكتاب وغيرهم ووعيدهم بأشد العقوبات؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

فرتَّب على فعلهم هذا خمس عقوبات، كل منها في غاية الشدة، وهي:
حرمانهم من أي نصيب في الآخرة، ومِن تكليم الله تعالى لهم تكليم لطف ورضا، ومن نظر الله تعالى لهم نظر رحمة ورأفة، ومن تزكيته لهم، مع توعدهم بالعذاب الأليم.

وكل واحدة من هذه العقوبات تدل على كفرهم؛ لأنه لا يستحقها إلا من كان كافرًا.

19- التحذير من نقض عهد الله، والكذب في الأيمان، والاشتراء بها ثمنًا قليلًا، والتحذير لهذه الأمة وبخاصة علمائها من مسالك أهل الكتاب السيئة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجرٌ يقتطع بها مال امرئٍ مسلم بغير حق، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان»[5].

وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم»، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرارًا. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال «المسبل، والمنان، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب»[6].

20- يُفهم من قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ الآية: أن من وفوا بعهد الله ولم يشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا أن لهم نصيبًا في الآخرة، ويكلمهم الله وينظر إليهم يوم القيامة، ويزكيهم، ويقيهم العذاب الأليم، ولهم الثواب العظيم.

21- أن الحظ والنصيب حقًّا ما كان في الآخرة؛ لأنها هي دار الحياة الحقيقية كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64]، ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، ولم يقل: في الدنيا؛ لأن نصيب الدنيا مهما كان لا يساوي شيئًا بالنسبة للآخرة.

22- إثبات الدار الآخرة والقيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.

23- إثبات الكلام لله تعالى لأن نفي تكليمه لمن اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا يدل بمفهومه على ثبوت تكليمه لمن وفَّوْا ولم يشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا؛ لأنه - عز وجل - لو لم يكن يتكلم ويكلم هؤلاء ما كان لنفي تكليمه عن المذكورين فائدة، وما كان ذلك عقوبة لهم.

24- إثبات النظر لله - عز وجل - لأن نفي نظره تعالى إلى المذكورين يوم القيامة بقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ يدل بمفهومه على نظره إلى من كانوا بخلافهم.

25- عدم تزكية الله لهؤلاء المذكورين وعدم تطهيره لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، ومفهوم هذا تزكيته - عز وجل - لمن كانوا بخلافهم.

26- شدة عذاب المذكورين يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: أي: مؤلم حسيًّا ومعنويًّا.

27- أن العقوبات منها ما هو منع وحرمان من الخير كحرمان نصيب الآخرة والحرمان من تكليم الله تعالى ومن نظره وتزكيته، ومنها ما هو جلب شر وخزي كالعذاب الأليم.

28- أن مِن أهل الكتاب فريقًا يلوون ألسنتهم بتحريف ألفاظ الكتاب ومعانيه؛ ليظهر أن هذا المحرف من الكتاب، ويقولون هو من عند الله لإضلال الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

29- نفي أن يكون ما لوى به أهل الكتاب ألسنتهم وحرفوه من الكتاب، وأن يكون من عند الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾.

30- كذب أهل الكتاب وافتراؤهم على الله تعالى وهم يعلمون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

31- الوعيد والتهديد لأهل الكتاب لكذبهم على الله وهم يعلمون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وهو وعيدٌ لهم ولمن سلك طريقهم في الكذب على الله، ولبس الحق بالباطل.

32- أن الكذب على الله مع العلم والتعمُّد أشد ذنبًا ووعيدًا من الكذب بلا علم ولا تعمد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

33- النفي القاطع أن يدعو أحد ممن مَنَّ الله عليه بإعطائه الكتاب والحكم والنبوة إلى عبادة نفسه وطاعته من دون الله، وأن هذا لا يمكن أن يكون لا شرعًا ولا قدرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.

34- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بشرٌ من سائر البشر.

35- أن النبي من أُنزِلَ عليه الكتاب والوحي، وأُعطِيَ الحكم الشرعي بين الناس، والنبوة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ﴾.

36- أن الأنبياء عليهم السلام إنما يأمرون بطاعة الرب - عز وجل - وعبادته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾.

37- ينبغي أن يكون من يُعَلِّم الناس مُعَلِّمًا ربانيًا، يقرن بين التعليم، والتربية على العمل؛ لأن ثمرة العلم هي العمل والتربِّي به؛ لقوله تعالى: ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾.

38- إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.

39- أن علم الكتاب وتعليمه ومُدارسته له الأثر في كون صاحبه ربانيًا عابدًا لله مطيعًا له، مربيًا الناس على ذلك.

40- استحالة أن يدعو أحد من الأنبياء عليهم السلام إلى الإشراك بالله واتخاذ الملائكة والنبيين آلهة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ﴾.

41- الرد على المشركين من أهل الكتاب وغيرهم في اتخاذهم الملائكة والنبيين وغيرهم أربابًا من دون الله.

42- إثبات وجود الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ ﴾، والإيمان بهم ركن من أركان الإيمان الستة.

43- أن من قال للناس كونوا عبادًا لي من دون الله، وأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، فقد أمر بالكفر الـمُخرِج مِن الملة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

[1] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2916)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] انظر: «الكشاف» (1/ 344).

[3] أخرجه مسلم في الإيمان (91)، والترمذي في البر والصلة (1999)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3461)، والترمذي في العلم (2669)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

[5] أخرجه البخاري في الخصومات؛ كلام الخصوم بعضهم في بعض (2417)، ومسلم في الإيمان، وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3243)، والترمذي في البيوع (1269)، وابن ماجه في الأحكام (2323)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (106)، وأبو داود في اللباس (4087)، والنسائي في الزكاة (2563)، والترمذي في البيوع (1211)، وابن ماجه في التجارات (2208).







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 05-08-2025, 12:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ...َ ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 81 - 83].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ﴾ الواو: استئنافية، ﴿ وَإِذْ ﴾: ظرف بمعنى «حين»، متعلق بمحذوف تقديره «اذكر»، أي: اذكر يا محمد حين أخذ الله ميثاق النبيين، اذكره بنفسك ولأمتك ولأهل الكتاب، و«الميثاق»: العهد المؤكد، وسُمِّيَ العهد ميثاقًا لأن كلًا من المتعاهدين يتوثق به مع الآخر، كالوثاق وهو الحبل الذي يُشد به.

والمراد بـ﴿ النَّبِيِّينَ ﴾: ما يشمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وميثاق النبيين ميثاق على أممهم.

﴿ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

قرأ حمزة بكسر اللام «لـِما»، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ لَمَا ﴾، وقرأ نافع وأبو جعفر بنون العظمة ﴿ آتَيْناكُمْ ﴾، وقرأ الباقون بتاء المتكلم ﴿ آتَيْتُكُمْ ﴾.

واللام في قوله «لِـما» على قراءة فتح اللام: موطئة للقسم؛ لأن أخذ الميثاق في معنى اليمين، ويجوز كون اللام للابتداء، و«ما»: شرطية أو موصولة، أي: للذي آتيتكم.

أو لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة، أي: لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، ولتنصرنه، ولا يمنعكم ما أوتيتم من علم الكتاب والحكمة من ذلك.

وعلى قراءة كسر اللام تكون اللام للتعليل، و«ما»: مصدرية، أي: من أجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ولمجيء رسول مصدِّق لما معكم لتؤمنن به.

ويجوز كون «ما»: موصولة، أي: لأجل الذي آتيتكم، ولمجيء رسول مصدق، أي: شكرًا على إيتائي إياكم أو على الذي آتيتكم وعلى أن بعثت رسولًا مصدقًا لما معكم لتؤمنن به.

﴿ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾ «مِن»: تبعيضية، أي: بعض الكتاب والحكمة، وقيل: بيانية.

وقوله: ﴿ كِتَابٍ ﴾: كالتوراة والإنجيل.

﴿ وَحِكْمَةٍ ﴾ الحكمة: الشريعة، والحكم بها بين الناس.

﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم.

ويحتمل أن يشمل قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾ محمدًا صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل - عليهم السلام - بأن أخذ الله الميثاق على النبيين جميعًا بأن يؤمن المتقدم منهم بمن يأتي بعده ويُناصره، ويصدق بعضهم بعضًا[1].

وقوله: ﴿ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾؛ أي: مصدق لما معكم من كتب الله تعالى؛ كالتوراة والإنجيل وغيرهما، ببيان أنها حق من عند الله تعالى، وذلك باشتماله على ما يشهد بصدقها، وبكونه مصداق ما أخبرت به؛ حيث أخبرت هذه الكتب ببعثته صلى الله عليه وسلم؛ كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

فكانت بَعثته الله صلى الله عليه وسلم مصداق ما أخبرت به هذه الكتب، فكان بهذا مصدقًا لها.

﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾، اللام: واقعة في جواب القسم، فالجملة جواب القسم، ويجوز أن تكون اللام: موطئة للقسم، أي: لتصدقنه.

﴿ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾، أي: ولتُعِيْنُنَّه على تبليغ رسالته ونشرها، وعلى قتال أعدائه، فالنصر هنا يشمل نصره باللسان، والدعوة إلى الله، وبالسنان والعُدة والعتاد. والمراد: لتؤمنن به ولتنصرنه أنتم وأتباعكم.

﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾ أي: اعترفتم والتزمتم بذلك.

﴿ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾: معطوف على ما قبله؛ أي: وأخذتم على ذلكم عهدي، أي: ميثاقي الشديد المؤكد الثقيل، والإصر: العهد الثقيل، وجمعه: آصار؛ قال تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾؛ أي: اعترفنا والتزمنا بأن نؤمن به وننصره.

﴿ قَالَ فَاشْهَدُوا ﴾؛ أي: ليشهد كل منكم على نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173].

وأيضًا ليشهد بعضكم على بعض، واشهدوا على أممكم بذلك.

﴿ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾: على العهد الذي أخذته عليكم وعلى أُممِكم؛ قال تعالى: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79].

فاستشهَدهم عز وجل على أنفسهم، وعلى بعضهم، وعلى أُممهم على الميثاق الذي أخذه عليهم، وشهد عز وجل عليهم كلهم بذلك.

قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.

ذكر الله - عز وجل - أخذه ميثاق النبيين إن بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصُروه، وأن يؤمن بعضهم بعضًا، ويصدِّق بعضهم بعضًا، وإقرارهم وشهادتهم على أنفسهم بذلك، وشهادته تعالى عليهم، وهو ميثاق عليهم وعلى أُممهم، ثم أتبع ذلك ببيان حكم مَن تولَّى من أُممهم عن الالتزام بهذا الميثاق، وأنه من الفاسقين، وفي هذا تحذيرٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أهل الكتاب الموجودين في عهده صلى الله عليه وسلم من التولي عن الإيمان به ونُصرته.

قوله: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ الفاء: استئنافية، و«من»: شرطية، و﴿ تَوَلَّى ﴾: فعل الشرط، وجوابه جملة: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، ومعنى «تولي» أي: أعرض بقلبه وبدنه.

﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾؛ أي: بعد أخذ ميثاق الأنبياء، وتقريرهم، وإشهادهم على ذلك، وشهادة الله عليهم بذلك.

والمعنى: من تولى وأعرَض من أتْباع الأنبياء وأُممهم عن الإيمان بالرسل ونُصرتهم، وبخاصةً خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تبليغ أنبيائهم لهم بما أخذ من الميثاق عليهم في ذلك؛ ولهذا لم يقل: «فمن تولى بعد ذلك منكم»؛ كما قال في سورة المائدة في خطاب بني إسرائيل: ﴿ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12].

﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾؛ لأن الميثاق الذي أُخِذَ على الأنبياء ميثاق عليهم وعلى أممهم، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قطعة من التوراة غضب؟ فقال: «أمُتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاءَ نقية، لا تسألوهم عن شيء فيُخبروكم بحق، فتكذبوا به، أو بباطل فتُصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني»[2].

والفاء في قوله: ﴿ فَأُولَئِكَ ﴾ رابطة لجواب الشرط، والجملة جواب الشرط.

والإشارة في قوله: «أولئك» لـ «من» في قوله: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى ﴾؛ لأن معناها الجمع، وقد أُكِدت هذه الجملة بكونها اسمية مُعَرَّفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم».

أي: فأولئك الذين بلغوا غاية الفسق، و(الفسق): الخروج عن طاعة الله تعالى.

وهو نوعان: فسق مُخرِج من الملة وكفر؛ كما في قوله: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 12]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾ [السجدة: 18]، وفسق دون ذلك، لا يُخرِج من الملة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

والمراد بالفسق هنا في قوله: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾: الفسق المخرج من الملة، المؤدِّي إلى الكفر؛ لأن مَن تولَّى وأعرَض عن الإيمان بالرسل وتصديقهم ونُصرتهم - وخصوصًا خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم - فهو كافر.

قوله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾.

حذَّر عز وجل عن التولِّي والإعراض عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل ونُصرتهم؛ ثم أتبع ذلك بالإنكار على الذين يَبْغُون غير دين الله من أهل الكتاب وغيرهم، وقد أسلم له سبحانه الخلق كلهم وإليه مرجعهم.

قوله: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ﴾: الاستفهام للإنكار والتوبيخ.

والفاء: حرف عطف على ما سبق، وقد أخِّرت لتكون الصدارة لهمزة الاستفهام، والتقدير: «فأغير دين الله يبغون»، ويجوز أن يكون حرف العطف عاطفًا لما بعده على مقدر بينه وبين الهمزة، والتقدير: «أيتولون فغير دين الله يبغون؟».

و﴿ دِينِ اللَّهِ ﴾: شرعه الذي شرعه لعباده، وهو دين التوحيد والعدل والإسلام، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

وأضافه - عز وجل - إليه؛ لأنه سبحانه هو الذي شرعه، وهو الذي يجازي عليه، وتعظيمًا له وتشريفًا.

﴿ يَبْغُونَ ﴾: قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بياء الغيبة: ﴿ يَبْغُونَ ﴾، وقرأ الباقون بتاء الخطاب «تبغون»، والمعنى: أفغير دين الله وشرعه وحكمه يطلبون ويريدون، أو تطلبون وتريدون، والمراد بهذا أهل الكتاب وغيرهم ممن يبتغي غير دين الله.

﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنه أسلم له مَن في السماوات والأرض، وقدَّم الخبر: ﴿ لَهُ ﴾ للدلالة على الحصر والاختصاص، أي: وله وحده أسلم مَن في السماوات والأرض.

ومعنى «أسلم»: أي استسلم وانقاد كونًا، وليس المراد الاستسلام شرعًا؛ لأن الإسلام الشرعي لا إكراه فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256]، ولأن الإسلام الشرعي لا يعم كل مَن في الأرض، بل أكثرهم لا يُسلم.

و﴿ مَنْ ﴾: موصولة تدل على العموم، أي: جميع مَن في السماوات والأرض.

وفي التعبير بـ﴿ مَنْ ﴾ تغليب لجانب العقلاء تكريمًا لهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، ولأنهم هم المكلفون دون غيرهم، ولأنهم أكثر من غيرهم؛ لأن من بينهم الملائكة.

وفي الحديث: «أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط ما مِن موضع شبرٍ إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد»[3].

والسماوات أكبر من الأرض، بل السماء الدنيا أكبر من الأرض، وكل سماء أكبر من التي تحتها.

﴿ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾: منصوبان على الحال، أي: طائعين وكارهين، و«الطوع»: ما فُعِلَ بالاختيار، و«الكُره»: ما فُعِلَ بغير الاختيار؛ أي: استسلم له من فيها طوعًا وكرهًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 48 - 50].

فالمؤمن مستسلم لله تعالى طوعًا بقلبه وقالبه، والكافر مستسلم لله تعالى كرهًا، والخلق والكون كله مستسلم منقاد لله تعالى طوعًا؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾: قرأ حفص عن عاصم ويعقوب بياء الغيبة ﴿ يُرْجَعُونَ ﴾، والضمير على هذه القراءة يعود إلى الذين يبغون غير دين الله، أو إلى «من» في قوله: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، أو إليهما معًا، وهو أَولى.

فجميعهم إليه يرجعون، أي: يُرَدُّون يوم القيامة، فيُحاسبهم ويفصِل بينهم بحُكمه، من كان منهم من أهل التكليف أو غيرهم.

وقرأ الباقون بتاء الخطاب: «ترجعون» وفقًا لقراءة «تبغون»، فيعود الخطاب للذين يبغون غير دين الله، وفي هذا وعيدٌ وتهديد لهم.

وقدَّم المتعلق في قوله: ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ لإفادة الحصر والتخصيص، أي: وإليه وحده يرجعون، لا إلى غيره، فلله - عز وجل - استسلم كل مَن في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا في الدنيا، وإليه رجوعهم في الآخرة، فيُحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم، فكيف لعاقلٍ أن يبتغي غير دين الله ويعدل به غيره؟!!

[1] انظر: «جامع البيان» (5 /539-544).

[2] أخرجه أحمد (3 /387)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

[3] أخرجه الترمذي في الزهد (2312)، وابن ماجه في الزهد (4190)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-08-2025, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم






فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾[آل عمران: 81 - 83].

1- إثبات أخذ الله الميثاق على النبيين بأن يؤمن كلٌّ منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وينصره إن بُعِثَ في زمانه، وأن يصدِّق بعضهم بعضًا، وينصر بعضهم بعضًا، ويأخذوا ذلك على أقوامهم وأتباعهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ الآية.

2- امتنان الله - عز وجل - على الأنبياء عليهم السلام بما أعطاهم من الكتاب والحكمة، وتذكيرهم بذلك؛ ليؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه، وليؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضًا؛ إذ الواجب عليهم أعظمُ من غيرهم؛ لأن الواجب على قدر النعمة، ويتفرَّع على هذا أن المنة على العلماء أعظمُ من المنة على غيرهم؛ لأنهم ورثة الأنبياء، ولهذا فالواجبُ عليهم من القيام بأمر الله، وبيان الحق، والدعوة إلى الله أعظم من الواجب على غيرهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

3- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مُكلَّفون متعبَّدون كغيرهم من البشر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ﴾ الآية.

4- فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام؛ لأن الله - عز وجل - أخذ عليهم جميعًا الميثاق بالإيمان به، ونُصرته؛ فهو سيد الأنبياء وإمامهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وهو صاحب الشفاعة العُظمى، والمقام المحمود يوم القيام للفصل بين الخلائق.

5- تحذير أهل الكتاب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفته، والكفر بما جاء به، بتذكيرهم بهذا الميثاق.

6- تذكير النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بهذا الميثاق، والذي أخذه الله على الأنبياء بالإيمان به ونُصرته تشريفًا وتكريمًا له ولأمته.

7- تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لما مع الأنبياء من قبله؛ لاشتمال ما جاء به من الوحي على بيان صدق ما معهم، ولأن بَعثته صلى الله عليه وسلم مِصداق لما أخبرت به كتبهم، وتصديق بعضهم بعضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾.

8- فضل ما بُعِثَ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام على جميع الأديان؛ لأنه المصدِّق لها، والشاهد والمهيمن عليها، المشتمل على جميع أصول الشرائع السابقة.

9- تقرير الأنبياء بما أخذ الله عليهم من ميثاق، وإقرارهم جميعًا بذلك، وإشهادهم على أنفسهم وعلى أممهم، وشهادة الله تعالى عليهم بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ الآية.

10- أن ما أخذ الله من الميثاق على الأنبياء من الإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته وتصديق بعضهم بعضًا، هو ميثاق على أقوامهم وأتباعهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ؛ أي: فمن تولى من أقوام الأنبياء وأتباعهم بعد أخذ الميثاق على أنبيائهم، ولا يدخل في هذا التحذير الأنبياء؛ لأنهم أقرُّوا بهذا الميثاق، والتزموا به، وشهدوا بذلك على أنفسهم وعلى أقوامهم.

11- أن مَن تولى من أتباع الأنبياء عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته وغيره من الأنبياء، فهو من الفاسقين الخارجين عن الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، والمراد بالفسق هنا الكفر المخرج من الملة.

12- أن مَن تولى قبل البيان وقيام الحُجة لا يُحكم عليه بالفسق ولا يُؤاخذ؛ لقوله تعالى: ﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾.

13- التحذير من التولِّي والإعراض عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وعن اتباعه ومناصرته في دعوته باللسان والأبدان، وأن ذلك فسق وكفرٌ؛ عن عبد الله بن ثابت قال: «جاء عمر بن الحطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخٍ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ فقال: فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عبدالله بن ثابت: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا.

قال: فَسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «والذي نفس محمدٍ بيده، لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتَّبعتموه وتركتموني لضللتُم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين»[1].

وعن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلُّوا، فإنكم إما أن تصدِّقوا بباطل، أو تكذِّبوا بحقٍّ، فإنه لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ له إلا أن يتبعني»[2].

14- الإنكار الشديد على من يبتغي غير دين الله وشرعه وحكمه من أهل الكتاب وغيرهم، مع أن الملك والأمر كله لله؛ لقوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

15- تعظيم الله لنفسه بكمال ربوبيته وعموم ملكه وسلطانه، واستسلام جميع مَن في السماوات والأرض له طوعًا وكرهًا، وتعظيمًا لدينه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ الآية، فأضاف الدين إليه اهتمامًا به وتعظيمًا له.

16- أن مرجع كل مَن في السماوات والأرض إلى الله تعالى، فإليه إيابهم وعليه حسابهم، والحكم والفصل بينهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾، فله استسلَم وانقاد جميع مَن في السماوات والأرض في الدنيا، وإليه رجوعُهم جميعًا في الآخرة.

17- الوعيد والتهديد لمن يبغون غير دين الله من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾.

18- فضل الله تعالى وحكمه بين الخلق، ومجازاة أهل التكليف منهم بما عمِلوا، والوعد لمن آمَن بالله، والوعيد لمن كفر بالله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾.

[1] أخرجه أحمد (4/ 265).

[2] أخرجه أحمد (3/ 387)، وذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 56)، ونسَبه إلى الحافظ أبي بكر.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26-08-2025, 12:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 84 - 92].

قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

ذكر عز وجل في الآيات السابقة أخذه ميثاق الأنبياء بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونُصرته هم وأممهم، وأنكر على من يبغون غير دين الله، ثم مقابل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس من أهل الكتاب وغيرهم: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ الآية.

فكما أخذ ميثاق النبيين وأممهم بالإيمان به وبرسالته، كذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بإيمانه هو وأمته بما أنزل على النبيين قبله، وأن يقول لمن ابتغوا غير دين الله وغيرهم ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ الآية، وهذه الآية شعار الإسلام.

قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾: الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر له ولأمته، كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ [البقرة: 136].

ولهذا جمع الضمير في قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾، وقوله: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.
والإيمان بالله يتضمن التصديق والإقرار بوجوده، وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: موصولة، أي: وآمنا بالذي أُنزِل علينا من الوحي، أي: بالقرآن والسنة؛ لأن كلًّا منها وحي مُنَزَّل من عند الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [البقرة: 231].

وقال هنا: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية، وقال في آية البقرة: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [البقرة: 136]، فباعتبار مبدأ الإنزال عُدي بـ«على»؛ لأنه من أعلى ومن فوق، وباعتبار انتهاء الإنزال إلى المنزَّل عليه عُدي بـ«إلى».

وقدَّم الأمر بالإيمان بالمنزل على هذه الأمة في الآيتين تعظيمًا له واعتناءً به.

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي: وآمنا بالذي أُنزِل على إبراهيم عليه السلام - وهو أبو الأنبياء - من الصحف؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 36، 37]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾؛ أي: وآمنا بالذي أنزل على إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وهؤلاء وإن لم تصل إلينا كتبهم، فنؤمن بأن الله أنزل عليهم؛ لأن الله أخبرنا بذلك.

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾: هو إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام- وهو الابن الأول لإبراهيم، وهو الذي ابتلى الله إبراهيم بالأمر بذبحه فاستسلما معًا لأمر الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُسَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات:102-107].

وهو أبو العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأفضل الرسل - عليهم السلام، فقدَّم ذِكر «إسماعيل» لسبقة زمنًا وفضلًا، فهو أكبر من «إسحاق» وهو أفضل منه؛ لأنه أب لأفضل الرسل وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾: هو إسحاق بن إبراهيم الابن الثاني لإبراهيم - عليهما السلام - ومن فضله أن جل الأنبياء بعده من ذريته.

﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾: هو يعقوب بن إسحاق - عليهما السلام - ويلقَّب «إسرائيل»، ومعناه «عبد الله»، وهو الذي يُنسب إليه بنو إسرائيل.

﴿ وَالْأَسْبَاطِ ﴾: جمع سِبط، وأصل السبط في اللغة ابن البنت، ولهذا يقال للحسن والحسين - رضي الله عنهما - سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قيل: المراد بـ «الأسباط» أحفاد إبراهيم أبناء ابنه يعقوب الاثنا عشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4].

وعلى هذا يكون أولاد يعقوب كلهم أنبياء، وقد قال تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

وقيل: المراد بـ «الأسباط» بطون بني إسرائيل الذين فيهم الأنبياء، فيكون التقدير: وما أنزل على أنبياء الأسباط؛ قال تعالى: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾ [الأعراف: 160].

وخصَّ هؤلاء المذكورين؛ لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم.

﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾؛ أي: وآمنا بالذي أوتيَ موسى وعيسى، أي: بالذي أنزل إليهما من الوحي والآيات الشرعية في التوراة والإنجيل، ومن الآيات الكونية التي أُعطيها كل منهما.

ولعل السبب في التعبير بقوله: ﴿ وَمَا أُوتِيَ ﴾ بدل، «وما أنزل» للإشارة إلى الآيات الكونية التي أعطاها الله كلًّا منهما، والتي بقي ذكرها إلى نزول القرآن؛ لأن موسى وعيسى- عليهما السلام - أُعطيا الكثير من الآيات الكونية؛ لأن موسى بعث في وقت قد انتشر فيه السحر، وعيسى قد بعث في وقت قد ظهر فيه الطب، فأُعطي كلٌّ منهما من الآيات ما يناسب ما ظهر في عهده.

﴿ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾: معطوف على «موسى وعيسى»، أي: وآمنا بما أوتي النبيون من ربهم من الآيات الشرعية والكونية؛ كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 136]؛ أي: وآمنا بما أوتي جميع النبيين والرسل من الكتب والمعجزات؛ كما قال تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119].

﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾: الجملة الحالية؛ أي: حال كوننا لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، أي: لا نفرِّق بين أحدٍ منهم والآخر، بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما هو حال اليهود والنصارى، بل نؤمن بهم جميعًا على السواء، إيمانًا مجملًا؛ كما أخبر القرآن والسنة عنهم.

﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾: الجملة في محل نصب معطوفة على جملة الحال قبلها، أي: ونحن له، أي: لله وحده مستسلمون، منقادون ظاهرًا وباطنًا، بقلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.

وقدَّم المتعلِّق (له) على المتعلَّق به وهو (مسلمون) للدلالة على الحصر، أي: مستسلمون له وحده دون سواه، وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.

قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ ﴾ الواو: استئنافية، و«من»: شرطية، و«يبتغ»: فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة الياء، أي: ومن يطلب ويريد ﴿ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ﴾ «غير»: مفعول ﴿ يَبْتَغِ ﴾، و﴿ دِينًا ﴾: تمييز أو مفعول ثانٍ لـ«يبتغ» أي: دينًا يدين لله تعالى به، ويعمل به، ويجازى عليه، ويُدان به، كما قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]؛ أي: لكم دينكم الذي تدينون به، وعملكم الذي تعملون به، وليَ ديني الذي أدين به وأعمل به.

﴿ الْإِسْلَامِ ﴾: معناه العام: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهذا يطلق على جميع الأديان، فكل من انقاد لما جاءت به رسل الله فهو مسلم.

ومعناه الخاص: ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع – وهو المراد هنا - وهو ينتظم المعنى الأول، أي: ومن يبتغ غير الإسلام دينًا بعد مجيء الإسلام.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾: جواب الشرط «مَنْ»، والفاء: رابطة لجواب الشرط، أي: فلن يقبل منه ذلك الدين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»[1]، أي: مردود غير صحيح، فلا يقبله الله تعالى منه، ولا يُقره رسوله صلى الله عليه وسلم ولا المؤمنون، ولا يُثاب عليه، ولهذا قال: ﴿ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الواو: عاطفة، أو حالية، وأصل الخسران ذهاب رأس المال، أي: وهو في الدار الآخرة من الخاسرين، الذين خسروا دينهم ودنياهم وأخراهم وخسروا أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وخسروا كل شيء، وحرموا من الثواب وأُركِسوا في العذاب.

خسروا دينهم؛ لأنهم دانوا بغير الإسلام، وخسروا دنياهم؛ لأنهم لم يعملوا فيها ما يقربهم إلى الله تعالى، وخسروا أنفسهم فضاعت أعمارهم وحياتهم سدًى، وخسروا أموالهم فلم يقدموا منها ما ينفعهم في الآخرة، وخسِروا أهليهم، فحيلَ بينهم وبينهم في الآخرة، وتلك والله الخسارة الكبرى والمصيبة العظمى؛ قال تعالى: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: 9].

قولة تعالى: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.

سبب النزول:
عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: «كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: «سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟»، فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالو: إن فلانًا قد ندم، وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة؟ فنزلت: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 86 - 89]، فأرسل إليه، فأسلَم»[2].

وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في أهل الكتاب، آمنوا برسلهم، ثم كفروا فعبدوا غير الله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وشهدوا أنه حق قبل مبعثه وبعده، بما في كتبهم من البشارة به؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، وبما عندهم من المعرفة به؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 20]، ثم كفروا به حسدًا منهم وعنادًا.

والآية أعمُّ من هذا كله، فتشمل كل من كفر بعد الإيمان، وبعد قيام الحجة عليه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قوله: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ «كيف»: اسم استفهام ومعناه هنا: الاستبعاد، والمراد بالهداية في قوله: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ ﴾: هداية التوفيق، أي: يبعد أن يوفق الله للهدى قومًا كفروا بعد إيمانهم من العرب وأهل الكتاب وغيرهم، أي: ارتدوا ورجعوا إلى الكفر بعد أن آمنوا، وكيف يستحق من هذه صفته أن يهديه الله، أو كيف يتوقع أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم.

ويُحتمل كون الاستفهام للإنكار والنفي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 168، 169]؛ وذلك لأن مَن آمَن وعرَف الحق ثم ارتد عنه أعظم ذنبًا وكفرًا ممن لم يعرف الحق وبقي على كفره ولم يدخل في الإيمان.

فمن عرَف الحق وتركه يُعاقب بالانتكاس وانقلاب القلب وزيغه؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5].

والكفر بعد الإيمان وبعد معرفة الحق علامة على عدم تمكن الإيمان، فإن من ذاق حلاوة الإيمان يبعد أن يعود إلى الكفر؛ كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار»[3].

﴿ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ﴾: الجملة في محل نصب عطفًا على جملة ﴿ كَفَرُوا ﴾، أي: كيف يهديهم بعد اجتماع الأمرين الكفر والشهادة بصدق الرسول.

ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم قد شهدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والواو في شهدوا تعود لمن كفروا.

والمراد بـ«الرسول»: محمد صلى الله عليه وسلم، و( أل ) فيه للعهد الذهني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معهود في الأذهان بعد بعثته ونزول القرآن عليه؛ أي: شهدوا أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم حق ثابت، صادق فيما أخبر به، عادل فيما حكم به، لاشك في رسالته.

﴿ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾: معطوف على: ﴿ وَشَهِدُوا ﴾، ولم يؤنث الفعل، فلم يقل: «وجاءتهم»؛ لأن التأنيث في ﴿ الْبَيِّنَاتُ ﴾ غير حقيقي، وفصل بينه وبين الفعل بالمفعول «هم» ويجوز تأنيثه، كما في قوله تعالى: ﴿ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: 213]؛ أي: وجاءهم الآيات البينات في القرآن الكريم والكتب السابقة، واكتفى بذكر الصفة وهي «البينات» دون الموصوف وهي «الآيات»؛ لأن المهم في الآيات كونها بيِّنات مُبيَّنات مُبيِّنات للحق من الباطل، والهدى من الضلال.

والمعنى: وجاءهم الآيات البينات الواضحات، والحجج والبراهين القاطعات، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما جاء به حق وصدق وعدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.

﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾: الجملة استئنافية، وهي كالتعليل لما قبلها، فاستبعد هداية من كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حقٌّ، وبعد مجيء البينات إليهم؛ لأنهم ظالمون: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: والله لا يوفق القوم الظالمين.

و﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: جمع «ظالم»، والظلم: النقص؛ كمال قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]، وهو وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان.

وهو إما تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم عمدًا، فهؤلاء ظلموا باختيارهم الكفر، ووضعه مكان الإيمان بعد تبيُّن الحق لهم، وظلموا أنفسهم فنقصوها حقها، وعرَّضوها للعذاب ودسَّوها؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 01-09-2025, 12:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قول الله تعالى:

﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ... ﴾


قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 93 - 95].

قوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.

في هذه الآية وما بعدها ما يقوي دخولَ أهل الكتاب في قوله تعالى فيما سبق: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [آل عمران: 86].

وفيها ردٌّ على اليهود في إبطالهم النسخَ، وإنكارهم نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، بدعوى أنه لا يمكن أن يأتي نبي يخالف النبي الذي قبله، والشرائع لا تتبدَّل؛ لأنها من عند الله.

قوله: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾: «كل» للتنصيص على العموم، و«الطعام» كل ما يُطعَم ويُؤكَل، وقد يُطلق على ما يُشرب.

﴿ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾؛ أي: حلالًا لبني إسرائيل، سواء كان نباتًا أو حيوانًا، أو غير ذلك.

و﴿ إِسْرَائِيلَ ﴾: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، ومعنى ﴿ إِسْرَائِيلَ ﴾ عبدالله، وبنوه هم الأسباط الاثنا عشر، وما تناسل منهم.

﴿ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ ﴿ إِلَّا ﴾: أداة الاستثناء، والاستثناء هنا متصل، و﴿ ما ﴾: موصولة، أي: إلا الذي حرَّم إسرائيل على نفسه.

قيل: كان حرَّم على نفسه عِرق النَّسَا الذي على الفخذ، وقيل: حرَّم لحوم الإبل وألبانها، وقيل غير ذلك.

قيل: كان ذلك بوحي من الله تعالى، وقيل: كان اجتهادًا من يعقوب نذر تحريم ذلك على نفسه تقربًا إلى الله تعالى، وقيل: نهاه الأطباء عن ذلك، وتبِعه بنوه في تحريم ذلك.

﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بتخفيف الزاي مع سكون النون: «تُنْزَل»، وقرأ الباقون بتشديد الزاي وفتح النون: ﴿ تُنَزَّلَ ﴾؛ أي: من قبل نزول التوراة على موسى - عليه السلام - وبين يعقوب وموسى مُددٌ طويلة، ثم بعد نزول التوراة جاء فيها تحريم أشياء كثيرة مما كان حلالًا قبل نزولها، وهم يعلمون ذلك، وهذا هو النسخ بعينه، فلا ضيرَ أن يأتي في شريعة عيسى وفي شريعة محمد عليهما الصلاة والسلام ما يُنسَخ بعضُ ما جاء في التوراة؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50].

﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾ الأمر في قوله: ﴿ قُلْ ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب في: ﴿ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾ لليهود وفيه تحدٍّ لهم؛ أي: فهاتوا التوراة فاقرَؤوها أنتم بأنفسكم؛ لتعلموا صدقَ ما أخبر به القرآن من أن كل الطعام كان حلًّا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، ثم حُرِّم في التوراة أشياء كثيرة، وهذا هو النسخ، وبهذا تعلموا صحة ما جئتُ به من الشرع الناسخ للتوراة وغيرها.

﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ﴿ إِنْ ﴾: شرطية، و﴿ كُنْتُمْ ﴾: فعل الشرط، وجوابه محذوف يدل عليه ما سبق؛ أي: إن كنتم صادقين، فأتُوا بالتوراة فاتلوها؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم إبطال النسخ في الشرائع، وأن ما كان محرمًا في التوراة كان محرمًا قبل نزول التوراة؛ قال ابن القيم[1]: «هل تجدون فيها أن إسرائيل حرَّم على نفسه ما حرَّمته التوراة عليكم؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصَّه بالتحريم، وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة، وإذا كان إنما حرَّم هذا وحده، وكان ما سواه حلالًا له ولبنيه، وقد حرَّمت التوراة كثيرًا منه ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على الله تعالى في نسخها».

ومع تحديهم بهذا، فإنهم لم يجرؤوا على الإتيان بالتوراة، بل بهتوا وانقلبوا صاغرين.

قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾: الفاء: عاطفة، و«من»: شرطية تفيد العموم، و«افترى»: فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.

والافتراء: الاختلاق والتقوُّل بغير حقٍّ، أي: أن ينسب للشخص ما لم يقله.

و«الكذب»: الإخبار بخلاف الواقع، ضد الصدق، فإن كان مخالفًا للواقع والاعتقاد المخبِر، فهو أشد ذنبًا وإثمًا.

والمعنى: فمن اختلق وتقوَّل على الله الكذب، بأن قال على الله ما ليس بحق، من أهل الكتاب أو غيرهم، فادَّعى أن ما حرِّم في التوراة كان محرمًا قبل ذلك، وأنكر نبوة عيسى عليه السلام، ونسَخ ما جاء به لبعض ما جاء في التوراة، وأنكر نَسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لشريعة موسى عليه السلام، ولجميع الشرائع قبلها، أو نفى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم وشريعته.

﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾؛ أي: من بعد ذلك البيان، وأشار إليه بإشارة البعيد تعظيمًا له، أي من بعد بيانه - عز وجل - أن كل الطعام كان حلالًا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، حتى نزلت التوراة فحرِّمت فيها أشياءُ كثيرة مما كان قبل ذلك حلالًا؛ مما يدل على وقوع النسخ في الشرائع.

﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾: جواب الشرط، ورُبط بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، وقد أكِّد، وحُصر وصف الظلم فيهم بكون الجملة اسمية معرَّفةَ الطرفين، وبضمير الفصل «هم».

أي: فأولئك المفترون هم الذين بلغوا الغاية في الظلم، بوضع الافتراء والكذب مكان الصدق، وردِّهم الحقَّ الذي يعلمونه بدل قَبوله، ونقص أنفسهم حقَّها بهذا المسلك، وجمعهم باعتبار معنى «من»، وأشار إليهم بإشارة البعيد تحقيرًا لهم.

قوله تعالى: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

قوله: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾: الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قل يا محمد لأهل الكتاب وغيرهم: صدق الله تعالى فيما أخبر به أن كل الطعام كان حلًّا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، وفي كل ما أخبر به، وفي كل ما قاله أو شرعه، فلا أحد أصدق من الله قيلًا، ولا أحد أصدق من الله حديثًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122] وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وقال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.

﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾: الفاء: عاطفة؛ لربط السبب بالمسبب، و«اتبعوا»: معطوفة على صدق، فهي من جملة مَقول القول، أي: وقل: فاتِّبعوا ملة إبراهيم؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161].

و«الملة» هي: الدين والشريعة، و«ملة إبراهيم»: ما كان عليه من إخلاص التوحيد والبراءة من الشرك؛ كما قال تعالى عنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 26 - 28]، وقال تعالى: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79].

وهي الحنيفية السمحة التي بُعث بها نبينا محمد، ولهذا قال: ﴿ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾: هذا بيان لملة إبراهيم.

﴿ حَنِيفًا ﴾: حال، و«الحنف» الميل؛ أي: مائلًا عن الشرك والأديان الباطلة إلى التوحيد ودين الحق، مستقيمًا على شرع الله تعالى.

﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾: الجملة في محل نصب معطوفة على الحال «حنيفًا»؛ أي: وما كان من المشركين بالله الذين يعبدون الأصنام، ويدخلون الشرك في عباداتهم.

وفي هذا تأكيد لقوله: ﴿ حَنِيفًا ﴾؛ أي: بل كان موحدًا مخلصًا لله تعالى، ولهذا يسمى «إمام الحنفاء».

والشرك: دعوة وعبادة غير الله، وتسويته بالله فيما هو من خصائص الله؛ كما قال المشركون: ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 97، 98].

[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 501-502).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 08-09-2025, 01:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 92 - 95].

1- إباحة كل الأطعمة لبني إسرائيل من الحيوان وغيره، قبل نزول التوراة، إلا ما حرَّمه إسرائيل على نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾.

2- إن لله تعالى يُحل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الآية.

3- توسيع الله تعالى على بني إسرائيل قبل بَغْيهم، بإحلال كل الطعام لهم، وكانوا على شريعة إبراهيم عليه السلام، فلم يكن محرمًا عليهم سوى ما حرَّمه إسرائيل على نفسه.

4- أن ما حرَّمه إسرائيل على نفسه حرَّمه بنوه وأحفاده من بعده حتى نزول التوراة.

5- إثبات نزول التوراة من عند الله، وإثبات علوِّه - عز وجل - على خلقه بذاته وصفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾.

6- تبكيت اليهود والإشارة إلى أنهم سبب ما جاء من تحريم كثيرٍ من الأشياء عليهم في التوراة، وذلك بسبب بغْيهم كما ذكر الله تعالى.

7- إفحام اليهود وإقامة الحجة عليهم من كتابهم التوراة على جواز النسخ عقلًا وحصوله شرعًا؛ حيث نسَخت التوراة بعضَ الأحكام قبلها؛ من إحلال كل الطعام لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرَّمت عليهم أشياء كثيرة بسبب بغيهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الأنعام: 146].

قال ابن القيم[1]: ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالًا إنما هو بإحلال الله تعالى لهم على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلًا لبني إسرائيل، وهذا مُحض النسخ».

وقال ابن كثير[2]: «شرع في الرد على اليهود - قبَّحهم الله - وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقَع، فإن الله - عز وجل - قد نص في كتابه التوراة أن نوحًا عليه السلام لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرَّم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها، فاتَّبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وأشياء أُخر، زيادة على ذلك، وكان الله - عز وجل - قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحًا في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرِّم مثل هذا في التوراة عليهم، وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعًا، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، ثم حرِّم ذلك عليهم في التوراة.

وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، فهذا هو النسخ بعينه، فكذلك ما شرعه الله للمسيح عليه السلام في إحلاله بعض ما حرِّم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذَّبوه وخالفوه، وكذلك ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم وملة إبراهيم، فما لهم لا يؤمنون؟».

8- الرد على اليهود في إنكارهم نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، بناءً على إنكارهم النسخ، بدعوى أنه لا يمكن أن يأتي نبي بخلاف ما جاء به الذي قبله.
9- أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم؛ لأن ملة إبراهيم لم يُحرَّم فيها شيءٌ من الأطعمة، بينما حرَّم على اليهود أشياء كثيرة في التوراة.

10- بلوغ الذين يفترون على الله الكذب ويردون الحق، وينكرونه غاية الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، فأكد الظلم وحصره فيهم لبلوغهم من الظلم غايته.

11- جرأة المكذبين من أهل الكتاب وغيرهم على افتراء الكذب على الله تعالى، ومن اجترأ على الكذب على الله، فجرأتُه على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الناس، من باب أَولى.

12- أن الحجة لا تقوم على العباد إلا بعد البيان والعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾.

13- وجوب تصديق الله، وإظهار القول بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾، فأقواله - عز وجل - وأخباره صدقٌ، وأحكامه عدل وحقٌّ، وفي هذا أيضًا تعريضٌ بكذب أهل الكتاب.

14- وجوب اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وإخلاص التوحيد لله تعالى، والبراءة من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: اتبعوا ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، وعلى هذا الأصل اتفقت جميع الشرائع؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، أما من حيث فروع الشرائع، فقد جعل الله لكل نبي شرعة ومنهاجًا؛ كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

15- فضيلة إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله - عز وجل - أمرنا باتباعه وأثنى عليه، وجعله إمامًا وقدوة في إخلاص التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك وأهله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].

16- فضل التوحيد، وأنه سبب النجاة، وخطر الشرك؛ لأنه سبب الهلاك، مما يوجب على العبد صيانةُ جناب التوحيد، والحذر من الشرك.

[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 501).

[2] في «تفسيره» (2/ 62-63).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-10-2025, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائــد وأحكــام من قوله تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ... ﴾


من قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 98 - 101].

1- أمْر الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم بتوبيخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾.

2- وجوب الإيمان بآيات الله - عز وجل - الكونية والشرعية؛ لأن الله - عز وجل - أمره صلى الله عليه وسلم بتوبيخ من أنكروها.

3- إثبات شهادة الله - عز وجل - واطلاعه التام، على ما يعمله أهل الكتاب وغيرهم من الكفر بآيات الله وتكذيبها ومخالفتها، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾.

4- تهديد من يكفر بآيات الله ويكذِّبها ويخالفها من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾، فهو - عز وجل - شهيد على أعمالهم يحصيها عليهم وسيُحاسبهم ويُجازيهم عليها.

5- توبيخ أهل الكتاب على صدهم عن سبيل الله ودينه مَن آمَن به، ومن أراد الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ ﴾.

6- أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين الله وصراطه الذي يجب اتباعه، لهذا سماه - عز وجل - سبيله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53].

7- إرادة أهل الكتاب سلوكَ الناس الطريقَ العِوَج، وهو ما هم عليه من الباطل والمخالفة للحق والعدول عن سبيل الله؛ لقوله تعالى: ﴿ تَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾.

وهكذا يريد كل دعاة الباطل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].

8- أن كل من سعى في صد الناس عن دين الله، وأراد الطريق العِوَج من دعاة التغريب وغيرهم، ففيه شبه من اليهود والنصارى؛ لأن هذا مسلكهم.

9- أن إخراج من دخل في دين الله وحمْله على الارتداد، أعظمُ وأشدُّ مِن منْع مَن أراد الدخول فيه، كما أنه سببٌ للمنع من الدخول فيه، لهذا خصَّه - عز وجل - بالذكر، فقال: ﴿ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ ﴾.

10- شهادة أهل الكتاب على أنفسهم أنهم يَصُدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، وأنه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سبيل الله ودينه الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾، وإنما منَعهم من اتباعه صلى الله عليه وسلم الاستكبار والحسدُ.

11- كان الواجب على أهل الكتاب عدمَ الصد عن سبيل الله، وعدم ابتغاء العوج؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل، وأنه صلى الله عليه وسلم على الطريق الحق.

12- إثبات كمال رقابة الله عز وجل على أعمال أهل الكتاب وغيرهم، وأنه ليس بغافلٍ عما يعملون، وفي هذا وعيدٌ وتهديد لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.

13- تصدير الخطاب للمؤمنين بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام، ونداؤهم بوصف الإيمان؛ تشريفًا وتكريمًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده وهو عدم طاعة أهل الكتاب من مقتضيات الإيمان، وعدم ذلك نقص في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

14- تحذير المؤمنين من طاعة دعاة الكفر، من أهل الكتاب، وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾.

فلا يجوز الاغترار بما يبدونه من الصداقة والمودة، فهم أعداء مهما أظهروا من ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1].

15- حرص الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على رد المسلمين عن دينهم إلى ما هم عليه من الكفر، وأنهم لا يقنعون منهم بدون ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].

ولأجل ذلك تجدهم يسعون بشتى الوسائل لإفساد عقائد وأخلاق المسلمين، ويَدسون السم في الدسم، فيدعون إلى إخراج المرأة من بيتها وسفورها باسم تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها، ويدعون إلى مصادرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم الحرية وعدم التدخل في شؤون الآخرين، ويزيِّنون للناس الربا والقمار والمكاسب الخبيثة بدعوى حرية الكسب وتنمية المال ونحو ذلك.

ويدعون إلى تعطيل الحدود في الإسلام، ويَصِمُونها بالوحشية كقتل القاتل، ورجم الزاني أو جلده، وقطع يد السارق، وجلد القاذف وشارب الخمر بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان، وكأنهم أرحم بالإنسان من خالقه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

يرحمون المجرمين، ولا يرحمون المجتمع بأسْره من شرور المجرمين، وصدق الله العظيم: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

16- أن السبب في تسلُّط الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المؤمنين، هو إيمانهم بالله وشرعه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217].

17- أن من أهل الكتاب من آمَن فلا يسعى في رد المسلمين إلى الكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ الآية، ومفهوم هذا أن فريقًا منهم ليسوا كذلك.

18- استبعاد كفر المؤمنين، وآيات الله تُتلى عليهم، ورسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾، والتعجيب والتحذير من أن يحصل شيء من ذلك، والتوبيخ لمن فعله؛ لأن الحجة عليه أقوم، وذنبه أعظم - وحاشاهم رضي الله عنهم من ذلك - وإنما سيقت الآيات لتيئيس كفار أهل الكتاب من ارتداد المؤمنين؛ ولهذا لم تقع الردة إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم من بعض الأعراب، وممن لم يتمكن الإيمان من قلوبهم.

19- أن القرآن الكريم هو آيات الله الدالة على كماله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعلى صدق مَن جاء به مِن عند الله - عز وجل - المعجز بأقصر سورة منه؛ لقوله تعالى: ﴿ آيَاتُ اللَّهِ ﴾.

20- أن من بلغه القرآن قامت عليه الحجة، سواء تلاه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ تُتْلَى ﴾؛ أي: يتلوها الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره، ممن يبلغ عنه.

21- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وتشريفه وتكريمه بإضافته إليه - عز وجل - في قوله تعالى: ﴿ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾.

22- أن في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم العصمةَ بإذن الله لمن تمسك بهما من الكفر والضلال.

23- أن من اعتصم بالله - عز وجل - عبادة له وتمسكًا بحبْله، واستعانة به وتوكلًا عليه، فقد كُتبت له الهداية إلى الصراط المستقيم أزلًا في اللوح المحفوظ، وعملًا في هذه الحياة، أُرشد إلى الحق، ووفِّق إليه، وفيه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

24- الحث على الاعتصام بالله؛ عبادة له وتوكلًا عليه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

25- في تنكير «صراط» في قوله: ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ تعظيم له؛ لأنه صراط الله المؤدي إلى الله - عز وجل - ومرضاته، وإلى السعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا وصفه بأنه ﴿ مُسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي: معتدل لا عوج فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 20-10-2025, 03:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 102 - 105].

1- تصدير خطاب المؤمنين بالنداء، للتنبيه والعناية والاهتمام، ونداؤهم بوصف الإيمان؛ تشريفًا وتكريمًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده: من الأمر بتقوى الله حق تقاته، والثبات على الإسلام إلى الموت والاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق والاختلاف من مقتضيات الإيمان، وأن عدم ذلك نقص في الإيمان.

2- وجوب تقوى الله - عز وجل - حق تقواه، بقدر الاستطاعة والجهد؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].

3- لا غضاضة في أمر المؤمنين بتقوى الله - عز وجل - فقد أمر الله بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

4- وجوب المبادرة إلى الإسلام، ولزومه، والثبات عليه، إلى الممات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾.

5- أن المدار على الخاتمة، وما يموت عليه الإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾، لكن جرت العادة بفضل الله - عز وجل - أن من عاش على الإسلام، فإنه يحفظه الله، حتى يتوفاه على الإسلام، وهذا أمر مشاهد وواقع، حتى إن أناسًا صدقوا في طلب أن يموتوا شهداءَ، فرزقهم الله الشهادة، وأناسًا صدقوا مع الله في طلب الموت سُجدًا وصوامًا، ونحو ذلك، فتوفاهم الله على ذلك.

6- وجوب الاعتصام بشرع الله، والتمسك به؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ﴾.

7- وجوب الاجتماع على شرع الله، والتحاكم إليه، وتحريم التفرق شيعًا وأحزابًا وجماعات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.

8- أن في تمسُّك الأمة بشرع الله، واجتماعها عليه، عصمة لها وقوة في داخلها، وأمام أعدائها وغيرهم، وفي تهاونها في التمسك بشرع الله وتفرُّقها، ضعفها وتخلفها، وتسلط الأعداء عليها؛ كما هو حال الأمة اليوم.

9- وجوب ذكر نعم الله بالثناء عليه بها باللسان، وتذكرها بالقلب، وشكرها بالجوارح، ومن أعظمها نعمة الإسلام والإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.

10- أن من أكبر نعم الله - عز وجل - وأعظمها على المؤمنين تأليفه - عز وجل - بين قلوبهم بالإيمان- بعد أن كانوا أعداءً قبل ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ﴾.

وهي نعمة من الله - عز وجل - ومنة على الصحابة - رضي الله عنهم - على وجه الخصوص، وعلى من يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة على وجه العموم.

11- أن تذكر المنعم عليه لحاله قبل النعمة، من فرقة، أو مرضٍ، أو فقر، أو فِقدان أمن، أو غير ذلك، من أسباب شكر النعمة، وقد قيل: «الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى».

12- أن ثمرة التأليف بين القلوب تحقيق الأخوة الإيمانية بين المؤمنين التي تتلاشى أمامها جميع روابط النسب والعرق والوطن، والقوميات، والحزبيات، وغيرها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾.

13- أن التفرق والتشتت نقمة، وعلامة على سلب النعمة، يجب الحذر منه.

14- نعمة الله - عز وجل - ومنته على المؤمنين السابق منهم واللاحق، بإنقاذهم بالإيمان من النار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾.

15- إثبات النار، وأنها موجودة الآن معدة للكافرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾؛ أي: وكنتم على طرف حفرة من النار، تكادون تسقطون فيها، بسبب الكفر والشرك، فأنقذكم منها بالإيمان.

16- تبيين الله - عز وجل - آياته الشرعية والكونية لنا أتم بيان، إقامة للحجة على الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، ولهذا قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 19]، والآيات في بيانه عز وجل لآياته وتفصيلها كثيرة جدًّا.

وفي هذا ردٌّ على أهل التحريف والتأويل المذموم الذين يقولون: المراد بالآيات خلاف ما يظهر منها، فهم بهذا يزعمون أن الله لم يبينها، وأنهم أعلم بالمراد بها منه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

17- أن الحكمة والعلة في بيانه - عز وجل - آياته للناس؛ لأجل أن يهتدوا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.

18- إثبات الحكمة والعلة في أفعال الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، وفي هذا ردٌّ على من ينفي من أهل البدع حكمته - عز وجل - في أفعاله.

19- رحمة الله - عز وجل - بالناس ومحبته لهدايتهم، ولهذا بيَّن لهم آياته لأجل أن يهتدوا، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، كما قال عز وجل مخاطبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

20- وجوب الدعوة إلى الإسلام وشرائعه العظام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾، وهو فرض كفاية؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْكُمْ ﴾، و«من» للتبعيض.

ويحتمل كون «من» لبيان الجنس، فتكون الدعوة واجبة على الأمة كلها؛ أي: ولتكونوا أمة داعية إلى الخير.

وذلك حسب معرفة الإنسان وقدرته؛ لأن هناك من الأمور ما يمكن أن يدعو له كل مسلم، وهناك منها ما يحتاج إلى أهل العلم.

وينبغي أن تكون الدعوة إلى الخير بالحكمة وبالموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، مع الإخلاص، والحذر من الانتصار للنفس، ونحو ذلك.

ويجب على الداعية إلى الخير أن يكون عالمًا بما يدعو إليه شرعًا، ولا يكفي مجرد حسن النية والقصد، فإن الشيطان قد يأمر بسبعين بابًا من الخير؛ ليصل إلى باب من الشر أعظم من ذلك الخير. قال عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه-: «ليس كل مريد للخير يصيبه»، وقد قيل:
وقد يأمر الشيطان بالخير قاصدًا
وصولًا إلى باب من الشر أعظم[1]




ولهذا فإن ما يُرفع من شعار «كن داعيًا»، ينبغي ألا يكون على إطلاقه، فيدخل في الدعوة من لا يحسنها، ولا يصلح لها، فيكون ضرره أكبر من نفعه.

21- الترغيب في كل ما هو خير؛ قولًا أو فعلًا أو بذلًا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَى الخَيْرِ﴾، وذلك يشمل خير الدين والدنيا.

22- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾، وهو فرض كفاية؛ لقوله: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾، وقد يجب على جميع الأمة إذا لم يستطعه بعضها.

عن حذيفة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه، فلا يستجيب لكم»[2].

وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[3].

فالإنكار باليد يكون لولي الأمر، ولأهل الحسبة الذين ولاهم، ولمن له ولاية من الرجال والنساء، على من تحت ولايته؛ كالأب والأم، وولي اليتيم ونحوهم.

والإنكار باللسان لكل من قدر عليه وأحسَنه، والإنكار بالقلب لا يعذر في تركه أحد.

ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أولًا: العلم الشرعي بما يأمر به الإنسان أو ينهى عنه، بحيث يعلم أن هذا الأمر مما أمر الله به، أو مما نهى الله عنه، فإن كان يجهل ذلك وجب عليه ترك الأمر والنهي، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].

ثانيًا: أن يكون على بيِّنة من حال المأمور والمنهي بأنه ترك هذا المعروف، أو ارتكب هذا المنهي، فإن كان لا يدري، أو يشك في ذلك، أو قيل له ذلك ونحو ذلك، فلا يجوز له الدخول في ذلك؛ لما يترتب عليه من مفاسد، وقد قال الله - عز وجل -: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

ثالثًا: أن يكون الأمر والنهي بالحكمة، بأن لا يؤدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى منكر أعظم من ذلك. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108].

وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب من أهمها:
ألا يخالف فعل الآمر والناهي قوله، بأن يأمر بالمعروف وهو لا يفعله، أو ينهى عن المنكر وهو يفعله؛ قال تعالى موبخًا من يفعل ذلك: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].

وفي حديث أسامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: مالك، يا فلان، ألم تك تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»[4].

قال الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يَصح به وأنت سقيم
ونراك تُصلح بالرشاد عقولنا
أبدًا وأنت من الرَّشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى
بالعلم منك ويَنفع التعليم
لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم[5]


وامتثال الإنسان لما يأمر به، واجتنابه لما ينهى عنه من أعظم أسباب القبول لأمره ونهيه عند الناس، لكنه ليس شرطًا في الأمر والنهي لانفكاك الجهة، فعليه أن يأمر نفسه وينهاها، ويبدأ بها، فإن لم يأمر نفسه ولم ينهها، فلا يبرر له ذلك ترك أمر غيره ونهيه، فهو يحاسب على الأمرين، ولهذا قال تعالى عن بني إسرائيل: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79]، وهذا يقتضي اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي.

وكما قيل:
إذا لم يَعظ في الناس من هو مذنب
فمن يَعظ العاصين بعد محمد




ومن آداب الأمر والنهي: القول اللين؛ كما قال عز وجل لموسى وهارون، وقد أرسلهما إلى أعتى الخلق، فرعون الذي ادَّعى الربوبية والألوهية: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44].

وقال الله - عز وجل - لسيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].

فليت كثيرًا ممن يتولون الأمر والنهي والدعوة والتوجيه، ينتبهون لهذا، ويتفطنون له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه»[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يُحب الرِّفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»[7].


ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: توطين النفس على الأذى في سبيل ذلك، والصبر عليه؛ كما قال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [العنكبوت: 10].

23- عِظم مكانة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لهذا خصهما الله بالذكر وقرن بينهما في الآية.

24- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أعظم الدعاء إلى الخير، ولهذا عطف عليه من عطف الخاص على العام.

25- وعد الله عز وجل الذي لا يتخلف للدعاة إلى الخير، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر بالفلاح، وتأكيد ذلك لهم، بل وحصره فيهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.

وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكفى ذلك شرفًا أنه طريق الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام.

26- نهي المؤمنين عن التفرق والاختلاف، كما فعل أهل الكتاب من بعد ما جاءهم البينات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾؛ كما قال عز وجل عنهم: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14].

27- أن ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب التفرق والاختلاف؛ لأن الله أعقب الأمر بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالنهي عن التفرق والاختلاف.

28- ذم أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وقامت عليهم الحجة.

29- إذا كان التفرق والاختلاف قد يُبرر قبل مجيء البينات، فإن التفرق والاختلاف بعد مجيء البينات، وظهور الحق، أمر لا مبرر له، ولا يجوز؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾.

30- بيان الحق في هذه الشريعة الكاملة أتمَّ بيان، في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما لا عذر فيه في التفرق والاختلاف.

31- الوعيد الشديد للذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.

32- أن مَن سلكَ مسالكَ أهلِ الكتاب وسَننهم السيئة من هذه الأمة، فمصيره مصيرهم.

[1] هذا البيت من قصيدة لي.

[2] أخرجه الترمذي في الفتن (2169)، وأحمد (5/ 388).

[3] أخرجه مسلم في الإيمان (49)، وأبو داود في الصلاة (1140)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5008)، والترمذي في الفتن (2172)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1275).

[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق - صفة النار وأنها مخلوقة (3267)، ومسلم في الزهد والرقائق (2989).

[5] الأبيات لأبي الأسود الدؤلي؛ انظر: «ديوانه» (ص404).

[6] أخرجه مسلم في البر (2594)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[7] أخرجه البخاري في الاستئذان (6356)، ومسلم في البر (2593)، من حديث عائشة - رضي الله عنها، وأخرجه أبو داود في الأدب (4807)، وأحمد (4/ 87)، من حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 346.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 340.17 كيلو بايت... تم توفير 5.86 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]