العمل التطوعي في ميزان القرآن والسُنَّة
- بقدر انخراط المسلم في العمل التطوعي والإسهام فيه يزداد إيمانه وتصفو نفسه ومن ثم ترتفع وتسمو أخلاقه
- كي ينجح العمل التطوعي في تحقيق أهدافه ينبغي العناية بتطويره والارتقاء به لأجل المضي فيه وقطف ثماره على المستوى الفردي والمجتمعي
- من عقبات العمل التطوعي العشوائية وضعف التخطيط والتنظيم لدى بعض المؤسسات التطوعية إضافة لغياب العمل وفق الأولويات ومشروعات التنمية المستدامة
- مجالاتُ إعمار الأرض كثيرة ومتنوعة وحاجاتُ الناس ومشكلاتُهم كبيرة ومتجددة وهذا يستدعي من العاملين لخير أمّتهم الجدّ في العمل التطوعي والاستمرار فيه لأقصى درجة ممكنة
ما زال حديثنا مستمرا عن العمل التطوعي في ميزان القرآن والسُنَّة، وذكرنا أن الله -تعالى- أنزل الإسلام دين رحمة وتعاون، وحثّ عباده على التسابق إلى مغفرته ورضوانه؛ فشرع لهم بذلك أبوابًا للمسابقة إلى الخير، ومن أهمّها العمل التطوعي، مبدأ إسلاميا أصيلاً، من هنا كان لابد من بيان هذا المبدأ، وبيان أهم ضوابطه ومحدّداته، وبيان بعض المعيقات في طريق العمل التطوعي، وبعض السبل لتطويره والمضي به نحو الأفضل في وقتنا المعاصر. وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أولاً: المقصود بالعمل التطوعي، وضوابط العمل التطوعي وذكرنا منها: إخلاص النية لله -تعالى-، وطيب النفس والسخاء، وطيب الأصل المتبرع به، والالتزام وتحمّل المسؤولية والإتقان، كما ذكرنا أدلة العمل التطوعي في الكتاب والسُنَّة، وأمثلة عملية للتطوُّع في القرآن الكريم، والأنبياء والصالحين والعمل التطوعي، وذكرنا التطوّع في السُنّة النبوية، وأمثلة عملية للأعمال التطوعية من السنة النبوية.
رابعًا: فوائد العمل التطوعي في الإسلام
يحقق العمل التطوعي عددًا من الفوائد أهمها ما يلي: (1) الفوائد الشخصية:
- تحصيل الأجر والثواب من الله -تعالى-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في كل ِّكبدٍ رَطبة أجر»، وقال - صلى الله عليه وسلم-: «ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيّب -ولا يقبلُ الله إلا الطيِّب- إلا أخذها الرحمن بِيمينه، وإن كانت تمرة، تربو في كفِّ الرحمن، حتى تكونَ أعظم من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فُلُوه أو فَصِيله».
- مغفرة الذنوب: العمل التطوعي من أعظم الأبواب للتكفير عن الذنوب، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 7) ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الصدقةَ لَتُطفئُ غضب الرَّب».
- زيادة الإيمان والارتقاء في مراتب البر والإحسان: فبقدر انخراط المسلم في العمل التطوعي والإسهام فيه، يزداد إيمانه، وتصفو نفسه، ومن ثم ترتفع درجة الأخلاق لديه، فيصبح مثله الأعلى من الوجهة الإحسانية أن يكون ضمن الجماعة التي تنفق في سبيل الله مما تحب: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران: ٩٢).
- استمرار النفع والأجر بعد الموت: ولا سيما إن كان العمل التطوعي ممتدّ الأثر كالصدقة الجارية، فقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عمله إلا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له. أو الوقف؛ فالوقف عمل تطوعي وهو من أدوم الصدقات؛ لأن الأصل فيه البقاء، وهو تحبيس الأصل وبقاؤه مع تسبيل الثمرة والانتفاع بها.
- استغلال الأوقات فيما يفيد: فالمسلم الساعي لنيل رضوان الله، ليس لديه وقت فراغ أبدًا؛ فإن وجد سعة في الوقت بعد قيامه بما يجب عليه، فإنّه يستغلّه في أعمال التطوّع فيفيد نفسه وغيره، قال - صلى الله عليه وسلم- في وصيته لأبي هريرة - رضي الله عنه -: «احرِص على ما يَنْفَعُكَ».
- الحياة الطيبة: وهذا معروف ومشاهد عند من يبذلون أوقاتهم في فعل الخير ومساعدة الناس، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧)، والحياة الطيبة في الدنيا، قال ابن كثير: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لرجل: «أتُحبُّ أن يَلِينَ قلبُك؟ قال: نعم، قال: فأَدْنِ اليَتيمَ إليك، وامسح برأسِهِ، وأطعمهُ من طعامكَ، فإن ذلكَ يُلَيِّنُ قلبَكَ، وتَقدِرُ على حاجَتِكَ».
(2) الفوائد الاجتماعية
- غرس الشعور بالأخوّة الإيمانية: يستهدف العمل التطوعي غرس الشعور بالأخوة بين المؤمنين؛ فالأخوّة في الله رابطة توجد بين شخصين أو أكثر بمجرد اشتراكهما في الانتماء إلى المنهج الرباني، فقال -تعالى-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: ١١). كما جعل من الأخوة العلاقة الوحيدة بين المؤمنين، قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠).
- غرس الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية: فالفرد مسؤول عن نفسه، ثم عن الآخرين الأقرب فالأقرب، وفي الحديث «اِبدأ بِنفسك فتصدَّق عليها، فإنْ فَضَلَ شيء فَلأهلِك، فإن فضَلَ عن أهلك شيء فَلِذي قرابتك، فإن فَضَلَ عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا»، وتجسيدًا لمضامين هذه المسؤولية فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يبيت المؤمن شبعان وجاره جائع «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع»، كما أكد النبي - صلى الله عليه وسلم- على أهمية المسؤولية الجماعية حينما قال: «أيما أهل عَرْصَةٍ ظلّ فيهم امرؤٌ جائع، فقد برئت منهم ذمَّة الله»، وقد همّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأن يجعل في عام الرمادة مع كل أهل بيتٍ عندهم طعامٌ مثلَهم من الفقراء ليطعموهم، وقال: «لن يَهلَك أحد على نصف شَبَعِه».

خامسًا: عقبات في طريق العمل التطوعي
قد يواجه العمل التطوعي عقبات تحدُّ من فاعليته، بما في ذلك: - غياب الوعي الكافي بأهمية العمل التطوعي، ومن ثم العزوف عن الانخراط فيه.
- ضعف الوعي المجتمعي في التعامل مع المتطوع، فيشعر المتطوع باستغلال تطوعه لأهداف شخصية لبعض المسؤولين.
- الحاجة المادية التي تفرض على الكثيرين السعي للعمل المأجور والإعراض عن العمل التطوعي، أو تستهلك جميع أوقاتهم فلا يبقى للتطوع وقت ذو بال.
- السعي من خلال العمل التطوعي لتحقيق مصالح ومكاسب شخصية.
- العشوائية وضعف التخطيط والتنظيم لدى كثير من المؤسسات والمنظمات التطوعية، إضافة لغياب العمل وفق الأولويات، ومشروعات التنمية المستدامة.
- ضعف تأهيل القائمين على العمل الخيري التطوعي.
سادسًا: سبل تطوير العمل التطوعي
كي ينجح العمل التطوعي في تحقيق أهدافه ينبغي العناية بتطويره والارتقاء به قصد المضي فيه وقطف ثماره على المستوى الفردي والمجتمعي، ومن هذه السبل: - ترسيخ ثقافة العمل الخيري وتصحيحه: بنشر الوعي بمكانة العمل التطوعي وأهميته في النهوض بالمجتمعات، من خلال عقد مؤتمرات وندوات وملتقيات علمية هادفة، مع نشر الأبحاث والدراسات في ذلك، إلى جانب تصحيح مفهوم العمل التطوعي العام، الذي لا يشترط فيه أن يكون ضمن مؤسسة أو في مجالات معينة، بل توسيع المفهوم ليشمل أي معروف أو إحسان بما في ذلك إماطة الأذى عن الطريق، وإرشاد التائه، وسقاية الحيوان العطشان، وهذه الوجوه بهذا الأفق الواسع تدخل في آثار تنمية المجتمع ورُقِيِّه إذا تحول إلى ثقافة عامة، وكان الجميع يخدم الجميع ويسعى لكمال المجتمع.
- التوعية بأهمية تجديد النية: فالعناية بمقصد نية المتطوِّع يساعد على تعزيز الدافعية لديه، وشحذ عزيمته، كما أنه ينمِّي الرقابة الذاتية لدى المتطوعين عموما؛ لأنهم يعملون لوجه الله وابتغاء ما عنده، وتحرير مقصد المتطوعين من قصد عدسات الإعلام وشبكات التواصل إلا ما كان من باب تحفيز الآخرين.
- التخطيط والتنظيم: يعتقد بعض الناس أنّ النية الطيبة وحدها كافية للنهوض بالعمل التطوعي والرقي به نحو الأفضل، لكن لكي تنجح أي مؤسسة أو منظمة تطوعية لابد أن تعتمد على التخطيط الاستراتيجي والتنظيم.
فالتخطيط يمكّن المؤسسة التطوعية من تحديد الأهداف، ثم تحقيقها. - التدريب: هو نقل معرفة ومهارات محدّدة وقابلة للقياس، ويفيد في تنمية كفاءات المتطوعين، وتمكينهم من إتقان عملهم ومن ثم حبّهم له ورغبتهم في الاستمرار فيه، كما أنّه يجذب المزيد من المتطوعين للعمل.
- التحفيز: مما لا شك فيه أن تشجيع الإنسان وتحفيزه لعمل الخير - ولا سيما إذا كان عملاً تطوعيًّا- له أهمية كبيرة في قيام هذ العمل وتطويره واستمراره.
خلاصة القول
مجالاتُ إعمار الأرض كثيرة ومتنوعة، وحاجاتُ الناس ومشكلاتُهم كبيرة ومتجددة، والأحداث في العالم عصيبة ومتلاحقة؛ وهذا يستدعي من العاملين لخير أمّتهم ومجتمعاتهم الجدّ في العمل التطوعي، والاستمرار فيه لأقصى درجة وعدم التأخر والتراخي عنه مهما اشتدّت الظروف، وتطويره وتنظيمه ليواكب الأحوال والظروف، ويحدّ من المصاعب والكروب، وليعود -أيضًا- بالخير على المتطوعين زيادةً في إيمانهم، ورفعةً لدرجاتهم، وصفاءً لنفوسهم، وسعادةً في حياتهم، وبركة في أنفسهم وأزواجهم وذرياتهم وأموالهم.
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان