شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 77 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5053 - عددالزوار : 2230526 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4635 - عددالزوار : 1509043 )           »          الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 294 - عددالزوار : 42126 )           »          أفضل الكلام وأحبه إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 196 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 15457 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 15968 )           »          السؤال عن علة الحكم مرفوض فى الشريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          الإجماع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          المقدمات المحتاج إليها قبل النظر ​ فى علم أصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          فقه المآل بين أهل الظاهر وغيرهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #761  
قديم 27-10-2025, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الأيمان)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (544)

صـــــ(1) إلى صــ(11)


شرح زاد المستقنع - باب النذر
النذر أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ولهذا الإلزام أحكام وأقسام بينها الفقهاء في كتبهم وتصانيفهم، مع بيان ما يترتب على الإخلال بالنذر من الكفارة، ومتى يكون هذا الإخلال واجبا أو محرما أو مندوبا أو مكروها، وغير ذلك من الأحكام.
تعريف النذر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب النذر] علاقة النذر باليمين علاقة قوية، حتى إن الشرع سوى بينهما في حال الإخلال، وجعل كفارة النذر كفارة اليمين، وهذا يدل على قوة التلازم بين الأيمان والنذور، وكثير من العلماء ذكروا باب النذر مقرونا بباب اليمين، وهذا لشدة التلازم بينهما.
والنذر هو: أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ويكون في المعصية ويكون في الطاعة، ولكل حكمه، والأصل فيه الكتاب، حيث أثنى الله عز وجل على عباده فقال: {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} [الإنسان:7] والنبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم، كما في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأجمع العلماء على مشروعيته من حيث الجملة.
قال رحمه الله: [لا يصح إلا من بالغ عاقل ولو كافرا] أي: لا يصح النذر إلا من بالغ عاقل، أي: مكلف؛ لأن التكليف بالعقل والبلوغ، فلا يصح نذر الصبي ولا يصح نذر المجنون.
قوله: (ولو كافرا) الكافر يصح نذره؛ لحديث عمر بن الخطاب أنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، وهذا يدل على صحة نذر الكافر.
أقسام النذر الصحيح
قال رحمه الله: [والصحيح منه خمسة أقسام] إذا قلت: الصحيح.
فمعنى ذلك: أنه تترتب عليه الكفارة عند الإخلال، أما إذا قلت: إنه فاسد أو لاغ.
فهذا ليس له موجب وهو الكفارة.
فقوله: (خمسة أقسام) هذا إجمال قبل البيان والتفصيل.

القسم الأول: النذر المطلق

قال رحمه الله: [المطلق: مثل أن يقول: لله علي نذر ولم يسم شيئا فيلزمه كفارة يمين] قوله: (لله علي نذر) فيه وجهان في الانعقاد: والجمهور على أنه ينعقد.
وحينئذ إذا لم يسم شيئا يلزمه أن يكفر كفارة يمين، وفيها الزيادة في الحديث المشهور: (من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين) ، وهي زيادة على الرواية الصحيحة، وهذه الرواية موجودة في السنن، والأصل في صحيح مسلم، وهذا يدل على أنه إذا لم يسم النذر، فإن عليه كفارة يمين.
ووجه ذلك أنه قال: لله علي فحصل الالتزام، والصيغة موجبة للالتزام، ثم لم يبين شيئا، فحينئذ تعلق به النذر، فلا وجه للإسقاط؛ لأنه التزم، ثم بعد ذلك يلزم بموجب النذر وهو الكفارة.

القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب

قال رحمه الله: [الثاني: نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب] نذر اللجاج والغضب أن يكون الحامل عليه هو أن يغضب من شيء فينفر منه، لا أن حالته حالة الغضب؛ لأن الغضب الذي يسقط التكليف هو الذي يصل إلى حد الجنون، وقد بينا أن صاحبه غير مكلف، أما هذا فيكون بالحمل على الشيء أو ترك الشيء، فيقول له: لله علي أن تفعل كذا أو تفعل كذا، فهذا يعتبر من نذر اللجاج؛ لأنه يحصل عند المراجعات وعند الخصومات بين الناس.
[فيخير بين فعله وبين كفارة يمين] كما لو قال له: أعطني.
قال: لله علي أن لا أعطيك.
فحينئذ لو أنه رأى أن الخير أن يعطيه فله أن يعطيه، كما أنه لو حلف أن لا يعطيه فله أن يعطيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فقال العلماء: من نذر ورأى غيره خيرا منه فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، في الفعل أو الامتناع، سواء حلف على أن يفعل أو أن لا يفعل.

القسم الثالث: نذر المباح والمكروه
قال رحمه الله: [الثالث: نذر المباح: كلبس ثوبه وركوب دابته فحكمه كالثاني] أي: لو أنه نذر لله عز وجل في لبس ثوب أو ركوب دابة، وحصل ما يوجب الحنث، فإن هذا النذر في المباحات بالإجماع، وكذلك لو قال: لله علي أن لا أركب الدابة، لله علي أن ألبس الثوب، لله علي أن أفعل كذا وكذا، فهذا في المباحات وهو من نذر المباح.
قال رحمه الله: [وإن نذر مكروها من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله] وهذا ما يندب فيه الحنث ويكره فيه الفعل؛ لأن النذر إذا كان بفعل واجب فيجب الوفاء به، ويحرم الحنث فيه، ومنه ما هو مندوب، يكره فيه الحنث، ومنه ما هو مكروه يندب فيه الحنث، وهذا مما يكره ويندب فيه الحنث، فلو أنه نذر على شيء مكروه فإننا نقول له: الأفضل أن تكفر.
وقد تقدم تفصيل هذا في الأيمان.

القسم الرابع: نذر المعصية

قال رحمه الله: [الرابع: نذر المعصية: كشرب خمر، وصوم يوم الحيض والنحر، فلا يجوز الوفاء به ويكفر] اختلف العلماء في هذا النوع من النذر، وهو أن ينذر أن يفعل معصية أو يترك واجبا، وهذا يسمى: نذر المعصية بفعل المحرمات أو ترك الواجبات، فقال بعض العلماء: لا ينعقد أصلا ولا كفارة فيه؛ لأنه لغو.
ومن أهل العلم من قال: فيه كفارة، وهذا جار على الأصول وهو أقوى، وهو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، ولا يجوز له أن يعمل بذلك، فالمرأة فلا يجوز أن تصوم يوم حيضها؛ لأن هذا منهي عنه شرعا، وكذلك صوم يوم النحر، كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، فلا يجوز له أن يصوم هذين اليومين وإنما يكفر.

القسم الخامس: نذر التبرر

قال رحمه الله: [الخامس: نذر التبرر مطلقا أو معلقا، كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه] كأن يقول: لله علي أن أصوم، لله علي أن أصلي، لله علي أن أعتمر، هذا نذر التبرر: وهو طلب البر والطاعة، فهذا مندوب، والرغيبة فيه والأجر فيه والمثوبة فيه، ولذلك يستحب الوفاء به والقيام به ويستحب أن لا يحنث فيه، ومن هنا هذا النوع من النذر مما يستحب فيه الوفاء ويكره فيه الحنث.
وكذلك لو قال: لله علي أن أصوم الإثنين والخميس.
وقال: ما رأيكم؟ نقول له: يا أخي! هذا النوع من النذر نذر بر وطاعة وخير فلا تحرم نفسك الأجر، وقد حملت نفسك على هذا الخير بحامل وبإلزام فابق على هذا الإلزام؛ لأنه أعظم لأجرك وأتقى لربك، فهذا النذر يعتبر الوفاء به مندوبا، وقيل: إنه هو الذي ورد الثناء عليه في قوله: {يوفون بالنذر} [الإنسان:7] وليس النذر المعلق على المكروهات.
قال رحمه الله: [كقوله: إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فلله علي كذا فوجد الشرط لزمه الوفاء به] قوله: (إن شفى الله مريضي) .
هذا النذر فيه وجه من الكراهة، وكذلك إن قال: إن سلمت بضاعتي؛ لأنه قد يعتقد أن البضاعة ما سلمت إلا بهذا النذر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) بمعنى: أن النذر ليس هو الذي يؤثر في قضاء الله وقدره.
فبعض الناس يظن أنه ما دامت تجارته في خطر إذا ينذر، كأنه بهذا الفعل يجامل ربه، هذا معنى قوله: (لا يأتي بخير) إذا: يجب أن لا يعتقد الإنسان بنذره كأنه يحمل -حاشا لله- الله عز وجل أن يسلم له بضاعته أو يشفي مريضه، فإن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والله الغني ونحن الفقراء، فهذا الاعتقاد قد يحصل من بعض ضعاف النفوس، وهذا وجه كراهة النذر، وهو كون المرء يظن أنه بهذا النذر حصل له المطلوب، واندفع عنه المرهوب الذي لا يحبه ولا يريده، وهذا هو المعنى المذموم شرعا.

حكم من نذر الصدقة بماله كله أو أقل من الثلث
قال رحمه الله: [إلا إذا نذر الصدقة بماله كله أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث] إذا نذر أن يتصدق بماله كله فوجهان: قيل: إنه يقبل منه، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه حينما خرج من ماله، وخرج بعض الصحابة من مالهم.
ومن أهل العلم من قال: من نذر أن يتصدق بماله كله، فإنه يتصدق بالثلث ويجزيه، ويسقط عنه الإلزام في الكل، وأخذوا هذا من حديث: (قال: يا رسول الله! إن من توبة الله علي أن أتصدق بمالي.
قال: أمسك عليك مالك) قالوا: إن هذا يدل على أنه لا يتصدق بالمال كله.
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من سعد الثلث كما في حديث الوصايا فقال: (الثلث والثلث كثير) ففرقوا بين الكثير والقليل فقالوا: يخرج الثلث، وظاهر السنة يدل على قبول خروجه من المال كله، خاصة إذا كان قوي الإيمان قوي الاعتقاد فلا بأس بذلك ولا حرج، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه ذلك.
[وفيما عداها يلزمه المسمى] قوله: (وفيما عداها يلزمه ما سماه) أي: إذا كان أقل من الثلث كما لو سمى الربع أو سمى الثمن فإنه يلزمه أن يفي به.
حكم من نذر صوم شهر
قال رحمه الله: [ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع] .
من نذر صوم شهر فله حالتان: الحالة الأولى: أن يسمي شهرا بعينه، فيفوت بفوات أول يوم منه، فلو أفطر في أوله فحينئذ انتقض نذره ولزمته الكفارة، كما لو قال: لله علي أن أصوم شهر ربيع الأول، فإذا هل هلال ربيع الأول لزمه أن يصوم الشهر كاملا متتابعا، سواء كان ناقصا أو كاملا، فهذا المعين يتقيد به.
الحالة الثانية: أن يطلق، فإذا أطلق يخير بين أن يصوم أثناء الشهر أو أن يصوم شهرا كاملا، فلو أنه حلف أن يصوم شهرا فابتدأ ببداية شهر ربيع، وتبين أن ربيع ناقص أجزأه؛ لأن الشهر يكون ناقصا وكاملا كما قال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا) .
لكن إذا أراد أن يصوم أثناء الشهر فلابد أن يعد ثلاثين يوما، وللعلماء وجهان: منهم من قال: إنه يصوم ثلاثين يوما ولو متفرقة، إلا إذا قصد التتابع، وهذا أقوى مما اختاره المصنف رحمه الله أنه يلزمه التتابع.
عدم لزوم التتابع لمن نذر صيام أيام معدودة
قال رحمه الله: [وإن نذر أياما معدودة لم يلزمه إلا بشرط أو نية] قال: لله علي أن أصوم عشرة أيام، أو لله علي أن أصوم عشرين يوما، فإن شاء صامها متفرقة وإن شاء صامها متتابعة.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #762  
قديم 27-10-2025, 04:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب القضاء)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (545)

صـــــ(1) إلى صــ(16)


شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب القضاء
من رحمة الله بعباده أن شرع لهم القضاء لحل خصوماتهم، فيكف الظالم، وينصر المظلوم، وشرع سبحانه لهم شريعة يحكمون بها، وألزم الشرع الإمام بأن يختار قضاة ذوي كفاءة ودين وورع وعدالة، كل هذا لأجل أن تعم العدالة حياة المسلمين.
تعريف القضاء وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب القضاء] .
تعريف القضاء
القضاء يطلق في اللغة على عدة معان: الأول: الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة:200] ، وقوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة} [النساء:103] {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة:10] أي: فرغتم منها وانتهيتم من أدائها.
الثاني: الحكم والإيجاب والأمر بالشيء والتوصية، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء:23] .
الثالث: الإعلام، كما في قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر} [الحجر:66] أي: أعلمناه.
الرابع: الشيء المحتم، كما في قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} [سبأ:14] أي: أصبح أمرا محتما لازما عليه.
الخامس: الخلق، ومنه قوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات} [فصلت:12] .
أما في الاصطلاح: فهو قطع النزاعات وفصل الخصومات، وقيل: (بحكم الله) إضافة قيد.
وعرفه بعض العلماء بقولهم: الفصل بين خصمين بحكم الله عز وجل.
وهذا من أنسب التعاريف.
مشروعية القضاء
القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وقد دل دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضا يدل، قال تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة:42] ، وقال سبحانه تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص:26] ، فأمر بالقضاء.
والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضا ولى القضاة، كما بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا، وبعث معاذا وأبا موسى الأشعري أيضا رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم.
وأجمع المسلمون على شرعية القضاء.
والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة.
فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضيا، كما قال تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف:55] ، وأما إذا وجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقا ولا يبطل باطلا فالسلامة أفضل.
قيل لـ أبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقها وحديثا- عندما أكره على القضاء وفر، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟ قال: إلى متى يسبح السباح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن.
وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنت صادقا فقد صدقت، وإن كنت كاذبا فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس: يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يمينا يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك.
وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء.
وقيل: لما قيل لـ أبي حنيفة: لماذا لم تل القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك.
يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائما بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازما، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.
القضاء فرض كفاية
قال رحمه الله: [وهو فرض كفاية] .
وهو -أي: القضاء- فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
واجب الإمام في القضاء واختيار القضاة
قال رحمه الله: [يلزم الإمام أن ينفذ في كل إقليم قاضيا] .
يجب على إمام المسلمين وولي أمرهم أن يختار القضاة للأمصار والأقاليم وفي الأماكن على حسب الحاجة، فيعين من هو أهل للقيام بهذه المصالح.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث القضاة -وممن بعثهم علي رضي الله عنه- وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده اختاروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء وأرسلوهم قضاة في الأمصار والأقاليم، وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار القاضي، ولعظم مسئولية القضاء لا يختار له كل أحد، بل ينبغي أن تتوافر فيه الصفات المعتبرة.
قال رحمه الله: [ويختار أفضل من يجده علما] .
لأن الله سيسأله عمن يختاره، وسيقف بين يدي الله ويسأل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعما اختار لهم، إن نصح فقد نصح، وإن لم ينصح فإنه مسئول محاسب عن ذلك.
إذا: من واجب النصيحة أنه إذا وجد الناس على فضل بحث عن أفضلهم وأكملهم، وهذا مبالغة في النصيحة لعامة المسلمين، وكل من ولي أمرا من أمور المسلمين -حتى ولو كان مدرسا- وأراد أن يختار أحدا للقيام بمصلحة من المصالح فعليه أن يختار الأفضل، فهذه هي النصيحة التي هي الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) أن ينصح لعامة المسلمين باختيار الأفضل علما -أن يكون عنده علم ودراية-؛ لأنه لا يمكن إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا بالبصيرة، وهي النور الذي يقذفه الله في القلوب، {لكن الراسخون في العلم} [النساء:162] فالرسوخ والبينة طريقان لاستبانة الحق ومعرفته؛ لأن الجاهل بالحق لا يمكن أن يقضي به، فلابد أن يكون لديه علم.
ويعرف علم الرجل بشهادة العلماء وبشهادة من هو أعلم بأن فلانا عنده علم، فإذا شهد له -أو عرف بالسماع عنه- أنه مبرز في علم القضاء فإنه يختار لذلك.
[وورعا] .
الورع أن يكون عنده انكفاف عن محارم الله عز وجل، فيدع ما لا بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس، وإذا كان القاضي ورعا عف عن أموال المسلمين، وكف عن أذيتهم بلسانه وعن أذيتهم بقوته وسلطانه، وكان أخوف ما يخاف من الله عز وجل أن يقف أحد منهم خصما له بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وهذا الورع هو الذي يقف به في وجه الظالم لكي يكبحه عن ظلمه كائنا من كان، ويجد أنه بهذا الورع أقوى من القوي في قوته، ويجد أن الضعيف في عينه صار قويا بهذا الورع، وأن القوي صار ضعيفا.
نماذج من القضاة القدوة
القضاة من أئمة السلف رحمهم الله ودواوين العلم والصلاح سطروا المواقف العظيمة الجليلة الكريمة.
فقد أثر أن المأمون لما جاء إلى المدينة ومعه الحمالون لمتاعه ما إن نزل واستقر حتى أتوا إلى قاضي المدينة؛ فما إن دخل إلى قصر عامله بالمدينة حتى جاءه رسول القاضي يقول له: إن القاضي يدعوك إلى مجلس القضاء، حضر خصوم لك.
فما كان منه إلا أن بعث حاجبه، وقال له: إذا خرجت فمر الناس ألا يقوموا؛ فإني ماض إلى مجلس القضاء.
فلما مضى إلى مجلس القضاء وجاء إلى مجلس القاضي فرشت له السجادة، فقال له القاضي: يا أمير المؤمنين! لا تترفع عن خصمك، -وخصومه هم الحمالون الذين كانوا يحملون متاعه لما جاء مسافرا من دار الخلافة إلى المدينة- فإما أن تفرش لك ولهم وإلا جلست معهم على أرض المسجد.
فجلس معهم على أرض المسجد، فلما جلس معهم قال: ما خصومتهم؟ قال: إنهم لم يأخذوا حقوقهم، فقال: إني قد أمرت وكيلي أن يدفع إليهم، قال: فلتدفع إليهم الساعة؟ قال: أفعل.
فما كان من القاضي بعد أن انتهى هذا الأمر إلا أن ذهب وجلس وراء المأمون، فقال له: ويحك! ما الذي تفعله؟ قال: يا أمير المؤمنين! كنت في حق الله وقضيت، فالآن أبقى في حق أمير المؤمنين.
وفي زمان الرشيد أثر عن أحد القضاة أنه كان من أصلح القضاة، فجاءته امرأة فقالت له: أنا بالله ثم بالقاضي من عم أمير المؤمنين عيسى بن موسى، وكان له مكانته، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أبي خلف لي بستانا فكان بيني وبين أخوتي، فاشترى من إخوتي نصيبهم وساومني أن يأخذ حقي فامتنعت، فما زال بي حتى كان البارحة أرسل أعوانه فهدموا الجدار فأصبحت لا أعرف حقي من حق إخواني، فأنا بالله ثم بالقاضي.
فكتب إليه: إلى عم أمير المؤمنين فلان بن فلان، تحضروا إلى مجلس القضاء أنت أو وكيلك، فقد حضرت امرأة تستعدي عليك.
فلما جاء الكتاب إليه أخذته العزة بالإثم فغضب غضبا شديدا فنادى أكبر العلماء في قرية كانت في ضاحية فقال له: اذهب إلى هذا القاضي وقل له: نوليك القضاء حتى تقضي علينا؟! فقال له هذا العالم الموفق: أعفني من ذلك؛ لأنه يعرف أن هذا القاضي صارم لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: أعفني من ذلك، قال: والله! لا يذهب غيرك.
قال: أما وقد أقسمت علي فإني سأبعث بفراشي إلى سجن القاضي؛ لأنه يعرف أنه سيسجنه.
فما إن جاء إلى القاضي وقال له: إن عم الخليفة يقول لك كذا وكذا، قال: بئس ما جئتني به، أوتحول دون الحق، وتعين على الباطل؟! اذهبوا به إلى السجن.
قال: قد علمت، وقد سبقني فراشي.
فكتب إليه مباشرة؛ لأنه رد الشرع وأهان القاضي فرد له بالإهانة: إلى فلان بن فلان حضرت امرأة تستعدي عليك، فلتحضر إلى مجلس القضاء بنفسك.
بينما في المرة الأولى قال له: أنت أو وكيلك، فقال له هذه المرة: بنفسك.
فما كان منه إلا أن ازداد غضبه ثم نادى تسعة من العلماء من أعيان البلد وأمرهم أن يذهبوا، فلما صلى القاضي العصر جاءوا حوله وتحلقوا لكي يساوموه في المصلحة وما تقتضيه المصلحة، فلما تكلموا قال: بئس ما جئتوني به، هل هنا أحد من فتيان الحي؟ فقالوا: أنا أنا، فقال: كل منكم يأخذ بواحد منهم ويذهب به إلى السجن.
ثم كتب إليه: إما أن تحضر إلى مجلس القضاء وإلا ختمت القنطر، فوالله! لا خير في إن لم أقم الحق عليك وعلى غيرك.
فلما مضى إليه الكتاب ما كان منه إلا أن غضب ولم ينظر في الكتاب ولم يقرأه ثم أمر بالباب أن يكسر وأخرج أولئك من السجن، فلما بلغ ذلك القاضي ختم القنطر، وإذا ختم القنطر لابد أن يذهب إلى هارون الرشيد، فلما صلوا المغرب إذا به قد تهيأ أن يخرج، فخرجت القرية عن بكرة أبيها؛ لأن من نصر الحق نصره الله عز وجل، فصاح الناس، وسأل هذا: ما شأن الناس وهو جالس في مزرعته؟ قالوا: إن القاضي ختم القنطر وهو يريد أن يذهب إلى أمير المؤمنين.
قال: وما شأنه؟ قالوا: لأنك لم تأت إلى مجلس القضاء.
وكان يعلم أن هارون الرشيد رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم، كانت له حسنات جليلة، فعلم أنه لو ذهب إليه سيهينه ويرده إلى مجلس القضاء، فما كان منه إلا أن ركب دابته ووقف للقاضي في طريقه قبل أن يخرج من القرية، فقال له القاضي: لا أرضى حتى يرجع كل من أخرجته؛ لأن هذا حق لله لست أنت الذي تخرجه.
فردوا إلى مجلسه، فلما ردوا قال له: تذهب الآن مع المرأة وتدخل إلى المسجد.
فمضى معها كما يمضي غيره من عامة الناس، ثم لما دخل القاضي وصلى الركعتين وجلس للخصومة جاء عم أمير المؤمنين فأراد أن توضع له الطنفسة، قال: تجلس على أرض المسجد ولا تجلس على بساطك وعلى فراشك، فأنت في مجلس خصومة.
فقامت المرأة ورفعت صوتها، فقال لها بعض أعوان عيسى بن موسى: اخفضي صوتك.
فقال لها القاضي: انطقي؛ فإن الحق رفع صوتك قولي ما عندك، فصاحت المرأة بقضيتها، فقال: ما تقول؟ قال: أقول: قالت حقا، قال: تبني جدارها الساعة، قال: أفعل، فقالت المرأة: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين وعن أمة محمد خير الجزاء.
هذه النماذج العظيمة القوية بها يحق الحق، ولا يمكن أن يكون القاضي إلا إذا كان صادقا وكان أهلا، فإذا غلب على ظنه أنه يحق الحق ويبطل الباطل فحيهلا وإلا فلا.
ما يجب على الإمام أن يأمر به من يوليهم القضاء
قال رحمه الله: [ويأمره بتقوى الله] .
أي: يأمر القاضي أن يتقي الله عز وجل؛ لأن أساس الأمور وصلاحها كلها في تقوى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا أو بعث سرية أمر وأوصى الأمير في خاصته ومن معه بتقوى الله عز وجل، فهي أساس ومنبع كل خير وبر.
قال رحمه الله: [وأن يتحرى العدل وأن يجتهد في إقامته] .
أي: يوصيه أن يتحرى العدل حتى يعذر إلى الله عز وجل، ويقول: إني وليتك هذا الأمر فاتق الله واعدل؛ لأن الحكم قوامه العدل فالقوي ضعيف عندك حتى تأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى ترد الحق إليه، وأن لا تأخذك في الله لومة لائم، وأن تتذكر معونة الله لك، وتأييد الله لك، وأنه لا يزال لك من الله نصير وظهير ما دمت تطلب الحق وتنشده؛ لأن القاضي إذا طلب الحق وتجرد للحق لا يزال معه من الله معين وظهير، ما لم تخن خائنة في قلبه والعياذ بالله {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يزيغ قلوبنا.
قال رحمه الله: [فيقول: وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه ويكاتبه في البعد] .
الأولى صيغة قولية، يقول له: وليتك قلدتك هذه من الصيغ التي يوجهها الإمام العام -ولي الأمر- لمن يوليه القضاء؛ لأن القاضي نائب عنه منفذ بالشرع بالأحكام له نيابة عن الإمام وما دام أن القاضي نائب عن الإمام، فلابد أن تكون هناك وكالة شرعية تكون باللفظ الصريح: وليتك قلدتك نصبتك، ونحو ذلك، أو أنت قاضي كذا.
أو يكتب إليه ويصدر أمرا بتعيينه ونحو ذلك، فهذا يقوم مقام اللفظ.
مهام القاضي
قال رحمه الله: [وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم] .
إذا كان القضاء في ولايات عامة وخاصة، يكون عاما في الولاية عاما في المكان، كأن يقول له: أنت قاض على دولتي كلها، أي: جميع ما يتعلق بالقضاء راجع إليك، فهذه ولاية عامة في عموم العمل وهذه يطلقون عليها: (عموم النظر في عموم العمل) فجميع ما يتعلق بالقضاء يرجع فيه إلى هذا المولى.
ويكون أيضا: عموم في خصوص (عموم النظر في خصوص العمل) كأن يقول له: وليتك القضاء في الأنكحة وفي الرهون وفي البيوعات وفي الحدود وفي القصاص، وفي الوصايا وفي الأيتام ونحو ذلك عامة، في مدينة كذا أو كذا؛ فهذا يسمى (عموم النظر في خصوص العمل) .
أو يوليه (خصوص النظر في خصوص العمل) كأن يكون هناك قضاة في الوكالات يتولون كتابة صكوك الوكالات، وهناك قضاة يتولون الحدود، وآخرون يتولون الجنايات، يقول -مثلا-: أنت وليتك قضايا القتل في مكة، أو في المدينة (خصوص النظر في خصوص العمل) .
إذا: ولاية القاضي تكون خاصة وتكون عامة، وهذه من التشريعات الإسلامية، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها، فولاه عليه الصلاة والسلام خصوص النظر في قضية خاصة معينة، وجعله قاضيا إن اعترفت، والاعتراف لا يصح إلا في مجلس القاضي وفي مجلس الحكم، (فارجمها) والرجم لا يكون إلا بحكم القاضي، فجعله قاضيا في قضية مخصوصة، وهذا من خصوص الولاية.
قوله: (وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، وأخذ الحق لبعضهم من بعض) .
كلما اختصم خصمان يفصل بينهما؛ لأنه مسئول عن هذا، سواء كانت الخصومات في الأموال أو كانت في الأنكحة، أو كانت في الحقوق العامة، أو كانت في الحدود ونحو ذلك، كل هذه يتولاها للعموم.
قال رحمه الله: [والنظر في أموال غير المرشدين] .
كل قاض ينبغي عليه أن ينظر من ولاهم على الأيتام وعلى القاصرين، وهم (النظار) فيستدعيهم ويسألهم ويعرف كيف يصرفون، وكيف يقومون، حتى يعلم صدق الصادق وكذب الكاذب، وخيانة الخائن، وأمانة الأمين، ويعرف هل هو فعلا قائم بهذه الولاية.
فكل من ولي قضاء أول ما يأتي ينبغي أن يستدعي هؤلاء ويسألهم، وقد نبه على هذا الأئمة رحمهم الله في كتبهم: كأدب القاضي للإمام الماوردي، وابن أبي الدم من فقهاء الشافعية، وكذلك نبه عليه ابن فرحون في التبصرة، وغيرهم من الأئمة والفقهاء، وشيخ الإسلام أشار إلى هذا فهذه من مسئولياته وأمانته أن ينظر في أموال القصار -إذا كانت الولاية عامة- ويولي أوصياء عليهم، وكذلك يتفقد القائمين على أموال السفهاء ومن يتولى عليهم النظار، هل هم قائمون أم مقصرون؟! قال رحمه الله: [والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس] .
يوليه هذه الولاية وتكون ولاية عامة، ولاية الحجر على السفيه.
قال رحمه الله: [والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها وتنفيذ الوصايا] .
إذا كان في مدينة يستدعي النظار على الأوقاف، ويسألهم عن أوقافهم، وهذه الأوقاف ماذا اشترط الأموات فيها؟ وماذا اشترطوا في هذه الأوقاف؟ وهذه مسئولية عظيمة ولا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بها، وكيف نفذوا هل نفذوا شروط الوقف أم لم ينفذوا؟ هل هم متلاعبون؟ هل هم مقصرون؟ هل هم محتاجون إلى مساعدة أو معونة؟ حتى يستجلي جميع هذه الأمور، فكلها في رقبته، وهو مسئول عنها أمام الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي عليه القيام بها كاملة.
قال رحمه الله: [وتنفيذ الوصايا] .
وكذلك هي.
قال رحمه الله: [وتزويج من لا ولي لها] .
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) .
قال رحمه الله: [وإقامة الحدود وإمامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه] .
بالنسبة للجمعة ينصب شخصا فهذا المسجد تصلى فيه الجمعة، والمنطقة التي هو فيها يقول: لا يصلون إلا في مسجد واحد؛ لأن الأصل أن الجمعة لا تعدد، فله النظر في مساجد الجمعات، وكذلك تنفيذ الحدود.
قال رحمه الله: [ويولى عموم النظر في عموم العمل] .
كما ذكرنا، قلنا: أنت المسئول عن القضاء في البلد كله، أو في الدولة كلها.
قال رحمه الله: [ويولى خاصا فيهما أو في أحدهما] .
كما ذكرنا.
ما يشترط في القاضي
قال رحمه الله: [ويشترط في القاضي عشر صفات] .




أن يكون بالغا عاقلا ذكرا

قال رحمه الله: [كونه بالغا عاقلا] .
لا يصح القضاء إلا إذا كان القاضي بالغا؛ لأن الصبي لا ولاية له على نفسه فكيف يكون واليا على الغير، ومن هنا أمر الله عز وجل بالحجر على أموال اليتامى والقاصرين الذين هم دون البلوغ، فلابد أن يكون بالغا.
وأن يكون عاقلا، فلا يصح قضاء المجنون.
ذكرا بالغا عاقلا وهذه يتأهل بها للتكليف وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل وتستحب فيه الجزالة وشرطه التكليف والعدالة أي: يستحب أن تكون عبارته جزلة واضحة، وأن يكون كلامه موجزا.
(وشرطه التكليف والعدالة) أي: يشترط أن يكون مكلفا، فلا يصح أن يولي صبيا ولا مجنونا.

أن يكون حرا

قال رحمه الله: [حرا] .
لأن المملوك كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل:75] هذا نص القرآن بين أن المملوك لا يقدر على شيء، والمملوك يتأثر بأحوال الناس وعظماء الناس، والغالب أنه يضعف ويجبن ويخاف، وهو مشغول بخدمة سيده، ولذلك لا يصح أن يولى القضاء، وهذا يزري بالقضاء وينقص من مكانته إذا ولي الضعفاء، فينبغي أن يولى القضاء من فيه قوة على إحقاق الحق حتى يردع السفيه عن سفهه، والظالم عن ظلمه.

أن يكون مسلما عدلا
قال رحمه الله: [مسلما] .
فلا يصح أن يولى كافر، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، حتى لو كانوا كفارا من أهل الكتاب، وأرادوا أن نولي عليهم قاضيا لا نولي إلا مسلما؛ لأن الله أمرنا أن نحكم بينهم بالعدل وبشريعتنا، فلا نولي قضاتهم وإنما نولي قضاة مسلمين، لكن لو كانوا يرجعون إلى قضاة فيما بينهم فهذا قدمنا أحكامه في أحكام أهل الذمة.
وقوله: [عدلا] .
ومن يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا العدل هو: الذي لا يفعل الكبيرة ولا يصر على الصغيرة، فيشترط أن يكون القاضي عدلا؛ لأن العدالة تحمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فكما أنه يشترط في القاضي التكليف، كذلك يشترط فيه العدالة، فلا يجوز تولية الفاسق؛ لأن الفسق فيه إضاعة لحق الله عز وجل، ومن ثبتت خيانته في حق الله فإنه سيخون في حق المخلوق من باب أولى وأحرى، ومن هنا لا يولى الفاسق القضاء إلا في أزمنة خاصة يتعذر فيها وجود العدول، أو يكون فسقه خارجا عن القضاء، يعني: لا يؤثر في قضائه، مثلا: يشرب الخمر، لكنه من أصدق الناس، وعنده تحفظ ورعاية، لكنه مبتلى بشرب الخمر، فحينئذ يولى إذا كان هذا لا يؤثر في قضائه.
فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا لم يكن متعديا للولاية فقد قرر الأئمة خاصة عند فساد الزمان أنه يجوز تولية أمثل الفساق.

أن يكون سميعا بصيرا

قوله: [سميعا] .
فلا يولى الأصم القضاء إذ كيف يسمع الخصوم؟! وكيف يسمع الحجج ويصغي إليها؟! قوله: [بصيرا] .
الأعمى اختلف فيه، والصحيح أنه يصح قضاء الأعمى إذا كان يميز الأصوات ولديه قدرة على القيام بحق الله عز وجل في قضائه، بل قد يكون أفضل من المبصر؛ فإن العمى عمى البصيرة، وكم من قضاة من العميان هم بكثير من غيرهم، مثل ابن عباس رضي الله عنه القضاء، فإذا كان أعمى عنده قدرة على القضاء فإنه يولى، هذا هو الصحيح، أما مذهب بعض العلماء من أنه لا يصح تولية العميان القضاء فهو قول مرجوح، وأشار إليه بعض العلماء بقوله: وأن يكون ذكرا حرا سلم من فقد رؤية وسمع وكلم فهذه من الشروط: أن يكون ذكرا فالأنثى لا تولى.
حرا ألا يكون رقيقا.
سلم يعني: في عافية في سمعه فلا يكون أصم، وفي بصره فلا يكون أعمى، وفي كلامه فلا يكون أبكم.

أن يكون متكلما مجتهدا

قوله: [متكلما] .
متكلما؛ لأنه كيف يحكم؟! قوله: [مجتهدا ولو في مذهبه] .
مجتهدا اجتهادا مطلقا أو اجتهادا مقيدا؛ حتى يستطيع أن يعرف الحق وأن يميزه.
القضاء الخاص في مسائل خاصة (التحكيم)
قال رحمه الله: [وإذا حكم اثنان بينهما رجل يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها] .
بعد أن بين رحمه الله الولاية العامة شرع في ولاية القضاء الخاصة في المسائل الخاصة، كما لو اتفق شخصان على أن يحكما شخصا بينهما فإنه ينفذ حكمه، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وكذلك أمر بالاحتكام إلى الحكمين في قضية نشوز المرأة، فإذا اتفقوا أن فلانا يحكم بينهم فإنه يمضي حكمه، والأصل في ذلك ما ذكرناه من دليل الكتاب والسنة وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، كما فعل علي رضي الله عنه في قضيته مع معاوية حيث حكما أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #763  
قديم 27-10-2025, 04:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب القضاء)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (546)

صـــــ(1) إلى صــ(13)

شرح زاد المستقنع - باب آداب القاضي
ينبغي للقاضي أن يتحلى بجملة من الأخلاق وأن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله، منها: القوة في غير عنف، واللين في غير ضعف، ليقوى الضعيف بحكمه، ويضعف الظالم بعدله، وعليه أن يراعي النزاهة في حكمه والبعد عن الشبهات والرشوة، والعدل بين المتخاصمين، ومجانبة ما يشوش عليه في حكمه، وأن يعتبر البينة، ولا وغيرها والآداب والأحكام التي يجب توافلرها في القاضي المسلم.


آداب القاضي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب آداب القاضي] .
الآداب جمع أدب، والأدب من مكارم الأخلاق ومن محاسن العادات.
وهذا الباب -باب آداب القاضي- باب عظيم اعتنى به العلماء رحمهم الله، وهي جملة من الأمور التي ينبغي للقاضي أن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله في مجلس القضاء، والسبب في ذلك أن القضاء لابد له من هيبة، ولابد له من صيانة وتحفظ يستعان بهما بعد الله عز وجل في إيصال الحقوق إلى أهلها، فالتبذل وعدم العناية بحق القضاء شره وبلاؤه عظيم، ومن هنا اعتنى العلماء بهذا الباب.
وآداب القاضي منها: آداب ظاهرة وآداب باطنة، والآداب الظاهرة: قولية، وفعلية، وكلها ينبغي أن يستجمعها القاضي في قضائه.
أن يكون قويا من غير عنف
قال رحمه الله: [ينبغي أن يكون قويا من غير عنف] .
فلا تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه إذا كان ضعيفا لا يستطيع أن يأمر بما أمر الله به، ولا أن ينهى عما نهى الله عنه، فلابد وأن يكون قويا من غير عنف، فالقوة إذا جاوز وأفرط فيها فإنها تصبح عنفا، فينبغي أن تكون القوة بحدود، وهي القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل من غير عنف.
وإذا كان قويا من غير عنف فإنه حينئذ يهابه الباغي والظالم، ويطمع في عدله المظلوم؛ لأن المظلوم لما يرى القاضي ضعيفا يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيفضل السكوت؛ لأنه كيف يشتكي إلى إنسان ضعيف؟ حينما فلابد أن يكون القاضي قويا حتى يطمع الناس في الوصول إلى حقوقهم عن طريقه، وإذا كان القاضي بهذه الصفة رغب الناس في حكم الله عز وجل والعدل الذي يبينه، فإذا أفرط في القوة نفر الناس وظلم الناس وأجحف بالناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم قويا من دون عنف، وهو أن يضع الشدة في موضعها.

أن يكون لينا من غير ضعف

قال رحمه الله: [لينا من غير ضعف] .
لينا رفيقا حتى لا ينفر منه الضعيف، ولا يهابه هيبة ترده عن الشكوى إليه؛ لأن القاضي إذا كان غير لين خافه الناس وهابوه، لكنه إذا كان لينا ألفه الضعيف واستطاع أن يبث إليه حزنه وأن يشتكي إليه وأن يبين مظلمته، فيمكن الخصوم من بيان مظالمهم وحوائجهم، لكن يشترط أن تكون هذه اللينة من دون ضعف وخور؛ لأن الضعف والخور يطمع الباغي في بغيه، ومن هنا قالوا: إنه ينبغي عليه أن يكون جامعا لهاتين الصفتين الجامعتين بين الحسنيين أن يكون قويا من دون عنف، لينا من دون ضعف.

أن يكون حليما ذا فطنة وأناة

قال رحمه الله: [حليما ذا أناة وفطنة] .
لأن القاضي سيأتي إليه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، والناس تأتي وقد أخذت حقوقها، وضاعت، فيصرخ الرجل وتتألم المرأة ويتضجر المظلوم، فيحتاج إلى صبر وإلى تحمل وإلى أناة، وإلى عدم استعجال وعدم تضجر من هذه الأشياء، ولذلك الأجر في هذا عظيم، فمن ابتلي بمصالح المسلمين كل الناس تأتيه على اختلاف أحوالها حتى العالم الطبيب الخطيب، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يسع الناس برحمته ولطفه، حتى يستطيع كل شخص أن يبدي ما عنده ما دام أنه يقدر على ذلك، أما إذا كان لا يقدر على ذلك أو كان مريضا أو عنده فهذا أمر آخر، لكن في الأصل العام أنه يبذل ما يستطيع، حتى يستطيع أن يعلم ماذا عند الناس، ويوصلهم إلى حكم الله عز وجل ودينه وشرعه بالتي هي أحسن.
والحلم خصلة يحبها الله، قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) ، والحلم سعة الصدر، ويلزم أن يكون القاضي حليما؛ قد يأتي الخصم -في بعض الأحيان- بحالة متفجع، فتصدر منه عبارات، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يطفئ هذا الغضب، ولا ينفر منه الناس في تعاملهم معه.
[ذا أناة] .
أي: صاحب أناة لا يستعجل في الأمور، فإذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم عليه حتى ترى خصمه، فلعله فقئت عيناه، وقد يأتيك الشخص وهو يبكي ويشتكي وإذا بك تشعر أنه المظلوم، ثم يتبين أنه مزور أو كذاب أو غشاش، أو يكون رجلا صالحا وعظم الأمر عندك ولكنه فهم خطأ، فلا يمكن أن تستبين هذه الأمور إلا بالأناة والتروي وعدم الاستعجال، ولذلك من رزق الأناة فقد رزق الخير الكثير.
[وفطنة] .
الفطنة هي: الكياسة والحذر والتنبه، ومن الناس من رزق الفطنة حتى إذا ولي القضاء يبلغ به الحال أنه يجلس إليه الخصمان فيعرف المحق منهما من المبطل، وهذا أثر عن بعض السلف وبعض العلماء الأجلاء الذين كانوا على درجة من الفطنة والفهم، حتى بلغ بأحدهم أنه لا يتكلم عنده الخصمان إلا شعر أيهما الظالم من المظلوم من كثرة التعامل مع الناس وتفطنه لأقوالهم وطرقهم وألاعيبهم وكذبهم وغشهم، فأصبح -غالبا- من قوة فراسته يستطيع أن يدرك كثيرا من الخلل، وليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب، وإنما هي فراسة المؤمن.
لكن ينبغي -كما يقول العلماء- في هذه الفراسة والفطنة أن لا يجاوز فيها ولا يسرف، وذلك أنه قد تكون عند إنسان فراسة -وقد تصيب- لكن لا يسرف فيها؛ فإن الشيطان -من خبثه- ربما يستدرج الإنسان إذا أصاب في التفرس مرة أو مرتين حتى يوقعه في سوء الظن بالمسلمين، وربما سدده بالفراسة المرة والمرتين حتى لربما خونه في أهله وعرضه وزوجه، فيحذر الإنسان من استدراج الشيطان له، فالفراسة لها حدود، والفطنة لها حدود، ولذلك قالوا: يكره شديد الذكاء في القضاء؛ لأنه إذا اشتد ذكاؤه ربما حمل الأمور ما لا تتحمل، وحملها على غير ما لا ينبغي أن تحمل عليه.


أن يكون مجلسه قريبا فسيحا

قال رحمه الله: [وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحا] .
للقاضي أن يجلس في أي مكان، لكن ينبغي أن يراعي فيه الرفق بالناس، لئلا يكون فيه تعنيت للخصوم والشهود بالذهاب إليه في أماكن بعيدة، ولذلك اختاروا وسط المدينة ما أمكن، واختلفوا هل يقضي في المسجد أو لا؟ الجمهور على جواز ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه، ولأن الخلفاء الراشدين من بعده كذلك، واستحب بعض العلماء من الجمهور القضاء في المسجد، ولكن الصحيح أنه يجوز أن يجلس حيث أمكنه، ومن هنا قال بعض العلماء: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد وحيث لاق للقضاء يقعد يعني: حيث كان المكان لائقا يجلس، حتى لو في السوق، بلغ ببعض أئمة السلف رحمهم الله أنه إذا جاءه خضمان يقول: لا يحل لي أن تجاوز قدمي قدميهما حتى أفصل بينهما.
أي: لا يجوز أن أفارقهما ولا أن أؤخرهما فلربما جاءوه وهو في السوق، فينتحي ناحية من السوق ويسمع من الخصمين ويقضي بينهما، وهذا مما وضع له من البركة.
وفي البلاد يستحب المسجد فيجوز أن يكون القضاء في المسجد.
وقوله: [فسيحا] أي: أن يكون المكان فسيحا لكن في المسجد اشترط بعض العلماء: أن لا يؤذي الناس والمصلين، فإذا كان ذلك يشوش عليهم، وحصلت المفاسد فالمصلحة أن يصرفه عنهم.
العدل بين الخصوم في التعامل معهم أثناء القضاء
قال رحمه الله: [ويعدل بين الخصمين في لحظه] وهذا من أدب المجلس؛ لأن عمر بن الخطاب لما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء -الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين، وهو يسمى كتاب السياسة الكبيرة وهو من أعظم الكتب التي اعتنى العلماء بها- قال له: (آس بين الخصمين في عدلك ولحظك ومجلسك) في لحظك: أي: ينبغي أن يعدل بين الخصمين في اللحظ، فلا ينظر إلى أحدهما أكثر من الآخر، ولا ينظر إلى أحدهما بشدة دون الآخر، ولا يطيل النظر على وجه الريبة؛ لأن هذا يحدث في النفوس شيئا، فإذا نظر إلى أحدهما فلينقل النظر إلى الآخر، وإذا أجلسهما فيجلسهما في مكان واحد، فلو جلس أحدهما على شيء دون الآخر سوى بينهما في المجلس، ولا يجلس أحدهما بجواره والآخر أمامه، بل يجلسان أمامه، كل هذا من باب الحيادية في القضاء، وقد بلغ القضاء الإسلامي الأوج والعظمة وحاز أعلى المراتب وأسماها؛ لأنه من حكيم حميد، وكل هذا من أجل أن يكون العدل، حتى في الصورة والشكل.
وقوله: [ولفظه] .
ولفظه: يعني في كلامه، فلا يتكلم مع أحدهما أكثر من الآخر، إلا إذا وجدت حاجة أو وجد أمر، ولا يلحظ أحدهما لحظا شديدا إلا إذا وجدت حاجة، كل هذا من باب أن يكون على حيادية، فلا يخون في مجلسه ولا في نظره ولا في قوله.
[ومجلسه] كذلك مكان جلوسه، فلا يجعل أحدهما في مكان أبرد من مكان الآخر، ولا مكان أشرف من مكان الآخر، ولا يكون أحدهما في مكان فيه تكرمة والآخر في مكان لا تكرمة فيه، بل ينبغي أن يجلس الخصمان مجلسا متساويا، ويكون دخولهما من باب واحد، وأن يكون حال القاضي بينهما حالا واحدا، فلا يقوم لأحدهما ولا يقوم للآخر، ولا يحتفي بأحدهما دون الآخر، بل مثلما يفعل مع هذا يفعل مع هذا.
وقد أثر عن بعض أهل العلم أنه كان في القضاء، فدخل عليه رجل واختصم مع آخر -وهذه مأثورة عن الإمام الشيخ: عبد الله بن حميد نسأل الله أن يقدس روحه وعلماء المسلمين أجمعين- في جنات النعيم، فلما جاء دخلا عليه قالا: يا شيخ! أتينا في خصومة، قال: أتيتما في خصومة؟ قالا: نعم -وكان أحدهما دخل من باب خاص- فقال: يا فلان! من أين دخلت؟ قال: دخلت من باب كذا، قال: اذهب وادخل مع خصمك، ثم إذا دخلتما من باب واحد قضيت بينكما.
وهكذا العدل، فلابد أن يكون بهذا التجرد وبهذا الصفاء والنقاء؛ لتحصل الطمأنينة لدى الناس للوصول إلى الحق.
اتخاذ المستشارين من العلماء
قال رحمه الله: [وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب] فمثلا: لو رفعت إليه حادثة عن شخص فعل فعلا، قد يكون معتقدا لحرمة هذا الفعل، لكن غيره يعتقد جوازه، ويخفى عليه مذهب غيره، فيأتي ويعزر المسكين، ولربما قال له أحد الخصوم: هذا جائز عندنا، وهو يكذب أو يقول: عملت على مذهب كذا، وأنا أعتقد مذهب الحنفية أو المالكية أو الحنابلة، وعندنا هذا جائز، فكيف يعرف صدقه من كذبه؟ لابد من مشاورة العلماء، وهذا جرت عليه السنة، وهو أن مجلس القاضي يحضره العلماء، وبعد أن يسمع تفاصيل القضية يشاورهم فيما نزل به، هذه هي السنة التي أمر الله بها عز وجل نبيه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159] ، فالشورى كلها خير، وإذا عجز عن ذلك فإنه يتصل بهم ويذاكرهم ويناظرهم حتى يجد الحق ويصل إليه.
[ويشاورهم فيما أشكل عليه] هذا هو الأصل، والله المستعان.
يحرم القضاء إذا كان القاضي مشوش الذهن
قال رحمه الله: [ويحرم القضاء وهو غضبان كثيرا] .
ويحرم القضاء وهو غضبان- وهو غضبان: جملة حالية- لأن الغضب يمنع الإنسان من التأمل والتدبر، ولربما اشتد في قوله وتعامله؛ ولذلك لا يجوز أن يقضي وهو على هذه الصفة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله: [أو حاقن أو في شدة جوع أو عطش] .
أشير إلى الحاقن بوله أن احتقانه يشوش عليه فكره، أو شدة عطش كذلك يشوش عليه فكره، والنص جاء في الغضبان، وألحق به ما في معناه.
[أو هم أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج] .
كل هذه الأمور تؤثر عليه في فكره وتأثر عليه في تركيزه، فلابد أن يكون على حالة بخلاف هذه الحالات، لكي تعينه على أن يكون أصفى ذهنا وأقدر على معرفة الحق.
[وإن خالف فأصاب الحق نفذ] .
وإن خالف فقضى وهو غضبان أو قضى وهو مهموم أو قضى وهو عطشان أو قضى وهو جائع شديد الجوع، نفذ قضاؤه إن أصاب حقا، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والعلة هنا أنه يخشى مع هذه الحالات أن يتشوش فكره فلا يمعن النظر، لكن فإذا لم يشوش فإنه يصح قضاؤه.
تحريم الرشوة والهدايا للقضاة
قال رحمه الله: [ويحرم قبوله رشوة، وكذا هدية] ويحرم عليه أن يقبل الرشوة، وفيها اللعن -والعياذ بالله- الراشي والمرتشي، والرائش -وهو الذي يمشي بينهما- والعياذ بالله، فلا يجوز للقاضي أن يقبل الرشوة، وهي السحت الذي حرم الله ورسوله، قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} [البقرة:188] ، هذه الرشوة ثم انظر وتأمل قوله تعالى: (تدلوا بها) ذكر بعض المفسرين أن القاضي إذا قبل الرشوة نزل من المنزلة العالية السامية إلى الحضيض، ولذلك قال سبحانه: (تدلوا) كالدلو ينزل إلى القاع، فإنزال الرشوة وإدلاؤها إلى القاع، (القاضي) الذي صار في الحضيض بعد أن كان في مقام يشرفه الله عز وجل به ويكرمه ويعزه فيأبى إلا أن يهين نفسه ويذلها.
(وتدلوا بها إلى الحكام)، وهذا من أسرار اللغة الجميلة، ولذلك لا يمكن أن يترجم القرآن إلى أية لغة؛ لأنه لا تستطيع أن تجد فيها هذه المعاني الجميلة المتجددة.
[إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومة] .
إلا أن يكون هذا الشخص يهاديه من قبل، كصديقة أو رفيقه أو ابن عمه أو قريبه، وكان بينهما مودة، فإذا هاداه بعد الولاية كان كحاله قبل الولاية؛ لكن إذا كان له عند القاضي قضية فلا يجوز للقاضي أن يقبل منه.
استحباب ألا يكون الحكم إلا بحضرة الشهود
قال رحمه الله: [ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود] .
يستحب للقاضي أن لا يحكم في قضية شهد فيها الشهود إلا إذا كانوا حاضرين؛ ولهذا فوائد عظيمة، منها: أنهم إذا شهدوا على شخص بضرر، وحكم عليه فإن هذا يردع شهود الزور من شهادتهم ويوقع في قلوبهم الهيبة مما أقدموا عليه، وكذلك أيضا الشهود يصححون خطأ القاضي، فلربما نسي شيئا مما ذكروه، وربما قضى ببعض الكلام دون البعض، فالشاهد عندما يكون حاضرا يكون هذا موافقا لحكمه.

لا يقبل حكم القاضي لنفسه ولا لقرابته
قال رحمه الله: [ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له] .
(لا ينفذ حكمه لنفسه)، فالقاضي لا يقضي لنفسه، وإنما يختصم إلى قاض غيره إذا حصلت خصومة بينه وبين شخص آخر، فيرفعه إلى قاض غيره يحكم له أو يحكم لخصمه، وكذلك بالنسبة لمن هو معه كالشيء الواحد كابنه، فلا يقضي لابنه وإن نزل، ولا لابنته وإن نزلت، ولا لأبيه وإن علا؛ لأنه لو فعل ذلك فكأنه قاض لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ، فلا يشهد لهم ولا يقضي لهم، ولا يصح قضاؤه لهم، فإن فعل فكأنه قضى لنفسه.
وفي حكم ذلك أيضا الاستخوان، وما هو مظنة الخيانة والريبة، مثلما يقضي في قضية بين رجل وآخر شريك للقاضي في شركة، وله فيها مصلحة، وجاء صاحب الشركة أو مدير الشركة وخاصم شخصا عند هذا القاضي، ففي هذا ملابسة، فكأنه قضى لنفسه، لأن له جزءا من المصلحة؛ لأن هذه الشركة له فيها سهم، سواء تمحضت من ماله أو كان له فيها شركة ونحو ذلك.

إذا كان أحد الخصمين امرأة أو مريضا

قال رحمه الله: [ومن ادعى على غير برزة لم تحضر وأمرت بالتوكيل] .
(غير برزة)، أي: لا تخرج دائما، بل هي امرأة محتشمة؛ لأن من النساء من هي (برزة) مثل المرأة التي عندها أيتام، فتخرج وتسعى لرزقها، وكان بعض النساء يتولين البيع لظروف خاصة قاهرة، وهذا النوع من النساء يقال له: البرزة، وسميت بذلك لأنها تكثر البروز والخروج؛ لأنه على مر تاريخ المسلمين ما عرف النساء إلا القرار في البيوت، تقول أم عطية: أمرنا أن نخرج العواتق وذات الخدور والحيض.
فما يعرفن الخروج إلا لصلاة العيد، وهذا هو الأصل؛ لأن المرأة خير لها أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال.
ويؤثر عن عمر بن الخطاب أنه نصب الشفاء في السوق، وقد فهم بعض الجاهلين أن هذا يدل على أن المرأة كالرجل، وهذا خطأ واضح، وجهل بين بالحقائق؛ لأن قصة الشفاء فيها ضعف، وقد تكلم عليها العلماء، لكن على فرض ثبوتها يكون ولاها أمر سوق النساء، وهذا يفيد أن النساء لا يلي أمرهن إلا النساء.
أما من ظن أنه ولاها على الرجال فهذا يأباه الله ويأباه صالح المؤمنين، ولا يظن ذلك الظن إلا ذوو الأفهام المعكوسة المنكوسة التي لا تحسن النظر، وقد نبه على هذا العلماء رحمهم الله.
إذا: البرزة هي التي تخرج للبيع والشراء، أو بعض كبيرات السن اللاتي لهن العذر فنحو هؤلاء النسوة يخرجن، فلو ادعي على مثلها دعيت إلى مجلس القضاء؛ لأنها اعتادت الخروج، أما لو كانت محتشمة أو كانت غير برزة فلا يلزمها الحضور في مجلس القضاء، ولها أن توكل فتبعث وكيلها.
قال رحمه الله: [وإذا لزمها يمين أرسل من يحلفها، وكذا المريض] .
أي: وإذا لزمتها اليمين بعث إليها شخصا يسمع منها اليمين، وكذلك المريض الذي لا يمكنه حضور مجلس القضاء.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #764  
قديم 27-10-2025, 04:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب القضاء)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (547)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


شرح زاد المستقنع - باب طريق الحكم وصفته
بينت الشريعة الإسلامية الطريق للقضاة والحكام ليحققوا الواجب المنوط بهم، وهو تحقيق العدالة، وردع الظالم، وإنصاف المظلوم، فبينت كيفية التعامل مع دعاوى الخصوم، واعتبار البينات، وحقيقة الدعوى، وعدالة الشهود، وغير ذلك من الأحكام.
صفة الحكم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:

عرض الدعوى
فيقول المصنف رحمه الله: [باب طريق الحكم وصفته: إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يبدأ جاز] .
إذا حضر إليه الخصمان قال: أيكما المدعي، يسألهما من المدعي، هذا وجه، أو يسكت حتى يتكلما، فإذا سكت وتكلم أحدهما قبل الآخر قدمه: وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام فإذا سبق أحدهما وجاء وتكلم فله ذلك، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، والغالب أن السابق يكون هو المدعي.
ويجوز للقاضي أن يقول لهم: أيكم المدعي، ويجوز أن يسكت.
[فمن سبق بالدعوى قدمه] .
من سبق بالدعوى وتكلم قدمه؛ كما قلنا: وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام
حكم إقرار المدعى عليه
مثلا: قال أحدهما: لي عند فلان عشرة آلاف ريال بسبب قرض أو بيع دين -وحرر الدعوى- ولم يقضني، قال له للآخر: ماذا تقول؟ قال: نعم، له علي في ذمتي عشرة آلاف ريال، قال: اقضه وأد إليه.
هو هذا الإقرار، فإذا أقر أخذ بإقراره؛ لأنه لا يوجد أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك يقولون: الإقرار: سيد الأدلة، لأنه ليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذبا، ولما شهد رجل عند شريح رحمه الله وأقر -فيما لا يحكم فيه إلا بالشهود- فأخذه شريح بإقراره قال: رحمك الله! من شهد علي؟ وكيف تحكم علي بدون شهود؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني أنت شهدت على نفسك، فابن أخت الخالة هو نفس الرجل، فلا أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قبلها الله في أعظم الأشياء وهو توحيده سبحانه وأقام الحجة بها على عباده.
وسيأتي في مسائل الإقرار.
طلب البينة من المدعي إن أنكر المدعى عليه
[وإن أنكر؛ قال للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت] .
لو قال المدعى عليه: ليس له عندي شيء، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (ألك بينة؟ قال: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذا يحلف خصمك، قال: يا رسول الله! الرجل رجل سوء ... ) ، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) .
البينة: مأخوذة من البيان وهي الوضوح، وتعريفها في الاصطلاح: ما يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، والبينة تشمل الإقرار، والكتاب، والأيمان، والحجج التي اعتبرتها الشريعة.
وقوله: (ألك بينة؟) هذه المقولة تقال: للبر والفاجر، أي: شخص يدعي نطالبه بالبينة إذا أنكر خصمه، ولو كان من أصدق الناس؛ لأن هذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة.
والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة (والمدعي مطالب بالبينة) يعني يقال له: ألك بينة؟ (وحالة العموم فيه بينة) أي: ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أصلح الناس وأعلم الناس فقل له: هل لك بينة؟ كما طلبت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم القاضي إذا رفض المدعى عليه الإجابة إقرارا أو إنكارا

فإن أبى المدعى عليه الإجابة على الدعوى إقرارا أو إنكارا.
ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فيلزمه القاضي بالجواب إن أبى، ويحاول أن يلزمه في ذلك، فإذا رفض الإقرار أو الإنكار كلف ولو بالقوة، فإذا أبى فإن القاضي يحكم عليه وهذا ما يسمى بالنكول.
وقد ثبتت به الآثار وعمل به الأئمة رحمهم الله، وهو أن السكوت يدل على اعتباره؛ لأنه أعطي المجال أن ينكر فلم ينكر، فدل هذا على أنه مقر بما اتهم به فيؤاخذ على ظاهره.
اعتبار البينة وشهادة الشهود لا علم القاضي
قال رحمه الله: [فإن أحضرها سمعها وحكم بها] أي: البينة، كشهادة شهود، ويجب على القاضي أن يسمع منهم.
[ولا يحكم بعلمه] .
ولا يحكم القاضي بعلمه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه إلا في مسائل، وهي تزكية الشهود وجرحهم، فلو كان يعلم أن هذا الشاهد لا تقبل شهادته، وجيء به في قضية، وقيل له: فلان يشهد فنظر فيه، فقال: هذا ما نقبل شهادته، فهذا من حقه؛ لأنه يعلم فيه جرحا؛ ولذلك قال الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ممن ترضون: يعني يكون مرضيا عنهم، ولذلك لما أتى شخص لدى القاضي إياس رحمه الله بشاهد ولم يقبله إياس، قال له: لم ترد شاهدي رحمك الله؟ قال: يا هذا إن الله تعالى يقول: {ممن ترضون من الشهداء} ، وأنا لم أرض شاهدك، وفي بعض الروايات: وإن هذا ليس ممن أرضاه، فهذا يدل على أن من حق القاضي أن يقضي بعلمه: وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلماء.
فإذا عرفهم بالتزكية قبلهم وزكاهم، وإذا علم أن فيهم حرجا ردهم.
وفي سواهم مالك قد شددا في حكمه بغير الشهدا وهو مذهب الجمهور، وليس خاصا بـ مالك، فالشاهد من هذا: أن قضاء القاضي بعلمه لا يجوز، والدليل على عدم عمل القاضي بعلمه، قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي على نحو مما أسمع) .
وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما حدث اللعان بين عويمر وامرأته، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به على صفة كذا وكذا -كما ذكرنا في اللعان- قال: فقد كذب عليها والولد ولده، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فقد صدق عليها وهي زانية) ، فأراد الله عز وجل أن تجيء به على صفة من اتهمت به -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجما راجما أحدا من غير بينة لرجمت هذه) ، فدل على أنه علم واطلع على ذلك، وجاء بالقرينة واستقر عنده الدليل واتضح أنها زانية، ومع ذلك لمن يقض بعلمه، فدل على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه.
اليمين حال عدم وجود البينة وعدم الإقرار
[وإن قال المدعي: ما لي بينة، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه] .
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه) ، فأعلمه أنه ليس له من الخصم إلا اليمين، هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[فإن سأل أحلفه وخلى سبيله] .
فلا يحلفه القاضي مباشرة، بل يقول له: ليس لك إلا يمينه، فهل أحلفه؟ فإن قال: حلفه، حلفه.
[ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي] .
ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي؛ لأن مجلس الحكم والقضاء ينبغي أن تكون خطوات الحكم فيه مرتبة على ما ذكرنا، من أنه يمكث ثم بعد ذلك يطلب من الخصم البينة فإذا تعذر وجود البينة، أو قال: لا بينة عندي، يقول له القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا سبق وحلف قبل أن يطلب القاضي منه القسم فهذه يمين ريبة ترد ولا تقبل، وهي في غير موضعها؛ لأن موضعها أن يطلبها القاضي.
[وإن نكل قضى عليه] .
كما ذكرنا.
[فيقول: إن حلفت، وإلا قضيت عليك، فإن لم يحلف قضى عليه] .
ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي
حكم وجود البينة بعد يمين المنكر
قال رحمه الله: [وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة، حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق] .
بين رحمه الله قوة اليمين واعتبارها في إسقاط الدعوى عن المدعى عليه، ولكن هذا الإسقاط لا يقتضي إسقاطها من كل وجه، بحيث لو وجد الشخص البينة ووجد من يشهد له، فإنه لو أقامها بعد ذلك، سمع منه، لكن ثمة إشكال عند العلماء، وهو إذا قيل له: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، ثم حلف الخصم، ثم جاء المدعي بالبينة فهذا فيه شبهة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وفيها تفصيل تكلم فيه العلماء، ولكن حاصل ما يقال: أنه إذا وجد العذر، كأن يكون ناسيا أن لديه بينة فتذكر، أو كان لا يعلم أن شاهدا حضر ثم تبين أنه حضر الموقف المختلف عليه، ونحو ذلك من الأدلة، أو قال شخص: إني أشهد بما أقر عندي فلان أنك أنت أعطيته ونحو ذلك، فهذه بينة يجهلها، فإذا كان نفيه له وجه فيه وله عذر قبل وإلا فلا.


مسائل في حقيقة الدعوى




حكم الدعوى المجهولة وشرط المدعى عليه
قال رحمه الله: [فصل: ولا تصح الدعوى إلا محررة معلومة المدعى به] .
لا تصح الدعوى مجهولة، ولا تصح إلا إذا استوفيت الشروط من الوضوح والبيان، وتكون بالجزم، فلا يقول: أشك أو أظن أن لي على فلان كذا، بل لابد أن يقول: لي على فلان كذا.
محررة: أي: تحقق الدعوة.
والمدعى فيه له شرطان: تحقق الدعوى مع البيان تكون على يقين وعلى بينة دون شك وتردد مع تبيين السبب، مثلا: يقول المدعي: لي عليه ألف ريال دينا، أو: لي عليه في بيع، ويصف السبب الموجب لهذا الحق.
[إلا ما تصححه مجهولا كالوصية وعبد من عبيده مهرا ونحوه] .
تقدم معنا في كتاب الصداق والوصايا، أنه إذا كان المجهول من جنس ما يقبل به المجهول؛ فإنها تصح، لكن الأصل أن تكون معلومة كما ذكرنا.
دعوى عقد النكاح
قال رحمه الله: [وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلابد من ذكر شروطه] .
إذا كانت المرأة ادعت أو ادعى هو عقد النكاح فلابد أن يأتي بشروطه، كل هذا صيانة للقضاء بالفاسد؛ لأنه قد يدعي عقد نكاح فاسد، وقد يدعي بيعا فاسدا، فإذا كان عقد النكاح وعقد البيع فاسدا فلا يصح للقاضي أن يلزم المشتري بدفع الثمن، ولا يصح أن يلزم البائع بدفع المثمن إلا بعد أن يتبين من أن العقد صحيح، هذا وجه أن نلزمه ببيان الشروط التي توجب زوال الريبة في العقد.
[وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها] .
لأن هذا كما تقدم له أصل؛ لأنها إذا ادعت ذلك سمعت دعواها، ثم بعد ذلك الرجل إذا نفى أنها امرأته وقام، تقيم الدليل على ثبوت النكاح وإلا لا يقبل منها مطلقا ما تقوله، وإلا لصدقت كل امرأة تقول: لي على فلان نفقة كذا وكذا، وليس لها شيء إلا إذا أقر وثبت عقد النكاح.
دعوى الإرث
قال رحمه الله: [وإن ادعى الإرث ذكر سببه] .
كما لو قالت امرأة -مثلا-: لي عشرة آلاف ريال نصف ميراث، وأنا أخت فلان الذي توفي، وهذا قائم على أموال فلان فأريد أن يعطيني مالي، فتبين الدعوى بيانا صحيحا وتبين الإرث وسبب الإرث، فإذا قالت -مثلا-: أنا أخت ولي النصف، توفي أخي وما ترك إلا ابن عم، فالأخت لها النصف وابن العم له الباقي تعصيبا، فبينت سببا صحيحا ووضحت تقبل دعواها.
عدالة الشهود
قال رحمه الله: [وتعتبر عدالة البينة ظاهرا وباطنا] .
أي: لا يقبل من الشهود إلا العدول، كما قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، فقال: {ممن ترضون} ، والفاسق لا يرضى، كذلك قال: {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة:96] ، إذا: ينبغي أن يكون ممن يرضى، كذلك دل دليل آية الحجرات في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، على أن الفاسق لا تقبل شهادته؛ لأنه قال: (فتبينوا) : أي فتثبتوا ولا تعجلوا فلو كان خبر الفاسق مقبولا، لحكم به مباشرة، ولما أمرنا بالتريث، فدل على أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرة، والفسق سواء كان في الأقوال أو كان في الأفعال، يوجب رد الشهادة إلا في أحوال مخصوصة، التي هي شهادة أمثل الفساق، إذا لم يوجد إلا هم، وسيأتينا إن شاء الله في باب من تقبل شهادته ومن ترد.
والعدالة قسمان: عدالة ظاهرة وعدالة باطنة، فإذا كان مسلما، فهذه عدالة ظاهرة كما قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة:143] ، أي: عدولا، لكن العدالة الباطنة أن يعرف حاله؛ ولذلك لا تقبل شهادة الشاهد حتى يزكى، فإذا زكي قبلت شهادته، هذا إذا كان القاضي لا يعرفه، ولذلك جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وشهد عنده فقال له عمر: إني لا أعرفك، اذهب وائتني بمن يزكيك، فجاء برجل فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: فبم تعرفه؟ قال: بالخير، فقال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على صدق الرجل وأمانته؟ قال: لا، قال: اذهب؛ فإنك لا تعرفه.
فالتزكية -أيضا- لا تقبل إلا ممن هو أهل.
إذا: لا تقبل العدالة إلا ظاهرا وباطنا، هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فعندهم أي مسلم يشهد تقبل شهادته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاتنا، وذبح ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا ... ) وغيره من العمومات، ولكن هذا القول ضعيف.
يقول شيخ الإسلام -في رد جميل-: من قال: إنهم يقولون إن الأصل في المسلم العدالة فهذا القول ضعيف؛ لأن الله تعالى يقول: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] ، والأصل فيه: الظلم والجهل حتى يزكى بالإسلام، ثم تأتي العدالة تزكية زائدة على التزكية الأصلية؛ ولذلك الوصف بالعدالة ليس وصفا مطلقا للإنسان، وإنما هو وصف يحتاج إلى تزكية، فلا تقبل إلا ظاهرا وباطنا، وهذا مذهب الجمهور، وأيضا الإمام الماوردي ناقش استدلالهم وبين أن هذا الوصف زائد، وهو الذي قصده الشرع لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] فخصص، والشهداء مسلمون، ولكنه قال: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، وهذا يدل على أنه وصف زائد.
السؤال عمن جهلت عدالته
قال رحمه الله: [ومن جهلت عدالته سئل عنه] .
ينبغي أن يكون للقاضي رجالا مخصوصين يعتمد عليهم بعد الله عز وجل، فيكتب إليهم سرا باسم الشاهد ونسبه وموضعه وعمله، ثم يأمرهم أن يسألوا في عمله ويتحروا عنه حتى يعرفوا صدقه من كذبه، كل هذا صيانة للقضاء الإسلامي، وهو موجود في كتب العلماء واعتنى به الأئمة على خلاف مذاهبهم، كالإمام الخصاف من الحنفية في كتابه شرح أدب القضاء، نبه عليه وبين أصوله، وكذلك المالكية تكلم عليه الإمام ابن فرحون في التبصرة، وكذلك تكلم عليه الإمام الماوردي، وهو من أنفس الكلام في أدب القاضي في الحاوي الكبير، وتكلم عليه الإمام النووي من الشافعية في الروضة، وكذلك من الحنابلة تكلم عليه الإمام ابن قدامة في المغني وابن مفلح في المبدع.
وهذه المهمة كانت مهمة أعوان القضاة، يرسل إليهم سرا ليسألوا عن الرجل ويتحروا هل تقبل شهادته أو لا؛ فإن تعذر وجود العدول أو كثر الفسق قبل أمثل الفساق كما ذكرنا، وهذا قرره الأئمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن فرحون وغيرهم.
[وإن علم عدالته عمل بها] .
كما ذكرنا أنه يحكم على ما يعلمه في الشهود عدالة وجرحا.
[وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به وأنظر له ثلاثة إن طلبه] .
كما لو قال شخص: عندي بينة قال: أحضر بينتك، فجاء شاهدان وشهدا أن فلانا أعطى فلانا دينا عشرة آلاف ريال، فقال الخصم المشهود عليه: هذان الشاهدان عدوان لي، وأنا أجرح شهادتهما بالعداوة، يقول له القاضي: أثبت لي هذه العداوة، يقول له: أنظرني فيعطيه القاضي مهلة ثلاثة أيام ليذهب ويبحث ويأتي بشهود أنه حصلت خصومة بينه وبين الشهود الذين شهدوا عليه، فيمهله لرد الشهادة التي عليه.
وكذا لو قال للقاضي: الشاهد الأول شريك لفلان في الشركة شريك لفلان في هذه الأرض وله مصلحة، فقال: أثبت ذلك، فيقول: أمهلني حتى أحضر شهودا على ذلك وسيأتينا إن شاء الله تفصيل في القوادح وما يطعن في شهادة الشاهد، والمقصود هنا أن المشهود عليه له الحق أن يدافع عن نفسه؛ ولذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى أن يمهل الخصم ويعذر إليه هذا الإعذار حتى يمكنه من دفع الشهادة عنه.
[وللمدعي ملازمته] .
وللمدعي ملازمة الخصم، خلال مدة المهلة.
[فإن لم يأت ببينة حكم عليه] .
حكم عليه؛ لأن الأصل أن البينة ماضية ويحكم بها إن زكيت وعدلت وثبتت شهادتها وصحت، فلا تعطل، وإلا عطلت الأحكام.
[وإن جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم] .
وإن جهل القاضي حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم، فلو ادعى شخص أن فلانة زنت أو قذفها بالزنا والعياذ بالله، فقال له القاضي: أحضر الشهود، فقال: أمهلني، فإنه يمهله ثلاثة أيام، وهكذا من طعن في شهود خصمه وطلب الإمهال يمهله القاضي ثلاثة أيام حتى يأتي ببينة على جرحه لهم.
وكذلك تزكية الشهود.
[ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته] .
يكفي في التزكية عدلان يشهدان بعدالة الشاهد، أو عدلان يشهدان بالجرح.
عدالة المترجم والمزكي والجارح والمعرف والرسول وعددهم
[ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة إلا قول عدلين] .
هذه الشهادة على أنها شهادة كما ذكر رحمه الله.
[ولا يقبل في الترجمة] ، في ترجمة كلام الشهود -مثلا- لو كانوا على لغة لا يعرفها القاضي، فإنه يأتي بمترجمين، ويشترط فيهم التعدد.
ومسألة تعدد المترجمين، اختلف فيها على قولين بناء على المسألة المشهورة: هل الترجمة شهادة أو خبر؟ فإن قلنا: خبر، كفى فيها الواحد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة، وبناء على ذلك لا يشترط فيها التعدد، واحتجوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود، واكتفى به صلى الله عليه وسلم في ذلك.
[والتزكية والجرح] .
التزكية والجرح، أي: كون الشاهد مجروحا أو كونه عدلا؛ لابد أن يكونا بشهادة شاهدين على عدالته أو جرحه، وإذا كانت خبرا كما هو الظاهر يكفي فيها تعديل الواحد.
[والتعريف] والتعريف: مثل أن تأتي امرأة وتدعي أن فلان ابن فلان زوجها… فهذه المرأة كيف يعرف القاضي أنها فلانة؟ يأتي أحد المحارم ويشهد أن الحاضرة في مجلس القضاء فلانة بنت فلان.
[والرسالة إلا قول عدلين] .
والرسالة كذلك، فإذا كتب القاضي -وسيأتي الحديث عنها- فلابد أن تكون بشهادة عدلين.

المحاكمة غيابيا (الحكم على غائب)

[ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق] .
هذه مسألة خلافية: هل يحكم القاضي على الغائب أو لا يحكم عليه، فمن قال: بأنه يحكم عليه؟ يحتج بحديث هند رضي الله عنها وأرضاها، أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وهو غائب.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحديث: هل هو فتوى أو قضاء، فإذا قلنا: إنه قضاء فهو حجة على جواز حكم القاضي على الغائب، والذين يقولون بعدم جوازه يقولون: هذه فتوى، فالنبي صلى الله عليه وسلم تارة يكون مفتيا وتارة يكون قاضيا وتارة يتصرف بالرسالة، وهذا ما يعرف بشخصيات الرسول، ومن أنفس الكتب التي كتبت في ذلك كتاب الإمام القرافي رحمه الله: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام وبيان تصرفات القاضي والإمام، وقد ذكر فيه هذا الحديث وخلاف العلماء فيه.
[وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة] .
إلا بعد طلب الخصم، لكي يجيب عنها ويقف معه ويخاصمه؛ لأنه يمكن حضوره، وحينئذ لا يحكم عليه -وهو في نفس المدينة حاضر- إلا إذا امتنع من الحضور وأصر وتخفى، فهذه مسألة مستثناة ولها ضوابطها عند العلماء، وقد أفتى غير واحد من أهل العلم بجواز القضاء عليه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #765  
قديم 27-10-2025, 12:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب القضاء)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (548)

صـــــ(1) إلى صــ(2)




شرح زاد المستقنع - باب كتاب القاضي إلى القاضي

كتاب القاضي إلى القاضي سنة متبعة معتبرة عند العلماء رحمهم الله، وهذا الكتاب له أحكام وشروط ينبغي توافرها فيه حتى يعمل به ويؤخذ بما فيه، وقد بين أهل العلم هذه المادة هذه الأحكام والشروط أتم البيان.
كتاب القاضي إلى القاضي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب كتاب القاضي إلى القاضي] .
كتاب القاضي إلى القاضي، ثبتت السنة به كما في حديث ضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: (أن ورث امرأة أشيم من ميراثه) ، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في صحة كتاب القاضي إلى القاضي، وبعضهم يحتج بكتاب سليمان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ولكن هذا أعم من موضع النزاع، لكن هذا الحديث أصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بما ثبت عنده؛ لأن المرأة ادعت الميراث من زوجها، وثبت عنده فكتب إلى قاضيه، الذي هو الضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وكان كما في رواية أبي داود والحديث صححه الترمذي وغيره: أن يورث امرأة أشيم الضبابي رضي الله عنها وعنه من ميراثه، فحكم بأن لها ميراثا وأنه ينفذ بالتوريث لإعطائها ذلك الحق.
فهذا مما يكتب به القاضي إلى القاضي، أو أن يكتب له بالشهود أنهم شهدوا بالقضية ويذكرهم ببينة دون عدالة أو جرح فيكتب إليه حتى ينظر في عدالته وجرحه، وإما أن يكتب له بعد شهادة الشهود وتزكيتهم مثبتا شهادتهم ويوكل إليه النظر بالحكم، وإما أن يكتب إليه بعد شهادة الشهود وثبوت تزكيتهم والحكم عليهم لكي ينفذ حكمه، وهذه كلها أحوال على حسب الحاجة يكتب فيها.
[يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق حتى القذف] .
والأئمة الأربعة رحمهم الله كلهم على العمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وأنها سنة متبعة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج.
[لا في حدود الله] ، الحدود يتولى النظر فيها بنفسه ولا يعتمد كتاب قاض إليه صيانة للدماء وعظم أمرها؛ ولذلك لا يحكم فيها بكتاب القاضي، ولا ينفذ فيها كتاب القاضي إلى القاضي حتى يقرأ القاضي الثاني ويطلع ويقوم على القضية بنفسه، هذا فقط في الحدود، وهذا مما يستثنى في حكم القاضي على القاضي، إلا القذف؛ لوجود حق المخلوق والخالق، فإنه من الحقوق المشتركة، وقد تقدم معنا في باب القضاء.
[كحد الزنا ونحوه] .
والقتل كذلك، لا يعمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وهذا لعظم أمر الحدود.
[ويقبل فيما حكم به لينفذه] .
ويقبل فيما حكم به لينفذه، الخصم في مكة فكتب القاضي من المدينة إلى مكة أنه ثبت عندي بشهادة الشهود فلان وفلان أن فلانا له في ذمة فلان كذا وكذا ويحرر له القضية ثم يختم الكتاب ويقرؤه على الشاهدين ثم يقوم الشاهدان بالذهاب بالكتاب إلى القاضي، فينفذ ما فيه.
[وإن كانا في بلد واحد] .
بعض الأحيان يكون هو القاضي الكبير والآخر تحت ولايته، قالوا: إن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الضحاك من هذا المعنى، فقد كان الضحاك واليا على قضاء الأعراب كما في رواية الترمذي، وحينئذ هو تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم العامة، فيستفاد منها أنه لو كان في نفس البلد فله أن يكتب ذلك.
[ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر] .
هذا بالنسبة السفر، اشترطوا أن يكون فيه السفر وهو من مسألة مبنية على وجود الحاجة، أما إذا لم توجد فإنه يتولى القضية بنفسه وينفذها بنفسه.
[ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين] .
أي: يجوز أن يكتب إلى قاض معين: إلى فلان ابن فلان قاضي المدينة أو قاضي مكة، أو أن يكتب إلى عموم قضاة المسلمين، وهذا يختلف باختلاف القضايا والحقوق أنه تارة يجعل كتابه عاما وتارة يجعله خاصا.
[ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين يحضرهما فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ثم يدفعه إليهما] .
حجية الكتابة للعلماء فيها وجهان: منهم من يقوي حجيتها بخط القاضي إلى القاضي، وجماهير السلف على أن وجود شهادة الشهود تقوي العمل بالكتاب، ذلك بأن يقرأ الكتاب على الشهود أو يطلعهما على ما في الكتاب ثم يشهدان بما فيه، وأن هذا هو كتاب القاضي فلان ابن فلان في قضية كذا وكذا ويشهدان بما فيه، فحينئذ يكون الكتاب موثقا، ويقبله القاضي الثاني، أما إذا لم يشهدا عليه فإنه لا يقبله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #766  
قديم 27-10-2025, 12:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب القضاء)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (549)

صـــــ(1) إلى صــ(6)


شرح زاد المستقنع - باب القسمة
ألحق العلماء باب القسمة بكتاب القضاء؛ لأن كثيرا من القضايا تكون ناتجة عن اختلاف الشركاء في القسمة، وعلى هذا فالقسمة قد تكون يشترط فيها رضا الشركاء، أو قسمة إجبار لا يشترط فيها ذلك.
القسمة تعريفها ومشروعيتها وأنواعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسمة] .
القسمة مأخوذة من قولهم: قسمت الشيء أقسمه أقساما وقسمة.
وأصل القسم: النصيب والحظ من الشيء، وغالبا ما يكون في الأشياء التي لها شركة، أو يجتمع فيها شخص فأكثر.
وقوله: [باب القسمة] .
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالقسمة، سواء كانت قسمة تنبني على التراضي أو كانت قسمة إجبار، هذان هما نوعا القسمة.
والأصل في القسمة كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} [النساء:8] ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وتفرفت الطرق فلا شفعة) ، وهذا يدل على مشروعية قسم الأشياء من المنقولات والعقارات، فالآية في المنقولات وشاملة أيضا للعقار من جهة التبع، وبالنسبة للحديث فإنه في العقارات.

النوع الأول: قسمة التراضي

قال رحمه الله: [لا تجوز قمسة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو إلا برد عوض] .
هذا هو النوع الأول من القسمة، وهو قسمة التراضي، ولا يمكن فيها أن نجبر أحد الشركاء على القسمة، بل إذا رضي بالقسمة قسمنا وإلا فلا؛ والسبب في ذلك وجود الضرر؛ لأن القسمة شرعت لدفع الضرر، والقاعدة تقول: (الضرر لا يزال بالضرر) ، إلا في مسائل مستثناة، منها مسألة: (درء المفسدة العليا بارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين) ونحو ذلك، لكن الأصل الشرعي: أن الضرر لا يدفع بالضرر.
ومثال: إذا كان هناك مزرعة وفيها بئر واحد لا يمكن قسمته، أو كان هناك عقار لا يمكن أبدا أن يؤجر إلا مجتمعا، فإذا قسم تعطلت منافعه، ونحو ذلك من المسائل كما ذكر المصنف في الأشياء الصغيرة كالحمام والغرف الصغيرة التي لا يمكن قسمتها.
فهذا النوع يسمى (قسمة التراضي) بمعنى: أننا لا نحكم بالقسمة إلا إذا رضي الطرف الثاني -وهو المتضرر- فإذا رضي بذلك قسمنا، وهذا الحكم عام، فيدخل فيه استواء الأنصبة واختلاف الأنصبة.
استواء الأنصبة: أن يكون لأحدهما نصف الأرض وللآخر النصف الآخر، أو تكون الأرض منقسمة أثلاثا لكل واحد منهم ثلث الأرض، فالنصيب متساو.
أو يكون الضرر بسبب اختلاف في النصيب، كأن يكون لأحدهم ثلاثة الأرباع، والآخر له الربع، فلو قسمت فلا شك أنه ستتحسن المنافع باجتماع الثلاثة الأرباع ولكنها لا تتحسن لمن له الربع، وقد يكون هناك عقار بين اثنين، لأحدهما فيه العشر وللآخر تسعة أعشار، فالذي له العشر لا يمكنه بحال أن ينتفع من العقار، وهذا كله مبني على أن الأصل في مشروعية القسمة هو دفع الضرر، ولذلك يعتبرون هذا الباب -وهو باب القسمة- مبنيا على القاعدة الشرعية: (الضرر يزال) وهي إحدى القواعد الخمس المشهورة التي أشرنا غير مرة أنه انبنى عليها الفقه الإسلامي.
وقوله: [إلا برضا الشركاء] .
إلا برضا الشريك أو الشركاء، فإن كان العقار بين اثنين وطالب أحدهما بالقسمة سألنا الطرف الآخر أن يرضى، وإذا كانوا أكثر من واحد فإنه يطلب رضا الأطراف الأخرى الذين لم يطالبوا بالقسمة، فلو اتفقوا كلهم على القسمة فلا إشكال، إنما الإشكال إذا كان أحدهما يطالب بالقسمة، والآخر يقول: أنا أتضرر بالقسمة ولا أريد القسمة.
ويحصل هذا في الميراث، كأن يتوفى الرجل ويترك وارثين، فيرثا أرضا، ومزرعة، ودارا، فالقسمة تضر بهما أو بأحدهما؛ فحينئذ لا نحكم بإجبار الطرف الآخر على القسمة.
قال رحمه الله: [كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين] .
الحمام والطاحون الصغيران لا يمكن قسمتهما؛ لأن منافع الحمام ومنافع الطاحون لا يمكن قسمتها، والحمام في القديم هو مكان الاغتسال، وليس الحمام الذي هو دورة المياة -كما يعرف في زماننا- فكان عبارة عن بناء يوقد تحته النار من أجل تسخين المياه وهو معروف إلى زماننا، فهذا الحمام لا يمكن قسم منافعه، ولا يمكن أبدا أن نعطي شخصا تسعة أعشار الحمام، أو نعطي شخصا ثلث الحمام، أو نعطي شخصا ربع الحمام، إلا إذا كان كبير المساحة يمكن قسمته والفصل بين الأنصبة والأجزاء.
فلو كان الورثة لهذا الحمام خمسة أبناء ذكور، فإن الحمام يقسم بينهم أخماسا، فإذا وجد في القسمة ضرر على أحد الشركاء فهذه يسمونها (قسمة التراضي) بمعنى أنه لا يجبر القاضي الطرف الآخر على أن يقسم لتحصيل مصلحة الطرف الأول.
قال رحمه الله: [والأرض التي لا تتعدل بأجزاء] .
مثل أن يكون عنده أرض بعضها على الشارع وبعضها بعيد عن الشارع، أو بعضها يمكن الانتفاع به وبعضها لا يمكن الانتفاع به، أو بعضها جبل وبعضها غير صالح للزراعة، بعضها سبخة وبعضها صحراء ونحو ذلك، فإذا تفاوتت أجزاء الأرض ولا يمكن قسمتها لوجودالضرر، أو لا تمكن القسمة إلا برد العوض -ولذلك يضبطون هذا النوع وهو (قسمة التراضي) بأنها التي لا يمكن إعمالها إلا بوجود الضرر أو بتعديل الأجزاء بالمال- فإذا حصل ذلك وهو رد العوض فإنه يعتبر من قسمة التراضي.
[ولا قيمة كبناء أو بئر في بعضها] .
ففي هذه الحال لا يمكن قسمتها إلا بضرر أو بقيمة.
[فهذه القسمة في حكم البيع] أي: تأخذ أحكام البيع، فإذا رضيا فحينئذ تجري عليهما أحكام البيع، مثلا: يثبت فيها خيار المجلس، فلو أنه رضي ثم ندم على الرضا وهما جالسان، كان من حقه أن يقول: رجعت عن رضاي أو لا أريد القسمة؛ لأنها آخذة حكم البيع، والبيع يجوز فيه خيار المجلس، وهو ثابت بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح قولي العلماء.
ومن فوائده: أننا لو قسمنا أشياء من الربويات كحبوب وكان فيها ضرر ثم تراضوا وقسموا كأن يكون على النخل، فحينئذ لابد من التقابض؛ لأن كل قسم في مقابل القسم الآخر، فلابد أن يحصل التقابض، كما يشترط في البيع، فتجري عليه أحكام البيع.
[ولا يجبر من امتنع من قسمتها] .
وهذا من أحكامها التي تأخذ أحكام البيع، فمثلا: ورثة ورثوا شيئا واشتركوا فيه، فاشتكى أحد الورثة، وقال: أريد أن أقسم مع إخواني، ولما نظر القاضي فإذا بالعين التي يراد قسمتها لا يمكن قسمتها إلا بضرر على الأطراف الأخرى أو بعضهم، فامتنعوا، وقالوا: لا نريد، فحينئذ ليس من حق القاضي أن يجبرهم على القسمة.
إذا: قسمة التراضي لا يحصل فيها إجبار، وإذا تراضوا وتمت القسمة بينهم جرت أحكام البيع على ذلك.

النوع الثاني: قسمة الإجبار

قال رحمه الله: [أما ما لا ضرر ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة، والمكيل والموزون من جنس واحد كالأدهان والألبان ونحوها، إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها] .
هذا هو النوع الثاني من القسمة: وهو قسمة ما لا يحصل الضرر بقسمته، فلو كانت أرضا والأرض كلها على الشارع ويمكن قسمها إلى أجزاء على حسب الحصص، فمثلا: أخوان وارثان كل منهما له النصف، ورثا ميتا عصبة، فقسمت الأرض بينهم مناصفة، قالوا: نريد القسمة، فتقسم بينهم مناصفة، وبما أن كلا النصفين على الشارع وكلا المميزات الموجودة في هذا النصف موجودة في النصف الآخر؛ فحينئذ يجوز قسمتها، ولا إشكال في هذا، وهذا معنى (لا ضرر فيه) .
كذلك المكيلات يمكن تحديد الأجزاء فيها بالكيل، فمثلا: لو ترك المورث خمسين صاعا من بر، وقال أحد الوارثين: أريد أن أقسم حتى أتصرف في قسمي، وقال الآخر: لا نقسم، بل نبيعها كلها، فحينئذ يجبر القاضي الطرف الآخر على القسمة؛ لأن قسمة الخمسين صاعا لا ضرر فيها، ويمكن العدل فيها بين الطرفين، فيجبر الرافض للقسمة منهما على هذا، وهو أكثر ما يقع في مسائل الميراث وفي الشركات بين الشركاء، ولذلك أدخله العلماء رحمهم الله -والمصنف رحمه الله- في باب القضاء؛ لحصول التنازع فيه.
[وهذه القسمة إفراز لا بيع] .
إفراز النصيب لكل منهما.
وقد تكون القسمة في المنافع، وهي التي سميناها قسمة المهايأة، وهي أن يهيئ كل منهما للآخر نصيبه الذي يرتزق به، كما لو اتفق وارثان، أحدهما قال: أنا أسكن في الدور العلوي، والثاني قال: أنا أسكن في الدور السفلي، والدار بينهما، فحينئذ تهيأا للانتفاع من الدار، وهذه هي قسمة المهايأة.

من يقسم بين الشركاء وعلى من تكون أجرته
[ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، وبقاسم ينصبونه] .
(ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم) إذا حصلت القسمة بينهم برضا الأطراف، فحينئذ لا إشكال، ولا يجب عليهم أن يترافعوا إلى القاضي، ولا يجب عليهم أن ينصبوا قاسما يقسم بينهم، ما دام أنهم تراضوا، ورضي كل منهم بحصته.
(وبقاسم ينصبونه) (ينصبونه أو ينصبونه) أي: يأتون بشخص، فمثلا: إذا كانت أرضا وجاءوا بمهندس -كما في زماننا- ينظر إلى الأرض ويعدلها ورضوا بقسمته، فإذا كان متبرعا فلا إشكال، لكن لو قال: أريد أجرة على ما عملت، فحينئذ تنقسم الأجرة على قدر نصيب كل واحد منهم، فإذا كانت الأرض بين الاثنين مناصفة، وجب على كل واحد منهما أن يدفع نصف الأجرة، وإذا كانت الأرض أرباعا لكل واحد من الأربعة الربع، وجب على كل واحد أن يدفع ربع أجرة القاسم.
فإذا قال: أجرة مثلي في هذه القسمة لهذا العقار أو هذه الأرض أو هذه المزرعة أربعمائة ريال، فإذا كانوا أربعة فحينئذ يدفع كل شخص مائة ريال؛ لأن هذه الأرض غنمها وغرمها على الجميع بقدر النصيب، كما أنها لو خسرت ونقصت قيمتها دخل النقص والخسارة على الجميع، كذلك لو ربحت وزاد نماؤها كان نماؤها على الجميع، وأصول الشريعة تقتضي هذا، ولذلك القاعدة الشرعية تقول: الخراج بالضمان، وتقول: الغنم بالغرم،، وبعضهم يقول: الغرم بالغنم، والمعنى واحد، وعلى كل حال الربح لمن يضمن الخسارة، وقد تقدم تقرير هذا في غير ما موضع، وأشرنا إلى حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره في تقرير هذا الأصل.
قال رحمه الله: [أو يسألوا الحاكم نصبه، وأجرته على قدر الأملاك] .
قوله: (أو يسألوا الحاكم نصبه) إذا وجد عند الحاكم لجنة، أو لدى القاضي أناس من أهل الخبرة؛ لأن القضاة ينبغي عليهم أن يكون عندهم أناس لهم خبرة في شؤون الناس ومشاكل الناس وأحوالهم يرجع إليهم القاضي عند الحاجة، تارة يكونون منصبين من قبل القاضي ويكون لهم رزق من بيت المال على خلاف بين العلماء رحمهم الله في مسألة إعطائهم أرزاقا من بيت المال.
فإذا سألوا القاضي أن ينصبه، فمذهب طائفة من العلماء أن هذه القسمة الحظ فيها للشركاء، وإذا كان الحظ للشركاء فلا تدخل على بيت المال ضررا، بمعنى أن بيت المال لا يتحمل أجرة القسمة، بل يتحملها الشركاء؛ لأنه لا علاقة لبيت المال في قطع خصومة ما، بحيث تحمل على بيت مال المسلمين.
[وأجرته على قدر الأملاك] كما ذكرنا، من كان له النصف فيدفع نصف أجرته، ومن كان له الربع فيدفع الربع، وهكذا.
قال رحمه الله: [فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة] .
قوله: (فإذا اقتسموا) النصيب، وجرت القسمة لزمتهم، بالأطراف، والأصل يقتضي هذا، وإلا فما هو المراد من قسمتها.
القرعة في القسمة
قال رحمه الله: [وكيف اقترعوا جاز] .
وكذلك القرعة، فمثلا: لو قسموها قسمين، وهما شريكان، قال أحدهم: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليسرى، فلا إشكال، وكذلك لو شق شارع وقسم الأرض قسمين، فقال أحدهما: أنا آخذ الشمالية.
والآخر قال: أنا آخذ الجنوبية.
أو قال أحدهما: الشرقية، وقال الآخر: الغربية.
واصطلحوا على هذا؛ فلا إشكال، لكن لو قال أحدهما: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليمنى.
وليس هناك تميز في إحداهما؛ لأن القسمة لا تمكن إلا بالتعديل، فإذا استوت أجزاؤها، لكن أحدهما قال: أنا أريد الشمالية، وقال الآخر: وأنا أريد الشمالية؛ فحينئذ لابد من القرعة.
والقرعة لها أصل يدل على المشروعية، وهو قوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات:141] ، والحديث الذي في قصة سليمان عليه السلام، والأصل يقتضي مشروعية القرعة وجريانها، ولها عدة صور؛ كيفما اقترعوا جاز، فمثلا: لو أنهم وضعوا الشمالية في ورقة والجنوبية في ورقة، ثم تخلط الأوراق، وكل واحد منهما يأخذ ورقة أو يؤتى بشخص جاهل أو طفل لا يعلم -كما ذكر بعض العلماء- حتى يكون أبعد عن التهمة والريبة، وبعد خلطه للورقتين يقول أحدهما: أنا آخذ الورقة الأولى، والآخر يقول: أنا آخذ الورقة الثانية.
وهكذا.
وعلى كل حال أنهم: كيفما اقترعوا جاز، ما دام أنه أمر خفي، ولا تحصل فيه التهمة ولا الريبة، وليس فيه تنبيه لأحدهما على ما يريد وما يطلب، فإنه جائز.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #767  
قديم 27-10-2025, 12:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب القضاء)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (550)

صـــــ(1) إلى صــ(6)


شرح زاد المستقنع - باب الدعاوى والبينات
يختصم الناس إلى القضاء في كثير من المشاكل التي تقع بينهم، وفي هذه الخصومات يقوم كل خصم بتقديم البينات والحجج لإثبات صحة دعاواهم، وقد درج كثير من المصنفين على إلحاق باب مختص بالدعاوى والبينات بكتاب القضاء؛ لما لهذا الباب من أهمية في بيان المدعي من المدعى عليه، وما هي البينة المقبولة من المردودة، وغير ذلك من المسائل.
باب الدعاوى والبينات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الدعاوى والبينات] .
الدعاوى: جمع دعوى، ويقال: دعا إذا طلب، ودعا إذا تمنى في لغة العرب.
والمراد بها إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته، هذا بالنسبة لحقيقتها في اصطلاح العلماء رحمهم الله، وهذه الإضافة توسع بعض العلماء فيها، فقالوا: إنها من حيث الأصل تأتي على سبيل الإثبات وعلى سبيل النفي.
وقوله رحمه الله: (والبينات) جمع بينة، وقد تقدم تعريفها.
يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحكام المسائل التي تتعلق بأحكام الدعاوى في القضاء وأحكام البينات والحجج التي يرفعها الخصوم لكي يثبت كل واحد منهم صحة ما يدعيه، والبينات تتعدد وتختلف، ولذلك يفرد العلماء رحمهم الله بابا يختص بالدعاوى وبالبينات ويلحقونه بكتاب القضاء.
الفرق بين المدعي والمدعى عليه
قال رحمه الله: [المدعي من إذا سكت ترك] .
والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك هذه المسألة تعرف بمسألة تمييز المدعي من المدعى عليه، ولا يمكن لقاض أن يقضي في قضية حتى يستطيع أن يعرف أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، ومن أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، أن يميز بين المدعي والمدعى عليه، إذ لا يمكن لأحد أن يفصل في قضية، حتى ولو لم تكن قضائية، حتى في العلم في مسائل العلم؛ لأن الإنسان إذا علم من هو المدعي، قال له: عليك الحجة وعليك البينة، وطالبه بالحجة والبينة، وإذا علم المدعى عليه بقي على قوله حتى يدل الدليل على خلافه، ولذلك تجد طلاب العلم الذين لا يحسنون هذا الباب، يجلس بعضهم مع بعض، ويقول كل واحد منهم: أعطني دليلا، والآخر يقول: أعطني دليلا، فهم لم يعرفوا الأصول ولم يثبتوا الأصول، حتى يميزوا من الذي يطالب بالدليل والحجة، ومن استطاع أن يضبط الأصول ويعرف القواعد والأسس في ضبطها، فإنه لا يشكل عليه أمرها.
ومن هنا قال الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: من عرف المدعي من المدعى عليه، لم يلتبس عليه حكم في القضاء.
إذا لابد من معرفة حال المدعي والمدعى عليه، حتى قال بعض العلماء في نظمه: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا عليه جملة القضاء وقعا: كل القضايا لا يمكن أن يبت فيها حتى يعرف من المدعي ومن المدعى عليه.
وهذه الضابط الذي ذكره المصنف رحمه الله ارتضاه كثير من أهل العلم رحمهم الله.
وصححوه، وقال به فقهاء الحنفية، وقال به بعض الشافعية، ورجحه الإمام الشوكاني وغيره، وانتصر له الإمام الماوردي رحمة الله على الجميع في الحاوي: أن المدعي من إذا سكت ترك؛ لأن الحق حقه، فلو أنه لا يريد أن يدعي لا نأتي ونقول له: طالب، ويجب عليك أن ترافع، والمدعى عليه إذا أقيمت عليه الدعوى، فإنه إذا سكت، نقول له: أجب، ولا يترك، ويطالب بالرد، لكن المدعي لا يطالب؛ لأن له الحق في أن يطالب، وإذا سكت ولم يطالب لم يفرض عليه أحد أن يتكلم، ولم يفرض عليه أحد أن يخاصم، ولكن المدعى عليه -ولا تقل: هذا مدعى عليه؛ إلا إذا ثبتت دعوى- لا يمكن أن يترك؛ بل يقال له: أجب، وقد تقدم معنا أنه يجبر على الجواب حتى ولو سكت: ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا ولذلك يطالب وإذا سكت لم يترك، أما المدعي فهو الذي إذا سكت ترك، هذا هو الضابط الذي اختاره المصنف رحمه الله.
وهناك ضابط آخر -وهو صحيح وقوي جدا- وهو أن المدعي من كان قوله موافقا للأصل، والمدعى عليه من كان قوله خلاف الأصل، فمثلا: شخص جاء وقال: فلان زنى.
فالأصل أنه غير زان، فحينئذ الذي قال: فلان زنى، هذا مدع، والطرف الآخر الأصل -وهو المدعى عليه- فيه البراءة من التهم، حتى يثبت أنه متهم، فإذا قال شخص: فلان ضرب فلانا.
الأصل أنه لم يضرب، فحينئذ الذي يقول: فلان ضرب فلانا؛ مدع.
ويكون الطرف الآخر مدعى عليه، هذا ضابط.
وهناك ضابط آخر يضبط القضايا بألفاظها.
فقال بعضهم: المدعي من يقول: حصل كذا، كان كذا، يعبرون بقولهم: كان كذا، أي: بعت، اشتريت، أجرت، أخذ مني سيارة، أخذ داري، اعتدى علي، شتمني، ضربني، والمدعى عليه: هو الذي يقول: ما ضربته، ما شتمته، لم يكن كذا.
فقالوا: المدعي هو الذي يقول: كان، والمدعى عليه: هو الذي يقول: لم يكن.
وكذلك أيضا يعرف المدعي إذا كان قوله خلاف الظاهر، والمدعى عليه من هو على الظاهر ويكون بالعرف، فمثلا: عندنا بالعرف أنه إذا كان شخص يسكن في بيت، وجاء شخص وقال: البيت بيتي، أو العمارة عمارتي، أو الأرض أرضي، فحينئذ الظاهر أن الأرض لمن يعمل فيها، والبيت لمن هو ساكن فيه، فظاهر العرف يشهد بأن الإنسان ما يتصرف إلا في ماله، كذلك لو وجدنا شخصا راكبا على بعير، والآخر غير راكب، فقال الراجل: هذا بعيري، فالظاهر يشهد وكذا العرف يشهد بأن هذا مدع، والراكب مدعى عليه، ونعود في ذلك إلى التعريف الذي ينص على أن الذي خلا قوله عن الأصل وعن العرف أو الظاهر الذي يشهد بصدق قوله فإنه حينئذ يكون مدعيا.
وأما إذا اقترن قوله بالأصل واقترن قوله بالظاهر؛ فإننا نقول: إنه مدعى عليه، وحينئذ لا نطالبه بالحجة، ونبقى على قوله حتى يدل الدليل على خلاف قوله، والبعض صاروا إلى هذا كما يقول الناظم رحمه الله: فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد (من أصل) فمثلا قال: فلان زنى، الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
فقوله مجرد من الأصل، فنقول له: ائت بالبينة، وأنت مدع أو (عرف بصدق يشهد) أي: عرف يشهد بصدق قوله، وقد قلنا: إن العرف يحكم بأن راكب الدابة هو صاحبها، وكذلك لو كان اثنان على دابة، فالعرف يقضي أن الذي في المقدمة مالكها، أي: لو قال كل منهما: هذه دابتي، فالذي في المقدمة مدعى عليه والذي في الخلف مدع.
ولو كانا في سيارة وأحدهما يقود والآخر راكب، فإن العرف يشهد بأن الذي يقود السيارة مالكها -والآن أوراق التملك تحل القضية- فمن حيث الأصل أن المدعي من تجرد قوله من الظاهر ومن الأصل ومن العرف الذي يشهد بصدق قوله: وقيل من يقول (قد كان) ادعى و (لم يكن) لمن عليه يدعى (وقيل) أي: من جملة الأقوال في ضابط المدعي والمدعى عليه، (من يقول: قد كان؛ ادعى أي: أنه مدع، كان كذا، حصل كذا، وقع كذا، فلان ضرب، فلان شتم، فلان أخذ، فلان سرق، فلان كذا.
فهذا مدع.
والذي قال: ما فعلت، أو ما سرقت، أو ما أخذت، أو ما تكلمت، أو ما آذيت.
هذا مدعى عليه.
عدم صحة الدعوى إلا من جائز التصرف
قال رحمه الله: [ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف] .
وهو المكلف البالغ العاقل الحر الرشيد، وقد تقدم هذا معنا في عقود المعاملات المالية، وبينا أنه لا يصح التصرف من رجل مجنون.
ولا من صبي إلا في مسائل مخصوصة، مثل الصبي المميز إذا أذن له وليه بالتجارة، ولا يصح التصرف من العبد كما أخبر الله عز وجل {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل:75] ، وبينا هذا وبينا الأصول والأدلة التي تدل عليه، وجائز التصرف يشترط أن يكون رشيدا، فالسفيه لا يصح تصرفه، فلو أقام الدعوى -في المال- من هو محجور عليه لم تقبل دعواه؛ لأنه ليس له حق في ذلك.
القول قول صاحب اليد مع يمينه إلا إذا وجدت بينة
قال رحمه الله: [وإن تداعيا عينا بيد أحدهما فهي له مع يمينه إلا أن تكون له بينة فلا يحلف] .
مثلا: محمد وعبد الله اختصما على أرض، أو كتاب أو ثوب، وهذه الشيء بيد أحدهما، وليس المراد بقوله: (بيده) القبض باليد، لكن بالمعنى الشمولي العام، فتقول: (في يده) أي: تحت تصرفه أو تحت عمله أو تحت ولايته ونظره، وهو الذي يقوم عليها، وهو الذي يتصرف بها، فحينئذ فالسيارة (في يده) أي: يقودها، ومعه مفاتيحها، والبيت إذا كان ساكنا فيه، والأرض يحرثها ويزرعها، ويقوم على مصالحها، فجاء محمد ادعى عينا بيد عبد الله، وقال: الأرض أرضي، أو السيارة سيارتي، أو القلم قلمي الثوب ثوبي الكتاب كتابي، فنظرنا فوجدنا أن الكتاب بيد عبد الله، فحينئذ نقول لمحمد: أنت مدع، وحينئذ لا يمكن أن تقبل دعواك إلا إذا أقمت البينة وإلا حلف خصمك وانتهت القضية.
فمن ادعى عينا في يد آخر فحينئذ يطالب الخارج بالبينة والداخل لا يطالب إلا باليمين في حال الإنكار إذا سأل خصمه أن يحلف اليمين وإلا لم يلزمه شيء.
تعارض البينات
قال رحمه الله: [وإن أقام كل واحد بينة أنها له، قضى للخارج ببينته ورفض بينة الداخل] هذه المسألة مشهورة عند العلماء، وهي مسألة تعارض البينات، فلو اختلفا في بيت أو في كتاب أو في أرض -أي: سواء كان عقارا أو منقولا- وعرفنا من المدعى عليه أحدهما القائم على مصالح هذا الشيء، كساكن في البيت في الداخل، وجاء الخارج وأقام بينة، ثم الداخل أقام بينة، هذا عنده شاهدان يشهدان أن البيت بيته، وأنه لن ينتقل منه إلى الآخر إلا بعوض؛ لأن البيت بيته وأنه ملك له، والآخران أيضا شهدا بأن البيت بيت فلان وملك لفلان، فهذان شاهدان وهذان شاهدان، والشريعة اعتبرت الشهادة حجة، فماذا يفعل في هذه الحالة؟ طبعا من العلماء من قال: تسقط البينتان، يعني بينة الداخل وبينة الخارج، أي: إذا تعارضتا سقطت هذه وسقطت هذه فألغيتا؛ لأننا لو عملنا بهذه بناء على أن الشرع يعتبرها حجة، فكذلك يجب علينا أن نعمل بالأخرى؛ لأن الشرع يعتبرها شهادة وحجة ليس عليها أي غبار ولا فيها أي مطعن، فلا يمكننا أن نفضل حجة على حجة، وإن فهم القضاء بالحياد لأحد الخصمين لكن إن وجد المجرم قال سقطت البينتان.
لكن هناك أحوال بعض العلماء يستثنيها، يقول: لو كانت إحدى البينتين شهودها معروفون بالضبط وبالإتقان وبالعدالة، وهذا تغليب ظن قوة الحجتين، قالوا: فترجح، لكن هذا ضعيف؛ لأن العلم المستفاد من حيث الأصل حجية، والحجية موجودة في الاثنين، فحينئذ مثلا إذا كان الشاهد مرضيا فلا إشكال إذا قامت الحجتان.
ومن أهل العلم من قال: نقدم بينة الخارج على بينة الداخل، وهذا هو الذي رجحه المصنف رحمه الله، بمعنى أنه يقول: إذا كنت ساكنا في الدار وعندك حجة وبينة، والآخر خارج الدار وادعى عليك وجاء بحجة وبينة؛ قدمنا حجة الخارج، قال: لأن هذا الذي في داخل البيت لما أثبت لنفسه فالظاهر شاهد على حاله، وبالنسبة للخارج جاء بشيء يحتمله العرف، وهو أنه باع أو تصرف، أي أن الساكن في البيت قد باع للخارج، ومن هنا تقوى بينة الخارج وترجح على بينة الداخل، هذا تعليل بعض العلماء في ترجيح القول الذي اختاره المصنف.
ولكن في الحقيقة من أقوى القرائن: زيادة العلم، وهي أن بعض العلماء قال: إن بينة الداخل -الذي هو داخل الدار- جارية على الأصل، وبينة الخارج ناقلة من الأصل، والناقل عن الأصل جاء بزيادة، وحينئذ يقدم، وهذه المسألة مثل ما ذكروا إذا تعارض الحاضر والمبيح، قالوا: يقدم الحاضر على المبيح؛ لأن المبيح جار على الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، فإذا جاء المحرم فمعنى ذلك أننا نقلنا عن الأصل فصارت استفادة وزيادة علم هذا وجه.
فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تقدم حجة الخارج، وأن بينة الخارج ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، لأن هذا التعليل في كلتا الحالتين ضعيف، وأن الأقوى والمعتبر من جهة النص، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، فنحن نقول: هذان شخصان اختلفا في البيت، فإذا جئنا نقدم بينة الداخل على بينة الخارج خالفنا النص؛ لأن الذي في الداخل مدعى عليه، والذي في الخارج مدع، فحينئذ الأصل الشرعي يقتضي أن ينظر في بينة الخارج لا في بينة الداخل؛ لأن الذي في الداخل مطالب باليمين -إذا لم توجد بينة- ولا يطالب ببينة، إنما الذي يطالب بالبينة هو الخارج، ومن هنا نرجح أن هذا القول قوي من جهة النقل لا من جهة العقل والتعليل؛ لأن الذي ذكرناه في الأول تعليلات، فنرجح هذا القول الذي نص عليه المصنف رحمه الله وهو تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، ويكون الترجيح مستفادا من جهة أن بينة الخارج مبنية على النص، حيث إن المدعي مطالب بالبينة والمدعى عليه لا يطالب بالبينة، فحينئذ نقول: لما جاءتنا بينة الخارج لزمنا بحكم النص أن نعمل بها، ومعارضة بينة الداخل، ومثله ليس له أن يأتي بالحجة، فتقدم حجة الخارج على الداخل، هذا بالنسبة للمسألة إجمالا ووجه ترجيحها، وعلى كل حال لا يخلو الفقهاء من بعض المخارج، كان بعض مشايخنا يقول: فليخرج، ثم إذا خرج يقيم دعوى جديدة، ويأتي ببينة حتى يصبح الأمر على الدور، ومن هنا قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، فإنما أسقطنا البينة الثانية؛ لأنها تؤدي إلى الدور، (وما أدى إلى باطل فهو باطل) ، والفقيه يجد له مخرجا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #768  
قديم 27-10-2025, 12:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الشهادات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (551)

صـــــ(1) إلى صــ(20)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الشهادات

تعتبر الشهادة من الأمور المهمة التي يحتاجها الناس لتوثيق معاملاتهم، وحل مشاكلهم وخصوماتهم ونزاعاتهم، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وتحملها فرض كفاية، وقد يكون فرض عين إذا لم يوجد إلا من تقوم به الشهادة، فإذا تحملها وجب عليه أداؤها إذا لم يعد عليه ذلك بالضرر.
ولا يشهد أحد إلا بما يعلمه، ويلزم أن يؤدي الشهادة كما علمها بدون زيادة ولا نقصان.
وهناك شروط فيمن تقبل منه الشهادة إذا توفرت قبلت منه، وإلا فلا.
تعريف الشهادة ومشروعيتها وأحكامها
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الشهادات] .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قوله: (كتاب الشهادات) الشهادات: جمع شهادة، تطلق الشهادة بمعنى الحضور، تقول: شهدت كذا إذا كنت حاضرا، ومنه سمي الشهيد شهيدا؛ لأن الملائكة تحضره، قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر حينما كان يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقد استشهد يوم أحد، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع) ، ومنه قوله تعالى: {وما كنت من الشاهدين} [القصص:44] أي: من الحاضرين، وتطلق الشهادة بمعنى العلم، تقول: أشهد بكذا بمعنى: أعلم، كقولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله، ومنه الشهادة في القضاء، فهي منتزعة من المعنى الثاني.
وأما في الاصطلاح: فهي الإخبار عن حق للغير، بلفظ مخصوص، وإخبار مخصوص، عن شيء مخصوص.
والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] ، وقال سبحانه: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة:282] ، وقال سبحانه: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] ، وقال تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4] ، فهذا نص الكتاب.
وأما نص السنة: فقد جاء في قصة الحضرمي كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ وائل بن حجر: (شاهداك أو يمينه) وهذا يدل على أن الشهادة حجة في القضاء، وحجة في النزاع والخصومات.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على اعتبارها حجة من حجج الإثبات في القضاء الإسلامي.
وأما في العقل: فالعقل يدل على مشروعية الشهادة؛ لأن الناس يحتاجون إلى من يوثق معاملاتهم، خاصة في حال الخصومات والنزاعات، والشهادة طريق إلى ذلك.
حكم تحمل الشهادات في غير حق الله تعالى
قال رحمه الله: [تحمل الشهادات في غير حق الله فرض كفاية] .
أي: أن الشهادة فيها التحمل وفيها الأداء.
والتحمل: هو أن يكون الإنسان يعلم بما يشهد به، فينظر فيما يطلب منه أن يشهده، فيحضر ويسمع ويرى، وتكون شهادته عن علم برؤية أو سماع، أما الأداء: فهو أن يؤدي ذلك في مجلس القضاء.
فالعلماء يقولون: تحمل وأداء، المرحلة الأولى التحمل، والمرحلة الثانية الأداء، والتحمل مقصود من أجل الأداء، فتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا أصل في الأمور التي يحتاج إليها، أنه إذا قام بها البعض وسدوا الكفاية سقطت عن الباقين.
وعلى هذا: لو أن شخصا دعي إلى الشهادة، أو قال لك رجل -وأنت في إدارة أو في أي موضع-: اشهد، فحينئذ ننظر إذا كانت القضية يمكن أن يشهد عليها غيرك، وهذا الغير تتوفر فيه شروط الشهادة وتقبل شهادته لو شهد، فإنه حينئذ لا يجب عليك تحمل الشهادة، وبإمكانك أن تقول له -إذا كان عندك ظرف أو عمل أو غيره-: اعذرني يا أخي، أو كنت لا تحب أن تذهب وتتحمل بعض المصاعب والمتاعب، فلك أن تقول له: اعذرني، ولك الحق أن تتركها؛ لأنها لم تتعين عليك.
قال رحمه الله: [وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه] .
أي: إذا لم يوجد غيرك وشاهد آخر، والحق لا يثبت إلا بكما، فحينئذ لا يجوز لك أن تتخلى عن الشهادة، ويحرم عليك ذلك، قال تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة:282] ، فإذا كانت هناك قضية وقيل لك: اشهد، ولا يوجد غيرك، أو يوجد شخص غيرك لكن لا تقبل شهادته وأنت تقبل شهادتك؛ كما لو كان هناك رجل عنده أولاده، وإذا شهد أولاده لا تثبت شهادة الولد لوالده، فحينئذ إذا قيل لك: اشهد، فاشهد، كما لو حدثت مشكلة أو خصومة، ولا يوجد إلا أنت وشخص آخر معك، فحينئذ يجب عليك ويتعين عليك أن تسمع وأن تعلم؛ لأن هذا يؤدي إلى وصول الحق إلى صاحبه، ويؤدي إلى منع الظالم من الظلم، وإنصاف الناس في حقوقهم، ويؤدي إلى معونة القضاء على ذلك؛ لأن القضاء بلاء، ولا يمكن دفع هذا البلاء بشيء مثل الشهادة، كما قال بعض أئمة السلف، وهذا مروي عن شريح: القضاء بلاء، فادفعه عنك بعودين.
يعني: بشاهدين، فهذان العودان: هما الشاهدان، فإذا جاءا وشهدا انتهى الأمر، فقالا: سمعناه يقول كذا، رأيناه يفعل كذا، فحينئذ يعرف المحق من المبطل.
أما إذا كان الأمر فيه سعة، ويوجد من يمكن أن يشهد ويتحمل فلك الخيار، والأفضل أن تشهد؛ إحقاقا للحق، وإبطالا للباطل، ومعونة لأخيك، وتثاب على ذلك، وأنت مأجور عليه، لكن إذا خشيت بعض التعقيد أو الضرر أو نحو ذلك، فلك الحق أن تمتنع.
حكم أداء الشهادة على من تحملها
قال رحمه الله: [وأداؤها فرض عين على من تحملها متى دعي إليها وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل] أداء هذه الشهادة فرض عين على من تحملها، مثال ذلك: لو وقع حادث أو وقعت خصومة وشهد اثنان كانا حاضرين أثناء الحادث، ورفعت القضية إلى القضاء، فجاء صاحب القضية وقال للاثنين: أريدكما أن تشهدا معي، فحينئذ يجب عليهما أن يحضرا إلى مجلس القضاء، وأن يشهدا بما علما، وذلك فرض عين عليهما، وإذا تعطلا أو امتنعا فإنهما آثمان شرعا، ويتحملان المسئولية أمام الله عز وجل، وقد قال تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283] .
وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشاهد إذا دعي، خاصة إذا لم يوجد غيره، وتوقف إحقاق الحق على وجوده، فإنه إذا امتنع يتحمل الإثم -والعياذ بالله- والوزر، وهذا بإجماع العلماء، ويحكم بفسقه؛ وهذا فيه وعيد شديد، وأيضا فيه تعطيل للحقوق، وفيه عدم صيانة للقضاء؛ لأن القاضي إذا لم يجد شهودا سيضطر إلى قبول اليمين، وقد تكون يمينه غموسا، وحينئذ يحق الباطل ويبطل الحق، فتضيع حقوق الناس، فتحملها فرض عين على الإنسان، إذا لم يوجد غيره، ويجب عليه أداؤها إذا لم يكن هناك شهود غيره، فإن كان هناك شهود، فحينئذ ننظر إذا كانوا موجودين أحياء، ويمكنهم أن يشهدوا، وجاء صاحب الحق وقال لك: أريدك أن تشهد، فإن كان عندك قدرة أن تذهب وتشهد فاذهب، وهذا أفضل وأعظم لأجرك وأتقى لربك، أما إذا كان الإنسان عنده عذر، أو لا عذر عنده، وقال: أنا لا أريد أن أذهب، فحينئذ ترك الأفضل، وهناك مندوحة لأن هناك من يقوم بهذا الأمر من غيره.
فإذا كان من حضروا قد ماتوا ولم يبق منهم إلا هذان الاثنان، فحينئذ يتعين عليهما الحضور، أو كان البقية مسافرين، وحضرت القضية فإنه يجب عليهما أن يذهبا ويشهدا.
إذا: إذا تعينت عليه صارت فرض عين، وأما إذا وجد من يقوم بها من غيره ممن تقبل شهادته، لم تصر فرض عين عليه، لا في التحمل ولا في الأداء.
وقوله: (متى دعي إليها) : من العلماء من قال: الشاهد إذا دعي فيجب عليه أن يجيب، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لعموم قوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة:282] ، والورع تعاطي ذلك.
حكم تحمل الشهادة وأدائها لمن خشي الضرر على نفسه
وقوله: (وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله) .
أي: وقدر على الأداء بلا ضرر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فلو قيل له: تعال واشهد، والذي سيشهد عليه ابن عمه، وهناك شهود آخرون غيره، فحينئذ لو جاء ليشهد فستقع فتنة بينه وبين بني عمه، وتقطع بسببها الأرحام، وقد يكون ابن عمه شريرا فقد يقتله، وقد يؤذيه، وقد يضر به وبولده، وفي بعض الأحيان تقع النعرات والمشاكل، وربما قد لا ينكح ولا ينكح، وهذا ضرر عليه وعلى أولاده، ولربما شمت به مع أنه على حق.
فإن كان به من الإيمان والقوة والصبر والجلد فلم يزده الله بذلك إلا عزا، فمن أهان عبدا لله اتقى الله فيما اتقى فيه ربه جعل الله إهانته كرامة، وجعل الله ذله عزا، وجعل الله منقصته كمالا، ومن أراد أن يجرب فليفعل؛ لأنه ليس هناك أعظم من نقمة الله عز وجل ممن ظلم عبدا اتقى ربه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وجاءته الدنيا ذليلة صاغرة) ، ومن هنا فمن حقه أن يمتنع إن خشي الضرر.
ولذلك فإن العلماء رحمهم الله في مسائل الضرر يقولون: إن الضرر قد يتحمل إذا كان عند الإنسان صبر وجلد على البلاء، وعلى الفتنة والأذية، يقولون: فيجوز له أن يؤدي الشهادة؛ لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة على نفسه؛ لأن من الناس من إذا تضرر ندم على ما فعل، وضعف إيمانه، وحينئذ فلا هو حصل على الأجر فيما مضى لندمه ورجوعه عما فعل، ولا هو سلمت له نفسه بحصول الضرر بعد ذلك، قالوا: وهذا هو معنى رد النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال: (إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي) يعني: أتصدق بكل مالي، فهو فارح بتوبة الله، فربما إذا انتهى فرحه ندم على تصدقه بجميع ماله، فيذهب عليه الأجر بالندم، فلا هو بقي له ماله، ولا هو ثبت له الأجر.
وهنا في الشهادة كذلك، فإذا كان الشخص يتحمل وعنده قوة إيمان وصبر وجلد فبها، وإلا فلا.
وقوله: (وكذا في التحمل) أي: إذا وجد الضرر على نفسه وأهله وماله جاز له أن يمتنع، والعلماء ذكروا من الضرر: قطيعة الأرحام، والفتنة، حتى قالوا: إن القاضي من حقه أن يؤخر تنفيذ الحكم إذا خشي أن تقع مقتلة، أو تقع فتنة، ولذلك قال الناظم: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فلا يجوز للحاكم أن يوقف الحكم، ولا أن يعطل الحكم، بل يجب عليه تنفيذه، وإذا أخر فإنه يأثم، فإذا تبين له الحق يجب عليه أن يحكم به، ولكن إذا خاف الفتنة أو الشحناء للأرحام، عدل إلى الصلح في القضية خوف وقوع ما هو أعظم.
والصلح يستدعى له إن أشكلا حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام
حرمة كتمان الشهادة
قال رحمه الله: [ولا يحل كتمانها] ولا يحل كتمانها؛ لقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} [البقرة:283] ، وكتمانها يكون على صورتين: أن يعلم أن لفلان على فلان حقا، وغالبا ما يكون هذا إذا كان الشخص صاحب الحق لم يعلم أنه شاهد، أو أن الذي رأى القضية أو الحادثة مع كون صاحب الحق عنده شاهدا أو شهودا ثم توفي الشهود، أو امتنعوا من الشهادة، أو جنوا، أو تعلق بهم مانع يمنع من قبول شهادتهم؛ كأن يحصل لهم أمر يوجب رد شهادتهم، ولا يعلم صاحب القضية أن فلانا شاهد، فحينئذ يجب على هذا الذي يعلم أن يأتي للشخص الذي له الحق ويقول له: يا فلان! أنا أعلم بهذه القضية، وعندي لك شهادة، إن أردتني أن أشهد فسأشهد، فإنه يثاب على فعله هذا، وهذا من أعظم ما يكون؛ لأن فيه إحقاق الحق، وهذا الذي يؤدي شهادته قبل أن يسألها قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهود؟ هو الذي يؤدي شهادته قبل أن يستشهد) ، وهذا من باب الندب والحرص على الخير.
مستند الشهادة ومستند الشاهد
قال رحمه الله: [ولا أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع، أو استفاضة فيما يتعذر علمه بدونها؛ كنسب وموت وملك مطلق ونكاح ووقف ونحوها] .
قوله: (ولا أن يشهد إلا بما يعلمه) هذا شروع في شيء يسميه العلماء: مستند الشهادة، ومستند الشاهد، بمعنى: شهادة الشاهد هذه من أين أخذها، وعلى أي شيء بنى؟ وذلك يكون إما بالرؤية، أو بالسماع، أي: أن يسمع بأذنه، أو استفاضة، والاستفاضة: أن ينتشر بين الناس هذا الأمر؛ كالموت والوقف والنسب، فيما تقبل فيه شهادة السماع، وهي شهادة الاستفاضة، فإذا كان الشاهد يريد أن يشهد فلابد أن يشهد بأحد أمرين: إما بشيء رآه، وإما بشيء سمعه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فالشاهد لا يجوز له أن يشهد إلا بشيء يعلمه ويحققه.
هذا بالنسبة للحقوق والحدود، فلا يقبل فيها إلا العلم، وإذا لم يكن يعلم فلا تقبل شهادته إلا في مسألة الشهادة على الشهادة، ففيها تفصيل للعلماء رحمهم الله وستأتي.
أما بالنسبة للاستفاضة كما ذكرنا في النسب ونحوه، فمثلا: يشهد أن آل فلان من الأشراف، ومن ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يجوز إثبات النسب بالاستفاضة، كأن يعرف أن بيت فلان من الأشراف، وانتشر في المدينة، أو انتشر في قريته، أو في جماعته: أن هذه الأسرة أو أن هذا الاسم من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: شهادة السماع، فيثبت بها النسب، وقد أجمع العلماء على قبول شهادة السماع في النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، ولذلك إذا قبلت الشهادة بالسماع بالخير في تزكيته عند ربه، فأن تقبل في أمور الناس من باب أولى وأحرى.
وعلى كل حال: إذا اشتهر واستفاض عند الناس أن هذا وقف بني فلان، أو أن هذا نسب من القبيلة الفلانية يرجعون إلى بني فلان، أو يرجعون إلى آل فلان، فهذا يسمى: شهادة الاستفاضة، وحينئذ يجوز للشهود أن يقولوا: نشهد أن فلانا من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن فلانا شريف، أو أن فلانا من بني فلان، وهم من قبيلة كذا، بناء على شهادة السماع والاستفاضة.
ذكر الشروط عند الشهادة في النكاح وغيره من العقود
قال رحمه الله: [ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلابد من ذكر شروطه] أي: من شهد بنكاح أو بيع أو إجارة أو نحو ذلك من العقود فلابد أن يذكر شروطه، وهذه مسألة تكلم عليها الإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام العز بن عبد السلام كلاما نفيسا بينا فيه: أنه ربما اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، وحينئذ فلابد أن يحكم القاضي بهذا العقد على شيء يعتقد صحته، ومن هنا قرر الأئمة: أنه إذا اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، فكان الشاهد يرى صحة العقد، والقاضي لا يرى صحته، فالعبرة بمذهب القاضي لا بمذهب الشاهد، إلا في مسائل منها: مسألة التفسيق، ومنها: مسألة التعزير، إذا فعل فعلا يرى جوازه واعتقد حله، وكان له فيه شبهة، فحينئذ لا يؤاخذ ولا يأخذه القاضي بذلك.
لزوم الوصف في الشهادة على رضاع أو سرقة أو شرب
قال رحمه الله: [وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب أو قذف فإنه يصفه] أي: يلزمه أن يصف الرضاع، ويصف السرقة، مثل: عدد الرضعات، وتقبل شهادة النساء فيه، فلو قالت: أربع أو خمس رضعات مشبعات معلومات، قبلنا منها؛ لأن هذا يترتب عليه أحكام.
وقد ذكر العلماء ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، والإمام ابن قدامة: أن الشهود ربما شهدوا بالشيء يظنونه شرعيا وهو ليس بشرعي، ولربما بمجرد أن يرى الطفل التقم الثدي فهم أنه رضع رضاعة شرعية، فيأتي ويقول: فلان رضع من فلانة رضاعة شرعية، فهذا لا يقبل، ومن هنا قالوا: لا يقبل الجرح إلا مفسرا، فلو قال مثلا: هذا الشاهد فاسق، فيقول له القاضي: بم تفسقه؟ بماذا هو فاسق؟ أو لو أن شاهدا جاء وشهد على شخص فقال المشهود عليه: أنا آتي بما يطعن في شهادته، فأتى بشخص يطعن في الشاهد، فنقول له: هل تطعن في الشاهد؟ فإذا قال: نعم، وهذا الشاهد لا يقبل منه القاضي شهادته حتى يفسر، فيقول له: بم رددت شهادته؟ وبم تطعن في شهادته؟ قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت رجلا مستهلا يصيح ويطعن في شاهد، ومن توفيق الله للقاضي أن قال لذلك الذي يطعن في الشاهد: لا أقبل منك حتى تبين جرحك له، فقال: أنا أعلم ما الذي يجرح وما الذي لا يجرح -ما شاء الله! هناك بعض الناس يصل إلى درجة لا يسأل عما يفعل ولا يسأل عما يقول- فقال القاضي: لا أقبل طعنك ولا أقبل قدحك حتى تبين، فقال الرجل: رأيته يبول قائما.
سبحان الله! وهل إذا بال قائما سقطت شهادته وتركت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث حذيفة أتى سباطة قوم فبال قائما، فقال القاضي: وما عليه أن يبول قائما؟ قال الرجل: إذا بال قائما تطاير البول على ثوبه، ثم إذا تطاير على ثوبه صلى بذلك الثوب وبطلت صلاته، فهل عندك شك في بطلان الصلاة بالبول؟ فقال له القاضي -وهذا من فقهه وعلمه-: هل رأيت بوله يتطاير على ثوبه، ورأيت البول على الثوب عندما صلى؟ فأسكته.
إذا: فلا يمكن أن يقبل الطعن في الشهادة إلا مفسرا، وقد يأتي العامي فيظن شيئا فيقبل منه، وإلا استغل القضاء بشهادة الجهال، ولذلك ينبغي صيانة القضاء، وانظر كيف أن الفقه الإسلامي دقيق في كل شيء؛ لأنه مبني على شريعة كاملة، ولن تجد مهما بحثت لا من قوانين وضعية ولا غيرها من يستطيع أن يدخل في التفصيليات من الإثبات والحجج مثلما بينته هذه الشريعة، فالحمد لله على فضله.
إذا: لابد أن يبين معاملته مع غيره، فإذا أراد أن يبيع.
فعليه أن يسأل: هل باع شيئا يملكه؟ هل البيت مباح؟ هل هو على صفة يحكم بها بصحته أو لا؟







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #769  
قديم 27-10-2025, 12:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




حكم الوصف في الشهادة بالزنا وحدوده وضوابطه
قال رحمه الله: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها] كأن يقول: فلان زنى بفلانة، وفيه للعلماء وجهان: فبعض العلماء يقول: لا ينبغي للقاضي أن يعنت الشهود، بمعنى: أن يحرجهم بالأسئلة إلى أن يدخل في تفاصيل قد تحدث الضرر عند الشاهد، وحينئذ يكون هذا من التعنيت، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] ، فحرم علينا الإضرار بالشهداء، ولذلك تعامل العلماء مع هذه القضية بحذر، بمعنى: أنهم لا يجيزون للقاضي أن يسأل الشهود إلا في حدود معينة وبضوابط مقيدة؛ كل هذا حتى لا يعتبر من تعنيت الشهود والإضرار بهم، فالوسط الذي هو بين الإفراط والتفريط.
فيسأله عن مكان الزنا، فيقول: فلان زنى بهذه في مكان كذا، أو فلان زنى بفلانة بنت فلان بنت فلان على وجه ينتفي به اللبس؛ لأنه ربما يقول: رأيته يفعل بالمرأة، وقد تكون زوجته، وحينئذ فلابد أن يتفق الشهود على هذا، فلو قال أحدهم: زنى بالليل، وقال الآخر: زنى بالنهار، وقال أحدهم: رأيته يزني في غرفة، وقال الآخر: رأيته يزني في العراء في البر، فحينئذ ثبت على أن هذه جريمة وهذه جريمة، وهذه شهادتها ناقصة وهذه شهادتها ناقصة.
ومن هنا يحتاط القاضي لأعراض المسلمين، وهذا ليس من الظلم والحيف، وإنما هو من الحياد؛ حتى تكون الشهادة موثوقا بها، مبنية على أصول صحيحة، ويظهر بها صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك فإن كثيرا من المظالم وشهادات الزور انكشفت بفضل الله عز وجل ثم بفطنة القضاة وحسن تعاملهم مع الشهود، فقد استطاعوا أن يدركوا أو يبينوا كذب الشهود وزيفهم، ومما يظهر به فضل الله عز وجل على القضاة حسن استخراجهم للخلل والخطأ في الشهادة حتى ترد.
ضرورة البيان لما يعتبر في الحكم
قال رحمه الله: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل] كما ذكرنا؛ لأن الأحكام اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وقد يكون هناك أمر يظنه على شكل والواقع أنه على شكل آخر، ومن هنا فلا يقبل الإجمال فيما ينبغي فيه البيان، سواء كانت من الأمور الشرعية، أو من الأمور المحتملة في بعض الوقائع، ومن هنا قال المغيرة رضي الله عنه لـ عمر -لما اتهم بالزنا وجيء بالشهود، وكان يعتبر من دهاة العرب-: يا أمير المؤمنين!: أرآني مدبرا أم مقبلا؟ فقال: رأيته من رجليه، يعني: مدبرا، فقال: ما درى أنها فلانة زوجتي، فأفحم الشاهد بهذا.
وهناك أشياء لا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحسس، ونهى عن سوء الظن، ونهى عن المحامل التي لا تنبغي، وكم من أمور ظاهرها الخلل وهي مبنية على براءة وغفلة، ومن هنا ينبغي للشهود أن يتحروا، وأن يتأكدوا، وأن تثبت شهادتهم على وجه لا شك فيه ولا لبس.


شروط من تقبل شهادته
قال رحمه الله: [فصل: شروط من تقبل شهادته ستة] .
نجملها قبل البيان والتفصيل، فقد شرع رحمه الله في شروط الشهادة؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي أن لا نقبل كل شهادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] وصدر الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282] ، فقال: (يا أيها الذين آمنوا.
من رجالكم) ، فخصص ولم يعمم؛ لأن صدر الآية مخاطب به المؤمنون، فدل على أن قوله: (من رجالكم) أي: من المؤمنين؛ لأنه قال: (يا أيها الذين آمنوا) ، وقوله: (رجالكم) ، الكاف كاف خطاب، إذا لا تقبل شهادة كافر.
ومفهوم ذلك أيضا: أن الصبي لا تقبل شهادته، وأن المرأة لا تقبل شهادتها من حيث الأصل في بعض القضايا، مثل: الحدود وغيرها، ولكن استثنى الشرع قبول شهادتها في بعض القضايا.
قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، فهذا استثناء، وكذلك قال: (ممن ترضون من الشهداء) ، فخرج الذي لا يرضى في مضمون الشهادة، كالشخص الذي فيه غفلة وفيه ضعف في الضبط، ومن لا يرضى من ساقط العدالة، وهو الفاسق، ولا يرضى مخروم المروءة، وسنبين علته، فهذه الآية أصل في بيان أن الشهادة لا يقبل فيها كل أحد، ومن هنا يجب أن يكون الشاهد قد توفرت فيه صفات معتبرة، وهذه الصفات مقصود الشرع من اشتراطها وإلزام الناس بها: أن يتوصل إلى الشهادة الصحيحة، وأن يكون العمل بمضمونها بما تحصل به الطمأنينة، ومن هنا اعتنى الفقهاء والأئمة رحمهم الله، وجاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة ذي الحنة، وهو الذي بينه وبين من شهد عليه إحنة وعداوة، وأجمع العلماء رحمهم الله على رد شهادة الكفار إلا فيما استثناه الدليل، وسيأتي إن شاء الله، وأجمعوا على رد شهادة الصبي من حيث الأصل إلا في مسائل، وأجمعوا على رد شهادة المجنون وشهادة خفيف الضبط، ومن فيه غفلة وعند نسيان، ونحو ذلك.


الشرط الأول: البلوغ

قال رحمه الله: [البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبيان] .
البلوغ: هو انتقال الصبي من طور الصبا إلى طور الحلم.
وقوله: (فلا) الفاء للتفريع، أو تفصيلية، والأصل في اشتراط البلوغ قوله تعالى: {من رجالكم} [البقرة:282] ، والصبي ليس برجل هذا أولا.
وثانيا: أن الصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ناقص الإدراك وناقص العقل، وقد يرى أشياء لا يميزها، وقد ينتابه الخوف وينتابه الاستعجال، فحينئذ لا يوثق بقوله وخبره.
ثالثا: قال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، والصبي لا ترضى شهادته للعلل التي ذكرناها، فاجتمع الدليلان: الدليل الأول: {من رجالكم} [البقرة:282] ، والصبي ليس من الرجال، وقد لفت إلى هذا الوجه ابن عباس حبر الأمة ترجمان القرآن رضي الله عنهما في دلالته على رد شهادة الصبيان.
وقد استثنيت مسألة وقع فيها الخلاف بين السلف رحمهم الله والأئمة، وهي: شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فمثلا: لو وقعت حادثة كأن يضرب صبي صبيا، أو حصل شيء بين الصبيان وهم مع بعض، فمذهب عبد الله بن الزبير من الصحابة والمالكية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله: أنه تقبل شهادة الصبيان في هذه المسألة خاصة، واشترطوا شروطا: الأول: أن يكون فيما بينهم؛ لأن الغالب أن لا يحضره الرجال، وهذا ما يسمونه: شهادة الحاجة، أي: أنه وجدت حاجة لقبولها، كالحوادث التي تقع بين الأطفال.
الثاني: أن لا يدخل بينهم كبير، وأن لا يختلطوا بالكبار، فيؤخذون بعد الحادث مباشرة، وتؤخذ أقوالهم بعد الحادثة، قبل أن يدخل بينهم كبير ويلقنهم، وقبل أن يختلطوا بأهليهم وبالناس، لأنه قد يحدث التخويف والترويع، فتختلف شهادتهم.
والصحيح: أنه لا تقبل شهادتهم مطلقا؛ لظاهر النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) ، فالصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ليس مؤاخذا على كذب، وليس مؤاخذا على خلل يفعله، ولو كان عمدا، ومن هنا ترد شهادته حتى ولو كانت على الصبيان.


الشرط الثاني: العقل

قال رحمه الله: [الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه] قوله: (العقل، فلا تقبل شهادة مجنون) وهذا بالإجماع؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، وفي الحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة ذي الجنة) ، وهو المجنون، فدل على اشتراط العقل في الشاهد، فلا تقبل شهادة المجانين بالإجماع.
وكذلك المعتوه، والعته: ضرب من الخفة في العقل بحيث لا يضبط الأشياء ولا يميزها، وقد يلقن ويقبل التلقين، ويستعجل بالأمور، ولذلك لا يوثق بخبره.
قال رحمه الله: [وتقبل ممن يخنق أحيانا في حال إفاقته] أي: تقبل الشهادة ممن يجن تارة ويفيق تارة إذا أداها في حال إفاقته؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وقد تقدم نظائر لهذه المسألة.

الشرط الثالث: الكلام

قال رحمه الله: [الثالث: الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته، إلا إذا أداها بخطه] أولا: لا تقبل شهادة الأخرس؛ لأن الشهادة محتملة، والحركات محتملة، حتى ولو وجد من يفسرها، فلا تقبل شهادة الأخرس.
ثانيا: يستثنى من هذا أن يكتبها؛ لأن الكتابة تنزل منزلة المقال، ودليلنا على أن الكتابة تنزل منزلة المقال: أن الله تعالى يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة:67] ، فأمره الله بالبلاغ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض، ونزل الكتابة منزلة العبارة والقول، فأخذ العلماء من هذا أصلا وهو: أن من كتب الطلاق فإنه يمضي عليه طلاقه، ومن كتب الكفر حكم بردته، ومن كتب شهادته قبلت شهادته؛ لأن كتابته تنزل منزلة العبارة، فكأنه متكلم.

الشرط الرابع: الإسلام

قال رحمه الله: [الرابع: الإسلام] أي: من الشروط الإسلام، فلا تقبل شهادة الكافر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} [البقرة:282] ، ثم قال: {من رجالكم} [البقرة:282] ، وقد قدمنا أن الكاف للخطاب، فخص به المؤمنين، فدل على أنه لا تقبل شهادة الكافرين.
هذا أولا.
ثانيا: يقول الله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج:18] ، والكفر قد أهان الله أهله، والشهادة تكريم؛ لأن الشاهد يحكم على غيره، ومن هنا فلا يمكن أن يكرم من أهانه الله عز وجل.
ثالثا: أنه لا تقبل شهادته على المسلم، وهذا ظاهر؛ لأن فيها نوعا من العلو، وقد قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، فالشاهد له سلطان وله علو وله قوة على المشهود عليه؛ لأنه يضر به ويقبل قوله، والكافر ليس بأهل لهذا العلو.
رابعا: أن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظم العداوة عداوة الدين، فقد يعتقد الكافر التقرب لآلهته ومن يعبده بأذية المسلمين.
ومن هنا اجتمعت الأدلة العقلية والنقلية على عدم قبول شهادة الكفار، إلا في الوصية عند حضور الموت في السفر، أي: أن تكون الوصية في السفر، فتقبل من نوع خاص من الكفار وهم أهل الكتاب، ولا تقبل من غيرهم، لا تقبل شهادة المجوس ولا الوثنيين ولا المرتدين؛ لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} [المائدة:106] ، وقد عمل الصحابة الكرام بهذه الآية الكريمة، كما في قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه حينما رفعت إليه قضية في شهادة اثنين من أهل الكتاب على وصية صحابي أو تابعي في سفره لم يجد من المسلمين، فأشهدهما، وحلفا بالله عز وجل أنهما لم يغيرا ولم يبدلا، فقبل شهادتهما على الصفة المعتبرة شرعا، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعت دلالة الكتاب والسنة على قبول شهادة الكفار، بشرط أن تكون شهادتهم على المسلمين في السفر على الوصية.
إذا: لا تقبل شهادتهم في الحضر؛ لأن القرآن نص على هذا، وكذلك أيضا لا تقبل شهادة الكفار ولو على كافر مثله، سواء اتحدت ملتهما، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، أو اختلفت الملة مع اتفاق الأصل، كيهودي على نصراني، أو نصراني على يهودي، في اتفاق كونهما من أهل الكتاب، أو وثني على وثني، فكل هؤلاء لا تقبل شهادتهم مطلقا.

الشرط الخامس: الحفظ

قال رحمه الله: [الخامس: الحفظ] .
وذلك لأن قبول الشهادة مبني على الوثوق بخبر المخبر، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان حافظا لا ينسى، أما إذا عرف منه النسيان والغفلة وعدم الضبط، فإنه لا تقبل شهادته، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، وهذا يخص قبول الشهادة إذا كانت ممن يرضى في ضبطه وتحريه ونقله، فإذا كان بهذه الصفة قبلت شهادته وإلا فلا.

الشرط السادس: العدالة

قال رحمه الله: [السادس: العدالة] فلا تقبل شهادة الفاسق، والعدل: هو الشيء الوسط الذي بين الإفراط والتفريط، وهو القسط المعتبر الذي هو بين الغلو والإجحاف، والأصل أن العدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
عدل الرواية الذي قد أوجبوا هو الذي من بعد هذا يجلب العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فإذا كان مجتنبا للكبائر ولا يصر على الصغائر فإنه عدل، وتقبل شهادته والدليل على عدم قبول شهادة الفاسق بل العدل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] .
فبين سبحانه وتعالى أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على أنه ليس بحجة؛ فقد أمر بالتثبت والتوقف في خبر الفاسق، فدل على أنه لا يقبل، والفسق سواء كان بالأقوال كالقذف، أو كان بالأعمال كأكل الحرام، أو كشرب الخمر وتعاطي المخدرات والعياذ بالله! أو كان بالفعل كالسرقة والزنا، فكل هذا يوجب الحكم برد الشهادة.
والجمهور على أنه لا تقبل شهادة الفاسق من حيث الجملة، والحنفية على قبولها بشرط أن لا يكون فسقه مؤثرا في الشهادة، وهو فسق الكذب، قالوا: لأنه قد يكون الشخص فاسقا بشرب الخمر، وهو من أصدق الناس ولا يكذب، وقد يكون فاسقا بخلل ولكنه يضبط الشهادة ويحفظ ويصون، ولكن الجمهور قالوا: إن خلله في شيء لا يمنع من خلله في غيره، والأصل يقتضي عدم قبول شهادته كما ذكرنا، وعلى هذا فلا تقبل شهادة الفاسق.
لكن إذا فسد الزمان وقل وجود العدول وتعذر، فإنه تقبل شهادة أمثل الفساق، وهذا الأمر اختاره المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وابن فرحون المالكي كما قرره في كتابه: (القضاء في تبصرة الحكام) ، وبين أنه تقبل شهادة أمثل الفساق عند تعذر وجود العدول ويقبلها القاضي.
ما يعتبر للعدالة من صلاح الدين والمروءة
قال رحمه الله: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، فلا تقبل شهادة فاسق] .
كل هذا قد تقدم.
وقوله: (لا يأتي كبيرة) الصحيح هو مذهب جماهير السلف والخلف أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ودليل ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] ، وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم:32] ، فدلت هاتان الآيتان الكريمتان على أن الذنوب كبائر وصغائر، ودل عليها قوله تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات:7] ، فلما قال: (الكفر) دل هذا على أن الخروج عن طاعة الله على ثلاثة أقسام: الأول: الكفر، وهو الخروج من الملة والعياذ بالله! الثاني: الصغائر، وهو اللمم والعصيان.
الثالث: ما بينهما وهو الفسوق.
ولذلك قال: (كره إليكم الكفر والفسوق) ، وهو ارتكاب الكبائر الذي لا يخرج من الملة.
وأصل الفسوق من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، قالوا: سمي الفاسق فاسقا؛ لأنه خرج عن طاعة الله عز وجل.
وقد اختلفت عبارات العلماء في ضبط الكبيرة إلى قرابة عشرين قولا، وأصح الأقوال وأجمعها قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الإمام أحمد، والإمام ابن حزم وغيرهما من الأئمة: أن الكبيرة كل ما سماه الله ورسوله كبيرة، أو ورد عليه الوعيد في الدنيا أو الآخرة، بنفي إيمان أو غضب ونحو ذلك، أو ترتبت عليه عقوبة، هذا كله من الكبائر، وهذا من أجمع ما قيل في ضابط الكبيرة.
وهناك من قال: هي ما كان فيها عقوبة، وهذا ضعيف؛ لأنه يخرج ما ورد فيه الوعيد وليست فيه عقوبة، ومنهم من يقول: عقوبة مطلقة، ومنهم من يقول: عقوبة محددة، والخمر فيه عقوبة غير محددة على الخلاف الذي ذكرناه، فالشاهد: أن الضابط الذي ذكرناه من أجمع الضوابط.
قال رحمه الله: [الثاني: استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه] المروءة: هي التي تحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات والأقوال والأعمال، جعلنا الله وإياكم من أهلها، وقد قل وجودها في هذه الأزمنة، ويقل وجودها كلما تباعدت أزمنة الناس عن أزمنة النبوة، وهي حياة الإنسان، ولذلك ففيها الحياء وفيها الخجل، قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فمن أجمع خصال المروءة: الحياء، ولذلك إذا ذهب الحياء ذهب الخير عن الإنسان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير) ، والمروءة تقل بفساد الزمان كما ذكر الأئمة: مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا! فذهب أهل المكرمات وأهل الحياء والخجل، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) دل على أن من لا مروءة عنده يفعل ما شاء، ومن هنا اختلفت تعليلات العلماء لرفض شهادة من لا مروءة له.
ومن خوارم المروءة: أن يأتي السوق ويكشف رأسه، أو يجلس في وسط السوق ويأكل، أو يأخذ الأكل معه في يده وداخل سيارته ولا يبالي، إلا إذا كان في أحوال مخصوصة، مثل أن يكون مسافرا ونحو ذلك، أو جرى العرف بكشف الرأس في السوق أو في مجامع الناس، فهذا ليس فيه بأس.
أو يصيح ويرفع صوته في المساجد بين الناس في مجامع الناس، أو يجتمع كبار الناس وكبار القبيلة وكبار الجماعة من أهل الحل والعقد فلا يراعي أدبا، أو يمد رجليه وهو جالس أمام أهل العلم وأهل الفضل، ويفعل ما يشاء، ويضحك بحضور أناس ينبغي الحشمة معهم، كل هذا مما يخرم المروءة.
قال بعض العلماء: إن تعاطي هذه الأمور يدل على خفة العقل؛ لأن العقل يعقل الإنسان، فالذي لا يبالي ويفعل ما يشاء، كأن يرفع صوته في مجامع أو في خطابه للناس، ولا يراعي منازل الناس، فهذا دليل على أن عنده نقصا في عقله، ومن نقص عقله لم تقبل شهادته؛ لأن هذا يؤثر في الوثوق بقوله وبخبره، وقالوا: إذا لم يتورع في الظاهر فإنه لا يتورع في الباطن، وهذه دلالة الظاهر على الباطن، هذا الوجه الأول، وحينئذ يكون الخلل من عدم الصيانة.
وهناك وجه ثان: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس وهو من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يستحيي لا يتورع عن شيء، وإذا لم يتورع عن شيء فلا يتورع عن الكذب في شهادته، ولن يتورع أن يقول: أنا متأكد مائة بالمائة، وهو ليس بمتأكد، ويبالغ ويعظم الأمور، ويبالغ في مدح نفسه وفي الوثوق بقوله، فقالوا: مثل هذا لا ترضى شهادته، فهذان وجهان، والحقيقة أنه لا مانع من اعتبار كلا الوجهين موجبين لرد شهادة من لا مروءة له.
وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعراف، فهذا كله يعتبر من خوارم المروءة.
ولا يعتبر من خوارم المروءة العمل بالسنة وإظهارها، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يأتي شخص ويفعل شيئا من السنة أمام جماعته، أو أمام كبار السن، فلا ينبغي لأحد أن يقول له: أنت لا تستحيي، بل فعله هذا هو عين الحياء؛ لأن السنة لا تأتي إلا بخير، وجزاه الله خيرا أن أحيا سنة أميتت، فهذا لا يعتبر مذموما، وليس عليه منقصة ولا ملامة في هذا.
قبول الشهادة عند زوال المانع من قبولها
قال رحمه الله: [ومتى زالت الموانع فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق؛ قبلت شهادتهم] .
أي: متى زالت الموانع قبلت شهادتهم، فلو أن الصبي صار بالغا قبلت شهادته، وهكذا المجنون إذا أفاق من جنونه قبلت شهادته؛ لأن ما شرع لعلة يبطل بزوالها، والسبب في رد الشهادة وجود هذه العلل، وقد زالت، فيزول الحكم برد شهادته إذا توفرت فيه شروط قبول الشهادة.
أما الفاسق فإنه إذا صلح حاله قبلت شهادته، فمثلا: لو أنه قذف شخصا وردت شهادته بالقذف، أو فعل معصية من المعاصي وثبتت عليه وحكم بفسقه، قالوا: يترك مدة حتى تثبت فيها استقامته، واختلف العلماء في ضابطها، فمن العلماء من قال: إذا تاب توبة ظاهرة واستقام أغلب الحول، بأن تمضي عليه أكثر من ستة أشهر وهو على براءة؛ حكم بعدالته، وإلا فلا.
وبناء على هذا القول: لو أنه ردت شهادته بالقذف، ثم صلح حاله وتاب ورجع عن شهادته؛ لم تقبل شهادته حتى يمضي عليه أغلب الحول.
والصحيح هو مذهب الجمهور، وهو أن من قذف وأقيم عليه الحد، وتاب عن القذف ورجع عنه قبلت شهادته، قال عمر رضي الله عنه لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك.
وهذا يدل على أنه إذا تاب ورجع قبلت شهادته، وحينئذ فلا يشترط مضي مدة في المحدود بالقذف إذا قال: رجعت عن قذفي، فتقبل شهادته مباشرة، ويستثنى من هذا الأصل.
لكن لو زنى -والعياذ بالله- فظهرت عليه دلائل التوبة والاستقامة والرجوع إلى الله عز وجل، وأقيم عليه الحد كما لو كان بكرا وهو حي، فإذا مضت ثلاثة أشهر وشهد لم تقبل، بناء على أنه لم تمض مدة يستبرأ بها على الاستقامة والخير.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #770  
قديم 27-10-2025, 12:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الشهادات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (552)

صـــــ(1) إلى صــ(14)





شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [1]
للشهادة موانع إذا وجدت فلا تقبل معها الشهادة، وهذا يدل على شدة عناية الإسلام بالشهادة والحرية فيها، ومن هذه الموانع: شهادة الوالد لولده والعكس، وشهادة أحد الزوجين لصاحبه، وشهادة العدو على عدوه، وشهادة من يجر لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا.
ولابد من شهادة أربعة شهود في الزنا، ويكفي شاهدان في بقية الحدود والقصاص، وتقبل شهادة المرأة في الأموال دون الحدود.
موانع قبول الشهادة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب موانع الشهادة وعدد الشهود] .


شهادة الولد لوالده والعكس
[لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض] وذلك كالأب يشهد لابنه، والابن يشهد لأبيه، والأم تشهد لابنها، والجد من الآباء أو الأمهات لفروعهم وإن نزل، والدليل على ذلك قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، والأب مع الابن متهم، فإنه لا ترضى شهادته، وهذه يسميها العلماء: شهادة التهمة، فمن العلماء من جمع هذه العوارض تحت أصل يسمونه: التهمة، ثم قال: التهمة من جهة الضبط كما في المغفل وخفيف الضبط، الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرط الحفظ، وجعل من أنواع التهمة: تهمة البعضية، والبعضية: هي شهادة الوالد لولده، والولد لأحد الوالدين، فهذه تهمة البعضية، أن يكون الشاهد بعضا من المشهود له، أو يكون العكس، فحينئذ لا تقبل الشهادة.
والدليل الأول على البضعية آية البقرة وهي في مسألة الشهادة، والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) ، والبضعة من الشيء قطعة منه، ومعناه: أن الأب إذا شهد لابنه كأنه شهد لنفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل الولد مع والده كالشيء الواحد، وهذا يدل على أن البعضية موجبة للتهمة ورد الشهادة، فلا يشهد الإنسان لنفسه.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل شهادة الوالدين للولد أو الولد للوالدين مردودة بأصل الشرع على ظاهر آية البقرة، أم أنها مردودة لفساد الزمان وحصول الريبة؟ وظاهر ما ورد عن الزهري رحمه الله قوله: كان السلف يقبلون شهادة الولد لوالده والوالد لولده، ثم لما ظهر فساد الناس امتنعوا من ذلك.
هذا وجه، وحينئذ تكون آية البقرة غير دالة إلا من جهة فساد الزمان، لا أنها في الأصل مردودة، وهذا ما يسمى: اختلاف الحكم باختلاف الزمان والمكان، والأقوى أنها ردت في الأصل، ولذلك أثر عن علي رضي الله عنه أنه أعفى شريحا من القضاء ثم رضي عنه ورده، وهذا في قصة مشهورة: حين شهد الحسن والحسين لأبيهما في قصة الدرع، فامتنع شريح رحمه الله من قبول شهادتهما، فغضب علي رضي الله عنه وقال: أترد شهادة سيدي شباب أهل الجنة؟! فمنعه علي من القضاء فترة ثم رده.
فعلى هذا الوجه يكون السلف فعلا قد ردوا هذه الشهادة، وظاهر السنة يقوي كونها مردودة بالأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوالد مع والده كالشيء الواحد وقال: (إنما فاطمة بضعة مني) ، والإنسان لا يشهد لنفسه، وهذا أقوى من جهة الدليل.
وإذا شهد الأب على ولده بجريمة أو بحق، فإنه في هذه الحالة تقبل شهادته.
إذا: إذا كانت الشهادة للولد من الوالد أو العكس فإنها لا تقبل، بخلاف ما إذا كانت عليهم، فإنها تقبل؛ لأن التهمة منتفية، بل إن غالب الظن أنه صادق؛ لأنه مع العاطفة ومع المحبة ومع الشفقة ومع ذلك شهد عليه، فدل ذلك على قوة صدقه، وهذه الموانع في البعض دون الكل.
شهادة أحد الزوجين لصاحبه أو عليه
قال رحمه الله: [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه] الزوج لا يشهد للزوجة، والزوجة لا تشهد للزوج، حتى ولو كان الزوج في شركة أموال، والمرأة تقبل شهادتها في الأموال، فجاءت وقالت: أنا أشهد، ففي هذه الحالة إذا قالت: أنا أشهد، فإن الزوج سينفق عليها من ذلك المال إذا ثبت للزوج، فحينئذ هي متهمة، وهذه يسمونها: تهمة المنفعة، فإن التهمة تكون بجلب منفعة أو دفع مضرة، فترد شهادة الشاهد إذا اتهم بجلب المنفعة لنفسه، سواء كانت أساسا أو تبعا؛ أساسا كأن يشهد الشريك لشريكه، فإن المال الذي سيثبت سيكون قسمة بينه وبين شريكه، هذا في الأساس، أو تبعا كشهادة المرأة لزوجها؛ لأنها ستحصل على منفعة من وراء هذه الشهادة، فتستفيد المرأة من نفقة زوجها عليها.
وكذلك شهادة الزوج لزوجته، ومن العلماء من فرق بين شهادة الزوجة لزوجها، وشهادة الزوج لزوجته، لكن في شهادة الزوج لزوجته لا شك أن التهمة قد تكون ضعيفة، خاصة إذا كان الزوج معروفا بالعدالة والاستقامة.
أما الدليل من حيث قبول الشهادة -من حيث الأصل العام- في الزوج لزوجته والشريك لشريكه ونحو ذلك، فحديث الحاكم في مستدركه وصححه غير واحد من أهل العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز -أي: لا تقبل ولا يعمل بها- شهادة ذي الظنة ولا ذي الحنة) ، وأيضا في حديث المستدرك وهو عند أبي داود في السنن، وهو قوله: (رد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الخادم لأهل بيته) ؛ لأنه يستفيد من مال سيده، ومن هنا خرجوا مسألة الزوجة؛ لأنها تستفيد من مال زوجها، وقد أشرنا إلى الضعف؛ لأن الخادم ليس كالزوجة، فالخادم من حيث الأصل تبع لسيده يملكه وما ملك، لكن الزوجة لا يملكها وما ملكت، إلا أن شبهة النفقة موجودة في الزوجة، فإذا قيل بتعليلها في الحديث استقام ما ذكر.
قال رحمه الله: [وتقبل عليهم] أي: تقبل شهادة أحد الزوجين على صاحبه لا له.

شهادة من يجر لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا

قال رحمه الله: [ولا من يجر إلى نفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا] .
أي: لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعا؛ كالشريك لشريكه، ويدفع عنها ضررا أيضا، فلو أنه شهد بأن شريكه أعطى العامل أجرته، وهم شركاء في مزرعة، فحينئذ إذا لم تثبت هذه الشهادة سيغرم هو وشريكه أجرة العامل، كأن بنى لهما رجل بيتا أو عمارة، فقال شريكه: أديته حقه، فقال: ما أديتني، فاختصما إلى القاضي، فقال: عندي شهود، فجاء بشريكيه، والعمارة بين ثلاثة، فجاء بالشريكين، فالشريكان إذا قبلت شهادتهما دفعا الضرر عن نفسيهما؛ لأنه يجب على الثلاثة أن يتقاسموا قيمة البناء والعمارة وأجرة العامل.
والعكس: فلو ادعى مالا، فقيل للشريك: أحضر شهودك، فجاء بشركائه، فإنه إذا ثبت له شيء ثبت للشركاء استحقاقهم على قدر حصتهم من أصل الشركة، فحينئذ لا تقبل لمن يجر لنفسه نفعا ولا لمن يدفع عنها ضررا.
شهادة العدو على عدوه وله
قال رحمه الله: [ولا عدو على عدوه، كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه] فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، فإن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظمها عداوة الدين، ومن هنا قالوا برد الشهادة بعداوة الدين، وقد ردت الشريعة شهادة الكافر على المسلم.
وأما بالنسبة للعدو على عدوه من المسلمين فاختلفت عبارات العلماء: فإن العداوة يكون ظاهرها واضحا، كأن ترى الشخص يفرح لمساءة الشخص، ويحزن ويغتم -والعياذ بالله- للنعمة تصيبه، فإذا ثبت هذا كأن يتكلم بكلام يظهر منه أنه لا يريد هذا الشيء، أو يصرح بأنه عدو، إما بإقراره أنه عدوه، أو تحدث بينهما خصومة؛ فحينئذ لا تقبل شهادته على عدوه.
وهذا النوع من الشهادة عكس من لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعا، أو يدفع عنها ضررا، فهنا العدو على عدوه لا تقبل، لكن شهادة العدو لعدوه تقبل عكس الوالد لولده، وتقبل شهادة الوالد على ولده، وهذا يدل على مسألة قررها الإمام أبو البركات رحمه الله من فقهاء الحنابلة، وله كلام نفيس جدا في باب الشهادات في المحرر، وأيضا علق عليه الإمام ابن مفلح رحمه الله في النكت فذكر: أن العلماء بعضهم توسع وبعضهم حجم في مسألة التهمة، لحديث: (ذو الظنة) ، والظنين: هو المتهم، وقد جاء اللفظ الآخر: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) ، والظنين: هو المتهم، من الظنة وهي التهمة، كما قال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24] وفي قراءة (بظنين) أي: بمتهم، فلما قال: (لا تقبل شهادة الخصم والظنين) ، والخصومة هي العداوة، فصارت أصلا في رد شهادة العدو على عدوه، ومن هنا حصل اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة من ثبتت عداوته على عدوه.
أما بالنسبة للتهمة: فمنهم من توسع فيها، ومنهم من ضيق، ومنهم من توسط، والمطلوب هو الوسط، ولذلك نجد ممن توسع أتى بأمر غريب، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادة من يبيع أكفان الموتى، قال: لأنه يتمنى موت المسلمين؛ ولأنه لا يربح سوقه إلا ببيعها، وإذا ما حصل موت فلن يجد من يشتري منه، ومن هنا قالوا: لا تقبل شهادته، فيأتون بتهم باطلة، وهذا أمر ينبغي على طالب العلم المسلم الدين التقي النقي السوي الرضي أن ينتبه لهذه النوعيات من الناس، حتى إن بعضهم يتكلم في العلماء والدعاة والمشايخ وطلاب العلم من عقول وأفهام ضيقة يعبث بها الشيطان؛ ومن هنا فإن الذي يغسل الموتى ويأخذ أجرة نفس الحكم، والذي عنده سيارة يحمل الموتى نفس الحكم وتدخل في شيء لا ينتهي، وهذا توسع في إعمال التهمة، وهذا لم يذكره الإمام أبو البركات، وإنما ذكر ضابطه.
ولكن هذه الأمور الغريبة تجدها في كتب الفقهاء رحمهم الله، وهذه لا تنقص من قدر العلماء؛ لأن العالم فلابد أن يبين؛ لأنه إذا جرى على قاعدة وأصل لا بد أن يذكر مثل هذه الغرائب، ومن هنا تجد عنده بعض العذر، لكن ليس كل عذر يقبل، فقد يقع من عامة الناس شيء من هذا بسبب ضعف دينهم، لكن من حيث الأصل لا تعتبر التهمة موجبة للرد إلا إذا قويت، وعلى هذا فلا ترد الشهادة بمطلق التهمة؛ بل ينبغي أن تحرر التهمة وأن تكون مؤثرة في شهادة الشاهد.
قال رحمه الله: [ومن سره مساءة شخص أو غمه فرحه فهو عدوه] بين رحمه الله -بعد أن ذكر أن شهادة العدو لا تقبل- ضابط العدو: وهو الذي يسر بالمساءة تصيب الرجل، ويثبت عليه بالشهود أنه سر حينما وقع حادث على فلان، أو اغتم حينما صار الخير له، فحينئذ يثبت أنه عدو؛ لأن هذه يسمونها: دلالة الظاهر على الباطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) ، فإذا وجد رجل أصابه مكروه، فوجدنا شخصا فرح وسر بهذا؛ دل على أنه عدو له، ومنهم من يسجد سجدة الشكر إذا بلغه وقوع مصيبة على عدوه نعم، له أن يفرح إذا كان الشخص يظلمه ويؤذيه ويضطهده، وكان باغيا ومعتديا عليه، وبلغه عنه ما يسوءه وأن ذلك يعيقه عن أذيته، فسجد لله شاكرا أن قطع الله عنه دابره.
ومن غير المسلمين يمكن أن تقبل، لكن من المسلمين من الصعب أن تقبل، لكن إذا جاءه ضرر من هذا الرجل ودائما يؤذيه لسبب، فله أن يشكر الله؛ وذلك لقوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء:148] ، فكيف إذا كان أبدا فرحه بنعمة الله عليه؟ لأن الله امتن على بني إسرائيل بذهاب البلاء والشر عنهم، وانتصارهم على عدوهم.
فإذا كانت هناك عداوة عن ظلم وأذية وإضرار، وفرح الإنسان بهذا، فإنه لا ينقص من قدره ولا يؤثر فيه، وإنما يؤثر في الشهادة لو كان العدو صالحا.
ومن حقك مثلا أن تفرح أن عدوك كبته الله عنك ولو كان مسلما، كأن يكون لك جار سوء مؤذ يتهمك بالباطل يقذف عرضك، يتهمك في عقيدتك، ثم أصابه بلاء، وقطع الله دابره عنك، ففرحت أن الله سبحانه وتعالى أزاح عنك هذا الهم، فهذا لا يعتبر منقصة لك، وإنما هذا شر صرفه الله عنك، لكن لو ثبت عن الإنسان أنه فرح واغتم فيما فيه شبهة العداوة، فإنه يثبت عنه أنه عدو، ومسألة الحكم أنه يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، لكن مسألة ما هو الضابط؟ بغض النظر عن كونه مشروعا للإنسان أو غير مشروع، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له.

وجوب شهادة أربعة شهود في الزنا
قال رحمه الله: [فصل: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة] هذا بالنسبة لمسألة العدد في الشهادة، فلا يقبل في الزنا والإقرار به أي: أن فلانا أقر أنه زان حتى يؤاخذ بالإقرار إلا إذا شهد عليه أربعة شهود عدول؛ وذلك لنص آية النور على ذلك: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4] ، فنص على أن شهادة الزنا لا تقبل إلا بأربعة عدول، وقد تقدم في باب الزنا أن الشهادة في الزنا اختصت بأمرين: أولا: اختصت شهادة الزنا بخصائص في العدد أربعة، فلا تقبل شهادة أقل من أربعة، ولذلك لما حصل رجوع الشاهد الرابع في شهادته على المغيرة عند عمر، حمد الله عمر على أن الله لم يفضح محمدا عليه الصلاة والسلام في أصحابه بعد موته، وردت شهادتهم وجلدوا حد القذف، فهذا أصل أجمع العلماء عليه، أنه لابد من العدد.
ثانيا: تنفرد أنها خاصة بالذكور، وكذلك بقية الحدود لا يقبل فيها إلا الذكور؛ من جنس الحدود، والحدود تنفرد بكونها لا يقبل فيها إلا الرجال، فلا تقبل شهادة النساء فيها، فالأربعة شهود يشهدون على الزنا ويصفونه بما ذكرناه فيما تقدم.

قبول شاهدين عدلين على من أتى بهيمة
قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان] لأنه هذا كما قلنا: ليس بحد، وإنما هو تعزير، وهل يقتل أو لا يقتل؟ هذا قد تقدم معنا، لكن إذا ثبت بشهادة رجلين أنه أتى ناقة أو أتى بقرة أو نحو ذلك، فإنه يعزره القاضي بما يراه، وإذا قلنا: إن التعزير يكون بالقتل ورأى أن المصلحة قتله، قتله؛ وإذا قيل: إن التعزير يكون بما يتناسب مع حاله إذا كان محصنا؛ قتله، هذا هو وجهه، لكن قد بينا أن إتيان البهيمة فيه التعزير، وعلى هذا فلا يجب أن تكون فيه شهادة الحد كاملة.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 40 ( الأعضاء 0 والزوار 40)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 302.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 296.37 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.93%)]