الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 12 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قد كان لي قلب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          قيم عائلية مهمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          إن الله يحول بين المرء وقلبه.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 18760 )           »          قناديل على الدرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 6308 )           »          أخلاق العمل في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 12475 )           »          بركـــة طعــام المسلـم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أهم تيارات التكفير والعنف ودور الدعوة السلفية في مواجهتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 615 )           »          خشـونـة الركـبـة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-09-2024, 02:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (105) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).
الفائدة الثالثة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في شرحه "مدارج السالكين على منازل السالكين" للشيخ الهروي: أن اليقين على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وذَكَر في علم اليقين أنه ثلاث مراتب، (قلتُ: وهي في الحقيقة ثلاثة أمور؛ لأنها كلها متلازمة وواجبة).
قال -رحمه الله-: "الأولى: قبول ما ظَهَر من الحق -تعالى-، وهي أوامره ونواهيه وشرعه، ودينه الله الذي ظَهَر لنا منه على ألسنة رسوله؛ فنتلقاه بالقبول والانقياد، والإذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رق العبودية.
الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب، الذي أخبر به الحق -سبحانه- على ألسنة رسله من أمور الميعاد وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال وما قبل ذلك من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه.
فقبول هذا كله -إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا- هو اليقين بحيث لا يُخَالِجُ القلبَ فيه شبهةٌ، ولا شك، ولا تناسٍ، ولا غفلة عنه؛ فإنه إن لم يهلك يقينه؛ أفسده وأضعفه، (قلتُ: ويدخل في ذلك: الإيمان بالغيب الذي مضى مِن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وخلق آدم وإسكانه الجنة وزوجه، وما وقع من إبليس، وما وقع من إهباطه إلى الأرض، وكذلك ما وقع للرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فإن ذلك يجب الإيقان به، كالإيقان بالأمور الغيبية المستقبلية).
الثالث: الوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات، وضده: التعطيل والنفي، والتجهم؛ هذا التوحيد يقابله التعطيل.
وأما التوحيد القصدي الإرادي، الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده، فيقابله الشرك، والتعطيل شر من الشرك، فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإلهية، فإن ذاتًا لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم، ولا ترضى، ولا تغضب، ولا تفعل شيئًا، وليست داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة، ولا مجانبة له، ولا مباينة، ولا مجاورة ولا مجاوزة، ولا فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره؛ سواء هي والعدم! والمشرك مقر بالله وصفاته. لكن عبد معه غيره؛ فهو خير من المعطل للذات والصفات (قلتُ: أي: هو أقل شرًّا منه).
قال: فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته، ونعوت كماله، وتوحيده، وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي، وعلم الأسماء والصفات والتوحيد، وعلم المعاد واليوم الآخر، والله أعلم.
(قلتُ: والظاهر أنه إنما رتبها على الدرجات الثلاث كعادته، من باب: أن علم التوحيد ومعرفة الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته، والتعبد له بها، هو أعلى هذه العلوم على الإطلاق).
قال: الدرجة الثانية: عين اليقين، والفرق بين علم اليقين وعين اليقين كالفرق بين الخبر الصادق والعيان. وحق اليقين: فوق هذا.
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمَن أخبرك: أن عنده عسلًا، وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذقتَ منه؛ فالأول: علم اليقين. والثاني: عين اليقين. والثالث: حق اليقين.
فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق؛ فذلك: عين اليقين، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ فذلك حينئذٍ حق اليقين" (انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-).
قلتُ: وكلام السلف في حق اليقين ليس كما ذكره، فإن الله -عز وجل- قد ذكر حق اليقين في موضعين من كتابه؛ ذكر ذلك في سورة الواقعة، وذكر ذلك في سورة الحاقة، وكلام أهل العلم بالتفسير في حق اليقين: أنه الخبر الحق الذي هو يقين، فليس ما ذكره مع كونه صحيح المعنى هو الذي قُصِد بآيات القرآن التي ذكرت ذلك.
قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الواقعة: (‌إِنَّ ‌هَذَا ‌لَهُوَ ‌حَقُّ ‌الْيَقِينِ) (الواقعة: 95): "يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقرَّبين وأصحاب اليمين، وعن المكذِّبين الضالين، وما إليه صائرة أمورهم؛ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، يقول: لهو الحقُّ مِن الخبر اليقين لا شكَّ فيه"، ثم رَوَى عن مجاهد: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قال: "الخبر اليقين".
وعن قتادة: "(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) حتى ختم، إن الله -تعالى- ليس تاركًا أحدًا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن؛ فأما المؤمن فأيقن في الدنيا، فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في هذه الآية: "أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحدٍ عنه".
وقال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الحاقة: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (الحاقة: 51)، يقول: "وإنه للحقّ اليقين الذين لا شكَّ فيه أنه من عند الله، لم يتقوَّله محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-".
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي: الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، ولا ريب".
فهذا كله يدل على ما ذكرنا من أن استعمال أهل العلم بالتفسير مِن السَّلَف فمَن بعدهم، هو أن حق اليقين هو الخبر أيضًا، وليس ما هو أعلى من المعاينة من الذوق، وإن كان هذا المعنى الذي ذَكَره رائقًا؛ إلا أنه ليس بالذي يدل عليه دليل اللغة، ولا كلام السلف من المفسرين، والله أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا، عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ؛ أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ، وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ! وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-".
انتهى باختصارٍ، وقد حذفتُ فيه الإشارات غير الصحيحة التي أشار إليها الهروي، وما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في بيان ما يجب أن يكون فيه فناء المؤمن وهو الفناء في توحيد الإلهية بحبه -سبحانه وتعالى- عن حبِّ مَن سواه وبمراده من الخلق عن مراد حظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناء، ولا الاستغراق في الشهود، بل فنوا بمراده عن مرادهم، ولا حاجة لنا إلى تشقيقات كلام الصوفية في مقاماتهم؛ فقد أغنانا الله -عز وجل- بالكتاب والسنة.
والحمد لله رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-10-2024, 07:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (107) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
الاستدلال على الربوبيةِ الحَقَّة بوجودِ الهدايةِ والإرشادِ من الربِّ، وبيانِه أحسنِ العقائد، وأحسن العبادات، وأحسن التشريعات، وأحسن الأخلاق، وأحسن أعمال القلوب، وأحسن نظام الدولة، وهذه تفاصيل السبيل الموصِّلة إلى سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة، ومَن لم يُبَن منه شيء من ذلك؛ فلا يصح أن يعبد.
وهذه الطريقة مِن أعظم طُرُق الاستدلال صحة عند العقلاء، والنظر في الهداية التي يدعو إليها هذا المعبود من أعظم ما يؤثِّر في القلوب الصادقة، وانعدامها يدل على عدم استحقاق هذا المعبود للعبادة، كما قال -تعالى-: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ ‌يَرَوْا ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف: 148).
وقال -سبحانه وتعالى- آمرًا نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبَ كفار قريش: (‌قُلْ ‌هَلْ ‌مِنْ ‌شُرَكَائِكُمْ ‌مَنْ ‌يَهْدِي ‌إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس: 35)، وقال -تعالى- عن بني إسرائيل: (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ . فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ . أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) (طه: 87-89).
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع عديدة في بيان ضلال مَن عبد مَن لا يهديه إلى سبيل الخير والحق والعدل، وبيان أن ما تضمَّنه الوحي من الهدايات هو أعظم الأدلة على صدقه، وصدق مَن جاء به مقدَّمًا ذلك على الاحتجاج عليهم بالمعجزات الحسية، بل مهما أتتهم المعجزات الحسية لا يقبلونها إذا لم يقبلوا هذا الإعجاز العقلي، كما قال -تعالى-: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا ‌إِنَّمَا ‌سُكِّرَتْ ‌أَبْصَارُنَا ‌بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (الحجر: 14-15)، وقال -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌يَرَوْا ‌كِسْفًا ‌مِنَ ‌السَّمَاءِ ‌سَاقِطًا ‌يَقُولُوا ‌سَحَابٌ ‌مَرْكُومٌ) (الطور: 44).
فذلك بدأ الرسل بهذه الهداية كما دَلَّ على ذلك الحوار الذي جَرَى بين موسى وفرعون في غير موضع من القرآن: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ ‌خَلْقَهُ ‌ثُمَّ ‌هَدَى) (طه: 50)، وقال -سبحانه- في سورة الشعراء: (‌قَالَ ‌فِرْعَوْنُ ‌وَمَا ‌رَبُّ ‌الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23-28).
فهذه الآيات تبيِّن بجلاء: أن الطريقةَ الصحيحةَ في الدعوة إلى الله، يجب أن تبدأ ببيان هداية الوحي الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى-، ببيان أحسن العقائد، وأحسن العبادات، وأحسن الأخلاق، وأحسن التشريعات، ولله الحمد أن هذا الدِّين -دين الإسلام- لا يمكن مقارنته في شيء من ذلك بأي دينٍ على وجه الأرض.
الفائدة الثانية:
قد تَعَجَّب العقلاءُ من عظمة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونور الكلمات التي أتى بها، وكانت سببًا لهداية مَن شاء الله هدايته، وإقرار مَن أقرَّ بذلك وإن لم يؤمن إيثارًا بدنياه؛ فممَّن هداهم الله بالهداية التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ضماد -رضي الله تعالى عنه-؛ فقد روى مسلم في صحيحة عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أن ضماد قدم مكه وكان من أَزْدِ شَنُوءَةَ، وكان يَرقي مِن هذه الرِّيحِ -(أي: الأرواح التي كانت قريش تزعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تأتيه جن)-، فسمِع سُفهاءَ مِن أهلِ مكَّةَ يقولونَ: إنَّ مُحمَّدًا مجنونٌ! فقال: لو أنِّي رأَيْتُ هذا الرَّجُلَ لعَلَّ اللهَ يَشفيَه على يدي. قال: فلقِيَه، فقال: يا مُحمَّدُ إنِّي أَرقِي مِن هذه الرِّيحِ، وإنَّ اللهَ يَشفي على يدي مَن شاء؛ فهل لك أرقيك؟ فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أمَّا بعدُ) فقال -أي ضماد-: أعِدْ علَيَّ كلماتِك هؤلاء، فأعادها عليه رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: فقال: لقد سمِعْتُ قولَ الكَهنةِ، وقولَ السَّحَرةِ، وقولَ الشُّعراءِ، فما سمِعْتُ مِثْلَ كلماتِك هؤلاءِ، ولقد بلغن ناعوس البحر -أي: وسطه- (أي: بلغن مبلغًا لا يبلغه أحدٌ!)، قال: هاتِ يدَك أُبايِعْك على الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (وعَلَى قومِك؟) فقال: وعلى قومي. قال: فبايَعه، فبعَث رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- سَريَّةً فمَرُّوا بقومِه، فقال صاحبُ السَّريَّةِ للجيشِ: "هل أصَبْتُم مِن هؤلاءِ شيئًا؟ فقال رجُلٌ مِن القومِ: أصَبْتُ منهم مِطهَرَةً. فقال: ردُّوها فإنَّ هؤلاءِ قومُ ضِمادٍ".
فهذا الصحابي الجليل إنما أسلم لما تأمَّل الأنوار والهدايات في مقدمة خطبة الحاجة، قبل أن يتكلَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بكلمةٍ واحدةٍ، غير هذه المقدمة العظيمة.
ومِن هؤلاء الذين هداهم الله -عز وجل- بهدايات القرآن: جُبَير بن مُطْعِم -رضي الله عنه-، كما روى البخاري ومسلم وغير واحد عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلما بَلَغ هذه الآية: (‌أَمْ ‌خُلِقُوا ‌مِنْ ‌غَيْرِ ‌شَيْءٍ ‌أَمْ ‌هُمُ ‌الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور: 35-37)، قال: "كاد قلبي أن يطير!"، وقد كان جبير إذ ذاك كافرًا، أتى المدينة في فداء أسرى بدر في العام الثاني من الهجرة، وكان سماعه هذه الآيات من هذه السورة مِن جملة ما حَمَلَه على الدخول في الإسلام، وكاد قلبُه أن يطير ساعتها -أن يخرج من مكانه- لما تضمَّنته الآيات من دليل الحجة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-10-2024, 07:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (108) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (12)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فيه فوائد:
الفائدة الثالثة:
وممَّن أقرَّ بصحة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه لم يُسْلِم: هرقل عظيم الروم، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أن أبا سفيان بن حرب -رضي الله عنه- أخبره: "أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي ‌مَادَّ ‌فِيهَا ‌رَسُولُ ‌اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بإيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ ودَعَا بتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أيُّكُمْ أقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: فَقُلتُ: أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أدْنُوهُ مِنِّي، وقَرِّبُوا أصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لهمْ إنِّي سَائِلٌ هذا عن هذا الرَّجُلِ، فإنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِن أنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عنْه.
ثُمَّ كانَ أوَّلَ ما سَأَلَنِي عنْه أنْ قَالَ: كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلتُ: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهلْ قَالَ هذا القَوْلَ مِنكُم أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ قُلتُ: لا قَالَ: فأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ منهمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ يَغْدِرُ؟ قُلتُ: لَا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ لا نَدْرِي ما هو فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: ولَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شيئًا غَيْرُ هذِه الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ قُلتُ: الحَرْبُ بيْنَنَا وبيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا ونَنَالُ منه. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلتُ: يقولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، واتْرُكُوا ما يقولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ والصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ له: سَأَلْتُكَ: عن نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أنَّه فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا. وسَأَلْتُكَ: هلْ قَالَ أحَدٌ مِنكُم هذا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقُلتُ: لو كانَ أحَدٌ قَالَ هذا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ. وسَأَلْتُكَ: هلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، قُلتُ فلوْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، قُلتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أبِيهِ. وسَأَلْتُكَ: هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فقَدْ أعْرِفُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ. وسَأَلْتُكَ أشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وهُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ. وسَأَلْتُكَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذلكَ أمْرُ الإيمَانِ حتَّى يَتِمَّ. وسَأَلْتُكَ أيَرْتَدُّ أحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وسَأَلْتُكَ: هلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ.
وسَأَلْتُكَ: بما يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ" -(وفي رواية في البخاري: "‌وَهَذِهِ ‌صِفَةُ ‌نَبِيٍّ")-، فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وقدْ كُنْتُ أعْلَمُ أنَّه خَارِجٌ، لَمْ أكُنْ أظُنُّ أنَّه مِنكُمْ، فلوْ أنِّي أعْلَمُ أنِّي أخْلُصُ إلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، ولو كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عن قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بكِتَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي بَعَثَ به دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فيه بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ عبدِ اللَّهِ ورَسولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإسْلَامِ، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، (وفي رواية: "‌أَسْلِمْ ‌يُؤْتِكَ ‌اللهُ ‌أَجْرَكَ ‌مَرَّتَيْنِ")، فإنْ تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسِيِّينَ، و(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى ‌كَلِمَةٍ ‌سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).
قَالَ أبو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ ما قَالَ، وفَرَغَ مِن قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ وأُخْرِجْنَا، فَقُلتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ، إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ. فَما زِلْتُ مُوقِنًا أنَّه سَيَظْهَرُ حتَّى أدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإسْلَامَ. وكانَ ابنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إيلِيَاءَ وهِرَقْلَ، سُقُفًّا علَى نَصَارَى الشَّامِ (أي: مِن الأساقفة) يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلِيَاءَ، أصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ! قَالَ ابنُ النَّاظُورِ: وكانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ في النُّجُومِ، فَقَالَ لهمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ في النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قدْ ظَهَرَ، فمَن يَخْتَتِنُ مِن هذِه الأُمَّةِ؟ قالوا: ليسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهُودُ، فلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، واكْتُبْ إلى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَن فيهم مِنَ اليَهُودِ. فَبيْنَما هُمْ علَى أمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ برَجُلٍ أرْسَلَ به مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عن خَبَرِ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (هو عدي بن حاتم رضي الله عنه)، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أمُخْتَتِنٌ هو أمْ لَا، فَنَظَرُوا إلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أنَّه مُخْتَتِنٌ، وسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هذا مُلْكُ هذِه الأُمَّةِ قدْ ظَهَرَ.
ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ له برُومِيَةَ (روما حاليًا)، وكانَ نَظِيرَهُ في العِلْمِ، وسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِن صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ علَى خُرُوجِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وأنَّهُ نَبِيٌّ، فأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ (مكان متسع) له بحِمْصَ، ثُمَّ أمَرَ بأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ، فَقَالَ: يا مَعْشَرَ الرُّومِ، هلْ لَكُمْ في الفلاحِ والرُّشْدِ، وأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هذا النبيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وقَالَ: إنِّي قُلتُ مَقالتي آنِفًا أخْتَبِرُ بهَا شِدَّتَكُمْ علَى دِينِكُمْ، فقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا له ورَضُوا عنْه، فَكانَ ذلكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ" (انتهى من صحيح البخاري).
فانظر كيف استدل هرقل على نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه يأمرهم بترك عبادة الأوثان، ويأمرهم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة؟! وهذه والله أعظم الهدايات!
ولو تأملتَ مضمون رسالةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، وإلى كسرى، وإلى المقوقس؛ لوجدتَ ما ذكرنا دليلًا باهرًا على أنه يحتج بالهداية والنور الذي جاء به مِن عند الله على توحيد الله -سبحانه وتعالى-، والبراءة من الشرك.
الفائدة الرابعة:
الواجب علينا في الدعوة إلى الله وإلى الإسلام: بيان أنه الحق بهداية القرآن ونوره، وهداية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌نُورٌ ‌وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 15-16)، وقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ‌صِرَاطِ ‌اللَّهِ ‌الَّذِي ‌لَهُ ‌مَا ‌فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (الشورى: 52-53).
ثم المقارنة بكلِّ دين باطل: كالإلحاد، أو اليهودية، أو النصرانية، أو البوذية، أو الهندوسية، أو الشيوعية، أو الأديان الوثنية الأخرى، وتَنَاقُض عقائدها وفساد عباداتها، وجهالة تشريعاتها، وفساد حال أهلها وأن أكثرهم فاسقون؛ ففي ذلك أعظم الدليل والحُجَّة على صِحَّة دين الإسلام، وبطلان ما سواه.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06-10-2024, 07:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (109) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (13)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
انتقل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في المناظرة مع قومه في النظر إلى الأجرام السماوية من أقلِّها إضاءة إلى الأكبر منها، ثم إلى الأكبر مطلقًا وهي الشمس؛ ليلفت نظرهم إلى أنها رغم عِظَم نورها، وأنها الأكبر إضاءة إلا أنها تأفل وتغيب، وحاجة الإنسان إلى الإله المعبود، حاجة ضرورية فطرية لا يمكن أن يستغني عنها طرفة عين، وحاجته إلى إلهه الذي لا يغيب أشدُّ من حاجة بدنه إلى النَّفَس، والطعام والشراب، وطالما انتفتْ إلهيةُ كلِّ هذه الأجرام السماوية؛ فبالأولى انتفاء إلاهية رموزها الأرضية من الأصنام المصنوعة التي نَحَتهَا البشرُ بأيديهم، فكذا كل الملل التي تعبد أوثانًا ترمز إلى قوى عليا، كما يعبد النصارى الصليب رمزًا إلى تحرير الإنسان من الخطيئة -بزعمهم في صلب المسيح!-، وكما عَبَد المشركون الأوثان على أنها ترمز للملائكة؛ فهذا كله إذا ثبت بطلانُ إلهية هذه الأشياء السماوية، بطل عبادة رموزها الأرضية.
الفائدة الثانية:
فيه المسألة الكبرى والقضية العظمى في مسالة الإلهية، وهي: البراءة مِن كلِّ ما يُعبَد من دون الله، واعتقاد بطلان عبادة أي إله مِن دونه، وهي المسألة التي هي أصل الخلاف بين الرسل وبين أقوامهم وبين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وقومه، وبين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- والمشركين من قريش، وغيرهم؛ لأن عامة الأمم تقرُّ بوجود الخالق -سبحانه-، وندر مَن ينكر وجوده: كالملاحدة، وفرعون، والدهرية، وأكثرهم يقر في الباطن بوجوده، ولكن يجحده لفظًا: (‌وَجَحَدُوا ‌بِهَا ‌وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل: 14)، لكن أكثر الأمم مع إقرارهم بوجود الله يتخذون آلهة من دونه منهم يعبدها على سبيل المساواة كالمجوس الذين يعبدون إلهين اثنين: إلهًا للنور، وإلهًا للظلمة، مع أنهم يفضِّلون النور على الظلمة؛ ولذا عبدوا النار التي ترمز إلى مصدر النور عندهم، وكالنصارى الذين يجعلون الأقانيم الثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس متساوية في الجوهر! وإن كان كلُّ عاقلٍ يسمع ما يسمونه: "قانون الإيمان المسيحي"، يقطع بأنه يفضِّل الآب؛ لأنه مصدر الولادة والانبثاق، ويصفونه بصفات الخلق والضبط للكون؛ فجاء في هذا القانون -عندهم-: "خالق الكل، ضابط ما يَرى وما لا يُرى"، ولا يصفون المسيح والروح القدس بهذه الصفات إلا مِن باب التلازم، ومِن المشركين مَن يتخذ آلهة دون الإله الأعظم مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، كمشركي قريش في قولهم: (‌مَا ‌نَعْبُدُهُمْ ‌إِلَّا ‌لِيُقَرِّبُونَا ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌زُلْفَى) (الزمر: 3)، قال -تعالى-: (‌وَيَعْبُدُونَ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ ‌مَا ‌لَا ‌يَضُرُّهُمْ ‌وَلَا ‌يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18).
وفي الصحيح قول المشركين في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريك هو لك، ملكته وما ملك"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم عند قولهم: "لا شريك لك": "قد قد"، أي: اكتفوا بذلك.
وكل الأديان الأرضية تجعل الآلهة المحسوسة: كالبقرة عند الهندوس، وبوذا عند البوذيين، إنما هي وسائط للإله الأكبر، وكل هؤلاء حَكَم الله بكفرهم في جميع كتبه المنزلة، وعلى ألسنة جميع رسله، قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ ‌مِنْ ‌رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25)، ولا يحصل الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، قال -تعالى-: (‌فَمَنْ ‌يَكْفُرْ ‌بِالطَّاغُوتِ ‌وَيُؤْمِنْ ‌بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)؛ ولذلك بدأت كلمة: "لا إله إلا الله" بالنفي قَبْل الإثبات؛ فلا يحصل أصلُ الإيمان والإسلام إلا بالبراءة مِن كلِّ ما يعبد مِن دون الله، وبالبراءة مِن كلِّ ملة سوى الدِّين الحق؛ وذلك باعتقاد عدم إلهية ما يعبد مِن دون الله، وبغض مَن يرضى بأن يُعبَد منها، وبغض مَن يعبدها ومعاداته مِن أجل ذلك؛ لا مِن أجل المصالح الدنيوية، والتصريح ببطلان عبادتها باللسان.
ثم بذل كل جهد في إزالة عبادتها من الأرض بالقول والحجة والبيان، ثم بالقوة والسنان؛ حسب القدرة، وحسب تشريع ذلك في الشرائع المختلفة، والأوقات المختلفة.
وقد تكررت هذه المسألة عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من أنبياء الله جميعًا في مواضع كثيرة من القرآن، قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ ‌لِأَبِيهِ ‌وَقَوْمِهِ ‌إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 26-28)، أي: جَعَلَ اللهُ كلمةَ: "لا إله إلا الله" -التي هي حقيقة: (‌إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)- كلمةً باقيةً في نَسْل إبراهيم لا يزال في ذريته مَن يقولها كما قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
وقال -تعالى-: ( ‌قَدْ ‌كَانَتْ ‌لَكُمْ ‌أُسْوَةٌ ‌حَسَنَةٌ ‌فِي ‌إِبْرَاهِيمَ ‌وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5)، وقال -تعالى-: (‌قُلْ ‌إِنَّنِي ‌هَدَانِي ‌رَبِّي ‌إِلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ ‌دِينًا ‌قِيَمًا ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا ‌وَمَا ‌كَانَ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161).
ونفي الشرك ضرورة لتحقيق الإيمان والإسلام، وليست حقيقة الإيمان تثبت بمجرد إثبات وجود الله -كما يظنه كثيرٌ من الناس!-، بل ولا إثبات صفات كمال له دون أن يفرده بالإلهية؛ فكلا النوعين من التوحيد متلازمان: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي الذي يلتزم النوع الثاني، وهو: توحيد القصد والإرادة والطلب، وأفعال العباد، فتوحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، لا بد معه -حتى ينجو الإنسان مِن النار ومِن غضب الله وسخطه-: أن يُفردَ اللهُ -عز وجل- بأفعال العبد: بالحب والخوف، والرجاء، والصبر، والشكر، والإخلاص، والإخبات، والإنابة والخضوع، وسائر عبادات القلب، والركوع والسجود والقيام والطواف، والذبح والنذر، والحلف والدعاء، والاستغاثة والاستعانة؛ فكل هذه العبادات -وغيرها- لا بد أن يُفردَ اللهُ -عز وجل- بها، ولا تصرف لأحدٍ غيره وإلا كان شركًا في الألوهية؛ حتى ولو أقرَّ بأنه هو الخالق -سبحانه-، ولقد كان اليهود والنصارى يعبدون الأحبار والرهبان مِن دون الله وهم لا يسمون ما يفعلون عبادة، لكنهم قد أحلوا لهم الحرام، وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي والبيهقي، وصححه الألباني).
الفائدة الثالثة:
هذه الآية الكريمة تهدم هدمًا كاملًا كليًّا، ما اخترعه كفارُ زماننا وزنادقتهم ممَّا سموه زورًا وبهتانًا: "الدِّين الإبراهيمي الجديد!"، القائم على مساواة الملل، وإن بدأوا بالأديان الثلاثة: -اليهودية والنصرانية والإسلام-، لكنهم يقررون مساواة جميع الملل ويصوبونها كلها، وهي بدعة كفرية شركية اخترعها الأوروبيون منذ الثورة الفرنسية، واستغلها اليهود وروَّجوا لها؛ لهدم جميع الأديان ليبقى لهم دينهم في ظنهم، وهم لا يتأثرون بهذه الدعوات -بتوحيد الأديان والملل-؛ لأنهم لا يقبلون غير دينهم الذي يتعصبون له.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 06-10-2024, 07:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (110) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (14)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الثالثة:
هذه الآية الكريمة تهدم هدمًا كاملًا كليًّا، ما اخترعه كفارُ زماننا وزنادقتهم ممَّا سموه زورًا وبهتانًا: "الدِّين الإبراهيمي الجديد!"، القائم على مساواة الملل، وإن بدأوا بالأديان الثلاثة: -اليهودية والنصرانية والإسلام-، لكنهم يقررون مساواة جميع الملل ويصوبونها كلها، وهي بدعة كفرية شركية اخترعها الأوروبيون منذ الثورة الفرنسية، واستغلها اليهود وروَّجوا لها؛ لهدم جميع الأديان ليبقى لهم دينهم في ظنهم، وهم لا يتأثرون بهذه الدعوات -بتوحيد الأديان والملل-؛ لأنهم لا يقبلون غير دينهم الذي يتعصبون له.
وهذه الدعوة الخبيثة المنكرة التي يروَّج لها بمصطلحاتٍ مختلفةٍ: "كالعائلة الإبراهيمية" التي يظنون أنها تخدع المسلمين، والتي لا يشك مسلم في بطلانها؛ لأن الأخوة الإيمانية لا تثبت إلا لأهل الإسلام، كما قال الله -تعالى-: (‌إِنَّمَا ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10).
وأما أخوة النَّسَب إن ثبتتْ؛ فهي لا تجتمع مع المحبة مع وجود الكفر؛ لقول الله -تعالى-: (‌لَا ‌تَجِدُ ‌قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22).
ولا شك أن بناء ما يُسمَّى بـ"العائلة الإبراهيمية" في زماننا مِن: مسجدٍ، وكنيسة، وكنيس يهودي -لترسيخ هذه المبادئ الضالة المنحرفة التي تسعى لمساواة الملل- لا بد من رفضه وإبائه؛ خاصة أن بقية المخطط يهدفُ إلى إزالة الدول المعاصرة، وتكوين ما يُعرَف: بالشرق الأوسط الجديد، وتكوين الولايات المتحدة الإبراهيمية التي ستكون مبدئيًّا في ظنهم -نسأل الله أن يُخَيَّب ظنهم- اتحادًا كونفدراليًّا بين دول المنطقة، ينتهي إلى اتحادٍ فيدرالي -كما يظنون!-.
وهذا كما أن فيه هدم فكرة دين الإسلام؛ ففيه هدم فكرة الدولة القومية المعاصرة التي يمكن أن تجتمع مع الدِّين، أما مع اعتقاد أن مساواة الأديان واتحاد هذه دول مع العداوة التاريخية المبنية على العقيدة -في الحقيقة-؛ فإن هذا فيه طمس للهوية بالكلية، ولا يمكن لعاقلٍ أن يبيع دينه ودنياه لأجل إرضاء اليهود.
لذلك نقول: لا بد مِن الحذر التام مِن هذه الأفكار الخبيثة، وإنما يبحثون في تراث مَن ينتسِبون الى الإسلام، ممَّن يقول بوحدة الأديان؛ لأجل أن يروِّجوا هذه الفكرة، وهؤلاء هم الصوفية الغلافة الفلاسفة، أصحاب وحدة الوجود الذين يصوِّبون جميع الملل!
كما حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن شيخٍ مقدَّم في زمنهم، جاءه مَن يريد أن يسلك على يديه ويكون مريدًا؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعضُ أكابر الشيوخ عند الناس -ممَّن يقصده الملوك والقضاة، والعلماء والعامة-، على طريقة ابن سبعين؛ قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبندر الذي للمشركين بالهند! وهذا لأنه كان يعتقد أن دينَ ‌اليهود ودين النصارى حق!
وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين ‌اليهود والنصارى أو المسلمين؟ فقال له: ‌اليهود والنصارى ليسوا كفارًا؟! قال: لا تُشَدِّد عليهم، لكن دين الإسلام أفضل!" (الاستغاثة في الرد على البكري، ص 306).
وقال الذهبي -رحمه الله-: "قال شيخُنَا عماد الدين الواسطي، وكان مِن أكبر المُحطِّين عليه لِمَا رأى منه -أي: على ابن هود؛ الذي كان يقول بوحدة الوجود، والعياذ بالله-: أتيتُه وقلتُ له: أريد أن تُسلِّكَني. فقال لي: مِن أي الطُرق تريدُ أن تسلُك: من المُوسوية أو العيسوية أو المحمدية؟! أي: أنَّ كُلَّ الملل توصل إلى الله!" (تاريخ الإسلام، 15/ 905).
وهذا الكفر -الذي لا بد مِن ردِّه- يُنَاقِض أصلَ دين الإسلام، المعلوم من الدِّين بالضرورة: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإن اليهود والنصارى، فضلًا عن غيرهم من الهندوس عُبَّاد البقر، والبوذيين عباد بوذا؛ كل هؤلاء لا يفردون الله بالإلهية، وذلك كما قال الله -عز وجل-: (‌وَقَالَتِ ‌النَّصَارَى ‌الْمَسِيحُ ‌ابْنُ ‌اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33).
ثم هؤلاء الملل كلها تكذِّب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أقل تقدير لا يؤمنون بنبوته العامة التي قال الله -عز وجل-: (‌وَرَحْمَتِي ‌وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: 156-158).
فكيف يقبل عاقل هذا التناقض: أن يكون مَن كَذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كمَن صدَّق الرسول وآمن به؟!
كيف يكون مَن أبغضه كمَن أحبه -صلى الله عليه وسلم-؟!
كيف يكون مَن كذَّب الله بتكذيب القرآن كمَن آمن بالقرآن، وصدَّق ربَّه -عز وجل-؟!
وكيف يستوي مَن عَبَدَ غير الله وقد حَكَم الله بكفره، مع مَن أفرد الله -عز وجل- بالعبادة؟!
إن مساواة الأديان عقيدة زندقة وكفر أكبر ناقل عن الملة، تناقض بداهة العقول، وعقيدة وحدة الوجود وأن كلَّ المعبودات شيء واحد، عقيدة معلوم من دين الإسلام بالضرورة مناقضتها لـ"لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
فلا يجوز للمسلمين أن يزوروا بيتَ العائلة الإبراهيمية هذا، ولا أن يصلوا هناك؛ لأنهم يروِّجون لفكرة وحدة الأديان، وأما التعايش في سَلَامٍ بين أهل الملل بالعهد الذي شَرَعه الله -عز وجل-، فقد وَقَع دائمًا عَبْر الزمان؛ وإلا لما وُجِدَ يهود ولا نصارى، ولا هندوس، ولا بوذيون، في بلاد المسلمين التي كانت ممالك إسلامية عبر قرونٍ من الزمان!
لو لم يكن هناك تعايش لما تُرِكوا إلا وقد قُتِلوا، كما فَعَل الصليبيون في الأندلس، وكما فعلوا عندما أخذوا بيتَ المقدس، وكما فَعَل اليهودُ في فلسطين -ويفعلون- مِن قتلٍ يومي، وظلم وعدوان، وتغيير هوية البلاد.
المسلمون لم يتعرَّضوا لليهود، أو النصارى، ولا لغيرهم مِن أهل الملل؛ طالما التزموا بالعهود وبَذَلوا الجزية في ذلك الوقت، بل كان الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- عاهدهم بلا جزية، ونقضوا في كلِّ مرة.
المعايشة السلمية أمرٌ محتملٌ ومقبولٌ دون تنازلٍ عن الهوية الإسلامية، ودون تنازلٍ عن العقيدة، ودون بيوت عبادة موحَّدة، لم توجد قط في زمن المسلمين في أضعف حالاتهم؛ لأنهم لم يتنازلوا عن عقيدتهم.
نسأل اللهَ -عز وجل- أن يكفَّ شرَّ كلِّ ذي شرٍّ عن المسلمين، وأن يحفظ على المسلمين دينهم وهويتهم، وأن يردَّ كيدَ اليهود عن المسجد الأقصى وعن فلسطين، وأن يردَّ أيديهم عن أهل فلسطين، وعن غيرها من بلاد المسلمين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20-10-2024, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (112) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (16)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
بيَّن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لقومه وجوب الإخلاص في عبادة الله، وجعل الوجه لله أي: قصده وتوجهه إليه بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا هو الإخلاص، والإخلاص روح العبادة التي تكون بدونه كالجسد الميت، قال ابن القيم -رحمه الله- في منزلة الإخلاص: قال الله -تعالى-ـ: (‌وَمَا ‌أُمِرُوا ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُوا ‌اللَّهَ ‌مُخْلِصِينَ ‌لَهُ ‌الدِّينَ) (البينة: 5)، وقال: (‌إِنَّا ‌أَنْزَلْنَا ‌إِلَيْكَ ‌الْكِتَابَ ‌بِالْحَقِّ ‌فَاعْبُدِ ‌اللَّهَ ‌مُخْلِصًا ‌لَهُ ‌الدِّينَ) (الزمر: 2)، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (‌قُلِ ‌اللَّهَ ‌أَعْبُدُ ‌مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (الزمر: 14-15)، وقال له: (‌قُلْ ‌إِنَّ ‌صَلَاتِي ‌وَنُسُكِي ‌وَمَحْيَايَ ‌وَمَمَاتِي ‌لِلَّهِ ‌رَبِّ ‌الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162-163)، وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 2)، قال الفضيل بن عياض: "هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإن كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله -تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء: 125)، فٍإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (الفرقان: 23)، وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: (‌إِنَّكَ ‌لَنْ ‌تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً) (متفق عليه).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ أَيْ: لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ. وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ، وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ، وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ؛ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا، وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (متفق عليه).
وَأَخْبَرَ عَنْ أَوَّلِ ثَلَاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ: قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجَاهِدُ، وَالْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فُلَانٌ شُجَاعٌ، فُلَانٌ مُتَصَدِّقٌ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ) (رواه مسلم). وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: "يَقُولُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا".
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: 37)، وَفِي أَثَرٍ مَرْوِيٍّ إِلَهِيٍّ: "الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي".
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ.
فَقِيلَ: هُوَ إِفْرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ فِي الطَّاعَةِ.
وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ حَتَّى عَنْ نَفْسِكَ، وَالصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ.
فَالْمُخْلِصُ لَا رِيَاءَ لَهُ، وَالصَّادِقُ لَا إِعْجَابَ لَهُ، معنى التنقي من مطالعة النفس، أي: مشاهدة فضائلها، وأنها مصدر هذا الخير؛ فهو بمعنى الإعجاب بالنفس، وَلَا يَتِمُّ الْإِخْلَاصُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا الصِّدْقُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ.
وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ فِي إِخْلَاصِهِ الْإِخْلَاصَ، احْتَاجَ إِخْلَاصُهُ إِلَى إِخْلَاصٍ. فَنُقْصَانُ كُلِّ مُخْلِصٍ فِي إِخْلَاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إِخْلَاصِهِ، فَإِذَا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الْإِخْلَاصِ، صَارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا. (المقصود من رؤية الإخلاص: أن يظن بنفسه ذلك فهذا تزكية للنفس وإعجاب بها وهذا بلا شك خطر عظيم يدل على نقص الإخلاص).
وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْلَاصِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ أَعْمَرَ مِنْ ظَاهِرِهِ.
وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ نِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ بِدَوَامِ النَّظَرِ إِلَى الْخَالِقِ.
وَمِنْ كَلَامِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: رِيَاءٌ. وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. (معنى ترك العمل من أجل الناس، أي: أن يترك العمل الصالح؛ لأن الناس ينكرونه عليه. والعمل من أجل الناس شرك أي: أنه يعمل العمل الصالح لأجل مدحهم، والأول يكون في مجتمعات منحرفة، والثاني يكون في مجتمعات تعظم الطاعة).
قَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ.
وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ فَقَالَ: الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: الْإِخْلَاصُ. وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسَاوِسِ وَالرِّيَاءِ" (انتهى بتصرفٍ يسيرٍ من مدارج السالكين).
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في استفتاح صلاته يقول هذه الجملة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ففي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا افتتح الصلاة قال: (وَجَّهْتُ ‌وَجْهِي ‌لِلَّذِي ‌فَطَرَ ‌السَّمَوَاتِ ‌وَالْأَرْضَ ‌حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ ‌أَنْتَ ‌الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، اللهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) (رواه مسلم بدون لفظ: مسلمًا في أول الدعاء).
ولا شك أن هذا يدل على عظم هذا الدعاء، وهذه الكلمة التي قالها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وقالها محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- تبعًا له، فلا ينبغي أن نترك هذا الدعاء على الأقل في صلاة النافلة وقيام الليل مع ما تضمنه من الجمل العظيمة التي تؤسس قواعد التوحيد والإخلاص في قلب العبد المؤمن، وقد سبق شرحه في كتابي: "تأملات إيمانية في الأدعية النبوية.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20-10-2024, 03:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (113) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (17)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد:
الفائدة الثانية:
استدل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- على وجوب إفراد القصد والوجهة لله، وهو توحيد الإلهية وتوحيد الله بأفعال العباد بتوحيد الربوبية؛ توحيد الله بأفعاله -سبحانه-؛ فهو الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، وهذا الاحتجاج كَثُر في القرآن، قال -تعالى- في أول أمر وَرَد في ترتيب القرآن: (‌يَا أَيُّهَا ‌النَّاسُ ‌اعْبُدُوا ‌رَبَّكُمُ ‌الَّذِي ‌خَلَقَكُمْ ‌وَالَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 21-22).
فذكر وجوب إفراد الله بالعبادة، كما انفرد -سبحانه- بالخلق والرزق، ونهى عن الشرك بناءً على ذلك.
وقال -تعالى- عن المؤمن في قصة القرية المذكورة في سورة يس: (‌وَمَا ‌لِيَ ‌لَا ‌أَعْبُدُ ‌الَّذِي ‌فَطَرَنِي ‌وَإِلَيْهِ ‌تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يس: 22-24).
فلأنه وحده الذي فطر العباد، وهو الذي يحيهم ويميتهم، فيجمعهم إليه -سبحانه-؛ فهو وحده المستحق للعبادة، وكيف يستحق غيره العبادة، وهو لا يملك رفع الضر عن عابده إن أراده الله بضر؟!
وقال -سبحانه وتعالى- في الاستدلال على وجوب إفراد الله بالعبادة: (‌أَمْ ‌خُلِقُوا ‌مِنْ ‌غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ . أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ . أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ . أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الطور: 35-43).
وهذه الحجة هي أوضح الحجج لدى عامة الخلق؛ لأن نظرهم يرشدهم قطعًا إلى وجود فاعل واحد لكل هذا العالم؛ صنعه وخلقه، ودبَّر أمره، ورزق أهله؛ فهو -سبحانه وتعالى- وحده الذي يستحق أن يُعبَد، إذا نظر العباد إلى ذلك.
ثم هناك حجة أخرى هي أعظم عند أهل الإيمان، وهي الحنيفية؛ ولذا قال: (حَنِيفًا)، وهذه هي:
الفائدة الثالثة:
الحنيف هو: المائل إلى الله، المعرض عن غير الله؛ فتضمن ذلك إثبات حب الله -سبحانه-، الذي هو روح العبادة، فالحب والخضوع والذل ركن العبادة التي لا تصح بدونهم، والعبد إذا وجد قلبه في حب الله -عز وجل- عَرَف حقيقة الألوهية، كما دَلَّ على ذلك توحيد الربوبية، مثل: ماكينة فيها موضع لترسٍ، إذا وُضِعَت تروسٌ أخرى تكسرت الماكينة، وتكسرت التروس؛ فإذا وَضَع صاحبُها الترس الذي وَجد مقاسه مناسبًا، فدارت الماكينة وأنتجت أحسن إنتاج؛ تيقَّن يقينًا أعظم من القياسات التي حسبها قبل ذلك.
فهذه قضية الحنيفية والميل إلى الله، فالقلب يشقى ويتعس بتوجهه لغير الله، ويطمئن ويسكن، ويجد أعظم اللذة في عبادته لله -سبحانه وتعالى-.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشه لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطِي الدنيا وما فيها لم تُسَد تلك الفاقة أبدًا" (مدارج السالكين بتصرف يسير).
فحاجة القلب في الميل إلى الله -سبحانه وتعالى- حاجة ضرورية، أعظم من حاجة البدن إلى النَّفَس، وإلى الماء، وإلى الطعام، فكما يهلك البدن بامتناع النَّفَس والهواء، والطعام والشراب، فكذلك يموت القلب إذا لم يكن حنيفًا إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالميل إلى الله -عز وجل- ضرورة من ضرورات حياة قلب الإنسان. نسأل الله أن يمن علينا بحياة قلوبنا".
وقال أيضًا -رحمه الله-: "كلُّ حي له إرادة ومحبة وعمل بحسبه، وكل متحرك؛ فأصل حركته: المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا بأن تكون حركاتها ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده، كما لا وجود لها إلا بإبداعه وحده، ولهذا قال -تعالى-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ ‌لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22)، ولم يقل -سبحانه-: "لما وجدتا ولكانتا معدومتين"، ولا قال: "لعدمتا"؛ إذ هو -سبحانه- قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودهما ومعبود ما حوتاه وسكن فيهما، فلو كان في العالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإن كل إله كان يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وتفرده دونه بإلهيته؛ إذ الشركة نقص في كمال الإلهية، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلهًا ناقصًا، فإذا قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده والمقهور ليس بإله، وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجز كل منهما ولم يكن تام الإلهية، فيجب أن يكون فوقهم إله قاهر لهما حاكم عليهما، وإلا ذهب كل منهما بما خلق، وطلب كل منهما العلو على الآخر، وفي ذلك فساد أمر السماوات والأرض ومن فيها" (الداء والدواء).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 20-10-2024, 03:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (114) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (18)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد:
الفائدة الرابعة: قوله -تعالى- عن الخليل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، تأكيد على البراءة مِن المشركين بعد أن تبرأ من شركهم في أول كلامه حيث قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، فكان فيها البراءة من الشرك، وهنا قال: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فكان فيها البراءة من المشركين؛ فالبراءة من الشرك كعقيدة ومنهج لا تكفي حتى يتبرأ العبدُ من المشركين؛ بأن يبغضهم ويعاديهم، ويكفر بهم أنفسهم، كما قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5).
فتأمل في قول -تعالى- عن المؤمنين: (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)؛ ليتضح لك نفس ما في هذه الفائدة العظيمة من قوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ ولتعلم بطلان مَن يعلن ود الكافرين ومحبتهم، ويزعم أنه لا يحب عقيدتهم وكفرَهم، وأن هذه المحبة هي مِن حسن العشرة والبر والقسط الذي أمر الله به!
وهذا من الباطل؛ فإن الله -عز وجل- قال بعد آية الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه، قال: (‌لَا ‌يَنْهَاكُمُ ‌اللَّهُ ‌عَنِ ‌الَّذِينَ ‌لَمْ ‌يُقَاتِلُوكُمْ ‌فِي ‌الدِّينِ ‌وَلَمْ ‌يُخْرِجُوكُمْ ‌مِنْ ‌دِيَارِكُمْ ‌أَنْ ‌تَبَرُّوهُمْ ‌وَتُقْسِطُوا ‌إِلَيْهِمْ ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُحِبُّ ‌الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، فأمر بالبر والقسط ثم نهى عن المحبة والموالاة، فقال: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9)، مع أن الآيات نزلت في قومٍ كان بيننا وبينهم عهد، كما جاءت أم أسماء في الهدنة التي كانت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركين في الحديبية تريد زيارة ابنتها، وتريد برها وصلتها، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَعَمْ ‌صِلِي ‌أُمَّكِ) (متفق عليه)، ونزلت هذه الآية.
وأما الذين يريدون أن يفرِّقوا بين الشرك فيُبغَض، وبين المشركين فيُحبون ويُوادون؛ كأن الشرك شيءٌ في الهواء ليس له ارتباط بالأرض وبالأشخاص؛ فهذا مِن أبطل الباطل! كما دخل أحدهم في مداخلة هاتفية في حوارٍ كان بيني وبين أحد القساوسة، وكان يطعن في الدعوة السلفية، ويزعم أنها تأمر بقتل النصارى والاعتداء على أموالهم وكنائسهم، فدخلت في المداخلة، وقلتُ له: إن هذا الكلام كذب. فنحن لا نأمر بقتل النصارى، ولا نجيز ذلك؛ لأنهم مُعَاهَدون معصومون، ولا نعتدي على كنائسهم ولا على أموالهم، بل حمينا أنفسهم وأملاكهم ومحلاتهم أثناء الفوضى التي حَدَثَتْ بعد انهيار الشرطة في يوم 28 يناير 2011م، فتعرَّضتِ المحلات للنهب والسطو، فقلنا: أننا سنحمي بيوت وأملاك ومحلات المسلمين والنصارى ضد من يسطو عليها. فقال: دعنا من ذلك، وسأسألك سؤالًا: هل تحبني؟ فقلتُ له: لا يمكنني أن أحب مَن يكذِّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكذب القرآن.
فدخل هذا المنتسِب للعِلْم والدعوة، وهو صوفي أشعري -فيما يزعم-، فقال للقس: إني أحبك جدًّا يا أنبا فلان، وإن كنتُ لا أوافق على دينك، أو نحو ذلك!
وكذا آخر كَثُرت كتابته في حبِّ جميع البشر؛ مسلمهم وكافرهم، وإنما نعتقد بطلان عقائدهم، ثم تدرَّج به الحالُ في مقتل الصحفية "شيرين أبو عاقلة"، فقال هو وغيره بأنها شهيدة، وأنه لا يلزم وصف الإسلام للحكم على شخصٍ بالشهادة، وجوزوا، بل استحبوا الترحم عليهم، مع أن الترحم أعظم من الاستغفار الذي نهى الله -عز وجل عنه- في القرآن! بل واستنكروا على المنكرين للترحم والدعاء للكفار، وقد رحلوا عن هذه الدنيا على الكفر؛ فلم يبقَ مِن الترحم إلا طلب الرحمة في الآخرة، وهذه ليس لها معنى إلا دخول الجنة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ‌يَدْخُلُ ‌الْجَنَّةَ ‌إِلَّا ‌نَفْسٌ ‌مُسْلِمَةٌ) (متفق عليه).
فالاستغفار يعني عدم المعاقبة على الذنوب وسترها، وقد قال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، وأما الترحم فمعناه: نيل الرحمة وليس فقط ترك المعاقبة، والجنة رحمة الله في الآخرة.
وذاك الآخر الذي ترحَّم على بابا الفاتيكان حين هلك، وأثنى عليه لخدمة دينه!
وكل هذا الباطل المنكر الذي وَقَع فيه هؤلاء، وغيرهم المئات أو آلاف، وتبعهم ربما ملايين؛ بسبب فصلهم بين الشرك والمشركين، واعتبارهم محبوبين لا مانع من مودتهم وموالاتهم إذا كنا نتبرأ من الشرك!
وزعموا أن هذا من البر والقسط، وليس هذا من معنى البر ولا القسط؛ فإن الموافقة على الباطل ومحبة أهله هي مِن الموالاة التي نَهَى الله عنها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا ‌بَرِيءٌ ‌مِنْ ‌كُلِّ ‌مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
والمجمع عليه بين المسلمين: عدم جواز التوادِّ والحب، والترحم والاستغفار للمشركين؛ قال -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) (المجادلة: 22).
فرغم وجود المودة الطبيعية بالأبوة والبنوة والأخوة، والعشيرة، ومع ذلك أوجب الله -عز وجل- على المؤمنين أن لا يودوا الكفار؛ بسبب كفرهم، وقال -سبحانه وتعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ ‌وَلَوْ ‌كَانُوا ‌أُولِي ‌قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي: بموت أبيه على الكفر (تَبَرَّأَ مِنْهُ).
وقال -سبحانه وتعالى- في أبي طالب لما مات على الكفر، واستغفر له النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول النهي: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
فرغم وجود المحبة الفطرية؛ لكونه عمه، ولكونه كان يدافع عنه؛ إلا أن الله نهاه عن الاستغفار والدعاء له، وأخبر أنه من أصحاب الجحيم.
ولا يتصور التفريق بين الشرك والمشركين؛ إلا في مسلم نطق الشهادتين، واعتقد التوحيد إجمالًا، ونبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إجمالًا ثم جهل، أو تأول، أو أخطأ، أو أُكْرِه على كفر أو شرك؛ فقاله أو فعله أو اعتقده؛ فهو معذور في أمر التكفير: بالخطأ، والإكراه، والنسيان، والجهل، والتأويل، وكذا الصغر، والجنون؛ لنصوص الأحاديث الصحيحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ ‌حَتَّى ‌يَحْتَلِمَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي: الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، ‌وَمَا ‌اسْتُكْرِهُوا ‌عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) (الأنعام: 19)، فلا بد أن يبلغه القرآن حتى يكون منْذَرًا؛ وإلا كان معذورًا بجهله؛ لعدم البلاغ.
أما مَن بلغته الحجة، وانتفت عنه الأعذار؛ لاستيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه، فلا بد أن يُعامَل بناءً على ذلك الكفر، ووجبتِ البراءةُ منه، وإظهار العداوة والبغضاء أبدًا حتى يؤمنَ بالله وحده.
ولا بد أن يعلمَ في هذا المقام: أن المسالمة وترك القتال حتى ولو بالدخول في سلطان الإسلام بأوثق المواثيق: بعقد الذمة وبذل الجزية؛ فضلًا عمَّا دون ذلك من العهود: كالهدنة، والأمان، والعهد المطلق؛ هذه العهود لا تنهي العداوة والبغضاء، وإنما تنهي استباحة الدماء والأموال؛ فإن قضيةَ الموالاة ليست مرتبطة بكونهم مسالمين أو محاربين، وإن كانت العداوة للمحاربين أعظم، لكن الحب والرضا، والمتابعة والطاعة، والتشبه بهم، والصداقة لا تحصل لأحدٍ حتى يؤمن بالله وحده، ويتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، مع أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ممَّن أُمِر بقتالٍ أو استباحةِ أموال الكفار، فلا يُتصوَّر أن المقصود هو ترك القتال؛ لأنه لم يكن شرع، وإنما المأمور به ترك الموالاة، وبقاء العداوة والبغضاء وإظهارها، واعتقاد الكفر فيهم حتى يؤمنوا بالله وحده، كما نَصَّتِ الآيةُ الكريمةُ. والله أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20-10-2024, 03:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (115) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (19)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) تضمَّن أنهم جادلوه في توحيد الله وبطلان عبادة آلهتهم؛ يريدون إثبات أن آلهتهم خير من إلهه وأولى بالعبادة منه، وقد جادلهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بإقامة الحجة؛ رغم غرابة محاججتهم عن عقيدة باطلة، يظهر لكلِّ عاقل بطلانها، واستفهامه عن محاججتهم إياه للإنكار والتعجب! وبالفعل والله إنه لأمر عجيب أن تجدَ مَن يجادل عن الباطل، ويطلب إقامة الحجة على عبادة الأصنام المنحوتة بأيديهم التي لا تنطق، وهم يعلمون أنها لا تنطق، ولا تهدي سبيلًا! ولا أرجل لهم يمشون بها، ولا أيدي لهم يبطشون بها، ولا أعين لهم يبصرون بها، ولا آذان لهم يسمعون بها، ثم يخوِّفونه بها أن تصيبه بسوءٍ وأذى كخبلٍ أو جنونٍ، أو مرض، أو قتل، وهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شيئًا، كما قال قوم هود -عليه السلام- له: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (هود:54-56).
وكلما مَرَّ المرء على هذا الموضع، يتعجب فعلًا من مجادلة أهل الباطل عن باطلهم في كلِّ زمان مع وضوح الأمر، ولكنه الخذلان، وعدم التوفيق وعدم الهداية من الله، والطبع على القلوب والعقول حتى تظن الحق باطلًا والباطل حقًّا إلى هذه الدرجة!
وإلى يومنا هذا يجادلُ أهلُ الباطل عن باطلهم -رغم البيان التام-؛ فالملحدون يجادلون عن إلحادهم، رغم أن قضيةَ إثبات فعلٍ بلا فاعلٍ، أو لجمادات الطبيعة التي يشاهدون كلَّ لحظة عجزها أشد من جهالة قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في عبادة أصنامهم، مع أن الباحثين عن الآثار لو وجدوا تمثالًا مدفونًا في الأرض؛ لقالوا: بالتأكيد نحته الفراعنة، أو اليونان، أو الرومان، ولم يقولوا نحتته الطبيعة! فكيف بهذا الخلق العظيم؟! (‌وَفِي ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَفَلَا ‌تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وكيف بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس؟!
وعُبَّاد البقر: يجادلون إلى يومنا هذا عن فضل الأبقار واستحقاقها للعبادة؛ رغم أنها موجودة في الجاموس والإبل، وربما منافع فيهما أكثر، ومع ذلك يذبحون الجاموس، ويذبحون مَن ذبح البقرة، ويمنعون المسلمين من الصلاة في مساجدهم! رغم أن الهند كلها كانت مملكة للمسلمين، حتى جاء الاحتلال البريطاني فغيَّر وبدَّل ومكَّن الهندوس، مع أن بعض بلاد المسلمين أسسوا لهم معابد هندوسية شركية؛ لإظهار التسامح المزعوم مع الشرك بالله وعبادة غيره، بل يجامل أحدهم ويداهن في الدِّين بأن يوشوش البقرة المقدسة -بزعمهم!- كما وشوشتها المرأة التي تطلب منها ما تريد، وتدعوها من دون الله! ففعل الضال فعلها مداهنة لهم، ومجاملة للباطل!
واليهود: يجادلون عن باطلهم في تكذيب عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم-، وأن الأمة اليهودية فقط هي المستحقة للدِّين، وباقي البشر يجب أن يكونوا عبيد العبيد لهم؛ رغم أن المسلمين العرب ساميون مثلهم، وأدلة نبوة عيسى وموسى -صلى الله عليه وسلم- أعظم الأدلة، وهي موجودة عندهم في التوراة والإنجيل، ويقرأون أن الله -عز وجل- يستعلن من جبال فران، وجبال فران هي جبال الجزيرة العربية التي نزل نور الوحي فيها على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في مكة أولًا ثم المدينة، وأجدادهم قد أتوا إلى يثرب فرارًا من بختنصر انتظارًا للنبي الموعد الذي يعلن كلَّ الحقائق عن الله -عز وجل-، وكمال الشريعة الإسلامية؛ عقيدة وعبادة ومعاملة، وأخلاقًا وسلوكًا، وتطهيرًا للقلوب من أمراضها، وإحياءً لها: بمعرفة الله ومحبته، وعبادته، وخوفه ورجائه، لا ينازع فيها عاقل، بالمقارنة إلى كل الكتب السابقة.
والنصارى: يجادلون عن باطلهم في ألوهية المسيح والروح القدس؛ رغم أنهم يقرأون نصوص التوراة والإنجيل، بل وأقوال المسيح نفسه إلى الآن في أناجيلهم بعد التحريف، بإثبات التوحيد وبطلان الشرك، ولعن المصلوبين، وقبول الله توبة التائبين قبل نزول المسيح دون ذبيحة إلهية، ودون ارتكاب جريمة أعظم من كلِّ خطايا البشر ابتداءً من الأكل من الشجرة -بزعمهم!- بصلب الإله ابن الإله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا؛ رغم أنهم سمعوا وقرأوا قول المسيح -صلى الله عليه وسلم- لما سُئِل: "أي الوصايا هي أول الكل؟ قال: الرب إلهنا رب واحد، كما هو مكتوب، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب".
ومع كل ذلك يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويهمون بأهل الحق كي يأخذوهم، ويوشك الله أن يأخذهم، كما أخذ مَن أرادوا أن يطفئوا نور الله في دعوة الرسل، بأخذ الرسل أو قتلهم، أو أسرهم، أو إخراجهم؛ لإبطال دعوتهم؛ فأخذهم الله؛ فكيف كان عقابه لهم؟!
ومع كل هذا، فنحن مأمورون بالجدال بالتي هي أحسن؛ إقامة لحجج الله على عبادة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ‌بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46).
فالدعوة إلى الله، وإقامة الحجة على الناس؛ مِن أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ ‌حُجَّةٌ بَعْدَ ‌الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165)، ولأنه -عز وجل- عزيز حكيم؛ فهو يحب العذر، ولا يعذِّب أحدًا إلا بعد بلوغ الحجة وثبوت المحجة، ويقوم بإظهار الحجة والمجادلة بالتي هي أحسن ورثة الرسل مِن العلماء الأتقياء، الصالحين المصلحين.
الفائدة الثانية:
قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الآية الكريمة: (وَقَدْ هَدَانِ): فيه شهود فضل الله ونعمته العظيمة على عبده المؤمن بالهداية؛ هداية التوفيق والإسعاد بمعرفة التوحيد وبطلان الشرك، وإثبات النبوة والرسالة للأنبياء، ولا يدخل أحدٌ الجنةَ إلا وهو شاهد لهذه الهداية، قال تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . ‌وَنَزَعْنَا ‌مَا ‌فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 42-43).
وقد تكرَّر هذا المعنى من كلام إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الرسل، قال -تعالى- عن إبراهيم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 75-80)، الآيات.
وقال -سبحانه وتعالى- عن الرسل في مجادلتهم لقومهم: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 10-12).
وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161).
وهذا الشهود لفضل الله بالإيمان تحقيق للإيمان بالقدر، فالاهتداء الذي هو فعل العبد، قد خلقه الله فيه بفضله ومنِّه، والعبد فاعلٌ الاهتداء والله فاعلٌ للهدى، الله هداه، فالله خَلَق الهدى في قلب عبده المؤمن، وخلق الضلال في قلب الضال الكافر، وهو أعلم بالشاكرين وهو أعلم بالظالمين، ولولا أن الله أضلهم ما حاجوا أنبياءهم ورسلهم في أوضح اليقينيات.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 28-11-2024, 04:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (117)

دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (21)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
في قوله -تعالى-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فوائد:
الفائدة الرابعة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، الاستثناء هنا منقطع عند جمهور المفسِّرين، والمعنى: لا أخاف ما تشركون به؛ إلا لو شاء الله أن يصيبني بضر أو شيء؛ فهو الذي يكون، وليس للآلهة الباطلة صنع فيه، فيكون دالًّا على كمال التعلُّق بالله وصدق التوكل عليه في جلب المناقع ودفع المضار؛ لأن كلَّ مَن سواه لا يملك شيئًا؛ لا ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا؛ لا لنفسه ولا لغيره، كما قال -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌اللَّهُ ‌بِضُرٍّ ‌فَلَا ‌كَاشِفَ ‌لَهُ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌بِخَيْرٍ ‌فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 17-18)، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَدْعُ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ ‌مَا ‌لَا ‌يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 106- 107).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، ‌رُفِعَتِ ‌الأَقْلَامُ ‌وَجَفَّتْ ‌الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -سبحانه-: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) (الفرقان: 3).
وهناك قول آخر في تفسير الآية ذكره القرطبي وغيره، فقال -رحمه الله-: "والهاء في (بِهِ) يحتمل أن تكون لله -عز وجل-، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) يعني أن الله -تعالى- لا يشاء أن أخافهم.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: "وَقَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ يَخَافُ إِضْرَارَ آلِهَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ السَّامِعُونَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَيْئًا، اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، أَيْ: لَكِنْ أَخَافُ مَشِيئَةَ رَبِّي شَيْئًا مِمَّا أَخَافُهُ، فَذَلِكَ أَخَافُهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ لِقَوْمِهِ إِذْ كَانَ لَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ فِي حِينِ أَنَّهُ يَخْشَى رَبَّهُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْخَشْيَةِ أنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يَعْتَرِفُونَ بِرَبٍّ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مُفْرَغًا عَنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَوْقَاتٍ، أَيْ: لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أَبَدًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ: إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ: بِأَنْ يُسَلِّطَ رَبِّي بَعْضَهَا عَلَيَّ فَذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّي بِوَاسِطَتِهَا لَا مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَيَّ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحْوَالًا عَامَّةً، أَيْ: إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْهَا".
وهذا المعنى المحتمل هو مثل ظاهر قوله -تعالى- عن شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (‌قَدِ ‌افْتَرَيْنَا ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌كَذِبًا ‌إِنْ ‌عُدْنَا ‌فِي ‌مِلَّتِكُمْ ‌بَعْدَ ‌إِذْ ‌نَجَّانَا ‌اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف: 89).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول جلَّ ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه مِن قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: (‌قَدِ ‌افْتَرَيْنَا ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌كَذِبًا)، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، وتخرَّصنا عليه من القول باطلًا إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه، وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها ونترك الحق الذي نحن عليه (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذٍ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا.
(وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن؛ فإن يكن سبق لنا في علمه أنَّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن؛ فلا بد مِن أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فنحن غير عائدين في ملتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ثم ذكر بسنده عن السدي في الآية: يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا" (انتهى).
قلتُ: وقوله: إن الله لا يشاء الشرك، أي: شرعًا، مع أن لفظ المشيئة لم يرد في معنا الإرادة الشرعية، وإنما ورد في الإرادة الكونية، وقد كثر ذلك في كتاب الله -عز وجل-، وقال -عز وجل-: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149)، وقال -سبحانه-: (‌وَلَوْ ‌شَاءَ ‌اللَّهُ ‌مَا ‌أَشْرَكُوا) (الأنعام: 107).
وهذا المعنى من معاني التوكل على الله في الثبات على الدِّين، وشهود نفوذ مشيئة الله في إيمان المؤمن وكفر الكافر، وشهود العلم والمشيئة من الله ربنا -سبحانه وتعالى- في تدبير أعمال قلوب عباده وعقائدهم، وتقليب قلوبهم، واجب من واجبات الإيمان، فنحن لا نثق في أنفسنا في الثبات على الدين إلا بالله -عز وجل-، (‌وَمَا ‌كُنَّا ‌لِنَهْتَدِيَ ‌لَوْلَا ‌أَنْ ‌هَدَانَا ‌اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وكما قال الصحابة والنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ ‌مَا ‌اهْتَدَيْنَا، ‌وَلَا ‌صُمْنَا ‌وَلَا ‌صَلَّيْنَا) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا ‌الْجَنَّةَ ‌عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ) (متفق عليه)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا ‌مُقَلِّبَ ‌القُلُوبِ ‌ثَبِّتْ ‌قَلْبِي ‌عَلَى ‌دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكان أكثر قَسَمِه -صلى الله عليه وسلم-: "لا ومقلب القلوب"، وكان يقول: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ‌صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى ‌طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).
وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ‌لِمَا ‌يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)، فالعبد يأخذ بالأسباب من العمل الصالح بالاستجابة لأمر الله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، في الطاعات واجتناب المعاصي، ولكنه لا يتوكل على عمله، بل على ربِّه الذي وَسِع كل شيء عِلْمًا؛ فهو وحده الذي يحول بيننا وبين الكفر والفسوق والعصيان، وكم مِن أناسٍ عَمِلوا بالطاعة ثم انقلبوا، قال الله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ‌اللَّهُ ‌لَكُمُ ‌الْآيَاتِ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266).
وهذا مَثَل ضربه الله للفساد بعد الصلاح، وللحور بعد الكور؛ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوله في دعاء العودة من السفر، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ‌فَيَسْبِقُ ‌عَلَيْهِ ‌الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ‌فَيَسْبِقُ ‌عَلَيْهِ ‌الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) (متفق عليه).
وهذا المعنى وإن لم يُشِر إليه أكثر المفسرين في تفسير قول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)؛ إلا أنه معنى صحيح في نفسه، عظيم الأهمية في حياة المؤمن، وفي نظره لنفسه، وخوفه من أن يقدِّر الله عليه الكفر والردة، وسوء الخاتمة، وهو يزيل العجب بالعمل، وتوهم الكمال فيه، وتزكية النفس المذمومة، كما قال الله -تعالى-: (‌أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِينَ ‌يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء: 49).
فاللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 220.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 214.12 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]