|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (11) الدكتور عثمان قدري مكانسي صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم من اليهود والنصارى والمشركين وضعاف الإيمان من المسلمين ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه.. سورة النحل[الآية 103] ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين ).منذ القديم وإلى هذه اللحظة يفتري الكافرون على نبي الإسلام ما يفترون، ويدّعون ما يدّعون، ويرمونه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن ليس من الله، وليس من عنده، فقد تعلمه من غيره .. ومما يضحك له الإنسان- من ألم- أن هذا الادعاء صبياني، لا يقول به عاقل، ومتى كان الكافرون عاقلين، لأن الحجة التي بنوا عليها ادعاءهم تافهة لا وزن لها - كبقية الاتهامات الأخرى- لكن تفاهة هذا الادعاء ناتجة عن أن الصغير لا يقبل بها، ويسخر من سردها. فقد روى ابن إسحاق أنه كان في مكة فتى أعجميٌّ قُربَ الصفا، يبيع بعض السلع البسيطة، يمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كما يمر عليه الناس، ويكلمه كما يكلمه الآخرون، ولم يكن هذا الأعجمي ليتكلم من العربية سوى كلماتٍ وجملٍ يكاد لا يبينها ولا يحسن نطقها ادعى كفار مكة أنه علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن والحكمة!!. وعلى الرغم من أن هذا الادعاء لا وزن له إلا أنه ينبغي أن نشير إليه رادّين على تخرصاتهم : 1- لو كان هذا الغلام ذا حكمة وفهمٍ، ما وضع نفسه في الموضع الذي هو فيه، يمرُّ عليه الجميع من كبارٍ، وصغارٍ، وينظر إليه الكثير منهم نظرة ازدراء. 2- أنَّى لهذا الفتى أن يُعلِّم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن والحكمة، على فرض وجودها عنده، وأداة التعليم واللغة وحسن البيان ليست فيه؟! وفاقد الشيء لا يعطيه. 3- كان أحرى بهذا الأعجمي- الذي اتصف بالعلم والحكمة على حد قول الكفار- أن ينسب القرآن إلى نفسه، فيفخر بذلك على أهل مكة ومن حولها، ويتبوأ فيهم مركز الصدارة، لا خانة النسيان!! 4- لِمَ تكاسل هؤلاء جميعاً فلم يتعلموا منه- إن صح زعمهم- فأفادوا واستفادوا، ونافسوا محمداً صلى الله عليه وسلم في دعوته؟!!. 5- وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم - حسب ادعاء الكافرين- تعلَّم من ذلك الأعجمي القرآن والحكمة، ثم صاغ ذلك بأسلوب عربي مبين.. أما كان أهل قريش - وهم أفصح العرب- أن يصوغوا الأفكار بقالبٍ سامٍ من البلاغة.. مثَلُهم مثَلُ النبي صلى الله عليه وسلم ؟!! لقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله.. فعجزوا.. وتحداهم أن يأتوا بعشر سورة مثله- مفتريات- فعجزوا.. وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا.. أمة مشهورة بالبلاغة والفصاحة يأتيها رجلٌ بكلامٍ من كلامهم ويتحداهم أن يكونوا مثله في حُسن البلاغة والبيان فلا يستطيعون.. وينبهرون حين يقرأ عليهم، وتتلى آياته فيهم، فيصمتون إعجاباً.. أحرى بها أن تصدق أنه كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم.. ولئن اجتمع الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية عام أربعة وخمسين وتسع مائةٍ وألف في مؤتمر المستشرقين يدّعون أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد- وهو محمد عليه الصلاة والسلام- بل من عمل جماعة كبيرة، وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها!! لَهذا الافتراءُ الجاهليُّ في القرن العشرين الجاهلي!! أقلُّ خطأ من خطأ الجاهليين أهل مكة.. وكل أقوالهم خطأ.. لكنّ جاهليّي القرن العشرين أقرُّوا أنَّ رجلاً واحداً بل إن رجلين أو أكثر لا يستطيعون تأليف كتاب يتضمن قواعد الحياة وأسسها إلى يوم القيامة.. وغاب عن عقول ملاحدة القرن العشرين أن العالم كلّه ماضيه وحاضره لا يستطيع أن يأتي بمثله أنسهم مع جنّهم.. لأنه كلام الله الذي ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (1) .
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (19) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة الزُّخرُف ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ). رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذؤابة من بني هاشم، وبنو هاشم الذؤابةُ من قريش. وقريش سيدة العرب، وأهلُ البيت والحرم، فهو عليه الصلاة والسلام معروف بكريم المحتد وشرف الأصل. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن رئيس قبيلة أو زعيم عشيرة، فما الذي يجعله نبياً وما الذي جعله أهلاً لأن يكون رسولاً لله أفليس هناك رؤساء للقبائل والعشائر أكثر نفوذاً وأموالاً؟!! فلماذا لا يكونون أكثر أهلية للرسالة.؟ هذا الوليد بن المغيرة في مكة يملك المال الوفير، ويسيّر القوافل لتجارته الخاصة في كثير من الأحيان، وهو أكبر عمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله من الأولاد عدد كبير، يسمع الجميع كلمته، إن دعا الناس إلى الرسالة الجديدة أجابوه، وإذا تكلم أنصتوا له، زعيم عشيرته، يأمر فيطاع ،وينهى فيمتنع الناس. إذا دخل قام الناس، وإن جلس جلسوا.. يعرف الشعر.. مطّلع على الكهانة، يحسب أهل قريش كلهم حسابه فهو رأس بني مخزوم.. والكل يعرف من بنو مخزوم؟!! وهذا عروة بن مسعود الثقفي من بني ثقيف. أهل الطائف، له من المكانة، والأثر بين قبيلته ما للوليد بن المغيرة في مكة، وكلاهما يشار إليه بالبنان، وترنو إليه العيون، فَلِمَ لَمْ يكن أحدهما النبي؟! ولماذا خصَّ الله ابن عبد الله بن عبد المطلب بها؟.. تساؤلات كثيرة تخطر على عقول أهل مكة، وتحوم حول قلوبهم.. لكن الرسالة التي يريدها الله أن تصل إلى الناس تحتاج إلى إنسان له صفات غير هذه الصفات، تحتاج إلى عقل مستنير، وقلب كبير، وإيمان عميق، وإخلاص متفانٍ، وتحمُّلٍ للأعباء. تحتاجُ إلى جلَد وصبر وإنسان سار منذ الصغر على درب نظيف، لا يعرف مفاسد المجتمع، رُبِّيَ على حب الفضيلة، وعشق المثل العليا، وكره سفساف الأمور. تحتاج إلى رجل يسمو فوق الشهوات ويعمل على انتشال البشرية من وهدة الضلال، وقيادتها إلى ميزان الفضائل... لا تحتاج إلى مال وفير، ولا عشيرة كبيرة، فالإيمان لا تفرضه القوة ولا تدفع عنه الأحساب. والإيمان يحتاج إلى رسوخ في العقيدة وتصديق لها في العمل، وطهارة في النفس وبذلٍ لا حدود له، ولكن حسب الاستطاعة.. ولماذا تكون النبوة في أولئك؟ ولم يبلغوا من الطُهْرِ والصدق والمناقب ما يؤهلهم لذلك.. والدين الذي يريده الله سبحانه وتعالى لإصلاح البشرية، يختار الله له من يشاء من عباده الذين يحملون قِيَماً ترضى عنها السماء، لا علاقة لها بقيم الناس المتواضع عليها في الأرض، وليتهم يعرفون ذلك من قصة اختيار أحد أنبياء بني إسرائيل طالوت ملكاً، فاعترض الناس بقيمهم الأرضية على هذا الاختيار ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَال) (1) ؟ فهم بقيمهم الأرضية أحق بالملك منه..!! لماذا... هو من طبقة يرون أنهم أفضل منها.. وهناك عامل آخر.. إنه المال. .. المال الذي تخضع له رقاب الضعفاء من الناس، وما أكثرَهم؟!! فنبههم الله تعالى إلى أنه صاحب الدين وهو الذي يختار من يراه مناسباً لحمل رسالته ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (2). ففي طالوت صفتان مناسبتان (القوة والعلم) ومن حازهما كان أهلاً لحمل الأمانة.. ثم إنهم بشر لا يملكون لأنفسهم شيئاً، بل لا يملكون أنفسهم، فالله خلقهم ورزقهم، وقدَّر أقواتهم، وأعطاهم ما يشاء، ومنع عنهم ما شاء.. فليس لهم الخيار في كل هذه الأمور.. ومع ذلك فهم يتناسَوْن كل نقصهم وضعفهم، ويتناسون مكانتهم ويسألون بوقاحة: لِمَ كانت النبوة للرسول عليه الصلاة والسلام!!! إن الرسالة رحمة لصاحبها أولاً، ولمن حوله ثانياً.. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن إلا رحمته للعالمين. فكان اختياره- سبحانه وتعالى- للرسول محمد- صلى الله عليه وسلم اختيار تزكية، واختيار تعليم، اختاره بعد أن جَبَلَهُ على حسن القيام بهذه المهمة العظيمة.. وكان أهلاً لها . ورحم الله شوقي فقد وضع في أبياته هذه الملحَ على الجرح. فكان بيانه بلسماً للجروح وعبيراً للقلوب: حسدوا، فقالوا: شاعر أو ساحر ومن الحسود يكون الاستهزاءُ جرت الفصاحة من ينابيع النهى من دوحه، وتفجر الإنشاء في بحره للسابحين به على أدب الحياة وعلمها إرساء الله هيأ من حظيرة قدسه نزلاً لذاتك لم يجُزه علاءُ العرش تحتك سدةً وقوائماً ومناكب الروح الأمين وطاء والرسلُ دون العرش لم يؤذن لهم حاشا لغيرك موعدٌ ولقاء
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (21) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة المُجادِلة(1) [ الآية 8] ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) في هذه الآية: ا- أن اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستماع إليه، والتعرف على أحوال المسلمين وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . 2- أن اليهود لخبثهم يوهمون النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبونه، ولكن الله كشفهم لرسوله فإذا بهم يدعون عليه، ويرد عليهم رسول الله الدعاء نفسه. 3- أن اليهود على علمهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد في آيات أخرى تؤكد ذلك ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) (1) يخدعون أنفسهم فينفون عنه النبوَّة حين يطلبون العذاب السريع لدعائهم على النبي صلى الله عليه وسلم. 4- هذا التحدي (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) (2) يوضح عداءهم السافر لله ورسوله، وأنهم يحادون الله ورسوله فوجب عقابهم. 5- بالإضافة إلى هوانهم في الدنيا على رسول الله والمسلمين ينتظرهم عذاب جهنَّهم يصلونها وهذا مصير بئيس لا مناص منه. فقد ورد أن اليهود كانوا إذا جاءوا الرسول عليه الصلاة والسلام يدفعهم سوء أصلهم وخبث نفوسهم إلى تحوير السلام وهو دعاء بالأمن والسلام من الله تعالى- إلى دعاء بالموت والهلاك فيقولون: السام عليكم. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف السام بالموت في الحديث " الحبَّةُ السوداء دواء كل داء إلَّا السام، أو كما قال، فالسام الردى والموت. ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام- وهو يسمع مقالتهم ويعرف مقصدهم- ليثور في وجوههم أو يشنع عليهم لأن الداعية يجب أن يكون هادئ الأعصاب، ساكن النفس! ليصل إلى قلوب الناس وأفئدتهم، والثائر يفشل في ذلك، بل كان يرد عليهم بجلال النبوة وسمو الرسالة " وعليكم "، أو كان يقول مثلهم " السام عليكم "، وأمر أصحابه الكرام فقال: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت". وقد سمعت عائشة رضي الله عنها ما قاله اليهود الملاعين لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فقالت- وهي الصبية المتحمسة لدينها ورسول الله وزوجها وأسوتها-: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم العارف بالأمور، الذي يضعها في نصابها، إلَّا أن قال: مَه÷ يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش.. ما أعظمك يا رسول الله!! حتى في الرد على أعدائك الظالمين تلتزم الأخلاق ولطف الرد صلَّى الله عليك، ما أكرمك وما أحَسنَ خلقك، فلما اعترضت الصديقة بنت الصديق: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟! فقال بلهجة الواثق بالله الموقن بان ربه يدافع عنه وعن المؤمنين: ألستِ ترين أني أرد عليهم ما يقولون، أقول وعليكم"، فهم يدعون على النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤهم غير مستجاب لكفرهم وضلالهم، وهوصلى الله عليه وسلم يرد عليهم الدعاء، فيستجب الله تعالى لدعائه فتصيبهم اللعنة والخسران أبد الآبدين.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلهم إلى الله، فعذابه العذاب الشديد، وانتقامه رهيب.. ومن يدعو عليهم؟ إنه رسول الله أحب خلق الله إلى الله صلى الله عليه وأكرمه. بعض المسلمين اجتهدوا في رد السلام، فقال أحدهم نقول: السِّلام عليكم- بكسر السين- وهي الأحجار، وقال أحدهم بل نقول: علاك السام، أي أصابك الموت والردى، وبعضهم قال: علاك السلام فتجاوزك.. ولا حاجة لهذا الاجتهاد.. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة و قدوة: ( وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) (1) . وهنا يغالط اليهود أنفسهم فيقولون: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، لأجاب الله دعاءه، فهو يقول راداً علينا: "وعليكم السام"، والسام الموت.. لو كان نبياً لاستجيب دعاؤه ومتنا لساعتنا.. أليس هذا عجيباً؟! والعجب من تجرُّئهم على الله، فهم يتحدون الله تعالى ويسخرون من نبيه صلى الله عليه وسلم. وهم أيضاً يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجَل من يغضبهم بالعذاب.. ولكنهم مردوا على الكفر والفسوق فلا يأبهون إلَّا حين يدهمهم العذاب، ولات حين نجاة.. فيقول البارى جل وعلا إن لهم أجلاً لا ريب فيه وستكون النار مأواهم وبئس المرجع والمآل.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (13) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة النور[ من الآية الحادية عشرة ]حديث الإفك من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه.. إن من شناعة الجرم وبشاعته أن يتناول المنافقون بيتَ النبي الكريم وعرضَه الطاهرَ الشريف بالإِفك وهو عليه الصلاة والسلام أكرم إنسان على الله، وعِرضُ صاحبه الصديق رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله- صلى الله عليه وسلم .. وعرضُ رجل من الصحابة صفوان بن المعطل، يشهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف عليه إلَّا خيراً، هذا الإفك الذي شغل المسلمين في المدينة شهراً كاملاً.. كان هذا الشهر ثقيلاً جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين.. هذا الإفك الذي كاد يعصف بالمجتمع المسلم، لولا فضل الله تعالى الذي أعاد إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطمأنينة والسكينة، ولجم أفواه المنافقين ومن انجرف معهم من المسلمين، الذين ثابوا بعد ذلك إلى رشدهم، وعرفوا عظم ما جنوه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق أهل بيته الطاهرات.. هذا الحادث.. حادث الإفك قد كلّف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل- وعلَّقَ قلبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقلبَ زوجته التي يحبها، وقلبَ أبي بكر الصديق وزوجته، وقلبَ صفوان بن المعطل، شهراً كاملاً علَّقها بحبال الشك والقلق، والألم الذي لايطاق. فلندع عائشة رضي الله عنها تروي قصة هذا الألم، وتكشف عن سر هذه الآيات. عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة- رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمُها خرج بها معه؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة(1) فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أُحمل في هودج، وأنزل فيه. فسِرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرحيل؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عِقدٌ لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أنّي فيه؛ وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهنّ اللحم؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفةَ الهودج، فحملوه؛ وكنت جارية حديثة السن؛ فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس أحد منهم، فتيممت منزلي، الذي كنت فيه. وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت. وكان صفوانُ بن المعطل السُّلَميُّ. ثم الذكوانيُّ. قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي؛ فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني. وكان يراني قبل الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي؛ والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه؛ وهوى حتى أناخ راحلته، فوطىء على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا معرِّسين. قالت: فهلك في شأني من هلك. وكان الذي تولى كبر الإِثم عبد الله بن أبي بن سلول؛ فقدمنا المدينة؛ فاشتكيت بها شهراً؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يَريبني في وجعي أنّي لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشرِّ حتى نقهت، فخرجت أنا وأمُّ مِسطَح قِبَل المناصع- وهو متبرزناً- وكنا لا نخرج إلَّا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنُفَ، وأمرُنا أمْرُ العرب الأول في التبرز قبل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح- وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بنِ عامر خالةُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وابنها مسطح بنُ أثاثة بن عباد بن المطلب- حين فرغنا من شاننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئسما قلت. أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ - فقالت: يا هِنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبويَّ. وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبرَ من قِبَلِهما. فأذن لي، فأتيت أبويَّ، فقلت لأمي: ياأمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنيةُ هوِّني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأةٌ قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلَّا أكثرن عليها. فقلت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت: فبكَيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحتُ أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأمّا أسامةُ فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلَّا خيراً. وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة (1) فقال لها: أيْ بريرة. هل رأيت فيها شيئاً يَريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً إن رأيتُ منها أمراً أغمصه (2) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن (1) فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال وهو على المنبر: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلَّا خيراً. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلَّا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلَّا معي. قالت: فقام سعد بن معاذ (2) رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكنْ أخذته الحمية. فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة لايرقا لي دمع ولا أكتحل بنوم. فاصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً، أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيَّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهراً لايوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس، ثم قال: " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله تعالى عليه ". فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلمز قالت: وأنا جارية حديثة السنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدث الناس به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به. فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمرٍ، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقُنَّني. فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (1) . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وَحْياً يتلى؛ ولشأني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلم الله تعالى فيّ بأمر يتلى؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، فسُرِّيَ عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك. فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلَّا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي. فانزل الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ.. ) (1) " العشر الآيات". فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره- والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة رضي الله عنها. فانزل الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن..) إلى قوله: ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (2) فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله لأحب أن يغفر الله لي، فرَجع إلى مسطح النفقةَ التي كان يُجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلمسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: " يا زينب. ما علمت وما رأيت؟ " فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلَّا خيراً. وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع. قالت: فطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك (3). وتعالَ نعِشْ- أخي الحبيب - في ظلال هذه القصة بقلم الشهيد الأستاذ سيد قطب إذ يقول في تفسير آياتها في سورة النور ما يلي: وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلُ بيته. وعاش أبو بكر رضي الله عنه وأهل بيته. وعاش صفوان بن المعطل.وعاش المسلمون جميعاً هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات. وإن الإنسان ليقف متململاً أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة، زوجه المقربة. وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة. تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيفة. فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة. ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها، ها هي ذي تُرمي في أعز ماتعتز به. تُرمى في شرفها. وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع. وترمى في أمانتها. وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم. وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير.. ثم ترمى في إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإِسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة. وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غارَّة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئاً؟ فلا تجد ما يبرئها إلَّا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحيَ يتلبث، لحكمة يريدها الله، شهراً كاملاً، وهي في مثل هذا العذاب. ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح. وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى؛ وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم! فتقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فتجيبها أمها كذلك: نعم!. ويالله ورسول الله ? نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه، يقول لها: " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ".. فتعلم أنه شاكٌّ فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربُّه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن برائتها التي تعلمها ولكن لاتملك إثباتها؛ فتُمسي وتصبح وهي تهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلّها في سويدائه!. وها هو ذا أبو بكر الصديق في وقاره وحساسيته وطيب نفسه يلذعه الألم، وهو يُرمى في عرضه. في ابنته زوج محمدٍ صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلاً من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم، فيقول: والله ما رمينا بهذا في جاهلية. أفنرضى به في الإِسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل. حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم!. وأم رومان زوج الصديق رضي الله عنهما وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء. المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالقٌ كبِدها: يا بنية هوِّني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلَّا أكثرن عليها.. ولكن هذا التماسك يتزايل وعائشة تقول لها: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! . والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل. وهو يرمى بخيانة نبيه في زوجه. فيُرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حميته. وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء. وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبُه بريء من تصوره، فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به. ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم، وهو منهِيٌّ عنه، أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!. ثم ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم.. ها هو ذا يُرمى في بيته. وفي من؟ في عائشة التي حلّت من قلبه في مكان الابنة والزوج والحبيبة. وها هو ذا يُرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة. وها هو ذا يُرمى في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرامات في أمته. وها هو ذا يُرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء. ها هو صلى الله عليه وسلم يُرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة رضي الله عنها، يرمى في فراشه وعِرضه، وقلبه ورسالته. يرمى في كل ما يعتز به عربي، وكل ما يعتز به نبي.. هاهو ذا يرمى في هذا كله؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهراً كاملاً، فلا يملك أن يضع لهذا كلّه حداً. والله يريد لحكمةٍ يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً لا يبين فيه بياناً. ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم. يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة. الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشك يعمل في قلبه مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله، ولكنه لا يطمئن نهائياً إلى هذه القرائن ،والفريةُ تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك؛ فلا يملك أن يطرد الشك. لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر. وزوج لا يطيق أن يمس فراشه. ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم. وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد. حبه القريب إلى قلبه.. ويبعث إلى علي بن أبي طالب. ابن عمه وسنده. يستشيرهما في خاصة أمره. فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب. ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد، ابن عمه وكافله ،فهو يشير بان الله لم يضيق عليه. ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستقر على قرار. وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الأفاكين. ورسول الله ? في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان يستمد من حديث أسامة، ومن شهادة الجارية مدداً وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورموا أهله، ورموا رجلاً من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خُدِشت قداسة القيادة. ويحز هذا في نفس الرسولصلى الله عليه وسلم، والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها، يصارحها بما يقول الناس؟ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح! وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؟ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم. ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل: " وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئى ببراءتي. ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى. ولشأني في نفسي كان أحقرُ من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها ".. ولكن الأمر- كما يبدو من ذلك الاستعراض- لم يكن أمرَ عائشة رضي الله عنها، ولا قاصراً على شخصها. فلقد تجاوزها شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ووظيفته في الجماعة يومها. بل تجاوز إلى صلته بربه ورسالته كلها. وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها.. من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويرد المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام؛ عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إلَّا الله: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيم)ٌ (1) . فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً إنما هم " عصبة " متجمعة ذات هدف واحد. ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي ذلك أطلق الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية. وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة. ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد. إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه. وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن تُرجَف به المدينة شهراً كاملاً، وأن تتداولهُ الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!. وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم. ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: ( لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (1) . خيرٌ.. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. فهي عندئذٍ لا تقف عند حدٍ. إنما تمضي صعداً إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء. وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم. أما الآلام التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن تجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء !. أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ..) ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. ما اكتسبوا، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى ( الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيم)ٌ (1) يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم. والذي تولى كِبْرَهُ، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول. رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. ولقد عرف كيف يختار مقتلاً، لولا أن الله كان من ورائه محيطاً، وكان لدينه حافظاً، ولرسوله عاصماً، وللجماعة المسلمة راعياً.. ولقد روي أنه لما مرَّ صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابنُ سلول في ملأ من قومه قال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها.. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت؛ ثم جاء يقودها!. وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية. بلغ من خبثها أن تموج المدينة من الفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها. وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين. وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً كاملاً. وهي الفرية الجديرة بان تنفى وتستبعد للوهلة الأولى. وإن الإنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة. حينذاك، وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق!. لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك. وخاضها الإسلامُ معركةً ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره. فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله. والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته. والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها تاريخه. ولو استشار كل مسلم قلبَه يومها لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه. والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا النهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها: ( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (1) . نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في ظل هذا الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم. فظن الخير بهما أولى. لكن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله ? ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلَّا خيراً.. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما كما روى الإمام محمد بن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أمُّ أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم. وذلك الكذبُ. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كانت لأفعله. قال فعائشة والله خير منك.. ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: " الكشاف " أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟ قال: لا. قالت: ولو وكنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك.. وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!. هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور. خطوة الدليل الباطني الوجداني. فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي : ( لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (1) وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة؛ وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء! " وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن. كاذبون عند الله الذي لا يُبدَّل القول لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقابها. هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير. وخطوة التثبت بالبينة والدليل غفَلَ عنهما المؤمنون في حادث الإفك؛ وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمر عظيم لولا لطفُ الله لمسَّ الجماعة كلها البلاءُ العظيم. فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبداً بعد هذا الدرس الأليم: ( لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (1) . لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درساً قاسياً. فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه. فهي فعلة تستحق العذاب العظيم. الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلَّا خيراً. والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع؛ ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة، والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم. والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (1) وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:" إذ تلقونه بألسنتكم "، (لسان يتلقى عن لسان) بلا تدبر ولا فحص ولا إنعام نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! "وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ".. بأفواهكم لا بوعْيِكم ولا بقلبكم. إنما هي كلمات تقذف بها افواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.. " وتحسبونه هيناً " أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يُرْمَ في الجاهلية؛ وأن تتهموا صحابياً مجاهداً في سبيل الله. وأن تمسوا عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلته بربه، ورعاية الله له.. "وتحسبونه هيناً.. " " وهو عند الله عظيم ".. وما يعظم عند الله إلَّا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء. ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، من مجرد النطق به، وأن تُنكر أن يكون هذا موضعاً للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا؛ وأن تقذف بهذا الإفك بعيداً عن ذلك الجو الطاهر الكريم: ( وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (1) . وعندما تصل هذه اللسمة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت.. عندئذٍ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم: ( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (2) " يعظكم ".. في اسلوب التربية المؤثر. في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار. مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً".. ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة: "إن كنتم مؤمنين".. فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف. وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون: " ويبين الله لكم الآيات ".. على مثال مابين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء: "والله عليم حكيم " يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف؛ ويعلم مداخل القلوب. ومسارب النفوس. وهو حكيم في علاجها. وتدبير أمرها. ووضع النظم والحدود التي تصلح بها.. * * * ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلف عنه من آثار؛ مكرراً التحذير من مثله. مذكراً بفضل الله ورحمته، متوعداً من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق.. كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي الله عنه من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض: ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1) . والذين يرمون المحصنات- وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم- إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من إرتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بان الفاحشة شائعة فيها.. بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع. من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والأخرة. وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيُّفِ مشاعرها واتجاهاتها.. ومن ثَمَّ يعقب بقوله: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " .. ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلَّا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلَّا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلَّا العليم الخبير؟ ومرة أخرى يذكِّرُ المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته: ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (1) . إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته.. ذلك ما وقاهم السوء.. ومن ثم يذكرها به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين. فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً أن يصيبهم جميعاً، لولا فضل الله ورحمته، صوّرَ لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان. وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم. وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْ
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (14) الدكتور عثمان قدري مكانسي من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه.. سورة الفرقان [ الآيات 27- 29 ] ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً). أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة". وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكّرَكم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عملُه. وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار.. وأنشد: وصاحبْ خيار الناس تنجُ مسلَّماً... وصاحب شرار الناس يوماً فتندَما (1) إن الإِنسان أليف مألوف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن الصاحب ساحب، يسحبك إلى الخير أو إلى الشر.. فإلى أين تحب أن تصير؟!! وقديماً قيل: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت؟.. فالصاحب مرآة صاحبه، ولن ترى رجلاً يصاحب رجلاً يختلف عنه، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.. ومن أراد الخير صاحب أهل الخير، ومن أراد الشر صاحب أهل الشر. والعاقل، العاقل من ابتغى الخير لنفسه وحسن الختام فنفع نفسه وصاحب من يدله على الخير، واتقى جليس السوء ونأى عنه، وفرَّ فراره من الأسد: اصحب خيار الناس حيث لقيتهم خير الصحابة من يكون عفيفاً والناس مثل دراهمٍ ميزتُها فوجدتُ منها فضة وزُيوفاً وهذا عقبة بن أبي معيط نطق بشهادة الإسلام ثم خرجت من قلبه، لأنه أرضى صاحبه أُبيَّ بن خلف أخا أمية فأورده النار، وبئس الورد المورد. يروى أن عقبة بن أبي معيط صنع وليمة، فدعا إليها قريشاً، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، والداعية- ورسول الله أول داعية- اغتنمها فرصة فأبى أن ينال من طعام عقبة شيئاً إلَّا إذا أسلم، وهو الذي يقول: صلى الله عليه وسلم. "لا تصاحب إلَّا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلَّا تقي".. وهذا يعني أيضا أن تأكل من طعام المسلم التقي.. وكره عقبةُ أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الأشراف- فأسلم ونطق بالشهادتين- فقبِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وأكل من طعامه.. وهنا جاء دور الخليل والصاحب.. وصاحب عقبة وخليله أبَيُّ بن خلف، وهو كافر فاجر، وكان غائباً فسمع ما فعل عقبة، فعاتبه، فقال عقبة: رأيت عظيماً أن لا يحضر طعامي رجلٌ من أشراف قريش. فقال له خليله أبَيٌّ: هذا فراق بيني وبينك إلَّا أن ترجع، وتبصق في وجهه، وتطأ عنقه، وتقول كيت وكيت.. ففعل عدو الله ما أمره به خليله، فكتبه الله من التعساء أبد الآبدين بعد أن دخل في الإسلام.. نسال الله حسن الخاتمة. قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجع بصاقه في وجهه، وشوى وجهه وشفيته، حتى أثر في وجهه، وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارج مكة إلَّا علوت رأسك بالسيف. وفي معركة بدر كان عقبة بن أبي معيط بين الأسرى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله قبل دخول المدينة، فقال: أأقتل دونهم؟ فقال نعم بكفرك وعتوِّك، فقال: من للصبية؟ فقال: النار. فقام عليٌّ رضي الله عنه فقتله. ويوم القيامة تكون الحسرة والندامة الأبدية، الحسرة على نعيم ضاع، والندم على فعل أورده النار، فهو يعض على يديه.. فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها وإنما هو يداول بين هذه وتلك، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من ندمٍ أكل قلبه، وحسرة فتّتته. فهو ظالم.. وأولُ ما ظلم نفسُه التي بين جنبيه، يتمنى.. ولا ينفع التمني، لو سلك طريق الإيمان، وكان جندياً من جنود الإسلام، يمشي في ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقتبس من أنواره، يؤمن برسالته.. ولكن هيهات لقد سبق السيف العذل. ويأكل الندم فؤاده " ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً " هل نسي اسمه فلم يذكره، أو تجاهله، فلا حاجة إلى تسميته؟ - فهي لا تفيد ولا تنفع- أم إن التنكير يشمل كل صاحب سوء يصدّ عن سبيل الله ويضل عن ذكره؟! نعم كل صاحب سوء، يجر صاحبه إلى النار وبئس المصير.. ويرتفع صوته بالويل والبثور، وعظائم الأمور فهو في نار جهنم يتلظى.. لقد أضله صاحبه، فسلك طريق الظلام، وعشش في قلبه الديجور، وكان النور قاب قوسين منه أو أدنى.. بل إنه دخله.. دخله حقاً.. ولكن سرعان ما انسحب منه إلى كهوف الظلام وغسق الكفر.. استمع إلى شيطان الإنس أبَيِّ بن خلف.. صاحبه الذي يَصْـلى معه لهيب جهنم، وتلفحه زفراتها، واستمع إلى وسواس شيطان الجن.. الذي التقم قلبه، فما يصدر إلَّا عن أمره.. وأين الشيطان الآن؟!.. لقد تخليا عنه.. فكل منهما مشغول بمصابه الذي لا يقل بؤساً عن مصابه.. لقد تخليا عنه وخذلاه.. خذله شيطان الإنس وخذله الشيطان الخناس.. الأول يقول: أنا معك هنا أذوق عاقبة الكفر، والثاني يقول: إن الله وعدك وعد الحق، ووعدتك فأخلفتك.. ومن عادتي إخلاف الوعود.. وأنت تعلم ذلك.. ليس لي عليك سلطان، لا تحدق بي، ولا تلمني.. إني دعوتك إلى الكفر فأجبتني.. فذق مرارة كفرك وعنادك، لا أستطيع مساعدتك كما أنك لا تستطيع مساعدتي.. فهما في النار سواء. هل تقف القصة عند هذا الحد؟! إن العاقل اللبيب يتخذ منها عبرة وعظة، ودرساً يلتزمه خيراً ويبعد عنه شراً. ويوم القيامة يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول بملء فيه: ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) (1) ، كيف نكون من أتباعه ونهجره؟!!! إنه لأمر يستحق الوقوف أمامه والتفكر فيه. إنها شكوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومن يشكوه صلى الله عليه وسلم؟؟! أهم المشركون، قد يكون.. ولكن دون شكواه صلى الله عليه وسلم سيدخل هؤلاء النار ويعذبون، أم المسلمون الذين آمنوا بالقرآن نظرياً، وكذبوه عملياً.. والتكذيب العملي أن نترك أحكامه وشريعته فنعطلها.. ونستبدل بها شرعاً أرضياً آخر.. لعمري إنها الثانية.. إنه صلى الله عليه وسلم يشكو الذين تعلموا القرآن وما عَمِلُوا به، وحفظوه في كتبهم وبيوتهم، ولم يُحَكِّموه في حياتهم، وقرأوه في حفلاتهم واجتماعاتهم، ونسوه في تصرفاتهم وسلوكهم.. فالقرآن ما نزل ليتلى فقط، إنما أنزله الله ليكون نوراً يهدي البشرية في حياتها،وضياءً يسطع فينير دربها، يهتدي بهديه المسلمون، ويعمل بشرعته الحاكمون!! فيطرحون كل دخيل ويتمسكون بكل أصيل.. إن لم نعد لله نرفعُ راية للحق، تُبذلُ عندها الأعمار ونصول في ساح العقيدة جحفلاً رُوّاده، ووقوده الأبرار فالنصر لا يأتي بغير عقيدة وبغير عزم ضربه بتار والنصر غال ليس يخطب وده إلَّا الشباب المؤمن الثوار والنصر للإيمان، يزجيه الفدا في درب عزٍ حظَّهُ المختار (1)
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (15) الدكتور عثمان قدري مكانسي من اهل الكتاب والمشركين والمنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه.. سورة الأحزاب [ الآية 53]( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً) نقف في هذه الآية على أدَبين كريمَين من آداب الإسلام نزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولهما: أن المسلمين كانوا، قبل نزول هذه الآية، يسلِّم الرجلُ على أهل البيت ويدخل دون استئذان، ولم يكن للبيوت إذ ذاك أبواب ولم يكن لها-على الأغلب- سُتُر، فقد يرى المرءُ من أهل البيت، ما لم يكن يريد أن يراه الناس من عورته، وقيل : أمر الناس أن يستأذنوا في سورة النور: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) (1) وقيل: إن هذه الآية – في سورة النور- نزلت لعموم المسلمين. أما آية الأحزاب فهي خاصة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روي في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش،- امرأة زيد-، أَوْلَم عليها، فدعا الناس، فلما طَعِمُوا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطالوا الجلوس، وتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأخرهم، ولمّا يَبْنِ بزوجته وكانت جالسة وظهرها إلى القوم!.. ولم يأمرهم بالخروج لحيائه صلى الله عليه وسلم فلما خرجوا نزلت هذه الآية . يقول أنس فانطلق حتى دخل البيت، فذهبتُ أدخلُ معه فألقى السترَ بيني وبينه.. ونزل الحجاب.. قال ووعظ القومَ بما وُعِظوا به، وأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال ابن عباس: نزلتْ هذه الآية في ناس من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعامَ النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلون قبل أن ينضج الطعام فيقعدون إلى أن ينضج، ثم يأكلون ولا يخرجون.. فهم ثقلاء على نفس الداعي، وإن كانوا من المؤمنين، فالذوق مطلوب والتصرف بكياسة ولباقة صفة المسلم، وحسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. لكننا نفهم من هذه القصة ما يلي: ا- إجابة الدعوة لعرس؛ واجبة. 2- الحضور وقت الغداء، والانصراف بعده. 3- مراعاة ظروف أهل البيت، فلم يكن للسيدة زينب سوى غرفة واحدة. ثانيهما: روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال عمر رضي الله عنهما: وافقتُ ربي في أربع.. الحديث وفيه: قلت: يا رسول الله لو ضربتَ على نسائك الحجاب - فإنه يدخل عليهن البَر والفاجر- فانزل الله عز وجل. ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ). وبما أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يعشن في بيت النبوة فهنَّ قدوة للنساء كما أن رسول الله قدوة للرجال.. وقد يسأل السائل عن أمور لا يفعلها الرسول الكريم إلَّا في بيته فتكون أمهات المؤمنين مفتاحَ الجواب الشافي. فإذا أمر الرجال بغض البصر عن النساء المسلمات فأحرى بهم أن يغضوه حين يرون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان المؤمن يغض بصره عن النساء العفيفات اللواتي لا يبدين زينتهنّ، فأولى به أن يغض بصره عمن لا يتحرَّجْن من التكشف والترخّص فهذا أدعى لسلامة قلبه وراحة نفسه.. والمرأة فتنة كلها، عفيفةً كانت أم غير عفيفة، فهي مثار الشهوات وداعية الغواية، "ما تركتُ فتنة من بعدي أشد على الرجال من النساء". وقديماً.. وليس بالقديم الموغل.. قال الشاعر النصراني "القروي" وكان فيه بقية من حياء، حين رأى امرأة تلبس ثوباً يغطي الركبتين، ويكشف ما تحتهما.. قال متعجباً مستنكراً من ذاك "التعري " الفاضح. لحد الركبتين تشمرينا *** بربّكِ أي نهرٍ تعبُرينا فماذا يقول لو أعيد إلى الحياة- ولن يعود أحد-؟ ماذا يقول والنساءُ خلعن ثوب الحياء إلَّا من ورقة التوت.. ماذا يقول وقد تعرّت النساء في النوادي وعلى سواحل البحر وفي الطرقات !؟! وقد عَرَضن أنفسهن سلعاً رخيصة لمن يشتري !!؟ .. أقول على لسانه، ونيابة عنه. خلعت الطهر والخلق المتينا فصرتِ بضاعة للمفسدينا وقلَّدتِ الكوافر دون وعي فعشتِ مهينة دنيا ودينا إن الإسلام حين فرض الحجاب أبعد وسواس الشيطان عن نفس المؤمن والمؤمنة، فلم تقع عيناهما على ما يحرك دواعي الفساد، ونفى الريبة التي تتولد من النظرة "لأن النظرة سهم من سهام إبليس " وأبعدَ التهمة وشدد في الحماية واعتمد مبدأ. "درهمُ وقاية خير من قنطار علاج " بل إنه منع خلوة المرأة بالأجنبي، فلا تقابل المرأة أجنبياً إلَّا مع ذي محرم، وما أعظم فقه عمر بن عبد العزيز إذ قال: " لا تخلونَّ بامرأة ولو كنت تعلمها القرآن ". فماذا نقول، وكثير ممن يدَّعون الإسلام، تخرُج نساؤهم كاسياتٍ عارياتٍ؟!. ماذا نقول وكثير ممن يدَّعون الإسلام يساهرون ضيوفهم رجالاً ونساءً بحجة اللقاءات البريئةَ!، والنظرة الطاهرة، وإكرام الضيف؟!! إذ من المعيب أن تمتنع المرأة عن استقبال ضيوف زوجها!! فهذا تأخر وعمل، رجعي متخلف! أ أما الاختلاط، والنظرة الحرام، وسهام إبليس، والتميع في الحديث والضحكة المتكلفة (البريئة) والمصافحة و.. و.. فالتقدم بعينه.. التقدم! إلى أين ؟إلى غضب الله ومقته. ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً) (1) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رجل من سادات قريش- في نفسه- لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي " قال مقاتل: هو طلحة بن عبد الله". قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدّثَ به نفسه، فمشى إلى مكة من حراء "وقد كان مع رسول الله مع عشرة من أصحابه"، على قدميه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقاً.. فكفّر الله عنه. وقيل ليس بطلحة، إنما هو رجل من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟! والله لو مات لأجَلْنا السهام على نسائه، فنزلت هذه الآية، فحرَّم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهنَّ حكم الأمهات، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم تمييزاً لشرفه، وتنبيهاً على مرتبته صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي رحمه الله: " وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهنَّ، ومن استحل ذلك كان كافراً". وقَرَنَ القرآنُ الكريم إيذاءَ الرسول صلى الله عليه وسلم بزواج نسائه من بعده وجعل ذلك ذنباً عظيماً، فإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من جملة الكبائر، ولا ذنب أعظمُ منه عند الله "إن ذلكم كان عند الله عظيماً ". بل إن الذين يؤذون الرسول الكريم فكأنما يؤذون الله تعالى، وهؤلاء ملعونون في الدنيا والآخرة، وقد أعدّ الله لهم عذاباً مهيناً. إن المسلم ليحمد الله تعالى أن أرسل إليه رسولاً عظيماً رؤوفاً رحيماً. فله الحب والودُّ والإجلال والتقدير مدى الدهور. أقول: أنت الرحيم البَرُّ يا رب أرسلت طه فازدهى العُرْبُ حملوا هداه للورى قُدُماً وبشرعه نوراً جلا الدربُ فله سلام دائم عبِقٌ يزجيه قلب والهٌ صَبٌّ (1) ------------ (1) سورة النور: الآية 27. (1) سورة الآحزاب: الآية 53. (1) ديوان: نبضات قلب، ص 14.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (16) الدكتور عثمان قدري مكانسي "السِّحر" يقال: سحره فلانٌ: خدعه واستماله، وسلب لبُّه. أي سيطر عليه دون وجه حق. ومارس عليه قدرة خارقة لم يقدر على الوقوف أمامها فكان عاجزاً منقاداً.. وبناء على هذا ما من نبي كذبه قومه إلَّا رمَوْه بالسحر. فهذا سيدنا موسى قال له فرعونُ وملؤه، ومنهم السحرة الذين تحدَّوه وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، جعلوا عيبهم فيه، واتهموه بالسحر، وأنه مهما مارس عليهم من أفانين السحر والشعوذة فلن يظفر منهم بطائل، ولن يؤمنوا به ( وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (1) . بل إنهم لما جمعوا السحرة ومنَّوْهم بالزلفى، والمال الوفير، والقرب من فرعون إذا أفلحوا في سحرهم، ولما نصره الله عليهم فأبطل سحرهم وعرّاهم وأيقن السحرةُ أن مع موسى قوةً خارقة ليست لبشر إنما هي لإله.. وظهر الحقُّ وبطل كيدهم.. استكبر فرعون وبطانته ونسوا أنهم جمعوا السحرة ووعدوهم.. وكذّبوا موسى دون أدب ولا ذوق ( فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ) (1) بل إنهم سرعان ما اتهموا السحرة الذين آمنوا برب موسى، بعد أن كانوا أداة بأيديهم وهددوهم بالقتل، اتهموهم بأنهم ما آمنوا بموسى لأنه على حق إنما صدقوه لقوة سحره الذي أبطل سحرهم فتغلب عليهم فانقادوا له- على زعمهم- ( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (2) . وهذا عيسى عليه السلام ظهرت على يديه المعجزات ووضحت في أفعاله البينات، كلَّم الناسَ في المهد، وخلق من الطين بإذن الله الطيرَ، وأبرأ الأكمه والأبرص- بإذن الله- وأخرج الموتى بإذن الله، وأنزل الله تعالى - بناء على طلبهم- مائدة من السماء ومع ذلك، كان الكافرون من اليهود يكذبونه ويتهمونه بالسحر ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ?) (1) . وهؤلاء قوم صالح عليه السلام تأتيهم الناقة آيةً مبصرة يلمسونها ليلَ نهار، يفيدون من شرابها ويرون فضلها وتكون حجة عليهم.. وكان من المفروض على ذوي العقول أن يؤمنوا بصالح عليه السلام، لكنهم يكفرون، ويقولون فيه هجر القول، ويسخرون منه.. لماذا أرسل الله بشراً مثلهم.. ونسوا أن الله أرسل إليهم رسولاً منهم يقيم الحجة عليهم ، ولو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزل الله عليهم رسولاً ملكاً.. فيتهمونه بالسحر.. بل يعتبرونه مسحّراً.. فهو رجل مسحور!! وأنى لرجل مسحور أن يدعوهم إلى التوحيد ومكارم الأخلاق؟!!. ومن العجيب أنه كان مرجوّاً عندهم صادقاً محبوباً قبل أن يكون نبياً.. فلما دعاهم إلى عبادة الله جعلوه كاذباً وشكُّوا في أمره.. والحقيقة أنهم كَذَبةٌ مثلهم كمثل كلِّ من كذبوا الرسل.. بل إن الرسل جميعاً وُصفوا بالسحر، وكانوا في زعم الكافرين ساحرين، ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (1) . فلا عجب أن يتّهموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالسحر فيقولوا: ( إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (2) ولما رأوا القمر بإذن الله منفلقاً أعرضوا وكذبوا وقالوا : (سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) (3). وحين أكد لهم الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله سيحاسب الكافرين يوم القيامة على كفرهم وتكذيبهم قالوا متهمين سيد البشر ( إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ) (4). وحين ذهب الوليد إليه صلى الله عليه وسلم وعرض عليه ما عرضه قومه من مُلك، ورياسة، ومال ونساءٍ وطب فاسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم بعض آيات من القرآن الكريم.. عاد الوليد إلى قومه، فقالوا: عاد الوليد إليكم- والله- بغير الوجه الذي ذهب به، وسألوه فقال لهم: لقد سمعت من محمد عليه الصلاة والسلامُ كلاماً ما هو بشعر ولا كهانة، ولا سحر.. فقالوا :صبا - والله- الوليد.. فأخذته العزة بالإثم، ثم فكر، وقدر، فوصل إلى جهالة، وضلالة، فقال إنه سحر، ألا ترون أنه يفرق به المرء وزوجه، والأب وابنه.. "إن هذا إلَّا سحر يؤثر. إن هذا إلَّا قول البشر" ولو فكر ملياً وهداه الله لَعَلِمَ أن الذي يفرق بين الأب والابن، والزوج وزوجته إصرارُ أحدهما على الكفر، ودخول الآخر في دين التوحيد.. ولكن أنَّى له ولأمثاله أن يتفهموا أن الولاء لله وحده، وأن الناس يوم القيامة يُفصل بينهم، فمن كتب له السعادة كان من أهل الجنة، ومن كتب عليه الشقاء كان من أهل النار، وأنه لا أنساب يوم القيامة بين الناس. إنَّ العقيدة هي الفيصل في التعامل في الدنيا والآخرة. وهذا ما فهمه مصعب بن عمير رضي الله عنه حين اُسِرَ أخوه أبو عزيز في بدر، فقال لمصعب أوصِ المسلم الذي أسرني بي يا أخي.. فقال مصعب للمسلم: أشدد عليه يا أخي فإن له أماً غنية تفديه.. فتعجب أبو عزيز وقال: أهذه وصاتك بي يا أخي.. قال مصعب بعزة المسلم: " صه فإنه أخي من دونك.. ". أما السحر فإن أهله لا يفلحون ( أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (1) . إنه الإيمان الذي يحدد وجهة الإنسان ويدفعه إلى ركب إخوانه في العقيدة لا يعرف سواهم ولا يأبه بغيرهم.. (1) سورة الأعراف: الآية 132. (1) سورة يونس: الآية 76. (2) سورة الشعراء: الآية 49. (1) سورة المائدة: الآية 110. (1) سورة الذاريات: الآية 52. (2) سورة سبا: الآية 43. (3) سورة القمر: الآية 2. (4) سورة هود: الآية 7. (1) سورة يونس: الآية 77.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (17) الدكتور عثمان قدري مكانسي " الجنون " ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه.. الجنون في اللغة: زوال العقل، وكل ما اشتق من (جنّ) فعلٌ دلَّ على الاستتار. فالجَنَّةُ: مأوى المؤمنين في الآخرة، لا نراها فهي مستورة عن إدراكنا البصري. الجانُّ: مخلوقات تعيش بيننا، لا نراها. الجَنين: من كان في بطن أمه، لا تراه أعيننا. المَجِنُّ: الترس الذي يقينا ضربات السيوف وطعنات الرماح. وجعل الكافرون للداعية العظيم محمد صلى الله عليه وسلم نصيباً من صفة الجنون، ولا يضيره فالله تعالى برّأه مما قالوا: ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) (1) . فتعالوا معي نستعرض افتراءات الكافرين بهذه الصفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . أولاً: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كان الذي يأتيك رِئِيّا بذلنا لك حتى تبرأ.. إذاً فالنبي- بزعمهم- يتراءى له جني ،فتختلط عليه الأمور فيتكلم بما لا يعرفون.. وهذا أمر عجيب من وجوه كثيرة منها: 1- أن كثيراً من قبائل العرب كانت تعبد الجنَّ ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ )(1) . فكان أولى بهم أن يتبعوه صلى الله عليه وسلم لأن آلهتهم التي يعبدونها أكرمت!! محمداً!!! فهي تتراءى له. وعلى الرغم من أن هذا الزعم باطل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم برأه الله تعالى من هذا الافتراض فقال سبحانه: ( مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم) (2) وجعلوا له قريناً من الجنِّ. 2- والجن والشياطين أعداء للبشر. هذا ما قاله أبوهم إبليس: ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (3) فإذا كان الجن يتراءى له، فكيف يأمره بالإخلاص في عبادة الله، ومكارم الأخلاق؟ وكيف يأتيه بشريعة عظيمة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها، إن الرجال الذين يتعاملون مع الجن ينالهم الأذى منهم، ويصرعون، ويهرفون بما لا يعرفون ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (1) ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على خلق عظيم شهد به الأعداء الكافرون قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فهو الصادق الأمين. وهل يكون من يأتيه الجن كذلك؟!!. 3- ومن العجيب أنهم يقولون ( مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ( (2) ، فهناك مِن الجن من يعلمه! أفلا سالوا أنفسهم: إن كان هذا حقاً فلِمَ لم يأتوا بمثل هذا القرآن، وهذا العلم؟ وكثير من العرب يعبدون الجن، ولبعضهم معهم الكثير من العلائق؟! إن العرب جميعاً من القدم وحتى الآن يعجزون أن يأتوا بمثل هذا القرآن وهؤلاء الجن بين أظهرنا.. أفلم يظهر- على حد زعمهم- جنيّ فذٌّ عبقري يعلمهم ما تعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! إنه الافتراء العظيم والكذب المبين!! إنَّ هذا القرآن من عند خالق البشر والجان ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (3) . لكن الكافر حين يريد التفلُّت من التكليف يرمي الصادقين بما ليس فيهم، ويفتري عليهم دون إثبات، وليس لهم قدرة على الوقوف أمام الحق، لذلك تراهم يتّهمون رسول الله بالتعامل مع الجن وينتظرون موته ليتخلصوا منه. (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (1) . بل إن الله ليفضحهم فيخرج ما في نفوسهم ويعرّيهم، فهم يكرهون الحق فيؤذون صاحبه: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (2) . ثانيا: وصفوه عليه الصلاة والسلام بالجنون ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ) (3) وهذا ساقط من وجوه عدة أذكر منها: ا- أن هذه الأسطوانة مكررة، سمعها الأنبياء عليهم الصلوات والسلام من كفارهم كثيراً، وليس رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بدعاً من الرسل- فهو صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء يَصدرون عن مشكاة واحدة فلا غرو أن يصيبه ما أصابهم من تعنت الكافرين، فهذا فرعون يقول لأتباعه والأذلاء مِن حوله معرضاً بموسى عليه السلام ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (1) ولماذا يصفه إذ ذاك بالجنون؟! ولماذا- حين شعر أن ثوب الألوهية المزيف سقط عنه- رمى موسى بالجنون؟ إنه أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان.. وما أكثر ما نراه في هذه الأيام الرديئة. حين نرى الفسقة والمجرمين ممن يَلُون الأمور يرمون المسلمين بالسّفه، وضعف العقل، وعدم مسايرة ركب الحضارة... والجنون!!!. 2- لم نر مجنوناً جاء بعلم أو شريعة أو قاد عقلاء، إلَّا أن يكونوا مجانين مثله، أو لا حول لهم ولا قوة، بالقهر والإرهاب!!، ولم يكن المجنون يوماً من الأيام صاحب مبدأ.. فالمبدأ في العقل، وأين منه العقل؟!! إنك تراه مرة يضحك دون سبب ويبكي دون سبب، يفعل بنفسه ما لا يفعله به العدو، لا وقار له ولا حلم، سقطت عنه التكاليف فلا يسأل عما يفعل.. ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنوناً- وحاشاه ثم حاشاه- ما جاءوا إليه يعرضون المال، والرياسة، والنساء، والملك.. فالمجنون على حدّ زعمهم لا يخشى منه فلماذا يخشون من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.. إنهم يكذبون ويكذبون، ويسيئون ويؤذون.. كي يتخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، ويتركهم يعيشون على هواهم كما تعيش الأنعام ،لكنه رسول.. والرسول عليه أن يدعو إلى الله ويتحمل أذى المشركين ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) (1) . ويصرون على أنه مجنون ،وينظرون إليه صلى الله عليه وسلم بغضب ويتمنون انزلاقه وسقوطه ويأبى الله إلَّا أن يرفع شانه. ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (2) . 3- لم يسمع التاريخ بمجنون هو عند قومه الصادق الأمين، يودعون عنده الودائع، ويستشيرونه في ملمات الأمور،ويعتبرونه في الذروة من الشرف فيهم ويقرّون بفضله، ويُحَكِّمونه فيهم (رفع الحجر الأسود)ويزوجونه خير نسائهم، صلَّى الله عليه وسلّم.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (18) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة يس [ الآيتان 7، 8] ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ) . كلما قرأت قوله تعالى: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (1) شعرت كأن القلب نَبَضَ سريعاً وتفتحت مساماته، فدخلته النسائم الباردة المنعشة ثم تحرك واضطرب نشوانَ، فلا يهدأ حتى يحسَّ أنه ضم بين جوانحه حبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الداعية القدوة الذي أوذي في الله، ومكرَ أعداءُ الله به فحماه الله تعالى وعصمه من الناس.نَزَلَت: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً) في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين- كما قيل- وذلك أن أبا جهل حلف :لئن رأى رسول الله ليرضخنَّ رأسه بحجر، فلما رآه رفعَ حجراً ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه،والتصق الحجر بيده(قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما) فهو بمنزلة من غُلت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما جرى له. فقال الرجل الثاني- الوليد بن المغيرة- أنا أرضخ رأسه، فأتاه وهو يصلي ليرميه، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه ،فلم يرهم حتى نادَوه، فقال: والله ما رأيته ولكن سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشرخنَّ أنا رأسه، ثم أخذ الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خرَّ على قفاه مغشياً عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيتُ الرجل، فلما دنوت منه، وإذا فَحْلٌ يخطر بذَنَبه، ما رأيت فحلاً قط أعظم منه، حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني، وكان فعلهم هذا سبباً في ضلالهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتصم بقراءة القرآن، ومنه ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً) (1) . وقد نزلت هذه الآية في "أم جميل " زوجة أبي لهب. روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قال: لما نزلت سورة " تبت يدا أبي لهب وتب.. " أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر (حجر) وهي تقول: مذمَّماً عصينا، وأمرَهُ أبَيْنا، ودينَه قَلَيْنا. والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبَلتْ، وأنا أخاف أن تراك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لن تراني، وقرأ: "وإذا قرأتَ القرآن..." فوقفتْ على أبي بكر رضي الله عنه، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا أبا بكر أُخبِرتُ أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، قال: فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال: لو تنحيت عنها لئلا تُسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيّة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنه سيحال بيني وبينها " فلم تره.. فقال الصديق: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: لا، ما زل ملكٌ بيني وبينها يسترني حتى ذهبت. قال كعب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات: 1- الآية التي في الكهف: ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً) (1). 2- والآية التي في النحل: ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (2) . 3- والآية التي في الجاثية: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) (3). هذا بالإضافة إلى هاتين الآيتين من سورة يس، فقد ذكرت السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي رضي الله عنه في فراشه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأخذ يقرأ هاتين الآيتين وأخذ حفنة من تراب ذرَّها في وجوه القوم الذين أحاطوا ببيته صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، فلم يدروا بخروجه ولم يبق رجل إلَّاوقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن ينصرف . وقد ذكر القرطبي في تفسيره قال: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن "منثور" من أعمال قرطبة مثل هذا، وذلك أني هربت أمام العدو، وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان، وأنا في فضاء من الأرض قاعدٌ ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس، وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي، ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا شيطان!، وأعمى الله أبصارهما فلم يرياني، والحمد لله حمداً كثيراً على ذلك. ما مرَّ تبيان للحفظ عن الرؤية البصرية.. فماذا عن الرؤية القلبية؟ الحقيقة أن الرؤية البصرية إذا ضعفت أو تلاشت فإنما هي نتاج لانعدام الرؤية القلبية.. فالإنسان حين ينعدم النور من قلبه ويتلاشى الإيمان من فؤاده ولا يرى إلَّا أهواءه، وأهواءه فقط، فكأنما صفَّدته أهواؤه في يديه ،وأحاطت عنقه فحصرته في مجال واحد.. الغل يرفع ذقنه فيرتفع وجهه، فيعشي النور بصره، فيغمض عينيه لا يرى من جمال الحق شيئاً، منظره الخارجي منظر الذي يرفع رأسه استكباراً، وإغماضُ عينيه عن النور تعبيرٌ عن الترفع عن الإيمان والإعراضِ عنه، ثم يوضع أمامه سدٌّ فيمنع عنه الضياء، وخلفه سدٌّ فيمنعه عنه النور.. فإذا هو في ظلام يحوطه من الجهات ،فلا يرى الحقَّ فينكفئ إلى ظلمات جهله، يَهِيْمُ فيها لا يلوي على شيء. هكذا يعيش الكفار.. لا أمل، لا هدف سامياً، حياة كلها شقاء، وبؤس، إنهم يظنون إنهم على هدى.. لماذا؟ لأن الكبر والعناد يمنع صاحبه التفكير والبحث عن الحقيقة.. فيظن الخير في نفسه وهو في الواقع يتخبط في ضلال الكفر وظلام الشرك..
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (20) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة الحُجُرات [ الآيات 1- 5 ] ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن الجزء السادس والعشرين، متحدثاً في هذا الأدب العظيم الذي يجب أن يكونه المسلم في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم: تبدأ السورة بأول نداء حبيب، وأول استجاشة للقلوب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) نداءٌ من الله للذين آمنوا به بالغيب. واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم له، وأنهم يحملون شارته، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنهم هنا لأمر يقدّره ويريده، وأنه حبَّبَ إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختياراً لهم ومنَّةٌ عليهم، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم، ويسلم ويستلم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يا أيها الذين آمنوا، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحاً، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم. ولا تقولوا في أمر قبل قولِ الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله. قال قتادة: ذُكِر لنا أن ناساً كانوا يقولون: لو أنزل في كذا كذا. لو صح كذا. فكره الله تعالى ذلك. وقال العوفي: نهوا أن يتكملوا بين يديه، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه. وقال الضاحك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم. وقال علي بن عباس رضي الله عنهما: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. فهو أدب نفسي مع الله ورسوله. وهو منهج في التلقي والتنفيذ. وهو أصل التشريع والعمل في الوقت ذاته.. وهو منبثق من تقوى الله، وراجع إليها. هذه التقوى النابعة من الشعور بان الله عليم.. وكل ذلك في آية واحدة قصيرة، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصيلة الكبيرة. وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدلي به؟ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم، إلَّا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول.. روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بإسناده عن معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن:" بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: " فإن لم تجد؟! قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:" فإن لم تجد؟" قال رضي الله عنه: أجتهد رأي. فضرب في صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله ". وحتى لكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألهم عن اليوم الذي هم فيه، والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلَّا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدُّمٌ بين يدي الله ورسوله! جاء في حديث أبي بكرة بن الحارث الثقفي- رضي الله عنه- أن النبيصلى الله عليه وسلم سأل في حجة الوداع: " أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: "أليس ذا الحجة؟" قلنا: بلى! قال: "أي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: " أليس البلد الحرام؟ " قلنا: بلى! قال: "فأي يوم هذا؟ ! قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى!.. إلخ. فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى، تقوى الله السميع العليم. والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب؟ وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم؛ ويميز شخص رسول الله بينهم، ويميز مجلسه فيهم؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب؛ ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (1). يا أيها الذين آمنوا.. ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان.. أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.. ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم، وهم غير شاعرين ولا عالمين، ليتقوه!. ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب، وهذا التحذير المرهوب، عمله العميق الشديد: قال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي، حدثنا نافع بن عمر، عن أبي مليكة. قال: كاد الخيران أنْ يهلكا.. أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.. رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم (في السنة التاسعة من الهجرة) فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع (أي ليؤمره عليهم)، وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع: لا أحفظ اسمه (في رواية أخرى أن أسمه القعقاع بن معبد) فقال: أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت الَّا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك. فانزل الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). قال ابن الزبير رضي الله عنه: فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه!.. وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لما نزلت هذه الآية: قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلَّا كأخي السرار (يعني كالهمس !). وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت. فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا من أهل النار. حبط عملي. وجلس في أهله حزيناً. ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مالك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر بالقول. حبط عملي. أنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بل هو من أهل الجنة". قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرعيب؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون. ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم، فخافوه واتقوه! ونوّه الله بتقواهم، وغضِّهم أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير عجيب: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). فالتقوى هبة عظيمة، يختار الله لها القلوب بعد امتحان واختبار، وبعد تخليص وتمحيص، فلا يضعها في قلب إلَّا وقد تهيأ لها، وقد ثبت أنه يستحقها. والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة. هبة التقوى. وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم. إنه الترغيب العميق، بعد التحذير المخيف. بها يربّي الله قلوب عباده المختارين، ويعدها للأمر العظيم. الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور. وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً!. وعرف علماء هذه الأمة وقالوا: إنه يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام احتراماً له في كل حال. ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام التاسع. الذي سمّى " عام الوفود".. لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة، ودخولهم في الإسلام، وكانوا أعراباً جفاة، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطلّة على المسجد النبوي الشريف، يا محمد اخرج لنا، فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجفوة وهذا الإزعاج، فنزل قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) . فوصفهم الله بان أكثرهم لا يعقلون. وكرّه إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وحرمة رسول الله القائد والمربي. وبيّن لهم الأولى والأفضل، وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم. وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغَّبهم في المغفرة والرحمة. وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم. لا يزعجونه حتى يخرج إليهم؟ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم..
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |