الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 20 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قد كان لي قلب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          قيم عائلية مهمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إن الله يحول بين المرء وقلبه.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 18761 )           »          قناديل على الدرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 6309 )           »          أخلاق العمل في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 12475 )           »          بركـــة طعــام المسلـم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أهم تيارات التكفير والعنف ودور الدعوة السلفية في مواجهتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 615 )           »          خشـونـة الركـبـة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-08-2025, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (193) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة العاشرة:
في قوله -سبحانه- عن إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) هذا التعليل في قوله: (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) أي: لأن الشيطان كان للرحمن عصيًا؛ فهذه العلة تقتضي أن كل مَن كان للرحمن عصيًّا لا تجوز طاعته ولا متابعته، فالشيطان عاصٍ للرحمن، وشياطين الإنس كذلك عصاة للرحمن، وكل مَن عصى الله -عز وجل- لا يُطاع في معصية الله، ولا يُتابَع؛ وإلا كان على سبيل عبادته أو مؤديًا إليها -نعوذ بالله من ذلك-.
إن الإنسان لا بد أن يعلم لمن تكون طاعته ومتابعته، فإنما يُتبع الحق، ويتابَع مَن يأمر به، ويتابع من يأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأما من يطيع غيره ممَّن عصى الرحمن؛ فإنما يصير إلى الشقاء ومنع الرحمة، نسأل الله العافية من ذلك.
وإنما الشقاء في هذا العالم بسبب طاعة مَن كان للرحمن عصيًّا، وأعظمه: إبليس؛ فلا تجوز طاعة الآثمين والكفرة؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) (الإنسان: 24)، فلم يجعل الله -عز وجل- للكافر طاعة على مؤمن، بل ولا آثمًا ظاهر الإثم، وإن كان هذا فيه تفصيل، إن كان مسلمًا وأمر بطاعة الله في أمرٍ أطيع في ذلك وأجيب إليه، وإن كان آمرًا بالإثم والمعصية؛ فلا يُطاع في ذلك باتفاق أهل العلم.
والظالمون لا يصلحون أن يكونوا أئمة للناس؛ قال الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- مجازاة له على إتمامه الكلمات التي أمره الله -عز وجل- بها؛ قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، فليس الظالمون داخلين فيمَن أُمِر الناس باتباعهم وطاعتهم، وإذا كان لا تُقبَل شهادة الظالم في باقة بقلٍ؛ فلا يجوز أن يُطَاع، وأن يوسد الأمر إليه فيما هو أكثر من ذلك؛ فلا يكون الظالم إمامًا؛ لا في الإمامة العامة إلا أن يتغلب عليها، وهو مسلم، ويحكم بما أنزل الله في الجملة فيُطَاع فيما فيه طاعة الله -عز وجل-، ومصلحة المسلمين، وأما أن يطاع طاعة مطلقة فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يجعل كالخلفاء الراشدين الذين يجمعون بين صفة العدالة وصفة العِلْم.
فالإمام لا بد وأن يكون في شرع الله -عز وجل- عدلًا عالمًا، وأما مَن لم يكن عالمًا، أو لم يكن عادلًا، أو من لم يكن لا عالمًا ولا عادلًا؛ فإنما تجب طاعته فقط فيما عُرِف أنه طاعة؛ تشرع طاعته وجوبًا في الواجبات، ومستحبًا في المستحبات، ولا يصح أن يكون له دون أهل العلم الثِّقَات العدول، العلماء بشرع الله -عز وجل- كتابًا وسنة، أن يقيد المباحات، أو أن يوازن بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، فإن عدم علمه أو عدم عدالته يقدح في هذه الصلاحيات.
ولذا فإن ولاية الناس يجب أن تكون فيمن اتقى الله، ولا يجوز في ولاية القضاء أن يولَّى من ليس بعالم ولا عادل، ولا في الفتيا ولا في تعليم الناس الدِّين، ولا في الشهادة في الخصومات؛ فإن ذلك كله داخل في قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)؛ لأن كلًّا مِن هؤلاء يُؤم -أي: يقصد-، فيكون إمامًا -أي: متبعًا- فيما يقول فيه.
ولا يجوز أن يُولَّى على الناس مَن يأمرهم بعبادة غير الله من الكفرة والمنافقين الذين ظهر نفاقهم الأكبر، ومَن يأمرهم بمخالفة شرع الله لاتباع أمر شياطين الإنس والجن، الذين يأمرون بمعصية الرحمن؛ فكيف يقال للناس: يلزمكم أن تطيعوا طالما أنكم في سلطان الكفرة الذين ينهونكم عن طاعة الله وأن هذا هو حقهم حتى ولو كانوا كفارًا؟!
فكيف يكون الباطل سببًا لرد الحق؟!
وكيف يكون الكفر سببًا يخول للإنسان أن ينهى غيره عن عبادة الله؟!
أكانت الأرض أرض الكفرة والظلمة والمجرمين أم هي أرض الله؟!
بل الأرض لله، والعباد عباده؛ فلا بد أن يطيعوا ربهم.
ولنقل لكل المؤمنين في الأرض: لا تطيعوا مَن كان للرحمن عصيًّا، ولا تطيعوا مَن يأمر بمخالفة شرع الله -سبحانه وتعالى-.
وإن كان لا بد أن نفرِّق في قضية ولاية الكفار على المسلمين وبطلانها بين مَن هو كافر نوعًا وعينًا، وبين من قال أو فعل كفرًا بجهل أو تأويل، أو إكراه، أو أي عذر من أعذار المكلَّف التي تمنع تكفيره حتى ولو كان آثمًا، فإن ذلك لا بد من مراعاته، فقبل أن نحكم على شخص نطق الشهادتين، وأظهر شعائر الإسلام؛ لا بد أن نستوفي الشروط وتنتفي الموانع قبل أن يحكم على شخصه بالكفر، لا بمجرد وجود مخالفة تحتمل تأويلات، يبادر الناس إلى التكفير؛ فهذا انحراف خطير لا بد من الحذر منه.
ثم نقول: وإن غُلِب الإنسان على أمرٍ فلا يستجيب للمكرِه من أول وهلة، بل لا بد للإكراه أن يكون مع طمأنينة القلب بالإيمان، وليس لمجرد المصالح الوقتية الدنيوية التي يستغني الإنسان عنها، وليس لمجرد الحاجة؛ إنما يرخَّص للإنسان عند المخمصة والمهلكة والضرورة التي تعجزه عن الحياة، أو تفقده حياته وضروراته؛ أما أن يترخص لمجرد نيل شيء من حُطَام الدنيا عند الناس؛ فلتذهب الدنيا إن كانت في معصية الله.
ونسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-08-2025, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (194) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (10)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الحادية عشرة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في دعوته لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) فيه: أنه ينبغي على الداعي إلى الله -عز وجل- أن يكون في قلبه الشفقة والخوف على مَن يدعوه إلى الله -عز وجل-، وأن يظهر ذلك له، وهكذا كانت الرسل دائمًا يخافون على أقوامهم ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الطيبة التي يريد الشيطان ألا يشعر الإنسان بها؛ حتى لا تستجيب الفطرة للدعوة الحق التي هي تطابق الفطرة السليمة؛ العلاقة الطيبة التي بها يستجيب هذا الأب لابنه لأنه مشفق عليه وخائف عليه، ورحيم به، وقد قال مؤمن آل فرعون نفس هذه الكلمة قال الله: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (غافر: 30-33).
والأنبياء قبل ذلك قالوا هذه الكلمة: قال الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 59)، وقال هود -عليه السلام-: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ . أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ . وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 132-135)، وقال شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (هود: 84).
وقال الله -عز وجل- مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود: 3).
فلا بد أيها الداعي إلى الله أن تكون أولًا خائفًا على الناس؛ لا يكون همك أن تدخلهم النار، أو تحكم عليهم بها، أو تحكم عليهم بأنواع العقوبات، أو تنالهم بها، وإنما تريد لهم الخير والنجاة، وتخاف عليهم فعلًا، وتشفق عليهم؛ فالدعاة إلى الله أتباع الأنبياء يخافون على الناس ويرفقون بهم، وهذا الرفق وهذه الشفقة تحيي في القلوب الفطرة السليمة في اتباع مَن هذا شأنه، فإذا أظهرتَ صفات الرب الذي هو أرحم بعباده من الأم بولدها، بذكر اسم الرحمن متكررًا في الآيات السابقة: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)، وإذا أظهرت شفقتك على الناس بأنواع مختلفة من الأساليب، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الدعوة، وحصول الخير في قلب المدعو.
الفائدة الثانية عشرة:
قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا): تأمل في قوله: (أَنْ يَمَسَّكَ)؛ فإبراهيم -عليه السلام- يخاف على أبيه من مجرد المسيس؛ أن يمسه شيء من العذاب، هو لا يخاف فقط أن يُلقى في النار، بل هو يخاف مجرد أن يمسه أدنى شيء من العذاب؛ فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، لكن (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)، وهو -عز وجل- كما قال: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام: 58)؛ فيضع الظلم في موضعه، والشكر في موضعه (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، ويضع الهداية في موضعها (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وهكذا فليكن هذا أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، وليكن أسوة حسنة في الصبر والاحتمال حتى ولو لم يجد الداعي أثر لذلك.
قوله -عز وجل-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ): إذا عذبك الرحمن فمَن يرحمك؟! الرحمن الذي صفته اللازمة له الرحمة، فإذا عذَّب فلا يوجد مَن يرحم، الله إذا لم يرحم عبده لم يرحمه أحدٌ غيره؛ فهو الرحمن، وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واقترفه، وليس لأن الله لم يعطه ما يستحقه، إنما العبد هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الله، وعذاب الرحمن؛ فالرحمة أحب إليه -سبحانه- من العذاب، ورحمته تغلب غضبه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌اللهَ ‌كَتَبَ ‌كِتَابًا ‌قَبْلَ ‌أَنْ ‌يَخْلُقَ ‌الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) (متفق عليه)، والله كتب على نفسه الرحمة كما قال -تعالى-: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الأنعام: 12)، ورحمته وسعت كل شيء، فإذا عذَّب الإنسان فقد خرج من أي رحمة محتملة؛ لذا لا ترحمه الملائكة، ولا يرحمه المؤمنون، ولا يرحمه شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحدٌ، ولا ترحمه النار، ويمقت نفسه ويبغضها، وأهل النار يسترحمون خزنة النار: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) (غافر: 49، 50).
وكذلك يسترحمون مالكًا فلا يرحمهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77)، فيسترحمون المؤمنين فلا يرحمونهم: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ? قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعراف: 50).
فإذا كان الإنسان قد خرج من رحمة الرحمن الرحيم فلن يرحمه أحد، فهذا الذي ينبغي أن يُدعَى به إلى الله، أن يريد أن يرحمنا بالإيمان وبالإسلام والإحسان، فإذا لم نفعل استحققنا عذاب الرحمن، وإذا عذَّب الرحمن فلن يجد الإنسان رحمة عند غيره.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-08-2025, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (195) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الثالثة عشرة:
في قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي: تكون من أولياء الشيطان، ومن المقرَّبين منه؛ فتشقى شقاءً لا نعيم بعده أبدًا، وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، وإنما يتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقرَّبون إلى الله، وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وعلى قَدْر قربه يكون نعيمه في الدنيا والآخرة، وإن كان لا يمكنه أن يتقرَّب ببدنه، وإنما يتقرب بروحه؛ أما في الآخرة فإنه يكون قريبًا بروحه وبدنه معًا في الجنة، وقال الله -عز وجل-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19)؛ فلذا يسجد المقرَّبون لله، ومن سجد تقرب إلى الله، والله يقترب منه؛ إثابة منه لتقربه إليه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي ‌أَتَيْتُهُ ‌هَرْوَلَةً) (متفق عليه).
فمَن قرب مِن الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي وبعُد عن الله؛ لأن الشطان مطرود ومُبْعَد عن الله -عز وجل-؛ كما قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 78)؛ أي: عليه الإبعاد من رحمة الله، والبعد عن الله أعظم شقاء للإنسان، وإنما المعاصي هي سبب البُعد، وأعظمها: الكفر، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله وقرب من الشيطان، فالشياطين تأوي إلى كل قبيح؛ ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن في مجالس الفسوق والعصيان عذابًا للإنسان -نعوذ بالله من ذلك، ونعوذ بالله من ولاية الشيطان-.
والقرب من الشيطان وطاعة الشيطان متلازمان، ومَن أطاع الشيطان كان معذبًا في دنياه قبل أخراه؛ لضيق صدره وعدم انشراح قلبه، قال الله -عز وجل-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125).
وقال الله -عز وجل- عن قوم نوح: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود: 60).
وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ) (هود: 68)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (هود: 95)، وقال -عز وجل-: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، وقال -سبحانه وتعالى-: (فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، وكل هذا لأنهم اقتربوا من الشيطان، فبعدوا عن الرحمن -نعوذ بالله من ولاية الشيطان-.
الفائدة الرابعة عشرة:
الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء، وهذه الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومع ذلك؛ فعلى الداعي أن يكون مستعدًا في نفسه لعدم قبول دعوته فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم -عليه السلام- استعمل أربعة أساليب؛ استعمل الحجج العقلية: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، واستعمل المؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، واستعمل أحسن الأدب مع أبيه، وترفَّق له أعظم الترفق، وأحسن إليه، فناداه مرات بـ(يَا أَبَتِ)، ووعده بالاستغفار له، وأبوه آذر قد صُدَّ عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح؛ لا لحجة عقلية، ولا لوجدان عاطفي، ولا لرفقه به وخوفه عليه (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)؛ حين يذكِّره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله؛ يرجيه ويخوفه، ومع ذلك لا يتذكر! يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان في الكفر التي هي عبادة له، وأنه يقترب بذلك منه، ويكون له وليًّا، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة بعده أبدًا، ومع ذلك فالقلب مغلق، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ ‌مِنْ ‌أَصَابِعِ ‌الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ ‌قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ ‌أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ‌ثَبِّتْ قَلْبِي ‌عَلَى ‌دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فليست ثمرة الدعوة بالضرورة تظهر في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين -ولو كان من الأقربين-؛ فالنور الذي عند إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- نور يكفي البشرية عبر الزمان والمكان، وبهذا النور انتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله منسوبة إليه؛ قال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، والله له الحكمة البالغة، وهو يجعل في إبراهيم الأسوة الحسنة، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العِبَاد: أن الله -عز وجل- يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، وأن القلوب بيده يصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ ‌لَمْ ‌يُسْرِعْ ‌بِهِ ‌نَسَبُهُ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا ‌إِنَّ ‌آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ؛ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ، ‌وَصَالِحُ ‌الْمُؤْمِنِينَ) (متفق عليه).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 16-08-2025, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (197)

دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (13)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة السابعة عشرة:
قوله -سبحانه وتعالى-: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ): الاستفهام فيه للتقرير؛ فقد أيقن أبو إبراهيم، أن إبراهيم راغب عن آلهته؛ فلذلك قام بتوعده وتهديده: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ).
وفي قوله: (لَأَرْجُمَنَّكَ) قولان: أي: لأشتمنك. وقيل. لأرجمنك بالحجارة، وهو أقرب إلى ظاهر اللفظ، وذلك أنه كان يؤذيه بالكلام؛ فالظاهر أنه أراد الزيادة على ذلك الكلام بالزيادة بالأذية بالفعل، فقال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ)، وكذلك قالها قوم نوح لنوح -عليه الصلاة والسلام- حين دعاهم إلى الله، فقالوا له حتى يترك الدعوة إلى الله: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (الشعراء: 116)، وقال قوم لوط للوط -عليه السلام-: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (الشعراء: 167)، وقالها قوم شعيب لشعيب -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) (الأعراف: 88، 89).
وكذا قالها فرعون لموسى -عليه السلام-: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء: 29)، وقال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) (غافر: 26).
وكذا قالتها الأقوام لرسلهم؛ كانوا دائمًا يهدِّدونهم بالإخراج من الأرض، أو بالرجم، أو بالقتل، وأنواع التهديد؛ قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم: 13، 14).
فالتهجير والإخراج من الأرض، قضية قديمة قِدَم الصراع بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، ونسأل الله أن يردَّ كيدَ أعداء المسلمين في نحورهم.
وفي زماننا كم يقول كثيرٌ من الآباء والأقارب لمن يدعو إلى الله، ويظهِر الالتزام، ويطلق اللحية، وتلبس النقاب؛ فيهددونهم بالإخراج من البيت إن لم يرجعوا إلى ما كانوا عليه؛ فلا بد أن يتوقع الداعي إلى الله أنواع التهديد إذا استمر في طريق الدعوة والالتزام، ولكن هذا لا يثنيه -ولو فعلوا ما فعلوا-؛ فإنه صاحب رسالة يؤديها، وهو متبع للأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فهو يدعو إلى الله بكلِّ ما يستطيع، وبكل ما يمكنه، ولا يؤثر فيه هذا التخويف؛ لأن فكره في يوم القيامة، وخوفه من وعيد الله -عز وجل- يذهب من قلبه خوف الناس، وذلك أن خوفه من الله أكثر -بما لا وجه للمقارنة- مما يخافه من وعيد الناس، بل خوف الله -عز وجل- يذهب من قلبه خوف الناس؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175).
فهذا التهديد والوعيد لا يوقف الداعي إلى الله، وإن كان استعماله لوسائل الدعوة وانتقاؤه للشخص والمكان قد يختلف؛ فقد يعرض عن قوم وينشغل بغيرهم، ويرحل عن بلدٍ ويتجه إلى بلدٍ آخر؛ كما هاجر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وذهب إلى ربِّه؛ فأبدله الله خيرًا من قومه، (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات: 99)، واعتزلهم بعد حين، بعد أن بلَّغ دعوة الحق، وهكذا هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، كما أمره الله -عز وجل-، فقال: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) (الذاريات: 54)، وهاجر أصحابه مرتين إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة.
فمَن أعرض عن ذِكْر الله، وأصرَّ على الإعراض، وذُكِّر مرة بعد أخرى، فلم يتذكر ولم يستجب؛ فلينشغل الداعي إلى الله -عز وجل- بغيره؛ قال الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) (عبس: 1-11).
وقال الله -عز وجل- عن أبي إبراهيم: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي: اهجرني طويلًا طالما بقيت على دينك، وهذا الأذى باللسان مع التهديد بالأذى بالفعل لم يكن من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- رَدٌّ عليه، وهكذا فليوطن الداعي نفسه على ألا ينتصر لنفسه، بل ينشغل بالدعوة إلى الله -عز وجل- في مكان آخر، وفي قوم آخرين؛ إن عجز عن إقامتها ونشرها في مكانٍ ما.
الفائدة الثامنة عشرة:
قوله -عز وجل-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): ليس هذا من باب التحية، ولكن من باب مقابلة الإساءة بالإحسان؛ أي: ستسلم مني، وأنت مني في سلام؛ فهو لا يحييه؛ لأن الكلام لم يبدأ بتلك العبارة: "سلام عليك"، ولا أنه قصد التحية التي لا يُشرَع أن يُبدأ بها الكفار حتى نحتاج إلى الجمع بين الآية الكريمة وبين قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ ‌إِلَى ‌أَضْيَقِهِ) (رواه مسلم)، فليس هناك حاجة إلى أن نقول: إن هذا شرع مَن قلبنا، وشرعنا أتى بخلافه في عدم البدء بالتحية والسلام، بل لم يكن كلام إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- تحية حتى يحتاج إلى ذلك.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا راسل ملوك الكفار، لم يبدأهم بتحية، وإنما يقول: "سلام على مَن اتبع الهدى"، أو: "السلام على مَن اتبع الهدى" -كما في رسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل-، وليس ذلك بتحية لهم؛ لأنهم ليسوا ممَّن اتبعوا الهدى؛ لأن التحية إكرام، والكافر لا ينبغي أن يكرم، ولا ينبغي أن يعظَّم، ولا يبجل، ولا يوصف بالأوصاف التي فيها الثناء والتعظيم، والمدح، وإنما يُبيَّن حقارة مذهبه وبطلان طريقته، ولا يكون له التبجيل والتوقير، وإنما ذلك لأهل الإيمان؛ فلا يبدأ الكافر بالتحية، وإن بدأ هو رُدَّت عليه كما شرع الله؛ قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء: 86).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِذَا ‌سَلَّمَ ‌عَلَيْكُمْ ‌أَهْلُ ‌الْكِتَابِ، ‌فَقُولُوا: ‌وَعَلَيْكُمْ) (متفق عليه).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16-08-2025, 03:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (198)

دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (14)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة التاسعة عشرة:
في قوله -سبحانه وتعالى-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): لم يرد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الأذى بأذى، ولم يرد الكلمة السيئة بكلمة سيئة مثلها، ولم يرد التهديد بالتهديد، وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله فقه الدعوة إلى الله؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 34-35)، وهذه منزلة لا يلقَّاها ولا يوفَّق لها إلا ذو حظ عظيم؛ أن يقابل الإساءة بالإحسان، كما قال ربنا -عز وجل-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 96).
حتى يأذن الله له بالانتصار لدينه، ويمكِّن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله به بالقوة التي شرعها الله، وعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَبِكَ ‌خَاصَمْتُ، ‌وَإِلَيْكَ ‌حَاكَمْتُ) (متفق عليه)، وأما قبل أن يأذن الله بذلك، وقبل أن توجد إمكانية نصر الحق بالقوة التي شرعها الله -عز وجل-؛ فالواجب المشروع له هو الصبر ومقابلة الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55)؛ كما قال -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63)، وقال -عز وجل-: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (القصص: 54).
وأنت أيها المسلم ينبغي أن تعامل الناس بذلك: في دعوتك إلى الله، وهذا من أعظم ما يجعل للدعوة القبول بين الناس، فإنك إذا واجهت كلَّ إساءةٍ إليك، بإساءةٍ مثلها، وإذا عاقبت دائمًا بمثل ما عُوقِبت به؛ لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول مَن صبر واحتسب، وهذا يتأكد مع أهل الإسلام، وليس بمنسوخ قط في حقهم، وإنما الكلام على النسخ مع الكفار.
والحقيقة: أنه ليس منسوخًا، لكنه خاص بوقت معين؛ عندما تكون المصلحة الشرعية المعتبرة في الصبر، لا في مقابلة السيئة بالسيئة، ولا في الانتصار، وقد قال الله -عز وجل-: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43)، بعد قوله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى: 39).
إذًا الأمور تتفاوت وتختلف من حال إلى حال، وكم من محاولة للانتصار من البغي دون ضبطِ شروط هذا الانتصار، وإمكانيته والقدرة عليه؛ أدَّت إلى مزيدٍ من الظلم والبغي والعدوان، وأذى المسلمين المتعدي إلى غيرهم، والمسلم لا يجوز أن يتسبب في أذى غيره من المسلمين؛ بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
إن الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يحقق مقاصده المشروعة مِن ذلك، وهو: إعزاز دين الله، وإعزاز وإكرام أهلِه من أهل الإيمان والإسلام، وليس أن تنتهك حرماتهم، وأن تُسفك دماؤهم، وأن تضيع حقوقهم أكثر مما هي ضائعة؛ قال الله -عز وجل- فيما ذكر من وصية لقمان لابنه، وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17).
وقد أثنى الله -عز وجل- على عباده المؤمنين في ذلك، وأوجبه عليهم، وأمرهم بالصبر والعفو والصفح، وجعل في الأنبياء الأسوة الحسنة؛ حتى يقتدوا بهم في عدم مقابلة الإساءة بالإساءة، ولكن بالعفو والصفح.
وكان في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتب المتقدمة؛ كما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- لما سُئِل عن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوراة، فقال: "وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، ‌سَمَّيْتُكَ ‌الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا" (رواه البخاري).
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا، صبورًا حليمًا حتى مع الكفرة قبل أن يؤمنوا؛ فيعفو ويصفح، وكذلك حين تمكَّن منهم يوم فتح مكة؛ فكيف إذًا في معاملة المسلم؟!
ولقد كان هذا الخُلُق العظيم من أسباب إسلام كثيرٍ منهم: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمشركي مكة، وقد تمكَّن منهم، وهم الذين قاتلوه وجرحوه، وكادوا أن يقتلوه- لولا أن عصمه الله منهم-، وقتلوا أصحابه؛ قتلوا أولياء الله -عز وجل- من خيرة أهل الأرض ومثَّلوا بجثثهم، ومع ذلك لما تمكَّن منهم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وقال: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" كما في حديث إسلام أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عليًّا -رضي الله تعالى عنه-، أشار على ابن عمه أبي سفيان بوسيلة يترضَّى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال له: ‌ائته ‌مِن ‌قِبَل ‌وجهه، وقل ما قال إخوة يوسف: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (يوسف: 91)؛ فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسن منه جوابًا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92). (رواه ابن جرير والحاكم، وحسنه الألباني في فقه السيرة).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16-08-2025, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (199) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (15)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة العشرون:
قوله -تعالى-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): فيه فضيلة الإحسان في المعاملة مع الخلق، وهذا من أسباب هدايتهم لمن أراد الله -عز وجل- له الهداية.
ومن القصص العظيمة في فضل الإحسان، وتسببه في هداية مَن شاء الله هدايته: قصة إسلام ثمامة ابن أثال وهو سيد بني حنيفة، وقد أسرته خيل المسلمين؛ فربطة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، ثم أتاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)، فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ)، فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ ‌أَبْغَضَ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ وَجْهِكَ؛ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ ‌أَبْغَضُ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ دِينِكَ؛ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ ‌أَبْغَضُ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَا وَاللهِ، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم-. (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).
تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام متتالية، وهو في ذلك يسمع القرآن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويشاهد المسلمين في الصلاة، ويشهد تعاملهم مع بعضهم، ويشهد السكينة والطمأنينة في هذه البقعة العجيبة؛ مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تأخذ بقلوب الخلق حبًّا لها، ورغبة فيها عن غيرها!
فيتغير ثمامة من داخله، ويبقى أمر الأسر؛ الذي يؤلمه أن يعلن التغيُّر الذي حصل له، والإيمان وهو في ظل الأسر، فيظن الناس أنه أسلم ليُطلَق سراحه، ولا شك أن النفوس الأَبِيَّة العالية تأبى ذلك أن يُقَال عنها، وقد عَلِم النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجهه ذلك؛ فأمر بإطلاقه مجانًا، بغير قتلٍ، وبغير فداء رغم حاجة المسلمين، فقال: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ).
فينطلق ثمامة وقد تحوَّل فصار إنسان آخر، فينطلق وهو سيد قومه؛ من حقه أن ينصرف إلى وجهته إن شاء، فينطلق إلى أقرب ماء -أي: أقرب بئر في حديقة-، فيغتسل ويرجع إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيشهد الشهادتين، ويقول تلك الكلمات الرائعة في شِدَّة حبِّ دين الإسلام، وحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحب المدينة؛ فانظر كيف يثمر الإحسان؟ وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس؟ وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تعود القلوب إلى الإيمان بفضل الله -عز وجل-، فيمن شاء الله -عز وجل- هدايته.
وفي قصة يوسف -صلى الله عليه وسلم- من أنواع الإحسان إلى مَن أساء إليه: ما يدلك على هذا الخُلُق العالي الرفيع؛ الذي ورثَّه الأنبياء لأبنائهم وأحفادهم، ثم ورثوه لأتباعهم؛ فكذلك كُن -أيها المسلم- محسنًا لمَن أساء إليك؛ فأنت -بإذن الله- تكسب أعظم المكاسب بدعوتك، وتنتصر بهذا الخلق العالي الرفيع على هؤلاء الذين لا يعرفون إلا الإساءة، والظلم والعدوان والبغي؛ فالله -سبحانه وتعالى- يحب المحسنين؛ فأحسنوا عباد الله إلى كلِّ مَن حولكم، وأعظم ذلك: الإحسان إلى الوالدين، وهو متأكد تأكد شديدًا؛ قال الله -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23، 24).
وقال سبحانه و-تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 14، 15).
وقال سبحانه و-تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).
وهذا قد قام به إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مع أبيه خير قيام؛ رغم الأذى الذي سبَّبه له أبوه، وسوء المعاملة التي هدَّده بها؛ من: الرجم والطرد، والسب، ومع ذلك لم يجد منه إلا السلام، وإلا الإحسان؛ ولذلك قال العلماء: إن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخصص الوالدان من درجات التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله دون التعنيف والتغليظ والضرب؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)؛ فلم يجعل الكفر سببًا لإلغاء الإحسان إلى الوالدين، بل الإحسان باقٍ ومستمر؛ حتى مع كفر الوالدين؛ فضلًا عن فسقهما.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23-08-2025, 01:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (201) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (17)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الثالثة والعشرون:
في قوله -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا): فيه اعتزال أهل الكفر والشرك، وكذا الفسوق والعصيان إذا وصلت الدعوة إلى الله إلى مداها، وبلغت القريب والبعيد، وبلغت القاصي والداني، وعندما تُقَام الحجج ويستمر الكفرة وكذا الفسقة على إعراضهم؛ فعند ذلك تُشرَع المفارقة والانشغال بوجوه أخرى من العبودية لله -عز وجل- في مكان آخر.
وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- دعا إلى الله -عز وجل- حتى وَصَل إلى هذه الغاية؛ فعند ذلك شُرِع له الاعتزال. (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي: أفارقكم. وهذا مثل قوله -عز وجل-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات: 99)، وقوله -سبحانه وتعالى- عنه: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26)، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجَّاه الله -عز وجل- منها، فإبراهيم -عليه السلام- دعا أباه ودعا قومه، وبيَّن لهم وأقام عليهم الحجج؛ فما وجد منهم إلا التكذيب والأذى والاضطهاد الشديد، وألقوه في النار، فكانت نجاته بأمر الله -عز وجل- بكلمته -سبحانه-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69).
فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- واعتزل أهل الباطل، واعتزل باطلهم، وهذا الاعتزال سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله إلى غايتها، وظل أهل الباطل على إعراضهم.
وهذه العزلة يجب منها قَدْرٌ في كلِّ وقت على كلِّ مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل، ومن اعتزال عقائد الباطل، ومن اعتزال سلوك وأخلاق أهل الباطل؛ هذا قَدْرٌ واجب على مرِّ الزمان، فلا يسمح له لأجل قرابته ولا مواطنته، ولا قوميته: أن يشارك أقاربه، أو مواطنيه، أو قومه في باطلهم، وإنما أباح الله -عز وجل- موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط -ومثله التقية-؛ قال الله -عز وجل: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106).
وقال الله -عز وجل-: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 33). وقال -سبحانه-: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28).
قال غير واحد من العلماء: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم؛ فتداروهم باللسان، مع طمأنينة القلب بالإيمان، من غير أن يستحل مالًا حرامًا، ولا دمًا حرامًا، ولا يدلهم على عورات المسلمين، بالقدر الذي يدفع به شرهم.
وما أباح الله ذلك لمجاملة، ولا لمداهنة، ولا لأمورٍ متوهَّمَة يظنها البعض مصالح، وهي مفاسد؛ فإن التضحية بالعقيدة والإيمان من أجل ما يظنه البعض مصلحة هو أعظم مفسدة.
وكذلك لا تحل هذه الموافقة لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية، أو قومية، أو عاطفية، أو غير ذلك؛ ما أجاز الله للإنسان أن يوافق أهل الكفر والباطل والمعاصي إلا لمَن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فلا يجوز لمسلمٍ أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم.
إن مَن عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم وأوضاعهم، وعاداتهم وتقاليدهم لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعًا بشروطه المعتبرة، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطرًا لموافقتهم على أمورٍ قرَّروها تخالف الشرع، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر بأن يوجد تهديد بقتل أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس، أو قيد أو إتلاف مال عظيم، ونحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه؛ خاصة إذا كان الإنسان إنما يقيم هناك لدنيا يصيبها من أجل مصالح مادية وتحسين مستوى المعيشة، وتحصيل أموال ليس هو مضطرًا إلى ذلك، وإنما يريد شيئًا من متاع الدنيا؛ فهذا يؤكِّد عدم جواز الموافقة.
وليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في قبول هدية، أو غيرها، وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسُّنة؛ فلا يعتبر -مثلًا- السجن إكراهًا على الزنا في حقِّ الرجل، ولا في حق المرأة؛ فلو حُبِس سنين على أن يزني -مثلًا- ما كان ذلك معتبرًا شرعًا، وأما القتل والتهديد به مع غلبة الظن على حصول ذلك، أو التعذيب الشديد كما وقع لعمار؛ فهذا إكراه معتبر شرعًا.
وإذا لم يستطع العبد أن يقيم دينه إلا بأن يعتزل أهل الباطل ويفارقهم، ويفارق ديارهم؛ وجب عليه ذلك، وهي الهجرة في سبيل الله، إذا كان لا بد من مفارقتهم حتى لا يتأثر هو وأولاده في سلوكه وعمله وعقيدته.
فصحبة أهل الشر تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثيرٍ من الناس؛ لأن مصاحبته للكفرة والظلمة، والعصاة، والفسقة، والمجرمين تهيِّئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم في باطنه بعد أن يكون في ظاهره -والعياذ بالله من ذلك-.
وكثيرٌ مِن الناس يحب أهلَ الباطل؛ لكثرة معاشرتهم! فمن وجد نفسه في خلطة لقرناء السوء، ووجد أن هذه الخلطة تقوده لموافقتهم؛ وجب عليه مفارقتهم على الفور.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-08-2025, 01:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (206) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (2)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "‌قوله -تعالى-: ‌(فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
يقول -تعالى- مخبرًا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ) أي: بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم، فقالوا: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي: في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها.
‌‌(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي: ثم أطرقوا في الأرض، فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ)، قال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء، فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ).
وقال السدي: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي: في الفتنة.
وقال ابن زيد: أي: في الرأي، وقول قتادة أظهر في المعنى؛ لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزًا، ولهذا قالوا له: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ)؛ فكيف تقول لنا: سلوهم إن كانوا ينطقون، وأنت تعلم أنها لا تنطق؟ فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) أي: إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر، فلم تعبدونها من دون الله؟
‌‌(أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أي: أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر؟ فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (الأنعام: 83).
‌‌(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ).
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم، وظهر الحق واندفع الباطل، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا، قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في جوبَة من الأرض وأضرموها نارًا، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم -عليه السلام- في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد.
قال شعيب الجبائي: اسمه هيزن: فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل. كما رواه البخاري، عن ابن عباس: أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).
وروى الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو هشام، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما ألقي إبراهيم -عليه السلام- في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في أرض واحد أعبدك". ويروى: أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت، سبحانك لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك. وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة. فالله أعلم.
وذكر بعض السلف: أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما من الله فبلى.
وقال سعيد بن جبير -ويروى عن ابن عباس أيضًا- قال: لما ألقي إبراهيم، جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت.
وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذٍ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.
وقال (الثوري)، عن الأعمش، عن شيخ، عن علي بن أبي طالب (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: "وسلامًا" قال: لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: (وَسَلَامًا) لَآذى إبراهيم بردها.
وقال جويبر عن الضحاك: (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، قالوا: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله، قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك.
وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا مهران، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن المنهال بن عمرو قال: أُخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كنت أيامًا وليالي قط أطيب عيشًا إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.
وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار: وجده يرشح جبينه، قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم.
وقال قتادة: لم يأت يومئذٍ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ.
وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثني عمي، حدثنا جرير بن حازم أن نافعًا حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة، فرأيت في بيتها رمحًا، فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم" فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
‌‌وقوله: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيدًا، فكادهم الله ونجاه من النار، فغلبوا هنالك.
وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة.
‌‌(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ . وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ . وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
يقول -تعالى- مخبرًا عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرًا إلى بلاد الشام، إلى الأرض المقدسة منها. كما قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة، وكذا قال أبو العالية أيضًا.
وقال قتادة: كان بأرض العراق، فأنجاه الله إلى الشام، وكان يقال للشام: عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرضي زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال.
وقال كعب الأحبار في قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ): إلى حران.
وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها، رواه ابن جرير، وهو غريب، والمشهور: أنها ابنة عمه، وأنه خرج بها مهاجرًا من بلاده.
وقال العوفي، عن ابن عباس: إلى مكة، ألا تسمع إلى قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96، 97).
‌‌وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) قال عطاء ومجاهد: عطية.
وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عُتيبة: النافلة: ولد الولد؛ يعني: أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحدًا، فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100).
فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة.
(وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) أي: الجميع أهل خير وصلاح
‌‌(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) أي: يقتدى بهم، (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) أي: يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) من باب عطف الخاص على العام (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) أي: فاعلين لما يأمرون الناس به.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 16-08-2025, 03:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (200) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (16)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
الفائدة الحادية والعشرون:
قوله -تعالى-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) دليل على وجوب بر الوالدين على جميع الأحوال؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، ولو أمرا بمنكرٍ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله -عز وجل- وتعظيم لأمره، ولكنك في نفس الوقت لا تسئ المعاملة، بل تحسن إليهما؛ قال -تعالى-: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23، 24).
وأما الاستغفار للمشرك الذي لم يمت على الشرك ولا يزال حيًّا؛ فالآية تدل على جواز الاستغفار له كما قال إبراهيم: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)؛ فإنه لم يجابه السيئة بالسيئة، بل بالحسنة، بل زاده أنه يستغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حيًّا، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه؛ ولذا قال إبراهيم -عليه السلام-: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر؛ كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114)، وذلك لأنه مات كافرًا؛ فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً بالوعد، فيجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين ما داموا أحياءً؛ كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ‌ضَرَبَهُ ‌قَوْمُهُ ‌فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (متفق عليه).
فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله -عز وجل- في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا ينفع الكافر إلا إذا تاب واهتدى؛ فإنما يُغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله الدخول في الإسلام؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فأما إذا مات مشركًا لم يجز الاستغفار له، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة للكافر، وهو على كفره ولو كان حيًّا، ولكن الذي يشرع هو الاستغفار وطلب المغفرة له، وهو بمعنى طلب الهداية؛ كما ثبت في الحديث عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: كَانَ ‌اليَهُودُ ‌يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وذلك أن طلب المغفرة فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه بيان أنه على خلاف الهدى؛ ولذا يُدعَى له بالهداية، ويدعى له بالمغفرة بأن يتوب الله عليه، ومن هذا قول إبراهيم -عليه السلام-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم: 36).
وهذا لا يعني منع الدعاء على من زاد ظلمه وكفره، وصار ممَّن يصد عن سبيل الله؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد دعا على مَن جرحوه مدة من الزمن؛ حتى أنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128)، ودعا على رعل وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله -قبائل من المشركين قتلوا أصحابه-، وإن كان الأفضل ترك الدعاء على أعيانهم؛ أما الدعاء على المجموع: فهذا هدي الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، كما كان أُبَي بن كعب -رضي الله عنه- في تراويح رمضان -في النصف الأخير من رمضان- يدعو على الكفرة من أهل الكتاب الذين يقاتلون المسلمين، فكان يقول: "اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألقِ في قلوبهم الرعب، وألقِ عليهم رجزك وعذابك إله الحق"، وهذا مأخوذ من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك؛ فهذا جائز، وهذا جائز، والأفضل الدعاء لهم بالهداية بأن يتوب عليهم من الشرك.
الفائدة الثانية والعشرون:
في قوله -عز وجل-: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لمعاني أسماء الله وصفاته، واستحضاره لنعمه عليه؛ خاصة في قوله (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ولم يقل: "ربك"، أو "ربكم"، أو "ربنا"، أو "رب العالمين"، وإنما قال: (رَبِّي)؛ يستغفر ربه -عز وجل- بهذه الخصوصية التي بينه وبينه: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) أي: عوَّده الإجابة دائمًا.
والمؤمن إذا تذكر إجابة الله لدعوته التي دعا بها؛ كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وكان ذلك من أسباب طلب مزيد الفضل من الله -عز وجل-؛ فإنه -عز وجل- حفي بعباده المؤمنين، وهو -سبحانه- حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم؛ فقد عوَّدهم أن يجيبهم، وعوَّدهم أن يصلح شأنهم، وعودهم أن يتولى أمرهم بنفسه، وهو -سبحانه- الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك.
وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وكثرة الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبيِّن لك أهمية أن يكون العبد متعلقًا بأسماء الله وصفاته العليا، متذكرًا نعمته، مثنيًا عليه بها، مستحضرًا خصوصية العبودية لله التي امتن الله عليه بها دون غيره، وامتن عليه بدين الإسلام وغيره من أهل الملل على الكفر، مع أنهم اقترنوا به في نفس الزمان، وربما في نفس المكان.
والعبد المؤمن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس؛ كما قال يعقوب -عليه الصلاة والسلام-: (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (يوسف: 96)، وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيرًا في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يطهِّر قلوبهم بين يديه -عز وجل- مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون بكلِّ ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، ويستحضرون أن الأمر من عنده -سبحانه-؛ لا من عند الناس.
وفي الآية دليل على إثبات اسم الله الحفي -سبحانه-؛ المجيب لعباده المؤمنين على الدوام.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23-08-2025, 01:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (202) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (18)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
في قوله -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا): أن العبد إذا لم يستطع أن يُقيم دينه إلا بأن يُفارق أهل الباطل ودارهم؛ وَجَب عليه ذلك.
وكذا لا بد من مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثيرٍ من الناس؛ أن مصاحبته للكفرة والظلمة، والعصاة والفسقة، والمجرمين تهيِّئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم في باطنه قبل أن يكون في ظاهره -والعياذ بالله من ذلك-؛ فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه في خلطة لقرناء السوء، ووجد أن هذه الخلطة تقوده إلى موافقتهم وجب عليه مفارقتهم على الفور، فلا يجوز له أن يُقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم ودعوتهم إلى الله؛ ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله، ويُنكرون الكفر والشرك والفسوق والعصيان.
ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان؛ إلا لغرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو مصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيمًا لأجل دنيا يُصيبها أو أهل أو مال أو ولد؛ فهذا ممَّن يُقال له: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء: ??)، فطالما كان عاجزًا عن إقامة دينه متأثرًا بحالهم -ولا شك أنه يتأثر- لزمه التحول عنهم؛ فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم تأثير، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرُ أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِلُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيُّ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يُصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا أن يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء: ???).
وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: ???).
فأنجى الله الذين كانون ينهون عن السوء وقال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف: ???).
ومَن لم يتمعَّر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح؛ فهذا يُبدأ به في العقاب؛ فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله، ولا يكون صالحًا وإن كان يُظهر الصلاح أو يفعل في نفسه الصلاح.
فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله؛ يعتزل الباطل فلا يفعله، ولا يعتقده، ولا يرضى به، ولا يُقر به، وكذلك لا يُصاحب أهل الباطل، بل يعتزلهم، ويُفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 195.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 190.04 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (3.00%)]