| 
|||||||
| هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة | 
![]()  | 
| 
 | 
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع | 
| 
 
 
#311  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى... ﴾ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252]. قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾: الاستفهام للتقرير والتعجيب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 243]، والكلام فيه كما سبق. ﴿ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «الملأ»: الأشراف والوجهاء والرؤساء. ﴿ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ أي: من بعد وفاة نبي الله موسى- عليه الصلاة والسلام- كليم الرحمن، وأفضل أنبياء بني إسرائيل. ﴿ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ﴾ «إذ»: ظرف بمعنى «حين» أي: حين قالوا، وتنكير «نبي» للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي، وإنما المقصود هو حال القوم، وهذا النبي قيل: إنه «صمويل» وهو بالعربية «شمويل»، وقيل: هو«شمعون»، وقيل غير ذلك. ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ أي: أقم لنا واجعل لنا ملكًا، و«الملك»: من يقوم بتدبير وتصريف أمور المملكة. وإقامة الملك أو الأمير الذي يدبر شؤون الناس أمر ضروري. كما قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم= ولا سراة إذا جهالهم سادوا[1] وقد قيل: «ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام»[2]. ﴿ نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «نقاتل»: جواب الأمر «ابعث»، أي: نقاتل معه، وتحت إمرته في سبيل الله. قيل: وذلك حين ظهرت العمالقة من قوم جالوت على كثير من أرضهم. ﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ الاستفهام للتقرير والتحذير. قرأ نافع: «عسِيتم» بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ عَسَيْتُمْ ﴾، أي: قال لهم نبيهم: ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾. و«عسى» هنا للتوقع، أي: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال، أي: إن فرض عليكم القتال أن لا تقاتلوا. أي: أن هذا هو المتوقع منكم، وهذا تحريض لهم على القتال وتحذير لهم من الجبن. وجملة ﴿ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ معترضة بين اسم «عسى» وهو ضمير التاء، وخبرها وهو قوله: ﴿ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾. وبُني الفعل «كتب» في الموضوعين لما لم يسم فاعله؛ لأن الذي كتب ذلك وفرضه معلوم وهو الله سبحانه وتعالى. ﴿ قَالُوا ﴾ أي: قالوا إجابة على الاستفهام السابق: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، الواو: رابطة لهذا الكلام بما قبله لتأكيد رغبتهم في القتال في سبيل الله. معناه هنا: الإنكار والتعجب، والمصدر المؤوّل ﴿ أَلَّا نُقَاتِلَ ﴾ في محل جر بحرف جرف محذوف تقديره «في»، أي: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟! أي: أيّ شيء لنا يمنعنا من القتال؟! ﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ﴾ الجملة حالية فيها تعليل لوجه الإنكار، أي: والحال أننا قد أخرجنا من ديارنا. ﴿ وَأَبْنَائِنَا ﴾ أي: وأخرجنا من بين أبنائنا. والمعنى: وأي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله، وقد وُجِدَ ما يقتضي ذلك، وهو إخراجنا من ديارنا وأبنائنا. ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴾ أيّ: فلما فرض وأوجب عليهم القتال ﴿ تَوَلَّوْا ﴾ أي: تولوا بأبدانهم وأدبروا عن القتال، وأعرضوا بقلوبهم عما أمرهم الله به، فصدق فيهم ما توقعه نبيهم أنهم لن يقاتلوا. ﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الاستثناء متصل، والتقدير: تولوا إلا عددًا قليلًا منهم، و«القليل» يطلق على الثلث وَمَا دونه، كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «الثلث والثلث كثير»[3]. ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ أي: والله ذو علم واسع بالظالمين المعرضين عما أمر الله به والمرتكبين لما نهى الله عنه، وهو سبحانه عليم بالظالمين وغيرهم وبكل شيء، وإنما خص علمه هنا بالظالمين وعيدًا للظالمين وتحذيرًا من الظلم. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان، وهو النقص، قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33]. واعتبر التولي عن القتال في سبيل الله ظلمًا؛ لأنه ترك لما أمر الله به ومعصية له بدل الامتثال لأمره وطاعته. والظلم ينقسم إلى قسمين: الأول: ظلم النفس بترك ما أمر الله تعالى به وارتكاب ما نهى الله عنه، وأظلم الظلم الشرك، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. والقسم الثاني: ظلم الغير، بالتعدي على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحو ذلك، وهو داخل في ظلم النفس؛ لأن ضرره يعود عليها. قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. قوله: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ أي: وقال لهؤلاء الملأ من بني إسرائيل نبيهم إجابة على طلبهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾، أي: جعل لكم طالوت ملكًا. و«طالوت»: اسم للملك الذي بعثه الله تعالى عليهم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. و﴿ مَلِكًا ﴾: حال من «طالوت»؛ أي: حال كونه ملكًا لكم، والملك من له التصرف والتدبير في مملكته، حسب ما تقتضيه الولاية الشرعية، أو العرفية. قيل: ولم يكن طالوت من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط «يهوذا»، و«طالوت» من سبط «بنيامين» وهم لا ملك فيهم ولا نبوة. ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾ «أنى» بمعنى كيف، وهو استفهام فيه معنى التعجب، أي: كيف يكون له الملك علينا؟! وفي قولهم: ﴿ عَلَيْنَا ﴾ إيماء منهم إلى أنه بعث للسيطرة عليهم، بينما قال في أول الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ باللام الدالة على أنه بعث لمصلحتهم. ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ هذا تعزيز وتعليل لاستفهامهم السابق وتعجبهم، أي: والحال أننا أحق بالملك منه؛ لأن الملك كان في آبائنا فنحن أولى بالملك منه وراثة وحسبًا ونسبًا ومكانة في المجتمع، وهذا كما قال إبليس: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 76]. ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾: حال معطوفة على الحال السابقة، أي: والحال أنه لم يعط سعة من المال، أي: أنه فقير، لا مال له يقوم بالملك. فمع أنهم يرون أنهم أحق بالملك منه، لكن لو أعطي سعة من المال لهان الأمر عليهم في كونه ملكًا عليهم تنازلًا منهم عن أحقيتهم بالملك لأجل المال. لأن المال عصب الحياة، وبه يستطيع تدبير وتصريف شؤون الملك وإعداد الجيوش للقتال وغير ذلك، إضافة إلى أنه يغطي العيوب، كما قيل:  يغطى بالسماحة كل عيب   ![]() وكم عيب يغطيه السخاء[4] ![]() والفقر ليس بعيب، فقد تولي الخلافة على المسلمين أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، وكانوا من أفقر الناس، وأقلهم مالًا، وما ضرهم ذلك، وماذا عساه أن يفي مال «طالوت» لو كان غنيًا بحاجيات المملكة. ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: قال لهم نبيهم ردًا على قولهم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾: ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أي: اختاره من بينكم، واختيار الله تعالى خير لكم من اختياركم لأنفسكم. ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً ﴾ هذا رد على قولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾، أي: وزاده سعة ووفرة ﴿ فِي الْعِلْمِ ﴾ أي: علم سياسة الأمة، وحسن الرأي والتدبير الذي به يستطيع إدارة الملك والحرب وغير ذلك. ﴿ وَالْجِسْمِ ﴾ أي: وزاده سعة في الجسم، في الضخامة والقوة والشجاعة، والطول. قيل: ولهذا سمي بـ«طالوت» على وزن اسم المصدر، مشتق من الطول، فمنعه من الصرف للعملية وشبه العجمة، فاجتمع فيه القوة المعنوية بسعة العلم بالسياسة وحسن التدبير، مع القوة الحسية بسعة الجسم والقوة والشجاعة التي يستطيع بها مكافحة الأعداء ومكابدة الحروب؛ لأن سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن. وقدم زيادة البسطة في العلم من العلم بالسياسة والرأي؛ لأن الرأي أهم وأعظم وهو أول، كما قال أبو الطيب[5]:  الرأي قبل شجاعة الشجعان   ![]() هو أول وهي المحل الثاني ![]() ![]() ![]() ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: والله يعطي الملك من يريد من العباد حسب ما تقتضيه حكمته، ولو من غير إرث ولا مال، وأضاف عز وجل الملك إليه؛ لأن ملك الكون كله له سبحانه. كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]. ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي: ذو سعة في جميع صفاته، و«الواسع» من أسماء الله عز وجل. ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي: ذو علم واسع بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80]. فهو عليم بمن يستحق الملك من ذوي النسب والغنى وغيرهما ممن لا يستحقه، وغير ذلك، ومن سعة علمه وفضله عز وجل أن يعطي الملك من يشاء حسب ما تقتضيه حكمته. قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. كأنهم لما قال لهم نبيهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ الآية، قالوا له: ائت بآية، فقال لهم: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ الآية. والآية: العلامة، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 197]، والضمير في قوله: ﴿ مُلْكِهِ ﴾ يعود إلى طالوت، الذي بعثه الله تعالى ملكًا عليهم. أي: إن علامة أنه ملك من الله تعالى لكم ﴿ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الآية. ﴿ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ «أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع خبر «إنَّ»، والتقدير: إن آية ملكه إتيان التابوت إليكم. و«التابوت» في الأصل الصندوق من خشب أو غيره ويحفظ فيه المتاع. والتابوت المذكور في الآية قيل: هو شيء على هيئة الصندوق مصنوع من الخشب أو غيره، وفي تعريفه إشارة إلى أنه كان معهودًا عندهم لكنه سلب منهم. ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونه فيه سكينة من ربكم، أي: فيه، وفي مجيئه إليكم ﴿ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يُسَكِّن- سبحانه- به نفوسكم، ويُطمئن به قلوبكم، وآية من آيات الله تعالى ورحمة لكم. ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ من العلم والحكمة والتوراة. ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كون هذا التابوت تحمله الملائكة، وفي هذا إشارة إلى أن هذا التابوت كبير. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ﴾ «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، ﴿ فِي ذَلِكَ ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف في محل رفع خبر «إنَّ» مقدم، و«آية» اسمها منصوب مؤخر، واللام في قوله: ﴿ لَآيَةً ﴾ للتوكيد. والإشارة في «ذلك» لإتيان التابوت إليهم فيه سكينة من ربهم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة. أي: إن في ذلك لعلامة لكم على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أخبرتكم به من بعث الله عز وجل «طالوت» ملكًا لكم، وعلى قدرة الله تعالى وعظمته. ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي: كنتم من ذوي الإيمان الذين يصدقون بالآيات وينتفعون بها، كما قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وحينئذٍ سلَّموا وانقادوا له. قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. قوله: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾ أي: خرج بهم وانفصل عن البلد، قيل: عن بيت المقدس. و«الجنود» جمع جندي، وهم الرجال المقاتلون، قيل: كانوا ثمانين ألفًا، وقيل غير ذلك. ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾؛ أي: ممتحنكم ومختبركم ﴿ بِنَهَرٍ ﴾ وهو الماء الجاري الكثير؛ ليعلم من يصبر ومن لا يصبر؛ لأن القتال يحتاج إلى صبر وتحمل، وليعلم من يطيع ويمتثل الأمر، ممن لا يطيع، وكانوا أشد ما يكونون من العطش، قيل هذا النهر نهر الأردن، وقيل: نهر بين فلسطين والأردن. ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ﴾ أي: فمن شرب من هذا النهر شربًا كثيرًا. ﴿ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾: جواب الشرط، أي: ليس مني لا قربًا ولا ولاءً ولا طاعة؛ لمخالفته وقلة صبره، أو ليس من جندي. ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ﴾ أي: لم يذقه ولم يشرب منه شيئًا. ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾: قربًا وولاءً، لصدقه وصبره وطاعته. ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بفتح الغين «غَرفةً»، وقرأ الباقون بضمها ﴿ غُرْفَةً ﴾. والغَرفة بالفتح: المرة الواحدة من الغرف، وهو أخذ الماء باليد، والغُرفة بالضم: المقدار المعروف. والاستثناء في قوله: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ استثناء متصل من قوله: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُفَلَيْسَ مِنِّي ﴾، و«من» في قوله: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ ﴾ موصولة. والمعنى: إلا الذي اغترف غرفة واحدة بيده لا بيديه معًا فشربها يبل بها ريقه، فلا بأس عليه. والجملة الثانية: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، وأصلها التأخير إلا أنها قدمت للعناية؛ لأنها تدل عليها الأولى بطريق المفهوم، فإنه لما قال: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾، فُهم منه أن من لم يشرب فإنه منه، فلما كانت مدلولًا عليها بالمفهوم صار الفصل بها كلا فصل. ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ ﴾ أي: أكثرهم، مما يدل على عدم صبرهم، وأنهم ليسوا أهلًا للحرب. ﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الاستثناء متصل، أي: إلا عددًا قليلًا منهم لم يشرب. قال بعض المفسرين: من اغترف منه بيده رَويَ، ومن شرب منه لم يرو. ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾؛ أي: لما جاوز طالوت النهر هو والذين آمنوا معه من بني إسرائيل. روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، بضعة عشر وثلاثمائة»[6]، وقيل: أربعة آلاف. ﴿ قَالُوا ﴾ أي: الذين جاوزوا النهر، أي: قال بعضهم بدليل قوله: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾. ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ ﴾ أي: لا قدرة لنا ﴿ الْيَوْمَ ﴾ «ال» للعهد الحضوري، أي: اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم. قال ابن كثير[7]: «أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم؛ لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر عند الله تعالى ليس عن كثرة عدد ولا عدة». ﴿ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ أي: بقتال وحرب جالوت وجنوده، وذلك لما رأوا كثرتهم. ويحتمل أن الذين قالوا هذه المقالة الذين نكلوا يبررون به نكولهم، ويحتمل أنهم الذين جاوزوا مع طالوت استقلوا أنفسهم، فشجعهم أصحابهم؛ لقوله: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ تثبيتًا لأنفسهم ولأصحابهم وتقوية لقلوبهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾. ومعنى ﴿ يَظُنُّونَ ﴾ أي: يتيقنون. والظن يطلق كثيرًا في القرآن الكريم على اليقين، كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 46] [8]. ﴿ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾، أنهم سيلقون الله ويقابلونه ويحشرون إليه ويعرضون عليه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]. ﴿ ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ «كم»: خبرية، معناها التكثير، و«فئة» أي: جماعة، والمعنى: كثير من فئات قليلة غلبت فئات كثيرة؛ لأن العبرة بالكيف لا بالكم. ومعنى ﴿ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾؛ أي: تفوقت عليها وانتصرت عليها، كما قال تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66]. ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي: بإذن الله وأمره الكوني، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102]. ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ معهم معية خاصة بنصره وتأييده وتوفيقه لهم، كما أنه معهم ومع جميع الخلق معية عامة بعلمه وإحاطته، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]. أي ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله تعالى وعن معصيته وعن التسخط والجزع على أقداره المؤلمة. قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. قوله: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا ﴾ أي: ولما ظهر طالوت والذين آمنوا معه. ﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ وواجهوهم، و«برزوا» مأخوذ من «البَرَاز» وهي الأرض البارزة المنكشفة المستوية الظاهرة، ومنه سُميت المبارزة. ﴿ قَالُوا ﴾؛ أي: قال طالوت والذين آمنوا معه داعين الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. ﴿ رَبَّنَا ﴾ أي: يا ربنا، ودعوه عز وجل وتوسلوا إليه بوصف الربوبية؛ لأن الرب من له الخلق والملك والتدبير وبيده الأمر كله. ﴿ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾؛ أي: أَفِضْ علينا واملأ قلوبنا صبرًا، ونكر «صبرًا» للتفخيم، أي: صبرًا عظيمًا. وفي التعبير بقولهم: «وأفرغ» إيذان بالكثرة. ﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾؛ أي: اجعل أقدامنا ثابتة راسخة بحيث لا تزول فلا نفر ولا نهرب، ولا نتزلزل عند اللقاء بتثبيت قلوبنا. ﴿ وَانْصُرْنَا ﴾ أي: وقونا وأظهرنا ﴿ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ وهم جالوت وجنوده وغيرهم، وأظهر في مقام الإضمار، فلم يقولوا: وانصرنا عليهم، أو وانصرنا على أعدائنا، بل قالوا: ﴿ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ لما فيه من بيان وتعليل سبب دعائهم بالنصر عليهم، وهو كفرهم، لا لحمية أو عصبية ونحو ذلك، أي: وانصرنا عليهم لأجل كفرهم، وعلى هذا فيعم هذا الدعاء طلب النصر على جميع الكافرين. قوله تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾. قوله: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ ﴾ أي: فهزم طالوت والمؤمنون معه من بني إسرائيل، وغيرهم، جالوت وجنوده؛ أي: غلبوهم وقهروهم وانتصروا عليهم. ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ الباء للاستعانة، أي: بإذن الله وعونه وتقديره وأمره الكوني. ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ داود عليه الصلاة والسلام كان من جنود طالوت، وكان قويًا شجاعًا، وكان جالوت جبارًا قويًا عنيدًا، فطلب- فيما ذكر- من داود المبارزة، فتبارزا، فقتل داود جالوت فانهزم جنوده. ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ الضمير يعود إلى داود، أي: فأعطى الله داود الملك والسلطان، وآتاه الحكمة، وهي النبوة، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله. وذكر الحكمة بعد الملك؛ لأنها كانت بعده وقوعًا، أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى، فاجتمع له القوة الدينية الشرعية بالنبوة والرسالة، والقوة الدنيوية والتنفيذية بالملك والإمارة، كما قال تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 20]. وباجتماع الدين والملك صلاح البلاد والعباد؛ لأن الدين والملك كالتوءمان، وبارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع. ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ أي: وعلم عز وجل داود من الذي يريده سبحانه من العلم الديني والدنيوي الذي اختصه به، ومن ذلك صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]. ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بكسر الدال وفتح الفاء وألف بعدها: «دفاع»، وقرأ الباقون بفتح الدال وإسكان الفاء من غير ألف ﴿ دَفْعُ ﴾. و«لولا»: حرف امتناع لوجود، و«دفع» مبتدأ وهو مصدر مضاف إلى فاعله لفظ الجلالة (الله)، و«الناس»: مفعول به، و«بعضهم»: بدل منه، «ببعض» متعلق بـ«دفع»، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجود. أي: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد لفسدت الأرض، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود وبالمؤمنين. ﴿ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ جواب «لولا»، واللام: واقعة في جواب «لولا»، أي: لفسدت الأرض، و«الفساد»: ضد الصلاح، والمعنى: لفسدت الأرض باستيلاء الكفرة والفجار وظهور الشرك وانتشار المعاصي والشرور، وحصول الجدب والقحط ومحق البركات وقلة الخيرات، وكثرة الآفات وهلاك الحرث والنسل وخراب البلاد، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]. ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«لكن» للاستدراك، و«ذو» بمعنى صاحب، «الفضل»: الزيادة والعطاء الواسع الكثير. ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ «العالمين» جمع عالم، وهم جميع الخلق، كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20]. ففضله واسع وجوده عميم، على جميع العالمين، الناطق والبهيم، ومن فضله عز وجل على العالمين دفع الناس بعضهم ببعض بالجهاد ونحو ذلك، فإن في تحكيم الإسلام، وإقامة شرع الله نعمة من الله وفضلًا على الخلق كلهم من المسلمين وغيرهم. قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 108]. قوله: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ﴾ (تلك): إشارة إلى ما سبق من الآيات، ويجوز كون الإشارة للقرآن كله. ويقوي هذا كونها بصيغة البعد- مع ما في ذلك من تعظيم الآيات وتنزيلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها. و﴿ آيَاتُ ﴾: جمع آية، والمراد بها الآيات الشرعية وما تضمنته من الأخبار والأحكام والعبر. ﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾ أي: نقرؤها عليك بتلاوة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 17 - 19] وقال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]. ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48] والباء للملابسة، أي: نتلوها عليك حال كونها متلبسة بالحق فهذه الآيات حق، كما قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وطريق وصولها حق، فسندها أصح الأسانيد وأعلاها، نزلت من عند الله بواسطة جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]. وهي مشتملة على الحق فيما جاءت به، أخبارها صدق، وأحكامها عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام. ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«إنَّ» واللام للتوكيد، فالجملة فيها توكيد لرسالته صلى الله عليه وسلم، وتنويه بشأنه، وتثبيت لقلبه، ورد على المنكرين لرسالته وبيان أنه ليس بدعًا من الرسل؛ ولهذا قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ولم يقل: «إنك رسول الله». [1] البيت للأفوه الأودي. انظر: «ديوانه» (ص10). [2] انظر: «السياسة الشرعية» ص *. [3] أخرجه البخاري في الوصايا (2742)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي في الوصايا (3626)، والترمذي في الوصايا (2166)، من حديث سعد رضي الله تعالى عنه. [4] البيت للشافعي. انظر: «ديوانه» (ص 10). [5] انظر: «ديوانه» (4/ 174)، وانظر: «شرح ديوان المتنبي» للواحدي (ص296). [6] أخرجه البخاري في المغازي (3957)، والترمذي في السير (1598)، وابن ماجه في الجهاد (2828). [7] في تفسيره (1/ 447). [8] انظر ما سبق في الكلام على هذه الآية. 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#312  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى... ﴾ فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252]. 1- الحث على التأمل في أحوال السابقين وقَصصهم وما حصل منهم، وما جرى لهم، وأخذ العظة والعبرة من ذلك، والسعيد من وعظ بغيره؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الآيات. 2- حاجة المقاتلين في سبيل الله تعالى إلى ملك وأمير وقائد يقودهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله ﴾. 3- أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك لقولهم: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ يخاطبون نبيهم، فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكًا يتولى أمورهم ويدبرهم، وهذا يدل على مكانة أهل العلم بالله عز وجل وبشرعه وأهمية الرجوع إليهم في اختيار من يتولى أمور المسلمين من الحكام والأمراء لكي تصلح أحوال الأمة. 4- أن مما يشجِّع الناس على القتال في سبيل الله ما وقع أو يقع عليهم من الظلم والإخراج من ديارهم وأبنائهم، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ﴾. 5- أن مما يشرع له القتال في سبيل الله الدفاع عن الأنفس والديار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، بل إن ذلك واجب؛ لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴾، أي: فرض وأوجب عليهم القتال للدفاع عن الدماء والأنفس، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ [النساء: 75]. 6- نكوص كثير من بني إسرائيل وتوليهم عن القتال في سبيل الله، لما فرض القتال عليهم وظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، وفي الإخبار بهذا تعريض ببني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم، وأنهم لن يعدوا أن يكونوا مثل أسلافهم. 7- الحذر من الغرور والاعتداد بالنفس؛ لقوله تعالى: ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، وبالتالي تولوا ولم يقاتلوا كما توقع نبيهم. 8- أن الأولى عدم سؤال الأنبياء عما سكت عنه الشرع؛ لأن ذلك قد يكون سببًا للتكليف به، بإيجاب أو تحريم مما قد يشق التكليف به- والعافية لا يعدلها شيء، وقد سأل الحواريون عيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- المائدة فلما أنزلها الله كفروا بها. ولهذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»[1]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا رجل سأل عن مسألة لم تحرم فحرمت من أجل مسألته»[2]. ولما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» قام الأقرع بن حابس، فقال: أفي كل سنة مرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، الحج مرة فما زاد تطوع»[3]. وفي حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها»[4]. 9- أن البلاء موكل بالمنطق، فهؤلاء قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، فابتلوا ببعث طالوت ملكًا لهم وفرْض القتال عليهم، فتولوا- كما توقع ذلك نبيهم، وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته من هذا المسلك: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»[5]. وقد أحسن القائل:  احذر لسانك أن تقول فتبتلى   ![]() إن البلاء موكل بالمنطق[6] ![]() ![]() ![]() 10- أن قليلًا من بني إسرائيل قاتلوا ولم يتولوا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾. 11- علم الله عز وجل بالظالمين، وأعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]. وهو عز وجل عليم بالظالمين وغيرهم، وإنما خصوا بذلك للتحذير من الظلم والوعيد للظالمين؛ لأن مقتضى علمه بهم أن يحصي عليهم أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم بها. 12- تحذير المسلمين من حال هؤلاء الذين تولوا عن القتال بعد أن طلبوه وفرض عليهم، وأن ذلك من الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾. 13- بعث الله لهؤلاء الملأ ملكًا استجابة لطلبهم ذلك من نبيهم وامتحانًا لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾. 14- كمال أدب الأنبياء مع الله عز وجل وتعظيمهم له ولأمره؛ لإسنادهم الفضل والأمر له؛ لقول نبي هؤلاء الملأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، ولم يقل: «إني قد بعثت لكم» كما قالوا هم: ﴿ ابْعَثْ لَنَا ﴾. 15- ظهور العناد والاستكبار في كلام هؤلاء الملأ من بني إسرائيل، فأولًا طلبوا بعث ملك لهم، ثم لما بعثه الله لهم قالوا: ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ تعجبًا منهم واستكبارًا. 16- أن في نظر هؤلاء الملأ أنه إنما يستحق الملك من كان ذا منزلة في حسبه ونسبه؛ كأن يكون ممن كان الملك فيهم ونحو ذلك؛ لقوله: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾. أو كان ذا سعة من المال؛ لقولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾، وذلك أن المال به يكثر الأعوان على تدبير شؤون الملك، بل إنه يغطي كثيرًا من النقص والعيوب. 17- أن طالوت جمع من الصفات ما يستحق به أن يكون ملكًا على هؤلاء الملأ؛ أهمها وأعظمها أن الله عز وجل اختاره بعلمه وحكمته وفضَّله عليهم، كما زاده بسطة في العلم والجسم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾. 18- أن الكفاءة في تولي الملك لمن جمع علم السياسة وحسن التدبير، وبين القوة التي ينفذ بها الحق، فمن اجتمع فيه الأمران فهو أحق من غيره. 19- أن الله عز وجل يعطي الملك من يشاء بحكمته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾. 20- أن ملوك الدنيا وما ملكوا ملك لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ ولهذا لا يجوز أن يتصرف الملوك والملَّاك بما يملكون إلا وفق ما شرعه الله تعالى؛ لأن كل ما يملكونه هو ملك لله تعالى. 21-إثبات المشيئة لله تعالى وهي تابعة لحكمته، وهي بمعنى الإرادة الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [البقرة: 253]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. 22- أن الله عز وجل واسع في جميع صفاته وأفعاله، واسع الفضل والرحمة والمغفرة والجود والمن والعطاء والإحاطة وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. 23- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي يسع كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ علِيمٌ ﴾. 24- تحقيق بعث طالوت ملكًا على هؤلاء الملأ بجعل علامة على ملكه، وهي إتيان التابوت وتأكيد أن في ذلك آية لهم على ذلك، وعلى قدرة الله التامة وحكمته وعظمته؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. 25- حكمة الله عز وجل البالغة وقدرته العظيمة الباهرة فيما جعل في هذا التابوت من سكينة منه سبحانه، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون من العلم والحكمة تحمله الملائكة، تسكن إليه نفوسهم وتطمئن إليه قلوبهم في حربهم وسلمهم، وذلك من آيات الله عز وجل. 26- إثبات وجود الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾، وفي هذا إشارة إلى عظم هذا التابوت. 27- أن الآيات لا ينتفع بها إلا المؤمنون؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، فالإيمان شرط للانتفاع بالآيات، وكلما قوي الإيمان قوي الانتفاع بالآيات. 28- اختبار الجنود قبل القتال لمعرفة مدى صبرهم وتحملهم وطاعتهم لقائدهم، ومعرفة من هو أهل للقتال من غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ الآية، وفي هذا أعظم الابتلاء لهم؛ لأنهم كانوا عطاشًا. 29- أن اختبار القائد لجنوده يكون بعد الانفصال بهم عن البلد وعن مكان الإقامة ليكونوا قد تهيَّئوا واستعدوا وأجمعوا أمرهم وابتعدوا عن مظاهر الحياة والتعلق بها. 30- ينبغي لقائد الجيش أن يختار من الجنود من هم أهل للقتال دون غيرهم، ممن قد يفت في عضد الجيش؛ لقوله: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾. 31- قلة المطيع من الناس الممتثل لأمر الله عز وجل الصابر عند الابتلاء؛ لقوله تعالى: ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]. 32- أن ضعف اليقين سبب للخوف والجبن، والإرجاف؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾. أي: قال بعضهم وهم ضعاف الإيمان واليقين، بدليل قوله تعالى بعده: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ الآية. 33- كثرة جيش الكفار وجنود جالوت؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾؛ لأنهم قالوا هذا بعد أن رأوا كثرة جنوده. 34- إثبات المعاد وملاقاة الله ورؤية المؤمنين لربهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله ﴾. 35- أن قوة الإيمان واليقين سبب للشجاعة والثقة بنصر الله تعالى؛ لقوله عز وجل: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. 36- أن الكثرة قد يكون لها أثرها في العزة والغلبة أحيانًا، كما قال الشاعر:  ولست بالأكثر منهم حصى   ![]() وإنما العزة للكاثر[7] ![]() ![]() ![]() وكما قيل: «الكثرة تغلب الشجاعة». ولهذا قال هؤلاء لما رأوا كثرة جيش جالوت: ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾. لكن العبرة غالبًا بالكيف لا بالكم، ولهذا قال أهل اليقين: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾. ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66]. وكذا ما حصل في بدر وغيرها من الغزوات في الإسلام. 37- أن العزم على القتال والجهاد غير حقيقته، فهؤلاء أظهروا عزمهم على القتال، كما في قولهم لنبيهم: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، وقولهم: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، ولكن عند اللقاء تولوا وقالوا: ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾. لهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد»[8]، ويقول: «وأسألك الرضا بعد القضاء»[9]؛ لأن الرضا بعد وقوع المكروه هو الرضا الحقيقي. 38- إثبات إذن الله عز وجل الكوني؛ لقوله تعالى: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ في الموضعين، أي: بإذنه الكوني القدري، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 145]. 39- إثبات معية الله عز وجل الخاصة وأنه عز وجل مع الصابرين معية خاصة بنصره وتوفيقه وتأييده لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. 40- فضل الصبر والترغيب فيه، وعظيم أثره، وعلو مكانة الصابرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، ومشروعية دعاء الله عز وجل عند لقاء العدو وسؤاله التوفيق للصبر وتثبيت الأقدام والنصر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. 41- أن من أفضل دعاء الله عز وجل دعاءه باسم ووصف الربوبية الذي معناه الخلق والملك والتدبير؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا ﴾، وبه كان جل دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 42- إثبات خلق الله تعالى الأعمال ومشيئته لها؛ لقول المؤمنين: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. لأن بيده عز وجل الخلق والأمر، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا قال بعد ذلك: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾، أي: بإذنه الكوني الذي لا يتخلف. 43- أن في الجمع بين الاستعداد للقتال بالصبر والتحمل وغير ذلك، مع الثقة بوعد الله والالتجاء إليه، حصول النصر وهزيمة العدو بإذن الله تعالى؛ لقوله عز وجل: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾. 44- شجاعة داود- عليه الصلاة والسلام، وأنه من جنود طالوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾. 45- فضل الله عز وجل العظيم على داود عليه الصلاة والسلام، حيث جمع الله له بين الملك والنبوة وعلمه مما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. 46- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لديهم من العلم إلا ما علمهم الله تعالى؛ لا من علم الشرع ولا من علم الغيب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. كما قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وقال عز وجل له: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188]. 47- منة الله تعالى وحكمته بدفع الناس بعضهم ببعض بالجهاد؛ لتصلح الأرض ومن عليها وتسلم من الفساد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾. 48- عظيم فضل الجهاد في سبيل الله؛ لأن به صلاح البلاد والعباد وحفظ الأديان والأبدان والأوطان والأموال. 49- محبة الله عز وجل لصلاح الأرض ومن عليها وكراهته للفساد. 50- من دفع الله عز وجل الناس بعضهم ببعض تظهر حكمة الابتلاء ليتميز الحق من الباطل وأهل الحق من غيرهم، وليعبد الله عز وجل على حق وعلم وبصيرة. 51- فضل الله عز وجل العظيم على جميع الخلق حتى الكفار بتهيئة أسباب صلاح الأرض لهم بدفع بعضهم ببعض، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20]. 52- الإشادة والتنويه بما أنزل عز وجل على رسوله من الآيات الشرعية وما فيها من الحق، وإثبات وتأكيد رسالته؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾. [1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة (1، 2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الاعتصام (7289)، ومسلم في الفضائل (2358)، وأبو داود في السنة (4610)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. [3] أخرجه أبو داود في المناسك (1721)، والنسائي في مناسك الحج (2620)، وابن ماجه في المناسك (2886) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [4] أخرجه مرفوعًا ابن المنذر والحاكم – فيما ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 332)، وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 297- 298)، وصححه ابن كثير في «تفسيره» (3/ 252)، وقد أخرجه الطبري عند تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، موقوفًا على أبي ثعلبة رضي الله عنه، وقال شاكر في «تخريج الطبري»: «ولم أستطع أن أجده في المستدرك، ولا غيره من كتب الصحاح»، وانظر: «مشكاة المصابيح» (1/ 69) حديث (196). [5] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2966)، ومسلم في الجهاد والسير (1742)، وأبو داود في الجهاد (2631) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. [6] البيت ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ انظر: «العقد الفريد» (3/ 16). [7] البيت للأعشى؛ انظر: «ديوانه» (ص193). [8] أخرجه النسائي في السهو (1304)، والترمذي في الدعوات (3407)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. [9] أخرجه النسائي في السهو (1305)، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#313  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. قوله: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾ أشار إلى الرسل بإشارة البعيد «ذلك» تنويهًا بشأنهم وعلو مراتبهم، وأشار إليهم بإشارة المؤنث؛ لأن الرسل جمع تكسير، وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في الإشارة إليه، وفي تأنيث فعله، كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ [الحجرات: 14]. ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾؛ أي: جعلنا بعضهم أفضل من بعض؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [الإسراء: 55]. والمعنى: جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي، وفي الأتباع، وفي الدرجات والمراتب عند الله عز وجل، وفي اكتمال الصفات من الحزم والعزم وغير ذلك. فأفضلهم أولو العزم من الرسل، وهم المذكورين في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]. وأفضل أولو العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»[1]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع»[2]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»، وفي لفظ: «فعنده طهوره ومسجده»، «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[3]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»[4]. إلى غير ذلك من الفضائل التي خصه الله تعالى بها. وأفضل أولو العزم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل، أبو الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، اتخذه الله عز وجل خليلًا كما قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وأفضلهم بعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - موسى بن عمران كليم الرحمن - عليه الصلاة والسلام - ثم بقية أولو العزم وهما: نوح وعيسى عليهما الصلاة والسلام. ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ الجملة مستأنفة؛ لبيان بعض أوجه التفضيل بينهم، وهي تكليم الله لبعضهم، أي: من الرسل من كلمه الله عز وجل فالعائد محذوف. وممن كلم الله عز وجل من الرسل موسى- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143]، وقال تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ﴾ [مريم: 52]. كما كلم الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وفرض عليه الصلوات الخمس؛ ولهذا يقال له صلى الله عليه وسلم: كليم الله. كما كلم عز وجل آدم عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [الأعراف: 19]. قال ابن كثير[5]: «منهم من كلم الله، يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وكذا آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه». كما كلم عز وجل وخاطب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. كما كلم عز وجل زكريا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41]. كما كلم عز وجل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]. وكلم عز وجل داود عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]. وكلم عز وجل نوحًا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 45، 46]. كما كلم عز وجل الملائكة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]. كما رُويَ أنه عز وجل كلَّم عبدالله الأنصاري والد جابر بن عبد الله كفاحًا، قال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه: «ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا» الحديث[6]. كما كلم عز وجل صاحب القرية، قال تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]. وإنما خص موسى عليه السلام باسم «الكليم»؛ لأن الله كلمه بالوحي إليه وإرساله، وقال له: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]. ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾. لكن فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، أي: ورفع بعض الرسل على بعض مراتب ومنازل، ومقامات، فأعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، وهو الشفاعة بين يدي الرب عز وجل لمحاسبة الخلائق بعدما يلجمهم العرق، ويشتد بهم الكرب، وبعدما يعتذر عن الشفاعة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهو مقام الشفاعة، وعسى من الله تعالى واجبة. وفي حديث الشفاعة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أنا لها، فيسجد تحت العرش ويفتح عليه من المحامد، فيقال له: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع»[7]. كما يرجو صلى الله عليه وسلم أن تكون له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، ففي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلَّوا عليَّ، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل اللهَ لي الوسيلة حلت له الشفاعة»[8]. وفي حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في السماء بحسب منازلهم عند الله عز وجل، فإبراهيم في السماء السابعة، وموسى في السماء السادسة، وهارون في الخامسة، وإدريس في الرابعة، ويوسف في السماء الثالثة، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، وآدم في السماء الدنيا»[9]. ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]. وقوله: ﴿ ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: وأعطينا عيسى ابن مريم الآيات الظاهرات والحجج الواضحات، والدلائل القاطعات على صدق رسالته عليه الصلاة والسلام، وعلى أنهن حق من عند الله عز وجل، والمبينات للحق من الباطل والحلال من الحرام. وهي قسمان: آيات بينات شرعية من تعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وآيات كونية جعلها الله عز وجل على يديه من تكليمه الناس في المهد، وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى. كما قال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 48، 49]. وقال الله تعالى في سورة المائدة: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 110]. ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾ أي: قويناه، ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ «لو»: شرطية؛ وهي حرف امتناع لامتناع، و«شاء»: فعل الشرط، و«ما»: نافية، وجواب الشرط جملة: ﴿ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، أي: من بعد الرسل. ومفعول «شاء» محذوف دل عليه جواب الشرط، والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اختلفوا؛ أي: ولوا أراد الله ما وقع الاقتتال بين الذين من بعدهم، أي: من بعد الرسل جملة، أو من بعد كل رسول حيث يحصل الاقتتال والاختلاف في كل أمة بعد رسولها. كما حصل في هذه الأمة - وهي أفضل الأمم - الخلاف والاقتتال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما أحدثه أهل البدع من الخوارج والرافضة والقرامطة والباطنية وغيرهم من أهل البدع من شرخ شق صف الأمة الإسلامية بعد وحدتها، وأضعفها أمام أعدائها منذ عهد الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا، فما زالت الأمة تكتوي بناره. حيث كان أهل البدع في جميع الأعصار والأمصار- بما هم عليه من خيانة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين - غصة في حلوق أهل الإسلام، ومركبًا لأعداء الإسلام تمكنوا من خلالهم من محاربة الإسلام؛ والاستيلاء على كثير من بلاد المسلمين وخيراتهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[10]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[11]. ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ أي: من بعد ما جاءتهم على ألسنة الرسل وعلى أيديهم الآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، والدلائل الواضحات الشرعية والكونية على صدق الرسل وما جاؤوا به من الرسالات، أي: بعد إيضاح الحق لهم. ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، و«لكن» للاستدراك، أي: ولكن اختلفوا فكان هذا الاختلاف سببًا لاقتتالهم. ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾: بيان لكيفية اختلافهم، وأنه اختلاف في الدين، و«من»: في قوله: ﴿ فَمِنْهُمْ﴾ في الموضعين تبعيضية، و«من» في قوله: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾، وقوله: ﴿ مَنْ كَفَرَ ﴾: موصولة، أي: فبعضهم الذي آمن بالله وصدق رسله ورسالاته، وبعضهم الذي كفر وكذب الرسل وجحد الرسالات. أي: فمنهم من آمن برسوله، ومنهم من كفر به، ومنهم من آمن برسالات جميع الأنبياء، ومنهم من كفر به كلها، أو ببعضها، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون ﴾ [البقرة: 113]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾ توكيد لقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، أي: ولو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا. ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ الواو: عاطفة، و«لكن» للاستدراك، و«ما»: موصولة، وهذا استدراك على قوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾؛ ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته عز وجل الكونية، والتي هي بمعنى المشيئة، كما قال تعالى: ﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]. والمعنى: ولكن الله يفعل الذي يريد، أي: الذي يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]. ومما شاءه عز وجل وأراده كونًا الاقتتال والاختلاف بين الأمم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]. [1] أخرجه الترمذي في التفسير (3615)، وابن ماجه في الزهد (4308) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [2] أخرجه مسلم في الفضائل – فضل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278). [3] أخرجه البخاري في التيمم (335)، وفي الصلاة (438)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (521)، والنسائي في الغسل والتيمم (432). [4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [5] في «تفسيره» (1/ 448). [6] أخرجه الترمذي في التفسير (3010)، وابن ماجه في المقدمة (190)، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب». [7] أخرجه البخاري في الأنبياء (3340)، ومسلم في الإيمان (194)، والترمذي في صفة القيامة ()2434)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، وأبو داود في الصلاة (523)، والنسائي في الأذان (678)، والترمذي في المناقب (3614). [9] أخرجه البخاري في المناقب (3884)، ومسلم في الإيمان (164) من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما. [10] أخرجه البخاري في العلم (12)، ومسلم في الإيمان (65)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942) من حديث جرير رضي الله عنه. [11] أخرجه البخاري في الإيمان (31)، ومسلم في الفتن (2888)، وأبو داود في الفتن (4268)، والنسائي في تحريم الدم (4121) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#314  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن»   الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. 1- علو مقام الرسل ورفعة منزلتهم عند الله عز وجل؛ لأنه تعالى أشار إليهم بإشارة البعيد ﴿ تِلْكَ ﴾؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾. 2- إثبات الله عز وجل العظمة لنفسه، تارة بضمير العظمة، وتارة بلفظ الجلالة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَضَّلْنَا ﴾، وقوله: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾، وقوله: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ﴾. 3- تفضيل الله عز وجل لبعض الرسل على بعض، ففضلهم كلهم على جميع الخلق، وفضل بعضهم على بعض، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾. فأفضلهم أولو العزم: محمد، وإبراهيم، وموسى، ونوح وعيسى عليهم الصلاة والسلام. وأفضل أولي العزم: محمد ثم إبراهيم، ثم موسى عليهم الصلاة والسلام، ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفاضلوا بين الأنبياء»[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى»[2]. فإن هذا النهي فيما إذا كانت المفاضلة بينهم على سبيل التعالي والافتخار بأن يتعالى ويفتخر كل قوم بنبيهم، فهذا لا يجوز، أما على سبيل الإخبار وبيان الواقع فلا بأس بذلك. 4- إثبات الكلام لله عز وجل بحروف وأصوات مسموعة مفهومة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾، أي: من كلمه الله عز وجل. والكلام من صفات الله عز وجل الذاتية الثابتة له عز وجل، ومن صفاته الفعلية المتعلقة بمشيئته، فهو يتكلم إذا شاء بما شاء- سبحانه وتعالى، وفي هذا رد على من نفى اتصافه عز وجل بالكلام، كالجهمية والمعطلة، ونحوهم، وعلى من زعم أن كلامه عز وجل هو المعنى القائم بالنفس كالأشاعرة، ونحوهم. 5- أن مما فضل الله به بعض الرسل تكليمه عز وجل لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ كموسى عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]. 6- أن مما فضل الله به بعض الرسل على بعض أن رفع بعضهم درجات حسية ومعنوية في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾. 7- إثبات نبوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإعطائه الآيات البينات الشرعية في الإنجيل، والكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾، وفي هذا رد على اليهود الذين أنكروا رسالته عليه السلام. 8- تأييد الله عز وجل وتقويته لعيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- بجبريل عليه السلام قوله تعالى: ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾. 9- إبطال تأليه النصارى لعيسى ابن مريم وعبادتهم له من دون الله؛ لأنه لو كان ربًا وإلهًا ما احتاج إلى تأييد وتقوية لا بجبريل عليه السلام ولا بغيره. 10- قوة جبريل عليه السلام ومكانته عند الله تعالى، وفضله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [التكوير: 19 - 22]. 11- أنه لا يقع شيء في هذا الكون من خير أو شر إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾. فأفعال العباد ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29]. وفي هذا رد على القدرية الذين يزعمون أن العباد يستقلون بخلق أفعالهم وأنها ليست مرتبطة بمشيئة الله تعالى[3]. 12- أن قتال الكفار للمؤمنين كان بعد بيان الحق لهم بالآيات البينات وقيام الحجة عليهم، والإعذار منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾. 13- اختلاف الناس وانقسامهم تجاه دعوة الحق إلى مؤمن وكافر، ولله الحكمة في ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [التغابن: 2]. 14- أن الاختلاف شر يجب الحذر منه. 15- إثبات الاختيار للعبد، وأنه ليس مجبورًا على فعله، كما تزعم الجبرية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾. [1] أخرجه البخاري في الخصومات (2412)، ومسلم في الفضائل (2374)، وأبو داود في السنة (4668) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الخصومات – ما يذكر في الأشخاص والخصومة (2411)، وفي الفضائل- من فضائل موسى (2373)، وأخرجه مسلم في الفضائل (2373)، وأبو داود في السنة (4671) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] انظر: «شرح الطحاوية» (2/ 641). 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#315  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ... ﴾ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 254، 255]. قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾. قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ سبق الكلام عليه. ﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ الإنفاق: بذل المال، والمراد به هنا: بذل المال في طاعة الله تعالى من النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على من تلزم النفقة عليه من الأهل والأولاد ونحوهم، وكذا النفقات المستحبة كالصدقة والهدية ونحو ذلك، وحذف المعمول ليعم الإنفاق جميع طرق الخير. ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ «من»: تبعيضية، و«ما»: موصولة، أو مصدرية، أي: أنفقوا بعض الذي رزقناكموه، أو بعض رزقنا لكم، والرزق: العطاء. ويحتمل أن تكون «من» بيانية، وعلى هذا فيجوز إنفاق جميع المال. ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ «أن» والفعل «يأتي» في محل جر مضاف إليه، أي: من قبل إتيان يوم، والمراد به يوم القيامة. ﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ هذه الجملة المنفية في محل رفع صفة لـ«يوم». قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالبناء على الفتح بدون تنوين: «لا بيعَ»، «ولا خلةَ» «ولا شفاعةَ»، على اعتبار «لا»: عاملة عمل «إنَّ»، لكن بالبناء على الفتح، لا بالتنوين. وقرأ الباقون بالضم فيها كلها مع التنوين على اعتبار «لا» ملغاة: ﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾. ﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ ﴾ «لا»: نافية، أي: لا بيع موجود أو كائن فيه. والبيع: عقد المعاوضات التي يطلب بها الأرباح، ويراد به هنا- والله أعلم- ما هو أعم من ذلك وهو تبادل المنافع. ﴿ وَلَا خُلَّةٌ ﴾، أي: ولا خلة موجودة أو كائنة فيه، والخلة: أعلى المودة والصداقة والمحبة. ومما يدل على أن الخلة أعلى المحبة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا»[1]، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «ولكن صاحبكم خليل الله»[2]. بينما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة»، قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها»[3]، فاتخذ صلى الله عليه وسلم أبا بكر حبيبًا ولم يتخذه خليلًا، كما كان يقال لأسامة بن زيد رضي الله عنه: «حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم»[4]. فالخلة أعلى وأخص من المحبة؛ لأنها تتخلل شغاف القلب والأعضاء.  قد تخللت مسلك الروح مني   ![]() وبذا سُميَ الخليل خليلًا[5] ![]() ![]() ![]() قال الشاعر: ﴿ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ أي: ولا شفاعة موجودة أو كائنة فيه. والشفاعة: الوساطة للغير بجلب نفع أو دفع ضرٍ. والمراد ﴿ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ لأهل الكفر مطلقًا، ولا لغيرهم إلا بعد إذن الله تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع، كما سيأتي بيانه. فانتفت في ذلك اليوم- يوم القيامة- جميع وسائل الانتفاع التي كانت بين الناس في الدنيا من المعاوضة وتبادل المنافع بينهم، أو نفع الخليل لخليله والصديق والقريب، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37]. وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33]، فكلٌ منشغل بنفسه، قال كعب بن زهير[6]:  وقال كل خليل كنت آمله   ![]() لا ألهينك إني عنك مشغول ![]() ![]() ![]() كما انتفت في ذلك اليوم الشفاعة والوساطة، كما قال تعالى: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، وكما يقول أهل النار: ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [الشعراء: 100، 101]، والناس في الدنيا يتبادلون المنافع بيعًا وشراءً وغير ذلك، وينتصر بعضهم لبعض، كما قال قائلهم:  أخاك أخاك إن من لا أخا له   ![]() كساع إلى الهيجا بدون سلاح[7] ![]() ![]() ![]() كما يشفع بعضهم لبعض فيشفع القوي للضعيف وذو الجاه لغيره وهكذا. أما في ذلك اليوم، يوم القيامة، فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة، ولا ينفع المرء في ذلك اليوم إلا العمل الصالح بإذن الله عز وجل وما كان في الله، ولله، كما قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]. ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ الواو: استئنافية، والكافرون جمع «كافر» والكفر: الإنكار والجحود والتكذيب. ﴿ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، أي: هم الظالمون حقًا، الذين بلغوا في الظلم غايته، فالكافرون الذين أنكروا وجود الله وجحدوا ربوبيته وألوهيته وأسماءه وصفاته وشرعه ورسله، وكذبوا بذلك أو بشيء منه، ومن ذلك جحد ما أوجبه الله تعالى من النفقات كالزكاة ونحو ذلك، أو منعها على قول بعض أهل العلم. ﴿ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ «هم» ضمير منفصل يفيد التأكيد، و﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ جمع «ظالم»، والظلم: النقص كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]. وهو أيضًا: وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان. والظلم قسمان: ظلم للنفس بإقحامها الكفر والموبقات وتعريضها لعذاب الله، وظلم للغير وهو أيضًا من ظلم النفس؛ لأن وبال ذلك عليها. وقد أكد عز وجل وصف الكافرين بالظلم وحصره فيهم بكون الجملة اسمية مُعَرَّفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم»؛ وذلك لعظم ظلمهم، حيث صرفوا حق الله عز وجل الذي هو أعظم الحقوق، وهو عبادته وحده لا شريك له، صرفوا ذلك لغيره وهو سبحانه الذي خلقهم ورزقهم وعافاهم، ولهذا كان الشرك أعظم الظلم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. وقال صلى الله عليه وسلم، وقد سئل: أي الذنب أكبر؟ فقال: «أن تجعل لله ندًا وقد خلقك»[8]. وكل كفر ظلم، وليس كل ظلم كفرًا، ولهذا قال عطاء بن دينار رحمه الله: «الحمد لله الذي قال: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ولم يقل: «والظالمون هم الكافرون»»[9]. قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾. هذه الآية أعظم آية في كتاب الله عز وجل، وهي مشتملة على عشر جمل خبرية مستقلة، فيها إثبات عدد من صفات الله عز وجل العظيمة، منها: كمال ألوهيته ووحدانيته، وحياته وقيوميته، وعموم ملكه، وقوة سلطانه، وسعة علمه، وسعة كرسيه وقوته وقدرته وعلوه وكمال عظمته. عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله، فقال: «أي آية في كتاب الله أعظم؟» قال: آية الكرسي. فضرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر»[10]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه حين وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان قال: فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فلا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح»[11]. قوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ «الله»: مبتدأ، وجملة ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ في محل رفع خبره. و«الله» علم على الرب تبارك وتعالى، وهو أصل الأعلام، وأعرف المعارف، وهو أصل أسماء الله عز وجل، وتأتي أسماء الله تعالى كلها تابعة له، كما في قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر: 22]. وقد يأتي تابعًا كما في قوله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1]، فلفظ الجلالة (الله) أتى بعد اسمه تعالى (الحميد)، لكنه لا يعرب صفة، وإنما يعرب بدلًا أو عطف بيان. ومعنى (الله) أي: المألوه المعبود بحق محبة وتعظيمًا، أي: الذي له وحده جميع معاني الألوهية. ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ «لا»: نافية للجنس تعمل عمل «إنَّ»، تفيد العموم والاستغراق في النفي لجميع أفراده، ﴿ إِلَهَ ﴾: اسم «لا» مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، تقديره: حق، أي: لا إله حق إلا هو، أي: لا معبود حق سواه- سبحانه وتعالى. وكل ما يعبد من دونه فهو باطل، ولا ينفع ولا يضر، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ [هود: 101]. و﴿ الحي ﴾: خبر ثان، أو صفة للفظ الجلالة «الله»، وقيل غير ذلك. و«أل» فيه للاستغراق، يدل على أنه عز وجل ذو الحياة الكاملة الدائمة الباقية أزلًا وأبدًا والتي لا يعتريها نقص، ولم يسبقها عدم، ولا يلحقها فناء أو زوال، والتي هي أصل جميع الصفات، قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، فقوله: ﴿ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ من الصفات المنفية التي تتضمن إثبات كمال ضدها، وهو الحياة الجامعة لكمال الأوصاف، كمال السمع والبصر والعلم والقدرة، والإرادة والقوة والرحمة والعفو والمغفرة وغيرها من الصفات الذاتية، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27]، وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: 60]. ﴿ القيوم ﴾: خبر ثالث، أو صفة ثانية للفظ الجلالة «الله»، وقيل غير ذلك. و﴿ القيوم ﴾: اسم من أسماء الله عز وجل، و«أل» فيه للاستغراق، يدل على أنه عز وجل ذو القيومية التامة، والدال على كمال جميع صفاته الفعلية، القائم بنفسه الغني عما سواه، المقيم لغيره من الخلق، القائم عليهم، المدبر لهم. فكل المخلوقات لا قوام لها إلا به- سبحانه وتعالى- كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [الروم: 25]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الرعد: 33]. وفي «الحي»: كمال صفاته عز وجل، وفي «القيوم»: كمال أفعاله، وفي اجتماعهما: كمال ذاته عز وجل. ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾: تأكيد لقوله: ﴿ الحي القيوم ﴾. والسِّنَةُ: النعاس، وهو مقدمة النوم، أي: لا يعتريه نعاس ﴿ وَلَا نَوْمٌ ﴾ ولا سهو ولا غفلة؛ لكمال حياته وقيوميَّته وعلمه. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: «إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»[12]. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ «له»: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ مبتدأ مؤخر، و«ما» في الموضوعين: اسم موصول يفيد العموم. واللام في قوله: ﴿ لَهُ ﴾ مع تقديم الخبر للدلالة على الحصر والاختصاص، أي: له وحده جميع الذي في السموات والذي في الأرض، خلقًا وملكًا وتدبيرًا، وكلهم عبيده، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 93 - 95]. 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#316  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 وفي هذا دلالة على كمال وعموم قيوميته. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ هذه الجملة مقررة لمضمون جملة: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾. أي: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي ﴾ من الخلق، من الأنبياء والملائكة والإنس والجن وغيرهم ﴿ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾. و«من»: اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، و«ذا»: زائدة من حيث الإعراب، جيء بها لتحسين اللفظ وتأكيد المعنى، أو خبر «من» الاستفهامية. ﴿ الذي ﴾ اسم موصول مبني في محل رفع خبر «من»، أو بدل من «ذا». والاستفهام هنا للإنكار والنفي بدليل الإثبات بعده بقوله: ﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ أي: لا أحد يشفع عند الله عز وجل إلا بإذنه؛ لكمال ملكه وعظيم سلطانه، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزمر: 44]. ﴿ يشفع ﴾: صلة الموصول، والشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع ضد الوتر؛ لأن المشفوع له بعد أن كان وترًا صار شفعًا بانضمام الشافع إليه. والشفاعة في الاصطلاح: الوساطة لجلب نفع أو دفع ضرٍّ. وفي الحديث: «هذا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع»[13]. فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضى بينهم بعدما يشتد بهم الحال من الشفاعة في دفع الضر، وشفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوها من الشفاعة في جلب النفع. ﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ «إلا»: أداة حصر، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ متعلق بمحذوف حال، أي: من ذا الذي يشفع عنده في أي حال من الأحوال إلا في حال إذنه، أي: إلا مأذونًا له، ونحو ذلك. وإذن الله عز وجل قسمان: إذن كوني كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102] وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145]. وإذن شرعي، كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 21]، وقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39]. والمعنى هنا: من ذا الذي يشفع عنده إلا بعد إذنه، أي: إلا بعد أن يأذن ويرخص له في الشفاعة ويبيح له ذلك؛ لعظمته سبحانه وجلاله وكبريائه، كما قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26] وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28]. حتى ولو كان الشافع سيد الخلق، وأفضل الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يعتذر جميع الأنبياء عن الشفاعة في أهل الموقف كل منهم يقول: نفسي، نفسي إلى أن يأتي الناس إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: «أنا لها» فيسجد تحت العرش تعظيمًا لله عز وجل، ويفتح الله عليه من المحامد والدعوات حتى يقال له: «ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع».[14]. ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة طه: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 74]. قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ «ما»: اسم موصول يفيد العموم، والضمير «هم» يعود إلى ما في السموات والأرض، بتغليب العقلاء، أي: يعلم الذي بين أيديهم، أي: الحاضر والمستقبل، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أي: ويعلم الذي خلفهم، وهو الماضي، كقوله تعالى إخبارًا عن الملائكة: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]. وقال بعض السلف: «﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ ما مضى من الدنيا، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ ما بعدهم من الدنيا والآخرة». فعلم الله عز وجل محيط بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة؛ قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم. سُئل موسى عليه الصلاة والسلام عن القرون الأولى، فقال: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 126]. بل إن علمه عز وجل متعلق حتى بالمستحيل، كما قال تعالى عن السموات والأرض: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22]، وقال تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91]. والعلم في الأصل: إدراك الأشياء على ما هي عليه إدراكًا جازمًا، فمن قال مثلًا: عدد الرسل في القرآن الكريم خمسة وعشرون رسولًا، فهو عالم يعني بالنسبة لهذه المسألة. ومن قال: لا أدري كم عددهم، فهذا جاهل جهلًا بسيطًا، لا يدري ويدري أنه لا يدري. ومن قال: بل هم ثلاثون، فهذا جاهل جهلًا مركبًا لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري. ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ الإحاطة بالشيء معناها: معرفته والإلمام به، و«شيء»: نكرة في سياق النفي فتعم أيَّ شيء مهما قل أو صغر، قل أو كثر. ﴿ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ يجوز أن يكون الضمير في ﴿ علْمِهِ ﴾ مضافًا إلى الفاعل، فالمعنى: ولا يحيطون بشيء من علم الله عز وجل، أي: من علم نفسه وذاته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، كما قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]. ويجوز أن يكون الضمير في «علمه» مضافًا إلى المفعول، فالمعنى: ولا يحيطون بشيء من معلوم الله عز وجل، وهو علمه عز وجل ما بين أيديهم وما خلفهم، الشامل للحاضر والمستقبل والماضي. ولا مانع من حمل الآية على الوجهين، بل إن الوجه الثاني يستلزم الأول، من غير عكس، لأنهم إذا لم يحيطوا ببعض معلوماته المتعلقة بهم فعدم إحاطتهم علمًا به- سبحانه- من باب أولى. ﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ «إلا»: أداة استثناء، «ما»: موصولة، أي: إلا بالذي شاء الله أن يعلمهم إياه ويطلعهم عليه من علم نفسه، أو من معلومه، من الأمور الشرعية والقدرية. كما قالت الملائكة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 25 - 27]. وذلك قليل جدًّا بالنسبة لعلمه عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]. ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، و«الكرسي»: موضع قدمي الله عز وجل»، كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن جمع من السلف، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره»[15]. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل»[16]. وكذا روي عن جمع من السلف، أن الكرسي موضع القدمين[17]. وهو من سعته وعظمته يسع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من الأفلاك والمخلوقات والعوالم. ورُويَ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة في الأرض»[18]. ﴿ وَلَا يَئُودُهُ ﴾، أي: ولا يثقله ولا يشق عليه، ولا يجهده. ﴿ حِفْظُهُمَا ﴾ أي: حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، وقال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]. ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]؛ أي: وهو ذو العلو المطلق، علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر. قال السعدي[19]: «وهو العلي بذاته على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب». ﴿ الْعَظِيمُ ﴾، أي: ذو العظمة التامة في ذاته وصفاته وسلطانه، أي: الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته»[20]. [1] أخرجه البخاري في الصلاة، الخوخة والممر في المسجد (466)، ومسلم في فضائل الصحابة، من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2382)، والترمذي في المناقب (3660) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] أخرجه مسلم في الموضع السابق (2383)، والترمذي (3655)، وابن ماجه في المقدمة (93). [3] أخرجه البخاري في المناقب (3662)، ومسلم في فضائل الصحابة، فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2384)، والترمذي في المناقب (3885)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. [4] أخرجه البخاري في الحدود (6788)، ومسلم في الحدود (1688)، وأبو داود في الحدود (4373)، والنسائي في قطع السارق (4899)، والترمذي في الحدود (1430)، وابن ماجه في الحدود (2547) من حديث عائشة رضي الله عنها. [5] البيت لبشار بن برد. انظر: «ديوانه» (ص182). [6] انظر: «ديوانه» (ص19). [7] البيت لمسكين الدارمي. انظر: «ديوانه» (ص29). [8] أخرجه البخاري في التفسير (4761)، ومسلم في الإيمان (86)، وأبو داود في الطلاق (2310)، والنسائي في تحريم الدم (4013)، والترمذي في التفسير (3182) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. [9] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (4/ 526). [10] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، فضل سورة الكهف وآية الكرسي (810)، وأبو داود في الصلاة (1460). [11] أخرجه البخاري معلقًا في فضائل القرآن (5010). [12] أخرجه مسلم في الإيمان (179). [13] أخرجه البخاري في النكاح (5091)، وابن ماجه في الزهد (4120)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. [14] سبق تخريجه. [15] أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/ 93)، حديث (12404)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 326): «رجاله رجال الصحيح»، وأخرجه الحاكم في التفسير (2/ 282)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وانظر «تفسير ابن كثير» (1/ 457)، وهذا هو المحفوظ والأصح عن ابن عباس رضي الله عنهما بتفسير الكرسي بموضع القدمين. وروي عنه أنه قال: «كرسيه علمه»، انظر «جامع البيان» (5/ 401)، تحقيق محمود شاكر، وشرح العقيدة الطحاوية (371). [16] أخرجه عن أبي موسى عبد الله بن أحمد في «السنة» (588)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 538). [17] انظر: «جامع البيان» (4/ 538)، «تفسير ابن أبي حاتم» (2/ 491). [18] سيأتي تخريجه. [19] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 315). [20] أخرجه مسلم في البر والصلة (2620)، وأبو داود في اللباس (4090)، وابن ماجه في الزهد (4174) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#317  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 254، 255] 1- تصدير خطاب المؤمنين بالنداء، ونداؤهم بوصف الإيمان للعناية والاهتمام والتشريف والتكريم لهم، وأن الإنفاق من رزق الله تعالى من مقتضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. 2- مشروعية الإنفاق من رزق الله تعالى: وجوبًا بإخراج الزكاة والنفقة على الأهل والأولاد ومن تلزم نفقته ونحو ذلك، واستحبابًا بالصدقة والهدية ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. 3- أخذ بعض أهل العلم من قوله تعالى: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ على اعتبار أن «من» في قوله: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ بيانية جواز إنفاق جميع المال، لكن هذا مشروط بأن لا يبقى الإنسان عالة على الآخرين، فإن هذا لا يجوز. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا»[1]. 4- الامتنان على العباد وتذكيرهم بأن الرزق منه- سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. وفي هذا حث وترغيب في الإنفاق؛ لأن الرزق من الله والمال مال الله فلا ينبغي البخل فيه. 5- عدم الاعتماد على الأسباب في طلب الرزق، ووجوب الجمع بين فعل السبب والتوكل على الله وسؤاله؛ لأن الأرزاق بيده- سبحانه وتعالى. 6- أن الإنسان لا ينتفع من ماله في الآخرة إلا بما أنفقه قبل موته؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ الآية. ومن ذلك ما كان الإنسان سببًا فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[2]. 7- أن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾. 8- أن من مات فقد قامت قيامته، كما قال بعض أهل العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ الآية. 9- الترغيب والإغراء بالاستعداد للآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ الآية. 10- انقطاع تبادل المنافع والصداقات والشفاعات الدنيوية بين الناس يوم القيامة، فلا شيء ينفع في ذلك اليوم إلا ما كان في طاعة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾. 11- أن الكفر أعظم الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، فأكد عز وجل الظلم وحصره في الكافرين بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين وبضمير الفصل «هم»، أي: والكافرون هم الظالمون حقًّا. 12- الإشارة إلى عظم منع النفقات الواجبة وبخاصة الزكاة؛ لأن الله تعالى أمر بالإنفاق، ثم ختم الآية بقوله: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾. فإن كان منع الزكاة جحدًا لوجوبها فهذا كفر بالإجماع، وإن كان منعها بخلًا، فقد قيل بكفره، والجمهور على أنه لا يكفر بذلك. 13- أن حق الله عز وجل وهو عبادته وحده لا شريك له أعظم الحقوق؛ ولهذا كان أظلم الظلم وأعظمه الكفر به- سبحانه، وصرف حقه لغيره بالإشراك به، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. 14- أن اسم «الله» عز وجل من أعظم أسمائه- سبحانه وتعالى- وأصلها وتأتي بقية أسمائه تعالى تابعة لهذا الاسم؛ لأن الله عز وجل قدمه في الآية وأتبعه ببقية الأسماء؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾. وقد قال طائفة من أهل العلم: إنه اسم الله الأعظم. 15- إثبات الألوهية لله وحده لا إله غيره، وإبطال الشرك بجميع أنواعه وصوره؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾. 16- إثبات اسم الله عز وجل «الحي» وصفة الحياة الكاملة التامة له سبحانه أزلًا وأبدًا، التي لم تُسبق بعدم ولا يلحقها زوال؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَيُّ ﴾. كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]. 17- إثبات اسم الله عز وجل «القيوم» وصفة القيومية؛ لقوله تعالى: ﴿ القيوم ﴾، فهو سبحانه القائم بذاته بنفسه، الغني عما سواه، القيوم على كل شيء، فكل شيء محتاج إليه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الرعد: 33] وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]. 18- في هذين الاسمين: ﴿ الحي القيُّوم ﴾ اسم الله الأعظم عند كثير من أهل العلم لتضمنهما جميع أسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العليا، الذاتية والفعلية، الدالة على كمال ألوهيته ووحدانيته واستحقاقه العبادة دون من سواه. كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]. وقد ذكر الله عز وجل هذين الاسمين مقترنين في ثلاثة مواضع من القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ [طه: 111]. 19- تنزه الله عز وجل عن السِّنة والنوم، والنقص، والعجز، وجميع الآفات؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾، وهذه من الصفات المنفية التي تتضمن إثبات كمال ضدها، فتدل على كمال حياته وقيُّوميته على كل شيء، فلا يعتريه سنة ولا نوم ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، ولا يغيب عنه أو يخفى عليه شيء. 20- أن السنة والنوم نقص، ولهذا نفاها الله عز وجل عن نفسه. 21- سعة ملك الله تعالى وكماله وعظمته، وأن له خاصة جميع ما في السموات والأرض، خلقًا وملكًا وتدبيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾، وفي هذا تقرير لانفراده تعالى بالألوهية، وتعليل لاتصافه بالقيومية. 22- كمال سلطان الله عز وجل وعظمته ووحدانيته في ملكه، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾. وفي هذا رد على المشركين الذين يشركون مع الله غيره ويقولون: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3]. 23- إثبات الشفاعة بإذن الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ وشرطاها: إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له. كما قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28]. 24- في إطلاق الشفاعة في قوله: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ رد على الخوارج والمعتزلة الذين ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر. 25- سعة علم الله عز وجل وإحاطته بعلم الماضي والحاضر والمستقبل وبكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾. وفي هذا رد على القدرية الذين ينفون علم الله عز وجل بأفعال العباد قبل وقوعها. 26- عدم إحاطة الخلق بشيء من علم الله عز وجل، لا من علم نفسه وأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بهِ عِلمًا﴾ [طه: 110]، ولا من معلومه، إلا بما شاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾. وفي هذا رد على من يقول على الله تعالى بغير حق سواء كان ذلك فيما يتعلق بذاته عز وجل وصفاته كما يفعل أهل البدع من المعطلة والمشبهة وأهل التكييف ونحوهم، أو كان ذلك مما يتعلق بعلمه الكوني والشرعي. 27- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾. 28- سعة كرسيه عز وجل وعظمته وأنه يسع السموات والأرض التي هي من أكبر وأعظم المخلوقات، فهو أكبر وأعظم منها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، والعرش أكبر من الكرسي بأضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله عز وجل. ورُوي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض»[3]. 29- كمال قوة الله عز وجل وقدرته وعلمه ورحمته وتمام حفظه للسموات والأرض، فلا يثقله أو يشق عليه حفظهما؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾. لأن له عز وجل الكمال المطلق، فلا يعتريه نقص، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]. 30- حاجة السموات والأرض وجميع المخلوقات إلى حفظ الله عز وجل لها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، وقال تعالى في حفظ الإنسان: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]. 31- إثبات اسم الله عز وجل «العلي» وصفة العلو المطلق لله عز وجل، علو الذات وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر؛ لقوله تعالى: ﴿ وهو العلي ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27]. وفي هذا رد على أهل الحلول الذين يقولون: إنه حال في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. كما أن فيه ردًا على نفاة علو الله تعالى، الذين يقولون إنه لا يوصف لا بعلو ولا سفل، ولا يمين ولا شمال، ولا اتصال ولا انفصال تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. 32- إثبات اسم الله تعالى «العظيم» وصفة العظمة التامة له عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ العظيم ﴾. 33- في اجتماع صفة العلو والعظمة زيادة كماله عز وجل إلى كمال. [1] أخرجه أبو داود في الزكاة (1678)، والترمذي في المناقب (675). [2] أخرجه مسلم في الوصية – ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والنسائي في الوصايا (3651)، والترمذي في الأحكام (1376) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (1/ 287) (362)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 539)، وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/ 11): «أول الحديث مرسل؛ وعن أبي ذر منقطع وقد روي عنه من طرق أخرى موصولًا»، وانظر: «فتح المجيد» ص (616). 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#318  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ... ﴾ قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 256، 257]. قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. سبب النزول: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كانت المرأة تكون مقلاة أي: لا يعيش لها ولد فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾»[1]. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ قال: «نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك»[2]. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- كما هو معلوم. قوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ «لا»: نافية، ويحتمل أن يكون النفي على معناه، أي: لن يدخل أحد في دين الإسلام مكرهًا، بل عن اختيار، كما قال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99]. ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، أي: لا تكرهوا أحدًا على الدين. كما روي عن أُسَق قال: كنت مملوكًا نصرانيًّا لعمر بن الخطاب فكان يعرض عليَّ الإسلام، فآبى، فيقول: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، ويقول: «يا أُسَق، لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين»[3]. قال ابن كثير[4]: «أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيِّنٌ واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا». ولا مانع من حمل الآية على المعنيين. والإكراه: الإلزام والإرغام ضد الاختيار، و«أل» في «الدين» للعهد الذهني، أي: في الدين المعهود، دين الإسلام، أي: لا إكراه على الدخول في دين الإسلام. ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾: هذه الجملة فيها معنى التعليل للجملة التي قبلها، أي: لا إكراه في الدين؛ لأنه ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، و«قد»: للتحقيق، و﴿ تَبَيَّنَ ﴾؛ أي: تميز الرشد من الحق. ﴿ الرُّشْدُ ﴾ في الأصل: الاهتداء إلى طرق الخير وحسن التصرف، وهو بالنسبة لكل شيء بحسبه، فالرشد في الدين الاهتداء إلى الإسلام وطريق الحق، والرشد في المال حسن التصرف في المال، والرشد في الولاية حسن التصرف فيها.. وهكذا. والمراد بالرشد هنا: الرشد بالدين، وهو سلوك طريق الحق والهدى والإسلام، والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. و﴿ الْغَيِّ ﴾: سلوك طريق الباطل والضلال والكفر، والشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة. والمراد: قد تميز الرشد من الغي، والهدى من الضلال، والحق من الباطل، بما أنزل الله تعالى من الوحي في كتابه العزيز وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه إقامة الحجة وإيضاح المحجة، كما قال تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]. وقد ترك صلى الله عليه وسلم أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم مخاطبًا الناس في حجة الوداع: «ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت»، قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد»[5]. ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾. هذا تفسير وبيان للرشد والغي في الجملة السابقة، فالرشد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والغي: خلاف ذلك، وهو أيضًا: مقتضى معنى «لا إله إلا الله»؛ ولهذا قال: ﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾. كما قال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله»[6]. قوله: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من»: شرطية، و﴿ يَكْفُرْ ﴾: فعل الشرط، و﴿ الطَّاغُوت ﴾ في اللغة: مأخوذ من الطغيان وهو تجاوز الحد، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ [الحاقة: 11]؛ أي: لما جاوز الماء حده وعلا وارتفع. «الطاغوت» في الشرع: الشيطان، وكل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره، أي: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. «من معبود» كالأصنام والأوثان التي تُعبد من دون الله، وهي لا تنفع ولا تضر، كما قال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ [الفرقان: 55]، وقال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18]. «أو متبوع» كالأحبار والرهبان الذين يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله، كما قال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، وفي حديث عدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟» قال: نعم. قال: «فتلك عبادتهم»[7]. «أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله» كأمراء السوء الذين يأمرون بمعصية الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى، فإن أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة»[8]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة بالمعروف»[9]. ويدل على أن الطاغوت عام في كل ما ذكر أن الله عز وجل قابل في هذه الآية بين الكفر بالطاغوت والإيمان، فكل ما عبد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت. ومعنى ﴿ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾، أي: يجحده وينكره ويتبرأ من كل معبود سوى الله تعالى. ﴿ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾، والعطف بالواو يقتضي الجمع، فلا بد من الجمع بين الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله. وقدم الكفر بالطاغوت؛ لأن التخلية قبل التحلية، إذ لا يجتمع الإيمان بالله مع عدم الكفر بالطاغوت. والإيمان بالله يتضمن أمورًا أربعة: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته. ومعنى ذلك أنه سبحانه واجب الوجود، متفرد بالربوبية والألوهية، وكمال الأسماء والصفات. والإيمان بالله يستلزم القبول بتصديق الخبر، والانقياد بامتثال الطلب، فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور. ﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾: جواب الشرط «من»، وقرن بالفاء لاتصاله بـ«قد» التي تفيد التحقيق. ﴿ اسْتَمْسَكَ ﴾ السين والتاء للتأكيد، و«استمسك» أبلغ من «تمسك»؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا، أي: فقد تمسك بقوة بالعروة الوثقى. ﴿ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ عروة الشيء: مقبضه، كعروة الدلو، وعروة الكوز، ونحو ذلك، وعروة الحبل شد طرفه إلى بعضه، وعقده فيصير مثل الحلقة يتمسك به. و﴿ الْوُثْقَى ﴾: القوية المبرمة المحكمة الشد، التي هي أوثق العرى، وأقوى سبب للنجاة، وهي لا إله إلا الله، وهي عروة الإيمان والإسلام والقرآن، كما قال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43]. عن قيس بن عباد قال: «كنت جالسًا في مسجد المدينة فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد، قالوا: هذا رجل من أهل الجنة. قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لِـم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، رأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها، وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل له: استمسك، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت»، والرجل عبد الله بن سلام»[10]. ﴿ لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾ هذه الجملة في محل نصب حال من «العروة»، أي: حال كونها لا انفصام لها، أي: لا انفكاك ولا انقطاع لها لشدة إحكامها وقوتها، والمراد أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد استمسك بحبل النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة ودخول الجنة والزحزحة عن النار. ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سبق الكلام عليه. قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. قوله: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ (الله): مبتدأ ﴿ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: خبره. أي: متولي الذين آمنوا بولايته الخاصة، ولاية التوفيق والحفظ والنصر والتسديد لهم على الدوام دون الكافرين، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11]. ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ هذا تفسير لولاية الله تعالى للمؤمنين، فيه أعظم ثمرات ولاية الله تعالى لهم، وهي إخراجه لهم من ظلمات الجهل والضلال والكفر والشك والنفاق. ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ أي: إلى نور العلم والهدى والإيمان والقرآن، نسأل الله تعالى التوفيق، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]. وقال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، وقال تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]. وجمع «الظلمات»، وهي: طرق الباطل والضلال والغي؛ لكثرتها واختلافها وتشعبها، وأفرد «النور»؛ لأن طريق الحق واحد، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]. ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ «الطاغوت»: اسم جنس فيعم جميع أنواعه؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ ﴾ بضمير الجمع «الواو». ﴿ أَوْلِيَاؤُهُمُ ﴾؛ أي: نظراؤهم والذين يتولونهم، وجمع ﴿ أَوْلِيَاؤُهُمُ ﴾ لكثرتهم وتعددهم، كما قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29]؛ أي: لا يستوي المشرك الذين يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فشتان بين هذا وهذا. وقدم عز وجل في قوله: ﴿ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ اسمه؛ تعظيمًا لنفسه وتبركًا بالبداءة باسمه عز وجل، وإظهارًا لمنته على المؤمنين في توليه لهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور. بينما قال في الجملة الثانية: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾، فقدم ذكر الذين كفروا إسراعًا في ذمهم، وأخر ذكر اسم الطاغوت تحقيرًا له من أن يكون في مقابلة اسم الله أو أن يبتدأ به. ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾؛ أي: يخرجونهم من نور الإيمان، ومن نور الفطرة التي فطر الله الناس عليها ﴿ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ أي: إلى ظلمات الجهل والكفر. كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[11]. وأيضًا يخرجون من آمن ﴿ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ بتزيين الردة والكفر له، فالآية تشمل هذا وهذا، قال ابن القيم[12]: «وهذا يتضمن إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك، ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال». ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ الإشارة للذين كفروا وأوليائهم من الطواغيت وشياطين الإنس والجن، وأشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم. ﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾؛ أي: ساكنو النار وملازموها. ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ قدم الجار والمجرور ﴿ فِيهَا ﴾ لإفادة الحصر مع مراعاة الفواصل، أي: هم فيها مقيمون إقامة أبدية، لا يخرجون مها، ولا ينفكون عنها». [1] أخرجه أبو داود في الجهاد، في الأسير يكره على الإسلام (2682)، والنسائي في «السنن الكبرى» في تفسير قوله تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، (11048، 11049)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 546)، والواحدي في «أسباب النزول» ص (52)، وإسناده صحيح. [2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (4/ 548)، وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 459)، من رواية ابن إسحاق. [3] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 493). [4] في «تفسيره» (1/ 459). [5] أخرجه البخاري في الحج (1741)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. [6] أخرجه مسلم في الإيمان (23) من حديث أبي مالك عن أبيه رضي الله عنه. [7] أخرجه الترمذي في التفسير (3095)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/ 106)، والطبري في «جامع البيان» (11/ 417)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/ 1784)، وقال الترمذي: «حديث غريب». [8] أخرجه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839)، وأبو داود في الجهاد (2626)، والترمذي في الجهاد (1707)، وابن ماجه في الجهاد (2864) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. [9] أخرجه البخاري في الأحكام (7145)، ومسلم في الإمارة (1840)، وأبو داود في الجهاد (2625)، والنسائي في البيعة (4205) من حديث علي رضي الله عنه. [10] أخرجه البخاري في المناقب (3813)، ومسلم في فضائل الصحابة (2484). [11] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658)، وأبو داود في السنة (4714)، والترمذي في القدر (2138). [12] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 415). 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#319  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ 1- أنه لا إكراه لأحد على الدخول في الدين، ولا ينبغي أن يكره أحد على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾. وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل جيوشه إلى الأمصار أوصاهم بثلاث: أولًا: دعوتهم إلى الإسلام، فإن أبَوْا أخذوا منهم الجزية، فإن أبوا قاتلوهم[1]. فلا يُكره أحدٌ على الدخول في الدين، سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم من الكفار، وهذا هو الثابت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في سلمه وغزواته وحروبه، يسالم من يسالمه، ويهادن من يهادنه، ويحارب من يحاربه، ولم يكره أحدًا على دينه قط، وهذا واضح جلي لمن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم. 2- إقامة الحجة على الخلق، وبيان المحجة لهم ببيان الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، وليس ثمة غير هذين الطريقين، كما قال تعالى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]. فمن أطاع الله رشد في دنياه وأخراه، ومن عصى الله فقد غوى في دنياه وأخراه، وقد أحسن القائل:  الموتُ بابٌ وكلُّ الناس داخلُه   ![]() يا ليت شعري بعد الموت ما الدار ![]()  الدار جنة عدن إن عملت بما   ![]() يرضي الله وإن فرطت فالنار ![]()  هما محلان ما للناس غيرهما   ![]() فاختر لنفسك ماذا أنت تختار[2] ![]() 3- أن الدين الإسلامي دين العقل والعلم ودين الفطرة والحكمة ودين الحق والرشد، لا يحتاج إلى إكراه لكماله وبيان آياته، ووضوح براهينه. 4- أن الدخول في دين الله يستلزم أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله. أي يستلزم نفي الشرك، وإخلاص العبودية لله تعالى وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾، وذلك معنى: «لا إله إلا الله». 5- أن النجاة كل النجاة بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله تعالى، فلا نجاة إلا بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾. 6- أن التخلية قبل التحلية؛ لتقديم الكفر بالطاغوت في الآية على الإيمان بالله. 7- الإغراء بالتمسك بعروة الدين والإيمان والإسلام؛ لأنها العروة التي لا تنفصم وفيها الضمان والأمان والسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة. 8- أن من آمن بالطاغوت وكفر بالله، أو كفر بالله وإن لم يؤمن بالطاغوت فهو هالك خاسر، لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ الآية. 9- إثبات صفة السمع لله عز وجل الذي وسع جميع الأصوات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾. 10- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي وسع كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾. 11- إثبات ولاية الله تعالى الخاصة بالمؤمنين، ولاية التوفيق والحفظ والتسديد والنصر؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾. وهناك النوع الثاني من الولاية، وهي ولايته عز وجل لجميع الخلق بما فيهم الكفار، كما قال تعالى: ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30]. فهو عز وجل ولي جميع الخلق خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم. 12- براءة الله عز وجل من الذين كفروا وحرمانهم ولايته الخاصة؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11]. 13- فضل الإيمان والترغيب فيه؛ لأن به تحصل ولاية الله تعالى الخاصة للعبد. 14- أن أعظم ثمرات ولاية الله عز وجل للمؤمنين إخراجهم بالإيمان من الظلمات إلى النور؛ لأن الله أعقب ذكر ولايته لهم بقوله: ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾. 15- الإشارة إلى أن طرق الباطل كثيرة متعددة، وأن طريق الحق واحد؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ بجمع الظلمات وإفراد النور. 16- أن الكافرين أولياؤهم الطاغوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾، وبئست الولاية. 17- سوء عاقبة ولاية الشيطان للذين كفروا لإخراجه لهم بالكفر من النور إلى الظلمات؛ لقوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾؛ أي: من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل. 18- تفرُّده عز وجل وحده بولاية المؤمنين، وكثرة أولياء الكافرين وتعددهم؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالإفراد، بينما قال: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ بالجمع. 19- إثبات وجود النار؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 131]. وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماء، كما عرضت عليه في صلاة الكسوف، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء»[3]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب»[4]. 20- ملازمة الكفار للنار وخلودهم فيها خلودًا أبديًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. 21- أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، للحصر في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وعلى هذا فمن دخل النار من أهل المعاصي من المؤمنين فإنه لا يخلد فيها، بل يعذب بقدر ذنبه ثم يخرج منها، وقد يعفو الله عز وجل عنه فلا يدخلها. [1] كما جاء في حديث بريدة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2612)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858). [2] الأبيات لأبي العتاهية؛ انظر: «ديوانه» (ص 141). [3] أخرجه البخاري في الإيمان (29)، ومسلم في الكسوف (907)، والنسائي في الكسوف (1493). [4] أخرجه البخاري في المناقب، قصة خزاعة (3521)، ومسلم في الجنة، النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (3856). 
__________________ 
  | 
| 
 
 
#320  
 
 | 
||||
  | 
||||
| 
 «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ 1- أنه لا إكراه لأحد على الدخول في الدين، ولا ينبغي أن يكره أحد على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾. وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل جيوشه إلى الأمصار أوصاهم بثلاث: أولًا: دعوتهم إلى الإسلام، فإن أبَوْا أخذوا منهم الجزية، فإن أبوا قاتلوهم[1]. فلا يُكره أحدٌ على الدخول في الدين، سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم من الكفار، وهذا هو الثابت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في سلمه وغزواته وحروبه، يسالم من يسالمه، ويهادن من يهادنه، ويحارب من يحاربه، ولم يكره أحدًا على دينه قط، وهذا واضح جلي لمن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم. 2- إقامة الحجة على الخلق، وبيان المحجة لهم ببيان الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، وليس ثمة غير هذين الطريقين، كما قال تعالى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]. فمن أطاع الله رشد في دنياه وأخراه، ومن عصى الله فقد غوى في دنياه وأخراه، وقد أحسن القائل:  الموتُ بابٌ وكلُّ الناس داخلُه   ![]() يا ليت شعري بعد الموت ما الدار ![]()  الدار جنة عدن إن عملت بما   ![]() يرضي الله وإن فرطت فالنار ![]()  هما محلان ما للناس غيرهما   ![]() فاختر لنفسك ماذا أنت تختار[2] ![]() 3- أن الدين الإسلامي دين العقل والعلم ودين الفطرة والحكمة ودين الحق والرشد، لا يحتاج إلى إكراه لكماله وبيان آياته، ووضوح براهينه. 4- أن الدخول في دين الله يستلزم أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله. أي يستلزم نفي الشرك، وإخلاص العبودية لله تعالى وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾، وذلك معنى: «لا إله إلا الله». 5- أن النجاة كل النجاة بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله تعالى، فلا نجاة إلا بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾. 6- أن التخلية قبل التحلية؛ لتقديم الكفر بالطاغوت في الآية على الإيمان بالله. 7- الإغراء بالتمسك بعروة الدين والإيمان والإسلام؛ لأنها العروة التي لا تنفصم وفيها الضمان والأمان والسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة. 8- أن من آمن بالطاغوت وكفر بالله، أو كفر بالله وإن لم يؤمن بالطاغوت فهو هالك خاسر، لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ الآية. 9- إثبات صفة السمع لله عز وجل الذي وسع جميع الأصوات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾. 10- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي وسع كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾. 11- إثبات ولاية الله تعالى الخاصة بالمؤمنين، ولاية التوفيق والحفظ والتسديد والنصر؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾. وهناك النوع الثاني من الولاية، وهي ولايته عز وجل لجميع الخلق بما فيهم الكفار، كما قال تعالى: ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30]. فهو عز وجل ولي جميع الخلق خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم. 12- براءة الله عز وجل من الذين كفروا وحرمانهم ولايته الخاصة؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11]. 13- فضل الإيمان والترغيب فيه؛ لأن به تحصل ولاية الله تعالى الخاصة للعبد. 14- أن أعظم ثمرات ولاية الله عز وجل للمؤمنين إخراجهم بالإيمان من الظلمات إلى النور؛ لأن الله أعقب ذكر ولايته لهم بقوله: ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾. 15- الإشارة إلى أن طرق الباطل كثيرة متعددة، وأن طريق الحق واحد؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ بجمع الظلمات وإفراد النور. 16- أن الكافرين أولياؤهم الطاغوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾، وبئست الولاية. 17- سوء عاقبة ولاية الشيطان للذين كفروا لإخراجه لهم بالكفر من النور إلى الظلمات؛ لقوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾؛ أي: من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل. 18- تفرُّده عز وجل وحده بولاية المؤمنين، وكثرة أولياء الكافرين وتعددهم؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالإفراد، بينما قال: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ بالجمع. 19- إثبات وجود النار؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 131]. وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماء، كما عرضت عليه في صلاة الكسوف، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء»[3]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب»[4]. 20- ملازمة الكفار للنار وخلودهم فيها خلودًا أبديًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. 21- أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، للحصر في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وعلى هذا فمن دخل النار من أهل المعاصي من المؤمنين فإنه لا يخلد فيها، بل يعذب بقدر ذنبه ثم يخرج منها، وقد يعفو الله عز وجل عنه فلا يدخلها. [1] كما جاء في حديث بريدة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2612)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858). [2] الأبيات لأبي العتاهية؛ انظر: «ديوانه» (ص 141). [3] أخرجه البخاري في الإيمان (29)، ومسلم في الكسوف (907)، والنسائي في الكسوف (1493). [4] أخرجه البخاري في المناقب، قصة خزاعة (3521)، ومسلم في الجنة، النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (3856). 
__________________ 
  | 
![]()  | 
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
  | 
  | 
 
| 
 
  | 
| 
 Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour  |