|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#51
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#52
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (52) صـ151 إلى صـ 162 المسألة الخامسة إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين : من جهة دلالته على المعنى الأصلي ، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي; كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام ، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي ، أو يعم الجهتين معا ؟ أما جهة المعنى الأصلي; فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ، ولا يسع فيه خلاف على حال ، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي ، والعمومات والخصوصات ، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول . وأما جهة المعنى التبعي; فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا ؟ هذا محل تردد ، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر . فللمصحح أن يستدل بأوجه : أحدها : أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه ، أو لا ، ولا يمكن عدم اعتباره; لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه ، وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح ، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا; لم يمكن إهماله واطراحه ، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول; فهو إذا معتبر ، وهو المطلوب . والثاني : أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها [ ص: 152 ] بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى ، وما دل بالجهة الثانية ، هذا وإن قلنا : إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص; فذلك كله غير ضائر ، وإذا كان كذلك ، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص ، وترجيح من غير مرجح ، وذلك كله باطل ، فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية ، فكان اعتبارهما معا هو المتعين . والثالث : أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة ، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ، والمقصود الإخبار بنقصان [ ص: 153 ] الدين ، لا الإخبار بأقصى المدة ، ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها . واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره ، بقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء ، حتى يغسلها الحديث; فقال : لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب [ ص: 154 ] الاستحباب; فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة ، لكنه لازم مما قصد ذكره . وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] ، مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] ; فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل ، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا ، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر . وقالوا في قوله تعالى : فالآن باشروهن ، إلى قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] الآية ، إنه يدل على جواز الإصباح جنبا ، وصحة الصيام ; لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك ، وإن لم يكن مقصود البيان; لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب . واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] . وأشباه ذلك من الآيات; فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله [ ص: 155 ] وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد ، لا أن الولد لا يملك ، لكنه لزم من نفي الولادة أن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا ، إذ لا موجود إلا رب أو عبد . واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام : فيما سقت السماء العشر الحديث ، مع أن المقصود تقدير [ ص: 156 ] الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ، ومثله كل عام نزل على سبب ، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود ، وإن كان السبب على الخصوص . واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع . وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، مع أن المقصود في قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك ; [ ص: 157 ] لا خصوص الذكر . إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة ، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول ، وإذا كان كذلك; ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به . وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه : أحدها : أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها; فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ، ومقوية لها وموضحة لمعناها ، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ، ومن العقول موقع الفهم ، كما نقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] . وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] . فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر ، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي ، [ ص: 158 ] فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ، ولا يصح أن يؤخذ ، وكما نقول في نحو : واسأل القرية التي كنا فيها [ يوسف : 82 ] : إن المقصود : سل أهل القرية ، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك; فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم ، وكذلك قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض [ هود : 107 ] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان ، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار . . . إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها ، وإذا كان [ ص: 159 ] كذلك; فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى; فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال . والثاني : أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى; إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل; فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية ، وقد فرضناه من الثانية ، هذا خلف لا يمكن . [ ص: 160 ] لا يقال : إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد ، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية : إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، والجميع مقصود للشارع ، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية ، وينبني على ذلك في أحكام التكليف حسب ما يأتي بعد إن شاء الله; فكذلك نقول هنا : إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها; لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا ، وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحيح ، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى ، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى . لأنا نقول : هذا - إن سلم - من أدل الدليل على ما تقدم ; لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا ، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح ، وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع ، فكذلك نقول في مسألتنا : إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى ، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي ، فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي ، وهو المطلوب . وأيضا; فإن بين المسألتين فرقا ، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات ، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم ، وقضاء أوطارهم ، ورفع الحرج عنهم ، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات; صح [ ص: 161 ] إفراده بالقصد من هذه الجهة ، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية ، بخلاف مسألتنا; فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى; لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد ، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره . والثالث : أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة ، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها ، وذلك غير صحيح ، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى ، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي ، وذلك غير صحيح ، فما أدى إليه مثله ، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم ، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين : إما إلى الجهة الأولى ، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك . فأما مدة الحيض; فلا نسلم أن الحديث دال عليها ، وفيه النزاع ، ولذلك يقول الحنفية : إن أكثرها عشرة أيام ، وإن سلم; فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع ، وفيه الكلام . ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره ، وأقل مدة [ ص: 162 ] الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية ، وكذلك مسألة الإصباح جنبا; إذ لا يمكن غير ذلك ، وأما كون الولد لا يملك ، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع ، وما ذكر في مسألة الزكاة ، فالقائل بالتعميم - إنما بنى على أن العموم مقصود ، ولم يبن على أنه غير مقصود ، وإلا كان تناقضا; لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع ، فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود ، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] فهو عنده مقصود لا ملغى ، وإلا لزم التناقض في الأمر كما ذكر ، وكذلك شأن القياس الجلي لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس ، إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه ، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب . فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت ، فلا يصح إعماله ألبتة ، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث ، كذلك يمكن في الأول والثاني ، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه : فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا; فلا يمكن إهماله ، وهذا عين مسألة النزاع ، والثاني مسلم ، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه; فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا ، والله أعلم . ![]()
__________________
|
#53
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#54
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (54) صـ170 إلى صـ 179 النوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ويحتوي على مسائل المسألة الأولى ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به ، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ، ولا معنى لبيان ذلك هاهنا; فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ، ولكن نبني عليها ونقول : إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه; [ ص: 172 ] فقول الله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وقوله في الحديث : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، وقوله : " لا تمت [ ص: 173 ] وأنت ظالم " ، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة ، وهو الإسلام ، وترك الظلم ، والكف عن القتل ، والتسليم لأمر الله ، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل . ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا [ ص: 174 ] تشرف يا رسول الله ، لا يصيبوك الحديث; فقوله : " لا يصيبوك " من هذا القبيل . [ ص: 175 ] المسألة الثانية إذا ثبت هذا; فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها ، فإنه من تكليف ما لا يطاق ، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ، ولا تكميل ما نقص منها; فإن ذلك غير مقدور للإنسان ، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل ، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل ، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب . [ ص: 176 ] المسألة الثالثة إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان ; فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان : منها : ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم . ومنها : ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ، ومثاله العجلة ، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه; لقوله تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] . وفي الصحيح : إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك . وقد جاء أن : " الشجاعة والجبن غرائز " . و " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها " . [ ص: 177 ] إلى أشياء من هذا القبيل ، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات . وجاء : " يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب " . [ ص: 178 ] وإذا ثبت هذا; فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام : أحدها : ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا ، وهذا قليل; كقوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به . والثاني : ما كان داخلا تحت كسبه قطعا ، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه ، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها . والثالث : ما قد يشتبه أمره; كالحب والبغض وما في معناهما; فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها ، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه ، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا; إما لأنها من أصل الخلقة ، فلا يطلب إلا بتوابعها; فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية ، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه ، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب ، وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر ، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه; فالطلب يرد عليه كقوله : " تهادوا تحابوا " فيكون كقوله : " أحبوا [ ص: 179 ] الله لما أسدى إليكم من نعمه " مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى [ ص: 180 ] على العبد وكثرة إحسانه إليه ، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل ، وعين الشهوة لم ينه عنه ، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه; [ ص: 181 ] فالطلب يرد على اللواحق; كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع . ![]()
__________________
|
#55
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (55) صـ180 إلى صـ 190 فصل ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه ، وما ينشأ عنها من آفات اللسان ، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره . وعليه يدل كثير من الأحاديث ، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة; كالعلم ، والتفكر ، والاعتبار ، واليقين ، والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، وأشباهها مما هو نتيجة عمل ، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها ، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا ، فليس تحصيله بمقدور أصلا ، فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات ، فهو حاصل ولا يمكنه الانصراف عنه ، وإن كان غير ضروري لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر ، وهو المكتسب دون نفس العلم; لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة ، لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هو المكتسب ، فيكون المطلوب وحده ، وأما العلم على أثر النظر ، فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها ، كما هو رأي المحققين ، أم لم نقل ذلك ، فالجميع متفقون على [ ص: 183 ] أنه غير داخل تحت الكسب نفسه ، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال . وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا ، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل ، وإذا كانت على هذا الترتيب; لم يصح التكليف بها أنفسها ، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك; فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها ، أو يتأخر عنها ، أو يقارنها ، والله أعلم . المسألة الرابعة الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين : أحدهما : ما كان نتيجة عمل ، كالعلم والحب في نحو قوله : " أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه " . والثاني : ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل ، كالشجاعة ، والجبن ، والحلم ، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس ، وما كان نحوها . فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة ، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة ، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها ، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض ، على ذلك الترتيب . والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين : إحداهما : من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له . والثانية : من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع ؟ فأما النظر الأول; فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس : إن فيك لخصلتين يحبهما [ ص: 185 ] الله : الحلم ، والأناة . وفي بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما ، وفي بعض الحديث : " الشجاعة والجبن غرائز " . [ ص: 186 ] وجاء : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية [ ص: 187 ] وفي الحديث : الأرواح جنود مجندة; فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وهذا معنى التحاب والتباغض ، وهو غير مكتسب . وجاء في الحديث : وجبت محبتي للمتحابين في . وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله [ ص: 188 ] من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر ، والضعف خلاف ذلك . وجاء : إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها . [ ص: 189 ] وجاء : يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب . وقال تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] . وجاء في معرض الذم والكراهية ، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة . ولا يقال : إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال; لأن ذلك : أولا : خروج عن الظاهر بغير دليل . وثانيا : أنهما يصح تعلقهما بالذوات ، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات; كقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية . أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه . و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله . [ ص: 190 ] ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال : إن المراد حب الأفعال فقط; فكذلك لا يقال في الصفات - إذا توجه الحب إليها في الظاهر - إن المراد الأفعال . ![]()
__________________
|
#56
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (56) صـ191 إلى صـ 203 فصل وإذا ثبت هذا; فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال; كقوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ النساء : 148 ] . ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم [ التوبة : 46 ] . أبغض الحلال إلى الله الطلاق . ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه . [ ص: 191 ] وهذا كثير . وإذا قلت : أحب الشجاع وأكره الجبان; فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف; نحو قوله تعالى : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] . والله يحب الصابرين [ آل عمران : 146 ] . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وفي القرآن أيضا : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] . والله لا يحب الظالمين [ آل عمران : 57 ] . وفي الحديث : إن الله يبغض الحبر السمين . [ ص: 192 ] [ ص: 193 ] فإذا; الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال ; فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل . وأما النظر الثاني وهو أن يقال : هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف - وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها - الثواب والعقاب أم لا يصح ؟ هذا يتصور في ثلاثة أوجه : أحدها : أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب . والثاني : أن يتعلقا معا بها . والثالث : أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر . أما هذا الأخير; فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما . فأما الأول; فيستدل عليه بوجهين : أحدهما : أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا; لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب ، لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا; فالأوصاف المشار إليها لا [ ص: 194 ] ثواب عليها ولا عقاب . والثاني : أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف; إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات أو من جهة متعلقاتها ، فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها ، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ، ومعاقبا عليها أيضا كذلك ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة ، وذلك محال ، وإن كان من حيث متعلقاتها ، فالثواب والعقاب على المتعلقات - وهي الأفعال والتروك - لا عليها ، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وهو المطلوب . وأما الثاني; فيستدل عليه أيضا بأمرين : أحدهما : أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها ، والحب والبغض من الله تعالى; إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام; فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام; فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة [ ص: 195 ] أخرى ، وعلى كلا الوجهين ، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام ، وهما عين الثواب والعقاب; فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب . والثاني : أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات; إما أن يستلزم الثواب والعقاب ، أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب ، وإن لم يستلزم ، فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد وهو الجزاء; لا زائد يرجع للعبد إلا ذلك . [ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] وأمر ثالث : وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات ، أو لا ، فإن كان الجزاء متفاوتا; فقد صار للصفات قسط من الجزاء ، وهو المطلوب ، وإن كان متساويا; لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل ، وذلك غير صحيح ، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب ، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك . وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب ، وبالعكس ، وهو محال; فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب ، وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء; فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها ، وذلك ما أردنا . [ ص: 201 ] وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل . أما الأول; فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان ، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف ، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب; فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا ، علم بها أو لم يعلم ، والثاني; كشارب الخمر ، ومن أتى عرافا; فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت [ ص: 202 ] أركانها وشروطها ، ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم ، عدلا كان أو فاسقا ، وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل . وأما الثاني; فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء ، فقوله : إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف; فقد ثبت بطلانه ، وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب ، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه . ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته : أما الأول ، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور ، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها . وأما الثاني; فإن القسمة غير منحصرة; إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب ، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات . وأما الثالث; فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات; فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان ، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال [ ص: 203 ] الصانع وبالضد; فكذلك هاهنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات ، وهو المطلوب . فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ، ولا حاجة إليه في هذا الموضع ، وبالله التوفيق . ![]()
__________________
|
#57
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (57) صـ204 إلى صـ 213 المسألة الخامسة تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف ، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره ، لكنه شاق ، فهذا موضعه; فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق ، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق ، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق . وأيضا; فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء ، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم . [ ص: 205 ] [ ص: 206 ] وأما المعتزلة; فذلك أصلهم ، بخلاف التكليف بما يشق ، فإذا كان كذلك; فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة . ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى " المشقة " ، وهي في [ ص: 207 ] أصل اللغة من قولك : شق علي الشيء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] . والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي; اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية : أحدها : أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة ، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي; كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك ، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة; سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة . والثاني : أن يكون خاصا بالمقدور عليه; إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية ، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة . إلا أن هذا الوجه على ضربين : أحدهما : أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء; كالصوم في المرض والسفر ، والإتمام في السفر ، وما أشبه ذلك . والثاني : ألا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها ، صارت شاقة ، ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما ، إلا أنه في الدوام [ ص: 208 ] يتعبه ، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا ، حسب ما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال ، وعن التنطع والتكلف ، وقال : خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا . وقوله : القصد ، القصد تبلغوا . والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر; فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي . [ ص: 209 ] والوجه الثالث : أن يكون خاصا بالمقدور عليه ، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة; لأن العرب تقول : كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا ، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا . والرابع : أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله; فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق . فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها ، انتظمت في أربعة : فأما الأول; فقد تخلص في الأصول ، وتقدم ما يتعلق به . وأما الثاني : وهي : [ ص: 210 ] المسألة السادسة فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالشاق الإعنات فيه ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : النصوص الدالة على ذلك; كقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] . وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] الآية . وفي الحديث : " قال الله تعالى : قد فعلت " . وجاء : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] . يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] . [ ص: 211 ] وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] . ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية . وفي الحديث : بعثت بالحنيفية السمحة . وما خير بين شيئين; إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما . [ ص: 212 ] وإنما قال : " ما لم يكن إثما " ; لأن ترك الإثم لا مشقة فيه ، من حيث كان مجرد ترك ، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ، ولكان مريدا للحرج والعسر ، وذلك باطل . والثاني : ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص ، وهو أمر مقطوع به ، ومما علم من دين الأمة ضرورة; كرخص القصر ، والفطر ، والجمع ، وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة ، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف ، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف . والثالث : الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف ، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه ، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض [ ص: 213 ] والاختلاف ، وذلك منفي عنها; فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة ، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير; كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا ، وهي منزهة عن ذلك . وأما الثالث : وهي : ![]()
__________________
|
#58
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (58) صـ214 إلى صـ 221 المسألة السابعة فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع; لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد ، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك; فكذلك المعتاد في التكاليف . وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة ، والتي تعد مشقة ، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه ، أو عن بعضه ، أو إلى وقوع خلل في صاحبه ، في نفسه أو ماله ، أو حال من أحواله ، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب; فلا يعد في العادة مشقة ، وإن سميت كلفة ، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار ، في أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له قدرة عليها ، بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره ، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات ، فكذلك التكاليف; فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة . [ ص: 215 ] وإذا تقرر هذا; فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة ، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف ، والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا . فإن قيل : ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف; لأوجه : أحدها : أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك; إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة ، وهي المشقة فقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ; معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها ، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة; فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة ، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة ، لتسمية الشرع له تكليفا; فهي إذا مقصودة له ، وعلى هذا النحو [ ص: 216 ] يتنزل قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وأشباهه . والثاني : أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة; فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك ، فإذا يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة ، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب ، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام; فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا . والثالث : أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف ، مع قطع النظر عن ثواب التكليف; كقوله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله [ التوبة : 120 ] إلى آخر الآية . وقوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] . وما جاء في " كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا " [ ص: 217 ] وما جاء في " إسباغ الوضوء على المكاره " . وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] الآية ، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات; حتى قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، وأشباه ذلك . فإذا كانت المشقات - من حيث هي مشقات - مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف; دل على أنها مقصود له ، وإلا ، فلو لم يقصدها; لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها ، فأوقعها المكلف باختياره حسب ما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام; فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف ، وهو المطلوب . فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين : أحدهما : أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة . والثاني : أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا . [ ص: 218 ] فأما الثاني; فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل ، والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب . وأما الأول; فلا نسلم أنه قصد ذلك ، والقصدان لا يلزم اجتماعهما; فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع ، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتأكلة; نفع المريض لا إيلامه ، وإن كان على علم من حصول الإيلام; فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة ، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة ، فالنزاع في قصده للمشقة ، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه ، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه ، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسب ما هو معلوم في علم الاشتقاق ، من غير أن يكون ذلك مجازا ، بل على حقيقة الوضع اللغوي . [ ص: 219 ] والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب - وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف - ; فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه ، أعني : في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة ، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة ، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه ، وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع; إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد ، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام ، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله . وأيضا ، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا; لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة وإيقاعها معا ، وهو محال باطل عقلا وسمعا . وأيضا; فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتأكلة ، وقلع الأضراس الوجعة ، وبط الجراحات الوجعة ، وأن يحمي المريض ما يشتهيه ، وإن كان يلزم منه إذاية المريض; لأن المقصود إنما هو [ ص: 220 ] المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم ، وهذا شأن الشريعة أبدا ، فإذا كان التكليف على وجه ، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة; لأن المقصود المصلحة ; فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع ، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها ، فإذا أمر بما تلزم عنه ، فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة . وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم ، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة; فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها . والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلف به ، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود ، لا أنها مقصودة مطلقا ، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ، ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات ، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب ، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها; إلا كفر الله به من سيئاته وما أشبه ذلك . [ ص: 221 ] وأيضا; فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع ، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى . ![]()
__________________
|
#59
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (59) صـ222 إلى صـ 232 فصل ويترتب على هذا أصل آخر : وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل . أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب . وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض . [ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! . وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا . وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة . وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه . وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر . وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم . وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " . فالجواب أن نقول : أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات . وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " . وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه . [ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى . وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله . [ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني . وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا . ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس . وقال : هلك المتنطعون . [ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق . فصل وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر . وهو أن الأفعال المأذون فيها; إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة ، إذا تسبب عنها مشقة ; فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل ، أو لا تكون معتادة ، فإن كانت معتادة; فذلك الذي تقدم الكلام عليه ، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة ، وإن لم تكن معتادة; فهي أولى ألا تكون مقصودة للشارع ، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره ، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله ، أو لا . فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به; لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ، ومثال هذا حديث الناذر للصيام [ ص: 230 ] قائما في الشمس ، ولذلك قال مالك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال : " أمره أن يتم ما كان لله طاعة ، ونهاه عما كان لله معصية " ; لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة ، لا بسبب الدخول في العمل; كما في المثال; فالحكم فيه بين . وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما ، والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا; إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل ، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وجاء فيه مشروعية الرخص . ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة; فذاك ، ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه ، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه ، وإن لم يعمل بالرخصة; فعلى وجهين : أحدهما : أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ، ويكره بسببه العمل; فهذا أمر ليس له ، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك ، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش . وفي مثل هذا جاء : ليس من البر الصيام في السفر . [ ص: 231 ] وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان . وقال : لا يقض القاضي وهو غضبان . وفي القرآن : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] . إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله ، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب ، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف . والثاني : أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ، ولكن في العمل مشقة غير معتادة; فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام ، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت ، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج ، وإن قدر على الصبر عليها; فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة . [ ص: 232 ] إلا أن هنا وجها ثالثا ، وهو أن تكون المشقة غير معتادة ، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ، ورب شيء هكذا ، فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى ، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية ، وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة على المكلف ، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة ، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ، وقام حتى تفطرت قدماه ، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية . وهذا القسم يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس; فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه ، مع تأكده في أصول الشريعة . ![]()
__________________
|
#60
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |