|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#711
|
||||
|
||||
![]() شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) كتاب الإمارة شرح سنن أبي داود [412] الحلقة (444) شرح سنن أبي داود [412] إن العلم الشرعي فضله عظيم ومنزلته رفيعة، وقد جاء في فضله آيات وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن من فضله إلا أنه طريق من طرق الجنة لكفى؛ لذلك يجب على المسلمين والمسلمات أن يتعلموا أمور دينهم الواجبة؛ حتى يعبدوا الله على علم وبصيرة. الحث على طلب العلم شرح حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب العلم. باب الحث على طلب العلم. حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ] . أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب العلم، والعلم الذي يأتي مدحه والثناء عليه في الكتاب والسنة، وكذلك العلماء الذي يأتي الثناء عليهم في الكتاب والسنة، المقصود بذلك: العلم الشرعي، وعلماء الشريعة، والعلم الشرعي هو: علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة، هذا هو العلم المحمود الممدوح الذي أُثني عليه وعلى أهله في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقد بدأ أبو داود في هذا بباب الحث على طلب العلم، يعني: الترغيب فيه، وأورد فيه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو مشتمل على خمس جمل، وكل جملة من هذه الجمل الخمس تدل على فضل العلم الشرعي وفضل أهله. أول هذه الجمل قوله: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وهذا فيه أن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقاً للعلم فجزاؤه أنه يُسهل له طريق الجنة، والجزاء من جنس العمل، فالعمل هو: سلوك طريق يوصل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيل وتيسير طريق يوصل إلى الجنة، فهذا يدل على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن من سلك الطريقة الموصلة إلى العلم فإنه يجازى على ذلك بأن ييسر له الطريق والسبيل التي توصله إلى الجنة، هذه هي الجملة الأولى من الجمل الخمس. الجملة الثانية: (وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم) ، ووضع أجنحة الملائكة لطالب العلم قيل: هو كونها تتواضع له وتخضع، وتحرص على أن تحيط وتحضر تلك المجالس الخيرة الطيبة، فإن المجالس التي تحضرها الملائكة هي مجالس العلم. وقيل: معنى وضع أجنحتها: أنها تنتهي من طيرانها وسيرها وتقف عنده، وتحضر ذلك المجلس الذي هو مجلس الذكر ومجلس العلم، وهذا يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم. الجملة الثالثة: (وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء) وهذا شيء عظيم، فكون هذه المخلوقات الكثيرة العلوية والسفلية، السماء بما فيها من ملائكة، والأرض وما فيها من دواب وحيوانات في البر والبحر؛ كلها تستغفر لطالب العلم، هذا شيء عظيم! فهذا شأن العوالم الكثيرة والخلائق الكثيرة في السماوات وفي الأرض مع طالب العلم، حيث تستغفر له وتدعو له، وهذا شرف عظيم. والسماء فيها ملائكة لا يحصيهم إلا الله عز وجل؛ فإن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة محاذ للكعبة ولو سقط لسقط عليها- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم خلق كثير، وكل هؤلاء يستغفرون لطالب العلم، ويدعون لطالب العلم! فهذا شرف وفضل كبير من الله سبحانه وتعالى للمشتغل بعلم الشريعة علم الكتاب والسنة، علم (قال الله وقال رسوله وقال الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم) . وقيل: إن هذه الدواب تستغفر لطالب العلم؛ لأنه يشتغل بشيء يعود عليها نفعه، ويعود عليها فائدته؛ وذلك أن العلم الشرعي فيه الرفق بهذه الحيوانات وهذه الدواب، وكذلك الحث على الإنفاق عليها ممن يكون مالكاً لها، فيصل إليها نفع العالم ونفع طالب العلم؛ لأنه يظهر الشيء الذي يعم نفعه حتى يصل إلى هذه الدواب، وهذه المخلوقات. الجملة الرابعة: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) يعني: كفضل القمر في وقت الإبدار الذي هو ليلة أربع عشرة، وخمس عشرة، والكواكب لها ضوء ولكنه ضعيف أمام ضوء القمر، فالفرق بين العالم والعابد أن العالم شأنه كشأن القمر، والعابد شأنه كشأن الكواكب، وذلك أن العابد نفعه مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فالذي يصلي ويكثر من الصلاة فصلاته له، ولا أحد يشاركه في صلاته، لكن الذي يشتغل بالعلم ويتعلم ويعلم ويرشد ويوجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعلمه له ولغيره، فالصلاة للمصلي وحده، والعلم لصاحب العلم ولغير صاحب العلم، فنفعه متعدٍ، فالصلاة أو العبادة نفعها قاصر على صاحبها؛ ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. الجملة الخامسة: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فشرف عظيم للعلماء أن يقال: إنهم ورثة الأنبياء، وأن يوصفوا بأنهم وارثو الأنبياء، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورث عنهم المال، ولم يرسلوا لجمع المال، وتركه لأقاربهم الوارثين، بل المال لا يورث عنهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة) . إذاً: فميراثهم واسع ومبذول لكل أحد، وليس للأقارب دون غيرهم، ولا لأحد دون أحد، وإنما هو لكل أحد مبذول، ومن أراد أن يحصل العلم فالباب مفتوح، والطريق سالك، فما عليه إلا أن يقدم ويحرص على أن يحصل على نصيب من هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة؛ ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء جاءوا بالعلم النافع، والعلماء هم الذين يرثونهم ويتلقون ذلك الميراث، ويحافظون عليه، ويعنون به، وينشرونه ويبذلونه ويعملون بما فيه، ويدعون الناس إلى العمل بما فيه، هذا هو شأن العلماء. إذاً: فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس ميراثهم لأقاربهم، وإنما هو عام لكل أحد؛ لأن المال لا يورث عنهم، وإنما يورث عنهم العلم، ويورث عنهم الحق والهدى، هذا هو ميراثهم، وهو مبذول لكل أحد، وبابه مفتوح لكل أحد، ولا يختص به أحد دون أحد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وانما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) . والحاصل: أن هذا حديث عظيم اشتمل على خمس جمل كل واحدة منها تدل على فضل العلم وأهل العلم. تراجم رجال إسناد حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد] . مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. [حدثنا عبد الله بن داود] . عبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن. [سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة] . عاصم بن رجاء بن حيوة صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة. [عن داود بن جميل] . داود بن جميل ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة. [عن كثير بن قيس] . كثير بن قيس ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة. [قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء] أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته أبي الدرداء، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة. طريق أخرى لحديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وتراجم رجالها قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد قال: لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة عن أبي الدرداء. يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه] . أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وأحال على الأولى بقوله: بمعناه، أي: بمعنى اللفظ الأول، وبمعنى: الحديث الأول الذي جاء من الطريق الأولى. قوله: [حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي] . محمد بن الوزير الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود. [حدثنا الوليد] . الوليد هو ابن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [قال: لقيت شبيب بن شيبة] . شبيب بن شيبة مجهول، وقيل: إن الصواب هو شعيب بن رزيق وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود في القدر والترمذي. [فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة] . عثمان بن أبي سودة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. [عن أبي الدرداء] . أبو الدرداء رضي الله عنه تقدم ذكره. الحديث في إسناده الأول رجلان مجهولان، وفي إسناده الثاني راو فيه كلام، والحديث حسنه الألباني، وقال: إن الطريق الثانية حسنة. والحديث هذا شرحه الحافظ ابن رجب في جزء لطيف على طريقة الحافظ ابن رجب رحمه الله في الأجزاء الحديثية، حيث يروي فيها الآثار عن السلف من الصحابة ومن بعدهم، ومن الأجزاء الحديثية التي شرح فيها بعض الأحاديث هذا الحديث الذي هو حديث أبي الدرداء في طلب العلم، وبعض الجمل من هذا الحديث جاءت في أحاديث أخرى، فالجملة الأولى جاءت في حديث أبي هريرة الذي سيأتي وهو في صحيح مسلم، وكذلك بعض الجمل فيه جاءت متفرقة في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. استغفار جميع الكائنات البحرية وغيرها لطالب العلم وأما هل الحيتان هي التي تستغفر فقط أم جميع الكائنات التي في البحر؟ ف الجواب أن حيوانات البر والبحر والعوالم التي في السماء وهم الملائكة يستغفرون لطالب العلم؛ لقوله: (يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء) . سبب ذكر القمر دون الشمس وأما سبب ذكر القمر مع أن الشمس أنفع للناس فهو أن القمر يهتدى به في الظلام، والنجوم يهتدى بها، ولكن الاهتداء بالنجوم هو دون الاهتداء بالقمر، وذكر القمر والنجوم لأنها هي التي تكون في الليل والناس يستفيدون منها في الظلام، وهذا يعني أن ظلمات الجهل تبدد بنور وضياء العلم. وهذا فيه فضل العالم، ويدخل فيه فضل طالب العلم؛ لقوله: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم) ، فطالب العلم مشتغل بالوصول إلى هذه الغاية، ولا شك أن له نصيباً من هذا الثواب والفضل. فضل الرحلة في طلب العلم قوله: [عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه] . هذا يدل على فضل الرحلة في طلب العلم، وعلى أنهم كانوا يرتحلون ويتحملون المشاق في سبيل الحصول على حديث واحد، والسفر في ذلك الوقت شاق ومتعب؛ لأنهم كانوا يسافرون على الدواب وعلى الجمال، ويمكثون الأشهر والمدد الطويلة مع التعب والنصب والمشقة، فكانوا يرتحلون من أجل الحصول على حديث واحد يذكر لهم أنه عند أحد في بلد من البلدان؛ ولهذا كانت الرحلة في طلب الحديث معروفة مشهورة، وفي تراجم الرجال يقال: رحل إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر وإلى الحجاز وإلى اليمن، وكل ذلك بعدما يأخذ حديث أهل بلده ويتعلم على من في بلده، ثم بعد ذلك يبحث عن المزيد فيرتحل إلى مختلف الأقطار، وقد تكون الرحلة في حديث واحد كما في هذا الحديث الذي هنا وفيه: أن رجلاً جاء من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام من أجل حديث واحد بلغه أنه عند أبي الدرداء، وقد قيل: إن تحديث أبي الدرداء بهذا الحديث يحتمل أن يكون هذا الحديث هو الذي كان عنده، والذي كان يقصده الناس من أجله، ويحتمل أن يكون إنما أورده لبيان فضل الاشتغال بطلب العلم، والعناية به، والاهتمام به وتحمل المشاق في سبيل الوصول إليهِ، وكما هو معلوم العلم لا يحصل إلا بالتعب والنصب والمشقة، والعلماء السابقون الذين خلد الله ذكرهم، وبقي الثناء الجميل عليهم إنما كان ذلك نتيجة للجهود العظيمة التي بذلوها في سبيل تحصيل العلم وبذله ونشره، فحصل لهم ذلك الشرف بسبب التعب والنصب والمشقة. والحاصل: أن هذا يدل على الرحلة في طلب الحديث، وأن الواحد كان يرحل من أجل الحديث الواحد. حكم تسمية مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة وقوله: [إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم] قد يقول قائل: هل في هذا دلالة على أن تسميتها بالمدينة المنورة خطأ؟ و الجواب أن وصف المدينة بالمنورة إنما حصل في أزمان متأخرة، ومعناه: أنها نورت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل الإشعاع والنور والضياء الذي انتشر وظهر منها، ومعلوم أن هذا شيء حادث، ولكن هذه التسمية إنما جاءت في زمن متأخر، وفي القرآن وفي السنة إنما يأتي ذكرها بلفظ المدينة، بدون وصف، يعني: أن الآيات من كتاب الله والأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في كلام المتقدمين إنما يأتي ذكرها بلفظ المدينة، والمدينة قيل: إنها علم بالغلبة؛ لأنه غلب على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت المدينة تطلق على المدن، فكل مدينة يقال لها: مدينة، أي: أن هناك مدناً وقرى، ولكن هذا اللفظ عند الإطلاق ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول ابن مالك في الألفية في باب الإضافة: وقد يصير علماً بالغلبة مضاف أو مصحوب أل كالعقبة والعقبة مثل المدينة، ومثل الكتاب لـ سيبويه عند النحويين، فعندما يقال: الكتاب ينصرف إلى كتاب سيبويه، والمدينة تنصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا عند الإطلاق؛ ولهذا في شرح هذا البيت من ألفية ابن مالك يقول ابن عقيل في شرحه: إن من الأعلام ما يكون علماً بغلبة الإطلاق مثل المدينة ومثل الكتاب؛ فإن لفظ المدينة إذا جاء ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان عاماً في كل مدينة، لكنه عند الإطلاق ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، والكتاب الذي هو كتاب سيبويه ينصرف إلى كتاب سيبويه، وإن كان الكتاب يطلق وينطبق على كل كتاب. الحاصل: أن المعروف في نصوص الكتاب والسنة وكذلك في كلام المتقدمين أنهم يقولون: المدينة فقط، ثم جاء في أزمان بعد ذلك في القرن الثامن في كتب ابن كثير وكتب الحافظ ابن حجر أنهم يقولون: المدينة النبوية، وهذا موجود في فتح الباري في مواضع عديدة، وموجود في تفسير ابن كثير وموجود في البداية والنهاية لـ ابن كثير عندما يأتي ذكر المدينة يقول: المدينة النبوية، ثم في الأزمان المتأخرة قيل: المدينة المنورة، وعلى كل الأمر في ذلك واسع، لكن كونه لا يطلق عليها إلا المدينة المنورة، وإذا ذكرت بغير المنورة بأن قيل: المدينة فقط، أو قيل: المدينة النبوية يستنكر ذلك، فهذا أمر منكر، فكما ذكرت الأمر في ذلك واسع، فهي لا شك أنها المدينة النبوية، وهي المدينة، وهي مدينة منورة بالحق والهدى، وظهور النور والهدى كان من هذه المدينة؛ لأنه شع منها النور، وانطلق منها الهداة المصلحون إلى سائر أقطار الأرض، ولكن كونه يعتقد أو أنه ينكر على من لا يقول: المنورة، بأن يقول: المدينة فقط، أو يقول: مدينة الرسول، أو يقول: المدينة النبوية؛ فهذا الإنكار أمر منكر. وأنا ذكرت في الفوائد المنتقاة من فتح الباري مواضع كثيرة في فتح الباري وفي تفسير ابن كثير والبداية والنهاية فيها وصف المدينة بالمدينة النبوية. رحلة العلماء لطلب العلو في الأسانيد رحلة الرجل إلى أبي الدرداء يحتمل أن يكون الحديث كان لا يوجد إلا عند أبي الدرداء، ويحتمل أنه وجده نازلاً، ولكنه ذهب ليحصله عالياً، وقد كانوا يفعلون ذلك، يعني: أن الواحد منهم كان يحصل الحديث نازلاً، ثم يرتحل إلى الذي حدث به من حدثه، ويحصله رأساً، فيكون بذلك مساوياً للذي أخذ منه من قبل، والذي كان حصله عن طريقه نازلاً. شرح حديث (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ] . أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو يشتمل على جملتين: الجملة الأولى هي مثل الجملة الأولى في حديث أبي الدرداء وفيها: (ما من أحد يسلك طريقاً ليحصل به علماً إلا سلك الله به طريقاً إلى الجنة) . والجملة الثانية: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) . وحديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم في صحيحه مطولاً، وهو مشتمل على أمور أخرى غير هذين الأمرين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) كل هذه الجمل موجودة في صحيح مسلم. وقد أورد النووي رحمه الله هذا الحديث في الأربعين النووية؛ لأنه من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث عظيم، والحافظ ابن رجب ضمن كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم شرح هذا الحديث الذي هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفيه جمل فيها أن الجزاء من جنس العمل، كقوله: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وبالمناسبة فإن الذي يحصل لإخواننا المسلمين كالأفغانيين من الذهاب عن بلادهم ونزوحهم؛ بسبب الحرب التي حصلت في بلادهم، هم في حاجة إلى المساعدة وإلى الإعانة وإلى بذل ما يمكن إفادتهم به من المطاعم والملابس وما إلى ذلك، ويدخل هذا في قوله: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، ولاشك أن إخواننا المساكين الذين يحصل لهم ما يحصل من الضرر، ويحصل لهم الهروب من مساكنهم ومن بلادهم، وينالهم ما ينالهم من النصب والمشقة، ويصيرون في العراء بدون مأوى وبدون طعام؛ هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم المسلمين الذين يمدون لهم يد العون. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: أن العمل هو الذي يقرب إلى الله عز وجل، وهو الذي يرتفع الإنسان به درجةً عند الله عز وجل، وليست الأنساب هي التي تقدم وتقرب إلى الله عز وجل، ولكن النسب إذا وجد مع العمل الصالح فهذا شيء طيب، ولكن النسب بدون عمل صالح لا ينفع ولا يفيد، فمن بطأ به عمله على أن يصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة، وأن يكون من أهل الجنة، فليس نسبه هو الذي يسرع به إلى المنازل العالية، ويوصله إلى الدرجات الرفيعة عند الله عز وجل، وإنما العمل الصالح هو الذي يوصل إلى هذه المنازل، وإلى دخول الجنة، كما قال الشاعر: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب وهذان البيتان ذكرهما الحافظ ابن رجب في آخر شرح هذا الحديث من كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، فالتعويل هو على العمل الصالح وليس على الأنساب؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] قال: (يا بني فلان! يا بني فلان! ثم قال: يا صفية عمة رسول الله! أنقذي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) . تراجم رجال إسناد حديث (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة) قوله: [حدثنا أحمد بن يونس] . أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا زائدة] . زائدة بن قدامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الأعمش] . الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي صالح] . أبو صالح هو ذكوان السمان، اسمه ذكوان ولقبه السمان، ويقال له: الزيات، قيل: لأنه كان يجلب الزيت والسمن فلقب بذلك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي هريرة] . أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه. رواية حديث أهل الكتاب شرح حديث (ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رواية حديث أهل الكتاب. حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه: (أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده رجل من اليهود مُرَّ بجنازة، فقال: يا محمد! هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه) ] . أورد أبو داود باب رواية حديث أهل الكتاب، والمقصود من ذلك: أن أهل الكتاب عندما يحصل منهم كلام، ويحصل منهم أحاديث أو إخبار عن شيء موجود في شرائعهم فإنه يروى، ولكنه لا يعول عليه إلا إن جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يؤيده، أما إذا وجد عندهم شيء لم يأت في الكتاب والسنة ما يؤيده، ولم يكن من الأمور الباطلة التي لا تليق برسل الله عز وجل فإنه لا يقبل ولا يرد، وإذا كان الذي يحدثون به ويروونه فيه نيل من أنبياء الله ورسوله، فإن هذا لا يجوز روايته ويجب إنكاره، واعتقاد أنه باطل، وما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يدل على إثباته فإنه يكون ثابتاً بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، مثل قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45] ، فهذه أحكام موجودة في التوراة، ونحن عرفنا أنها موجودة في التوراة المنزلة لمجيء القرآن من الله عز وجل بالإخبار بذلك، فالتوارة المنزلة فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف، وهذا عرفناه عن طريق الكتاب العزيز، وكذلك أيضاً ما يأتي عن طريق السنة نصدق به ونعلم أنه موجود في كتبهم؛ لحصول الإخبار به في السنة المطهرة. وإذا لم يكن لا هذا ولا هذا وليس من الأمور الباطلة التي يجب إنكارها، وكان من الأمور التي لا بأس بها ولا مانع منها، ولكن لم تأت في الكتاب والسنة، وكان كلاماً جميلاً أو كلاماً حسناً؛ فموقفنا منه أننا لا نصدق ولا نكذب به، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. إذاً: هذا هو الموقف مما يكون مع أهل الكتاب سواءً مما بأيدهم من كتب، أو مما يضيفونه إلى دينهم من كلام، أو حتى أيضاً ما يوجد في كتبنا من أخبار إسرائيلية لم تكن ثابتة عندنا واشتملت على كلام جميل، فنحن لا نصدق ولا نكذب، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم؛ لأننا لو صدقنا مطلقاً فيمكن أن يكون باطلاً، فنكون قد صدقنا بباطل، وإن كذبنا مطلقاً فيمكن أن يكون حقاً فنكون قد كذبنا بحق، ولكن إذا لم نصدق ولم نكذب، ولكن قلنا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم فهذا هو الذي فيه السلامة وفيه العصمة والبعد عن الوقوع في شيء محذور. وقد أورد أبو داود حديث أبي نملة وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم) . يعني: أنه قاله عما عندهم في كتبهم، وعما عندهم في دياناتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الله أعلم) ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم بما يجري في القبور وما يحصل في القبور من العذاب ومن الكلام ومن السؤال والجواب، وما إلى ذلك، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك، ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن فيه نملة بن أبي نملة وهو غير محتج به، ولكن الكلام الأخير الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) هذا ثابت في صحيح البخاري، بل قد جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع، منها في كتاب التوحيد ومنها في كتاب الشهادات، وفي مواضع متعددة، وهذه هي الطريقة التي تسلك، فما يحصل من رواية الشيء أو ذكر شيء من أهل الكتاب وعن أهل الكتاب، فإنه يسلك فيه هذا المسلك: لا يُصدقون ولا يُكذبون، ولكن يقال: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم. تراجم رجال إسناد حديث (ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي] . أحمد بن محمد بن ثابت المروزي هو ابن شبويه، وهو ثقة، أخرج له أبو داود. [حدثنا عبد الرزاق] . عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [أخبرنا معمر] . معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الزهري] . الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري] . ابن أبي نملة هو نملة بن أبي نملة وهو مقبول أخرج له أبو داود. [عن أبيه] . أبوه رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود.
__________________
|
#712
|
||||
|
||||
![]() حكم الجلوس مع اليهود إن قيل: هل في هذا الحديث دلالة على جواز الجلوس مع اليهود؟ ف الجواب أن اليهود في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا موجودين في المدينة، وكانوا يأكلون عنده، وكانوا يأتون إليه، ومعلوم أنهم إذا كانوا في بلاد المسلمين أو تحت حكم الإسلام، وجاءوا وحضروا لحاجاتهم ولأمورهم أو لأي شيء يقتضي ذلك، فإنه لا بأس بذلك. تكلم الجنازة الجنازة تتكلم كما جاء في بعض الأحاديث أنها تقول: (قدموني قدموني) ، وجاء أيضاً أنها تتكلم في القبر، وأنه يحصل منها كلام، وكل ذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم) إن ثبت فيكون محمولاً على أنه قبل أن ينزل عليه الوحي ببيان ذلك الذي جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكلم الجنازة. شرح حديث زيد بن ثابت (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة -يعني: ابن زيد بن ثابت - قال: قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله! ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليه) ] . أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه أن يتعلم لغة اليهود حتى يقرأ الكتب التي تأتي بهذه اللغة، وكذلك حتى يكتب إليهم بلغتهم، فكان رضي الله عنه يقرأ ما يأتي ويكتب ما يراد إرساله، وحذقه وأتقنه في فترة وجيزة في مقدار نصف شهر، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه. وهذا الحديث يدل على جواز تعلم اللغة التي يحتاج إلى معرفتها من أجل أن يكتب بها من يحتاج إلى الكتابة في ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إلى ذلك، وقد أمر زيد بن ثابت بهذا، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بالسبب الذي جعله يأمر زيداً، وهو أنه لا يأمن اليهود؛ لا يأمنهم حين يكتبون ولا يأمنهم حين يقرءون؛ لأنهم قد يقرءون له شيئاً على غير الصواب، وقد يكتبون على غير الصواب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد رجلاً من أصحابه يتولى هذه المهمة. ومناسبة الحديث للترجمة أنه يتعلق بروايات أهل الكتاب، وذلك الذي عند أهل الكتاب يمكن أن يعرف عن طريق الترجمة. تراجم رجال إسناد حديث زيد بن ثابت (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود) قوله: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي الزناد] . أحمد بن يونس مر ذكره، وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن، وعبد الرحمن بن أبي الزناد أبوه أبو الزناد، وكنيته أبو عبد الرحمن أي: أنه يكنى بابنه هذا الذي يروي عنه، وأبو الزناد ليس بكنية، ولكنه لقب على صيغة الكنية، وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن خارجة يعني: ابن زيد بن ثابت] . خارجة بن زيد بن ثابت تابعي ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [قال: قال زيد بن ثابت] زيد بن ثابت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. باب في كتاب العلم شرح حديث عبد الله بن عمرو (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كتاب العلم. حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتب، فو الذي نفسي بيده! ما يخرج منه إلا حق) ] . أورد أبو داود باب في كتاب العلم. يعني: كون العلم يكتب، والعلم لا شك أنه يكتب، والحاجة داعية إلى الكتابة؛ حتى لا يضيع العلم؛ لأنه إذا اعتمد على الحفظ فقد يذهب الحفاظ، ويذهب ما معهم، وقد ينسى الحافظ، ولكنه إذا دون اطمأن الناس إلى ضبط العلم وتقييده وعدم تعرضه للضياع. وقد جاءت أحاديث تدل على كتابة العلم، وأحاديث تدل على عدم كتابة العلم، وقد جمع العلماء بين ما جاء في النهي عن كتابة العلم وما يدل على كتابة العلم بأن الأحاديث التي فيها النهي كانت متقدمة، ثم جاء الترخيص متأخراً، فدل على أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بكتابة العلم. وقيل: إنه كان ممنوعاً في أول الأمر حتى لا يختلط الحديث بالقرآن، ولئلا يلتبس غير القرآن بالقرآن، هذا هو السبب، وأما إذا كتب هذا مستقلاً وهذا مستقلاً ولم يختلط هذا بهذا، فإنه لا بأس به. والحاصل: أنه جمع بين الأحاديث الواردة في عدم الكتابة والكتابة بما يدل على اعتبارها جميعاً، وأن المنع من الكتابة كان متقدماً، والإذن بالكتابة كان متأخراً. وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه -أي: إلى لسانه- فقال: اكتب، فو الذي نفسي بيده! ما يخرج منه إلا حق) والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغ عن الله عز وجل، وكل ما يصدر منه صلى الله عليه وسلم فإنه حق، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقوله: (كنت أكتب أريد حفظه) يعني: كنت أكتب أريد حفظه بالكتابة، والحفظ حفظان: حفظ صدر وحفظ كتاب، أي: أن الحفظ يكون بالكتاب، ويكون بالصدر، والذي كان يريده هو الحفظ بالكتاب، ومعلوم أن الحفظ بالصدر يعرض له النسيان، وقد يحصل الموت لصاحبه فيذهب معه علمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) ، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يحفظون القرآن، ولما مات في قتال المرتدين عدد كبير من القراء، اقترح الصحابة على أبي بكر جمع القرآن؛ لئلا يضيع ويذهب بذهاب حملته، فتردد في فعل ذلك؛ لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعد ذلك استقر رأيه وأداه اجتهاده إلى قبول ذلك وإلى استحسانه، فجمع ما كان عند الصحابة في صحف، ثم في عهد عثمان رضي الله عنه جمع في مصحف واحد، وفرق على المدن، حتى يعتمد الناس عليه، وحتى لا يختلف الناس. والحاصل: أن كتابة العلم ثابتة، ولو لم تكن الكتابة حاصلة ما وصلت هذه الأحاديث الكثيرة وهذا السنن بالتناقل وأخذ أشخاص عن أشخاص، لكن بهذه الكتابة وبهذا التدوين نفع الله عز وجل بهذه الكتابة وحفظ الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بتدوينها وكتابتها. ولهذا يقول ابن القيم: لو لم تحصل الكتابة لم يصل إلينا من العلم إلا الشيء اليسير، لكن الكتابة هي التي بها وصل إلينا ما وصل من هذه الأسفار وهذه المجلدات من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فنهتني قريش) المقصود: رجال من قريش، والمقصود: المسلمون، وليس المقصود الكفار، فالذين نهوه هم مسلمون من الصحابة، لكنهم خشوا أن يكون هناك شيء يحصل وهو غير مقصود، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن كل ما يصدر منه صلى الله عليه وسلم حق، وأنه إن حصل منه شيء في حال الغضب فهو حق، ولا يصدر منه إلا حق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، سواء في حال الرضا أو في حال الغضب. تراجم رجال إسناد حديث (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله) قوله: [حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة] . مسدد مر ذكره، وأبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [حدثنا يحيى] . يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبيد الله بن الأخنس] . عبيد الله بن الأخنس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث] . الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة. [عن يوسف بن ماهك] . يوسف بن ماهك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبد الله بن عمرو] . عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. شرح حديث (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه) فمحاه] . أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت الذي فيه أنه كان عند معاوية فسأله معاوية -يعني: سأل زيداً - عن حديث، فأمر شخصاً أن يكتبه، فقال له زيد: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه) فمحاه، أي: محاه معاوية، وهذا حصل في زمن متأخر، وقد عرف أن الكتابة مستقرة والكتابة حاصلة، ومعاوية كان يكتب وكان يُكتب إليه، وكان الأمر استقر على كتابة العلم، وكما هو معلوم كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بكتابة العلم، فهذا الحديث فيه شيء؛ ولهذا ضعفه الألباني؛ لأن فيه من هو متكلم فيه، وفي متنه نكارة من جهة أن العلم في زمن معاوية لا يكتب، وأنه يمحى الذي يكتب، وقد كان الصحابة يكتبون في حياته صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن ابن عمرو أنه كان يكتب والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اكتب فما يخرج منه إلا حق) فبالإضافة إلى الكلام الذي في إسناده فالمتن فيه نكارة من جهة أن معاوية محاه كما قال له زيد، ومعاوية كان يكتب، وكانت كتابة العلم بين الصحابة حاصلة وجارية، وكان يكتب بعضهم إلى بعض. تراجم رجال إسناد حديث (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه) قوله: [حدثنا نصر بن علي] . نصر بن علي بن نصر الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [أخبرنا أبو أحمد] . أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير أبو أحمد الزبيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا كثير بن زيد] . كثير بن زيد صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي وابن ماجة. [عن المطلب بن عبد الله بن حنطب] . المطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن. [قال: دخل زيد على معاوية] . زيد بن ثابت رضي الله عنه مر ذكره. شرح حديث (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن الحذاء عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن) ] . أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن) وهذا الحديث فيه ذكر كتابة الاثنين، وهو يخالف ما جاء من كونهم كانوا يكتبون، وأنه أذن لهم بالكتابة، وعلى هذا فالاقتصار على كتابة القرآن فقط ومعه التشهد فيه ما فيه، والألباني قال عن الحديث: إنه شاذ، يعني: ذكر التشهد والتنصيص عليه، وإنما كانوا يكتبون التشهد وغير التشهد. تراجم رجال إسناد حديث (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن) قوله: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب] . أبو شهاب هو عبد ربه بن نافع صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [عن الحذاء] . الحذاء هو خالد بن مهران الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي المتوكل الناجي] . أبو المتوكل الناجي هو علي بن داود وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي سعيد الخدري] . أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث (أكتبوا لأبي شاه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل قال: حدثنا الوليد ح وحدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثنا أبو سلمة -يعني: ابن عبد الرحمن - قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الخطبة -خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي؟ فقال: اكتبوا لـ أبي شاه) ] . أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحت مكة خطب الناس، ولما فرغ من خطبته كان فيهم رجل من اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: اكتبوا لي، -يعني: هذا الكلام الذي سمعه في هذه الخطبة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه) فدل هذا على كتابة العلم، وإذن الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابة العلم، وأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بكتابته. تراجم رجال إسناد حديث (اكتبوا لأبي شاه) قوله: [حدثنا مؤمل] . مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي. [حدثنا الوليد] . الوليد هو ابن مسلم مر ذكره. قوله: [ح وحدثنا العباس بن الوليد بن مزيد] . العباس بن الوليد بن مزيد صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي. [قال: أخبرني أبي] . أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي. [عن الأوزاعي] . الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن يحيى بن أبي كثير] . يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا أبو سلمة يعني: ابن عبد الرحمن] . أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [قال: حدثني أبو هريرة] . أبو هريرة قد مر ذكره. أثر الأوزاعي في بيان ما هو الشيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لأبي شاه، وتراجم رجال إسناده قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن سهل الرملي قال: حدثنا الوليد قال: قلت لـ أبي عمرو: ما يكتبوه؟ قال: الخطبة التي سمعها يومئذٍ منه] . هذا أثر مقطوع عن الأوزاعي أخبر فيه أن الذي طلب أبو شاه أن يكتب له، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكتابة هي نفس الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فإنه طلب أن تكتب له فأذن له، فهذا أثر من الأوزاعي يبين فيه أن الشيء الذي طلبه أبو شاه والذي أمر النبي بكتابته له إنما هو الخطبة. قوله: [حدثنا علي بن سهل الرملي] علي بن سهل الرملي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة. [حدثنا الوليد قال: قلت لـ أبي عمرو] الوليد هو ابن مسلم وأبو عمرو هو الأوزاعي ذكر هنا بكنيته، وقبل ذلك ذكر بنسبته.
__________________
|
#713
|
||||
|
||||
![]() شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) كتاب الإمارة شرح سنن أبي داود [413] الحلقة (445) شرح سنن أبي داود [413] الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على آحاد الناس؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، لذا كان الكذب عليه مغلظاً تغليظاً عظيماً، وجاء فيه وعيد شديد بالعذاب والنكال، فعلى العبد المسلم أن يعرف قدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يعرف خطر الكذب عليه، وأن يحذر ويحذر غيره، ويزجر من علمه واقعاً في ذلك. التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح حديث (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد ح وحدثنا مسدد حدثنا خالد المعنى عن بيان بن بشر قال مسدد: أبو بشر عن وبرة بن عبد الرحمن عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت للزبير رضي الله عنه: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟ فقال: أما والله! لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكني سمعته يقول: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ] . أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: في بيان أن أمره خطير، وأنه عظيم، وذلك أن فيه إضافة شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، وتقويل له ما لم يقله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالكذب عليه شيء عظيم، والكذب في حد ذاته مذموم وخطير، ولكنه إذا كان على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإن الأمر في ذلك يكون في غاية الخطورة وفي غاية الشدة. وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وفي بعض الألفاظ أنه قال: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) يعني: بدون كلمة (متعمداً) ، وذلك أن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالإخبار بخلاف الواقع، وقد يكون تعمداً، وقد يكون خطأً، ولا شك أن التعمد أمره خطير، وبدون التعمد الإنسان قد يكون معذوراً، ولكن الخطورة في كونه يتلقى عنه ذلك الشيء الذي أخطأ فيه، ثم يتداول، ثم يعمل به، فيكون الناس قد عملوا بخطأ حصل عن طريق ذلك الشخص، فمن هنا تكون الخطورة، ويكون الأمر ليس بالأمر الهين حتى ولو كان مع الخطأ، وهذا هو الذي جعل الزبير رضي الله عنه يتوقى؛ وهو لا يتعمد الكذب، وإنما خشي أنه مع الإكثار قد يحصل منه الخطأ، فيتحمل عنه الخطأ، ويتلقى منه ذلك الخطأ، وحتى لو تداركه فقد يذهب أناس بما حدث به، ولا يعلمون بالتدارك، فيعملون بهذا الذي جاء عنه وهو خطأ منه، فمن هنا كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون من الإكثار من الرواية؛ خشية أن يخطئوا، ومن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أكثر من الرواية كالسبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع، فإن هؤلاء السبعة مكثرون من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر منهم حصل ذلك منه بناءً على ضبطه، وعلى اطمئنانه إلى ما يحدث به، وأيضاً كون أعمار الذين كثر منهم الحديث طالت فكثر الأخذ عنهم، وكثر التلقي عنهم، فصار لهم التميز على غيرهم في كثرة الرواية. والحاصل: أن من الصحابة من كان يتوقى الإكثار من الحديث خشية أن يحصل منه الخطأ الذي هو غير مقصود، فيترتب على ذلك أن يأخذه غيره، ويعمل به وهو خطأ. وقوله: [عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟] . يعني: أصحابه الذين عرف عنهم الإكثار، وإلا فمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان مقلاً من الراوية، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتفاوتون في كثرة المكث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قلة ذلك، وفيهم الذي لم يلقه إلا مرةً واحدة أو مرتين أو أكثر، وفيهم الذي تلقى منه حديثاً أو حديثين، ولكن من الصحابة من كان ملازماً له، فكثرت روايته، بل إن من الذين لازموه -وهم معروفون بملازمته- من قلت روايتهم، ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لازموه، ولكن المدة التي حصلت الملازمة فيها كانت قليلة ومع ذلك كانت روايته كثيرة. فالحاصل: أن ابن الزبير سأل أباه الزبير رضي الله عن الجميع: ما يمنعك أن تحدث كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي: بعضهم الذين عرفوا بكثرة التحديث، فقال: (لقد كان لي منه وجه ومنزلة) يعني: لي مكانة عنده، فهو من السابقين الأولين، وهو من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريبه، وكذلك أيضاً زوجته أسماء هي أخت عائشة، وهما ابنتا أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فهناك صلة وثيقة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب ومن جهة المصاهرة، وإنما الذي منعه من التحديث هو الحديث الذي بلغه، وأنه خشي أن يحصل منه الخطأ في التبليغ عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. تراجم رجال إسناد حديث (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) قوله: [حدثنا عمرو بن عون] . عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [أخبرنا خالد] . خالد هو ابن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ح وحدثنا مسدد] . (ح) للتحول من إسناد إلى إسناد، ومسدد هو ابن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. [حدثنا خالد المعنى عن بيان بن بشر] . يعني: أن الرواية في هاتين الطريقتين متفقة من حيث المعنى، وبيان بن بشر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [قال مسدد: أبو بشر] . يعني: أن الشيخ الأول الذي هو عمرو بن عون قال: بيان بن بشر، وأما مسدد فقال: أبو بشر، وهو بيان بن بشر أبو بشر؛ لأن كنيته وافقت اسم أبيه، فهو أبو بشر، وأبوه اسمه بشر، وهذا يحصل في عدد كبير من الرواة؛ حيث تجد الراوي توافق كنيته اسم أبيه، والعلماء يعتبرون هذا نوعاً من أنواع علوم الحديث، ويقولون: هذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعرف، وفائدة ذلك: ألا يظن التصحيف بين كلمة ابن وأبيه، فالذي يعرف أنه بيان بن بشر لو جاء في الإسناد عن بيان أبي بشر يعرف أنه واحد، لكن الذي لا يعرف أن كنيته أبو بشر يظن أن (ابن) تصحفت إلى (أبي) ، فإذا جاء بيان بن بشر فهو صحيح، وإن جاء بيان أبي بشر فهو صحيح. والحاصل: أن أحد الطريقين إلى بيان بن بشر وهي الطريق الأولى طريق عمرو بن عون فيها أنه قال: بيان بن بشر، وأما مسدد الذي هو الشيخ الثاني فذكره بالكنية فقط ولم يذكر اسمه، ولا اسم أبيه. [عن وبرة بن عبد الرحمن] . وبرة بن عبد الرحمن ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. [عن عامر بن عبد الله بن الزبير] . عامر بن عبد الله بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبيه] . أبوه هو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، أي: الذين اشتهروا بهذا اللقب، وهم من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وهم صحابة أبناء صحابة رضي الله تعالى عن الجميع. وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه هو أول مولود ولد بعد الهجرة؛ لأنه ولد والناس في قباء قبل أن يصلوا إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول ما وصلوا المدينة مكثوا في قباء أياماً، وفي هذه الأيام بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، ثم انتقل من قباء إلى المدينة، وكان ابن الزبير ولد في قباء أول ما وصلوا إلى المدينة، وأول ما جاءوا مهاجرين، فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم. [قال: قلت للزبير] . الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، وهو الصحابي الجليل أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة في حديث واحد وقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) عشرة أشخاص سردهم، كل واحد في جملة مكونة من مبتدأ وخبر، فلان في الجنة، وفلان في الجنة، وفلان في الجنة، وفلان في الجنة حتى سرد هؤلاء العشرة؛ وقد جاءت الشهادة بالجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشخاص آخرين في مناسبات مختلفة، ولكن هؤلاء اشتهروا بهذا اللقب؛ لأنهم جمعوا في حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. واستعمل أبو داود (ح) التحويل ولم يعطف الشيخ الثاني على الأول؛ لأن الفرق في حدثنا وأخبرنا؛ لأن الرواية بين عمرو بن عون وبين خالد كانت بلفظ: أخبرنا، والرواية بين مسدد وخالد بلفظ: حدثنا، فمن أجل التفاوت والتفريق بين لفظي: حدثنا وأخبرنا أتى بـ (ح) التحويل. كيفية مخاطبة الأب وقول عبد الله بن الزبير: (قلت للزبير) ليس فيه دلالة على مناداة الأب باسمه، وإنما فيه أنه أخبر عن قوله: قلت للزبير كذا وكذا، ومعلوم أن منادة الوالد بالأبوة هو الأدب وهو الذي ينبغي، ومعلوم أن الرواية قد تكون جاءت بالمعنى، وأنه ليس الأمر أنه كان خاطبه بهذا اللفظ، ومعلوم أن الأدب مع الوالد أن يقال: يا أبت، أو يا أبي، وألا يخاطبه باسمه يا فلان، وإنما يخاطبه بالصلة التي تربط بينه وبينه وهي الأبوة، فيقول: يا أبت، أو يا أبي. الحكم على لفظة (متعمداً) ولفظة: (متعمداً) محفوظة في حديث الزبير، ولكن المشهور أنها ليست موجودة فيه؛ ولهذا الزبير رضي الله عنه ما كان يخاف من التعمد، وإنما كان خوفه من الخطأ؛ لأنه لو كانت القضية قضية تعمد فإنه كان سيسلم؛ لأنه لن يتعمد، ولكن الشيء الذي لا تؤمن السلامة منه هو الخطأ الذي هو غير مقصود. فإذاً: حال الزبير وشأن الزبير يدل على أن اللفظ الذي هو مناسب حال الزبير أن يكون بدون (متعمداً) ؛ لأن كلمة: (متعمداً) هذه يمكن أن الإنسان يتحرز منها، فلا يتعمد الكذب، ولكن الذي لا يمكن التحرز منه هو أن يخطئ؛ بسبب نسيان أو عدم ضبط، أو ما إلى ذلك، فيكون خطأً غير مقصود. الكلام في كتاب الله بغير علم شرح حديث (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الكلام في كتاب الله بغير علم. حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى حدثنا يعقوب بن إسحاق المقرئ الحضرمي حدثنا سهيل بن مهران أخي حزم القطعي حدثنا أبو عمران عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة باب الكلام في كتاب الله عز وجل بغير علم، يعني: كونه يتكلم في معانيه بغير علم، يعني: برأيه دون أن يكون راجعاً في ذلك إلى كلام الصحابة وكلام التابعين، وكلام أئمة اللغة في بيان المعاني من حيث اللغة العربية، فإن الإنسان إذا تكلم برأيه دون أن يكون بانياً تكلمه على أساس من معرفة تفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالحديث، وبأقوال الصحابة والتابعين وبمعرفة اللغة، وبمقاصد الكلام، والعربية وما إلى ذلك؛ فإنه يكون بذلك متكلماً برأيه، ويكون آثماً، وحتى لو أصاب فإنه يكون مخطئاً؛ لأن إصابته مع عدم العلم بمثابة الرمية من غير رامٍ، فإن الإنسان الذي يطلق الرمية فتصيد صيداً غير مقصود، يقال لهذه الرمية: رمية من غير رامٍ، ويشبه هذا ما سبق أن مر في أول كتاب القضاء أن القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، وأحد الاثنين هو الذي قضى بجهل، يعني: أن قضاءه كان بجهل وليس بعلم، ومن كان كذلك فإنه يكون آثماً ولو أصاب؛ لأن إصابته للحق جاءت اتفاقاً ولم تكن قصداً، على حد قول القائل: رمية من غير رامٍ. وأورد أبو داود حديث جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) يعني: أنه حتى ولو أصاب فإنه يعتبر مخطئاً، وإذا كان مخطئاً فالأمر أشد وأعظم، يعني: أنه إذا أصاب فالأمر أخف، ولكنه آثم؛ لأن هذه الإصابة جاءت اتفاقاً، وإن كان خطأً فالأمر أخطر وأشد. تراجم رجال إسناد حديث (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ) قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى] . عبد الله بن محمد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي. [حدثنا يعقوب بن إسحاق المقرئ الحضرمي] . يعقوب بن إسحاق المقرئ الحضرمي صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة. [حدثنا سهيل بن مهران] . سهيل بن مهران ضعيف، أخرج له أصحاب السنن. [حدثنا أبو عمران] . أبو عمران الجوني عبد الملك بن حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن جندب] . جندب بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة. والحديث في إسناده ذلك الرجل الضعيف، فالحديث غير صحيح، ولكن معناه صحيح؛ لأن الكلام بغير علم حذر الله عز وجل منه فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، فالكلام في تفسير كلام الله على غير هدى وعلى غير بينة هو كلام بغير علم، وهو مذموم. وقوله: [حدثنا سهيل بن مهران أخي حزم القطعي] يعني: أنه أحياناً يقال له: ابن أبي حزم؛ لأن كنية أبيه أبو حزم وحزم أخوه، فأحياناً يقال له: ابن أبي حزم، وأحياناً يقال له: أخو حزم، فكأن حزماً هذا مشهور، ولذا يذكر أبوه مكنىً به، ويذكر أخوه منسوباً إليه، فكلمة: أخو حزم وابن أبي حزم كلها بمعنىً واحد؛ لأن حزماً هو الأخ الذي يكنى به أبوه. حكم تفسير الآيات في الامتحانات بالرأي في بعض الامتحانات يُسأل الطلاب عن تفسير آية، فبعض الطلاب يجيب برأيه؛ لأجل الحصول على الدرجة، وحكم هذا: أنه لا يجوز؛ إذ لا يجوز الكلام إلا بعلم، فإذا لم يكن هناك علم فليسكت. حكم الأخذ بالتفاسير التي عنيت بالرأي فإن قيل: هل في هذا دليل على عدم الأخذ بالتفاسير التي عنيت بالتفسير بالرأي كتفسير الرازي والبيضاوي؟ ف الجواب لا شك أن هذا يفيد أن الكتب التي بنيت على الرأي يستغنى عنها بالكتب التي كتبت بناءً على الأثر، أو لم تذكر الآثار وتعزا إلى أصحابها لكن الكلام خلاصته هو ما جاء في الأثر، وهذا لا بأس به، وإنما المحذور هو أن يتكلم الإنسان من عند نفسه وهو ليس عنده العلم الذي يمكنه من الكلام. حكم محاولة تفسير الآيات للاختبار وأما الذي يحاول تفسير آية عند عالم، فيصحح له الخطأ، فإن الذي ينبغي أنه إذا كان يحاول أن يفسر ويرجع إلى كلام أهل العلم، ويأتي بكلام أهل العلم، ويعرض ما يكتبه عليه فلا بأس بذلك، أما أن يكون لا يرجع إلى كلام أهل العلم، ثم يتكلم من عنده وهو ليس عنده قدرة فهذا خطأ. وأما أن يطرح سؤالاً على مجموعة من الشباب، وكل يجيب برأيه، ثم بعد ذلك يفتيهم ويبين لهم فلا يصلح أن كل واحد يقول برأيه، بل الإنسان الذي ليس عنده علم يسكت. أنواع التفسير هناك من يقول: إن أغلب الآيات معناها واضح؛ لأننا عرب ونعرف ما نقرأ، وأقول: إن الشيء الواضح لا يحتاج إلى تفسير، ولا يحتاج إلى بيان، وكما قال ابن عباس: التفسير على أوجه متعددة: منها كلام تعرفه العرب بلغاتها، يعني: أي إنسان يفهم معناه؛ لأنه يستوي فيه الناس، وشيء لا يعرفه إلا الراسخون في العلم، فمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] هذا كلام مفهوم، وكل يعرف أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يكونون في الجنة. لكن مثل الآيات التي فيها خفاء كقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] التي قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية من أخفى ما في القرآن من حيث الحكم، ومن حيث المعنى، ومن حيث الإعراب، ومن حيث السياق؛ فمثل هذا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
__________________
|
#714
|
||||
|
||||
![]() شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) كتاب الإمارة شرح سنن أبي داود [414] الحلقة (446) شرح سنن أبي داود [414] من الأمور المهمة للعالم وطالب العلم إتقان حفظ العلم والحديث؛ فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالنضرة لمن أتقن حفظ الحديث وبلغه كما سمعه، فعلى طالب العلم أن يحرص على حفظ الحديث، ولا يكون ذلك إلا بتكراره ودوام مراجعته، كما يجب على العالم وطالب العلم دعوة الناس إلى الحق والهدى بهذا العلم؛ فإن في ذلك أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً. تكرير الحديث شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاث مرات) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تكرير الحديث. حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن أبي عقيل هاشم بن بلال عن سابق بن ناجية عن أبي سلام عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاث مرات) ] . أورد أبو داود (باب تكرير الحديث) يعني: كونه يأتي به أكثر من مرة، كأن يأتي به مرتين أو ثلاث مرات وأكثر، هذا هو التكرار، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس من عادته أن يكرر كل حديث، وأحياناً قد يكرر الحديث؛ ولهذا يأتي في بعض الروايات: قالها مرتين أو ثلاثاً، أو أعادها مرتين، وهذا يدل على أن التكرار إنما هو في بعض الأحيان وليس دائماً، فالأحاديث الطويلة التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يكررها، ولا يأتي بها في المجلس الواحد عدة مرات، ولو كانت الأحاديث تكرر كلها ما كان هناك فائدة لأن يقول الراوي في بعض الأحاديث: أعادها مرة أو مرتين؛ لأنه يكون هذا هو الشأن لو كان الأمر كذلك، أي: أن الشأن أن كل حديث طال أو قصر يكرر، ويؤتى به أكثر من مرة، وليس الأمر كذلك، وإنما هذا يحصل في بعض الأحيان، والحديث الذي هنا فيه: أنه كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاثاً، ولكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه ضعف، ولكن التفصيل هو ما ذكره بعض أهل العلم أنه كان يحصل ذلك في بعض الأحيان. تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاث مرات) قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق] . عمرو بن مرزوق ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود. [أخبرنا شعبة] . شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي عقيل هاشم بن بلال] . أبو عقيل هاشم بن بلال ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة. [عن سابق بن ناجية] . سابق بن ناجية مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة. [عن أبي سلام] . أبو سلام ممطور الحبشي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم] . هذا رجل مبهم، ومعلوم أن الإبهام في الصحابة لا يؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. سرد الحديث شرح حديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سرد الحديث. حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة قال: جلس أبو هريرة رضي الله عنه إلى جنب حجرة عائشة رضي الله عنها وهي تصلي، فجعل يقول: اسمعي يا ربة الحجرة مرتين! فلما قضت صلاتها قالت: (ألا تعجب إلى هذا وحديثه! إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في سرد الحديث. يعني: الإتيان به متتابعاً بسرعة، هذا هو السرد: أن يؤتى بالحديث بسرعة، يعني: أن الكلام يكون متتابعاً والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي به متأنياً، كما جاء عن عائشة في هذا الحديث أنه كان يأتي بالحديث لو شاء العاد أن يحصيه لأحصاه. يعني: أنه كان يأتي به متأنياً صلوات الله وسلامه عليه وليس مسروداً، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها في هذا الحديث لما جاء أبو هريرة وجلس عند حجرتها وكان يسرد الحديث قالت: (ألا تعجب إلى هذا وحديثه) يعني: في سرده وسرعة سرده، ثم قالت: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه) يعني: أن كلامه لم يكن مسروداً وإنما فيه تأنٍ. قوله: [(جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة رضي الله عنها وهي تصلي فجعل يقول: اسمعي يا ربة الحجرة! مرتين)] الذي يبدو أن المراد أنه جاء لحاجة، وليس المقصود أنه جاء ليحدث عند حجرتها، ولكن يمكن أنه جاء لحاجة وجعل ينتظرها وهي تصلي، ثم لعله كان يأتي إليه ناس ويحدثهم عند حجرتها فكان يسرد الحديث فأنكرت هذا عليه. وليس في الحديث ذم من عائشة لـ أبي هريرة رضي الله عنهما، وإنما فيه بيان أن فعله خلاف الأولى. تراجم رجال إسناد حديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه) قوله: [حدثنا محمد بن منصور الطوسي] . محمد بن منصور الطوسي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي. [حدثنا سفيان بن عيينة] . سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الزهري] . هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عروة] . عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة. [قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة] . عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح حديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم) ] . أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه بيان أنها كانت تسبح، يعني: تصلي، والسبحة هي: الصلاة، ثم إنه قام قبل أن تنتهي من صلاتها، ولو أنها أدركته لبينت له أن فعله خلاف الأولى. تراجم رجال إسناد حديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم) قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري] . سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي. [أخبرنا ابن وهب] . ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [أخبرني يونس] . يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير عائشة] . ابن شهاب وعروة وعائشة قد مر ذكرهم في الطريق الأولى. التوقي في الفتيا شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التوقي في الفتيا. حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الغلوطات) ] . أورد أبو داود باب التوقي في الفتيا، والمقصود بالتوقي: التأني والتثبت وعدم التسرع في الفتوى، وإنما يكون هناك حذر وخوف من الزلل ومن الخطأ، ولا بد أن تكون الفتوى مبنية على تأمل وعلى معرفة الأخبار، فمن حصل له أمر من الأمور فإنه يحتاج إلى معرفة حكمه فإن ذلك المسئول عنه يتوقف عن الفتوى حتى يستفصل بحيث يكون جوابه مبنياً على علم، ثم أيضاً الأسئلة والاستفتاءات المناسب أن تكون مبنية على وقوع الشيء وأن الإنسان بحاجة إلى معرفة الحكم ليطبق حكم الله وليؤدي ما هو واجب عليه في ذلك الأمر الذي حدث له والأمر الذي وقع له، وأن يريد معرفة حكمه. وأورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات) وفسرت الغلوطات بأنها دقاق المسائل، وقد يكون السؤال تعنتاً وقد يكون من أجل أن يحصل من المسئول شيء يعاب عليه، وأن يحصل منه جواب غير سديد فيكون ذلك سبباً في مذمته والنيل منه، فالأسئلة لا بد أن تكون في أمور واقعة، أو في أمور يحتاج الناس إليها، أما الافتراضات والأشياء التي لا تقع والسؤال عنها لو وقعت وكان كذا وكذا فما الحكم؟ وهي واقعة الندور أو ما إلى ذلك؛ فهذه هي التي عنيت بهذا الحديث. والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه. ولكن معناه صحيح من ناحية أنه منهي عن السؤال تكلفاً، ومن الأشياء التي فيها تكلف وسئل عنها صلى الله عليه وسلم وغضب ما جاء في قصة الرجل الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقال: الرجل أفي كل عام يا رسول الله؟!) يعني: هل يجب علينا أن نحج كل سنة؟ وهذا صعب إذ كيف يستطيع الناس أن يحجوا كل سنة؟ والآن الناس يأتي منهم عدد قليل من كل بلد فتمتلئ الأرض، فكيف لو كان الناس كلهم يحجون وكل من كان قادراً يجب عليه أن يأتي كل عام؟! فهذا فيه صعوبة وفيه مشقة وفيه مضرة، فإن الحج الواجب هو مرة وما زاد فهو تطوع، ومثل هذا السؤال هو من الأسئلة التي لا يسأل عنها، وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101] . تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات) قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي] . إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا عيسى] . عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الأوزاعي] . عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبد الله بن سعد] . عبد الله بن سعد مقبول، أخرج له أبو داود. [عن الصنابحي] . الصنابحي هو عبد الرحمن بن عسيلة وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد رحل من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان في الجحفة في طريقه إلى المدينة، جاء ركب من المدينة وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فوصل إلى المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، وهي مدة المسافة بين الجحفة وبين المدينة، ولهذا قال بعض العلماء: كاد أن يكون صحابياً، أي: أنه لم يبق بينه وبين الصحبة إلا شيء يسير، فهو جاء يريد أن يلقى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتشرف بصحبته، ولكنه وصل المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام. [عن معاوية] . معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. شرح حديث: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد -يعني: ابن أبي أيوب - عن بكر بن عمرو عن مسلم بن يسار أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفتي) ح وحدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني يحيى بن أيوب عن بكر بن عمرو عن عمرو بن أبي نعيمة عن أبي عثمان الطنبذي رضيع عبد الملك بن مروان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) زاد سليمان المهري في حديثه: (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) وهذا لفظ سليمان. أورد أبو داود حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) يعني: إذا كانت الفتوى بجهل فالمفتي آثم، والذي عمل بها على خلاف الصواب يتحمل الذي أفتى إثمه؛ لأنه هو المتسبب في كونه عمل عملاً على خلاف السنة وعمل عملاً ليس وفق ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) يعني: أنه عارف المصلحة للمسترشد والمستشير ولكنه خانه ودله على شيء خلاف المصلحة، فإذا سأله عن أمر ويعلم أن الرشد للمستشير في شيء ولكنه حاد وأشار عليه بشيء ليس برشد فإنه يكون خائناً في ذلك. فالمستفتي أو الذي يعمل بخلاف الصواب إذا علم بأن هذه الفتوى غير صحيحة فلا شك أنه آثم، وإذا كان يعلم أن هذا المستفتي غير عالم فإنه مقصر ويكون آثماً، وأما إذا كان الذي سأله عالم وذلك العالم أخطأ فذلك العالم المجتهد غير آثم وهذا المستفتي أيضاً غير آثم، لأنه فعل ما يستطيع. والحديث حسنه الألباني في موضع، وضعفه في موضع آخر، وفيه مسلم بن يسار وهو مجهول الحال، والحافظ قال عنه: مقبول، والألباني حسنه في السنن ولكنه ضعفه في صفة الفتوى وقال: إن راويه مجهول الحال. والذي يبدو أن التضعيف أولى، لكنه كما هو معلوم الاستفتاء فيه تفصيل؛ لأنه إذا كانت الفتوى مبنية على غير علم ولفظ الحديث: (بغير علم) فلا شك أن هذا هو المذموم، أما إذا كانت الفتوى مبنية على علم وقد أخطأ المفتي فإنه لا يأثم، وكذلك المستفتي لا يأثم، لأن هذا هو الذي استطاع أن يفعله، يعني: أنه رجع إلى أهل العلم وأخذ بما أفتوه به، لكنه إذا كان المفتي غير عالم والمستفتي يعلم بأنه غير عالم فكلهم شركاء في الإثم. تراجم رجال إسناد حديث: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) قوله: [الحسن بن علي] . الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي. [حدثنا أبو عبد الرحمن المقري] . أبو عبد الرحمن المقري هو عبد الله بن يزيد المقري المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا أحد العبادلة الذين يروون عن ابن لهيعة وتكون روايتهم عن ابن لهيعة صحيحة؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط على قول من يقول: إن رواية العبادلة عنه مستقيمة، والعبادلة هم: عبد الله بن يزيد المقري المكي وعبد الله بن المبارك المروزي وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن وهب. [حدثنا سعيد يعني: ابن أبي أيوب] . سعيد بن أبي أيوب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن بكر بن عمرو] . بكر بن عمرو المعافري المصري صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة فأخرج له في التفسير. [عن مسلم بن يسار أبي عثمان] . مسلم بن يسار قال عنه الحافظ: مقبول، وهو مجهول الحال؛ لأنه روى عنه جماعة ولكن لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو معروف بالتساهل، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد السلام بن أبي الجنوب في تقريب التهذيب قال: ولا يغتر بتوثيق ابن حبان له فقد ذكره في الضعفاء، أي: أنه ذكره في الثقات وذكره في الضعفاء. ومسلم بن يسار هذا مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي وابن ماجة. [عن أبي هريرة] . أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق. قوله: [وحدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني يحيى بن أيوب] . هذه عادة أبي داود في التحويل؛ فإنه أحياناً بعدما يذكر شخصاً أو شخصين في أثناء الإسناد يأتي بالتحويل، مثل ما مر قريباً في الإسناد الذي فيه عمرو بن عون ومسدد عن خالد، فإنه بعد ما انتهى الإسناد من أوله إلى آخره جاء إلى التحويل، ولكنه بين الاختلاف الذي يكون بين الطريقين؛ لأنه أحياناً يذكر الشخص باسم وفي الطريق الثانية يذكره باسم آخر، مثل ما صار في مسلم بن يسار فإنه ذكره في الطريق الثانية بكنيته فقال: عن أبي عثمان الطنبذي وأبو عثمان الطنبذي هو مسلم بن يسار، ففي الطريق الأولى أتى به باسمه وفي الطريق الثانية أتى به بكنيته ولقبه، وطنبذ: قرية من قرى مصر. وقوله: [حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني يحيى بن أيوب] . سليمان بن داود وابن وهب مر ذكرهم، ويحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن بكر بن عمرو] . بكر بن عمرو الناجي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عمرو بن أبي نعيمة] . عمرو بن أبي نعيمة مقبول، أخرج له أبو داود. [عن أبي عثمان الطنبذي رضيع عبد الملك بن مروان عن أبي هريرة] . أبو عثمان الطنبذي هو: مسلم بن يسار، وهو الذي جاء في الإسناد الذي قبله باسمه مسلم بن يسار. بيان خطأ مقولة: (دعها في رقبة عالم واخرج سالم) هناك مقولة تقول: (دعها في رقبة عالم واخرج سالم) وهذه مقولة غير صحيحة؛ فالإنسان أولاً: لا يسأل إلا من عنده علم، وإذا أخذ بذلك فهو على خير، وأيضاً إن كان المفتي مخطئاً فهو معذور. كراهية منع العلم شرح حديث: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية منع العلم. حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في كراهية منع العلم، يعني: عدم بذله عند الحاجة إليه، فالشخص إذا حصلت له واقعة وأراد أن يعرف حكم الله تعالى فيها ليعمل به، ورجع إلى عالم فإن ذلك العالم عليه أن يفتيه إذا كان عنده علم، وإذا لم يكن عنده علم يدله على ذلك ويكون عوناً له على ذلك أو يقول له: اسأل غيري. فإذا كان المفتي ليس عنده معرفة الجواب أو الاطمئنان إلى الجواب فإنه يحيله إلى غيره، وإن كان عنده الجواب فإنه يجيبه ولا يتأخر في ذلك، فإذا كان عنده الجواب وهو يعرف الجواب فيجيبه في ذلك. فالعلم فائدته: أن يعمل به ويبذله للغير، بمعنى: أن الإنسان يفيد نفسه ويفيد غيره، وقد ذكرنا في الدرس الماضي الحديث الذي فيه فضل العلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) لأن علم العالم له ولغيره حيث يستفيد منه الناس ببذله، والعابد عبادته له لا تتعداه إلى غيره، فصار العالم مثل القمر، والعابد مثل الكوكب الذي ضوءه شيء يسير بالنسبة إلى ضوء القمر. وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) يعني: يكون اللجام على فمه مماثلة للعمل الذي حصل منه، وهو كونه لم يتكلم بالعلم ولم يبد العلم، ولم يحدث به ولم يخبر به وإنما منعه، فصار الجزاء من جنس العمل، فكما أنه لم يحرك فمه بالنطق بالحق، وإنما أغلقه وأقفله فإنه يوم القيامة يلجم بلجام من نار، يعني: أن الجزاء من جنس العمل. وقوله: (من سئل عن علم فكتمه) المقصود: العلم الشرعي، والشيء الذي يكون الناس بحاجة إليه، فمثلاً: شخص حصل له واقعة أو حصل له قصة فجاء وسأل فيجب بيان الحكم له في هذه الواقعة، وأما بعض الأشياء التي إخفاؤها يكون فيه مصلحة فهذا المصلحة في إخفائها حتى لا يحصل من الناس التساهل في الأمور؛ مثال ذلك جاء في حديث معاذ رضي الله عنه لما قال: (أفلا أبشر الناس؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبشرهم فيتكلوا) ، فإن بعض الأشياء قد يكون فيها تهاون من الناس إذا علموا بحكمها؛ فكونهم يرغبون في جانب الوعد ويغفلون عن جانب الوعيد ليس من الحكمة وليس من المصلحة، فمن العلم ما ينبغي إخفاؤه، وهو ما يترتب على إظهاره مضرة. ومن أمثلة العلم الذي ينبغي إخفاؤه: أن الشيخ الألباني رحمه الله اعتنى بمسألة كشف الوجه وبيان أن ستره ليس بواجب، وأكثر من الاستدلال والرد وما إلى ذلك، وأنا أقول: إن هذا من العلم الذي ينبغي إخفاؤه، فكان ينبغي للشيخ رحمة الله عليه أن يخفيه، والناس إذا لم يعرفوا أنه غير واجب فإنه خير لهم، حتى لا يتساهلوا ويتهاونوا، فأنا أقول: هذا من العلم الذي ينبغي إخفاؤه؛ لأن بعض النساء مستعدة للانفلات قبل أن تجد مفتياً، فإذا وجدت مفتياً، قالت: هذا عالم كبير وأفتى بهذا؛ إذاً أنا أفعل هذا الشيء. هذا مع أن الصحيح أن الذي أقره الشيخ ليس بصحيح. تراجم رجال إسناد حديث: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل] . موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا حماد] . حماد هو ابن سلمة بن دينار وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [أخبرنا علي بن الحكم] . علي بن الحكم ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [عن عطاء] . عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي هريرة] . أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره. وأما تعبير الإمام أبي داود بالكراهية في قوله: باب كراهية منع العلم فغالباً أن السلف يعبرون بالكراهة ويريدون بها التحريم، كما قال عز وجل: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] فإنه عز وجل ذكر جملة من الأمور الكبيرة مثل: الزنا، والقتل، وقتل الأولاد، وغير ذلك ثم قال في آخرها: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] فالمكروه هنا هو: المحرم.
__________________
|
#715
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة حال حديث: (إذا بليتم فاستتروا) السؤال ما حكم حديث: (إذا بليتم فاستتروا) ؟ الجواب لا أعلم، لكن المجاهرة أمرها خطير؛ لأن الإنسان الذي يعصي وهو مختفٍ ليس كالذي يعصي وهو مجاهر. فضل أبي هريرة رضي الله عنه في إكثاره من رواية الحديث السؤال بعض الأئمة أخرجوا حديث عائشة رضي الله عنها في سرد الحديث في فضائل الصحابة في فضل أبي هريرة، فما وجه الفضيلة؟ الجواب يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى عنايته بالحديث وإكثاره من الحديث، وكونه قد روى للأمة الشيء الكثير من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حكم القسم بوجه الله الجواب يمكن أن يقال: ووجه الله، ويقال: وكلام الله، وإذا قيل: والقرآن فالقرآن هو من كلام الله، لكن المصحف لا يقسم به؛ لأن المصحف فيه كلام الله وغير كلام الله، فيه القرآن وغير القرآن، فيه الورق وهو مخلوق، والمداد وهو مخلوق، والغلاف وهو مخلوق، وأما كلام الله عز وجل الذي في المصحف فهو غير مخلوق. أهمية تحري العالم الذي يسأل السؤال إذا أفتي الإنسان من شيخ وقال له بعض الناس: اذهب إلى الشيخ الفلاني فقال: أليس الذي أنا أستفتيه شيخ يكفي؟! فما هو الصواب في هذا؟ الجواب قبل هذا كله يجب أن يبحث ويكون على علم بمن يكون أولى أن يسأله، وعند ذلك يقصد إليه ويسأله وينتهي. حكم ترك النهي عن المنكر السؤال من رأى شخصاً يعمل أمراً غير رشيد ولم ينهه فهل هذا من الخيانة؟ الجواب إذا رآه يعمل أمراً منكراً ولم ينهه فإنه يكون غير قائم بالواجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) . من يتعامل مع البنوك الربوية اعتماداً على فتاوى بعض المفتين السؤال في بعض البلدان يتعامل بعض الناس مع البنوك الربوية ويعتمدون في ذلك على الفتاوى من بلادهم، فهل عليهم إثم؟ الجواب الواجب عليه أن يسألوا أهل العلم، ولا يكفي أن يتلقوا الفتوى من كل أحد، أو يسألوا كل أحد، فإذا كان عندهم علم بأهل العلم وقصروا أو أعجبتهم مثل هذه الفتوى أو أنهم قصدوا أن يعرفوا الفتوى من شخص يحقق لهم الرغبة التي يريدونها، ولم يريدوا أن يستفتوا أحداً يخشون أن يمنعهم، أو أنهم على علم، ولكنهم يريدون مفتياً متهاوناً فإنه يتحمل الإثم، وهم لا شك شركاء في الإثم. فضل نشر العلم شرح حديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل نشر العلم. حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم) ] . أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في فضل نشر العلم، أي: فضل بذله وتعليمه وإبلاغه إلى الناس؛ ليعملوا به، فيكون من بلغه العلم يعلمه ويعمل به ويبلغه وينشره. وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم) . وقوله: (تسمعون) هذا خطاب للصحابة لأنهم هم الذين سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وسمعوا حديثه وتلقوه منه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، فكل من سمع كلامه عليه الصلاة والسلام فإنه من أصحابه، ومن رآه ولم يسمع منه فهو من أصحابه عليه الصلاة والسلام. فمن سمع كلامه ومن سمع حديثه فهو من أصحابه، ومعلوم أنه لا يسمع الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم الذين جعلهم الله في زمانه ومكنهم من ذلك بخلاف الذين بعدهم فإنهم لم يروه ولم يسمعوا منه وإنما رأوا من سمع منه، وسمعوا ممن سمع منه، وعلى هذا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وسمعوا كلامه. وأما التابعون فقد رأوا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه، أي: أن أعين الصحابة رأت النبي عليه الصلاة والسلام، وأما التابعون فلم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم رأوا الأعين التي رأت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن الصحابة. فقوله: (تسمعون) أي: تسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (ويسمع منكم) أي: التابعون يسمعون من الصحابة، فالذين سمعوا الصحابة هم التابعون، والذين رأوا الصحابة هم التابعون. وقوله: (ويسمع ممن سمع منكم) أي: أتباع التابعين يسمعون من التابعين الذين سمعوا من الصحابة، وهكذا كل جيل يسمع ممن قبله، وممن تقدمه ممن أدركه، وهكذا فيكون شرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناقله الناس منذ زمن الصحابة ويعملون به ويعبدون الله عز وجل وفقاً لهذا الحق والهدى الذي تلقاه الصحابة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتلقاه التابعون عن الصحابة، وتلقاه أتباع التابعين عن التابعين، وهكذا من بعدهم حتى دونت الكتب وألفت المؤلفات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار الناس يرجعون إلى هذه المؤلفات والمصنفات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم) نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) فإن قرنه هم: أصحابه الذين سمعوا منه، والذين يلونهم هم: التابعون الذين سمعوا ممن سمع منهم، وأتباع التابعين هم: الذين سمعوا الذين سمعوا ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا فيه بيان فضل العلم ونشره، وتناقله، وأن كل طبقة تورثه للطبقة التي تليها وهكذا، فطبقة الصحابة هم الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وطبقة التابعين هم الذين سمعوا من الصحابة، وطبقة أتباع التابعين هم الذين سمعوا من التابعين، وطبقة أتباع أتباع التابعين هم الذين سمعوا من أتباع التابعين وهكذا. وهذا الحديث ليس فيه دلالة على قلة أهمية السماع بعد عهد أتباع التابعين؛ لأن الأحاديث قد دونت في الكتب، فلا يدل على تقليل أهمية السماع، وإنما كما هو معلوم حصل بعد ذلك تدوين للكتب، وصار الناس يتوارثون هذه الكتب، والسماع كان موجوداً، فكم من مؤلف ومصنف بعد أصحاب الكتب الستة ممن كان في القرن الرابع أو القرن الخامس يروون بالأسانيد مثل: البيهقي ومثل: الطبراني ومثل: أبو عمر ابن عبد البر ومثل: الخطيب البغدادي، ففيهم من كان في القرن الرابع وفيهم من كان في القرن الخامس ومع ذلك كانوا يروون بالأسانيد: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان. وأما وجه دلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أتباع التابعين فكأن المقصود أن هذا فيه إشارة إلى الطبقات الثلاث التي هي خير القرون، ولكن كما هو معلوم ليس معنى ذلك أن الأمر يقف عندهم؛ وإنما هذا بيان للطبقات الأولى الثلاث، ومن بعدها يأتي تبعاً لها والسلسلة متصلة. تراجم رجال إسناد حديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم) قوله: [حدثنا زهير بن حرب] . زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [وعثمان بن أبي شيبة] . عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة. [قالا: حدثنا جرير] . جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الأعمش] . هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبد الله بن عبد الله] . عبد الله بن عبد الله الرازي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي في مسند علي. [عن سعيد بن جبير] . سعيد بن جبير ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ابن عباس] . عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح حديث: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) ] . أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) وهذا يدل على فضل نشر العلم؛ لأن هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم بذلك حيث قال: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً حتى يبلغه) يعني: أنه يحفظه ويبلغه، فتتصل السلسلة ويتوارث الناس الحق والهدى ويأخذ جيل عن جيل، وأول جيل أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحابه الكرام لقوله: (سمع منا حديثاً) وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين سمعوا منه مثل الحديث الذي قبله (تسمعون ويسمع منكم) . فهذا الحديث فيه فضل تحمل السنة وتلقيها ونشرها، وفيه بيان أن من فائدة النشر وإبلاغ السنن أنه قد يأتي من يشتغل في الاستنباط، وقد يكون الذي تحمل ليس متمكناً من الاستنباط مثلما يتمكن من يبلغ إياه، فيكون الخير في حفظ هذا الذي حفظ السنة وأتقنها وبلغها لمن بعده، فإن هذا الذي يبلغ قد يستخرج منها ما لم يستخرجه غيره، ولهذا قال: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فيكون حفظ السنة وأتقنها وحافظ عليها وأداها إلى غيره، وقد يكون ذلك الغير أشد تمكناً في الاستنباط والفقه والفهم، فيستنبط منه أحكام وفوائد. وقوله: (رب حامل فقه ليس بفقيه) يعني: أن الإنسان قد يحفظ الشيء ولكنه ليس عنده ما يكون عند غيره من الناس من جهة قوة الفهم وقوة الاستنباط أو الحرص على الاستنباط والقصد إلى الاستنباط، ومن المعلوم أن العلم النافع هو الذي جمع فيه بين الرواية والدراية، وجمع فيه بين الفقه والحديث، فالحديث هو الأساس الذي يبنى عليه الفقه، والفقه إذا لم يكن مستنداً إلى حديث فإنه قد يكون مبنياً على رأي مجرد، وقد يكون الذي يشتغل بالفقه ولا يشتغل بالحديث يحتج بحديث ضعيف أو حديث موضوع إذا وجده مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يفعل ذلك لأنه لا يعرف ما يثبت وما لا يثبت، ولهذا تكلم الإمام الخطابي في أول كتابه معالم السنن بكلام جميل في مدح العناية بالحديث والفقه، وأن من يقتصر على الحديث يكون عنده نقص في جانب الفقه، ومن يقتصر على الفقه دون الحديث يكون عنده نقص في جانب الحديث، ولكنه إذا اعتنى بهذا وبهذا فقد جمع بين الحسنيين، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: إن الذي يشتغل بالحديث ولا يشتغل بالفقه والاستنباط مثل الذي يبني له بنياناً فيتقن أساسه ويحكم أساسه ولكنه يقف عند حد الأساس، فلا يستفيد منه الفائدة المرجوة أو الفائدة الكاملة؛ لأن البنيان أحكم أساسه ولكن ما وضع فوقه حجراً وغرفاً وأشياء مما يستفيد الناس منها، وهذا مثل الذي يشتغل بالحديث ولا يشتغل بالاستنباط، فمهمته القراءة دون الفهم ودون معرفة ما يؤخذ من الحديث أو التأمل في الحديث، فهو مثل الذي يبني بنياناً على غير أساس، فالبنيان موجود والغرف موجودة ولكن الأساس غير موجود فيمكن أن ينهار، ولكنه إذا جمع بين إحكام الأساس ووجود الفروع التي بنيت على الأساس، صار هذا هو الإحسان، وهكذا الجمع بين الحديث والفقه يكون فيه تقوية الأساس ووجود البنيان على الأساس. فهذا يدلنا على أهمية الاستنباط وأهمية الفهم، واستخراج الكنوز من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً إشارة إلى المحافظة على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن حفظ حديث الرسول على ما هو عليه دون أن يختصر ودون أن يروى بالمعنى لا شك أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن هذا فيه تمكين المتفقه من الاستنباط من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والعناية بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يستنبط منه ويستخرج منه ما اشتمل عليه من كنوز. ومن المعلوم أن الإنسان إذا نظر في شروح الحديث يرى كثيراً من الفوائد التي تستنبط من الحديث وأن في الحديث كذا وفي الحديث كذا، ويجد نفائس وأشياء دقيقة، لكن ما كل إنسان يستطيع أن يستخرجها، وقد يتعجب إذا رأى مثلها مستنبطة من الحديث، يعني: من ناحية دقة الفهم وجودة الاستنباط من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن ثمرة الحديث هو الفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والفقه في الدين إنما يكون بالتأمل في نصوص الكتاب والسنة ومعرفة ما اشتملت عليه من كنوز وما اشتملت عليه من أحكام ومن حكم. وقوله: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً حتى يبلغه إلى من هو أفقه منه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالنضرة لحامل الحديث، وأولى الناس وأحق الناس بهذه الدعوة الكريمة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن قوله: (سمع منا حديثاً) إنما يراد به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ورد الحديث بصيغ أخرى تشمل الصحابة وغير الصحابة بلفظ: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها) لأن كلمة: (سمع مقالتي) يمكن أن تكون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره، وأما قوله هنا: (سمع منا حديثاً) فلا يكون إلا للصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وقوله: (ورب حامل فقه ليس بفقيه) لأنه عند قوة الحفظ ولكن ما عنده الدقة في الاستنباط واستخراج الكنوز التي في الحديث، فقد يبلغ الحافظ للحديث المتقن له لغيره ممن يكون أشد تمكناً منه في الاستنباط، فيكون هذا الذي حفظ هو الذي مكن غيره من معرفة أحكام الشريعة المستنبطة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاشتغال بالنصوص ممن وصلت إليه ممن تحملها لا شك أن الفضل في ذلك بعد توفيق الله عز وجل إنما هو للرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل الناس على الحق والهدى من بعده، وهكذا الذين تلقوه منه وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. تراجم رجال إسناد حديث: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه) قوله: [حدثنا مسدد] . مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري أبو داود والترمذي والنسائي. [حدثنا يحيى] . يحيى هو ابن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن شعبة] . شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب] . عمر بن سليمان بن عاصم ثقة، أخرج له أصحاب السنن. [عن عبد الرحمن بن أبان] . عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان ثقة، أخرج له أصحاب السنن. [عن أبيه] . أبوه أبان بن عثمان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [عن زيد بن ثابت] . زيد بن ثابت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. بيان أنه ليس من شرط الراوي أن يكون فقهياً ولا عاملاً بما علم في هذا الحديث دلالة على أنه ليس من شرط الراوي أن يكون فقيهاً. ولا يشترط لتبليغ العلم أن يكون المبلغ عاملاً بما علم، ولكن ثمرة العلم هو العمل، والإنسان الذي يعلم ولا يعمل هذا نقص في حقه. حكم رواية الحديث بالمعنى إذا قال قائل: هل الصحابي أو غيره إذا روى الحديث بالمعنى يناله فضل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً) مع أنه رواه بمعناه؟ الجواب إذا كان لا يتمكن من اللفظ فإن الله عز وجل يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ؛ لأن المقصود اللفظ والمعنى جميعاً، فإذا تعذر الإتيان باللفظ وهو متقن المعنى فإنه يأتي به ولا يتركه، فما دام أنه أتقن المعنى فيأتي به، وأما إذا كان متقناً اللفظ فلا ينبغي له أن يعدل عنه إلى غيره، بل يتمسك به ويحافظ عليه؛ لأن المحافظة على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم والاستخراج منه والاستنباط منه لا شك أن هذا هو الأساس وهذا هو الأصل، لكن إذا لم يمكنه الإتيان باللفظ وهو متقن المعنى فإنه يأتي به بالمعنى. ومن الذين اعتنوا بالألفاظ والمحافظة عليها من المحدثين الإمام مسلم رحمة الله عليه، فإنه اعتنى في كتابه بالمحافظة على الألفاظ وعدم الرواية بالمعنى، فكان يحافظ على الألفاظ ويحرص عليها ولهذا قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: قلت: حصل للإمام مسلم حظ عظيم ما حصل لغيره في العناية بالمحافظة على الألفاظ وعدم الرواية بالمعنى، وذكر شيئاً من الثناء عليه في هذا الباب، ثم قال: وقد حاول جماعة من النيسابوريين السير على منواله فلم يفعلوا شيئاً، يعني: لم يبلغوا مبلغه ولا فعلوا مثلما فعل. بيان عدم صحة مقولة: كل محدث فقيه وليس كل فقيه محدثاً هناك عبارة تقول: (كل محدث فقيه وليس كل فقيه محدثاً) وهذه العبارة ليست بصحيحة، فلا يقال: كل محدث فقيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب حامل فقه ليس بفقيه) حامل فقه يعني: حديث، ولكنه ليس بفقيه، فليس من شرط المحدث أن يكون فقيهاً، وكونه ليس كل فقيه محدثاً هذا صحيح، ولكن كون كل محدث فقيه ليس بلازم، فقد يكون فقيهاً وقد يكون غير فقيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: (رب حامل فقه ليس بفقيه) ، لكن لا يقال: كل فقيه محدث؛ لأن الفقيه قد يشتغل بالفقه ويعتني بمعرفة المسائل وحصرها وتقييدها ولا يشتغل بالحديث، ولهذا قد يستدل بحديث ضعيف أو حديث موضوع. شرح حديث: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل -يعني: ابن سعد - رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله! لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ] . أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (والله! لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) وهذا يدل على فضل نشر العلم، وأن من اهتدى على يديه إنسان فهو خير له من حمر النعم. وقد جاء في ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل إثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) فهذا يدلنا على فضل تبليغ السنن وتبليغ الحديث وتبليغ الحق، وأن من دعا غيره إلى الحق والهدى فاستفاد بسببه فالله يأجر هذا المستفيد على عمله، ويأجر الذي أفاده بمثل ما آجره به دون أن ينقص من أجر الفاعل المستفيد شيئاً، بل يعطي الله الدال مثلما أعطى المدلول تفضلاً منه سبحانه وتعالى؛ ولأنه كان هو السبب في وصول هذه السنة وهذا الحق والهدى إلى هذا الإنسان الذي عمل به. ولهذا كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام له مثل أجور أمته من حين بعثه الله إلى قيام الساعة، فله صلى الله عليه وسلم مثل أجور أمته كلها من أولها إلى آخرها؛ لأنه هو الذي دل الناس على الحق والهدى، فله أجور أعماله وله مثل أجور أمته، وبهذا يتبين كونه خير الناس، وأنه سيد الخلق، وأنه أفضل البشر؛ لأن هذه الأجور التي تحصل لأمته على اختلاف العصور والدهور باتباع الحق والهدى الذي جاء به يكون له مثل أجورهم كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأحق الناس وأسعد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الثواب هم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذين تلقوا السنن عنه وحفظوها وأدوها إلى من بعدهم، فكل صحابي يحفظ سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الناس يتناقلونها ويعملون بها على مر العصور والدهور فالله تعالى يعطي ذلك الصحابي مثلما أعطى كل من عمل بهذه السنة التي جاءت من طريقه والتي رواها عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وهكذا من جاء بعدهم ممن أخذ عنهم، ودل على الحق والهدى الذي جاء عن طريقهم فإنه يؤجر مثل أجور كل من استفاد خيراً بسببه وبسبب دعوته وتوجيهه وإرشاده. وهذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حق علي رضي الله تعالى، وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الراية يوم خيبر وقال له: (ثم ادعهم إلى الإسلام فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) . والنعم هي: الإبل، وكانت الحمر هي أنفس أموالهم، فخاطبهم بالشيء الذي هو نفيس عندهم، والذي هو معروف عندهم من المال الذي يعتبر أنفسه وأحسنه، وفيه إقسام للتأكيد. وقوله: (لأن يهدي الله بك) يدخل في ذلك الهداية من الكفر إلى الإسلام ويدخل فيه الهداية من الضلالة ومن الفسق، كل ذلك يدخل، يدخل في ذلك الهداية التي هي الدخول في الإسلام والخروج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو أن يكون الإنسان على ضلال وهو من المسلمين ثم يهديه الله عز وجل على يديه فينتقل من الضلالة إلى السنة ومن البدعة إلى السنة، فإن الله تعالى يثيب هذا الذي دعا وأرشد مثلما يثيب ذلك العامل، ولا شك أن هذا خير من المال ومن أنفس الأموال. ومن قام بتوزيع الأشرطة والكتب والمطويات للناس يعتبر عمله هذا من نشر العلم وإن لم يكن هو طالب علم، ويدخل في حديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً) إذ لا شك أن المتسبب في الخير والموصل الخير إلى الغير ويهتدي الناس بسبب ذلك لا شك أنه شريك في الأجر. تراجم رجال إسناد حديث: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) قوله: [حدثنا سعيد بن منصور] . سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم] . عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبيه] . أبوه هو أبو حازم سلمة بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن سهل يعني: ابن سعد] . سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وهذا الإسناد رباعي، والأسانيد الرباعية هي أعلى ما يكون من الأسانيد عند أبي داود.
__________________
|
#716
|
||||
|
||||
![]() شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) كتاب الإمارة شرح سنن أبي داود [415] الحلقة (447) شرح سنن أبي داود [415] الحديث عن بني إسرائيل مما جاء الشرع بجوازه، فما كان موافقاً لشرعنا ففي شرعنا غنىً عنه، وما كان مخالفاً لشرعنا فلا يؤخذ به، وما ليس موافقاً ولا مخالفاً لشرعنا فلا يصدق ولا يكذب، فعلى طالب العلم أن يعرف هذا، كما أن عليه أن يكون طلبه للعلم من أجل الله عز وجل، لا من أجل غرض دنيوي أو من أجر رياء أو سمعة، فإن من لم يكن طلبه العلم لأجل الله لن يفلح لا في الدنيا ولا في الآخرة. الحديث عن بني إسرائيل شرح حديث (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحديث عن بني إسرائيل. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) ] . أورد أبو داود باب الحديث عن بني إسرائيل، يعني: أن يتحدث بأحاديثهم والأشياء التي تؤثر عنهم وتنقل عنهم، وأن مثل ذلك لا بأس به، لكن هذا كما هو معلوم إذا كان في أمور ليس فيها باطل؛ لأن الحديث بالباطل ونشر الباطل لا يجوز، ولكن إذا كان فيه فوائد وفيه أخبار وما إلى ذلك فإن الحديث سائغ، ومعلوم أن أخبار بني إسرائيل إنما تتناقل وليس هناك أسانيد فيها متصلة، وإنما ساغ للناس أن يتحدثوا بما يسمعوا من أخبارهم لكن إذا كان فيها باطل فليس للإنسان أن يذكر ذلك الباطل إلا مفنداً له ومبيناً فساده وأن ذلك لا يليق ولا يصلح، أما أن يذكر ذلك ويسكت عنه فهذا لا ينبغي. وهذه الترجمة في الحديث عنهم، وأما الترجمة التي سبق أن مضت فهي في حديثهم وكلامهم؛ لأنه تقدم أن ترجم بقوله: باب رواية حديث أهل الكتاب، يعني: كونهم يتحدثون وينقل عنهم، قال فلان كذا، ولكن الذي هنا هو كونه يوجد أخبار في الكتب تنسب إلى بني إسرائيل فإنه يمكن التحدث بها ويمكن تناقلها حيث لا يكون فيها محذور أو أمر لا يسوغ أو يحصل به ضرر، اللهم إلا أن يبين بطلانه ويبين فساده إذا ذكر وتحدث به. وأورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) . قوله: (حدثوا) يعني: أنه سائغ لهم، والمقصود هنا الإذن والإباحة، وليس المقصود به الوجوب ولا الاستحباب وإنما الإرشاد والإباحة. وكون الإنسان يذكر شيئاً من أخبارهم يجوز ذلك مثلما هو موجود الآن في كتب أهل السنة من أخبار بني إسرائيل لاسيما في المواعظ. وأما الحديث عن بني إسرائيل الموجودين الآن فمن المعلوم أن بني إسرائيل الآن ما عندهم إلا الخبث والشر، والأحاديث التي يتحدث بها هي ما كانت عن بني إسرائيل مما هو موجود في الكتب السابقة، فأما اليهود الموجودون الآن لا يبحث عن كلامهم ولا يتحدث به؛ إذ ليس عندهم إلا الشر والخبث، وإنما المقصود من ذلك ما كان من أخبار المتقدمين التي فيها عبر وفيها عظات وفيها كلام جميل وحكم وما إلى ذلك. تراجم رجال إسناد حديث (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة] . أبو بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [حدثنا علي بن مسهر] . علي بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن محمد بن عمرو] . محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي سلمة] . أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي هريرة] . أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره. شرح حديث (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة عن أبي حسان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال (كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح ما يقوم إلا إلى عظم صلاة) ] . أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم عن بني إسرائيل) ومعلوم أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل هو إخبار منه صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت هذا الخبر عن بني إسرائيل بإسناد صحيح متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصدق هذا الخبر، ويعتبر هذا الخبر صدقاً ما دام ثابتاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما إذا لم يكن ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصدق ولا يكذب، وقد سبق أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب بشيء فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [العنكبوت:46] ) إلا أن يكون ذلك الحديث الذي جاء عن بني إسرائيل باطلاً كأشياء تضاف إلى الأنبياء لا تليق بهم، فهذه لا يتردد في تكذيبها، بل الواجب هو المبادرة إلى تكذيبها وعدم تصديقها. وقوله: (كان يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح) لعل هذا حصل في بعض الليالي، ومعلوم أن هذا كان بعد صلاة الليل، وليس معنى ذلك أنه يكون من أول الليل إلى آخره، وأنه يشغل بذلك عن صلاة الليل، فقد كان صلى الله عليه وسلم مداوماً عليها، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي من أول الليل ومن وسطه ومن آخره حتى انتهى وتره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى السحر، ومعنى ذلك: أن هذا كان في بعض الأحيان وليس دائماً وأبداً. وقوله: (وما يقوم إلا إلى عظم صلاة) يعني: إلى صلاة فريضة. وقوله: (حتى يصبح) معناه: أنه يقوم إلى صلاة الفجر. تراجم رجال إسناد حديث (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل) قوله: [حدثنا محمد بن المثنى] . محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة. [حدثنا معاذ] . معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا أبي] . أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن قتادة] . قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي حسان] . أبو حسان الأعرج صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [عن عبد الله بن عمرو] . عبد الله بن عمرو الصحابي الجليل أحد العبادله الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أخرج له أصحاب الكتب الستة. باب في طلب العلم لغير الله تعالى شرح حديث (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في طلب العلم لغير الله تعالى. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني: ريحها] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في طلب العلم لغير الله عز وجل، أي: يطلبه لدنيا أو لسمعة وشهرة ولم يكن قصده أن يعرف الحق ويعمل به ويدعو إلى الله عز وجل على بصيرة، وإنما الدافع له والباعث له على طلب العلم هو الدنيا أو طلب الجاه وعلو المنزلة والشهرة وما إلى ذلك، دون أن يكون الباعث له هو ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة ومعرفة الحق للعمل به والدعوة إليه. وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله) لأن العلوم الشرعية يبتغى بها وجه الله عز وجل. وقوله: (يبتغى به وجه الله) فيه إثبات صفة الوجه لله عز وجل، وإثبات لازم الصفة التي هي رضا الله عز وجل، وأما إذا فسر برضا الله فقط فهذا لا يسوغ؛ لأن الوجه صفة، ورضا الله صفة، فإذا فسر الوجه بأنه الرضا فمعناه: أنه لم يثبت الوجه، ولكن إذا أثبت الوجه وأثبت الرضا الذي هو لازم هذه الصفة في ابتغاء وجه الله عز وجل فإن ذلك صحيح، أما إذا لم تثبت الصفة التي هي: الوجه وقيل: إن معناها رضا الله فقط دون إثبات صفة الوجه فهذا باطل لا يسوغ، وهذا نظير قول القائل في تفسير قول الله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] قال: في ملكه وتحت تصرفه، فإذا كان يقصد من قوله: في ملكه وتحت تصرفه أن هذا هو معنى اليد وليس لها معنى آخر، وأنها ليست صفة من صفات الله عز وجل؛ فهذا باطل، وإن أريد به إثبات الصفة وإثبات لازم الصفة وهو أن كل شيء في يد الله وكل شيء فهو في ملكه وتحت تصرفه سبحانه تعالى فهذا حق. وقوله: (عرضاً من الدنيا) يعني: شيئاً من الدنيا وعرضاً من أعراضها الزائلة. وقوله: (لم يجد عرف الجنة) يعني: ريحها؛ لأن العرف هو: الريح، وليس معنى ذلك أنه يكون حكمه حكم الكفار الذين لا يجدون ريح الجنة أبداً، وإنما المقصود من ذلك: أنه إذا لم يتجاوز الله تعالى عنه لا يحصل ذلك له من أول وهلة، ولكن كل من مات وهو غير مشرك بالله عز وجل فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وتجاوز عنه، وإن شاء عذبه، وإذا عذبه لا يخلده في النار كتخليد الكفار، وإنما يخرجه منها ويدخله الجنة فيكون مآله إلى الجنة. وإن قيل: هل يدخل في هذا الحديث الاشتراك في المسابقات التي عليها جوائز، إذا كان طالب العلم ممن يحرص على العلم؟ الجواب كون الإنسان يشتغل بالعلم من أجل معرفة الحق والهدى ثم بعد ذلك جعلت مسابقة فيها جوائز ودخل فيها فهذا لا يخرجه عن كونه تعلم العلم من أجل معرفة الحق والعمل به؛ لأنه لم يتعلم من أجل الجوائز، ولم يكن الباعث له أن يكون عنده استعداد للمنافسة في الجوائز، وإنما تعلمه لمعرفة الحق والهدى، وهذا جاء عرضاً وتبعاً وشيئاً طارئاً لم يكن هو المقصود عند التعلم وعند الاشتغال بالعلم. وأما هل يدخل في هذا من يدرس ليصبح مدرساً ويحصل على الراتب؟ فإذا كان غرضه الدنيا فقط فله نصيب من هذا الحديث، وإن كان قصده أنه يتعلم الحق ويعمل به وينفع الناس به فهذا من الثواب المعجل الذي يعجله الله له في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الإنسان قد يعلم ويرشد الناس ويفيد التلاميذ ويكون سبباً في هدايتهم وفي استقامتهم مع كونه مدرساً ويأخذ الراتب الذي يعطى للمدرسين، فإذا كان الباعث له أن يفيد الناس وأن يفيد الطلاب وأن يكون عوناً لهم على معرفة الحق والهدى فلا شك أنه على خير كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولكل امرئ ما نوى) . تراجم رجال إسناد حديث (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا) قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سريج بن النعمان] . سريج بن النعمان ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [حدثنا فليح] . فليح بن سليمان صدوق كثير الخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر] . أبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن سعيد بن يسار] . سعيد بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي هريرة] . أبو هريرة قد مر ذكره. باب في القصص شرح حديث (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القصص. حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبو مسهر حدثني عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله السيباني عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في القصص، والقصص هي: ذكر الحكايات والقصص التي فيها تأثير وفيها فوائد للناس، وقد تكون هذه القصص سليمة ومفيدة، وقد يكون فيها شيء من المحذور، فالقاص هو الذي يذكر ويعظ ويأتي بالحكايات والقصص التي فيها تحريك للقلوب وقد لا يكون فيها تحريك للقلوب، ولكنها حكايات عن أناس متقدمين يأتي بها قد تكون مؤثرة وقد تكون غير مؤثرة. وأورد أبو داود حديث عوف بن مالك رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال) . قوله: (لا يقص) ليس هذا نهياً وإنما هو نفي؛ لأنه لو كان نهياً لصار المختال مأذوناً له في القص، فلو كان نهياً فإن معناه: أنه مأذون لهؤلاء ومنهم المختال لكن المقصود به النفي، يعني: أنه لا يحصل القصص إلا من هذا أو هذا، لكن لا يعني ذلك أنه يكون مأذوناً للمختال. وقوله: (أمير أو مأمور) الأمير هو: المسئول وهو الذي يتكلم أو مأمور من الأمير، وإذا لم يكن لا هذا ولا هذا فهو الصنف الثالث وهو المختال الذي يحب الفخر ويحب الظهور ويحب البروز وقد يكون مرائياً أو ما إلى ذلك من الصفات. فهذا إخبار عن الواقع؛ يعني: لا يقص إلا كذا وكذا وكذا، وليس معنى ذلك نفي الوقوع مطلقاً وإنما هو نفي الوقوع إلا من هؤلاء الثلاثة الذين هم: أمير أو مأمور أو مختال، والأمير والمأمور هؤلاء محقون أما المختال فهو منشغل فيما لا يعنيه وداخل في شيء غير مأذون له فيه. وعلى هذا فقوله: (لا يقص) إخبار عن الواقع، أي: أنه لا يحصل القصص إلا من كذا وكذا وكذا، وهو من جنس قوله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع) يعني: أن الناس يتجهون إلى النكاح من أجل هذه الأمور وليس أمراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن أن المرأة تنكح لكذا ولكذا ولكذا، وإنما الأمر هو بأنها تنكح من أجل دينها، هذا هو الذي أمر به الشارع، وأما هذا ففيه إخبار عن واقع الناس، فمن الناس من يكون رغبته كذا ومنهم من رغبته كذا ومنهم من رغبته كذا، ومن جنسه لا يقص إلا كذا أو كذا، يعني: أن هذا إخبار بالواقع أن القصص لا تحصل إلا من هذا أو هذا أو هذا والأول والثاني محقان والثالث ليس على حق، وفي هذا دليل على أنه ليس كل أحد يقص على الناس، وإنما الذي يقص يقص بإذن من الوالي؛ لأنه قد يتولى القص ويتولى الكلام من يفسد ومن يضر الناس ومن يلبس على الناس، فلا يتكلم كل من أراد أن يتكلم؛ لأنه قد يتكلم في الضلال وقد يتكلم في إفساد الناس وإفساد عقائد وعبادات الناس، ومثل هذه الأمور إنما تكون من الولاة ونواب الولاة الذين يؤذن لهم ولا تكون ملكاً لأحد؛ لأن عدم تقييدها بترتيب وتنظيم يؤدي إلى الفوضى وإلى أن كل واحد يتكلم بباطله وينشر باطله فيترتب على ذلك فساد الناس. وقوله: (المختال) يعني: الذي عنده خيلاء وعنده تكبر وحب بروز وظهور وسمعة. تراجم رجال إسناد حديث (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال) قوله: [حدثنا محمود بن خالد] . محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة. [حدثنا أبو مسهر] . أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثني عباد بن عباد الخواص] . عباد بن عباد الخواص صدوق يهم، أخرج له أبو داود. [عن يحيى بن أبي عمرو السيباني] . يحيى بن أبي عمرو السيباني مقبول، أخرج له أبو داود. [عن عوف بن مالك الأشجعي] . عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. والحديث جاء من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو بن العاص فيكون هذا الرجل المقبول قد وجد ما يعضده ويؤيده ويشهد له. شرح حديث (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سكت القارئ، فسلم ثم قال: ما كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله! إنه كان قارئ لنا يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الحمد الله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال: بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوهم له، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرف منهم أحداً غيري. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين! بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة) ] . أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه وهم فقراء صعاليك وفيهم من يكون ثوبه غير كاف ويستتر بأخيه ويقرب من أخيه حتى لا يظهر شيء من عورته بسبب عدم وجود اللباس الكافي، فوقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ما تصنعون؟ قالوا: قارئ يقرأ لنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الحمد الله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه) يشير إلى قوله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] فقال لهم: (أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين! بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمسمائة سنة) أي: أن الفقراء يسبقون الأغنياء في الدخول؛ لأنهم لا يحاسبون، بخلاف الأغنياء فإنهم يحاسبون على أموالهم وعلى ثرواتهم، فأولئك يسبقونهم لأنهم ليس عندهم شيء يحاسبون عليه من حيث الأموال: تجمعيها ومن أين جاءت؟ وأين صرفت؟ فهذا هو السبب الذي جعل الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء. والحديث ضعيف ولكن هذه الجملة الأخيرة صحيحة وثابتة؛ لأنها جاءت من طرق مختلفة، أي: أن دخول الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة عام أو بنصف يوم هذا جاء في غير هذا الحديث، والحديث في إسناده من هو متكلم فيه لكن الجملة الأخيرة جاء ما يدل على ثبوتها. تراجم رجال إسناد حديث (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين) قوله: [حدثنا مسدد] . مسدد مر ذكره. [حدثنا جعفر بن سليمان] . جعفر بن سليمان صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [عن المعلى بن زياد] . المعلى بن زياد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [عن العلاء بن بشير المزني] . العلاء بن بشير المزني مجهول، أخرج له أبو داود. [عن أبي الصديق الناجي] . أبو الصديق الناجي هو بكر بن عمرو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي سعيد الخدري] . أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح حديث (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثني عبد السلام -يعني: ابن المطهر أبو ظفر - حدثنا موسى بن خلف العمى عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) ] . أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في فضل ذكر الله عز وجل والاشتغال به وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله عز وجل من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أجلس مع أناس بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن شأنه عظيم عند الله عز وجل، وأنه بهذا الوصف وبهذه المنزلة وبهذه الدرجة التي بينها رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. تراجم رجال إسناد حديث (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى) قوله: [حدثنا محمد بن مثنى حدثني عبد السلام يعني: ابن مطهر] . عبد السلام بن مطهر صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود. [حدثني موسى بن خلف العمى] . موسى بن خلف العمى صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي. [عن قتادة عن أنس بن مالك] . قتادة مر ذكره، وأنس بن مالك هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (اقرأ عليَّ سورة النساء) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرأ علي سورة النساء. قال: قلت: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت عليه حتى إذا انتهيت إلى قوله: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ )) [النساء:41] الآية، فرفعت رأسي فإذا عيناه تهملان)]. أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي، فقال: أأقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟!) أي: كيف اقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا جاء إلى قول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] الآية قال: فرفعت رأسي فإذا عيناه تهملان) يعني: تذرفان الدموع من البكاء فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه. تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (اقرأ عليَّ سورة النساء) قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة] . عثمان بن أبي شيبة مر ذكره. [حدثنا حفص بن غياث] . حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الأعمش] . الأعمش مر ذكره. [عن إبراهيم] . إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبيدة] . عبيدة بن عمرو السليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبد الله] . عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________________
|
#717
|
||||
|
||||
![]() شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) كتاب الإمارة شرح سنن أبي داود [416] الحلقة (448) شرح سنن أبي داود [416] الخمر هي أم الخبائث، فما من شر إلا وهو منطوٍ تحتها، ولهذا حرمها الله عز وجل، وحرم الأسباب الموصلة إليها، ولعن الرسول صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة، فيجب على كل إنسان أن يبتعد عنها، وعن الأسباب الموصلة إليها، وأن يحذر منها وممن يتعاطاها. تحريم الخمر شرح حديث عمر: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء) قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأشربة. باب في تحريم الخمر. حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا) ] . أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأشربة. والأشربة يراد بها ما كان ممنوعاً وما كان غير ممنوع، والممنوع: الخمر، وغير الممنوع: الماء وغير ذلك من الأشياء التي هي على أصل الإباحة ولم تحرم، وما يتعلق بأحكامها وآدابها وما إلى ذلك، هذا هو المقصود بكتاب الأشربة. وبدأ بباب في تحريم الخمر، والخمر كما جاء عن عمر رضي الله عنه: ما خامر العقل، أي: غطاه وأزاله، فيكون الإنسان من جملة المجانين أو شبيهاً بالمجانين؛ لأنه كان بعقله فسعى إلى إضاعة عقله وتغطيته بهذا الشراب الخبيث الذي هو أم الخبائث؛ لأنه يفضي إلى الخبائث على اختلاف أنواعها ويؤدي إليها؛ لأنه مع زوال العقل يمكن أن يحصل كل شر بسبب ذلك. والخمر كانت مستعملة في الجاهلية، وجاء الإسلام فحرمها، وكان تحريمه إياها على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: أنه بين أن الخمر فيها منافع وإثم، ولكن الإثم أعظم من النفع، وهذا فيه إشارة إلى تركها. المرحلة الثانية: جاء المنع من شربها وقت الصلاة، أي: أنه لا يفعل ذلك والصلاة قريبة بحيث يأتي وقت الصلاة وهو في سكره وغيبوبة عقله. المرحلة الثالثة: بعد ذلك جاء التحريم البات الذي بين أنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمرهم باجتنابها، وأن في ذلك الفلاح، وجاء في الآخر قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] أي: انتهوا عنها، فتركوها وتخلصوا مما كان موجوداً منها، أعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نزل عليهم تحريمها. والخمر حرمت لما فيها من الأضرار والمفاسد؛ ولهذا تسمى أم الخبائث؛ لأن الإنسان إذا فقد عقله يمكن أن يقع في كل محرم، بل قد يقع في نكاح المحارم. ثم أيضاً كون الإنسان أعطاه الله عقلاً ثم سعى باختياره إلى أن يزول عقله وأن يكون شبيهاً بالمجانين هذا من أسوأ ما يكون وأفحش ما يكون. وابن الوردي له قصيدة لامية في الآداب وهي جميلة، ومنها جزء من بيت يقول فيه: كيف يسعى في جنون من عقل أي: كيف أن إنساناً أعطاه الله عقلاً ثم يسعى إلى أن يكون مجنوناً ويعمل بفكره وعقله إلى أن يتخلص من عقله فيكون من جملة المجانين؟! هذا شيء عجيب! فالإنسان العاقل الذي أعطاه الله عقلاً لا يسعى إلى أن يدمر عقله وأن يتخلص من عقله، فيكون من جملة المجانين. والخمر قد جاء تحريمها كما ذكرت على ثلاث مراحل: آية في سورة البقرة، ثم آية في سورة النساء، ثم آية في سورة المائدة وهي التي فيها التحريم البات الذي قال الله فيه: (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) ؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع ذلك: انتهينا، وكان يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء) ولما نزل قوله: (( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ )) ، وقال في الآخر: (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) ، قال رضي الله عنه: انتهينا. وقد أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير) أي: أن هذا هو الغالب فيها، وليس معنى ذلك أنه مقصور على هذه الأشياء، بل يكون من غيرها، ولكن هذا إشارة إلى الغالب الذي كان موجوداً عندهم في ذلك الوقت، إذ إنه لما نزل تحريم الخمر كانت تتخذ من هذه الأشياء. ثم إن عمر رضي الله عنه أتى بكلمة تدخل فيها هذه الخمسة وغيرها، حيث عرف الخمر بأنها كل ما يغطي العقل ويخمره ويستره، فما كان كذلك فإنه يقال له خمر، حيث قال: (والخمر ما خامر العقل) أي: كل شيء يغطي العقل ويستره يقال له خمر، سواء كان من هذه الأشياء الخمسة أو من غيرها. والخمر قيل لها خمر؛ لأنها تغطي العقل وتستره كما يقال للخِمار خمار؛ لأنه يغطي الرأس والوجه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه، فالتخمير هو التغطية، فالخمر تغطي العقل وتستره وتحجبه، وتجعل صاحبه يسلب هذه النعمة بشربه ذلك الشيء الذي غطى عقله وصار به من جملة المجانين بعد أن كان من جملة العقلاء. والخمر فيها أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة، ذكر الله عز وجل جملة منها في آية المائدة في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] ، فهي مشتملة على عدة أمور تدل على تحريم الخمر وعلى وجوب التخلص والابتعاد منها. قوله: (ثلاث وددت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا إلا وقد عهد إلينا فيها عهداً) . يعني: أتى بشيء فاصل بيِّن لا يكون فيه مجال للاختلاف، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدنيا إلا وقد بين للناس أمور دينهم، وكان مما بينه ما هو واضح لكل أحد، ومنه ما يعلم بالاستنباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما غادر هذه الحياة إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه تمنى أن يكون هناك شيء فاصل في ثلاث: الجد والكلالة وأبواب من الربا، والمقصود بالجد: أبو الأب، وذلك فيما يتعلق بالإرث بينه وبين الإخوة هل يقاسمهم أو يحجبهم؟ أي: هل هو أب فيحجب أو بمنزلة الأخ فيشارك؟ وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، وكان رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه أنه يحجب الإخوة؛ لأنه بمنزلة الأب، وعمر رضي الله عنه اختلف رأيه في هذه المسألة وجاء عنه أنه يشارك الإخوة، ولكن قول الصديق رضي الله عنه هو الواضح الجلي، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) ، يدل على أن الجد أولى من غيره؛ لأنه أولى من الإخوة، ولا يقال: إن الإخوة أولى منه، ولا إنهم مثله؛ لأن الجد هو في النسب من الأصول الوارثين، وأما الإخوة فهم حواش وهم كلالة يحيطون بالإنسان، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، وأما الجد فهو أصل من أصوله وهو سبب وجوده، وهو بمنزلة الأب، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض) نص في أن الجد مقدم على الإخوة؛ ومقدم على غيره؛ لأنه بمنزلة الأب. وقد اعتنى ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين بمسائل في الفرائض وفي غيرها، ومن ذلك مسألة الجد والإخوة، وأورد أن الجد يحجب الإخوة، وذكر عشرين وجهاً كلها تدل على تقديم الجد على الإخوة، وأنه يحجبهم، وأنهم لا يشاركونه، بل هو مقدم عليهم. إذاً: ما يتعلق بالنسبة للجد قد وجد من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أولى من غيره في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) ، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، هذا هو الذي يورث كلالة، أي: ليس له والد وليس له ولد، ومعلوم أن الولد جاء ذكره في القرآن، والوالد لم يذكر، ولكن حصل الإجماع على أن الأب يحجب الإخوة، وأنهم لا يرثون، ويكون مثله الجد تماماً؛ لأنه بمنزلته ويقوم مقامه عند فقده، والمقصود بالكلالة التي فيها الاختلاف هم الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، أما الإخوة لأم فأمرهم واضح؛ لأنهم أصحاب فروض يرثون حيث لا أصول ولا فروع، يعني: حيث يكون الميت ليس له أب ولا جد، وكذلك ليس له ابن ولا بنت، فإنهم لا يرثون مع وجود الأصل الوارث والفرع الوارث، وإنما الكلام في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب؛ لأنهم هم الذين جاء ذكرهم في آخر سورة النساء في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] يعني: إن لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا بالإجماع، ومعلوم أن الوالد يكون أباً ويكون جداً. إذاً: الكلالة من ليس له والد ولا ولد. وقوله: (وأبواب من الربا) قيل: إن هذا إنما هو في ربا الفضل، وأما ربا النسيئة فهذا أمره واضح، فربا الفضل هو الذي فيه إشكال. الحاصل: أن عمر رضي الله عنه تمنى أن يكون هناك نصوص واضحة لا مجال للاجتهاد فيها، وليس فيها خفاء، والاستنباط منها لا يكون خفياً، هذا هو الذي تمناه، ولكن لا يقال: إن الشريعة لم تأت ببيان هذه المسائل، بل جاءت ببيانها ولكنها فيها خفاء وفيها مجال للاجتهاد، كشأن كثير من المسائل التي تأتي والاجتهاد له مجال فيها. تراجم رجال إسناد حديث عمر (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء) قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل] . أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [حدثنا إسماعيل بن إبراهيم] . إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا أبو حيان] . يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ويحيى بن سعيد أبو حيان بن حيان هذا في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري، وهناك من رجال الكتب الستة ممن يقال له: يحيى بن سعيد أربعة: اثنان في طبقة واثنان في طبقة، فالطبقة المتقدمة هي في صغار التابعين: يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد أبو حيان هذا، وفي الطبقة المتأخرة: يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن سعيد الأموي. [حدثني الشعبي] . عامر بن شراحيل الشعبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ابن عمر] . عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. [عن عمر] . عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. شرح حديث: (لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباد بن موسى الختلي أخبرنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت الآية التي في البقرة: (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ )) [البقرة:219] الآية، قال: فدعي عمر فقرئت عليه، قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت الآية التي في النساء: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت هذه الآية: (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) [المائدة:91] ، قال: عمر: انتهينا)]. أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ) وهذا فيه الإشارة إلى أنه كان ينبغي بمجرد سماع هذا الكلام أن تترك؛ لأن الإثم والضرر أكبر، وذلك لما يحصل من زوال العقل وما يترتب عليه من الأضرار والمنافع. وكونهم كان يستفيدون منها في البيع والشراء والتجارة هذه من منافعها، ثم نزلت آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقربن الصلاة سكران) يعني: لا يشرب في الوقت الذي يكون قريباً من الصلاة حتى لا يأتي وقت الصلاة وهو سكران. ثم بعد ذلك نزلت آية المائدة التي فيها الحد الفاصل والحكم الفاصل في تحريمها، وأنها محرمة، وأن الأمر قد استقر وانتهى في بيان حرمتها، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطاها، ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بادروا إلى تركها وإلى التخلص مما كان بأيديهم منها فكانوا يهريقونها ويتلفونها امتثالاً لما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وفي هذا بيان أن الخمر حصل تحريمها على هذه المراحل الثلاث، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه كلما تنزل آية لم يكن التحريم فيها باتاً يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً) ولما نزلت آية المائدة وفي أخرها (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) ، قال رضي الله عنه: (انتهينا، انتهينا) . فكان من شأن الصحابة أن أهراقوا ما كان بأيديهم من الخمر وكفوا عن شربها فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وفي هذه الآية الكريمة بيان حرمة الخمر والابتعاد عنها من سبعة وجوه: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] ، فأخبر بأنها رجس، فقيل: نجس، وقيل: خبث، وهذا يدل على تحريمها حيث إنها وصفت بهذا الوصف. ثم قال: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] فوصفها بأنها من عمل الشيطان، وهذا يدل على تركها والتخلص منها. ثم قال: {فَاجْتَنِبُوهُ} ، والاجتناب يدل على أن يكون الإنسان بعيداً منها، وأن تكون في جانب وهو في جانب بحيث لا يكون هناك تقارب بينه وبينها، بل يكون بعيداً منها. ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وهذا فيه أن تركها فيه الفلاح وأنهم نهوا ليكون لهم الفلاح في ذلك. ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ والميسر} [المائدة:91] ، وهذا فيه أن حصول العداوة والبغضاء بين الناس هو بسبب شرب الخمر، فهذان أمران يدلان على وجوب تركها. ثم قال: (( وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ )) ، وهذا فيه أن الخمر فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما أمران. ثم قال: (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) أي: انتهوا. فهذه أمور سبعة كلها تدل على الامتناع عن الخمر وعلى أن هذه الآية جاءت حداً فاصلاً بحكمها، وأنه لا يجوز تعاطيها ولا قربانها، بل الواجب هو اجتنابها والابتعاد عنها؛ لأن في ذلك الفلاح والانتهاء من الشر والابتعاد عنه. وقوله: (فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران) يعني: أنه كان عند إقامة الصلاة يقول: (لا يقرب الصلاة سكران) . والسكران كما هو معلوم فاقد العقل فلا يخاطب، وهو قبل أن يبدأ الشرب وقبل السكر كان عنده إدراك، وأما مع السكر فليس عنده عقل بل هو من جملة المجانين، ولكن المقصود من ذلك من كان في مبادئ السكر، حيث لم يحصل تغطية عقله، أو أنه قد شرب وهو يعلم من نفسه أنه في هذه المدة أو في هذه الفترة يكون متصفاً بهذا الوصف الذي هو السكر. تراجم رجال إسناد حديث (لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا) قوله: [حدثنا عباد بن موسى الختلي] . عباد بن موسى الختلي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. [أخبرنا إسماعيل يعني: ابن جعفر] . إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن إسرائيل] . إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي إسحاق] . أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عمرو عن عمر] . عمرو بن شرحبيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة. [عن عمر بن الخطاب] . عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد مر ذكره. شرح حديث: (أن رجلاً من الأنصار دعا علياً وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمهم علي في المغرب فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] فخلط فيها فنزلت: (( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )) [النساء:43] )]. أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: أنه دعاه رجل من الأنصار هو وعبد الرحمن بن عوف قبل أن تحرم الخمر فشربوا، وأنه جاء وقت المغرب فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه حصل منه تخليط في القراءة بسبب شرب الخمر فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] . تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً من الأنصار دعا علياً وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر) قوله: [حدثنا مسدد] . مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. [حدثنا يحيى] . يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن سفيان] . سفيان هو ابن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا عطاء بن السائب] . عطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري مقروناً وأصحاب السنن، ولكن الراوي عنه سفيان الثوري، وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط فسماعه صحيح؛ لأن عطاء بن السائب سمع منه سبعة قبل الاختلاط فروايتهم صحيحة وهم: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وزهير بن معاوية، وزائدة بن قدامة، وحماد بن زيد، والأعمش، وأيوب السختياني. [عن أبي عبد الرحمن السلمي] . أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الله بن حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن علي بن أبي طالب] . علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة. شرح أثر ابن عباس في نسخ آية المائدة لآيتي البقرة والنساء قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] ، نسختهما التي في المائدة: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ [المائدة:90] الآية) ]. أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية التي في البقرة، والآية التي في النساء نسختهما الآية التي في المائدة وهي: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ )) إلى قوله: (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) ، ومعلوم أن تحريم الخمر جاء على مراحل: الأولى: الإشارة إلى المصالح والمفاسد، وأن المفاسد أعظم. الثانية: التحريم في وقت ما، ومعنى ذلك: أن الحل كان موجوداً؛ لأنه لم يكن التحريم تحريماً عاماً. فالمرحلة الأولى لم يكن فيها التحريم، وإنما كان فيها الإشارة إلى أن هذا فيه ضرر وفيه منافع ولكن الضرر أكبر. المرحلة الثالثة: التحريم البات في قوله: (( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) ، ثم قال: (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )) أي: لأنه تحريم بات، وأنه لا يجوز استعمالها في أي حال من الأحوال، بل يجب التخلص منها وعدم شرب شيء منها أصلاً؛ لأنه جاء فيها التحريم الواضح الجلي الذي لا إشكال فيه، وأما قبل ذلك فقد كان تحريماً مؤقتاً يتعلق بقربان الصلاة، وقبل ذلك كانت هناك الإشارة إلى المفاسد والمضار، ولكن لم يكن هناك ذكر التحريم، ولذا بقي استعمال الخمر سائغاً في هاتين الآيتين، ثم جاء التحريم البات في آية المائدة. تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في نسخ آية المائدة لآيتي البقرة والنساء قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي] . أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة، أخرج له أبو داود. [حدثنا علي بن حسين] . على بن حسين بن واقد صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن. [عن أبيه] . أبوه ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [عن يزيد النحوي] . يزيد بن أبي سعيد النحوي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن. [عن عكرمة] . عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ابن عباس] . عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح حديث أنس: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة وما شربنا يومئذٍ إلا الفضيخ، فدخل علينا رجل فقال: إن الخمر قد حرمت، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ] . أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه أنه لما نزل تحريم الخمر كان أنس رضي الله عنه عند أبي طلحة، وهو زوج أمه، وكان معه أناس يشربون الخمر فجاء رجل وقال: (إن الخمر حرمت، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمها، وقالوا: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وهنا فيه اختصار فقد جاء أنهم تركوها وأهراقوا ما كان عندهم منها، وهذا يدل على مبادرتهم إلى الاستسلام والانقياد لما يأتي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من أحكام. تراجم رجال إسناد حديث أنس: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر) قوله: [حدثنا سليمان بن حرب] . سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا حماد بن زيد] . حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ثابت] . ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أنس] . أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود. باب العنب يعصر خمراً شرح حديث: (لعن الله الخمر وشاربها) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العنب يعصر للخمر. حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن عبد العزيز بن عمر عن أبي علقمة مولاهم وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب العنب يعصر للخمر، أي: أنه يتخذ الخمر من العنب، ومعلوم أن الخمر يتخذ من العنب وغير العنب، ولكن المشهور والذي كان كثيراً في الاستعمال عندهم هو العنب حتى قال بعض أهل العلم: إن الخمر من حيث اللغة إنما هي ما يتخذ من العنب. ولكن كما هو معلوم جاءت النصوص والآثار تدل على أن الخمر تتخذ من العنب وغير العنب، وهم أهل اللغة، فليس الأمر مقصوراً على العنب دون غيره، والتحريم لكل ما أسكر، فكل ما أسكر قليله فإنه يكون حراماً قليله وكثيره، سواء كان من العنب أو غير العنب. وجاء عن بعض فقهاء الكوفة أنهم كانوا يرون أن القليل الذي لا يسكر من غير العنب يسوغ، ويقصرون التحريم في القليل والكثير على ما كان من العنب خاصة، ولكن الصحيح هو ما جاء في بعض الأحاديث: (ما أسكر قليله فكثيره حرام) . أو (ما أسكر منه الفرق فالقليل منه حرام) ، وهذا يدل على أنه لا فرق بين العنب وغير العنب، وأن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام من أي شيء كان، سواء كان من العنب أو من غير العنب. وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه) . وهذه تسعة أشياء حصل لعنها، وقد جاء عند ابن ماجة زيادة: (وآكل ثمنها) أي أنه لعن في الخمر عشرة فزاد آكل الثمن، وهؤلاء العشرة أربعة منهم متقابلون، يعني: يتكون من كل واحد اثنان: الأول: (شاربها وساقيها) يعني: الذي يسقي والذي يشرب. والثاني: (وبائعها ومبتاعها) أي: البائع والمشتري. والثالث: (وحاملها والمحمولة إليه) . والرابع: (وعاصرها ومعتصرها) عاصرها سواء كانت له أو لغيره، ومعتصرها الطالب من غيره أن يعصرها له أو لغيره، كل هذا جاء لعنه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________________
|
#718
|
||||
|
||||
![]() تراجم رجال إسناد حديث: (لعن الله الخمر وشاربها) قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة] . عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة. [حدثنا وكيع بن الجراح] . وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عبد العزيز بن عمر] . عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي علقمة] . أبو علقمة الصواب فيه أنه أبو طعمة وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة. [وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي] . عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي مقبول أيضاً، أخرج له أبو داود وابن ماجة. وهما اثنان مقرونان، وكل منهما مقبول فيشد بعضهما حديث بعض، أو يشد بعضهما رواية بعض. والحديث قد جاء من طرق أخرى غير هذا الطريق. [أنهما سمعا ابن عمر] . ابن عمر قد مر ذكره. وجه لعن الخمر ولعن الخمر في قوله: (لعن الله الخمر) هو على اعتبار أنها سبب الشر وأنها خبيثة، بل هي أم الخبائث. ويحمل اللعن على المعنى الظاهر وهو الطرد من رحمة الله بالنسبة للفاعلين، فهم الذين يطردون من رحمة الله، وأما الخمر فهي ملعونة؛ لأنها سبب الطرد من رحمة الله. حكم العطور والأدوية المشتملة على كحول والعطور التي فيها كحول هل تدخل في هذا الذي فيه اللعن؟ وهل يجوز حمل تلك العطور إلى آخرين؟ الجواب إذا كانت تسكر فإن حكمها حكم الخمر؛ والشيء الذي يكون فيه إسكار يستغنى عنه بالشيء الذي هو سليم طيب، وما أكثر الطيب! فيستغنى به عن الشيء الذي هو خبيث، والذي فيه الإسكار. وأما الأدوية التي فيها شيء من الكحول بنسبة ضئيلة فإن ذلك لا يؤثر. ما جاء في الخمر تخلل شرح حديث: (أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الخمر تخلل. حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي هبيرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، قال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الخمر تخلل، يعني: أنها تحول من كونها خمراً مسكراً إلى كونها خلاً، وذلك بأن يطرح فيها أشياء تذهب سكرها، وتذهب شدتها، فتتخذ خلاً يستفاد به في الطعام. وأورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة أبي طلحة وأنه استأذن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم في خمر لأيتام وذلك لما نزل تحريم الخمر، وسأل عن كونها تخلل فقال له: (أهرقها) ، فدل على أنه لا يجوز الاحتفاظ بها، وأن الإنسان الذي علم بتحريم الخمر عليه المبادرة إلى التخلص منها، وذلك بإهراقها وعدم إبقائها. وكذلك لا يجوز له أن يعمل على تخليلها، بل الواجب عليه المبادرة إلى إهراقها والتخلص منها، ولو كان التخليل سائغاً لكان هؤلاء الأيتام الذين هم بحاجة إلى المحافظة على أموالهم أولى من يرخص له في ذلك، لكن ما دام أنه حصل التحريم والمنع ولو كان لأيتام دل على أن الأمر لا يسوغ ولا يجوز. هذا إذا تدخل فيه صنع الإنسان، أما إذا تخللت بنفسها ففي ذلك خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: إن من قصد تخليلها أو قصد أنها تتحول إلى خل بحبسها فإن ذلك لا يجوز، وأما إذا كان لم يقصد هذا وإنما حصل أنها تركت حتى صارت خلاً ولم يكن ذلك مقصوداً فإنه لا بأس به، ولكن التخلص منها والابتعاد منها لا شك أنه هو الذي ينبغي، وذلك لأن القول بأنه إذا تخللت جاز استعمالها يؤدي ذلك إلى الاحتفاظ بها حتى تتحول بنفسها. تراجم رجال إسناد حديث: (أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً) قوله: [حدثنا زهير بن حرب] . زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [عن وكيع] . وكيع مر ذكره. [عن سفيان عن السدي] . سفيان مر ذكره. والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن. [عن أبي هبيرة] . أبو هبيرة هو يحيى بن عباد بن شيبان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [عن أنس بن مالك] . أنس بن مالك رضي الله عنه مر ذكره. الخمر مما هي شرح حديث: (إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخمر مما هي؟ حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً) ] . أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: الخمر مما هي؟ يعني: من أي شيء تكون؟ ومن أي شيء تتخذ؟ وأورد أبو داود حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من العسل خمراً) وهذه هي التي جاءت في الحديث الأول الذي قال فيه: (نزل تحريم الخمر وهي تتخذ من كذا وكذا) ، فتلك الخمسة هي هذه الخمسة التي جاءت في هذا الحديث، ولكن هذا لا يعني أنها لا تتخذ من غير ذلك، بل تتخذ من غير ذلك، ولكن هذا هو الذي كان مشهوراً عندهم في المدينة أول ما نزل تحريم الخمر. تراجم رجال إسناد حديث: (إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً) قوله: [حدثنا الحسن بن علي] . الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي. [حدثنا يحيى بن آدم] . يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر] . إسرائيل مر ذكره. وإبراهيم بن مهاجر صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن. [عن الشعبي عن النعمان بن بشير] . الشعبي مر ذكره. والنعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما صحابي من صغار الصحابة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثمان سنوات، أخرج له أصحاب الكتب الستة. شرح حديث: (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مالك بن عبد الواحد أبو غسان حدثنا معتمر قال: قرأت على الفضيل بن ميسرة عن أبي حريز أن عامراً حدثه أن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر) ] . أورد أبو داود حديث النعمان بن بشير أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخمر من العصير -أي: عصير العنب- والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة. وهذا الحديث جاء فيه زيادة الذرة، وجاء فيه زيادة الزبيب؛ لأن العصير المقصود به العنب، وهنا ذكر الزبيب، وهذا يبين أن هذه الأشياء إنما هي أمثلة وليست حصراً لما تتخذ منه الخمر. تراجم رجال إسناد حديث: (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة) قوله: [حدثنا مالك بن عبد الواحد أبو غسان] . مالك بن عبد الواحد أبو غسان المسمعي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود. [حدثنا معتمر] . معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [قال: قرأت على الفضيل بن ميسرة] . الفضيل بن ميسرة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. [عن أبي حريز] . أبو حريز هو عبد الله بن حسين صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن. [أن عامراً حدثه أن النعمان بن بشير] . عامر هو الشعبي، وهو والنعمان بن بشير قد مر ذكرهما. شرح حديث: (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثني يحيى عن أبي كثير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة) . قال: أبو داود: اسم أبي كثير الغبري: يزيد بن عبد الرحمن بن غفيلة السحمي، وقال بعضهم: أذينة. والصواب: غفيلة] . في الحديث السابق الذي مر لما ذكر الستة الأشياء قال: (وإني أنهاكم عن كل مسكر) يعني: منها ومن غيرها، فليس الأمر مقصوراً على هذه الأشياء وإنما هي أمثلة؛ ولهذا جاء بعد ذلك شيء يشملها ويشمل غيرها، وأن الأمر متعلق بالإسكار، أما إذا لم يكن الشراب مسكراً فإنه مباح وحلال، وما وصل إلى حد الإسكار سواء كان منها أو من غيرها، فإنه حرام لا يسوغ ولا يجوز. ثم أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة) يعني: في الغالب وليس ذلك للحصر كما هو معروف، وقد مر في الأحاديث السابقة ذكر أشياء متعددة غير العنب والتمر يكون منها اتخاذ الخمر. وأهل الكوفة لا يرون تحريم الخمر إلا إذا كانت من العنب، وأما من غيره فلا يحرم إلا الكثير، وقالوا: إن في اللغة أن الخمر هي من العنب، فما كان من العنب فهو الخمر والباقي يقاس، والقياس لا يكون إلا بالكثير. ويجاب: بأنه لا يسلم؛ لأن اللغة لا تحصر الخمر في العنب؛ وهذا هو كلام أهل اللغة، فإن الذين ذكروا هذه الأمور المتعددة هم من أهل اللغة وهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد جاء ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم لو لم يكن هناك إلا القياس، فإن القياس صحيح، وإلحاق النظير بالنظير أمر مطلوب، ولا شك أن المقيس يلحق بالمقيس عليه في جميع الأمور، ومعلوم أن القليل حرام وإن كان لا يسكر سواء كان من العنب أو غيرها؛ لأنه ذريعة إلى الكثير الذي يسكر، فإذا سد الباب وابتعد عن الوقوع في أي شيء يوصل إلى المحذور، فإن هذا قدر مشترك بين العنب وغيره، فلا يكون المنع خاصاً بالعنب دون غيره، وإنما هو للجميع. تراجم رجال إسناد حديث: (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة) قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل] . موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا أبان] . أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة. [حدثني يحيى] . يحيى هو ابن أبي كثير اليمامي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي كثير] . أبو كثير هو يزيد بن عبد الرحمن الغبري ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [عن أبي هريرة] . أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره. [قال أبو داود: اسم أبي كثير الغبري: يزيد بن عبد الرحمن بن غفيلة السحمي، وقال بعضهم: أذينة والصواب: غفيلة] . وهذا واضح. كلام ابن القيم في مفاسد الخمر وأضرارها ابن القيم رحمه الله له كلام في مفاسد الخمر موجود في كتابه حادي الأرواح، ذكر فيه أضرار الخمر المتنوعة فقال: وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15] . فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيته، وهذا من آيات الرب تعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويجريها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة. فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل ويكثر اللغو على شربها، بل لا يطيب لشاربها ذلك إلا باللغو، وتنزف في نفسها وتنزف المال وتصدع الرأس، وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشيطان، توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة، وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان، وهم المجانين, وتسلبه أحسن الأسماء والسمات، وتكسوه أقبح الأسماء والصفات، تسهل قتل النفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له ولمن يلزمه مؤنته، وتهتك الأستار وتظهر الأسرار، وتدل على العورات، وتهون ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن. وكم أهاجت من حرب، وأفقرت من غني، وأذلت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت مودة، ونسجت عداوة! وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه وراحت بلبه! وكم أورثت من حسرة وأجرت من عبرة! وكم أغلقت في وجه شاربها باباً من الخير، وفتحت له باباً من الشر! وكم أوقعت في بلية وعجلت من المنية! وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محنة، وجرت عليه من سفلة! فهي جماع الإثم ومفتاح الشر، وسلابة النعم، وجالبة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) لكفى. وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وكلها منتفية عن خمر الجنة. انتهى ما يتعلق بالمفاسد والأضرار التي تترب على الخمر من كلام ابن القيم رحمه الله في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
__________________
|
#719
|
||||
|
||||
![]() شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) كتاب الإمارة شرح سنن أبي داود [417] الحلقة (449) شرح سنن أبي داود [417] جاءت الشريعة الإسلامية الغراء بحفظ العقل؛ ولهذا حرمت كل ما يؤدي إلى زواله، وأعظم ذلك المسكرات والمخدرات، ووضعت حداً شاملاً لكل ما حرم من المسكرات والمفترات، وهو أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أي شيء كان، وعلى أي لون كان، وكيفما كان. النهي عن المسكر شرح حديث (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن المسكر. حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا: حدثنا حماد -يعني: ابن زيد - عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة) ] . أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن المسكر، وهنا النهي مقيد بوصف وهو الإسكار، فيدل على أن كل ما أسكر فهو حرام، والتحريم إنما هو لما يسكر كثيره، فيكون قليله تابعاً له من حيث الحرمة، بمعنى: أنه يحرم سداً للذريعة. إذاً: الحكم معلق ومنوط بالإسكار، والوصف الذي من أجله حرمت الخمر هو الإسكار، فالخمر إنما حرمت لحصول الإسكار فيها. ثم إن أبا داود رحمه الله عقد هذه الترجمة ليبين أن الحكم منوط بالإسكار، وأن المسكر حرام مطلقاً من أي شيء كان؛ لأن الحكم الذي هو التحريم أنيط بعلة الإسكار. وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) ، وقوله: (كل مسكر خمر) فيه أن الخمر ليست مقصورة على العنب، وإنما هي متعلقة بكل مسكر، فكل مسكر يقال له: خمر، لأن الإسكار يحصل به تغطية العقل، والخمر تغطي العقل، فيكون الإسكار نتيجة لاستعمال هذا الشراب، أو المادة التي يكون فيها تخمير العقل وتغطيته. وقوله: (وكل مسكر حرام) يعني: ليس التحريم مقصوراً على نوع معين، بل كل مسكر فهو خمر، وكل مسكر فإن حكمه التحريم، أي: أنه لا يجوز لإنسان أن يتعاطاه لا قليله ولا كثيره، ولو لم يسكر القليل؛ لأن العبرة بالنهاية وبالغاية، فما أسكر كثيره فقليله حرام كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقوله: (ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها) يعني: أنه يكثر من شربها ومستمر على شربها، هذا هو المقصود بالإدمان. وقوله: (لم يشربها في الآخرة) الأظهر في معناه: أنه لا يدخل الجنة دخولاً أولياً، فلا يتمتع بما فيها من النعيم، ومن ذلك الخمر التي تكون في الجنة، والتي هي سالمة من كل آفات الدنيا، فإنه لما تعاطاها في الدنيا حرمها في الآخرة، لكن هذا الحرمان له في الآخرة لا يعني أنه يستمر وأنه لا يدخل الجنة أبداً، وأنه سيبقى في النار أبد الآباد، وإنما المقصود من ذلك أنه وإن دخل لا يكون مع أول من يدخل الجنة، وإن كان سيدخلها بعد ذلك إن لم يشأ الله عز وجل له قبل دخولها المغفرة؛ لأن كل ذنب دون الشرك فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عن صاحبه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن لم يشأ العفو عنه وشاء أن يعذبه، فإنه يعذب على مقدار جرمه ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة، فمآله إلى الجنة ولا بد. ومن العلماء من قال: إنه يدخل الجنة، ولكنه لا يشرب الخمر، يعني: أن هذا النعيم الذي في الجنة المتعلق بالخمر لا يحصل له، والذي يظهر هو الأول، وهو من جنس النصوص التي فيها تحريم الجنة أو عدم دخول الجنة لمن فعل فعلاً من المعاصي ومن الكبائر التي ليست كفراً وليست شركاً بالله عز وجل، فإن الأمر في ذلك أنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وإن دخلها بعد ذلك، فمن شاء الله تعالى أن يدخل النار ويعذب فيها فإن مآله إلى الجنة ولا بد. فقوله: (لم يشربها في الآخرة) يعني: في الجنة. تراجم رجال إسناد حديث (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) قوله: [حدثنا سليمان بن داود] . سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. [ومحمد بن عيسى] . محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة. [في آخرين] . يعني: أن هذين الراويين معهما آناس آخرون أشار إليهم أبو داود دون أن يذكرهم واكتفى بذكر هذين الاثنين. [قالوا: حدثنا حماد يعني: ابن زيد] . حماد بن زيد بن درهم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكلمة (يعني: ابن زيد) هذه قالها أبو داود أو من دون أبي داود، وأما تلميذه سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني أو محمد بن عيسى الطباع فلا يحتاج إلى أن يقول: (يعني) ، بل ينسب شيخه كما يريد، ويذكر شيخه كما يريد، لكنهما ذكراه بالاقتصار على لفظ حماد دون أن ينسباه، فمن دون التلاميذ لما أراد أن يضيف شيئاً أتى بكلمة (يعني) حتى يتبين بها أن هذا التوضيح والبيان ليس من التلاميذ، وإنما هو ممن دون التلاميذ. [عن أيوب] . أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن نافع] . نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ابن عمر] . عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذين يقول فيهم السيوطي في الألفية: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والحبر كالخدري وجابر وزوجة النبي والبحر المراد به: ابن عباس، وزوجة النبي المراد بها: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عن الجميع. بيان أن الإدمان لا يلزم منه الاستحلال قوله: (لم يشربها في الآخرة) الأظهر: أنه لا يدخل الجنة دخولاً أولياً، وهذا لا يفهم منه أن إدمانه على الخمر يدل على استحلاله لها، فإن كان مستحلاً لها فهو لا يدخلها أبداً؛ لأنه يكون كافراً بالاستحلال، ولكن الكلام في غير المستحل. ولا تلازم بين الإدمان والاستحلال، بل قد يكون الإنسان مدمناً وهو عاصٍ، ويعتبر مذنباً، ولا يقول: إنها حلال، ولكنه مبتلى بهذه الخبيثة أم الخبائث. فلا تلازم بين الإدمان وبين الاستحلال، فيمكن أن يكون مع الإدمان مستحلاً حيث يقول: الخمر حلال، وليست بحرام، ويمكن أن يكون مع إكثاره منها وإدمانه لها يعتبر نفسه مذنباً، وليس بالمستحل، ويقول: إنه مخطئ وإنه قد ابتلي، وهو يعترف بذنبه، فهذا لا يكون كافراً، لكن إن كان مستحلاً فإنه لا يشربها أبداً ولا يدخل الجنة، وأما مع كونه غير مستحل فإنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) أي: نمام، يعني: لا يدخلها مع أول من يدخلها، وليس معنى ذلك أنها محرمة عليه أبداً، كما حرمت على الكفار، حيث لا سبيل للكفار إلى دخول الجنة. بل كل صاحب كبيرة فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا وتجاوز عنه ودخل الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه ولكنه لا يخلده في النار، ولا يبقيه فيها أبد الآباد، بل يخرجه منها ويدخله الجنة ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها. شرح حديث (كل مخمر خمر وكل مسكر حرام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع النيسابوري حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: سمعت النعمان بن أبي شيبة يقول: عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟! قال: صديد أهل النار، ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) ] . أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مخمر خمر) يعني: كل مخمر للعقل، مغطٍ له ساتر له، يكون خمراً، والمقصود بالمخمر: كل مسكر، وهذا مثل قوله في الحديث الأول: (كل مسكر خمر) . فقوله: (كل مخمر خمر) يعني: كل مسكر مغطٍ للعقل ساتر له، فإنه يكون خمراً ويقال له: خمر، من أي شيء كان من العنب أو التمر أو الزبيب أو البسر أو الشعير أو البر أو العسل أو أي شيء يحصل به الإسكار، ويحصل به تخمير العقل وتغطيته، فما كان كذلك فإنه يقال له: خمر. وقوله: (وكل مسكر حرام) هو من جنس الجملة الأولى التي وردت في الحديث الأول وهي قوله: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) وهنا قال: (كل مخمر خمر) يعني: كل مسكر مغطٍ للعقل خمر. وقوله: (وكل مسكر حرام) . هذا فيه بيان التحريم، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى فيها تسمية الخمر، والثانية فيها بيان الحكم وأنها حرام. وقوله: (ومن شرب مسكراً بخست -يعني: نقصت- صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه) . يعني: أن هذا النقصان الذي قد حصل وهذا البخس الذي قد حصل، إذا تاب تاب الله عليه. وقوله: (فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) هنا قال: (فإن عاد الرابعة) وما ذكر إلا مرة واحدة، لكن جاء في سنن الترمذي من طريق أخرى عن عبد الله بن عمر أنه ذكر ذلك ثلاث مرات ثم قال: (فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) . فمعنى ذلك: أنه قال: إن شربها بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن عاد بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن عاد الثالثة كذلك، ثم قال: (فإن عاد -يعني: للرابعة- كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال) ومعنى ذلك: أنه كلما شرب يحصل له المعاقبة بأن يحرم ثواب الصلوات هذه المدة، وإن كان يعتبر مؤدياً للصلاة، ولا يقال: إنه يعيدها لأنها ليس لها أجر، ولكنه فعلها وأداها وحرم ثوابها، وحيل بينه وبين ثوابها عقوبة له على ذلك. وقوله: (بخست صلاته أربعين صباحاً) أي: أنه يحرم الثواب هذه المدة، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كذلك ثم الثالثة كذلك، وإن عاد الرابعة كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال. وطينة الخبال هي عصارة أهل النار، وعصارة أهل النار هي ما يخرج منهم من الصديد والقيح، فإن هذا هو الذي يسقى إياه من كان على هذه الهيئة وعلى هذا الوصف، وهو كونه يشرب الخمر، ويكرر شربها، فيحرم الأجر في الصلوات التي يصليها، وإن عاد المرة الرابعة يكون هذا جزاؤه بأن يسقى من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار، نعوذ بالله من ذلك! ونسأل الله السلامة والعافية. وقوله: (ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) يعني: من سقى صغيراً ليس عنده معرفة بالحلال والحرام خمراً، فإنه يعاقب بهذه العقوبة؛ لأنه فعل هذا الفعل الشنيع مع غيره ممن هو جاهل، وممن هو صغير غير مدرك وغير مميز. تراجم رجال إسناد حديث (كل مخمر خمر وكل مسكر حرام) قوله: [حدثنا محمد بن رافع النيسابوري] . محمد بن رافع النيسابوري القشيري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، وهو أحد شيوخ الإمام مسلم الذين أكثر عنهم، والإمام مسلم يوافقه في البلد وفي القبيلة؛ لأن مسلماً قشيري من حيث النسب والقبيلة، ونيسابوري من حيث البلد، وشيخه محمد بن رافع هو بلديه ومن قبيلته، فهو نيسابوري قشيري، وهذا الرجل الذي هو محمد بن رافع هو الذي يروي من طريقه الإمام مسلم صحيفة همام بن منبه، فالأحاديث التي يوردها الإمام مسلم من صحيفة همام بن منبه كلها من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، فشيخه في أحاديث الصحيفة هو محمد بن رافع. [حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني] . إبراهيم بن عمر الصنعاني مستور، أخرج له أبو داود، والمستور: هو مجهول الحال، وهذا الحديث مذكور في ترجمته في تهذيب الكمال. [قال: سمعت النعمان بن أبي شيبة] . النعمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أبو داود. [عن طاوس] . طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ابن عباس] . ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا المستور الذي في سند الحديث لا يؤثر؛ لأن قضية بخس الصلاة أو نقص الصلاة جاءت من طريق أخرى عن ابن عمر، غير هذه الطريق التي جاءت عن ابن عباس، وأما سقيه من طينة الخبال، فقد جاء ذلك من طرق، وعلى هذا فلا يؤثر وجود هذا الشخص المستور في هذا الإسناد. حكم المخدرات المخدرات هي أخطر من الخمر؛ لأن الخمر ضررها مؤقت، وأما هذه المخدرات فتهدم الجسم، ويكون مدمنها ميتاً وهو حي، بسبب إتلافها للجسم. وأما المسكرات فإنها مادامت مسكرة ففيها الضرر، وإذا ذهب السكر رجعت الأجسام إلى طبيعتها وإلى حالتها، وأما هذه المخدرات فتفتك بالجسم وتتلفه، وتميته، ويكون كأنه فقد حياته وهو حي؛ ولهذا فإن ضررها أكبر من ضرر المسكرات؛ لأن المسكرات ضررها يكون ما دام السكر موجوداً، وأما تلك فضررها مستمر ومتصل ودائم. قيل: وذكر حرمانه الصلاة لأنها أفضل عبادات البدن، وذكرت الأربعين لأن الخمر تبقى في جوف الشارب وعروقه تلك المدة. أما كون الصلاة أعظم أركان الإسلام فإن هذا ليس فيه إشكال، وأما كون الخمر تبقى في جوف شاربها أربعين فهذا لا أدري وجهه وصحته؟ فكونها تبقى أربعين بهذا التحديد لا أدري ما وجهه؟ وقد جاء ذكر الأربعين في غير الخمر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وهذا ليس له دخل بقضية شيء يبقى في جسمه. شرح حديث (ما أسكر كثيره فقليله حرام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ] . أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهذا يدلنا على أن كل مسكر محرم قليله وكثيره، أما كثيره فمن أجل الإسكار، وأما قليله فمن أجل أنه ذريعة إلى الكثير، ووسيلة إلى الوصول إلى الكثير، فلذا يقطع الطريق أمام الإنسان، حتى لا يعرض نفسه للوقوع في هذه الخبيثة أم الخبائث، فلو لم يسكر القليل فإنه لا يجوز تعاطيه وإن لم يسكر؛ لأن الأخذ منه والتساهل فيه يؤدي إلى الوصول إلى الكثير الذي يحصل به الإسكار، لكن إذا منع نفسه من ذلك، وحال بين نفسه وبين ذلك، وأبعد نفسه عن ذلك؛ كان في ذلك سلامته ونجاته. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) يدلنا على أن كل ما كان مسكراً من أي شيء كان فإنه حرام، وأن ما أسكر منه الكثير فإنه يحرم منه القليل، ولا يقال: إن الأمر متعلق بالإسكار فقط، وأنا أشرب حيث لا إسكار، بل الرسول صلى الله عليه وسلم منع ذلك؛ لأنه ذريعة ووسيلة إلى الوصول إلى الأمر المحرم، والشريعة جاءت بسد الذرائع. والإمام ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً على سد الذرائع التي توصل إلى الأمور المحرمة، فالوسائل حرمت من أجل الغايات؛ لأنها تؤدي إلى أمر محرم، فحرم ذلك الشيء الذي يؤدي إليه وإن كان هو نفسه لا يحصل منه الإسكار. تراجم رجال إسناد حديث (ما أسكر كثيره فقليله حرام) قوله: [حدثنا قتيبة] . قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا إسماعيل يعني: ابن جعفر] . إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن داود بن بكر بن أبي الفرات] . داود بن بكر بن أبي الفرات صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة. [عن محمد بن المنكدر] . محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن جابر بن عبد الله] . جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح حديث (سئل رسول الله صلى الله عليه سلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: كل شراب أسكر فهو حرام) ] . أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع) . والبتع هو: الشراب الذي يتخذ من العسل، وهذا السؤال خاص معين، ولكنه صلى الله عليه وسلم أعطى جواباً عاماً؛ لأنه قد أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، فلم يكن جوابه أن قال: هو حرام، أو قال: هل يسكر أو لا يسكر؟ وإنما قال: (كل مسكر حرام) . إذاً: الحكم معلق بالإسكار سواء جاء من العسل, أو جاء من التمر، أو جاء من العنب، أو البسر، أو الشعير، أو الذرة أو الحنطة أو أي شيء، فكل مسكر حرام، فكان هذا من جوابه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه الذي يعطي الحكم عن المسئول عنه وزيادة، وأن الأمر منوط بالإسكار سواء كان من البتع المتخذ من العسل، أو أي نوع آخر. وأما إقامة الحد هل يكون بتناول القليل أو بالإسكار؟ فذكر بعض العلماء أنه يعرف شرب الخمر بالتقيؤ، ومعلوم أن التقيؤ قد يكون بالقليل، وليس بلازم أن يكون بالشيء الذي يسكر، فمن شرب شيئاً وعرف أنه خمر، فيكون الحكم أنه شرب خمراً، وليس الحكم من أجل حصول الإسكار فقط، وإنما من أجل شرب الخمر، ومعلوم أن من شرب قليلاً فقد شرب خمراً، فمن جملة الأشياء التي يستدل بها على شرب الخمر التقيؤ، فالإنسان إذا تقيأ وعرف أنه خمر فمعناه أنه فعل أمراً يقتضي الحد. تراجم رجال إسناد حديث (سئل رسول الله صلى الله عليه سلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام) قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي] . عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة. [عن مالك] . مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [عن ابن شهاب] . ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن أبي سلمة] . أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عائشة] . عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. طريق أخرى لحديث (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام) وتراجم رجال إسنادها [قال أبو داود: قرأت على يزيد بن عبد ربه الجرجسي: حدثكم محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري بهذا الحديث بإسناده زاد: (والبتع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه) ] . أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه قوله: (والبتع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه) يعني: أن هذا تفسير للبتع الذي جاء في الحديث من الطريق الأولى، فإنه سأله عن البتع، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) . والنبيذ هو شيء ينتبذ في أوعية، ويحصل منه التخمر، ويمكن أن يوضع معه شيء، وإلا فالعسل يمكن أنه يبقى بدون أن يتخمر. قوله: [قرأت على يزيد بن عبد ربه الجرجسي] . يزيد بن عبد ربه الجرجسي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة. [حدثكم محمد بن حرب] . محمد بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن الزبيدي] . الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [عن الزهري بهذا الحديث بإسناده] . أي: بإسناده الذي فوق الزهري، وهو عن أبي سلمة عن عائشة. [قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا إله إلا الله ما كان أثبته! ما كان فيهم مثله. يعني: في أهل حمص. يعني: الجرجسي] . هذا نقل من أبي داود عن الإمام أحمد أنه كان يثني على الجرجسي شيخ أبي داود في هذا الحديث، وهو أنه ما كان في أهل حمص مثله، وهذه تزكية له وثناء عليه.
__________________
|
#720
|
||||
|
||||
![]() شرح حديث ديلم الحميري (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله! إنا بأرض باردة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد -يعني: ابن إسحاق - عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم) ] . أورد أبو داود حديث ديلم الحميري رضي الله عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسكر؟ فقال: نعم, قال: اجتنبوه، قال: إنهم غير تاركيه -يعني: إنهم قد اعتادوه وألفوه- فقال: إن لم يتركوه فقاتلوهم) . سأله صلى الله عليه وسلم عن الإسكار لأن الحكم يتعلق به، أما إذا كان لا يسكر فلا بأس؛ لأن المحذور هو كونه يسكر، فقال: (إنه يسكر) . فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوه) ، أي: مادام يسكر فإنه يجتنب؛ لأن الخمر يجب اجتنابها والابتعاد عنها. فقال: (إنهم غير تاركيه) يعني: أنهم قد ألفوه فقال عليه الصلاة والسلام: (إن لم يتركوه فقاتلوهم) يعني: إن امتنعوا وأصروا على أنهم يشربونه فإنهم يقاتلون حتى يتركوه يعني: إذا حصل منهم مقاتلة قوتلوا، لكن إن لم تحصل منهم مقاتلة فإنها تقام عليهم الحدود، فمن حصل منه الشرب أقيم عليه الحد. فإذا هم قاتلوا بمعنى أنهم وقفوا أمام الجهات المسئولة فإنهم يقاتلون، لكن إذا لم يحصل منهم قتال فإن الذي يحصل منه الشرب يحد. وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول ديلم: إنه يقويهم على أعمالهم، دليل على أن هذه الخمر فيها فائدة، والله تعالى يقول: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] . تراجم رجال إسناد حديث ديلم الحميري (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله! إنا بأرض باردة) قوله: [حدثنا هناد بن السري] . هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن [حدثنا عبدة] . عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن محمد يعني: ابن إسحاق] . محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [عن يزيد بن أبي حبيب] . يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن مرثد بن عبد الله اليزني] . مرثد بن عبد الله اليزني أبو الخير المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن ديلم الحميري] . ديلم الحميري رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أبو داود. شرح حديث أبي موسى (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال ذاك البتع) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن عاصم بن كليب عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال: ذاك البتع، قلت: وينتبذ من الشعير والذرة فقال: ذاك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام) ] . أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري أنه سأله عن شراب من العسل فقال: (ذاك البتع، وعن شراب من الشعير والذرة، فقال: ذاك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام) يعني: أن حكم هذه الأشربة التي ذكرتها يتعلق بالإسكار، فكل مسكر حرام من أي شيء كان. وهذا من جنس الحديث الأول الذي فيه السؤال عن البتع فقال: (كل مسكر حرام) ، وهنا سئل عليه الصلاة والسلام عن الشراب الذي يقال له البتع والشراب الذي يقال له المزر فقال: (كل مسكر حرام) ، فأعطى جواباًَ عاماً يدخل فيه المسئول عنه وغير المسئول عنه بياناً أن الحكم متعلق بالإسكار. تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال ذاك البتع) قوله: [حدثنا وهب بن بقية] . وهب بن بقية الواسطي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي. [عن خالد] . خالد بن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عاصم بن كليب] . عاصم بن كليب صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [عن أبي بردة عن أبي موسى] . أبو بردة بن أبي موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وأبو موسى هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال: كل مسكر حرام) . قال أبو داود: قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء: السكركة تعمل من الذرة، شراب يعمله الحبشة] . أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال: كل مسكر حرام) . يعني: بعدما ذكر بعض ما يدخل تحت اسم الخمر وغيرها قال: (كل مسكر حرام) أي: أن الحكم يتعلق بالإسكار، فمن أي نوع اتخذ المسكر فإنه يكون حراماً وليس التحريم على نوع دون نوع وإنما هو مقيد بالإسكار، فمهما وجد فما أسكر كثيره فإن قليله يكون حراماً. والميسر هو: القمار، والكوبة هي: الطبل، وذكر الطبل مع الخمر؛ لأنه يحصل مع السكر التلذذ بالقيان والمزامير والطرب وما إلى ذلك، فهناك شيء من التلازم بين أم الخبائث وبين آلات اللهو والطرب والكوبة. والغبيراء هو: نوع من النبيذ الذي يسكر وهو يتخذ من الذرة. وقوله: [قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء: السكركة تعمل من الذرة] . السكركة هي: شراب يتخذ من الذرة يستعمل في أرض الحبشة. تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر) قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل] . موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا حماد] . حماد بن سلمة بن دينار البصري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن. [عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة] . الوليد بن عبدة مولى عمرو بن العاص ثقة من الثانية، وقيل: هو عمرو بن الوليد مات سنة ثلاث ومائة، أخرج له أبو داود. [عن عبد الله بن عمرو] . عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. وقوله: [قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء: السكركة تعمل من الذرة شراب يعمله الحبشة] . هذا تفسير للغبيراء وأبو عبيد القاسم بن سلام له كتاب اسمه (غريب الحديث) فيمكن أن يكون هذا منه. حكم شرب السجائر فإن قيل: هل يدخل في حديث: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) شرب السجائر؟ ف الجواب أن الدخان محرم، وفيه ضرر، وفيه إضاعة للمال، وفيه إتلاف للنفس، وفيه إيذاء للناس، كل هذه أمور محرمة موجود فيه، لكن لا أعلم أنه يسكر. حكم استعمال المسكر للوضوء وغيره قوله: (كل مسكر حرام) ، كلمة (حرام) المقصود بها تحريم الشراب، أما الاستعمال كالوضوء وغيره؛ فالوضوء كما هو معلوم لا يكون إلا بالماء، ولا يكون بالخمر ولا بالعصير؛ لأنها خرجت عن كونها ماءً فلا يقال لها: ماء؛ لأن النبيذ تغير وصار لونه لوناً لون آخر غير لون الماء، وقد يكون خالطه جزئيات منه، فهذا وإن لم يسكر فإنه لا يجوز أن يتوضأ به؛ لأن الوضوء إنما يكون بالماء، وإذا تغير حاله إلى شيء آخر صار له اسم غير الماء فلا يقال له: هذا ماء وإنما يقال له: نبيذ، والتطهر إنما هو بالماء وليس بالنبيذ. شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن الحكم بن عتيبة عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) ] . أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر) ، والمسكر مر ذكره في الأحاديث، والمفتر هو: الذي يحصل منه الفتور والاسترخاء والخمول والكسل، فيصير الإنسان ليس عنده حركة ولا نشاط، بل خمول، هذا هو المُفتر. وقيل: إن هذا يكون وسيلة ومقدمة للإسكار. تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) قوله: [حدثنا سعيد بن منصور] . سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع] . أبو شهاب عبد ربه بن نافع صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي. [عن الحسن بن عمرو الفقيمي] . الحسن بن عمرو الفقيمي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة. [عن الحكم بن عتيبة] . الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن شهر بن حوشب] . شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن. [عن أم سلمة] . أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة. الحديث ضعفه الألباني من أجل شهر بن حوشب. حكم الأدوية المسكنة للأعصاب والمنومة الأدوية المسكنة للأعصاب والمنومة تعتبر من المفترات، ولكن إذا كانت تستعمل من أجل العلاج والدواء وليس من أجل شرب أو من أجل تخدير أو ما إلى ذلك فلا بأس بها. شرح حديث (وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا مهدي -يعني: ابن ميمون -حدثنا أبو عثمان قال موسى: وهو عمرو بن سالم الأنصاري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) ] . أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) والفرق هو: مكيال يتسع لشيء كثير. وقوله: (فملء الكف منه حرام) هذا كقوله: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهنا ذكر هذا المكيال الذي يدل على الكثرة فهو من جنس ما تقدم في قوله: (وما أسكر كثيره فقليله حرام) . تراجم رجال إسناد حديث (وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) قوله: [حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل] . مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. وموسى بن إسماعيل مر ذكره. [قالا: حدثنا مهدي يعني: ابن ميمون] . مهدي بن ميمون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا أبو عثمان قال موسى: وهو عمرو بن سالم الأنصاري] . عمرو بن سالم الأنصاري مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي. [عن القاسم] . القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [عن عائشة] . عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها. والأحاديث التي مرت شاهدة لهذا الحديث، فهو وإن كان فيه هذا المقبول إلا أنه متفق مع تلك الأحاديث التي فيها: (كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام) .
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |