كليم الله موسى عليه السلام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         سماحة النفس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          حدث في الرابع والعشرين من شعبان 1143 وفاة إمام الشام الفقيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          الأمانة أمانة... حتى في الأشياء الصغيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الأقدار الحزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 593 )           »          نظرات نفسية في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 534 )           »          مفارقات بين الخلق والخالق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 35 )           »          نحن والوقت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          صديقي رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          موسى عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 3145 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-06-2020, 10:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,275
الدولة : Egypt
افتراضي كليم الله موسى عليه السلام

كليم الله موسى عليه السلام (1)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


النشأة والنبوة والهجرة


الحمد لله رب العالمين؛ يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور، نحمده كما ينبغي له أن يحمد، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ذاته وصفاته، حكيم في أفعاله وقضائه، عدل في أحكامه وعقوباته، رحيم بعباده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى من بين البشر، وجعله إمام الرسل، وصرف الله تعالى عنه شتم قريش وأذاهم، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن كل عام يمضي إنما يمضي من أعماركم، وأن كل عام يأتي إنما يقربكم من قبوركم، فاعملوا في دنياكم لآخرتكم، وفي حياتكم لموتكم ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].

أيها الناس: يتفاضل البشر بعضهم على بعض بقدر صلاح قلوبهم، وزكاء أعمالهم، وقربهم من ربهم تبارك وتعالى، وإخلاص الدين له وحده عز وجل، وكل ما فيهم من الخير والهدى، والصلاح والتقى إنما هو محض فضل الله تعالى عليهم، فهو الذي هداهم واجتباهم.

وقد اختص سبحانه بعض البشر بمنازل ومقامات لا تكتسب، إن هي إلا محض اصطفاء منه سبحانه؛ كما اختص الأنبياء بالنبوة، والرسل بالرسالة، وفضل بعضهم على بعض، فأولو العزم من الرسل عليهم السلام أفضل من غيرهم، ومحمد عليه الصلاة والسلام أفضل أولي العزم.

والرسل عليهم السلام هم قدوة البشر، وهم هداية الخلق، وهم الواسطة إلى الله تعالى، ينزل عليهم كتبه، ويشرع لهم شرائعه، ويهديهم إلى صراطه المستقيم، والرسل عليهم السلام يبلغون عن الله تعالى رسالاته، ويهدون الناس لشريعته، فوجب على البشر تصديقهم والإيمان بهم، واتباعهم وطاعتهم، ومحبتهم في الله تعالى.

وما من رسول إلا أوذي في الله تعالى، وناله من عظيم الابتلاء ما ناله، وابتلي به قومه، فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر، والمؤمن له إيمانه، والكافر عليه كفره.


ومن أشهر الرسل ذكرا، ومن أكثرهم ابتلاء: كليم الله تعالى موسى بن عمران عليه السلام؛ فقد ابتلي بأشهر طاغية عبَّدَ الناس لنفسه من دون الله تعالى، وكان ابتلاء قوم موسى بهذا الطاغوت قبل ولادة موسى عليه السلام؛ إذ كان يقتل أبناءهم، ويستبقي نساءهم، بسبب ما علمه من أن زوال ملك الفراعنة سيكون على يد واحد ممن يستضعفهم من بني إسرائيل، فأمعن في قتل أبنائهم حتى كان جنده يحصون الحوامل من بني إسرائيل لقتل من يولد من الأبناء، واستبقاء من يولد من البنات، وعظم بذلك كرب بني إسرائيل، واشتدت محنتهم، وكم من أبوين بكيا ابنا أو أبناء لهما، لا لشيء إلا احتياطا لملك فرعون وجنده ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4] وقد وصف الله تعالى ما حاق ببني إسرائيل على يد فرعون بالبلاء العظيم، وجعل سبحانه وتعالى من منته عليهم أن نجاهم من ذلك ببعثة موسى عليه السلام ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49].


وكادت بنو إسرائيل أن تفنى وهم المسخرون في خدمة فرعون وجنده، فأمر فرعون بإبقاء أبناء بني إسرائيل سنة، وقتلهم سنة أخرى، وهذا يدل على طغيانه وعتوه، وإلا فهو يعلم أن الغلام الذي يهدد ملكه قد يولد في عام الاستبقاء، ويقدر الله عز وجل أن يولد هارون عليه السلام في سنة الاستبقاء، وحملت أمه بموسى عليه السلام في سنة القتل، فعظم به كربها، وازداد همها، وعزمت على إخفاء حملها، فاحتاطت حتى آن وضعه، فوضعته على غير علم من عيون فرعون وجنده، فألقى الله تعالى في روعها أن تخفيه في تابوت وتضعه في النيل، وكانت دارها على ساحله، فكانت ترضعه فإذا خافت أحدا وضعته في تابوته وأرسلته في الماء وحبل التابوت عندها تسحبه إذا أمنت، وترسله إذا خافت، فلما أراد الله تعالى أن يمضي قضاؤه، وأن ينفذ أمره، وأن يتربى موسى في بيت عدوه؛ نسيت أم موسى أن تربط طرف الحبل عندها، فمضى التابوت في الماء إلى حيث يريد الله تعالى ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] فكان هذا الحفظ والرعاية من الله تعالى لموسى عليه السلام من أعظم الآيات والمعجزات، وأكبر البشارات لأمه عليها السلام، ولا بشارة أكبر من ذلك إلا حين بشرت بأن ابنها سيكون من المرسلين.


وقد امتن الله تعالى على موسى عليه السلام بهذا الحفظ والرعاية لما خاطبه بالرسالة ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ﴾ [طه: 37، 39].

ومن عجيب تدبير الله تعالى أن رعايته سبحانه وحفظه وعنايته قد أحاطت بموسى عليه السلام من كل جانب؛ فأمه عليها السلام لما ألقته في النيل وفقدته اشتد خوفها عليه، وحزنت حزنا شديدا، وكادت أن تكشف سرها، وتظهر لعدوها أمر طفلها، ولكن الله تعالى ثبتها، وربط على قلبها، وهذا من عظيم رعاية الله تعالى لها ولولدها عليهما السلام ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10].

ثم إن من لطف الله تعالى وعظيم تدبيره في ذلك: أن ألقى المحبة على موسى عليه السلام وهو في المهد، فما يراه أحد إلا أحبه رغما عنه؛ ليقع مراد الله تعالى من حفظه ورعايته في بيت عدوه؛ ولذلك قال سبحانه لموسى عليه السلام في معرض منته عليه ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].

وكان من قدر الله تعالى: أن يظفر بطفل النيل أفراد من بيت فرعون فيأتون به إلى زوجه وكانت لا تنجب وهذا أيضا من تهيئة مكان لموسى في بيت فرعون، وفي قلب زوجته؛ ولربما لو كان لها ولد ما تعلقت به هذا التعلق. إنها رأته فأحبته فشفعت فيه لدى فرعون وخاطبته قائلة ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [القصص: 9] إنها تجادل عنه، وتشفع فيه، وتحاور فرعون لأجله، وهي وفرعون لا يعلمان إرادة الله تعالى في هذا الغلام، وأن هلاك فرعون سيكون على يديه، وأن ملك الفراعنة سيؤول إلى بني إسرائيل بسببه؛ ولذلك عقب الله تعالى على هذه المحاورة بقوله سبحانه ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأعراف: 95] أي لا يعلمون ما خبئ لهم في هذا الغلام الذي يتحاوران فيه.


وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة فرعون لما قالت له: قرة عين لي ولك، قال فرعون: يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي فيه، ولو أقرَّ فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله تعالى كما هداها ولكن حرمه)وقد انتفعت امرأة فرعون بمقولتها ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا ﴾ [يوسف: 21] إذ نفعها الله تعالى به، وهداها من الكفر إلى الإيمان على يديه، وضرب سبحانه المثل بإيمانها في القرآن ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].


وعلى هذا المعنى العظيم يعلق ابن كثير رحمه الله تعالى: بأن البلاء موكل بالمنطق، فينبغي للعبد أن لا ينطق إلا بخير، وما ضرَّ فرعون لو سكت ولم ينطق بالسوء، ولكنْ من كتب عليه الشقاء أصابته سهامه، ونالته أسبابه. وكم من أب يقال له: هذا ولدك ينفعك غدا في كبرك، فيقول: لا، أو لا أحتاج إلى نفعهم، فيجري الله تعالى حكمه فيهم على ما قال أبوهم.

وصدق الله تعالى وعده، ومكن لعبده، وأوفى لأم موسى ما وعدها من ردِّ وليدها عليها بعد أن ألقته في اليم، فجاع الرضيع ولم يلتقم ثديا، ولم يقبل طعاما، ولا وجدوا حيلة لإرضاعه، وإسكان جوعه، وإسكات صياحه، وكان من قلق أمه عليه أن أرسلت أخته تلتمس خبره، فرأته يدار به على النساء لعله يقبل إحداهن فيرضع منها، فأشارت عليهم ببيتها وأمها، فعاد الرضيع إلى حضن أمه، والتقم ثديها، وشبع من لبنها، ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 11 - 13] وقد امتن الله تعالى على موسى عليه السلام بهذه النعمة العظيمة لما كلمه سبحانه فقال له: ﴿ ذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [طه: 40].


عاش موسى عليه السلام في قصور فرعون يأكل أطيب الطعام، ويلبس أحسن اللباس، ويركب أفضل المراكب، ويتمتع بما يتمتع به أبناء الملوك، محفوظا بحفظ الله تعالى وعنايته ورعايته، وصدق سبحانه إذ خاطبه بقوله عز وجل: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].

حتى إذا بلغ الفتى مبلغ الرجال، واستحكم خلْقُه وخُلُقَه، وكمل أربعين سنة بعثه الله تعالى رسولا يوحى إليه من أنوار العلم والمعرفة والنبوة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [القصص: 14] وبذلك تمت موعدة الله تعالى لأم موسى عليهما السلام حين قال لها: ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].

ثم هيأ الله تعالى لموسى عليه السلام أسباب الهجرة من مصر إلى مدين بسبب قتله للقبطي الذي اعتدى على الإسرائيلي، وصار بسببه مطلوبا لدى فرعون وجنده ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [القصص: 15 - 19].

ولا يزال الله تعالى يحوطه برعايته وعنايته، ويحفظه من مكر عدوه وبطشه؛ إذ سخر له من يخبره بما عزم عليه قوم فرعون من قتله، فكان ذلك سبب هجرته ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 20، 21].

هاجر موسى عليه السلام خوفا من فرعون وبطشه، وليس معه طعام ولا متاع، وهكذا الرسل عليهم السلام تبتلى بالجوع والشدة، والفراق والهجرة، كما تبتلى بظلم الظالمين، وأذى المشركين، قال بن عباس رضي الله عنهما: (سار موسى عليه السلام من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة).


ولكنه عليه السلام كان قوي الإيمان، متوجها بقلبه إلى الله تعالى، متوكلا عليه، واثقا به، لا يتعلق بغيره، ولا يسأل سواه، فهيأ الله تعالى له أسباب الرعاية والكفاية في البلد التي قدم عليها، وسخر له عباده الصالحين، في قصة الفتاتين اللتين تسقيان ذودهما فأعانهما، فكان ذلك سبب عمله عند ذلك الرجل الصالح، وزواجه من ابنته، وهكذا الرسل عليهم السلام يكدون ويكدحون، ويغتربون ويستأجرون؛ لسد حاجاتهم الضرورية، وما من نبي إلا رعى الغنم؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) رواه البخاري.

فبَذْلُ الأسباب، وكسب العيش، والتعفف عما في أيدي الناس من شيم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وكليم الله موسى عليه السلام أجَّر نفسه لخدمة الرجل الصالح، ورعي غنمه عقدا كاملا من عمره؛ ليتزوج الصالحة ابنة الصالح فيعف نفسه ويحصن فرجه، وكان ما وقع له من التيسير في ذلك ببركة دعائه الصالح، وتوجه قلبه إلى الله تعالى لما خرج مهاجرا من بطش فرعون وجنده ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 22 - 28].


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....


الخطبة الثانية


الحمد لله؛ نحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونشكره شكرا مزيدا على ألآئه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 52].



أيها الناس: لما أكمل موسى عليه السلام أجله، وأدى الخدمة لوالد زوجه، فارقهم عائدا إلى مصر، وكلمه الله تعالى في الوادي المقدس طوى، وكلفه سبحانه بتبليغ فرعون وقومه رسالاته، ودعوتهم إلى عبادته وحده لا شريك له، فجرى لموسى عليه السلام مع فرعون ما جرى من التكذيب والأذى، والمخاصمة والمناظرة؛ مما بسط خبره في سور الأعراف ويونس وطه والشعراء والقصص، فلما خصمهم موسى عليه السلام بالحجة والبيان، وأثبت صدقه بالمعجزة والبرهان، ما كانت حيلة العاجزين عن إثبات كفرهم وعلوهم إلا بالبطش والظلم والقوة، وسعوا جادين في قتل موسى والمؤمنين؛ ليستمروا في تعبيد الناس لهم من دون الله تعالى؛ ولكن الله تعالى غالب على أمره، ونافذ في الخلق حكمه، فأنجى سبحانه وتعالى موسى ومن معه، وأغرق فرعون وجنده، وجعل ذلك آية لخلقه، وعبرة في مصير الظالمين، يتذكرها البشر عبر الأجيال، وينتفع بها قراء القرآن كلما رتلوا وقائع هذه القصة العظيمة، ووقع أمر الله تعالى الذي أخبر به حين قال ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ [القصص: 8] فهم التقطوه بأيديهم، وربوه في قصورهم، وكان تحت أعينهم، ولم يعلموا أنه عدوهم، وهذا أبلغ في النكاية بهم، وأشد حسرة عليهم؛ لأنهم اختاروا أخذ ما يكون هلاكهم على يديه، بخلاف ما لو كان هلاكهم على يد غيره، فسبحان اللطيف الخبير، العليم الحكيم، الذي أتى فرعون وجنده من حيث لم يحتسبوا، وبأيدهم هم، لا بغيرهم ﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 6].


وهذه السنة الربانية العظيمة التي وقعت لموسى مع فرعون تتكرر في البشر؛ فكم من سلطان خسر سلطانه على يد ألصق الناس به، وأشدهم إحسانا إليه، فكان هلاكه وزوال ملكه على أيديهم سواء كان ذلك بحق أم بباطل، ولكن تدبير الله تعالى في ذلك لطيف عجيب؛ إذ يؤتى الحذر من مأمنه، ولا ينفع الاحتياط والتوقي لرد أمر الله تعالى وقدره، وهذا يوجب علينا أن لا نفر من الله تعالى إلا إليه، ولا نحذر منه إلا به، ولا نتقي قدره إلا بطاعته ودعائه؛ فإن الدعاء يرد القدر، وينفع فيما نزل وما لم ينزل، فعلقوا بالله تعالى قلوبكم، وفروا منه إليه. ولو كان الحذر رادَّا للقدر، ونافعا لأحد؛ لنفع فرعون الذي قتل ولدان بني إسرائيل حذرا من هلاكه وزوال مملكته، ولله الأمر من قبل ومن بعد.



أيها الإخوة: ولعظيم ما بين الأنبياء والرسل عليهم السلام من الأخوة والمحبة في الله تعالى: شرع نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم صيام اليوم الذي نُجِّي فيه موسى والمؤمنين معه، وأُهلك فرعون وجنده؛ شكرا لله تعالى على ذلك، وفرحا بنجاة المؤمنين، وهلاك المكذبين، روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال عليه الصلاة والسلام: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه) متفق عليه. وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه مسلم.



ولما أكمل الله تعالى دينه، واستقرت شريعة الإسلام قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة أهل الكتاب، وقد كان قبل ذلك يحب موافقتهم لما معهم من الكتاب، فأمر عليه الصلاة والسلام بمخالفتهم في صوم يوم عاشوراء، وذلك بصيام يوم قبله أو بعده، ولما قال له أصحابه رضي الله عنهم عن يوم عاشوراء: (إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.



ألا فاتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - واحرصوا على صيام هذا اليوم العظيم، وخالفوا أهل الكتاب فيه بصيام يوم قبله أو بعده، وقد كان الزهري رحمه الله تعالى يصوم يوم عاشوراء في السفر، وكان يأمر بفطر رمضان في السفر، فقيل له في ذلك، فقال: (رمضان له عدة من أيام أخر وعاشوراء يفوت).


وصلوا وسلموا على نبيكم......


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-06-2020, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,275
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كليم الله موسى عليه السلام

كليم الله موسى عليه السلام (2)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


التكليم والرسالة

الحمد لله الحفيظ العليم، أحاط علمُه بعباده، وأسبغ نعمَه على أوليائه، فاستخلفهم بعد الاستضعاف، ومكَّن لهم بعد الابتلاء؛ {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6]، نحمده حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونشكره شكرًا يزيد فضله وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر أولياءه، وكبت أعداءه؛ {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله - تعالى - بدين الحق ليُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى؛ {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أصلح هذه الأمة قلوبًا، وأزكاهم أعمالاً، وأكثرهم إخلاصًا، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، اتقوا مَن خلَقَكم ورزقكم، ويحييكم ويميتكم، وإليه مرجعكم وعليه حسابكم؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

أيها الناس:
قصص الأنبياء - عليهم السلام - وما جرى لهم مع أقوامهم فيها تنبيهٌ للغافلين، وعِبَرٌ للمعتبرين، وقدوةٌ صالحة للمؤمنين؛ فهم رسل الله - تعالى - إلى الناس، وهم الهادون الناصحون لهم، الحريصون المشفقون عليهم؛ ولذا قص الله - تعالى - أخبارهم في القرآن، وكرَّر ذلك وأعاد، وأمَرَنا بالتزام هديهم، والتأسي بهم؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، وفي آية أخرى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

وكليم الله - تعالى - موسى بنُ عمران - عليه السلام - هو أكثر رسل الله - تعالى - ذِكرًا في القرآن، وقصصُه هي أشهر القصص، وما ذُكرتْ قصةُ أحد في القرآن كما ذكرتْ قصتُه في ولادته ونشأته، وابتلائه وهجرته، ونبوءته ورسالته، ومناظراته مع فرعون، ومعالجته لبني إسرائيل، وغير ذلك مما هو مبسوط في القرآن.

لقد جعل الله - تعالى - خلاصَ بني إسرائيل على يد هذا الغلام منهم، فنجَّاهم - سبحانه - به من ظلم فرعون وجبروته، ومكَّن لهم في الأرض، وأظهر قدرته - عز وجل - في أن يعيش هذا الغلام في بيت فرعون، ويتربَّى أمام عينيه، وقدَّر هلاكه وزوال مملكته على يديه، فسبحان من خَلَقَ كل شيء فقدَّره تقديرًا!

ولما بلغ الفتى مبلغَ الرجالِ، آتاه الله - تعالى - حُكمًا وعلمًا، وائتمر به ملأُ فرعون ليقتلوه؛ لأنه قتل أحدَ الظَّلَمة منهم، فنجَّاه الله - تعالى - من كيدهم بالهجرة إلى مَدْيَنَ، والعمل في رعي الغنم عند الرجل الصالح عشر سنوات ليزوجه ابنته، فأتمَّ موسى عملَه، وقضى أجلَه، واشتاق إلى أهله.

وما أصيب موسى - عليه السلام - بهذه الابتلاءات، ونالتْه المشقة، وتحمل أعباء المطاردة والغربة والهجرة والعمل إلا إعدادًا من الله - تعالى - ليكون رسولاً إلى أعتى الطغاة، وأقوى الجبابرة المستكبرين، وصدق الله العظيم حين خاطبه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وفي الآية الأخرى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41].

لقد أعدَّه الله - تعالى - للرسالة برعيِ الغنم، وطولِ السفر، وشدةِ الغربة، وقوةِ الساعد، وصفاءِ النفس، ومعرفتِه لعدوِّه.

والنبوة لها أثقالٌ ومؤونة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهلُ القوة والعزم من الرسل - بعون الله تعالى وتوفيقه - لما يلقون من الناس، وما يُرَدُّ عليهم مما جاؤوا به عن الله - عز وجل.

وأضحى موسى - عليه السلام - بهذه التربية والشدةِ مؤهلاً للرسالة وأعبائها وأثقالها، قادرًا على مواجهة أقوى الظلمة، وأعتى الجبابرة، فكانت النبوةُ والرسالة، وكان الاصطفاءُ والتكليم.

عاد موسى - عليه السلام - بعد هذه الهجرة الطويلة من مدين بزوجه، متوجهًا إلى مصر حيث أمُّه وإخوانه، وأثناء طريقه، وفي ليلةٍ مباركة، كالحةِ الظلمة، شديدةِ البرد، أبصر نارًا تأجج في جانب الطور، فذهب يلتمس لأهله نارًا، فما كانت نارًا، ولكنْ كان نورًا من الله - تعالى - نال به موسى - عليه السلام - أعظمَ كرامةٍ، وحظي بأعلى منزلة؛ إذ كلَّمه الله - تعالى - مباشرة بلا واسطة، فحمَّله رسالته، وأمره بأمانته، فما أعظمَه من تشريف، وما أثقلَه من تكليف! {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [القصص: 29، 30].

شرَّفه الله - تعالى - بكلماته، واصطفاه برسالاته، ورفع قدْره، وأعلى شأنه، وأخبره في هذا المقام العظيم بأنه - عز وجل – ربُّه؛ فقال - سبحانه -: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [القصص: 30]، وهذا يدلُّ على أن العبودية لله - تعالى - هي أشرف المقامات، وأعلى الوظائف؛ ولذا تُذكر في أجلِّ المواضع وأعلاها.

وفي موضعٍ آخرَ عظيمٍ مبارك من القرآن: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 11 - 16].

وفي موضع ثالث من القرآن العظيم: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [النمل: 9].

ثم أيده الله - تعالى - بالمعجزات، وأجرى على يديه الآيات؛ ليكون أثبتَ لكلامه، وأقوى لحُجَّته، وأدْعى لتصديقه، ومن قدرةِ الله - تعالى - أنْ جعل هذه المعجزاتِ مما مع موسى - عليه السلام - لا من غير ذلك؛ ليعلم أن الله - تعالى - يحيلها عن عادتها التي عرفها موسى إلى ما يريد الله - تعالى - وذلك أبينُ في القدرة، وأقوى في البرهان والحجة؛ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 17 - 21].

وفي آية النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ} [النمل: 10]، وفي القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص: 31].

فهذه هي المعجزة الأولى لموسى - عليه السلام - ومن قَدَرِ الله - تعالى - أنه سيكون لها شأن عظيم في مقارعة سحرة فرعون، وستقضي على سِحرهم، وتكون سببًا في إيمانهم، فما أجلَّها من معجزة! وما أعظمها من آية! ومن يقلب عصًا لا حراك فيها إلى حيَّةٍ حقيقية لا تخييل فيها ولا خداع، إلا من يَخلُق من العدم، ويحيي الأموات، ويميت الأحياء؛ {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

وأما المعجزة الثانية، فنورٌ آتاه الله - تعالى - موسى في يده من غير بأس ولا مرض، يظهره لمن شاء، متى شاء؛ {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى} [طه: 23]، وفي آية النمل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12]، وفي القصص: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32].

إنها آياتٌ كبرى لا يكذِّب بها إلا معاندٌ، ولا يردُّها إلا مستكبرٌ، ومع ذلك فإن موسى - عليه السلام - خاف أن يكذِّبه فرعونُ وقومُه، وطلب من الله - تعالى - أن يبعث أخاه هارونَ معه، وشفع له عنده، فقَبِل الله - تعالى - شفاعة الكليم، وبعث معه أخاه هارون رسولاً؛ {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ} [القصص: 35]، وفي آيات أخرى قال موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 29 - 36].

وتلك هي أعظم شفاعة عرفها البشر في الدنيا وأنفعها، حين شفع موسى لأخيه هارون بالرسالة، فقبل الله - تعالى - شفاعتَه فيه، وبعثه رسولاً معه، وفي هذا يقول بعض السلف: ليس أحد أعظم منَّةً على أخيه من موسى على هارون - عليهما السلام - فإنه شَفَعَ فيه حتى جعله نبيًّا ورسولاً معه إلى فرعون وملئه.

ولو لم يكن هارون أهلاً للشفاعة، لما شفع فيه موسى - عليهما السلام.

وهذا يدل أيضًا على علوِّ منزلة موسى عند الله - تعالى - وأنه ذو وجاهة؛ إذ قَبِلَ - سبحانه - شفاعته، وقد قال الله - تعالى - في موسى - عليه السلام -: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

وبلَّغ موسى وهارون - عليهما السلام - رسالات ربِّهما، وكذَّب فرعونُ وقومه رسوليهم؛ فأهلكهم الله - تعالى - وأنجى موسى ومن معه؛ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا يليق بجلال ربِّنا وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أيها المسلمون:
في هذا الجزء المبارك من قصة موسى - عليه السلام - عِبَرٌ ودروس، ينبغي لمن قرأ القصةَ في كتاب الله - تعالى - أن يتدبَّرَها وينتفع بها.

فقد دلَّتْ هذه القصةُ العظيمة على أن أعظم الأعمال القلبية وأزكاها عند الله - تعالى - توحيدُه - سبحانه - وإخلاصُ الدين له، كما دلَّتْ على أن الصلاة أعظمُ العبادات العمليَّة، فمَن صحَّ توحيدُه قُبِلَ عملُه، ومن قُبل عملُه نجا، وهكذا الصلاة؛ إذ هي أول ما يُحاسَب عليه العبدُ من عمله، فإن قُبلتْ فقد أفلح وأنجح، وإن رُدَّتْ رُدَّ عليه سائرُ عمله، ولما كلم الله - تعالى - موسى - عليه السلام - أمره بالتوحيد والصلاة؛ لعظيم منزلتهما، وفخامةِ شأنهما عنده - عز وجل -: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وفي شريعة محمد - عليه الصلاة والسلام - كانت شهادةُ التوحيد أولَ أركان الإسلام، وكانت الصلاةُ ثانيها.

وتضمن كلامُ الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - التذكيرَ بالساعة للحساب والجزاء، وبيان أن أهل الأهواء من الكفار والمنافقين يصدُّون الناس عن التصديق بها، أو العمل لها، وما أكثر ما يفعلون ذلك في هذا العصر! وواجبٌ على أهل الإيمان ألاَّ يطيعوهم في ذلك، وإلا هلكوا؛ ذلك أن أهل الأهواء من الكفار والمنافقين يوردون الناسَ المهالكَ؛ {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16].

ومن يدْعو إلى الحق يجب عليه أن يسعى في إكمال ما لديه من نقصٍ في العلم، أو الحُجة، أو البيان، أو غير ذلك؛ ليكون أدعى لقَبول الحقِّ منه، ولئلا يتعلَّق أهلُ الباطل في صدِّ الناس عن الحق بما فيه من نقص، وعليه أن يتعلق بجناب الله - تعالى - في إكمال نقصه، ويسأله الإعانة والسداد.

ولما كان في لسان موسى - عليه السلام - احتباس يَحُول بينه وبين فصيح الكلام؛ سعى في إكمال هذا النقص الذي فيه بأنْ طلب من ربِّه - عز وجل - أن يرسل أخاه معه؛ ليعينه على إظهار الحق وبيانه، فقال - عليه السلام -: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34]، وفي آيات أخرى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء: 12، 13].

وسأل الله - تعالى - أن يشرح صدره، ويعينه على مهمته، وأن يطلق بعض عُقَد لسانه؛ ليفهموا مقاله، فقال - عليه السلام -: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 - 28].

قال العلماء: ما سأل موسى - عليه السلام - أن يزول ذلك بالكلية؛ بل بحيث يزول العي، ويحصل فهمُ ما يلقي عليهم، ولو سأل الجميعَ لزال، ولكن الأنبياء - عليهم السلام - لا يسألون إلا بحسب الحاجة.

ومن عادة أهل الباطل أنهم يتعلَّقون بأي نقص في داعية الحق؛ ليلمزوه به، وينفِّروا الناس منه، ويصرِفوهم عن دعوته، وقد كان فرعون يُعَيِّر موسى - عليه السلام - بهذا النقص في لسانه فيقول للناس: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزُّخرف: 52].

وداعية الحق قد يُبتلى بطاغية من الطواغيت عبَّد الناس له من دون الله - تعالى - وقد يخاف من بطشه وجبروته الخوفَ الطبيعي الذي هو من جبلَّة الإنسان وعادته، فعليه حينئذٍ أن يستعين بالله - تعالى - في دعوته، والنصرة عليه، وإظهار الحقِّ له، ومن أخلَصَ في ذلك أعانه الله - تعالى - كما أعان موسى - عليه السلام - على فرعون وسطوته وجبروته، وأوصاه بما يذهب خوفه، فقال - سبحانه -: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32]؛ أي: اجعل يدك على فؤادك يسكنْ خوفُك، ويذهبْ رهبُك.

وكل هذه الدعوات والأعمال من موسى - عليه السلام - دليلٌ على أن الأنبياء - عليهم السلام - يأخذون بأسباب النصر، وإزالة الخوف، وقوة القلب، وتبليغ الحق، مع أنهم مؤيدون من الله - تعالى - فهذه سنَّتهم التي ينبغي لدعاة الحق أن يلتزموها.

وفي شفاعة موسى لأخيه هارون - عليهما السلام - مشروعيةُ الشفاعة، وإيصال النفع للقرابة، وأن ذلك من البرِّ والصلة، ما لم يكن في الشفاعة إضرار بأحد، أو إعطاء من لا يستحق وحرمان من يستحق، كما هو السائد في أكثر شفاعات الناس في هذا العصر.

أيها الإخوة:
وفي هذه القصة العظيمة ما هو أكثر من هذه الدروس والفوائد، يجدها من قرأ كتاب الله - تعالى - بحضور قلب وتدبُّر، واستعان ببعض كتب التفسير، فلا تحرموا أنفسكم هذا الخير العظيم؛ فإن أشرف العلوم وأجلَّها العلمُ بكتاب الله - تعالى - وبأحوال ما قصَّ علينا فيه من أخبار رسله - عليهم السلام - فخُذوا حظَّكم من ذلك، ولا يشغلكم عنه شاغل.
وصلوا وسلموا...



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-06-2020, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,275
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كليم الله موسى عليه السلام

كليم الله موسى عليه السلام (3)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




دعوة فرعون ومجادلته


الحمد لله رب العالمين؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأقام حجته على الخلق أجمعين، نحمده على عظيم منِّه، وواسع رحمته وفضله، ونشكره على جزيل هباته وعطاياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخير بيديه، والشر ليس إليه، المَهْدِّيُ من هداه، نحنُ عبيده بين يديه، وبه وإليه، لا ملجأ لنا ولا منجى منه إلا إليه {فَفِرُّوا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ هدانا به ربُنا عز وجل وزكانا وعلمنا ما لم نكن نعلم {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعتبروا بما مضى من آجالكم، واعمروا ما بقي منها بطاعة الله تعالى؛ فإن الأيام تمضي، والأكفان تنسج، وكل عام جديد تفرحون به فإنه من نقص أعماركم، ومسرع بكم إلى قبوركم، وإن الموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فأعدوا للموت وما بعده العدة، فلسوف تُسألون وتحاسبون، وبأعمالكم تجزون {وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9].


أيها الناس: قصة موسى عليه السلام هي أعظم قصص الأنبياء المذكورين في القرآن، وهي أكبر من غيرها، وتبسط أكثر من سواها، وفيها من الفوائد علم غزير، ومن الدروس شيء كثير، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة نهاره يحدثنا عن بني إسرائيل.

إنها قصة عظيمة غلب فيها صاحب الحق بحقه وحجته وبرهانه أهل الباطل بجندهم وقوتهم وكثرتهم.

والدعوة إلى الله تعالى لها رجالها، ومواجهة الطغاة المستبدين الذين يُعَبِّدون البشر لأنفسهم من دون الله تعالى لها ميادينها وأساليبها، ولا يتقنها ويقوى عليها إلا أفذاذ الرجال، ممن سلمت قلوبهم من التعلق بغير الله تعالى، وأخلصوا دينهم له عز وجل.


وهكذا كان كليم الرحمن موسى بن عمران عليه السلام؛ فلقد اصطفاه الله تعالى مخلصا لبني إسرائيل من ظلم الفراعنة، واصطنعه عز وجل لنفسه، وصنعه سبحانه على عينه، وقدَّر تبارك وتعالى أن ينشأ موسى في بيت فرعون، فلما شبَّ واستوى آتاه الله تعالى حكما وعلما، وابتلاه بالهجرة من مصر إلى مدين، وعمل فيها أجيرا عند الرجل الصالح عقدا من الزمن، فعاد بأهله من مدين إلى مصر بعد طول الغربة، وفي الوادي المقدس طوى، أكرمه الله عز وجل برسالاته، واختصه بكلامه، وكلَّفه بأعظم مهمة يكلف بها بشر، وهي بلاغ الدين، وردع الطغاة المستبدين، وأشرك الله تعالى في هذا الأمر العظيم مع موسى أخاه هارون عليهما السلام؛ ليشد من أزره، ويكون أمضى لعزمه، وأقوى لقلبه {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ} [القصص:35].


إن أعسر شيء على النفوس البشرية دعوةُ الجبابرة المستكبرين، ومواجهة الطغاة المستبدين؛ لإحقاق الحق، ورفع الظلم؛ ذلك أن الطغاة من البشر لا يخافون الله تعالى في الناس، ولا يردعهم عن الظلم والبطش شفقة ولا رحمة، وقد أحيطوا بجيوش من العسكر ترهب الناس منهم، وجيوش أخرى من المرتزقة تطبل لهم، وتزين في أعينهم سوء عملهم، وتحرضهم على من يعترض على ظلمهم، أو يناصحهم فيه؛ فمن يواجههم وهذه حالهم؟! ولذا كان قول الحق عند سلطان جائر أعظم أنواع الجهاد.


وموسى وهارون عليهما السلام قد أُرسلا إلى فرعون، وفرعون هو فرعون ظلما وبطشا وقهرا للعباد، وتعبيدهم لذاته الحقيرة من دون الله تعالى، وما زال البشر بعد فرعون يضربون به المثل في الظلم والبغي والاستنكاف عن قبول الحق، فيقولون فيمن كان جبارا عنيدا ظالما: هذا فرعون.


قال الله تعالى لموسى عليه السلام {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].


ومن القول اللين الذي أمر الله تعالى به موسى عليه السلام ما جاء في قوله سبحانه {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النَّازعات:18-19].


تأملوا يا عباد الله حلم الله تعالى ورحمته بعباده، وصبره عز وجل على آذاهم، يأمر موسى وهارون عليهما السلام أن يخاطبا فرعون بالرفق واللين، لعل قلبه يلين بالتذكرة والموعظة، وفرعونُ هو من نازع الله تعالى في ربوبيته، ومنع الناس من عبوديته!! وما حاجةُ الله تعالى إلى فرعون، وإلى مئة فرعون مثله؟! وإلى البشر كلهم، وإلى الخلق أجمعين حتى يتلطفهم، ويتودد إليهم، ويأمر بلين الخطاب معهم؟!


لا يحتاج الله تعالى إلى أحد منهم، ولا يرجو سبحانه منهم نفعا ولا يخشى عز وجل ضرا، ولكنها رحمته التي سبقت غضبه، وحلمه على الظالمين من عباده، وصبره على أذى المخلوقين؛ فالحمد له سبحانه إذ كان لنا ربا مليكا مدبرا، وكنا له خلقا عبيدا؛ فإنه كان صبورا حليما عفوا رحيما، قال يزيد الرقاشي عند قوله تعالى {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟!


لقد كان موسى وهارون عليهما السلام يعلمان قسوة فرعون، وشدة بطشه؛ ولذا لما أمرهما الله تعالى بالذهاب لدعوته {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فأمنَّهما من الخوف والفزع مَنْ يملك الأمن والخوف، ومَنْ له جنود السموات والأرض، ومَنْ يملك نواصيَ فرعون وجنده والخلق أجمعين، فكفى به سبحانه حافظا، وكفى به عز وجل وليًا ونصيرا {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وبلَّغهما سبحانه وتعالى ما يقولان لفرعون إذا مَثَلا أمامه، وبماذا يخاطبانه {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:46-48].


فقام موسى وهارون عليهما السلام بأمر الله سبحانه خير قيام، وبلغا فرعون رسالة ربهما عز وجل، ويا لها من مهمة أدياها، ورسالة بلغاها، يعجز عن حملها وأدائها أكثر البشر!!


فكان جواب فرعون لهما جوابَ المستعلم الذي يريد معرفة ما وراءهما، وإلى أي مدى سيصلان في دعوتهما، وجرت بينهما محاورة ظهرت فيها قوة موسى عليه السلام أمام الطاغية، ورباطة جأشه، وبيان حجته، ووضوح دعوته بلا خوف ولا وجل، ولا تنازلات عن شيء من دين الله تعالى.

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:49-55].

وبهذه المحاورة العظيمة ألزم موسى عليه السلام فرعون بالحجة والبرهان، وظهرت حجةُ النبي، وبطلت حجة الطاغوت، فما ثَمَّ إلا الإيمان والانقياد، أو الاستكبار والعناد، واللجوء إلى أساليب العاجزين عن مقارعة الحجة بالحجة، وهو أسلوب كل طاغية لا يستطيع أن يُثبت باطله أمام الحق وأهله فيلجأ إلى التهديد والوعيد بالعذاب والنكال.


وهكذا قابل فرعون حجج موسى عليه السلام القاطعة، وبراهينه الساطعة بالتكذيب والوعيد {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:56-58].


ولكن أمر الله تعالى نافذ، وقدره غالب، ومشيئته فوق مشيئة خلقه؛ إذ سعى فرعون في جلب السحرة ومبارزتهم لموسى عليه السلام أمام الناس..سعى بذلك إلى فضح أمره، وإظهار تهافت حجته، وقوة الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، فكان سحرة فرعون هم أولَ المؤمنين بالحق لما استبان لهم، وفي ذلك من هزيمة فرعون والنكاية به ما لا يوصف، فعذبهم ونكَّل بهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلَّبهم في جذوع النخل، وما ردهم ذلك عن إيمانهم شيئا. فما أقوى إيمانهم! وما أصبرهم على ما نالهم من العذاب والنكال في ذات الله تعالى!! رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. وسبحان من هداهم إلى الحق في لمح البصر، ثم ثبتهم عليه إلى أن لقوا الله تعالى. قال ابن عباس رضي الله عنهما:كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة. {ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] بارك الله لي ولكم في القرآن...



الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، وافتتحوا عامكم الجديد بخير أعمالكم، فإن الله تعالى مطلع على سركم وعلانيتكم، ومن افتتح عامه بالعمل الصالح فحري أن يمضي فيه، وأول العام شهر الله المحرم، وهو أول الأشهر الحرم؛ فإن الله عز وجل جعل فاتحة السنة بشهرٍ محرم، ووسطها بشهر رجبٍ وهو محرم، وخاتمتها بذي الحجة وهو محرم.


ففضيلة هذا الشهر العظيم أنه من الأشهر الحرم المنصوص عليها في القرآن الكريم في قول الله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].


فقد نهانا ربنا عز وجل أن نظلم أنفسنا في هذه الأشهر الحرم التي منها هذا الشهر، وإنْ كان ظلم النفس حراما في كل الأشهر؛ فإن هذا التحريم يتأكد في الأشهر الحرم، وظلم النفس يكون بالتقصير في الطاعات المأمور بها، وبانتهاك المحرمات المنهي عنها.


وجاء في حديث أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الزَّمَانَ قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا منها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمَادَى وَشَعْبَانَ) رواه الشيخان.


كما أن لشهر محرم فضيلةً أخرى، وهي فضل صيام النافلة فيه على ما سواه من الأشهر؛ روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ الله الْمُحَرَّمُ ...) رواه مسلم.


وقد أضيف هذا الشهر العظيم في الحديث إلى الله تعالى(شهر الله المحرم) ومعلوم أن الصوم مختص بإضافته إلى الله تعالى من بين سائر الأعمال الصالحة؛ كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: الصَّوْمُ لي وأنا أَجْزِي بِهِ) متفق عليه. فناسب أن يتطوع العباد لله تعالى بالعمل المضاف إليه سبحانه وهو الصيام في الشهر المضاف إليه عز وجل وهو المحرم.


وجاء في حديث آخر أن الصيام ضياء، فمن افتتح عامه الجديد بالضياء فهو حري أن يسير به في عامه كله؛ لذا كان لصيام التطوع في محرم مزية على ما سواه من الشهور.


فمن لم يطق صيامه كله، فليصم منه ما يقدر عليه، ولا يفرطنَّ في التاسع والعاشر منه؛ لما في صيام العاشر من الفضل، فهو مكفر لسنة كاملة، ولما في صيام التاسع من مخالفة أهل الكتاب، وقد أمرنا بمخالفتهم.


ففي مشروعية صيام العاشر منه حديثُ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: (قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يوم عَاشُورَاءَ فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى الله بَنِي إِسْرَائِيلَ من عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قال: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) متفق عليه.


وفي فضله حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ على الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ) رواه مسلم.


وفي فضيلة صيام التاسع معه حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلملَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) رواه مسلم.


فلا تحرموا أنفسكم هذا الأجر العظيم في فاتحة هذا العام الجديد، واستقبلوه بخير أعمالكم، ولا تظلموا فيه أنفسكم؛ فإن الواحد منا لا يدري متى يباغته أجله، والسعيد من ختم عمره بصالح عمله، والشقي من لقي الله تعالى معرضا عن طاعته، منتهكا لحرماته {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [آل عمران:30].


وصلوا وسلموا على نبيكم....




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-06-2020, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,275
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كليم الله موسى عليه السلام

كليم الله موسى عليه السلام (4)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



دعوة فرعون ومجادلته (ب)

الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوَّى، وقدَّر فهدَى، واختار من عباده واصطفى، فأرسلهم للناس دُعاةَ حقٍّ وهدًى، نحمده على خلقه ورعايته، ونشكره على هدايته وكفايته، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، أقام حُجَّته على خَلْقه أجمعين، فأرسل رُسلَه مبشِّرين ومنذِرين، فمَن تبعهم فلنفسه، ومن ضلَّ فإنَّما يضل عليها؛ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].

وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسولُه؛ لقيه موسى - عليه السلام - في معراجه إلى السماء، فأشارَ عليه أن يسأل ربَّه التخفيفَ عن أمَّته، فخفَّف الله - تعالى - عنها بسؤاله، ومشورةِ موسى - عليه السلام - وهكذا الرُّسل - عليهم السلام - هم أنصحُ الناس للناس، وأتقاهم لله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.

أما بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعتبروا بما مَضَى من أعماركم، وتزوَّدوا فيما بقي من أيَّامكم، واعمُروا آخِرتَكم أكثرَ ممَّا تعمرون دنياكم؛ فإنَّ الدنيا دار عمل وفناء، وإن الآخرة هي دارُ القرار؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ} [فاطر: 5].

أيها الناس:
سِيَرُ الأنبياء والمرسَلين - عليهم السلام - هي خيرُ سِيَر تنفع الناس، وأخبارُهم مع أقوامِهم مليئة بالعِبر والعظات، وقد أخبر الله - تعالى - أنَّ قصص القرآن هي أحسنُ القصص في قوله - سبحانه -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآَنَ} [يوسف: 3]، وغالب قصص القرآن هي قصص الأنبياء - عليهم السلام.

وقصة موسى بن عمران - عليه السلام - هي أكثرُ القصص ورودًا في القرآن، وأعجبُها أحداثًا ومواقف، وأبلغها عبرًا ومواعظ، وهي تُجسِّد واقعَ البشر، وانقسامهم إلى فريقين، وتُبرِز حقيقةَ الصِّراع بين الحق والباطل، والمداولة بين المصلِحين والمفسدين؛ إذ ابتلى الله - عزَّ وجلَّ - موسى - عليه السلام - بمواجهة أعْتَى طاغيةٍ بشريٍّ، أراد تعبيدَ الناس لذَاتِه من دون الله - تعالى - وهو فرعون، فوقعتْ في مجلس فرعون مناظرةٌ عظيمة، سدَّد الله - تعالى - فيها موسى، ولقَّنه الحُجَّة، ودحر فرعون؛ {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 10 - 17].

فامتثلَ موسى - عليه السلام - أمْرَ ربِّه - عزَّ وجل - ومَثَلَ مع أخيه أمام الطاغية وأعوانه؛ ليصدعَ بالحقِّ أمامَه، ويُثبتَ له أنَّه عبدٌ مخلوق، وأنَّ له ربًّا خالقًا، لكنَّ فرعون بدأ بتَعْداد مِننه على موسى - عليه السلام - وهو الذي استعبدَ قومَه، وأذلَّ عشيرتَه، وسلبَهم حقوقَهم، وأمعن في قهرهم وظلمهم؛ {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكَافِرِينَ} [الشعراء: 18 - 19].

لقدْ أراد فرعونُ أن يُذكِّر موسى - عليه السلام - بمنَّته عليه لَمَّا استثناه من القتل وليدًا، وربَّاه في منزله، وهذه عادةُ الطُّغاة يسلبون الناس حقوقَهم، فإنْ أعطَوْا أحدًا منهم بعضَ حقوقه أظهروا المنَّةَ عليه بذلك، كما أراد فرعون أن ينقل موسى - عليه السلام - مما جاء لأجلِه - وهو دعوة التوحيد - إلى الجِدال عن نفسِه؛ كي يُضعِفَ موقفَه أمامَ الناس، ويجعله مجرمًا كافرًا للنعمة، خارجًا على القانون، مقابلاً إحسانَ فرعون بإساءته هو، فذكَّره بقتله للرجل من قوم فرعون وهَربِه، وهي الحادثة التي ذَكَرها الله - تعالى - في سورة القصص؛ {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15].

لكن موسى - عليه السلام - ردَّ على كيْدِ فرعون ومِنَّته، وأخبره أنَّه إنَّما فَعَل ذلك قبل أن يهتديَ بالوحي، وأنَّ الله - سبحانه - قد منَّ عليه بالرسالة؛ ليكونَ هذا الجواب موطِّئًا لدعوة فرعون ومَلئِه إلى التوحيد؛ {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ} [الشعراء: 21]، وأجابَ عن مِنَّة فرعون عليه بتربيته إيَّاه في بيته بأنَّ هذا حقٌّ لبني إسرائيل سَلَبه فرعون منهم، فكيف يمنُّ به عليه وهو مِن حقوقه؛ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22].

وانقطع حجاجُ فرعون عندَ هذا، فانتقل إلى المجادَلة في الله - تعالى - وقابل فرعونُ دعوةَ موسى وهارون - عليهما السلام - بالعِناد والاستكبار والصدود والاستخفاف؛ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، فاستدلَّ موسى على ربه - جل وعلا - بالآيات البيِّنات الظاهرات؛ {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24].

ولَمَّا كانت هذه الحُجَّة ظاهرةً دامغة، فإنَّ فرعون لم يناقشْها، ولم يزعمْ أنَّه هو خالق السموات والأرض، بل حوَّل الخطابَ لمَلئِه؛ ليؤيدوه في باطله، ويُصدِّقوا كذبَه، كما هي عادةُ الطُّغاة إذا انقطعت بهم الحُجَّة، وكما هي عادة الأتباع في وقوفهم مع أسيادِهم، وتأييدهم في باطلِهم، فهم أجراءُ عندهم، يتكلَّمون بلسانهم، ويَصْدُرون عن أقوالهم، ويستبقون إلى مرضاتهم، ولا يَعْنيهم الحق والنصح في كثير ولا قليل، فحوَّل فرعونُ خطابَه لملئه؛ {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25]، فألقى موسى عليه حُجَّةً أخرى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26].

وفرعونُ لا يستطيع المجادلةَ بهذه الطريقة، ويعجز عن ردِّ هذه الحُجج الباهرة، مع أنَّ فرعون قد زعم أنَّه ربُّ رعيته وإلههم؛ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فهو مع هذه الدَّعوى يعلمُ أنَّ حُجَّة موسى ظاهرة، فلا يستطيعُ أن يزعمَ أنَّه خَلَق مَن كانوا قبلَه من آبائه وهو غيرُ موجود، كما لا يَقدِرُ على إنكار وجودِ مَن كانوا قبلَه من البشر؛ ولهذا هَرَب من مواجهة هذه الحُجَّة باتِّهام موسى - عليه السلام - في عقله كما هي عادة الطُّغاة المستكبرين إذا انقطعوا وأعوزتْهم الحِيلة؛ {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].

لكنَّ موسى - عليه السلام - لم يتوقَّفْ عند تُهْمة فرعون له بالجنون، ولم يجعلْها ميدانًا للنِّقاش؛ لأنَّه داعيةٌ لله - تعالى - وليس منتصرًا لنفسِه، وهكذا يَنبغي لدُعاة الحقِّ أن يتعلَّموا من موسى - عليه السلام - طريقتَه في نقاش أهلِ الباطل، فلا يحولوا النِّقاش عن موضعه، ولا يقلبوه عن حقيقته، وعليهم أن يتجرَّدوا من حظوظ أنفسهم؛ لأنَّهم دعاة لله - تعالى - وليسوا دُعاة لذواتهم، وليكونوا كما كان موسى - عليه السلام - لَمَّا أعرض عن تُهْمة فرعون له بالجنون، وواصل عرْض آياتِ الله - تعالى - البينات التي تدلُّ على أنَّه خالق الخَلْق ومُدبِّرُهم؛ {قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28].

ولَمَّا أعوزتْ فرعون البينةُ، وانقطعتْ به الحجَّة، لجأ -كما يلجأ الطغاة - إلى التهديد والوعيد، وإصدار الأوامر دونَ بيان ولا تعليل؛ {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] فانتقل موسى - عليه السلام - مِن تذكيرِه بآيات الله - تعالى - الظاهرة في الأنفس والآفاق، إلى إثباتِ أنَّه رسولٌ من ربِّ العالمين بآيات ومعجزات تَحدُث على يديه، لا يستطيع فرعون مع مُلكِه وقوته وجنده أن يفعلَها، ولا أن يمنعَها أو يدفعها؛ لأنَّ مَن أجراها على يَدِ موسى - عليه السلام - هو مَن أرْسله، وهو ربُّ العالمين، وهو على كلِّ شيء قدير، وهذه طريقة الرسل - عليهم السلام - أنَّهم لا يقفون في جِدالهم على مناقشة حُجج خصومِهم مع تهافتها، وإنَّما ينقُلونهم من آية إلى أخرى، كما أنَّهم لا يحفِلون بتهديد الطُّغاة لهم؛ لأنَّ غايتَهم هدايةُ الخلق للحقِّ، ولو نالَهم في سبيل الله - تعالى - ما نالهم من الأذى، وكانتْ معجزة موسى - عليه السلام - لا يَقدِرُ عليها فرعون، وهي حِسيَّة مشاهَدة يراها الناس؛ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 30 - 33]، ولكن فرعون لاذَ بما يلوذ به الطُّغاةُ من اتِّهام المصلحين بأدوائهم هم، ورميهم بأفعالهم وصفاتهم من السِّحْر والدجل، والكذب على الناس؛ {قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 34 - 35].

ورغمَ أنَّ موسى - عليه السلام - وافقَ على طلب فِرْعون مقابلةَ السَّحَرة أمامَ الناس، وعَلِم السَّحَرةُ أنَّ ما مع موسى ليس سِحرًا، وهم أهل السحر وصانعوه، وأذعنوا له بالمعجزة، وصدَّقوا له بالآية، وأعلنوا اتِّباعَه والإيمان به، رغم ذلك كلِّه فإنَّ فرعون بقي على جحوده، واتَّهمهم بممالأة موسى - عليه السلام - وعذَّبهم عذابًا شديدًا، وما ردَّهم ذلك عن دِينهم، وبقي فرعونُ على عناده واستكباره، حتى قطع الله - تعالى - شأفتَه، وأغرقه وجنده، وأراح العِبادَ منه، ومن شَرِّه، وجعل المؤمنين من بني إسرائيل خلفًا له ومن معه؛ {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.



الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين.

أما بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123].

أيُّها المسلمون:
في قصص الأنبياء مع أقوامِهم عِبرةٌ وعِظة، والقرآنُ كتاب هداية وموعظة، وقد قصَّ الله - تعالى - علينا فيه ما وقع للسابقين؛ لنحذرَ سلوك المجرمين، وننتظمَ في سِلْك الصالحين؛ {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].

وأمر الله - تعالى - نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يقصَّ هذه القصص علينا؛ {فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وامتثل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذا الأمر الرباني، فكان يُكثِر من القصص على أصحابه - رضي الله عنهم - كما روى عبدالله بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قال: "كان نَبِيُّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحَدِّثُنا عن بني إسْرائيلَ حتى يُصْبحَ، ما يقومُ إلاَّ إلى عُظْمِ صَلاَةٍ"؛ رواه أبو داود.

ومن غايات القصَّة: تثبيتُ القلوب على الحقِّ؛ كما قال الله - تعالى -: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

وقد صدَّر الله - تعالى - قصَّةَ موسى مع فرعون في سورة الشعراء بخطابه لرسوله محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]؛ تسليةً له، وبيانًا أن تكذيب قريش ليس أوَّلَ تكذيب، فقد كُذِّب موسى من قبل، كذَّبه فرعون، وجادَلَه في ربِّه - جل وعلا - مما يدلُّ على أهميَّة هذه القصَّة في تثبيت أهل الحق، والرَّبْط على قلوبهم، وتقوية إيمانهم، وزيادة يقينهم.

ونحن في زمنٍ عظُمت فيه الفتن، ولُبّسَ فيه الحقُّ بالباطل، وكثر تبديلُ الدِّين، سواء بتحريف معاني النُّصوص، وصَرْفِها عن ظاهرها لتوافقَ الأهواء، وتتلاءم مع الواقع الفاسد، أو بمحاربتِه مباشرةً، ولا ثباتَ للعبد على الحقِّ إلاَّ بتثبيت الله - تعالى - له؛ إذ القلوب بيده - سبحانه - يُقلِّبها كيف يشاء، ومِن أعظم أسباب الثبات: إدمانُ قراءة سِيَر الثابتين على الحق، ومِن أشهر ذلك ثبات موسى - عليه السلام - أمامَ فرعون الطاغية الذي عبَّد الناس له من دون الله - تعالى - وكان موسى - عليه السلام - قدوةً لكلِّ مَن ثبت على الحق في زمن كثرة الفتن، واشتداد المحن، وعظم البلاء.

فحريٌّ بِمَن أراد الثباتَ أن يُكثر من مطالعةِ هذه القصص، وتدبرها وفَهْمها، والقرآنُ شفاءٌ مِن كلِّ الأدواء، بما فيها فتن القلوب، وزيغها وانحرافها؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "فَضْلُ الله: القرآنُ، ورحمتُه: أن جَعَلَنا من أهله".

وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم...




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-06-2020, 10:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,275
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كليم الله موسى عليه السلام

كليم الله موسى عليه السلام (5)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



المبارزة والنصر

الحمد لله رب العالمين؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فأقام بهم حجته على الخلق أجمعين ï´؟ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ï´¾ [النساء:165] نحمده على ما هدانا وكفانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أيد رسله بالآيات، ونصرهم بالمعجزات، وأعز من آمن بهم وصدقهم، وأذل من كفر بهم وكذبهم، فأتباعهم هم الأعلون، وأعداؤهم هم الأسفلون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان في ابتلائه يستحضر ما أصاب الرسل قبله من الأذى؛ ليتأسى بهم، فيقوى قلبه، ولا يلين عزمه، وقَسَمَ مرة قِسْمَةً فقال رَجُلٌ: ((والله ما أَرَادَ مُحَمَّدٌ بهذا وَجْهَ الله، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وقال: رَحِمَ الله مُوسَى لقد أُوذِيَ بِأَكْثَرَ من هذا فَصَبَرَ)) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم، واثبتوا على شريعتكم، ولا تغتروا بمقامات المبدلين والمغيرين؛ فإن أقوما من هذه الأمة يؤخذ بهم ذات الشمال، فيسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له(إِنَّكَ لَا عِلْمَ لك بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِمْ القهقرى)).

أيها الناس: في قصص الأنبياء تثبيت لقلوب المؤمنين، وشحذ لهمم الدعاة والمصلحين.. حين يرى قارئها ما حاق بهم من الابتلاءات، وما أصابهم من الأذى والتكذيب، وما نالهم من المطاردة والتهجير والتعذيب، ومقابلتهم ما أصابهم بالصبر والثبات. وكل ذلك في ذات الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وتبليغ دينه، وإنقاذ الناس مما لا يحبه الله تعالى من الكفر والفساد في الأرض.

بشر مثلنا اختصهم الله تعالى بالنبوة فأرسلهم للناس فبذلوا في سبيل ذلك أموالهم وأوقاتهم، وخاطروا بأرواحهم وأهلهم، وأمضوا حياتهم كلها لهذه الغاية النبيلة.

وقفوا في وجوه طغاة الأرض، وصدعوا بالحق أمامهم؛ ليحرروا الناس من كل عبودية إلا عبودية الله تعالى.

وموسى بن عمران عليه السلام أنموذج في ذلك يحتذى، ومثال به يقتدى..وقف أمام من عبّد الناس لنفسه من دون الله تعالى غير هياب ولا خائر، يدعوه لعبادة الله وحده، ويعارضه في ادعائه الربوبية والألوهية.

ناظره وناقشه، وأبطل حجته، ودحض مقولته، وأظهر له الآيات، وقذفه بالمعجزات، وأقام البراهين التي تقطع بصدقه، ولكن فرعون حين أسقط في يده، وظهرت معجزة موسى عليه السلام، وبان صدقه؛ أراد الخلوص من هذا الموقف فاتهم موسى بالسحر ï´؟ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ï´¾ [الشعراء:34] وذلك لينفي عنه ما أتى به من المعجزات؛ لأن السحرة أشرار، وهم محل ذم وتنقص عند الناس..ثم أتبع فرعون اتهامه باتهام آخر ï´؟ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ï´¾ [الشعراء:35].

لقد جد الجد، وحاق الخطر بفرعون وممارساته، ووجد من يقف في وجهه يريد تقويض كبريائه؛ ولذا لجأ فرعون للاستشارة؛ لأنه محتاج إليها، فالأمر أخطر من أن يستبد به وحده، فأشاروا عليه بأن يؤجل مناقشة موسى وجداله إلى وقت إحضار من يستطيع مقارعته وهم السحرة؛ لأنهم ظنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل السحر، ولا سيما أن السحر كان منتشرا في ممالكهم آنذاك ï´؟ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ï´¾ [الأعراف:111-112] وهذا يدل على أنهم أهل سياسة ونظر، كما يدل على أن دعوة موسى قد ظهرت في الناس، وأن الإشارة بقتله أو سجنه بعد ظهور حجته ستضعف عبودية الناس لفرعون، فلا بد من كسر الحجة قبل معاقبة صاحبها بالقتل أو السجن، وقد كانوا يظنون أن السحرة لكثرتهم وبراعتهم واستباقهم للتقرب من فرعون قادرون على كسر حجة موسى عليه السلام، وإلا لما غامروا في هذا الشأن العظيم.

وأخذ فرعون بمشورة ملئه، وقال ï´؟ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ï´¾ [طه:57-58].

وكان من إلهام الله تعالى لموسى عليه السلام أن واعدهم في يوم عيدهم حيث اجتماع الناس وكثرتهم؛ لتظهر حجته فيكون ذلك أدعى لإيمان الناس بربهم سبحانه وتعالى، ولا شك أن في هذا مخاطرة عظيمة من موسى عليه السلام سواء غلب هو السحرة أم غلبوه، فإن هم غلبوه حقت عليه العقوبة أمام هذا الجمع الكبير، والعقوبة أمام الناس أشد من ألم العقوبة ذاتها، وإن غلب هو السحرة فلا يأمن غضب فرعون وفتكه به، وهو الذي أله نفسه، ولم يجد من يعارضه في كبريائه فضلا عن أن يهزمه ويدحض حجته أمام جموع كثيرة من الناس، ولكن الأنبياء عليهم السلام يضحون بكل غال ونفيس في ذات الله تعالى، ويحرصون على هداية الناس ولو كان في ذلك قتلهم، فسلام الله تعالى على موسى وسائر النبيين، وجزاهم عن عباده المؤمنين خير الجزاء ï´؟ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ï´¾ [طه:59].

فاجتهد أعوان فرعون وجنده في حشد أمهر السحرة وأقواهم وأشهرهم، ويبدو أن الدعاية لهذه المبارزة العظيمة قد غطت جميع أنحاء مملكة فرعون، وسرى خبرها في الناس كلهم، وأصبحت حديث مجالسهم وأسواقهم، وهذا ما أراده فرعون ومستشاروه؛ ظنا منهم أن هزيمة موسى ستكون مدوية، وأن ذلك سيعزز في نفوس الناس عبوديتهم لفرعون، فلا يجترئ أحد بعد موسى أن يعترض على ذلك، ويا لله العظيم كم لله تعالى من تدابير تقع على خلاف توقع الناس ومرادهم، وكم من طاغية يحفر قبره بيده، ويسعى إلى هلاكه برجله، فسبحان مدبر الأمر، ومسير الخلق ï´؟ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ ï´¾ [الشعراء:38-40] وفرح السحرة بحاجة فرعون لهم، وانتظروا يوم الزينة بفارغ الصبر، وتطلعوا لجائزته ï´؟ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ ï´¾ [الشعراء:41-42] سألوا الأجر فوعدهم فرعون بالأجر والقرب منه، وهذا يدل على ما كان يعتمل في قلب فرعون من إرادة الفوز الساحق؛ ليقضى على موسى ودعوته، ويحافظ على كبريائه وألوهيته وعبودية الناس له..

واصطف السحرة في الميدان للمبارزة؛ فذلك أهيب لهم أمام موسى عليه السلام، وفرعون ورجال دولته يرقبونهم ويشجعونهم، وجموع الناس تحيط بهم تشهد هذا الحدث العظيم، وفرعون يعدهم إن فازوا، ويا للعجب من موسى عليه السلام؛ إذ ما نسي الموعظة في موضع المناظرة، ولم يرده عنها ما هو فيه من موقف عصيب، وأعطى السحرة حظهم منها قبل مبارزتهم ï´؟ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى الله كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ï´¾ [طه:61]..

ولكن السحرة أجمعوا بعد المشورة على المبارزة، فحالهم حال من يريد الظفر وإرضاء سيده؛ ولذا استعجلوا موسى في بدء المعركة ï´؟ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ ï´¾ [الأعراف:115] واعتزوا بفرعون، وكان موسى معتزا بالله عز وجل ï´؟ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ ï´¾ [الشعراء:44] والواقع أن السحرة برعوا في سحرهم، وأتوا بالأعاجيب في فنهم، ولم يقصروا في أداء واجبهم ï´؟ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ï´¾ [الأعراف:116] ومن براعتهم في سحرهم خشي موسى عليه السلام على عامة الناس من الفتنة بهم؛ لعظيم ما جاءوا به من السحر، فيكون سحرهم صدا عن دين الله تعالى، فرضي الله عن موسى ما أشد حرصه على هداية الخلق للحق، ولكن الله تعالى أوحى إليه أن سحرهم سيبطل ï´؟ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ï´¾ [طه:67-69].

ألقى موسى عصاه المعجزة بعد أن قال ï´؟ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ï´¾ [يونس:82] فتغير مجرى المعركة، وظهر الحق، وتنزل النصر، وانقلبت العصا ثعبانا حقيقيا يبتلع حبال السحرة وعصيهم، وهذا لا يمكن أن يكون سحرا، وإنما آثار قدرة ربانية ï´؟ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ï´¾ [الأعراف:117-119]..

في تلك اللحظة أنزل الله تعالى الإيمان والتسليم على قلوب السحرة، فخروا من طولهم لله تعالى سجدا موقنين تائبين مبهورين من قدرته سبحانه وتعالى، وعلموا أن فرعون ليس إلا بشرا ضعيفا مثلهم ï´؟ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الأعراف:120-122]..

يا لها من معركة فاصلة بين الحق والباطل، بين جندي الرحمن وجند الشيطان، يقابل فيها رجل واحد جموعا من السحرة وطاغوتا عبد الناس لنفسه وأرهبهم وعذابهم في حشود من ملئه ووزرائه وجنده ورجال دولته، فتهزم القلة الكثرة، وينتصر الواحد على الجمع؛ لأن الله تعالى معه.. انتصر بإيمانه ويقينه، واعتزازه بالله تعالى، وركونه إليه سبحانه، وتوكله عليه عز وجل ï´؟ وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ï´¾ [الحج:78].

اللهم املأ قلوبنا إيمانا ويقينا بك، وتوكلا عليك، وإنابة إليك، ورضا بك وعنك، وأرضنا وارض عنا يا رب العالمين.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.


الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [آل عمران:131-132].

أيها الناس: كانت مبارزة موسى عليه السلام للسحرة من أعظم المعارك في التاريخ البشري، وهي في سيرة موسى عليه السلام كغزوة بدر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلا المعركتين حاسمتان في إحقاق الحق، وكشف الباطل، وقد قال الله تعالى في معركة موسى عليه السلام ï´؟ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [الأعراف:118] وقال في معركة محمد صلى الله عليه وسلم ï´؟ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ï´¾ [الأنفال:8].

وفي معركة موسى كسر فرعون، ودحضت حجته، وآمن جنوده من السحرة، وهذا أقوى ما يكون نصرا لموسى عليه السلام. وفي معركة محمد صلى الله عليه وسلم كسر جيش المشركين، وقتل فرعون هذه الأمة أبو جهل في جماعة من صناديد الشرك؛ ولذا كانت المعركتان فرقانا بين الحق والباطل.

وفي قصة موسى عليه السلام تجلى ما تفعله البطانة الفاسدة من تزيين سوء العمل لصاحبه؛ فإن موسى عليه السلام لما أتاهم بالبينات والبراهين عدوها سحرا، وذكر الله تعالى أن ملأ فرعون قالوا ذلك ï´؟ قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ï´¾ [الأعراف:109] وفي موضع آخر ذكر الله تعالى أن قائل ذلك هو فرعون ï´؟ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ï´¾ [الشعراء:34] ومعنى ذلك أن الملأ من قوم فرعون علموا مراده، فلما استشارهم استبقوا إلى ما يريد ولم ينصحوا له، وهذه عادة الوصوليين والانتهازيين عند الكبراء المتنفذين، ولا سيما إذا كانوا طغاة ظالمين كما هو حال فرعون.

وهذا يدل على أن البطانة الفاسدة لا تمحض النصح لصاحبها، وإنما تجتهد في البحث عما في نفسه لتسبقه إليه، ويكون قربها من الطاغية بحسب القدرة على فهم مراده، واستجلاء ما في نفسه، وهذه هي العبودية التي تعطل العقول والمدارك، وتجعل الأعوان نسخا مكرورة من الطاغية ذاته، وقطعانا تستبق إلى التبعية، وتمتهن الوصولية، وتتخلق بالانتهازية، فيسود الظلم، ويتلاشى العدل، وتفسد الأخلاق، ويتوقف العمران..ولذا جاء في الحديث أن المستشار مؤتمن، وإذا كان المشير يبحث عما في نفس المستشير؛ لنيل حظوة عنده؛ كان ذلك من الخيانة في المشورة، وأخطر من ذلك وأعظم جرما أن يتخلق بهذا الفعل الدنيء من ينتسب للعلم فيطوع النصوص والأقوال؛ لمراد من استشاره دون مراد الله تعالى؛ فيكون سببا في ضلاله وإضلال غيره، ونشر الضلال في الناس، كما هو حال من يشترون بدين الله تعالى عرضا من الدنيا، وهم متوعدون بأشد العذاب ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ï´¾ [آل عمران:77].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 156.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 153.00 كيلو بايت... تم توفير 3.56 كيلو بايت...بمعدل (2.27%)]